الخميس، 23 أغسطس 2018

هل الدين إحدى حقائق الحياة ؟


يعاني كثير من " المثقفين " اليوم أزمة عنيفة بإزاء الدين .


هل الدين إحدى حقائق الحياة ؟ وإذا كان كذلك في الماضي ، أفما يزال كذلك اليوم ، وقد غيّر العلم وجه الحياة ، ولم يعد في الأرض مكان لغير العلم والحقائق العلمية ؟
هل الدين حاجة بشرية ؟ أم هو " مزاج شخصي " ، فمن شاء تدين ، ومن شاء ألحد ، وهذا وذاك سيان ؟
ثم هم في أزمة عنيفة كذلك بشأن الإسلام .
إن دعاة الإسلام يقولون للناس : إن هذا الدين نسيج وحده . إنه ليس مجرد عقيدة ، ليس مجرد تهذيب للروح ، وتربية للفضائل ، بل هو إلى جانب ذلك نظام اقتصادي عادل ، ونظام اجتماعي متوازن ، وتشريع مدني ، وتشريع جنائي ، وقانون دولي ، وتوجيه فكري ، وتربية بدنية : كل أولئك على أساس من العقيدة ، وفي مزاج من التوجيه الخلقي والتهذيب الروحي .
و " المثقفون " في أزمتهم حائرون ، فقد كانوا ظنوا أن الإسلام قد انتهى واستنفد أغراضه ، ثم ها هم أولاء يفاجأون بأصحاب الدعوة الإسلامية يقولون لهم : إن هذا الدين ليس شيئاً من تراث الماضي السحيق يوضع اليوم في متحف الأفكار والنظم والعقائد ، إنما هو كائن حي في هذه اللحظة ، ويملك من مقومات الحياة في المستقبل ما لا يملكه أي نظام آخر عرفته البشرية حتى اليوم ، بما في ذلك الاشتراكية والشيوعية .
عند ذلك تهزهم المفاجأة ، فلا يملكون أنفسهم . ويصرخون : أهذا النظام الذي أباح الرق والإقطاع والرأسمالية .. النظام الذي يجعل المرأة نصف الرجل ويحبسها في دارها . النظام الذي يجعل عقوباته الرجم والقطع والجلد .. النظام الذي يترك أهله يعيشون على الإحسان ، ويقسمهم طبقات بعضها يستغل بعضا ، ولا يملك الكادحون فيه ضمانات العيش الكريم .. النظام الذي صنع كذا وكذا .. أيمكن أن يعيش اليوم ، فضلا عن المستقبل ؟ أهو نظام يستطيع في الصراع الجبار الذي يقوم اليوم بين النظم الاجتماعية والاقتصادية  القائمة على أسس " علمية ! " أن يقف على رجليه ، فضلا عن المصارعة والكفاح ؟ !
وينبغي أولاً أن يعرف هذا اللون من " المثقفين " من أين جاءتهم هذه الشبهات ، ليعرفوا إن كانوا وهم يرددونها أصلاء في التفكير ، أم مقلدين ، يرددون ما لا يفهمون .
إنها قطعاً ليست شبهاتهم الخاصة ، ولا هي نتيجة تفكيرهم الذاتي ، ولنرجع خطوات إلى الوراء لنعرف شيئاً من التاريخ الحديث .
في العصور الوسطى قامت الحروب الصليبية بين أوربا والعالم الإسلامي ، واستعر أوارها . ثم سكتت بعد فترة من الزمان ، ولكن يخطئ من يظن أنها انتهت حينذاك . فها هو ذا اللورد ألنبي يقول في صراحة كاملة حين استولى على بيت المقدس في الحرب العظمى الأولى : ( الآن انتهت الحروب الصليبية ) ! !
وفي القرنين السابقين أخذت أوربا المستعمرة تزحف على العالم الإسلامي ، وفي سنة 1882 دخل الإنجليز مصر ، بعد خيانة توفيق وتآمره مع جيش الاحتلال ضد  الثورة الشعبية بزعامة عرابي . ولم يكن بد للإنجليز من سياسة يثبتون بها أقدامهم في العالم الإسلامي ، ويأمنون بها الروح الإسلامية أن تشتد فتعصف بهم في يوم قريب . وهنا ندع مستر جلادستون رئيس الوزارة البريطانية في عهد الملكة فكتوريا يتحدث في صراحة ووضوح عن هذه السياسة ، فيمسك بيده المصحف ويقول لأعضاء مجلس العموم : " إنه ما دام هذا الكتاب بين أيدي المصريين ، فلن يقر لنا قرار في تلك البلاد " .
وإذن فقد كانت السياسة المطلوبة هي توهين عُرَى الدين ، ونزع قداسته من نفوس أهله ، وتشويه صورته في أفكارهم وضمائرهم ، لينسلخوا منه وينفروا من التمسك بأحكامه وآدابه ، حتى يستطيع المستعمرون أن يستقروا في هذه البلاد !
وكذلك صنع الإنجليز في مصر . فقد وضعوا سياسة تعليمية لا تدرس شيئاً عن حقيقة الإسلام ، سوى أنه عبادات وصلوات ، وأذكار ومسابح وطرق صوفية ، وقرآن يقرأ من أجل " البركة " ، ودعوات نظرية إلى مكارم الأخلاق ! أما الإسلام كنظام اقتصادي واجتماعي ، أما الإسلام كنظام للحكم ودستور للسياسة الداخلية والخارجية ، أما الإسلام كنظام للتربية والتعليم .. أما الإسلام كحياة ومهيمن على الحياة .. فلم يدرس منه شيء للطلاب ، وإنما درست لهم بدلاً منه الشبهات الي وضعها المستشرقون وغيرهم من الصليبيين الأوربيين . 1ليفتنوا بها المسلمين عن دينهم ، تنفيذاً لغرض الاستعمار الخبيث .
وفي مكان هذا كله درسوا لهم أوربا .
النظم الاجتماعية الحقة هي التي قامت في أوربا . والنظم الاقتصادية الحقة هي التي ابتدعها الفكر الأوربي . والنظم الدستورية الصالحة هي التي صقلتها تجارب الأوربيين . حقوق الإنسان قررتها الثورة الفرنسية .
والديمقراطية قررها الشعب الإنجليزي . و " الحضارة " وضعت أسسها الإمبراطورية الرومانية . وباختصار ، صورت لهم أوربا على أنها مارد جبار لا يقف في طريقه شيء ، والشرق على أنه قزم ضئيل لا يرجى له قيام إلا أن يكون خاضعا لأوربا ، مستمدا كيانه كله من هناك .
وفعلت تلك السياسة فعلها . ونشأت أجيال من المصريين لا تحس لها وجوداً ذاتياً ولا كياناً خاصاً . أجيال قد استعبدت لأوربا ، وغرقت في العبودية إلى آخر قرارها . أجيال لا تبصر بعيونها ولا تفكر بعقولها ، ولا ترى إلا ما يراه لها الأوربيون ، ولا تعتنق إلا ما يريدون لها من أفكار ! والذي حدث في مصر حدث مثله أو شبيه له في كل قطر من أقطار الإسلام .
و " المثقفون " ، اليوم هم خلاصة هذه السياسة المرسومة التي وضعها الاستعمار في العالم الإسلامي كله من المحيط إلى المحيط !
إنهم لا يعرفون عن الإسلام إلاَّ الشبهات ، ولا يعرفون عن الدين كله إلا ما لقنهم الأوربيون . ولذلك فهم ينادون – كالأوربيين – بفصل الدين عن الدولة ، وفصل العلم عن الدين .
وهم ينسون – في غفلتهم – أن الدين الذي انسلخت منه أوربا شيء ، والدين الذي يدعو إليه أصحاب الدعوة الإسلامية شيء آخر . وأن الملابسات التي أحاطت بأوربا ، وأدت بها إلى معاداة الدين والنفور منه ، ملابسات خاصة بالقوم هناك ، لم يحدث مثلها في الشرق الإسلامي ، ولا يمكن أن يحدث . فهم في دعوتهم إلى نبذ الدين ، أو تركه في عزلة عن تدبير الحياة وتصريف شئون المجتمع والسياسة والاقتصاد ، إنما يستوردون أفكاراً جاهزة ، ويرددون ما يردده القوم هناك .
لقد نشأ الصراع في أوربا بين العلم والدين ، لأن الكنيسة هناك احتضنت أفكاراً " علمية " ونظريات معينة ، وقالت إنها حقائق مقدسة ، لأنها كلمة السماء !  فلما أثبت العلم النظري والتجريبي فساد هذه الأفكار والنظريات ، لم يكن بد من أن يؤمن الناس بالعلم ويكفروا بالكنيسة ، ويكفروا بالدين كما يصوره لهم رجال الدين . وزاد في حدة هذا الصراع والرغبة في التحرر من " ربقة " الدين ، أن الكنيسة في أوربا فرضت لنفسها سلطة إلهية ، واشتطت في تطبيقها إلى حد الدكتاتورية ، فصارت غولاً بشعاً يطارد الناس في يقظتهم ومنامهم ، يفرض عليهم الإتاوات ، والخضوع المذل لرجال الدين ، كما يفرض عليهم الأوهام والخرافات ، باسم كلمة الله !
وكان تعذيب العلماء وتحريقهم بالنار ، لانهم قالوا بكروية الأرض – مثلاً - من البشاعة بحيث يفرض على كل صاحب فكر حر ، وضمير متحرر أن يساعد في تحطيم هذا الغول البشع ، أو تكبيله بحيث لا يعود له على  الناس سلطان . وصار تجريح الدين – كما صورته الكنيسة - وتلمس العيوب فيه ، واجباً مقدساً هناك على المفكرين الأحرار .
أما نحن هنا في الشرق الإسلامي فما بالنا ؟ لماذا نفصل بين العلم والدين ، ونقيم بينهما النزاع والصراع ؟ أي حقيقة علمية خالصة مجردة من الهوى اصطدمت بالدين والعقيدة ؟ ومتى وقع اضطهاد على العلماء في ظل الإسلام ؟ هذا هو التاريخ يشهد بقيام علماء في الطب والفلك والهندسة والطبيعة والكيمياء ، نبغوا في ظل الإسلام ، فلم يقم في نفوسهم الصراع بين العلم والعقيدة ، ولا قام بينهم وبين السلطات الحاكمة ما يدعو إلى الحرق والتعذيب .
فما الذي يدفع أولئك " المثقفين " إلى فصل الدين عن العلم ، وتجريح الدين ، وتلمس العيوب فيه – دون وعي ولا دراسة ، وبما يشبه صراخ المحمومين - إلا السم الاستعماري الذي تجرعوه وهم لا يشعرون ؟
هذا الصنف من المثقفين لم يكن في حسابي على أي حال وأنا أكتب هذا الكتاب . فهم لا يفيئون إلى صواب ، حتى يفيء الذين يقلدونهم في الغرب ، بعد أن ييأسوا من حضارتهم المادية الملحدة ، ويعرفوا أنها ليست طريق الخلاص ، فيعودوا إلى نظام مادي روحاني في ذات الوقت . نظام يشمل العقيدة والحياة في آن .
وإنما كان في حسابي طائفة أخرى من الشباب المخلص المفكر المستنير . شباب صادق الرغبة في الوصول إلى الحقيقة ، ولكن هذه الشبهات تعترض طريقه فلا يعلم لها رداً ، لأن الاستعمار الماكر قد حجب عن عيونه النور ، وتركه حائراً في الظلمات . ولأن عبيد الاستعمار وشياطين الشيوعية يمعنون في تضليله خشية أن يهتدي إلى الطريق الصحيح ، طريق الحرية والكرامة والاستعلاء .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق