يعاني
كثير من " المثقفين " اليوم أزمة عنيفة بإزاء الدين .
هل
الدين إحدى حقائق الحياة ؟ وإذا كان كذلك في الماضي ، أفما يزال كذلك
اليوم ،
وقد غيّر العلم وجه الحياة ، ولم يعد في الأرض مكان لغير العلم
والحقائق العلمية ؟
هل
الدين حاجة بشرية ؟
أم هو " مزاج
شخصي " ، فمن شاء تدين ، ومن شاء ألحد ، وهذا وذاك سيان ؟
ثم
هم في أزمة عنيفة كذلك بشأن الإسلام .
إن
دعاة الإسلام يقولون للناس : إن هذا الدين نسيج وحده . إنه ليس مجرد عقيدة ، ليس مجرد تهذيب
للروح ،
وتربية للفضائل ،
بل هو إلى جانب ذلك نظام اقتصادي عادل ، ونظام اجتماعي
متوازن ،
وتشريع مدني ،
وتشريع جنائي ،
وقانون دولي ،
وتوجيه فكري ،
وتربية بدنية :
كل أولئك على أساس من العقيدة ، وفي مزاج من التوجيه الخلقي والتهذيب
الروحي .
و " المثقفون " في أزمتهم
حائرون ،
فقد كانوا ظنوا أن الإسلام قد انتهى واستنفد أغراضه ، ثم ها هم أولاء
يفاجأون بأصحاب الدعوة الإسلامية يقولون لهم : إن هذا الدين ليس
شيئاً من تراث الماضي السحيق يوضع اليوم في متحف الأفكار والنظم والعقائد ، إنما هو كائن حي في
هذه اللحظة ،
ويملك من مقومات الحياة في المستقبل ما لا يملكه أي نظام آخر عرفته البشرية حتى
اليوم ،
بما في ذلك الاشتراكية والشيوعية .
عند
ذلك تهزهم المفاجأة ،
فلا يملكون أنفسهم .
ويصرخون :
أهذا النظام الذي أباح الرق والإقطاع والرأسمالية .. النظام الذي يجعل المرأة
نصف الرجل ويحبسها في دارها . النظام الذي يجعل عقوباته الرجم
والقطع والجلد ..
النظام الذي يترك أهله يعيشون على الإحسان ، ويقسمهم طبقات
بعضها يستغل بعضا ،
ولا يملك الكادحون فيه ضمانات العيش الكريم .. النظام الذي صنع
كذا وكذا .. أيمكن أن يعيش اليوم ، فضلا عن المستقبل ؟ أهو نظام يستطيع في
الصراع الجبار الذي يقوم اليوم بين النظم الاجتماعية والاقتصادية القائمة على أسس " علمية ! " أن يقف على
رجليه ،
فضلا عن المصارعة والكفاح ؟ !
وينبغي
أولاً
أن يعرف هذا اللون من " المثقفين " من أين جاءتهم
هذه الشبهات ،
ليعرفوا إن كانوا وهم يرددونها أصلاء في التفكير ، أم مقلدين ، يرددون ما لا
يفهمون .
إنها
قطعاً
ليست شبهاتهم الخاصة ،
ولا هي نتيجة تفكيرهم الذاتي ، ولنرجع خطوات إلى الوراء لنعرف شيئاً من التاريخ الحديث .
في
العصور الوسطى قامت الحروب الصليبية بين أوربا والعالم الإسلامي ، واستعر أوارها . ثم سكتت بعد فترة
من الزمان ،
ولكن يخطئ من يظن أنها انتهت حينذاك . فها هو ذا اللورد
ألنبي يقول في صراحة كاملة حين استولى على بيت المقدس في الحرب العظمى الأولى : ( الآن انتهت الحروب
الصليبية ) ! !
وفي
القرنين السابقين أخذت أوربا المستعمرة تزحف على العالم الإسلامي ، وفي سنة 1882 دخل
الإنجليز مصر ،
بعد خيانة توفيق وتآمره مع جيش الاحتلال ضد
الثورة الشعبية بزعامة عرابي . ولم يكن بد
للإنجليز من سياسة يثبتون بها أقدامهم في العالم الإسلامي ، ويأمنون بها الروح
الإسلامية أن تشتد فتعصف بهم في يوم قريب . وهنا ندع مستر
جلادستون رئيس الوزارة البريطانية في عهد الملكة فكتوريا يتحدث في صراحة ووضوح عن
هذه السياسة ،
فيمسك بيده المصحف ويقول لأعضاء مجلس العموم : " إنه ما دام هذا
الكتاب بين أيدي المصريين ، فلن يقر لنا قرار في تلك البلاد " .
وإذن
فقد كانت السياسة المطلوبة هي توهين عُرَى الدين ، ونزع قداسته من
نفوس أهله ،
وتشويه صورته في أفكارهم وضمائرهم ، لينسلخوا منه وينفروا من التمسك
بأحكامه وآدابه ،
حتى يستطيع المستعمرون أن يستقروا في هذه البلاد !
وكذلك
صنع الإنجليز في مصر .
فقد وضعوا سياسة تعليمية لا تدرس شيئاً عن حقيقة الإسلام ،
سوى أنه عبادات وصلوات ، وأذكار ومسابح وطرق صوفية ، وقرآن يقرأ من أجل " البركة " ، ودعوات
نظرية إلى مكارم الأخلاق ! أما الإسلام كنظام اقتصادي واجتماعي ، أما الإسلام كنظام
للحكم ودستور للسياسة الداخلية والخارجية ، أما الإسلام كنظام
للتربية والتعليم ..
أما الإسلام كحياة ومهيمن على الحياة .. فلم يدرس منه شيء
للطلاب ،
وإنما درست لهم بدلاً
منه الشبهات الي وضعها المستشرقون وغيرهم من الصليبيين الأوربيين . 1ليفتنوا بها المسلمين
عن دينهم ،
تنفيذاً
لغرض الاستعمار الخبيث .
وفي
مكان هذا كله درسوا لهم أوربا .
النظم
الاجتماعية الحقة هي التي قامت في أوربا . والنظم الاقتصادية
الحقة هي التي ابتدعها الفكر الأوربي . والنظم الدستورية
الصالحة هي التي صقلتها تجارب الأوربيين . حقوق الإنسان قررتها
الثورة الفرنسية .
والديمقراطية
قررها الشعب الإنجليزي . و " الحضارة " وضعت أسسها
الإمبراطورية الرومانية . وباختصار ، صورت لهم أوربا على
أنها مارد جبار لا يقف في طريقه شيء ، والشرق على أنه قزم
ضئيل لا يرجى له قيام إلا أن يكون خاضعا لأوربا ، مستمدا كيانه كله
من هناك .
وفعلت
تلك السياسة فعلها .
ونشأت أجيال من المصريين لا تحس لها وجوداً ذاتياً ولا كياناً خاصاً . أجيال قد استعبدت
لأوربا ،
وغرقت في العبودية إلى آخر قرارها . أجيال لا تبصر بعيونها ولا تفكر
بعقولها ،
ولا ترى إلا ما يراه لها الأوربيون ، ولا تعتنق إلا ما يريدون لها من أفكار ! والذي حدث في مصر
حدث مثله أو شبيه له في كل قطر من أقطار الإسلام .
و " المثقفون " ، اليوم هم خلاصة هذه
السياسة المرسومة التي وضعها الاستعمار في العالم الإسلامي كله من المحيط إلى
المحيط !
إنهم
لا يعرفون عن الإسلام إلاَّ الشبهات ، ولا يعرفون عن
الدين كله إلا ما لقنهم الأوربيون . ولذلك فهم ينادون – كالأوربيين – بفصل
الدين عن الدولة ،
وفصل العلم عن الدين .
وهم
ينسون – في غفلتهم – أن الدين الذي انسلخت منه أوربا شيء ، والدين الذي يدعو
إليه أصحاب الدعوة الإسلامية شيء آخر . وأن الملابسات التي
أحاطت بأوربا ،
وأدت بها إلى معاداة الدين والنفور منه ، ملابسات خاصة بالقوم
هناك ،
لم يحدث مثلها في الشرق الإسلامي ، ولا يمكن أن يحدث . فهم في دعوتهم إلى
نبذ الدين ،
أو تركه في عزلة عن تدبير الحياة وتصريف شئون المجتمع والسياسة والاقتصاد ، إنما يستوردون
أفكاراً
جاهزة ،
ويرددون ما يردده القوم هناك .
لقد
نشأ الصراع في أوربا بين العلم والدين ، لأن الكنيسة هناك
احتضنت أفكاراً
" علمية " ونظريات معينة ، وقالت إنها حقائق مقدسة ، لأنها كلمة السماء
! فلما أثبت العلم النظري والتجريبي فساد
هذه الأفكار والنظريات ، لم يكن بد من أن يؤمن الناس بالعلم
ويكفروا بالكنيسة ،
ويكفروا بالدين كما يصوره لهم رجال الدين . وزاد في حدة هذا
الصراع والرغبة في التحرر من " ربقة " الدين ، أن الكنيسة في
أوربا فرضت لنفسها سلطة إلهية ، واشتطت في تطبيقها إلى حد الدكتاتورية ، فصارت غولاً بشعاً يطارد الناس في يقظتهم ومنامهم ، يفرض عليهم
الإتاوات ،
والخضوع المذل لرجال الدين ، كما يفرض عليهم الأوهام والخرافات ، باسم كلمة الله !
وكان
تعذيب العلماء وتحريقهم بالنار ، لانهم قالوا بكروية الأرض – مثلاً - من البشاعة بحيث
يفرض على كل صاحب فكر حر ، وضمير متحرر أن يساعد في تحطيم هذا
الغول البشع ،
أو تكبيله بحيث لا يعود له على الناس
سلطان .
وصار تجريح الدين – كما صورته الكنيسة - وتلمس العيوب فيه ، واجباً مقدساً هناك على المفكرين
الأحرار .
أما
نحن هنا في الشرق الإسلامي فما بالنا ؟ لماذا نفصل بين
العلم والدين ،
ونقيم بينهما النزاع والصراع ؟ أي حقيقة علمية خالصة مجردة من
الهوى اصطدمت بالدين والعقيدة ؟ ومتى وقع اضطهاد على العلماء في ظل
الإسلام ؟
هذا هو التاريخ يشهد بقيام علماء في الطب والفلك والهندسة والطبيعة والكيمياء ، نبغوا في ظل
الإسلام ،
فلم يقم في نفوسهم الصراع بين العلم والعقيدة ، ولا قام بينهم وبين
السلطات الحاكمة ما يدعو إلى الحرق والتعذيب .
فما
الذي يدفع أولئك " المثقفين " إلى فصل الدين
عن العلم ،
وتجريح الدين ،
وتلمس العيوب فيه – دون وعي ولا دراسة ، وبما يشبه صراخ
المحمومين -
إلا السم الاستعماري الذي تجرعوه وهم لا يشعرون ؟
هذا
الصنف من المثقفين لم يكن في حسابي على أي حال وأنا أكتب هذا الكتاب . فهم لا يفيئون إلى
صواب ،
حتى يفيء الذين يقلدونهم في الغرب ، بعد أن ييأسوا من حضارتهم المادية
الملحدة ،
ويعرفوا أنها ليست طريق الخلاص ، فيعودوا إلى نظام مادي روحاني في ذات
الوقت .
نظام يشمل العقيدة والحياة في آن .
وإنما
كان في حسابي طائفة أخرى من الشباب المخلص المفكر المستنير . شباب صادق الرغبة
في الوصول إلى الحقيقة ، ولكن هذه الشبهات تعترض طريقه فلا
يعلم لها رداً ،
لأن الاستعمار الماكر قد حجب عن عيونه النور ، وتركه حائراً في الظلمات . ولأن عبيد
الاستعمار وشياطين الشيوعية يمعنون في تضليله خشية أن يهتدي إلى الطريق الصحيح ، طريق الحرية
والكرامة والاستعلاء .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق