الخميس، 2 أبريل 2020

البيان الجلي في فضائح المدخلي

البيان الجلي في فضائح المدخلي | طارق عبدالحليم

الحمد لله سبحانه، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده.

أما بعد...


فقد صدر عن المدخلي المُبتلى بالإرجاء، في موقعه على الإنترنت، كلمات يموه بها على عقول الشباب بما يورده خلالها من أسماء علماء المسلمين وما ينقله عن كتب السنة وأهل الحديث، ثم يعرضه عرضا ملتويا، هو في حقيقته - لمن له بصيرة - حجة عليه، لا حجة له، وكأنه هو صاحب علم الحديث، ومنشئه، والموكّل بحفظه! 

يعلم الله سبحانه أنه أبعد الناس عن الحديث وعن سنة قائله عليه أفضل الصلاة والسلام، وإن تشدّق بكلماته هذه، فالعلم بالحديث يتبعه علمًٌ بمنهج السنة في النظر والإستدلال، وفقه في دين الله، وبصيرة في واقع الناس، تجعل العالم بصير بمقصود الشارع في كتاب الله وفي سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وهو ما لا يتحلى به هذا الرجل في قليل ولا كثير.

والرجل تائه منحرف لا محالة. 

فمنهجه في الإرجاء معروف، بل وغلوه في الإرجاء بما لم يحكى حتى عن السابقين من المرجئة؛ مدون عنه، حتى أنه جعل منزلة الحكم بالقوانين الوضعية وإقامة تشريع مواز لشريعة الله وترك الشريعة الحقة وتنحيتها جانبا والحكم بين المسلمين في أبضاعهم وأبشارهم وأموالهم بما شرّع "نابليون" و "بوش" وغيرهم من شياطين الإنس، والإعتداء على دعاة الإسلام وقتلهم وتشريد أهليهم، جعل كل هذا ذنبا بمنزلة من "دخّن سيجارة" أو شاهد فيلما سينمائيا! 

ألا ما أجهل أهل البدعة الذين أبتلى الله المسلمين بهم في عصرنا هذا!

وكأن الحكام من الطواغيت لم يقوموا بما أملاه عليهم سادتهم من الصليبيين والصهاينة، وكأن العدوان الصليبي الغادر بمعاونة هؤلاء الخونة ليس كافيا، وكأن الإستسلام والعيش في الضيم والهوان في ظل الإحتلال هو السنة وهو المنهج السديد! 

ألا إنه وأمثاله لسبة في جبين الإسلام، قاتل الله الجبناء من أمثاله.

والطامّة الكبرى ليست في هذا الأمر، بل في أن الرجل لا حياء عنده يردعه عن أن يرمي الدعاة إلى الله ممن هم أرفع منه قدرا وأفضل منه فقها وعلما وأرفع درجات عند الله والناس بالنقائص، ويسمى هذا "جرحا وتعديلا"، يموه به على من لا عقل له ولا علم من الشباب ممن يدفعه الجهل إلى حبّ النقد والنيل من الغير، فيجد في هذا المبتدع بغيته، فيتبعه على أن يطلق له حرية النيل من أقدار العلماء بحجة "الجرح والتعديل".

ويشهد الله أن علماء الجرح والتعديل أبرياء من أمثال هذا الضال المرجئ المعتدى. 

وهي طريقة يتبعها أمثال هذا من أمثال مقبل الوادعي الذي لم يستحى من الله أن يسمى القرضاوي "الكلب العاوي"! وسبحان الله هو بين يدي الله لعل الله أن يغفر له مثل هذا الخلل وقلة الأدب.

ونحن نختلف مع القرضاوى، ونعرف مواضع خطئه ونعرّف بها، ولكن ليس بأسلوب الشتم والإهانة، وإلا فإن كل كاتب يمكن أن يهين الآخرين ويرميهم بألفاظ قبيحة. 

والأمر ليس أمر حق وباطل، وإنما هو أمر خلق وتربية نتعلمها من سيد المرسلين الذي لم يسمى أكفر الكافرين بمثل هذه الألفاظ، أتعس الله هؤلاء المبتدعين.

وقد رأيت بعيني رأسي من الشباب - خاصة ممن لا يتحدث العربية - يقع في حبائل هذا المُدّعِ، إذ أن الجهل آفة العدل، فترى هؤلاء الشباب المنحرف وقد سهُل عليهم الخوض في أعلام الأمة وتمهد لهم طريق الغيبة والسباب، وكأن سبّ العلماء هو دليل العلم عندهم، وكيف لا وقد موّه عليهم هذا الضال بتلك الكلمات التي ينقلها عن سادة السلف ويحرفها عن موضعها لتنطلى خدعه على أمثال هؤلاء ويكثر أتباعه بالباطل وكأنه الحق.

وقد قام العديد من علماء السنة والجماعة ببيان فضائحه، وإن قصرت عن الإبانة أقلامهم في بعض الأحيان لما يحظى به هذا المبتدع من حماية السلطان، ومن وراء هذه الحماية مباركة أهل العدوان على الإسلام، إذ قد حقق لهم بكلماته المضللة ما لم تحققه سجون وجيوش وآلات تعذيب وسلطات إحتلال، فهو بطل العلمانية وحامي حماتها، وهو مبارِك للعدوان متواطؤ عليه، ثم هو يدعى السلفية بلا حياء ولا خجل. 

إن منهجا يمهّد للعدوان، ويرضى بالباطل ويخضع لشرع الجاهلية أن يتّبع ولمنهج الله أن يزدرى وينحى عن النفاذ، لهو منهج ضال منحرف عن الجادة، دون الحاجة إلى الرجوع إلى أي كتاب أو السماع لأي عالم! 

فإن ما يسوغون للناس قبوله هو عكس مقصود الله سبحانه في إرسال الرسل وإنزال الكتب. 

ثم هؤلاء يتحدثون عن أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم في وجوب إتباع الحكام حتى لو عصوا، وهو صحيح في موضعه، إلا أنّ ما يفعل اليوم بشريعة الله هو خلاف ما تقع عليه منطوقات هذه الأحاديث، كما بينه أسياد هذا المبتدع من علماء السنة الصحيحة، وكما سنبين إن شاء الله تعالى، ولكن الهوى والضلالة والبدعة لا تدع في عقل المبتدع منفذاً للنور!

فحسبنا الله ونعم الوكيل في تلك الثلة الضالة من أتباع المدخلي، أذناب السلطان وحماة العدوان. 

ولمّا رأينا أنه لا يرتدع، قررنا أن نجرعه بالحق من الكأس التي جرّع منها العديد من أهل السنة بالباطل.

وسنقوم بإذن الله في هذه التقدمة بالردّ على ما نشره هذا المبتدع في تاريخ 19/10/1425 هـ على موقعه مما يموه به على عقول العامة؛ من أن ما يفعله هو وقطيعه يعتبر من علم الجرح والتعديل الذي سنه للمسلمين السلف الصالح الذين ضلّ عن منهجهم هذا الدعيّ الجاهل.

ونبدأ بقرير؛ أن التحذير من أهل الضلال والبدع هو أمر متفق عليه لا خلاف فيه، وقد دونا فيه صحائف - بحمد الله تعالى - منها مجموعة كتب الفرق التي أصدرناها منذ أكثر من ربع قرن [2]، كذلك فقد كتبنا عن القرضاوي وأخطائه العديدة [3]. 

إلا أن هذا لا يبرر الشتم والقذف وقلة الأدب والحياء.

ثم ننقل هنا ما قاله هذا الرجل المبتدع "المدخلي" في موضوع الجرح والتعديل ما يبين بجلاء خلطه للأمور وضيق نظره في فهمه للشرعيات، وهو عمدة ما كتبه عن هذا الأمر [4]:

(قال الإمام الذهبي في هذا الكتاب: "الفخر بن الخطيب صاحب التصانيف رأس في الذكاء والعقليات، لكنه عري من الآثار، وله تشكيكات على مسائل من دعائم الدين ثورت حيرة، نسأل الله أن يثبت الإيمان في قلوبنا، وله كتاب السر المكتوم في مخاطبة النجوم سحر صريح فلعله تاب من تأليفه إن شاء الله تعالى") اهـ.

(قال الحافظ ابن حجر: "وقد عاب التاج السبكي على المصنف ذكره هذا الرجل في هذا الكتاب، وقال: إنه ليس من الرواة، وقد تبرأ المصنف من الهوى والعصبية في هذا الكتاب، فكيف ذكر هذا وأمثاله، ممن لا رواية لهم كالسيف الآمدي وقد اعتذر عنه بأنه يرى القدح في هؤلاء من الديانة وهذا بعينه التعصب في المعتقد". 

انظر إلى السبكي كيف يرمي الذهبي بالتعصب في المعتقد، وينكر عليه ذكر الرازي وأمثاله في كتابه "الميزان"، و "الميزان" في نظره خاص بالرواة، وهذا اعتراض باطل دافعه الهوى والتعصب لأمثاله من أهل الأهواء، فلم يشترط أحد من أئمة الجرح والتعديل تخصيص الجرح بالرواة فقط من حيث الرواية فقط، بل تناولوا الرواة من جهة الرواية ومن جهة المعتقد، فالراوي المبتدع أخطر عندهم من الراوي السليم من البدع، لذا ترى الأئمة لم يكتفوا بذكر أهل البدع في كتب الجرح والتعديل، بل ذهبوا ينتقدونهم ويجرحونهم ويبينون فساد عقائدهم ومناهجهم لشدة خطورتهم في كتب مستقلة وهي كثيرة معلومة لدى العلماء وطلاب العلم").

ولا شك أن الشباب الذين يستمعون لهذا الكلام يعتقدون أن تحت القبة شيخ! وأن الرجل صاحب علم أعلى وفقه أجلّ! ويشهد الله أن الصحيح عكس هذا على وجه التمام.

أولا؛ تمويه المدخلي: 

موّه المدخلي بذكر مقدمات مجمع عليها؛ من أنّ إظهار عوار أهل البدع بل وتسمية أهل البدعة بأسمائهم ليحذر منهم العامة أمر لا شك فيه، وهو ما نتفق عليه، ولهذا فنحن نكتب عن هؤلاء السلفيين المزيفين ونسميهم بأسمائهم، فالأمر هو "من هم أهل البدعة؟" و "من هم الذين يحكمون عليهم بالبدعة؟".

فأنّا نحسب أن المدخلي من أهل البدعة، ونقرر هذا من أقوال السلف والخلف ومن بيان فهم منهج أهل السنة في النظر والإستدلال بما لا يدع مجالا لشك.

فالرجل غاية جهده أن يثبت أن الحكم بما أنزل الله ورفع الشريعة من الأرض للحكم بالأحكام الوضعية هو في منزلة الذنب - كتدخين السيجارة - سواء بسواء! وهناك من المُضَللين والمغترين من يرى مثل هذا الرأي لقلة علم أو لهوى أو شبهة. 

وسنتعرض لشبه المدخلي في مقالته عن مجال علم الجرح والتعديل الذي اتخذه وأمثاله ممن اغتروا بالألفاظ الكبيرة التي يموهون بها على عوام الشباب وجهالهم لسبّ العلماء - من أخطأ منهم في أمر أو أمور - متخذا سلفا له في ذلك؛ مدّعي السنة الآخر "الوادعي" الذي أسمى القرضاوي "الكلب العاوي"! 

سبحان الله على السنة التي يتبعها هؤلاء الضالين، والتي تعطى الحق لرجل يصيب ويخطئ ولا يتنزل عليه الوحي أن يسبّ رجلا يقول ربي الله ويدعو إلى الله، مع خطئه وانحرافه في أمور عديدة سجلناها عليه في مواضع عدة.

والشباب المخدوع إنما يستمع إلى الكلمات والمصطلحات التي يستعملها هؤلاء المبتدعة في خطابهم، مثل "ليس بشيء" و "لا بأس به" و "جاهل" أو "ضال" مما يستعمله علماء الحديث في كتب الجرح والتعديل التي يراد به وجه الله وحماية السنة لا ما يراد بها غمز الدعاة وسبّ العلماء تحت عنوان "الجرح والتعديل"!

وسنقوم - بعون الله تعالى - بالرد على هذه النقاط التي موّه بها المدخلي في مقاله ذاك عن الذهبي وغيره، ثم نعرج بالرد بشكل عام على مغالطات الرجل وانحرافاته التي يروجها بين الشباب في إجمال فيما يأتي إن شاء الله تعالى. 

ثانبا؛ تخليط المدخلي: 

أن كتاب الذهبي "ميزان الإعتدال" إنما هو بالإصالة كتاب في تقرير أحوال الرواة ونقلة الحديث، لا في تفنيد كلام أهل البدع والأهواء والنعي عليهم. 

قال الذهبي في خطبة الكتاب ما نصه: (أما بعد - هدانا الله وسددنا، ووفقنا لطاعته - فهذا كتاب جليل مبسوط، في إيضاح نقلة العلم النبوى، وحملة الآثار) اهـ. 

وهذا نصّ في تقرير الغرض من الكتاب يقدّم على ما قد يفهم من جزئية وردت مرة أو مرتين في الخطاب، فجعلها المدخلي أصلا بذاته في الهجوم على الرجال من العلماء - سواء بحق أو بباطل - 

فالفرق هنا في أن هذا الكتاب - ومثله من كتب الجرح والتعديل - إنما هي موضوعة "أصالة" لتنفنيد أحوال الرواة، كما نصّ على ذلك الذهبيّ نفسه، وأن الحديث عن خلل في العقيدة عند أحد الرجال إنما هو عرض من الأعراض ليس من أصل موضوع الكتاب. 

وهذا يعني أنّ إتخاذ عنوان هذا العلم ليكون على وجه "الأصالة" موضوعا لكتب بذاتها تحمل هذا العنوان الجليل ليبرر الهجوم على العلماء ممن ليسوا من أهل الرواية - وإن أخطئوا في بعض أقوالهم - هو من البدع ومما يخالف سنن العلماء ومن التمويه المغرض.

و "الميزان" قد تعرض فيه صاحبه لأكثر من أحدى عشر ألفا من الرجال، لم يتعرض فيه لغير المحدثين والرواة، إلا لشخصية أو اثنتين! فهل يبنى على هذا علم هو أولى بأن يسمى "علم سبّ الرجال"! 

ونحن نعلم أن فهم مثل هذه الدقيقة هو مما يعزّ على أمثال المدخلي ومتبعيه، ولكننا نبين أن من طريقة أهل البدع تقديم العام على الخاص والمجمل على المبين والمطلق على المقيد. 

فكما ذكرنا، قدم المدخلي معنى فرعيا وأمرا شاذا عن قاعدة الكتاب واتخذ ذلك ذريعة لجعله أمرا أصليا وأطلق عليه اسم الجرح والتعديل. 

هذا هو التحريف بعينه، هذا هو التزييف بعينه، وهذا ما يؤيد تسميتنا لهم "السلفيون المزيفون" [5].

ويموه هؤلاء المزيفون على الجهلة من الشباب؛ أن من له معرفة بالحديث كان فقيها بطريق اللزوم، وشتّان بينهما، فإن يحي بن معين لم يكن فقيها ولا كان عليّ بن المديني ولا يحي بن سعيد القطان ولا أبي زرعة ولا غيرهم من أعلام الرجال في علم الحديث، لا أمثال هؤلاء المصطنِعين للعلم المتطفّلين على موائد الحديث. 

وإنما كان الأوزاعي فقيها وأبي حنيفة فقيها والشافعي فقيها والليث بن سعد فقيها، ولم يكن من هؤلاء من يُعدّ من علماء الحديث، إلا أحمد بن حنبل الذي جمع بين الحسنيين، الفقه والحديث. 

وفقه الحديث هو أمر ثالث يستدعى النظر الفقهي - كما بيّن ذلك أمثال الصنعاني في "سبل السلام" والشوكاني في "نيل الأوطار" - وما أبعد هؤلاء المدّعين عن رتبة هؤلاء المحققين. 

فمعرفة الرجال وتحقيق الحديث ليس فقهاً ولا يستدعي فقه ولا ينشأ عنه فقه بطريق اللزوم، بل هو علم شريف خاص، قائم برأسه، له أصوله وقواعده التي يقوم عليها، ومن ثم ينشأ عنه تصنيف الأحاديث بما هي عليه من رتب التصحيح والتضعيف. 

وصلته بعلم الفقه كصلة الحداد الماهر الذي يصقل السيف ثم يسلمه للفارس الذي يضعه في موضعه. 

ولكن هؤلاء البشر- أو أشباههم- لا يكادون يفقهمون حديثا! 

فما بالك وهم من تلامذة الحديث الساقطين عن رتبة القيادة فيه، وإن موّهوا وبثوا فتنهم وزكوا أنفسهم فهم في هذا كلابس ثوبيّ الزور بإدعائهم ما ليس فيهم، وإنما أفلحوا في خدمة السلاطين وتحسين ترك العمل بالشريعة في أنظار العوام، جزاهم الله بما يستحقون.

ثالثا؛ تدليس المدخلي في إيراد الأدلة: 

ثم يعمّى المدخلي عن أهداف ووسائل علماء الجرح والتعديل فيقول: (فلم يشترط أحد من أئمة الجرح والتعديل تخصيص الجرح بالرواة فقط من حيث الرواية فقط، بل تناولوا الرواة من جهة الرواية ومن جهة المعتقد، فالراوي المبتدع أخطر عندهم من الراوي السليم من البدع، لذا ترى الأئمة لم يكتفوا بذكر أهل البدع في كتب الجرح والتعديل، بل ذهبوا ينتقدونهم ويجرحونهم ويبينون فساد عقائدهم ومناهجهم لشدة خطورتهم في كتب مستقلة وهي كثيرة معلومة لدى العلماء وطلاب العلم). 

وهو مرة أخرى تحريف للقول عن موضعه. 

فإن الجملة بذاتها ناطقة بالخلط والتعمية! فإنه يقول: (لا يشترط تخصيص الجرح بالرواة فقط من حيث الرواية فقط).

وهو هنا قد خلط أمرين ليشبّه على الجهلة المعنى المنحرف المغلوط الذي يدّعيه. 

فرغم أنه قال: (تخصيص الرواة فقط)، فقد ساق في الجملة التي بعدها ما قرره العلماء من حيث نقد عقيدة الرواة، وهو ما لم نختلف عليه، إنما نختلف على صحة نقد من هم ليسوا من الرواة في غير الرواية تحت اسم علم الجرح والتعديل! 

هذا ما لم يتم للمدخلي، وإن موّه به بمثل هذه الجملة المخلّطة، بل قد جاء عنه ما نقله هو نفسه من أن هناك كتب مستقل؛ة تتناول عقائد المبتدعة وإظهار انحرافهم! 

ونتساءل: لماذا إذن لم يتناول المدخلي وأمثاله الأخطاء أو الإنحرافات في فتاوى بعض العلماء أو في بعض معتقدات آخرين في كتب مستقلة يمكن أن يكون الغرض منها قرع الحجة بالحجة، بأسلوب أقرب إلى السنة وأليق بهدى الإسلام؟ 

والجواب؛ أن الأيسر في تجريح الناس أن يصدر عن كبيرهم الذي علمهم السب كلمة مختصرة بأن فلان "جاهل" أو "ليس بشيء" أو مثل ذلك من مصطلحات علماء الحديث، ولا حاجة إلى تدوين أكثر من ذلك، إذ أن تناول الأدلة قد يعوّد الشباب على فهم الحجة والرجوع إلى الأدلة بشكل عام، وهذا لا يخدم مصالح هؤلاء المدّعين من عملاء السلاطين وأنصار المعتدين والمحتلين، فالأسهل أن نصنّف في كلمة أو كلمات رجل أو رجال ممن هم أعلى قدرا وأعلم فقها بأنهم كذا وكذا، ولينطلق بهذه الكلمات شباب اغتر بأنهم اصبحوا من أهل الجرح والتعديل! 

سبحانك اللهم، نجّنا من أمثال هؤلاء المخادعين المغترين. 

ألا وإني أصنّف هذا المدعي "صاحب بدعة، ليس بشيء، متروك".

ثم ينقل مرة أخرى قول مسلم: (وقال الإمام مسلم رحمه الله: "واعلم - وفقك الله تعالى - أن الواجب على كل أحد عرف التمييز بين صحيح الروايات وسقيمها، وثقات الناقلين لها من المتهمين أن لا يروى منها إلا ما عرف صحة مخارجه، والستارة في ناقليه، وأن يتقيَّ منها ما كان منها عن أهل التهم والمعاندين من أهل البدع). 

وواضح أنّ مسلم يتحدث عن أصحاب الروايات وضرورة الرواية عن الثقات دون أهل البدع والأهواء، وهو ما لم نختلف عليه. 

فالرجل يسوق أدلة تدل على أمر مجمع عليه، ويتخذها دليلا على ما لم يتفق عليه! وهو من التدليس في الرد. 

وهو ما موّه به بعد في مقاله على الإنترنت؛ "أئمة لحديث ومن سار على نهجهم هم أعلم الناس بأهل الأهواء والبدع، ومشروعية الجرح والتعديل من الأكفاء لم تنقطع". 

فقد نقل الآتي، مما يؤكد صحة ما ذهبنا اليه من تدليسه في إيراد الأدلة:

قال: 

1) (إبراهيم بن طهمان الخراساني؛ نزيل مكة، وثقه في الرواية عدد من الأئمة، وممن وثقه الإمام أحمد وصالح بن محمد جزرة والدارقطني، ولكنهم وصفوه بالإرجاء [تهذيب التهذيب: 1/129-130]، وقال الذهبي فيه: قال الدارقطني ثقة، وإنما تكلموا فيه للإرجاء، وقال أبو إسحاق الجوزجاني: فاضل رمي بالإرجاء. وقال أحمد: صحيح الحديث مقارب يرى الإرجاء وكان شديداً على الجهمية [الميزان: 1/38]).

2) (أيوب بن عائذ الكوفي؛ قال الذهبي: وكان من المرجئة، قاله البخاري وأورده في الضعفاء لإرجائه، وذكر الذهبي؛ أنه له عند البخاري حديث وعند مسلم حديث آخر فإنه مقل [الميزان: 1/289]، وذكر الحافظ؛ أن ابن المبارك والبخاري وأبا داود وابن حبان وصفوه بالإرجاء [تهذيب التهذيب: 1/407]، ونقل توثيقه عن الأئمة).

ويرى القارئ الفهيم من هذه الأمثلة؛ أن الرجل يدلّس فيها ويعمّى على القارئ، إذ أنها لرواة من أهل البدعة - الإرجاء - روى عنهم بعض الإئمة وصحح بعضهم أحاديثهم، بل روى البخارى ومسلم لبعضهم. 

فهؤلاء - أولا وأخيرا - رواة، فلم التدليس وخلط الأدلة؟ وهو محصول ما نقله عن ابن حجر في "تهذيب التهذيب" في طعنه على ثور بن زيد وما نقله عن "الميزان" من نعي الأوزاعي على الوليد حين حدّثه عن ثور.

والعجيب أن هذا الرجل لا يستحى من النقل عن الإئمة للدلالة على معنى منحرف والإلتواء بالكلام.

كما نقله عن ابن القيم في أنواع الأقلام: (القلم الثاني عشر: القلم الجامع، وهو قلم الرد على المبطلين، ورفع سنة المحقين، وكشف أباطيل المبطلين على اختلاف أنواعها وأجناسها، وبيان تناقضهم، وتهافتهم، وخروجهم عن الحق، ودخولهم في الباطل، وهذا القلم في الأقلام نظير الملوك في الأنام، وأصحابه أهل الحجة الناصرون لما جاءت به الرسل المحاربون لأعدئهم، وهم الداعون إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة، المجادلون لمن خرج عن سبيله بأنواع الجدال).

وهو معنى صحيح عن ابن القيّم رحمة الله عليه، والحمد لله الذي جعلنا من أصحاب هذا القلم الذي ندرأ به عن السنة الصحيحة وعن أعراض الدعاة ضد أمثال المدخلي الشانئ المنحرف. 

فإن لم يكن هذا تدليس في إيراد الأدلة فما يكون التدليس فيها بالله عليكم؟

وقد حذر العلماء من مثل هذا التطرف البغيض في سبّ الخصم وإسقاط قدره، إذ هو ليس من هدي النبوة ولا هو جار على مهيع الشرع.

قال الشاطبيّ رحمة الله عليه في حديثه عن الإجتهاد: (أولا: أن زلة العالم لا يصح اعتمادها من جهة ولا الأخذ بها تقليدا له... كما لا ينبغي أن ينسب صاحبها إلى التقصير - ونحن نخالف في هذه الجزئية؛ التقصير، كما بيّن عبد الله دراز في تحقيقه - ولا أن يشنّع عليه بها ولا ينتقص من أجلها... وعن بن المبارك أنه قال: كنا في الكوفة فناظروني في ذلك - أي في النبيذ المختلف فيه - فقلت لهم؛ تعالوا فليحتج المحتج منكم عمن شاء من أصحاب النبي بالرخصة فإن لم نبين الرد عليه عن ذلك الرجل بشدة صحت عنه، فاحتجوا فما جاءوا عن واحد برخصة إلا جئناهم بشدة، فلما لم يبق في يد أحد منهم إلا عبد الله بن مسعود وليس احتجاجهم عنه في رخصة النبيذ بشيء يصح عنه، قال ابن المبارك: فقلت للمحتج عنه في الرخصة؛ يا أحمق عد أن ابن مسعود لو كان ههنا جالسا فقال هو لك حلال وما وصفنا عن النبي وأصحابه في الشدة كان ينبغي لك أن تحذر أو تحير أو تخشى، فقال قائلهم؛ يا أبا عبد الرحمن فالنخعي والشعبي، وسمى عدة معهما، كانوا يشربون الحرام؟! فقلت لهم: دعوا عند الاحتجاج تسمية الرجال، فرب رجل في الإسلام مناقبه كذا وكذا وعسى أن يكون منه زلة، أفلأحد أن يحتج بها؟! فإن أبيتم فما قولكم في عطاء وطاوس وجابر بن زيد وسعيد بن جبير وعكرمة، قالوا؛ كانوا خيارا، قال: فقلت؛ فما قولكم في الدرهم بالدرهمين يدا بيد؟ فقالوا؛ حرام، فقال ابن المبارك: إن هؤلاء رأوه حلالا فماتوا وهم يأكلون الحرام فبقوا وانقطعت حجتهم، هذا ما حكى، والحق ما قال ابن المبارك، فإن الله تعالى يقول: {فإن تنازعتم فى شيء فردوه إلى الله والرسول... الآية}) [الموافقات: ج4/ص170].

كذلك فيقرر الشاطبي أنّ هذا العمل - تجريح الخصوم وإسقاط هيئاتهم - هو مما يجرّ الى الفوضى ويناقض الشرع.

فيقول في معرض حديثه عن أصول الترجيح بين المفتين: (المسألة الثالثة: حيث يتعين الترجيح فله طريقان، أحدهما عام، والآخر خاص، فأما العام؛ فهو المذكور في كتب الأصول، إلا أن فيه موضعا يجب أن يتأمل ويحترز منه، وذلك أن كثيرا من الناس تجاوزوا الترجيح بالوجوه الخالصة إلى الترجيح ببعض الطعن على المذاهب المرجوحة عندهم أو على أهلها القائلين بها... فلنذكر هنا أمورا يجب التنبه لها...).

قال: (... والثاني؛ أن الطعن في مساق الترجيح يبين العناد من أهل المذهب المطعون عليه ويزيد في دواعي التمادي والإصرار على ما هم عليه لأن الذي غض من جانبه مع اعتقاده خلاف ذلك حقيق بأن يتعصب لما هو عليه ويظهر محاسنه...

والثالث؛ أن هذا الترجيح مغر بانتصاب المخالف للترجيح بالمثل أيضا، فبينا نحن نتتبع المحاسن صرنا نتتبع القبائح، فإن النفوس مجبولة على الانتصار لأنفسها ومذاهبها وسائر ما يتعلق بها، فمن غض من جانب صاحبه غض صاحبه من جانبه، فكأن المرجح لمذهبه على هذا الوجه غاض من جانب مذهبه، فإنه تسبب في ذلك، كما في الحديث: "إن من أكبر الكبائر أن يسب الرجل والديه"، قالوا: وهل يسب الرجل والديه؟! قال: "يسب أبا الرجل فيسب أباه ويسب أمه فيسب أمه"، فهذا من ذلك، وقد منع الله أشياء من الجائزات لإفضائها إلى الممنوع، كقوله: {لا تقولوا راعنا}، وقوله: {ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله... الآية}، وأشباه ذلك.

والرابع؛ أن هذا العمل مورث للتدابر والتقاطع بين أرباب المذاهب، وربما نشأ الصغير منهم على ذلك، حتى يرسخ في قلوب أهل المذاهب بغض من خالفهم، فيتفرقوا شيعا، وقد نهى الله تعالى عن ذلك، وقال: {ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا... الآية}، وقال: {إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم في شيء}، وقد مر تقرير هذا المعنى قبل، فكل ما أدى إلى هذا ممنوع، فالترجيح بما يؤدي إلى افتراق الكلمة وحدوث العداوة والبغضاء ممنوع... فإن المدح إذا أدى إلى ذم الغير كان مجحفا والعوائد شاهدة بذلك. 

والخامس؛ أن الطعن والتقبيح في مساق الرد أو الترجيح ربما أدى إلى التغالي والانحراف في المذاهب زائدا إلى ما تقدم، فيكون ذلك سبب إثارة الأحقاد الناشئة عن التقبيح الصادر بين المختلفين في معارض الترجيح والمحاجة... وهو الحق الذي تشهد له العوائد الجارية، وقد جاء في حديث الذي لطم وجه اليهودي القائل: "والذي اصطفى موسى على البشر"، أن النبي غضب وقال: "لا تفضلوا بين الأنبياء"، أو "لا تفضلوني على موسى"، مع أن النبي جاء بالتفضيل أيضا، فذكر المازري في تأويله عن بعض شيوخه؛ أنه يحتمل أن يريد لا تفضلوا بين أنبياء الله تفضيلا يؤدي إلى نقص بعضهم، قال: وقد خرج الحديث على سبب وهو لطم الأنصاري وجه اليهودي، فقد يكون عليه الصلاة والسلام خاف أن يفهم من هذه الفعلة انتقاص موسى، فنهى عن التفضيل المؤدي إلى نقص الحقوق، قال عياض: وقد يحتمل أن يقول هذا وإن علم بفضله عليهم وأعلم به أمته، لكن نهاه عن الخوض فيه والمجادلة به إذ قد يكون ذلك ذريعة إلى ذكر ما لا يحب منهم عند الجدال، أو ما يحدث في النفس لهم بحكم الضجر والمراء، فكان نهيه عن المماراة في ذلك كما نهى عنه في القرآن وغير ذلك، هذا ما قال، وهو حق، فيجب أن يعمل به فيما بين العلماء فإنهم ورثة الأنبياء.

فصل: وأما إذا وقع الترجيح بذكر الفضائل والخواص والمزايا الظاهرة التي يشهد بها الكافة؛ فلا حرج فيه، بل هو مما لا بد منه في هذه المواطن - أعني عند الحاجة إليه - وأصله من الكتاب قول الله تعالى: {تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض... الآية}، فبين أصل التفضيل ثم ذكر بعض الخواص والمزايا المخصوص بها بعض الرسل، وقال تعالى: {ولقد فضلنا بعض النبيين على بعض وآتينا داود زبورا}، وفى الحديث من هذا كثير، لما سئل من أكرم الناس؟ فقال: "أتقاهم"، فقالوا: ليس عن هذا نسألك، قال: "فيوسف نبي الله، ابن نبي الله، ابن نبي الله، ابن خليل الله"، قالوا: ليس عن هذا نسألك، قال: "فعن معادن العرب تسألوني؟ خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا"، وقال عليه الصلاة والسلام: "بينما موسى في ملأ من بني إسرائيل جاءه رجل فقال؛ هل تعلم أحد أعلم منك؟ قال؛ لا، فأوحى الله إليه؛ بلى عبدنا خضر"، وفى رواية: "أن موسى قام خطيبا في بني إسرائيل، فسئل أي الناس أعلم؟ قال: أنا، فعتب الله عليه إذا لم يرد العلم إليه، قال له؛ بلى لي عبد بمجمع البحرين هو أعلم منك... الحديث"، واستب رجل من المسلمين ورجل من اليهود، فقال المسلم: والذي اصطفى محمدا على العالمين - في قسم يقسم به - فقال اليهودي: والذي اصطفى موسى على العالمين... إلى أن قال عليه الصلاة والسلام: "لا تخيروني على موسى، فإن الناس يصعقون، فأكون أول من يفيق، فإذا موسى آخذ بجانب العرش، فلا أدرى أكان فيمن صعق فأفاق، أو كان ممن استثنى الله"، وفى رواية: "لا تفضلوا بين الأنبياء، فإنه ينفخ في الصور... الحديث"، فهذا نفي للتفضيل مستند إلى دليل، وهو دليل على صحة التفضيل في الجملة إذا كان ثم مرجح، وقال: "كمل من الرجال كثير، ولم يكمل من النساء إلا آسية امرأة فرعون ومريم ابنة عمران، وإن فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام"، وقال للذي قال له؛ يا خير البرية: "ذاك إبراهيم"، وقال في الحديث الآخر: "أنا سيد ولد آدم"، وأشباهه مما يدل على تفضيله على سائر الخلق، وليس النظر هنا في وجه التعارض بين الحديثين، وإنما النظر في صحة التفضيل ومساغ الترجيح على الجملة، وهو ثابت من الحديثين، وقال: "خير القرون قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم"، وقال ابن عمر: "كنا نخير بين الناس في زمان رسول الله، فنخير أبا بكر ثم عمر ثم عثمان"، وقال عثمان للرهط القرشيين الثلاثة - وهم عبد الله بن الزبير وسعيد بن العاص وعبد الرحمن ابن الحرث بن هشام -: "إذا اختلفتم أنت وزيد بن ثابت في شيء من القرآن، فاكتبوه بلسان قريش فإنما نزل بلسانهم"، ففعلوا ذلك، وقال: "خير دور الأنصار بنو النجار ثم بنو عبد الله الأشهل ثم بنو الحرث بن الخزرج ثم بنو ساعدة، وفي كل دور الأنصار خير"، وقال: "أرحم أمتي بأمتي أبو بكر، وأشدهم في الله عمر، وأصدقهم حياء عثمان، وأعلمهم بالحلال والحرام معاذ ابن جبل، وأفرضهم زيد بن ثابت، وأقرؤهم أبي بن كعب، ولكل أمة أمين، وأمين هذه الأمة أبو عبيدة بن الجراح"، وقال عبد الرحمن بن يزيد؛ سألنا حذيفة عن رجل قريب السمت والهدى من النبي حتى نأخذ عنه؟ فقال: "ما أعرف أحد أقرب سمتا وهديا ودلا بالنبي من ابن أم عبد"، ولما حضر معاذا الوفاة قيل له؛ يا أبا عبد الرحمن أوصنا؟ قال: "أجلسوني"، قال: "إن العلم والإيمان مكانهما من ابتغاهما وجدهما - يقول ذلك ثلاث مرات - والتمسوا العلم عند أربعة رهط، عند عويمر أبي الدرداء، وعند سلمان الفارسي، وعند عبد الله بن مسعود، وعند عبد الله بن سلام... الحديث"، وقال عليه الصلاة والسلام: "اقتدوا بالذين من بعدي أبي بكر وعمر"، وما جاء في الترجيح والتفضيل كثير لأجل ما ينبني عليه من شعائر الدين، وجميعه ليس فيه إشارة إلى تنقيص المرجوح، وإذا كان كذلك فهو القانون اللازم والحكم المنبرم الذي لا يتعدى إلى سواه، وكذلك فعل السلف الصالح.

فصل: وربما انتهت الغفلة أو التغافل بقوم ممن يشار إليهم في أهل العلم أن صيروا الترجيح بالتنقيص تصريحا أو تعريضا دأبهم، وعمروا بذلك دواوينهم وسودوا به قراطيسهم، حتى صار هذا النوع ترجمة من تراجم الكتب المصنفة في أصول الفقه أو كالترجمة، وفيه ما فيه مما أشير إلى بعضه، بل تطرق الأمر إلى السلف الصالح من الصحابة فمن دونهم، فرأيت بعض التآليف المؤلفة في تفضيل بعض الصحابة على بعض على منحى التنقيص بمن جعله مرجوحا وتنزيه الراجح عنده مما نسب إلى المرجوح عنده، بل أتى الوادي فطم على القرى، فصار هذا النحو مستعملا فيما بين الأنبياء، وتطرق ذلك إلى شرذمة من الجهال، فنظموا فيه ونثروا وأخذوا في ترفيع محمد عليه الصلاة والسلام وتعظيم شأنه بالتخفيض من شأن سائر الأنبياء، ولكن مستندين إلى منقولات أخذوها على غير وجهها، وهو خروج عن الحق، وقد علمت السبب في قوله عليه الصلاة والسلام: "لا تفضلوا بين الأنبياء"، وما قال الناس فيه فإياك والدخول في هذه المضايق، ففيها الخروج عن الصراط المستقيم) [المولفقات: ج4/ص263، وبعدها].

وقد أطلنا النقل هنا لأهميته واشتماله على دليله.

والشاهد هنا؛ أنّ تتبع العورات وعدم إقالة ذوى الهيئات عثراتهم ومحاولة إسقاط الخصم بالتجريح؛ هي من البدع الشنيعة، والتي لا تدل إلا على ضعف هذه الطغمة من المبتدعين. 

ونحن قد وصمناهم بالبدعة لا لمجرد التجريح، بل لأن بدعتهم هي من البدع الشنيعة، التي نصّ العلماء على أن أمثالها يجب أن يبيّن ويعيّن وأن يسمى للناس حتى يعرفه القاصى والداني.

فالمدخلي ليس كالألباني ولا قريب منه، وهو بالقطع ليس كبكر بن زيد أو الدوسري أو غيرهم من أئمة السنّة المشهود لهم، وإنما قصاراه أنه إمام لعدد من الجهلة من الشباب الذين غرتهم هذه الألفاظ العريضة من علم الجرح والتعديل، فأخذوا في علم سبّ الرجال، وهم في هذا مغرورون ضالون، فلا حول ولا قوة إلا بالله.

رابعا؛ شبه المدخلي ومن حذا حذوه:

1) شبهة أن تبديل شرع الله ورفعه من حياة الناس والحكم بغيره؛ هو من الذنوب التي تغتفر: 

وهذه هي إحدى العبر في حديث هذا المدخلي التي موّه بها على الشباب، وجعل الكثير من جهالهم ينسحبون من الصراع مع الحق ليغرقهم في مصطلحات جرحه وتعديله وقلة أدبه مع العلماء، وهو ما يخالف أساس التوحيد، وأن الحكم والتشريع هو وحده حقّ لله، لا للبشر. 

وقد تاه عن عقل هذا الدعيّ أن المقصود هنا هو حق التشريع ووضع شريعة بديلة لشرع الله، لا إقامة الحكم بخلاف الشرع على وجه الظلم والبغي، كما حدث على مرّ تاريخ المسلمين من قبل كارثة سقوط الخلافة وتبني العلمانية والإنخلاع عن الشرع جملة وتفصيلا. 

وقد نبّه كثير من علماء السنّة لهذا الخلط من أمثال أحمد ومحمود شاكر والدوسري وبن باز الذي يتشدقون بأنه ينصر قولهم في الإرجاء ومذهبهم في الإيمان! - كما سنبين فيما يأتي -

أ) العموم يبقى على عمومه اللفظي إن تكرر وتقرر: 

قال الشاطبي: (الثاني: أنه قد ثبت في الأُصول العلمية أن كل قاعدة كلية أو دليل شرعي كلي، إذا تكررت في مواضع كثيرة وأتى بها شواهد على معان أُصولية أو فروعية، ولم يقترن بها تقييد ولا تخصيص، مع تكررها، وإعادة تقررها، فذلك دليل على بقائها على مقتضى لفظها من العموم، كقوله تعالى: {وَلاَ تزِرُ وازرِةٌ وِزْرَ أُخْرَى}، {وَأنْ ليْس لِلاْنْسَانِ إلاَّ مَا سعَى}، وما أشبه ذلك) [6].

ب) "من" في معرض النفي تفيد العموم:

كما في آية {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ}، فإنه من هنا لا يمكن إلا أن تفيد العموم المطلق بغير استثناء، إلا أن يكون استثناءاً متصلا، كما في آية البقرة: {ومن لم يطعمه فإنه مني إلا من اغترف غرفة بيده}، يعني أنه كل من شرب منه كفايته "طعمه" فهو ليس من موسى، ثم استثنى من ذلك من اغترف غرفة بسيطة، كما في شواهد اللغة. 

والمقصود أن الإستثناء من آية المائدة لم يثبت في القرآن متصلا أو منفصلا، بل ثبت خلاف ذلك من العمومات المتكررة والتقررة كما في "بند: 1".

ج) كلمة "يحكم" هي بمعنى التشريع المطلق لا مطلق التشريع: 

جاء القرآن بلفظ "يحكم" ومصدره "حكم". 

والحكم كما هو معرّف في قواعد الأصول: "خطاب الشارع لمجموع المكلفين بالإقتضاء والتخيير والوضع"، أو في تعريف آخر: "بمجموع الأحكام الشرعية التكليفية والوضعية". 

ومعروف أن الأحكام التكليفية خمسة؛ الواجب، المندوب، المباح، المكروه والحرام، ثم إن الأحكام الوضعية خمسة؛ السبب، الشرط، المانع، الرخصة والعزيمة والصحة والبطلان، ومحل شرحها تفصيلياً هو علم الأصول.

ولكن الشاهد هنا؛ أن الحكم المقصود هنا ليس بمعنى "الفعل" أو "التنفيذ"، بل هو وضع تشريع متكامل يغطى مفهوم الأحكام الشرعية بشقيها، موازيا لما شرعه الله سبحانه، والمراجع للتشريعات الوضعية يرى أنها وضعت على نفس هيئة التشريع الإلهي ولكن بما يراه البشر من قوانين. 

فمثلا؛ في القانون المدني المصريّ "مادة: 174": (أن للزوج الحق في رفع دعوى الزنا على زوجته إن وجدها تزني في بيت الزوجية، ولكن إن ثبت أنه ارتكب جريمة الزنا في نفس البيت من قبل لم تسمع دعواه عليها).

فقد جعل القانون زنا الزوج "مانعا" من إقامة الدعوى، والله سبحانه لم يعتبر هذا من الموانع.

كما أباحت القوانين الوضعية ما حرّم الله من بيع الخمر وشربها، وجعلت لذلك شروطا ما أنزل الله بها من سلطان، كأن يكون من يشتريها أكبر من 21 عاما، وألزمت باستخراج تصاريح مبيحة للبيع والتداول. 

وكل هذا تقنين وتغيير لرتب الأحكام التكليفية، بأن جعلت الحرام مباحا، والمباح حراما، وقننت شروطا وأسباب وموانع لم يعتبرها الشارع. 

فهذا هو مناط "الحكم" الذي ورد في آية المائدة بمعنى التشريع، لا مجرد إقامة الأحكام والتلاعب في البينات أو الظلم وتعدي الحدود - كما يزعم من دخلت عليهم شبه الإرجاء وتلوث بجرثومتها -

د) كلمة "الْكَافِرُونَ" في القرآن: 

من الضروري أن نقيم قاعدة هامة من قواعد فهم التنزيل.

وهي ما ذكرها الشاطبي في "الموافقات"، قال: (فكان القرآن آتيا بالغايات تنصيصا عليها، من حيث كان الحال والوقت يقتضي ذلك، ومنبهاً على ما هو دائر بين طرفيها، حتى يكون العقل ينظر فيما بينهما بحسب ما دلّه الشرع).

وقد استخلص الشاطبي هذا المفهوم من وصية أبي بكر لعمر عند موته. 

وقد بيّن فيها أن الله "قد ذكر أهل النار بأسوأ أعمالهم لأنه ردّ عليهم ما لهم من حسن". 

فيؤخذ من هذا؛ أن القاعدة القرآنية تأتي بالأطراف الغائية وتدع السنة تبيّن وتشرح ما بينهما، فلذلك لا يمكن أن تكون كلمة "الكافرون" هنا بمعنى "الكفر الأصفر"، إذ أن ذلك إنما يرد في السنة لا في القرآن، وإلا فما هي الصورة الغائية في الحكم بغير ما أنزل الله، ولا يصح هنا أن يقال غير مؤمنا بها لأن الآية لم تتحدث عن إيمان أو جحود، بل تحدثت عن ممارسة الحكم بمعنى التشريع المطلق.

هـ) تحقيق مقالة "كفر دون كفر": 

حين النظر في قول بن عباس الذي حكاه عنه أبو مجلز وعطاء؛ فإننا نرى أن هذا القول كان يقصد إلى الرد على فئة محددة من الخوارج الذين أرادوا أن يخرجوا على حكم بني أمية، ويتذرعون بقول بن عباس وأبي مجلز أو من هم من علماء التابعين كعطاء، ليبرروا هذا الخروج، الذي نرى أنه لا مبرر له في حالة بني أمية، إذ أنهم لم يشرّعوا غير ما أنزل الله ولم يجعلوه قانونا يتحاكم إليه الناس.

وهو الفارق الذي عجز من دخلت عليهم شبه الإرجاء في هذا العصر من أن يستوعبوه سواء علمائهم - كالألباني مع جلالته في الحديث - أو عامتهم ممن أجلّوه ونزهوه عن الخطأ وقلدوه دون تحقيق أو نظر، أو من اتبع مدعي العلم من قيادات "الإخوان المسلمين". 

ونترك للمحدث العلامة - شيخ الألباني - الشيخ أحمد شاكر وأخيه العالم الجهبذ محمود شاكر في بيان ما نقصد إليه.

يقول أحمد شاكر: (وهذه الآثار - عن بن عباس - مما يلعب به المضللون في عصرنا هذا من المنتسبين للعلم ومن غيرهم من الجرآء على الدين يجعلونها عذرا أو إباحة للقوانين الوثنية الموضوعة التي ضربت على بلاد الإسلام، وهناك أثر عن أبي مجلز في جدال الإباضية الخوارج إياه فيما يصنع بعض الأمراء من الجور فيحكمون في بعض قضائهم بما يخالف الشريعة عمدا إلى الهوى، أو جهلا بالحكم، والخوارج من مذهبهم أن مرتكب الكبيرة كافر، فهم يجادلون يريدون من أبي مجلز أن يوافقهم على ما يرون من كفر هؤلاء الأمراء ليكون لهم عذراً فيما يرون من الخروج بالسيف، وهذان الأثران رواهما الطبري وكتب عليهما أخي السيد محمود شاكر تعليقا نفيسا جدا، فرأيت أن أثبت هنا نص الرواية الأولى للطبري ثم تعليق أخي على الروايتين.

"فروى الطبري عن عمران بن حيدر قال: أتى أبي مجلز ناس من بني عمرو بن سدوس فقالوا: يا أبا مجلز أرأيت قول الله تعالى: {ومن لم يحكم بما أنزل الله فألئك هم الكافرون}؟ أحق هو؟ قال:نعم، قالوا: {ومن لم يحكم بما أنزل الله فألئك هم الظالمون}، أحق هو؟ قال:نعم، قالوا: {ومن لم يحكم بما أنزل الله فألئك هم الفاسقون}، أحق هو؟ قال:نعم، قالوا: يا أبا مجلز فيحكم هؤلاء بما أنزل الله؟ - يريدون الأمراء الظالمين من بني أمية - قال: هو دينهم الذي يدينون به وبه يقولون، واليه يدعون، فإن تركوا منه شيئا عرفوا أنهم قد أصابوا ذنباً، فقالوا: لا والله ولكنك تفرق! قال: أنتم أولى بهذا مني - يعني أنهم هم الخارجين لا هو - لا أرى، وأنتم ترون هذا ولا تحرّجون".

فكتب أخي السيد محمود بمناسبة هذين النصين: 

"اللهم إني أبرأ إليك من الضلالة، وبعد، فإن أهل الريب والفتن ممن تصدوا للكلام في زماننا هذا، قد تلمس المعذرة لأهل السلطان في ترك الحكم بما أنزل الله وفي القضاء في الدماء والأموال والأعراض بغير شريعة الله التي أنزلها في كتابه وفي اتخاذهم قانون أهل الكفر شريعة في بلاد الإسلام، فلما وقف على هذين الخبرين، اتخذهما رأيا يرى به صواب القضاء في الدماء والأموال والأعراض بغير ما أنزل الله وأن مخالفة شريعة الله في القضاء العام لا تكفر الراضي بها والعامل عليها، والناظر في هذين الخبرين لا محيص له من معرفة السائل والمسئول، فأبو مجلز؛ لاحق بن حميد الشيباني الدوسي، تابعي ثقة، وكان يحب عليا، وكان قوم أبي مجلز، وهم بنو شيبان، من شيعة علي يوم الجمل وصفين، فلما كان أمر الحكمين يوم صفين، واعتزلت الخوارج، كان فيمن خرج على علي طائفة من بني شيبان ومن بني سدوس بن شيبان بن ذهل، وهؤلاء الذين سألوا أبا مجلز؛ ناس من بني عمرو بن سدوس، وهم نفر من الإباضية... هم أتباع عبد الله بن إباض من الحروروية - الخوارج - الذي قال: إن من خالف الخوارج كافر ليس بمشرك! فخالف أصحابه...

ومن البين أن الذين سألوا أبا مجلز من الإباضية إنما كانوا يريدون أن يلزموه الحجة في تكفير الأمراء لأنهم في معسكر السلطان، ولأنهم ربما عصوا أو ارتكبوا بعض ما نهاهم الله عنه، ولذلك قال في الأثر الأول: فإن هم تركوا شيئا منه عرفوا أنهم قد أصابوا ذنبا، وقال في الخبر الثاني: إنهم يعملون بما يعملون وهم يعلمون أنهم مذنبون.

وإذن، فلم يكن سؤالهم عما احتج به مبتدعي زماننا من القضاء في الدماء والأموال والأعراض بقانون مخالف لغير شرع الإسلام، ولا في إصدار قانون ملزم لأهل الإسلام، بالإحتكام إلى حكم غير الله في كتابه وعلى لسان نبيه صلى الله عليه وسلم.

فهذا الفعل إعراض عن حكم الله ورغبة عن دينه وإيثار لأحكام الكفر على حكم الله سبحانه وتعالى، وهذا كفر لا يشك أحد من أهل القبلة على اختلافهم في تكفير القائل به والداعي له.

والذي نحن فيه اليوم، هو هجر لأحكام الله عامة دون استثناء وإيثار أحكام غير حكمه، في كتابه وسنة نبيه، وتعطيل لكل ما في شريعة الله... فإنه لم يحدث في تاريخ الإسلام أن سن حاكما حكما جعله شريعة ملزمة للقضاء بها.

وأما أن يكون كان في زمان ابي مجلز أو قبله أو بعده حاكم حكم بقضاء في أمر جاحدا لحكم الله أو مؤثرا لأحكام أهل الكفر على أهل الإسلام - وهي حال اليوم من آثر أحكام الكفر على أحكام الإسلام - فذلك لم يكن قط، فلا يمكن صرف كلام أبي مجلز والإباضيين إليه، فمن احتج بهذين الأثرين وغيرهما في بابهما، وصرفها عن معناها، رغبة في نصرة السلطان، أو احتيالا على تسويغ الحكم بما أنزل الله وفرض على عباده، فحكمه في الشريعة حكم الجاحد لحكم من أحكام الله، أن يستتاب، فإن أصر وكابر وجحد حكم الله ورضي بتبديل الأحكام، فحكم الكافر المصر على كفره معروغ لأهل هذا الدين).

انتهى نص أحمد ومحمود شاكر جزاهما الله خيرا عميماً، والجاهل بقدرهما عليه أن يسأل عنهما، فهما علمين من أعلام الحديث واللغة العربية والتفسير، لا يجاريهما أحد من أهل هذا الزمان، ولا يكاد القرضاوي أن يقرض بعلمه طرف علومهما. 

وانظر رحمك الله، فهو يقول باستتابة من يتخذ هذه الآثار لنصرة السلطان ممن يدعي العلم - من أمثال بعض الجماعات الإسلامية في كتاب "دعاة لا قضاة" وأدعياء السلفية الذين يتخذون من تكفير أمثال سيد قطب دينا لهم، إذ استشهدوا بهذه الآثار على الوجه الذي ذكره محمود شاكر - لا باستتابة السلطان، إذ لا محل لإستتابته، وحكمه معروف لمن له عقل.

و) قول بن عباس ليس تفسيرا من قبيل المرفوع، بل اجتهاداً: 

ثم إنه إن كان ما ذكره ابن عباس ليس من قبيل التفسير للغيبيات، فيكون من قبيل المرفوع، بل هو من قبيل الإجتهاد الذي يمكن أن ينازع فيه إن خالف ثوابت أخرى، وقد رجع بن عباس عن فتواه في تحليل زواج المتعة من قبل.

ز) قول الصحابي ومرتبته في الأدلة الشرعية:

فإذا اعتبرنا أن ذلك هو نظر لإبن عباس، فإنه من المعلوم في أصول الفقه؛ أن "قول الصحابي لا يخصص عمومات القرآن"، فإن المخصصات للعموم عند الحنفية؛ لا تكون إلا بالمتصل، وهو ليس من قبيل ما نحن فيه، وعند الجمهور؛ يكون التخصيص بالمتصل والمنفصل، والمخصصات قد عدّها أهل الأصول؛ خمسة عشر مخصصا، ليس من بينها اجتهاد الصحابي [7].

ح) أقوال من أخطأ من أهل العلم في هذا القول: 

ومن المعروف أن الألباني - في هذا العصر - هو أجلّ من قال بأن الحاكم بغير ما أنزل الله لا يكفر، بناءاً على رأيه في الإيمان، وهو أنه قول واعتقاد وأن الأعمال هي من كمال الإيمان - كما هو مذهب الأشاعرة والماتريدية - 

ومعروف تأثره بقول ابن حجر في هذا، وابن حجر رحمه الله أشعري العقيدة، وقد خالف رحمه الله أكابر علماء السنة في هذا النظر، كذلك فيما رآه من أن الكفر لا يكون إلا بالجحود وأنه لا كفر بالجوارح، هو خطأ محض في العقيدة، وسبحان من لا يخطئ.

والعيب كل العيب على من يتابعه متابعة المعبود ثم يدّعي عدم التقليد والسلفية، وهؤلاء هم أبعد الناس عن السلفية أو الحديث، وإن تشدّقوا بعالي السند ونازله [8]! 

وأما غيره ممن هم من رؤوس بعض من انتسبوا إلى جماعات إسلامية، مثل "الإخوان"، فهم ممن لا يشتغل المرء بالرد عليهم، لقلة علمهم وضآلة وزنهم في مجال العلم الشرعي.

ط) أقوال من نصر مذهب أهل السنة من العلماء والمحدَثين: 

وهم جمع وجمّ لا يحصى من علماء الأمة في هذا العصر، من أمثال الشيخ محمد بن إبراهيم، والمحدث الأجلّ أحمد شاكر، وأخيه العلامة محمود شاكر، والشيخ عبد الرحمن عبد الخالق، والإمام الدوسري، والإمام المودودي، والإمام عبد العزيز بن باز، خلاف القدماء من العلماء مثل بن تيمية وبن كثير.

  • ابن تيمية:

    يقول ابن تيمية: (فإن الحاكم إذا كان ديناً لكنه حكم بغير علم كان من أهل النار، وإن كان عالماً لكنه حكم بخلاف الحق الذي يعلمه كان من أهل النار، وإذا حكم بلا عدل ولا علم أولى أن يكون من أهل النار، وهذا إذا حكم في قضية لشخص، وأما إذا حكم حكماً عاماً في دين المسلمين، فجعل الحق باطلاً والباطل حقاً والسنة بدعة، والبدعة سنة، والمعروف منكراً والمنكر معروفاً، ونهى عما أمر الله به ورسوله، وأمر بما نهى عنه ورسوله؛ فهذا لون آخر يحكم فيه رب العالمين وإله المرسلين، مالك يوم الدين، الذي له الحمد في الأولى والآخرة، {وله الحكم وإليه ترجعون}... {هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله وكفى بالله شهيداً}). 

  • ابن كثير:

    يقول ابن كثير في تفسير قوله تعالى: {أفحكم الجاهلية يبغون}، قال: (يُنكر تعالى على من خرج عن حكم الله المحكم، المشتمل على كل خيرٍ، الناهي عن كل شر، وعدل عما سواه من الآراء والأهواء والإصطلاحات التي وضعها الرجال بلا مستند من شريعة الله، وكما يحكم به التتار من السياسات الملكية المأخوذة عن ملكهم جنكيز خان الذي وضع لهم الياسق، وهو عبارة عن كتاب مجموع من أحكام اقتبسها من شرائع شتى من اليهودية والنصرانية والملة الإسلامية وغيرها، وفيها الكثير من الأحكام أخذها من مجرد نظره وهواه، فصارت في بنيه شرعا متبعا يقدمونها على الحكم بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فمن فعل ذلك فهو كافر، يجب قتاله حتى يرجع إلى حكم الله ورسوله فلا يحكّم سواه في قليل أو كثير).

    كما أن ابن كثير قد ذكر نفس الكلام في تاريخه عن موضوع الحكم بالياسق وأمثاله، قال: (فمن ترك شرع الله المحكم المنزل على محمد بن عبد الله خاتم الأنبياء وتحاكم إلى غيره من الشرائع المنسوخة؛ كفر، فكيف بمن تحاكم إلى الياسق وقدمها عليه؟ من فعل ذلك كفر بإجماع المسلمين).

  • أحمد شاكر:

    يعلّق أحمد شاكر في "عمدة التفسير": (أقول: أفيجوز - مع هذا - في شرع الله أن يحكم المسلمون في بلادهم بتشريع مقتبس عن تشريعات أروربه الوثنية الملحدة؟ بل بتشريع تدخله الأهواء والآراء الباطلة، يغيرونه ويبدلونه كما يشاؤون، لا يبالى واضعه أوافق شرعة الإسلام أم خالفها؟ 

    إن المسلمين لم يُبْلوَا بهذا قط - فيما نعلم من تاريخهم - إلا في ذلك العهد، عهد التتار، وكان من أسوأ عهود الظلم والظلام، ومع هذا فإنهم لم يخضعوا له، بل غلب الإسلام التتار، ثم مزجهم فأدخلهم في شرعته، وزال أثر ما صنعوا بثبات المسلمين على دينهم وشريعتهم، وبأن هذا الحكم السيئ الجائر كان مصدره الفريق الحاكم إذ ذاك، لم يندمج فيه أحد من أفراد الأمة الإسلامية المحكومة، ولم يتعلموه ولم يعلموه لأبنائهم، فما أسرع ما زال أثره.

    أفرأيتم هذا الوصف القوي من الحافظ بن كثير - في القرن الثامن - لذاك القانون الوضعي الذي صنعه عدو الإسلام جنكيز خان، ألستم ترونه يصف حال المسلمين في هذا العصر، في القرن الرابع عشر، إلا في فرق واحد، أشرنا اليه آنفا؛ أن ذلك كان في طبقة خاصة من الحكام، أتى عليها الزمن سريعا فاندمجت في الأمة الإسلامية وزال أثر ما صنعت.

    في هذ القوانين المخالفة للشريعة والتي هي أشبه شيئ بذاك "الياسق" الذي اصطنعه رجل كافر ظاهر الكفر، هذه القوانين التي يصطنعها ناس ينتسبون للإسلام، ثم يتعلمها أبناء المسلمين ويفخرون بذلك آباء وأبناء، ثم يجلعون مرد أمرهم إلى معتنقي هذا الياسق العصري، ويحقرون من خالفهم في ذلك، ويسمون من يدعوهم إلى الإستمساك بدينهم وشريعتهم "رجعيا" و "جامدا" [9] إلى مثل ذلك من الألفاظ البذيئة.

    بل إنهم أدخلوا أيديهم فيما بقي في الحكم من التشريع الإسلامي، يريدون تحويله إلى "ياسقهم الجديد" وبالهوينا واللين تارة وبالمكر والخديعة تارة، وبما ملكت ايديهم من السلطات تارات، يصرحون - ولا يستحون - بأنهم يعملون على فصل الدين عن الدولة.

    أفيجوز إذن لأحد من المسلمين أن يعتنق هذا الدين الجديد، أعنى التشريع الجديد! أو يجوز لأب أن يرسل أبناءه لتعلم هذا واعتناقه واعتقاده والعمل به عالما كان الأب أو جاهلا؟!

    أو يجوز لرجل مسلم أن يلي القضاء في ظل هذا الياسق العصري، وأن يعمل به ويعرض عن شريعته البينة؟! ما أظن أن رجلا مسلما يعرف دينه ويؤمن به جملة وتفصيلا، ويؤمن بأن هذا القرآن أنزله الله على رسوله كتابا محكما لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وبأن طاعته وطاعة الرسول الذي جاء به واجبة قطعية الوجوب [10] في كل حال، ما أظنه يستطيع إلا أن يجزم غير متردد ولا متأول؛ بأن ولاية القضاء في هذه الحال باطلة بطلانا أصليا، لا يلحقه التصحيح ولا الإجازة.

    إن الأمر في هذه القوانين الوضعية واضح وضوح الشمس؛ هي كفر بواح، لا خفاء فيه ولا مداورة، ولا عذر لأحد ممن ينتسبون إلى الإسلام - كائنا من كان - في العمل بها أو الخضوع لها أو إقرارها، فليحذر إمرؤ لنفسه، "وكل إمرئ حسيب نفسه".

    ألا فليصدع العلماء بالحق غير هيابين، وليبلغوا ما أمروا بتبليغه، غير متوانين ولا مقصرين.

    سيقول عني "عبيد هذا الياسق الجديد" وناصروه؛ أني جامد وأني رجعيّ وما إلى ذلك من الأقاويل، ألا فليقولوا ما شاؤوا، فما عبأت يوما بما يقال عني، ولكني أقول ما يجب أن أقول) [11]. 

  • الشيخ الإمام محمد بن إبراهيم:

    وقال الشيخ محمد بن إبراهيم: (وأما الذي قيل فيه أنه كفر دون كفر إذا حاكم إلى غير الله مع اعتقاد أنه عاص وأن حكم الله هو الحق؛ فهذا الذي صدر منه المرة ونحوها، أما الذي جعل قوانين بترتيب وتخضيع؛ فهو كفر، وإن قالوا أخطأنا وحكم الشرع أعدل، فهذا كفر ناقل عن الملة) [12].

  • الشيخ صالح الفوزان:

    قال: (ففرق رحمه الله؛ بين الحكم الجزئي الذي لا يتكرر، وبين الحكم العام الذي هو المرجع في جميع الأحكام أو غالبها، وقرر أن هذا الكفر ناقل عن الملة مطلقاً، وذلك لأن من نحى الشريعة الإسلامية وجعل القانون الوضعي بديلاً منها؛ فهذا دليل على أنه يرى القانون أحسن وأصلح من الشريعة، وهذا لا شك فيه أنه كفر كفراً أكبر يخرج من الملة ويناقض التوحيد) [13].

  • الشيخ الإمام عبد العزيز بن باز فيما نُشر في "مجلة الدعوة"، العدد [963] في [5/2/1405هـ]:

    يقول: (الحكام بغير ما أنزل الله أقسام، تختلف أحكامهم بحسب اعتقادهم وأعمالهم، فمن حكم بغير ما أنزل الله يرى أن ذلك أحسن من شرع الله؛ فهو كافر عند جميع المسلمين، وهكذا من يحكِّم القوانين الوضعية بدلاً من شرع الله ويرى أن ذلك جائزاً، حتى ولو قال: إن تحكيم الشريعة أفضل؛ فهو كافر لكونه استحل ما حرم الله).

    أي؛ من أجاز الحكم بغير ما أنزل الله من القوانين الوضعية، وهذا كمن ذكرنا لكم، مثل من يقول:

    ولقد علمت بأن دين محمدمن خير أديان البرية ديناً

    ويقول: (أما من حكم بغير ما أنزل الله اتباعا للهوى أو لرشوة أو لعداوة بينه وبين المحكوم عليه أو لأسباب أخرى، وهو يعلم أنه عاص لله بذلك، وأن الواجب عليه تحكيم شرع الله، فهذا يعتبر من أهل المعاصي والكبائر، ويعتبر قد أتى كفرا أصغر وظلما أصغر وفسقا أصغر).

  • عبد القادر عودة:

    وننقل نصاً من كتاب الشهيد عبد القادر عودة - أحد أئمة حركة الإخوان وكبار منظّريها ومن كبار قانوني مصر والعالم الإسلامي - فقد كان رحمة الله عليه ممن فهم التوحيد وأدرك معانيه، ولأنه قاض ومستشار قانوني في مصر فقد فهم ما تعني القوانين الوضعية.

    فقال في كتابه العظيم "الإسلام وأوضاعنا القانونية": (إذا جاءت القوانين مخالفة للقرآن والسنة أو خارجة عن مبادئ الشريعة العامة وروحها التشريعية فهي باطلة بطلانا مطلقا، وليس لأحد أن يطيعها، بل على عكس ذلك يجب على كل مسلم أن يحاربها) [14].

    ويقول رحمة الله عليه: (هذا هو حكم الإسلام، وتلك هي سبيل المؤمنين، وقد أظلنا زمن فشا فيه المنكر وفسد أكثر الناس، فالأفراد لا يتناهون عن منكر فعلوه ولا يأمرون بمعروف افتقدوه، والحكام والأفراد يعصون الله ويحلون ما حرم الله، والحكومات تسن للمسلمين قوانين تلزمهم الكفر وتردهم عن الإسلام، فعلى كل مسلم أن يؤدى واجبه في هذه الفترة العصيبة... من واجب كل مسلم... أن يهاجم القوانين الأوضاع المخالفة للإسلام، وأن يهاجم الحكومات والحكام الذين يضعون هذه القوانين أو يتولون حمايتها وحماية الأوضاع المخالفة للإسلام) [15].

    وقد واجه رحمة الله عليه عقوبة الإعدام عام 1954 نتيجة موقفه هذا ولتصفية حسابات شخصية بين الملحد [16] عبد الناصر - أحد أئمة هؤلاء المخابيل من أدعياء السلفية! - وبين "الإخوان". 

    ألا فليعتبر هؤلاء المقلدون الجهلة ممن يدعي الإنتساب إلى الإخوان "الجدد" ممن عمي عليهم الطريق، ولينتسبوا إلى مثل هذا الرجل الملهم.

    والعجيب أن هؤلاء المبتلين يقولون: "نعم، حتى إذا سلمنا بأن الحكم بغير ما أنزل الله كفر، ولكن، لا يطبق على هؤلاء الحكام الذين يحكمون بغير ما أنزل الله ويستبدلون الشرع الحنيف بغيره من القوانين الوضعية"!

    والله لقد خدم المدخلي أعداء الإسلام والمتهجمين على شريعته بما لم تخدمهم به أسلحتهم ولا سجونهم ومعتقلاتهم ولا أوليائهم من الصليبيين والصهاينة، فقد مهّد لهم هذا الآبق عن الشريعة؛ بأن جعلهم أئمة يستمع لهم، وموّه على الشباب أن هؤلاء هم من قال فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أحاديث إتباع أئمة المعصية، كما سنرى في ردّ الشبهة التالية.

    2) شبهة الأحاديث التي تتحدث عن إتباع ولاة الأمر: 

    وردت أحاديث في السنة المطهرة تدعو إلى طاعة الإئمة وولاة الأمر طالما اتبعوا الحق ولم يخرجوا عن دين الإسلام، وقد التوى بمعنى هذه الأحاديث المدخلي وذيوله من الشباب المغرر به، فحملوا هذه الأحاديث على مناطات خاطئة لتبرير تنحية الشريعة واتباع الأحكام الوضعية كما سنبين.

    بعض الأحاديث النبوية في اتباع الولاة: 

    أ) مسلم: حدثنا اسحق بن إبراهيم الحنظلي، أخبرنا عيسى بن يونس، حدثنا الأوزاعي عن يزيد بن يزيد بن جابر عن زريق بن حيّان عن مسلم بن قرظة عن عوف بن مالك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: (خيار أئمتكم الذين تحبونهم ويحبونكم ويصلّون عليكم وتصلون عليهم، وشرار أئمتكم الذين تبغضونهم ويبغضونكم وتلعنونهم ويلعنونكم)، قيل: يا رسول الله أفلا ننابذهم بالسيف؟ فقال: (لا ما أقاموا فيكم الصلاة، وإذا رأيتم من ولاتكم شيئا تكرهونه فاكرهوا عمله ولا تنزعوا يدا من طاعة).

    ب) أحمد: حدثنا عبد الصمد حدثنا أبي وعفان، قالا: حدثنا عبد الوارث حدثنا محمد بن جحادة، حدثنى الوليد [17] عن عبد الله البهي [18] عن أبي سعيد الخدري، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (تكون أمراء تلين لهم الجلود وتطمئن اليهم القلوب، ويكون عليكم أمراء تشمئز منهم القلوب وتقشعر منهم الجلود)، قالوا: أفلا نقتلهم؟ قال: (لا، ما أقاموا الصلاة).

    ج) الدارمي: حدثنا الحكم بن المبارك أخبرنا الوليد بن مسلم [19] عن عبد الرحمن بن يزيد بن جابر قال: أخبرني زريق بن حيان مولى بني فزارة؛ أنه سمع مسلم بن قرظة الأشجعي [20] يقول: سمعت عوف بن مالك الأشجعي يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (خيار أئمتكم الذين تحبونهم ويحبونكم ويصلّون عليكم وتصلون عليهم، وشرار أئمتكم الذين تبغضونهم ويبغضونكم وتلعنونهم ويلعنونكم)، قلنا: أفلا ننابذهم يا رسول الله عند ذلك؟ قال: (لا، ما أقاموا فيكم الصلاة، ألا من ولي عليه والٍ فرآه يأتي شيئا من معصية الله فليكره ما يأتي من معصية الله ولا ينزعن يدا من طاعة). 

    وقد إتخذ هؤلاء "الظاهرية" هذه الأحاديث وتلاعبوا بمفهومها وحرّفوا مناطها، كما تلاعب قبلهم غيرهم بمقال بن عباس في "كفر دون كفر" - حسب ما بيّنا قبل -

    والشاهد هنا ما يأتي:

    التعليق على ما في هذه الإستشهادات من تدليس وتبديل:

  • أولا: 

    أن هذه الأحاديث منزّلة على مناط من عصى الله ولم يخرج عن دينه بالكلية، ولهذا طبقها الصحابة والتابعون من أهل السنة في مناطها الصحيح، ونعوا على الخوارج الذين خرجوا على أئمة الظلم - لا على من ارتكب مكفّرا كتبديل شرع الله! -

    وحديث عبادة بن الصامت فيه الكفاية للدلالة على ذلك.

    حدثنا إسماعيل، حدثني ابن وهب عن عمرو عن بكير عن بسر عن سعيد عن جنادة بن أبي أمية، قال: دخلنا على عبادة بن الصامت وهو مريض، قلنا: أصلحك الله حدّث بحديث ينفعك الله به سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: (دعانا النبي صلى الله عليه وسلم فبايعناه، فقال فيما أخذ علينا؛ أن بايعنا على السمع والطاعة في منشطنا ومكرهنا وعسرنا ويسرنا وأثرة علينا وأن لا ننازع الأمر أهله، إلا أن تروا كفرا بواحا عندكم من الله فيه برهان) [متفق عليه]. 

    وهو نصّ في الموضوع.

    فههنا مربط الفرس، أننا ندّعى أن تبديل الشريعة وإنشاء شرع مواز لشرع الله وتخضيع المسلمين للقوانين الوضعية؛ هو من الكفر البواح الذي لنا فيه من الله برهان وبراهين، فنحن إذن لا نخالف في صحة هذه الأحاديث ولا في تطبيقها في مناطاتها، خلافا للخوارج، وإنما نحن نرى أنها قد تلاعب بمناطها المغرضون من أتباع السلاطين ليسوغوا اتباع الشرائع الوضعية ويحسنوا للناس القوانين الكفرية.

    وإذن لا يصلح الإستدلال بهذه الأحاديث في هذا الموضع، إذ هي في ذاتها محل الخلاف في مناطها وأصول المناظرة يستدعى العدول عن دليل الخلاف والبحث عما لا يخْتلف فيه الخصمان.

  • ثانيا: 

    أن رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما قال: (ما أقاموا فيكم الصلاة)، وهو معنى إقامة الدين لا مجرد الصلاة.

    ويدل على هذا حديث البخاري عن معاوية قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن هذا الأمر في قريش لا يعاديهم أحدٌ إلا كبّه الله في النار على وجهه ما أقاموا الدين).

    فإقامة الدين هي المقصود بإقامة الصلاة. 

    وحدثنى بالله عليك يا محّدث الأمة وكبير علمائها! هل إقامة الدين تتمشى مع رفع الشريعة كمصدر وحيد للتحاكم وفرض قوانين وضعية بشرية يحكمون بها في أبضاع الناس وأبشارهم وأموالهم ودمائهم؟! 

    وهؤلاء الذين يتلاعبون بهذه الأحاديث الشريفة وينزلونها غير منزلها في فعلتهم هذه قد اقتفوا أثر الآخرين الذين تلاعبوا بقولة بن عباس "كفر دون كفر" من قبل، والذين قال في أمثالهم أحمد شاكر: (فمن احتج بهذين الأثرين وغيرهما في بابهما، وصرفها عن معناها، رغبة في نصرة السلطان، أو احتيالا على تسويغ الحكم بما أنزل الله وفرض على عباده، فحكمه في الشريعة؛ حكم الجاحد لحكم من أحكام الله، أن يستتاب، فإن أصر وكابر وجحد حكم الله ورضي بتبديل الأحكام، فحكم الكافر المصر على كفره معروف لأهل هذا الدين)، وهو صحيح في نفس هذا التلاعب بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم.

  • ثالثا:

    ثم إن هؤلاء البشر ترى الواحد منهم يتفنن في سبّ الدعاة ممن أخطأ أو زل، رغم كفاحه الطويل في سبيل الله، ولكنه لا يقدر على أن يُذكر أحد هؤلاء الطغاة المتجبرين من الحكام أمامه بسوء! 

    فسبحان الله العظيم على هذا الفقه العقيم! 

    ألم يأت في حديث مسلم: (تبغضونهم ويبغضونكم وتلعنونهم ويلعنونكم).

    فأين البغض لمن عصى الله - إن سلّمنا بأن فعلهم معصية - ولم لا يسمحون بلعنهم - وهو منطوق الحديث - ولم ينه عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم؟! وهل أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بحبّ هؤلاء الحكام وعدم ذكرهم بالسوء وحثّ على سبّ العلماء والدعاة وإن أخطأ فيهم الواحد مرة أو مرات؟! 

    أهذا هو من دين الله ومن فقه الإسلام؟! والله إنّ هؤلاء لضالون محرومون من حسن الفقه عن الله ومن دقة الفهم عن رسوله صلى الله عليه وسلم.

    3) شبهة "منهج الأنبياء في الدعوة إلى الله": 

    وهذا المنهج الذي إدعاه المدخلي وفرضه على أنبياء الله فرضا وكأنه نزّل عليه من السماء؛ هو أسّ البلاء وأساس الإنحراف الذي نكب هذه المجموعة من الشباب. 

    فإن الرجل قد إدعى أن منهج الأنبياء في الدعوة إلى الله؛ يستلزم أن نغضّ البصر عن تبديل الشرائع، وأن نترك "ولاة الأمور" يسدرون في غيّهم وعبثهم بشرع الله وتبديلهم أحكامه، ثم يكون همّ الدعاة في محاربة الصوفية والأشعرية وغيرها من البدع الإعتقادية. 

    وهو في هذا يتحدث عن "التوحيد" على أنّه المحاربة لبدع الصوفية وغيرها، وكأنّ إشراك البشر مع الله سبحانه والتشريع بغير ما أنزل ليس من التوحيد! 

    أ) يدعى الرجل أنّ المودودى وسيد قطب رحمة الله عليهما لم يوليا التوحيد الإهتمام الكافي! وأن دعوتهما كانت سياسية لا دينية [21]! 

    ووالله الذي لا إله إلا هو؛ لا يقول هذا إلا من فقد عقله جملة واحدة!

    ألم يقرأ الرجل كتاب المودودي عن "المصطلحات الأربعة في القرآن" والذي يعتبر بحق باعثا لمعنى التوحيد "توحيد الألوهية" في هذا العصر، والذي لو أنفق أمثاله في محاولة مثله ما قدّر له أن يكتب صفحة من مثل هذا الكتيب على صغر حجمه! 

    لقد غرق المدخلي في معاني توحيد الربوبية، وأهمل المعنى الأصلي لتوحيد الألوهية، وهو الرجوع إلى حكم الله في كلّ أمر من أمور الدنيا والدين.

    وسيد قطب لم تكن دعوته إلا إلى إعادة مفهوم "لا إله إلا الله" في حياة الناس، فهل "لا إله إلا الله" كما شرحها بن تيمية وبن القيم وغيرهما من رجالات السنة والسلف الصالح غير ما يعنيه هذا المدخليّ؟

    نعم، فهو لا يعني بالرجوع إلى أمر الله، بل يدعى أن الأنبياء لم يحاولوا إقامة نظام إسلامي! وهو الخبال بعينه و "الظاهرية" في أجلى معانيها! فإن الحكم بما أنزل الله لا يستدعى وزارة مشكّلة أو برلمان قائم، بل "شكل" الحكومة يتبع الزمان والمكان الذي تكون فيه الدعوة، ولكن المبدأ واحد لا يتغير أن "لا حكم إلا لله"، وأن {ومن لم يحكم بما أنزل الله فألئك هم الكافرون}.

    ب) يقول الرجل: (إن الدعوة إلى الحاكمية وتطبيقها أمر مهم ويهم كل مسلم) [22]! 

    هكذا! أمر مهم، وكأنه يتحدث عن وجوب إطلاق اللحية أو الإقلاع عن التدخين! والله لو لم يتب هذا الرجل قبل أن يأتيه نداء الحق ليكونن له مع الله سبحانه شأن عظيم، هذا حجم الرجوع إلى أحكام الله في شرعه؟! "أمر مهمّ"؟!

    ج) ثم إن هذا المنهج الذي يدعو له هذا الرجل يحمل في طياته معنى هو أقرب تكفير الناس:

    إذ هو يعود بالناس إلى ضرورة الدعوة إلى أوليات التوحيد، إذ هم لا يعرفون معنى أسماء الله وصفاته، وهم يدعون من دون الله غيره دعاء عبادة ومسألة، فأولى أن ندعوهم إلى تصحيح هذا الأمر قبل أن ندعوهم إلى الإلتزام بمفردات أحكام الله سبحانه! 

    أليس في هذا رائحة تكفير الناس وإدعاء أنهم لا يزالون في مرحلة ما قبل الإسلام وأنه يجب أن نبدأ معهم ما بدأ به الرسل؟!

    د) ما الذي جعل الدعوة إلى توحيد الأسماء والصفات وتوجيه المسلمين إلى عدم الدعاء إلى الموتى أولى من التحاكم إلى شرع الله والرجوع إلى أمره في كل كبيرة وصغيرة - ومنها أمره بعدم الدعاء لغيره سبحانه -؟! 

    وما هو المانع من أن يدعو الدعاة إلى الرجوع لأمر الله سبحانه، مع دعوتهم إلى عدم الدعاء للموتى، أو مع تصحيح النظر في الأسماء والصفات، أو ما غير ذلك من التوحيد؟!

    والدعوة إلى التحاكم إلى شرع الله والتزام أمره ونهيه في كل أمور الحياة؛ هي من أول أمور التوحيد التى تنزّل بها القرآن في آيات "المائدة" وهي عامة مطلقة تناثرت في القرآن من أوله إلى آخره، تدعو إلى إرجاع الحكم لله سبحانه، كما في قوله تعالى: {وأن أحكم بينهم بما أراك الله ولا تتبع أهواءهم} و {إن الحكم إلا لله} و {ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون} و {أفحكم الجاهلية يبغون}، {ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون} و {فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم}، وغيرها وغيرها من آيات القرآن الشاهدات على أن الحكم بما أنزل الله ليس فقط "أمر مهم"! -أخزاك الله في هذا التقييم - ولكنه صلب التوحيد. 

    وسنفرد إن شاء الله تعالى كتابا منفردا للرد على هذا الهراء الغثّ الذي أتى به المدخلي في كتابه "منهج الدعوة" فانحرف به رهط من الشباب وحرم الأمة من جهدهم في رؤية الحق والوصول اليه، وجعلهم مسخا يسير وراءه في سبّ العلماء والترويج للسلاطين واتباع الباطل، ويشهد الله أنه نتاج عقل انحرف ابتداءا في فهم هذا الدين فلم يعرف ما يقول ولا ما يهرف به.

    ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا.

    وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين


    (*) لو أردنا أن نكيل له بالمكيال الدنيء الذي يستعمله هو ومن هم على شاكلته من أطلاق النعوت البذيئة على أهل السنة الشرعيين، لسميناه "رقيع المدخلي"، وصاحبه "مدبر بن هاذي"، لما يقوله من هذيان، ولكننا والله أرفع من أن نلوث أنفسنا بمثل هذا النجس المنحط الذي لا يصدر إلا عن شنآن من قصر عقله وعدوان من ضاق أفقه وانحطت سريرته، قال الشاعر:

    وإذا أتتك مذمّتى من ناقصفهي الشهادةُ لي بأني كاملُ


    [2] كتب صدرت عن الفرق وهي: "الصوفية نشأتها وتطورها"، "المعتزلة بين القديم والحديث" و "مقدمة في أسباب إختلاف المسلمين وتفرقهم".

    [3] راجع مقالاتنا عن القرضاوي في هذا الموقع.

    [4] أئمة الحديث ومن سار على نهجهم هم أعلم الناس بأهل الأهواء والبدع، مقال رقم 59.

    [5] راجع كتابنا بالإنجليزية "The Counterfeit Salafis".

    [6] الإعتصام، للشاطبي.

    [7] الفروق، للقرافي، وأصول الفقه، لأبو زهرة.

    [8] راجع في عقيدة الألباني؛ "حقيقة الإيمان عند الشيخ الألباني"، محمد أبو رحيم.

    [9] وبالمصطلحات الحديثة؛ "إرهابي" و "أصولي"، وما أشبه ذلك.

    [10] أقول: بل إنه أمر توحيد وكفر، ووجوبه هنا هو وجوب الإيمان بالتوحيد لا وجوب كوجوب الفروع.

    [11] "عمدة التفاسير" أحمد شاكر، ج1/ص216.

    [12] راجع مجموعة فتاوى الشيخ الإمام محمد بن إبراهيم، جمع الشيخ محمد بن عبد الرحمن بن القاسم

    [13] كتاب "التوحيد"، صالح الفوزان

    [14] ص54، طبعة المختار الإسلامي.

    [15] ص18. 

    [16] وهو ما حكاه عنه صديق عمره محمد حسنين هيكل؛ "أنه لا جنة ولا نار، ولكن هذه الدنيا هي جنتنا ونارنا".

    [17] الوليد: مجهول.

    [18] صدوق يخطي، وإنما سقنا الحديث تعضيدا للرواية الصحيحة لمسلم.

    [19] الوليد بن مسلم: ثقة يدلس.

    [20] مسلم بن قرظة: مقبول.

    [21] منهج الأنبياء في الدعوة إلى الله: ص140 وبعدها.

    [22] السابق: ص183.
  • ليست هناك تعليقات:

    إرسال تعليق