الجمعة، 27 يوليو 2018

حكم الصلاة في مسجد فيها قبر وبناء الاضرحة على القبور ؟!

بسم الله الرحمن الرحيم
أريد رداً شرعياً فقهياً وصريحاً لموضوع أضرحة الأولياء وأئمة أهل البيت، وحكم الصلاة في المساجد المرتبطة بها؟
أرجو الرد بالدليل من الكتاب والسنة وما أثر عن أي صحابي حول هذه الأمور، مع الرد على الدليل المقابل: كحديث علي:" ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله، ألا تدع قبرا مشرفا إلا سويته "، وحديث: { لعن الله اليهود والنصارى؛ اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد .. } (الحديث).

وجزاكم الله خيرا.
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله ذي الحمد المجيد، والصلاة والسلام على سيدنا محمد خير العبيد، ثم على المُبَشِّرين به وآله وصَحْبِه وخُلفائه وورثته إلى يوم المَزيد.
عزيزي ..، السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته وطيباته.
قال الله تعالى: { ولو ردّوه إلى الرسولِ وإلى أولي الأمر منهم، لعلمه الذين يستنبطونه منهم }[النساء:83].
وبعد: فاعلم أن سبب الخلاف في حكم بناء الأضرحة واتخاذ المساجد على القبور: الاختلاف في فهم النصوص الواردة في المسألة؛ إذ وردت على ضربين:
أحدهما: الجواز، ومنه:
1/ قول الله تعالى في قصَّة أصحاب الكهف: { قال الذين غلبوا على أمرهم لنتَّخذن عليهم مسجداً }[الكهف:21].
وهو ظاهر في تقرير اتخاذ المساجد على قبور الصالحين، ومِنَّة الله تعالى على أصحاب الكهف بذلك.
قال الإمام السيوطي في كتاب ( الدر المنثور ):" أخرج ابن أبي حاتم عن السدي قال: دعا الملك شيوخا من قومه فسألهم عن أمرهم فقالوا: كان ملك يدعى دقيوس، وإن فتية فقدوا في زمانه، وأنه كتب أسماءهم في الصخرة التي كانت عند باب بالمدينة. فدعا بالصخرة فقرأها فإذا فيها أسماءهم، ففرح الملك فرحاً شديداً وقال: هؤلاء قوم كانوا قد ماتوا فبعثوا، ففشا فيهم أن الله يبعث الموتى. فذلك قوله: { وكذلك أعثرنا عليهم ليعلموا أن وعد الله حق وأن الساعة لا ريب فيها } فقال الملك: لأتخذن عند هؤلاء القوم الصالحين مسجداً، فلأعبدن الله فيه حتى أموت. فذلك قوله: { قال الذين غلبوا على أمرهم لنتخذن عليهم مسجدا }. "اهـ
فائدة: واتخاذ المسجد على القبر يندرج في قول الله تعالى: { ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاءوك فاستغفروا الله واستغفر لهم الرسولُ لوجدوا الله تواباً رحيما }[النساء:64]؛ لأن المقصود به: التوسل إلى الله تعالى بعباده الصالحين تقرباً وتبركاً.
وهذا يُعتبر دليلاً صريحاً في تساوي التوسل بالصالحين أحياء وأمواتاً، خلافاً لمن فرّق بين الحالتين بلا دليل أصلاً.
2/ تقرير سيدنا رسول الله محمد صلى الله عليه وآله وسلم صاحبه أبا جندل رضي الله تعالى عنه على بناء مسجد على قبر أبي بصير رضي الله تعالى عنه، فيما يرويه عبد الرزَّاق وغيره عن الحديبية.
وهو ظاهر في بيان جواز اتخاذ المساجد على القبور، وأن صدر أمَّتنا الأول رصي الله تعالى عنهم فعلوه وأقِرُّوا عليه.
3/ صلاة سيدنا رسول الله محمد صلى الله عليه وآله وسلم على قبر سيدنا إبراهيم عليه السلام؛ فعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه مرفوعاً: { لما أسري بي إلى بيت المقدس مرَّ بي جبرائيل إلى قبر إبراهيم عليهما الصلاة والسلام، فقال: انزل صلِّ هاهنا ركعتين، فإن هاهنا قبر أبيك إبراهيم عليه السلام. ثم مرَّ بي إلى بيت لحم فقال: انزل صلِّ هاهنا ركعتين فإن هاهنا ولد أخوك عيسى عليه السلام }[ابن حبان].
وهو ظاهر في بيان جواز اتخاذ المساجد على القبور؛ فإن الأرض قد جُعلت لنا مسجداً، ثم إن سيدنا رسول الله محمداً صلى الله عليه وآله وسلم صلى على قبر سيدنا إبراهيم عليه السلام.
فائدة: وفي هذا الخبر زيادة: تدل على تشريف المقامات وتشريع التبرك بها؛ لطلب الصلاة على مهد سيدنا عيسى عليه السلام في بيت لحم.
4/ عدم هدم سيدنا رسول الله محمد صلى الله عليه وآله وسلم المساجد والقِباب التي بنيت على القبور المُشَرَّفة، ولا أمر بهدمها؛ فقد روي أن جماعة من المرسلين والأنبياء عليهم السلام مدفونون في المسجد الحرام، ما بين زمزم والمقام، منهم أسيادنا نوح وهود وصالح وشعيب وإسماعيل عليهم السلام:
قال الإمام القرطبي رضي الله تعالى عنه في الجامع لأحكام القرآن:" روى محمد بن سابط عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: { كان النبي من الأنبياء إذا هلكت أمته لحق مكة فتعبد بها هو ومن آمن معه حتى يموتوا، فمات بها نوح وهود وصالح، وقبورهم بين زمزم والحجر }، وقال ابن عباس:" في المسجد الحرام قبران ليس فيه غيرهما: قبر إسماعيل، وقبر شعيب عليهما السلام، فقبر إسماعيل في الحجر، وقبر شعيب مقابل الحجر الأسود "، وقال عبد الله بن ضمرة السلولي:" ما بين الركن والمقام إلى زمزم قبور تسعة وتسعين نبياً جاءوا حجاجاً فقبروا هنالك، صلوات الله عليهم أجمعين ". "اهـ
وروى الحاكم بإسناده عن أمنا السيدة عائشة رضي الله تعالى عنها مرفوعاً: { إن قبر إسماعيل في الحِجر }، قال الإمامِ المناوي في ‏فيض القدير:" ( الحِجر ) بالكسر: هو المحوط عند الكعبة بقدر نصف دائرة، فهو مدفون في ذلك الموضع بخصوصه، ولم يثبت أنه نقل منه لغيره "اهـ
كما ثبت أن قبور أسيادنا إبراهيم وإسحاق ويعقوب عليهم السلام كانت موجودة في بيت المقدس، وقد ضربت عليها المساجد والقِباب، ثم إن سيدنا رسول الله محمداً صلى الله عليه وآله وسلم لم يأمر أصحابه رضي الله تعالى عنهم بهدمها رغم أنه بشرهم بفتح ذلك البلد.
وكذلك فإن الصحابة رضي الله تعالى عنهم قد فتحوا بلاد الشام والعراق وغيرهما ولم يهدموا الأبنية المقامة على قبور من دفن فيها من الأنبياء عليهم السلام.
وهذا ظاهر في بيان الحكم السابق أيضاً.
فائدة: وفيه زيادة تبين مشروعية اتخاذ المقامات وما في معناها، وقد تقدم نحوه.
5/ اتخاذ المسجد على قبر سيدنا رسول الله محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وذلك بعلمه وندبه إليه؛ فقد ثبت في الصحاح قوله: { ما بين قبري ومنبري روضة من رياض الجنَّة }، وفي رواية: { ما بين بيتي ومنبري }، في الوقت الذي صرّح فيه بأن الأنبياء يُدفنون في الموضع الذي يموتون فيه؛ ما يفيد سبق معرفته بصفة قبره الشريف، ومن ثم أجمع التابعون رضي الله تعالى عنهم _ وهم خير القرون بعده _ على ضمّ القبر إلى المسجد بعد أن كان محاذياً له.
وهذا ظاهر أيضاً في بيان جواز بناء الأضرحة واتخاذ المساجد على القبور، بل لو لم يكن ثمة دليل سواه لكفى.
6/ دفن سيِّدَيْنَا أبي بكر الصّديق وعمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنهما مع سيدنا رسول الله محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
وهذا ظاهر في بيان الحكم السابق أيضاً، لاسيما أن الصحابة رضي الله تعالى عنهم لم ينكروا ذلك.
7/ وضع سيدنا رسول الله محمد صلى الله عليه وآله وسلم صخرة عظيمة على قبر عثمان بن مظعون رضي الله تعالى عنه، وقد ثبت في البخاري قول خارجة بن زيد:" رأيتني ونحن شبان في زمن عثمان _ رضي الله عنه _ أن أشدنا وثبة: الذي يثب قبر عثمان بن مظعون حتى يُجاوزه ".
وهو ظاهر في بيان جواز رفع قبور الصالحين؛ فإن الشارع لم ينه عن الزيادة على الصخرة، ولا خصصها.
الضرب الثاني: التحريم، وهو يرجع إلى وجهين:
الوجه الأول: الذم لفعل المغضوب عليهم والضالين من الأمم السابقة، والنهي عن التشبه بهم، نحو خبر:" لعن الله اليهود والنصارى؛ اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد "[متفق عليه].
والجواب عليه: أن المقصود: " اتخذوا قبور أنبيائهم قِبلة يسجدون إليها "، وهو محظور باتفاق.
وهذا التأويل لازم؛ جمعاً بين هذا الخبر وما تقدم من تقرير الشارع وفعله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان.
يؤكد ذلك: تعقيب أمّنـا السيدة عائشة رضي الله تعالى عنها على هـذا الخبر بقولها:" فلولا ذلك أبْرِز قبرُه، غير أنه خُشِيَ أن يُتَّخذ مسجداً "، وفيه فوائد أخرى، أهمها:
*/ تأكيد أن الشارع لم ينص على حرمة ذلك مطلقاً، وهو ما فهمه الصحابة رضي الله تعالى عنهم من خطابه، وبيّنته أمّنا السيدة عائشة رضي الله تعالى عنها بقولها هذا.
*/ أن صفة نفس القبر كانت اجتهاداً للصحابة رضي الله تعالى عنهم، وذلك لا يفيد الوجوب، لاسيما مع تصريح أمّنا السيدة عائشة رضي الله تعالى عنها، كما أنه لا يُغيّر أصل الحكم.
الوجه الثاني: النهي عن رفع القبور، نحو خبر:" لا تدع قبراً مشرفاً إلا سويته "[مسلم وغيره].
والجواب عليه: أن المقصود:" لا تدع قبراً مشرفاً من قبور المشركين ومن في معناهم إلا سويته "؛ وهو ما يفيده سياق الحديث، ويوافق نصوص الجواز المتقدمة.
فائدة: والذي ينبغي اعتباره في هذه المسألة: أن الشارع راعا " سد الذرائع عند تيقّن الضرر "، فكان يفعل الشيء أو يتوقف فيه أو ينهى عنه حفظاً لدين الناس عند تيقن الضرر من العكس، كما في العطايا وبناء الكعبة المشرّفة.
ومن ثم، يصلح تعليل النهي بقرب عهد الأولين بالكفر، وهو ما يؤيده أدلة الجواز المتقدمة.
فالخلاصة: أن بناء أضرحة خواص الأولياء رضي الله تعالى عنهم واتخاذ المساجد عليها مندوب أصلاً.
وأما العامة: فيجوز رفع قبورهم، لكن السنة أن تسوى، ولا تُتّخذ عليها المساجد.
وما ورد من ( النهي عن اتخاذ القبور مساجد ) وما في معنى ذلك: فإنما يُراد به النهي عن عبادة صاحب القبر.
ثم نلفت عنايتك إلى مراجعتنا فيما ضاق فهمك عنه.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق