بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين ، وصلاة الله وسلامه على سيّدنا محمد ، وعلى آله وصحبه أجمعين .
أما بعد :
فهذا موضوع إعطاء زكاة الفطر نقداً ، هل يجوز ، أم لا يجوز ؟ سنجعله على نقاط :
( أولاً ) / : هذا الموضوع ، من المواضيع التي اختلف فيها الأئمة والعلماء ، قديماً وحديثاً .
فهو ليس من مواضيع الإجماع ، المتفق عليه بين الأئمة والعلماء ، بحيث لا يجوز الخروج عنه ، والخلاف فيه .
أي : هو من المواضيع التي اجتهد فيها الأئمة ، للفهم عن رسول الله r .
إجتهدوا حتى يعلموا ، ماذا أراد رسول الله r ، بقوله ذاك ، فاختلفوا .
يعني : هو من المواضيع الظنية ، التي يجوز الإختلاف فيه .
وفـي كلتا الحالتين ، لكل من المختلِفَين أجر وثواب ، بعد أن تكون النية لله تعالى ، خالصة ، ولمرضاته ، لا تعصباَ وتمذهباً !
و إن هذا الأجر الذي يكون للمخطيء ، هو للعالم ، الذي يستطيع الإجتهاد والفهم والإستنباط ، بما يملك من صفات وأسباب وشروط ، تؤهله للقول في الموضوع !
وإلا فإذا أفتى في ذلك ، وتكلم في الموضوع مَن ليس بعالم ، ولا يمتلك أدوات الإستنباط ، فهو في النار ، كما قال رسول الله r : ( وقاض قضى وهو لا يعلم فأهلك حقوق الناس فذلك فى النار . . . ) ! () .
إن العلماء يختلفون فيما بينهم ، في درجة العلم والذكاء والفهم والفطنة ، ولاسيما في فهم واستنباط ، ما يحتمل الإختلاف من الأقوال والأفعال .
كيف لا وقد حدث هذا بين الأنبياء ، عليهم السلام !
قال تعالى : ( وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ . فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا ) () .
[ قال المفسرون: تخاصم إلى داود رجلان دخلت غنم أحدهما على زرع الآخر بالليل فأفسدته فلم تُبق منه شيئاً، فقضى بأن يأخذ صاحب الزرع الغنم، فخرج الرجلان على سليمان وهو بالباب فأخبراه بما حكم به أبوه فدخل عليه فقال: يا نبيَّ الله لو حكمتَ بغير هذا كان أرفق للجميع! قال: وما هو؟ قال: يأخذ صاحب الغنم الأرض فيصلحها ويبذرها حتى يعود زرعها كما كان، ويأخذ صاحب الزرع الغنم وينتفع بألبانها وصوفها ونسلها، فإذا خرج الزرع رُدَّت الغنم إلى صاحبها والأرض إلى ربها فقال له داود: وُفّقت يا بُنيَّ وقضى بينهما بذلك فذلك قوله تعالى {فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ} ] () .
وقد حدث الإختلاف من هذا النوع ، بين الصحابة ، رضوان الله تعالى عليهم ، أيضاً ، ورسول الله r ، بين أظهرهم !
عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ الأَحْزَابِ: «لاَ يُصَلِّيَنَّ أَحَدٌ العَصْرَ إِلَّا فِي بَنِي قُرَيْظَةَ»
فَأَدْرَكَ بَعْضُهُمُ العَصْرَ فِي الطَّرِيقِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: لاَ نُصَلِّي حَتَّى نَأْتِيَهَا، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: بَلْ نُصَلِّي، لَمْ يُرِدْ مِنَّا ذَلِكَ، فَذُكِرَ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمْ يُعَنِّفْ وَاحِدًا مِنْهُمْ () .
فهـذا رسول الله r ، بين أظهر الصحابة ، رضوان الله عليهم ، يأمرهم بأمرٍ واحد ، فاختلفوا في فهمه !
بعضهم أخذ بظاهر النص .
وبعضهم غاص في بحر معناه ، وفهم منه غير ظاهره !
وهذا النص من رسول الله r ، ظاهره الواضح ، أنه r ينهاهم أن يصلوا صـلاة العصر في الطريق ، أو في أي مكان آخر ، ويأمرهم أن يصلوها في بني قريظة .
ومع هذا صلاها مجموعة منهم في الطريق ، في وقتها . حيث فهموا أن الظاهر المتبادر من النص غير مقصود !
هل هذا العمل من أولئك الصحابة ، يعتبر مخالفة لأمر النبيّ r ، الواضح الصريح ؟
النبيّ r يقول قولاً واضحاً صريحاً : لا يصلينّ ، وهم صلَّوا !
الجـواب : بلا أدنى شك هذا العمل لا يعتبر مخالفة ، بل هو اجتهاد في فهم النص !
بدليل أنّ النبيّ r لم يعنّفهم ، ولم يخطّأهم ! بل وافق على سلوكهم وتصرفهم ، واستنباطهم خلاف ما يتبادر من ظاهر النص !
ومما مضى يتبين :
أ - أنه يجـوز أن يختلف الأئمــة فــي فهــم النصــوص ؛ فــي فهـم آيات الكتــاب ( القرآن ) ، وفي فهــم أحاديث النبيّ r .
بعضهم يأخذ بظاهر ما يتبادر من النص ، والبعض الآخر يغوص في المعاني ، فيستنبط المراد من النص ، بعيداً عن الظاهر .
بل رأينا الأنبياء ، عليهم السلام ، يختلفون – فيما بينهم – في الإجتهاد .
ب - لا يؤثـم أحـدٌ منهم ، بل يؤجر ؛ إما أجرين ، أو أجرواحد ، بشرط أن يكون عالماً مجتهداً ، من أهل الإجتهاد .
قال رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : «إِذَا حَكَمَ الحَاكِمُ فَاجْتَهَدَ ثُمَّ أَصَابَ فَلَهُ أَجْرَانِ، وَإِذَا حَكَمَ فَاجْتَهَدَ ثُمَّ أَخْـــطَأَ فَلَهُ أَجْرٌ» () .
ج - الذي يطعن فيهم ، ويجرحهم ، بادعاء أنهم مخالفون للنص ، هو إنسان لا يفهم في الشرع ، ومخالف لهدي النبيّ r !
( ثانياً ) / : نصـوص الشرع ، سواء كانت نصوص الكتاب ( القرآن ) ، أو السنة ، دلالاتها ليست واحدة .
بل هناك من النصوص ما تكون دلالتها قطعية . أي : يُفهم منها فهم واحد ، لا غير . لا يحتمل فهماً آخر ، ولا يوجد شك في ذلك .
وهناك نصوص تكون دلالتها ظنية . أي : الفهم منها ، والمراد منها ليس يقيناً ، يعني : لا يُفهم منها فهم واحد ، بل يحتمل أكثر من معنىً .
فنصوص القرآن ، التي دلالتها قطعية ، لا يختلف فيها العلماء والأئمة .
وكذلك نصوص السنة ، التي دلالتها قطعية ، لا خلاف فيها .
أما التي وقع فيـها الخلاف ، فهي النصوص الظنية الدلالة ، سواء كانت من الكتاب ، أو السنة .
فـ[ القرآن قطعي الورود ، أي ثابت قطعاً لوصوله إلينا بطريق التواتر المفيد للعلم اليقيني بصحة المنقول . فأحكامه إذن قطعية الثبوت ،
إلا أن دلالته على الأحكام قد تكون قطعية ، وقد تكون ظنية .
فتكون قطعية : إذا كان اللفظ لا يحتمل إلا معنىً واحداً ، ففي هذه الحالة تكون دلالة اللفظ على الحكم دلالة قطعية ،
مثل قوله تعالى : ( وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ ) [ النساء : 12 ] ، وقولـه تعالى : ( الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَة ) [ٌ النور : 2 ] ،
فالنصف والربع والمائة كلها قطعية الدلالة على مدلولها ، ولا يحتمل أي واحد منها إلا معنىً واحداً فقط هو المذكور في الآية .
وتكون دلالتـه ظنية : إذا كـان اللفظ يحتـمل أكثر من معنى ، فتكون دلالة اللفظ على الحـكم دلالة ظنية ،
مثل قوله تعالى : ( وَالْمُطَلَّقَـــاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِـهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوء ) [ البقرة : 228 ]
فلفظ (( القروء )) يحتمل أن يراد به الإطهار ، ويحتمل أن يراد به الحيضات ، فمع هذا الاحتمال تكون دلالة الآية على الحكم ظنية لا قطعية ] () .
وكذلك السنة ، فـ( إن السنة من حيث ورودها قد تكون قطعية : كما في السنة المتواترة ،
وقد تكون ظنية : كما في غير السنة المتواترة ، أي سنة الآحاد والسنة المشهورة.
وأما من جهة دلالتها على الأحكام فقد تكون ظنية أو قطعية ، فهي كالقرآن من هذه الجهة .
وتكون الدلالة ظنية : إذا كان اللفظ يحتمل أكثر مــن معنى ، أي يحتمل التأويل .
فمن القطعية قوله r : (( في خمس من الإبل شاة )) ، فلفظ (( خمس )) يدل دلالة قطعية على معناه ، ولا يحتمل غيره ،
فيثبت الحكم لمدلول هذا اللفظ ، وهو وجوب إخراج شاة زكاة عن هذا المال .
ومن الظنية قوله r : (( لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب )) ، فهذا الحديث يحتمل التأويل ،
فيجوز أن يحمل على أن الصلاة لا تكون صحيحة مجزية إلا بفاتحة الكتاب ،
ويحتمل أن يكون المراد : أن الصلاة الكاملة لا تكون إلا بفاتحة الكتاب ،
وبالتأويل الأول أخذ الجمهور ، وبالتأويل الثاني أخذ الحنفية ] () .
فــإذا اختلـف الأئمة في الأحكام الشرعية ، فليس معنى ذلك أن أحدهم سعد بنص ، والآخر حُرِم منه ! أو أن أحدهم قد خالف النص ! والآخر وافقه !
بل ربما هناك نص واحد ، يحتمل أكثر من معنى ، فيفهم ويأخذ بعضهم بمعنىً منه ، ويفهم ويأخذ البعض الآخر بمعنىً آخر مغاير لذلك المعنى !
وذلك مثل مسألة أمر النبيّ r الصحابة ، بصلاة العصر في بني قريظة .
فصلى بعضهم في الطريق ، وفهموا من قول النبيّ r وأمره بذلك : الإسراع في الذهاب إلى هناك ، وعدم التأخير !
فاستنبطوا وفهموا من قوله r غير ظاهر النص !
أما البعض الآخر ، من الصحابة ، رضوان الله تعالى عليهم جميعاً ، فقد فهموا من أمره r : ظاهر النص ، فصلوا صلاة العصر ، في بني قريظة بعد المغرب !
ورسول الله r ، لم يعنّف أحداً منهم !
فرسول الله r ، وهو بين أصحابه ، يأمرهم بأمر واحد ، فانقسم الصحابة إلى طائفتين في الفهم عنه ،
وأخذت كل طائفة منهما تطبق أوامر رسول الله r بصورة تختلف عن الأخرى !
ومع هذا لم يعنّف النبيّ r واحدة منهمــا ، ولم يخطّأ أحداً !
و الصحابة ، رضوان الله تعالى عليهم ، مع ذلك الإختلاف بينهم ، في الفهم والتطبيق ، لم يحدث بينهم شقاق ولا بغضاء ، ولا تفرّق ، ولا شحناء ، ولا حقد ، ولا كراهية ، ولا تنابز بالألقاب ! وأولئك هم السلف الصالح !
( ثالثاً ) / : نصوص الشرع ؛ سواء كانت من الكتاب ، أو من السنة ، قد جاءت باللغة العربية .
واللغة العربية هي قمة اللغات في البلاغة : ففيها الحقيقة والمجاز ، والصريح والكناية . ودلالة الألفاظ – فيها – علـى معانيها قـد تكـون واضحة ، وهي على درجــات : الظاهر ، والنص ، والمفسر ، والمحكم .
وقد تكون دلالتها غير واضحة ، وهي أيضـــاً على درجات : الخفي ، والمشكل ، والمجمل ، والمتشابه .
وكيفية دلالة الألفاظ علــى معانيها ، قد تكون بعبارة النص ، وقد تكون بإشارة النص ، أو بدلالة النص ، أو باقتضاء النص
وهناك مفهوم المخالفة أيضاً .
وتُطلب هذه المواضيع والمعاني ، في مظانها ؛ في علم أصول الفقه .
وقد تحدى الإسلامُ العربَ الأقحاح ، وبارزهم في فنونهم اللغوية ، فأعجزهم .
وهم كانوا يتفاخرون ، ويتباهون في تلك ، ويتسابقون ، ولهم أسواق ، ومواسم ، يُظهرون فيها نبوغهم اللغوي ، عن طريق الشعر ، أو النثر !
فتحدّاهم الإسلام فأخرسهم !
فلا يُعقل أن ينزل الإسلام ، ولاسيما في إعجازه اللغوي ، في قمة عليائه إلى مستوى الرعاع والسوقة ، أو إلى مستوى المعدمين والفقراء من التذوق في اللغة العربية ، من أجل إفهامهم ، وإرضائهم !
قلت كل هذا الكلام ، لأن بعض الناس إذا قلت له : ليس المراد من هذا النص ظاهره ، بل أراد كذا وكذا ، قال : فلماذا لم يقل ذلك صراحة !
أي يريد من نصوص الإسلام ، والتي تحدّى بها الإسلامُ العربَ في بلاغتها ، يريد منها أن تنزل إلى مستواه الفقير !
فعلى سبيل المثال :
( عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: أَنَّ بَعْضَ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، قُلْنَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : أَيُّنَا أَسْرَعُ بِكَ لُحُوقًا ؟ قَالَ : « أَطْوَلُكُنَّ يَدًا » ، فَأَخَذُوا قَصَبَةً يَذْرَعُونَهَا ) ()
وفي رواية : ( قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَسْرَعُكُنَّ لَحَاقًا بِي أَطْوَلُكُنَّ يَدًا » قَالَتْ : فَكُنَّ يَتَطَاوَلْنَ أَيَّتُهُنَّ أَطْوَلُ يَدًا، قَالَتْ: فَكَانَتْ أَطْوَلَنَا يَدًا زَيْنَبُ ، لِأَنَّهَا كَانَتْ تَعْمَلُ بِيَدِهَا وَتَصَدَّقُ ) () .
[ أخـرج الطحـاوي رحمه الله في " مشكله " : عن عائشة رضي الله عنها ، قالت : قال النبي - صلى الله عليه وسلم – لأزواجه : " يتبعني أطولكن يدًا "
قالت عائشة : وكنا إذا اجتمعنا في بيت إحدانا بعد وفاة النبي - صلى الله عليه وسلم - نمد أيدينا في الجدار نتطاول ،
فلا نـزالُ نفعلُ ذلك حتى تُوفيت زينب ابنة جحش ابن رباب ، زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وكانت امرأة قصيرةً رضي الله عنها ، ولم تكن أطولنا يدًا ،
فعرفنا حينئذٍ إنما أراد النبي - صلى الله عليه وسلم - : الصدقة.
قالت : وكانت زينبُ امرأةً صناعة اليد، تذيع الخيرَ ، وتجوز ، وتتصدق به في سبيل الله ] () .
لماذا لم يقل النبيّ r ، يتبعني أكثركن صدقة ، بدل أن يقول : أطولكن يدا ؟ !
لمــاذا لم يصرّح بذلك ، حتى تفهمه زوجاته ؟
هل هذا الأسلوب الرائع من النبيّ r ، يُعتبر كذباً ؟
لأنه قال : أطولكن يداً ، وزينب ، رضي الله عنها ، لم تكن أطولهن يداً ؟
حاشا لله تعالى ، وألف كلّا !
هذه هي اللغة العربية ، في روعتها وجمالها !
ولا يقلل النبيّ r ، من شأن هذه اللغة العظيمة ، من أجل بعض مَن لا يفهمون الكلام ، إلا ظاهراً صريحاً !
وكيف يُهبِط النبيّ r ، بتلك اللغة ، العظيمة ، الجميلة ، البليغة ، من أجل أن لا يلتبس الكلام على بعض الذين لا يفهمون غير الظاهر من الكلام ؟
فلينظر الذين يعتبرون المجاز والكناية كذباً ، إلى أين يذهب كلامهم ؟ !
فالمجاز والكناية من روائع اللغة العربية ، وهذا الجمال ، وهذه الروعة قد أخرست الفطاحل من العرب ، عندما تحدّاهم أن يأتوا بمثله .
بل قد جفّت ينابيع بعض الشعراء ، في عهد النبيّ r ، عندما سمعوا القرآن الكريم لأول مرة ، فلم يستطيعوا أن يواصلوا في وضع الأشعار ؛ إنبهاراً ودهشة ، لما سمعوه من البيان والبلاغة !
ولقـد ذكـر ابن الجوزي ، رحمه الله ، الذين لا يفهمون من الكلام إلّا ظاهره ، فقال :
[ وما هم إلا بمثابة قول الحجاج لكاتبه وقد مدحته ليلى الأخيلية فقالت :
إذا هبط الحجاج أرضاً مريضة تتبع أقصى دائها فشفاها
شفاها من الداء العضال الذي بها غلام اذا هز القناة سقاها
فلما أتمت القصيدة ، قال لكاتبه : إقطع لسانها ، فجاء ذاك الكاتب المغفل بالموسى .
فقالت له : ويلك إنما قال أجزل لها العطاء .
ثــم ذهبــت إلـــى الحجـــاج فقالـت : كاد والله يقطع مقولي ] ()
فهناك أناس لا يفهمون من الكلام إلا ظاهره ، حالهم حال كاتب الحجاج !
حيث أراد أن يمثّل بتلك المرأة ، فيقطع لسانها حقيقة ، نتيجة فهمه الفاسد !
ومن رحمة الله تعالى ، أن كان الحجاج – صاحب الكلام – موجوداً ، فرجعوا إليه ، فبيّن لهم أنه يقصد بكلامه إجزال العطاء ، لا قطع لسانها حقيقة !
فماذا كان يحدث لو أن الحجاج غاب ، ولم يستطيعوا الوصول إليه ؟ !
ولماذا قال الحجاج : إقطع لسانها ، ولم يقل صراحة : أجزل لها العطاء ؟ !
لماذا قال كلاماً إلتبس على كاتبه المسكين ؟
الجواب : تجده عند بلاغة اللغة العربية ! لغة القرآن والسنة ، وعند مَن اتصف بالبلاغة والفصاحة !
( رابعاً ) : وهنا مسألة مهمة جداً ، قد يغفل عنها ، ويتهاون فيها كثير من المسلمين ، وهي : الإخلاص !
أي : إرادة رضوان الله تعالى ، فيما يقوله المسلم ويفعل ! أو فيما يخاصم عليه ويذر !
قد يلبّس الشيطان – وهو صاحب خبرة في تضليل الناس – على كثير من المسلمين ، في مواقفهم المتشنجة ، وآرائـهم الفجة ، في المخاصمة ، والطعن في كثير من الأئمة والدعاة ؛ الذين بذلوا أرواحهم رخيصة في سبيل الله ، وابتغاء مرضاته تعالى .
يلبّس الشيطان عليهم بأنهم – في مواقفهم المتشنجة هذه ، وطعنهم في الأئمة وتجريحهم ، وتشويه سمعتهم ، والتخندق مع أعداء الله تعالى ضدهم – إنما يتصدرون عن الغيرة في الدين ، ودفاعاً عن الإسلام !
وهم في الحقيقة ، ليسوا بأكثر من متحزبين متعصبين لبعض آراء واجتهادات بعض الرجال غير المعصومين !
لكن الشيطان زيّن لهم أعمالهم !
بدليل أنه لو صدر نفس الأقوال والأفعال التي ينتقدونها – تقليداً وتعصباً –
لو صدر من الرجال الذين يقلدونهم ويتعصبون لهم لأَوّلوها ألف تأويلٍ وتأويل حسنٍ ، وغمضوا أعينهم أمامها وصمتوا ، متذرعين بحسن الظن بالمسلم وبالعلماء !
ولا يحسبنّ أولئك أنّ الله تعالى غافل عنهم ، وأنه سبحانه لا يؤاخذهم بجريرتهم هذه !
فالذي يجاهد ويتعب ، ويبذل جهوده – في حركاته وسكناته ، وفي أقواله وأعماله ، وفي بغضه ومحبته – من أجل الوصول إلى مرضاة الله تعالى ، ولوجهه تعالى خالصاً ،
يهديه الله سبحانه إلى صراطه المستقيم ؛ صراط الذين أنعم عليهم من النبيّين والصدّيقين والشهداء والصالحين ،
ولا يتركه تعالى ليضيع بين السبل الكثيرة المنحرفة !
بل يسهّل له أموره ، ويشرح صدره.
أما الذي يبغض ويحب ، ويقول ويعمل ، ويتحرك ويسكن حسب ما تمليه عليه النفس الأمّارة بالسوء ، وانتصاراً للنفس والهوى ، وتعصباً وتمذهباً ، باسم الله تعالى وباسم رسوله r ، فلا يبالي به الله تعالى في أيّ وادٍ هلك !
وعند ذلــك يستلمه الشيطـان فيلعب به لعب الصبيان بالكرة ! وتُعسر أموره ، ويضيق صدره .
قال تعالى : ( فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى . وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى . فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى . وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى . وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى . فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى ) () .
فإذا فقد المسلم الإخلاص ، وأشرك هوى نفسه في أمر الله تعالى ودينه ، فتحرّك ظاهراً باسم الله تعالى ورسوله r ، وهو في الحقيقة يصدر عن التعصب والتحزب ،
عند ذلك يلبس عليه الشيطان فيكون من أتباعه ، وينفّذ ما يمليه عليه الشيطان ، فيحقق له ما يريده !
( خامساً ) / – الحجة على الخلق أجمعين ، هي فقط في كلام الله تعالى ، وسنة رسول الله r .
ليس في كلام أحـــد ، غير الله تعالـــى ، وغير رسوله محمد r ، حجة ، بحيث يُفرض على الناس ، كائناً مَن يكون القائل ، أو الآمر !
فحتى لو قال أبو بكر الصدّيق t ، قولاً - فَرَضاً – أو اجتهد ، فيحتمل أن يخطأ لأنه غير معصوم ؛ ، وهو أفضل هذه الأمة بعد نبيّها r ، و t ، فكيف بغيره ؟ !
بمعنى أنه لا يستطيع أحد أن يفرض رأيه على المسلمين .
قال تعالى : ( يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيل ) () .
[ أمر برد كل ما تنازع الناس فيه من أصول الدين وفروعه إلى الله وإلى رسوله
أي: إلى كتاب الله وسنة رسوله؛ فإن فيهما الفصل في جميع المسائل الخلافية، إما بصريحهما أو عمومهما؛ أو إيماء، أو تنبيه، أو مفهوم، أو عموم معنى يقاس عليه ما أشبهه،
لأن كتاب الله وسنة رسوله عليهما بناء الدين، ولا يستقيم الإيمان إلا بهما.
فالرد إليهما شرط في الإيمان فلهذا قال : { إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ } فدل ذلك على أن من لم يرد إليهما مسائل النزاع فليس بمؤمن حقيقة ، بل مؤمن بالطاغوت ، كما ذكر في الآية بعدها
{ ذَلِكَ } أي : الرد إلى الله ورسوله { خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلا }
فإن حكم الله ورسوله أحسن الأحكام وأعدلها وأصلحها للناس في أمر دينهم ودنياهم وعاقبتهم ] () .
فإذا قال أحد الأئمة أو العلماء قولاً أو كلاماً – إجتهاداً منه في فهم نص ، أو في إنزال النص على الواقع – فلا يلزم إجتهاده أحد .
سواء كان المجتهد صحابيّ ، أو تابعي ، أو أتباعهم ، فكيف بغيرهم ؟
فترى بعض المسلمين ، عندما تخالفهم ؛ في اختيار اجتهاد بعض الأئمة وأفهامهــم في النصوص ، على ما اختاروا هُم من اجتهاد وأفهام بعض العلماء أو الأئمة ،
تراهم يحتجّون عليك بالكتاب والسنة !
وأنت تنتظر منهم أن يأتوك بآية من القرآن الكريم ، قطعية الدلالة في الموضوع المختلف فيه ، أو حديث للنبيّ r ، قطعية الدلالة والثبوت .
وإذا تتفاجأ في احتجاجهم ، بقولهم :
قال الحافظ ابن تيمية كيت وكيت ! أو قال الإمام أحمد كذا وكذا ! أو قال الإمام مالك كيت وكيت ! وقال فلان وعلان كيت وكيت !
أين الكتاب والسنة اللذين احتجوا بهما ؟ ! الجواب : هما من ضمن كلام أولئك الأئمة !
وهل الذين خالفوهم في اجتهاداتهم وأفهامهم ، يحتجّون ، ويستمدّون من التوراة والإنجيل ؟ !
بل في أحيان كثيرة ، تراهم يخالفون هُم الكتـــاب والســنة ! ! ويخالفون اجتهادات ، وأفهام علمائهم ، الذين يحاربون المسلمين بأقوالهم !
(سادساً) / : هناك فرق بين الحُكم وبين الفتوى .
فالحكم ثابت أبد الدهر لا يتغيّر ، طالما جاء في نصوص الكتاب والسنة .
فمن أراد أن يغيّر الحكم فقد ضلّ ضلالاً مبيناً ، وهو من أهل النّار !
يقول تعالى : ( وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتَابِ رَبِّكَ لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ ) () .
ويقول تعالى : ( وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُون ) () .
[ فالحكم بغير ما أنزل الله من أعمال أهل الكفر ، وقد يكون كفرا ينقل عن الملة، وذلك إذا اعتقد حله وجوازه . وقد يكون كبيرة من كبائر الذنوب ، ومن أعمال الكفر قد استحق من فعله العذاب الشديد ] () .
فالحكم ثابت لحالات المكلّف الإعتيادية ، لا يتعلق بالزمان ولا المكان ، ولا يتعلق بالظروف الإستثنائية له .
ولتوضيح المعنى نستطيع أن نقول : إنّ الحُكم هو أشبه ما يكون بالعزيمة .
و [ العزيمة تطلق على الأحكام الشرعية التي شرعت لعموم المكلفين ، دون نظر إلى ما قد يطرأ عليهم من أعذار ،
فهي أحكام أصلية ، شرعت ابتداءً لتكون قانوناً عاماً لجميع المكلفين في أحوالهم العادية ،
ولم ينظر في تشريعها إلى ضرورة أوعذر كالصلاة وسائر العبادات .
وهي تتنوع إلى أنواع الحكم التكليفي : من وجوب وندب وكراهة وإباحة ، ولا تطـلــق عنــد المحققيـن إلا إذا قابلتها رخصة ] () .
أما الفتوى فهي إنزال الحكم وتطبيقه على الواقع والأشخاص ، حسب الزمان والمكان ، وأحوالهم وظروفهم .
ونستطيع أن نقول : أنّ الفتوى في بعض الأحيان تشبه – إلى حد بعيد – الرخصة
والرخصة [ هي الأحكام التي شرعها الشارع ، بناءً على أعذار المكلفين ، ولولاها لبقي الحكم الأصلي ،
فهي حكم استثنائي من أصل كلّي ،
وسبب الاستثناء ملاحظة الضرورات والأعذار دفعاً للحرج عن المكلف ،
وهي في أكثر الأحوال تنقل الحكم الأصلي من مرتبة اللزوم إلى مرتبة الإباحة ،
وقد تنقله إلى مرتبة الندب أو الوجوب ] () .
يقول الله سبحانه وتعالى : ( إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّه . . . ) () .
فهـذا حكم الله تعالى في تحريم هذه اللحوم ، تحريمـاً قاطعـاً ، لا شك فيه ولا خلاف : الميتة ، الدم ، لحم الخنزير وما ذُبِح لغير الله تعالى .
فلا يجوز أكل هذه اللحوم ، لأن الله تعالى قد حرّمها ، بنص صريح واضح لا لبس فيه .
ولكنّ الله تعالى يقول بعد هذا التحريم ( فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيم ) () .
فعند الإضطرار لا بأس بأكلها ، بحسب الحاجة لا زيادة عليها [ لأن حفظ الحياة ضروري ، فأبـاح الشارع الحكيم أكل الميتة عند الجوع الشديد الذي يخاف فيه تلف النفس ] () .
فهذه الشريعة الغراء قد جاءت من أجل مصلحة الإنسان ، وقد حرّم الله تعالى تلك اللحوم حتى لا تضرّ بصحته .
فإذا وقــع الإنسان في ظرف عصيب ، وشارف على الموت ، بسبب الجوع الشديد ، أباح الله له تلك المحرمات ؛ أن يتناول منها بحسب حاجته الضرورية لا أكثر ، لانقاذ نفسه من الهلاك .
بل تُرفع الحرمة وتزال في تلك الحالة ، فلا يبقى حرام !
ولا يجوز له أن يضحي بحياته خوفا على صحته !
فإذا لم يتناول تلك اللحوم ، ومات من جراء ذلك ، دخل النار ، كما قال الإمام أحمد ، رحمه الله .
فالمقصود أن الله تعالى قد أنزل هذا الشرع لمصلحة الإنسان .
فـ[ الشَّرِيعَة الإسلامية مَبْنِيَّة على تَحْقِيق مصَالح الْعباد فِي المعاش والمعاد ،
سَوَاء مَا أمرتْ بِهِ من فَرَائض ومندوبات أَو مَا نهتْ عَنهُ من مُحرمَات ومكروهات فَهِيَ فِي كل ذَلِك تهدف إِلَى تَحْقِيق مَقَاصِد ومصالح وَحكم ،
يَقُول الإِمَام ابْن الْقيم رَحمَه الله تَعَالَى : " ... فَإِن الشَّرِيعَة مبناها وأساسها على الحكم ومصـالح الْعباد ، فِي المعاش والمعاد ، وَهِي عدل كلهَا ، وَرَحْمَة كلهَا ، ومصالح كلهَا ، وَحِكْمَة كلهَا ،
فَكل مَسْأَلَة خرجت عَن الْعدْل إِلَى الْجور، وَعَن الرَّحْمَة إِلَى ضدها ، وَعَن الْمصلحَة إِلَى الْمفْسدَة ، وَعَن الْحِكْمَة إِلَى الْعَبَث فليستْ من الشَّرِيعَة ، وإنْ أُدخلتْ فِيهَا بالتأويل ،
فالشريعة عدل الله بَين عباده ، وَرَحمته بَين خلقه ، وظله فِي أرضه وحكمته الدَّالَّة عَلَيْهِ وعَلى صدق رَسُوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أتم دلَالَة وَأصْدقهَا ... " () .
فالشريعة إِذاً لَيست تعبّدية تحكّمية تحلّل وتحرّم دون أَن تقصد إِلَى شَيْء وَرَاء أمرهَا ونهيها ، وحظرها وإباحتها ،
وَبِعِبَارَة أُخْرَى : إِن أَحْكَام الشَّرِيعَة الإسلامية - فِي جُمْلَتهَا - معللة عِنْد الجماهير من أهل الْعلم () وَإِن لَهَا مَقَاصِد فِي كل مَا شرعتْه
وَإِن هَذِه الْمَقَاصِد وَالْحِكَم معقولة ومفهومة فِــي الْجُمْلَة ، بل معقولة ومفهومة تَفْصِيلًا إِلَّا فِي بعض الْأَحْكَام التعبدية الْمَحْضَة () الَّتِي يصعب تعليلها تعليلاً مفصّلاً ظَاهرا معقولاً
مثل مَا ورد فِي الْأَحْكَام والعبادات من تحديدات وهيئات ومقادير كعدد الصَّلَوَات وَعدد الرَّكْعَات فِي كل صَلَاة وَجعل الصّيام شهرا وَفِي شهر معِين ،
وَكَذَا بعض تفاصيل الْحَج وَأَحْكَام الْكَفَّارَات ومقاديرها والعقوبات المحددة (الْحُدُود) ، من حَيْثُ نوعها ومقاديرها
وَعدد الْأَشْهر فِي الْعدة وَالذّبْح فِي الْمحل الْمَخْصُوص فِي الْحَيَوَان الْمَأْكُول وَغير ذَلِك مِمَّا اسْتَأْثر الله بِعِلْمِهِ وَلم نطلع عَلَيْهِ .
فَهَذِهِ الْأَحْكَام التعبدية يصعب تعليلها بالتفصيل - وَإِن كانتْ هِيَ معللة فِي أَصْلهَا وجملتها .
قَالَ الشاطبي : " وَقد عُلم أَن الْعِبَادَات وُضعت لمصَالح الْعباد فِي الدُّنْيَا أَو فِي الْآخِرَة على الْجُمْلَة - وَإِن لم يُعلم ذَلِك على التَّفْصِيل ، وَيصِح الْقَصْد إِلَى مسبباتها - ثَمَرَتهَا وفوائدها - الدُّنْيَوِيَّة والأخروية على الْجُمْلَة " () .
إِن الْعِبَادَات فِي الْإِسْلَام ليستْ مُجَرّد مظَاهر وشعائر وطقوس يُؤَدِّيهَا الْمُسلم لمُجَرّد أَنَّهَا مَفْرُوضَة عَلَيْهِ من ربه فَحسب ، فَلَيْسَ عَلَيْهِ إِلَّا الإذعان والامتثال لأوامر الله وَإِظْهَار الْعُبُودِيَّة لَهُ ، ولاشــك أَن هَذَا مَطْلُوب ومقصود على الْوَجْه الْأَكْمَل ،
وَلَكِن الْعِبَادَات - إِلَى جَانب هَذَا - تنطوي على غايات نبيلة وَحكم جليلة
إِذا قَامَ العَبْد بهَا على وَجههَا خَالِصَة لله تَعَالَى اجتنى مِنْهَا ثَمَرَات كَرِيمَة وفوائد عَظِيمَة
من تَطْهِير النَّفس وتزكيتها وطهارة الْقلب وسلامته مِمَّا ران عَلَيْهِ
وتنوير البصيرة وانشراح الصَّدْر واطمئنان الْقلب ، ومحبة الله وَرضَاهُ ومحبة عباد الله الصَّالِحين ،
وَصَلَاح الدُّنْيَا وفلاح الْآخِرَة
إِلَى غير ذَلِك من الْأَسْرَار والأنوار وَالْخَيْر الْكثير والنفع الوفير مَالا يَأْتِي عَلَيْهِ حصر،
فَيُصْبِح بعد ذَلِك عبدا مثالياً ربانياً فِي أنوار مشرقة بعد أَن كَانَ تائهاً فِي ظلمات حالكة كَمَا قَالَ تَعَالَى : { أَوَمَنْ كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا } ()
وَيكون - إِلَى جَانب كل مَا تقدم - قد حقق الْعُبُودِيَّة الْمَحْضَة لله تَعَالَى وَتَحْقِيق الْعُبُودِيَّة الْخَالِصَة لله غَايَة الغايات ومصلحة الْمصَالح وحِكمة الحِكم وَغَايَة مَا تسمو إِلَيْهِ الهمم ، وأسمى الْمَقَاصِد وأنبلها عِنْد أولي الْأَلْبَاب .
كَمَا أَن لَهَا حكما وأسراراً أُخْرَى لَا يُدْرِكهَا الْعقل الإنساني الْقَاصِر
لِأَن لِلْعَقْلِ حدا يَنْتَهِي إِلَيْهِ - كَمَا قَالَ الشَّافِعِي - رَحمَه الله - وَمن يُحِيط بِعلم الله وحكمته ؟ { وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاءَ } ()
وَقَالَ تَعَالَى : { وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً } () .
نخلص من هَذَا إِلَى أَن أَحْكَام الشَّرِيعَة كلهَا معللة - فِي الْجُمْلَة - وَأَن لَهَا غايات نبيلة وَحكما جليلة
قَالَ ابْن الْقيم : " لَيْسَ فِي الشَّرِيعَة حكم إِلَّا وَله حِكْمَة وَإِن لم يَعْقِلهَا كثير من النَّاس أَو أَكْثَرهم" () .
وَنَصّ الْآمِدِيّ على أَنه لَا يجوز القَوْل بِوُجُود حكم إِلَّا لعِلَّـة : " إِذْ هُوَ خلاف إِجْمَاع الْفُقَهَاء علـى أَن الحكـم لَا يَخْلُو مـن عِلّـة " () .
وَقَــالَ ابْــن الْحَاجِب : " ... فَإِن الْأَحْكَام شرعت لمصَالح الْعباد بِدَلِيل إِجْمَاع الْأمة " () .
وَقَالَ ابْن الْقيم : " ... وَالْقُرْآن وَسنة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مملوآن من تَعْلِيل الْأَحْكَام بالحكم والمصالح وتعليل الْخلق بهما،
والتنبيه على وُجُوه الحكم الَّتِي لأَجلهَا شرع تِلْكَ الْأَحْكَام، ولأجلها خلق تِلْكَ الْأَعْيَان ،
وَلَو كَـــانَ هَــذَا فِـــي الْقُــرْآن وَالسّنة نَحْو مــائَة مَوضِــع أَو مِـــائَتَيْنِ لسقنــاهـا وَلَكِن يزِيد على ألف مَوضِع بطرق متنوعة " ()
ثمَّ نبه على عدد كثير من صِيغ التَّعْلِيل المستعملة فِي الْقُرْآن .
ويؤكد على هَذَا الاتجاه الإِمَام عز الدّين بن عبد السَّلَام موضحاً أَن الشَّرِيعَة كلهَا معللة بجلب الْمصَالح ودرء الْمَفَاسِد، سَوَاء مِنْهَا مَا وَقع النَّص على تَعْلِيله أَو مَا لم ينص عَلَيْهِ ،
فَمَا نَص على تَعْلِيله فِيهِ تَنْبِيه على مَا لم ينص عَلَيْهِ
يَقُول : " والشريعة كلهَا مصَالح ، إِمَّا تدرأ مفاسد أَو تجلب مصَالح ،
فَإِذا سَمِعت الله يَقُول: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا } فَتَأمل وَصيته بعد ندائه فَلَا تَجِد إِلَّا خيرا يحثّك عَلَيْهِ أَو شرا يزجرك عَنهُ ، أَو جمعا بَين الْحَث والزجر ،
وَقد أبان فِي كِتَابه مَا فِي بعض الْأَحْكَام من الْمَفَاسِد حثاً على اجْتِنَاب الْمَفَاسِد ، وَمَا فِي بعض الْأَحْكَام من الْمصَالح حثاً على إتْيَان الْمصَالح" ()
ويؤكد فِي مَوضِع آخر وبجلاء أَكثر وأسلوب أوضح على هَذَا الْمَعْنى فَيَقُول :
" التكاليف كلهَا رَاجِعَة إِلَى مصَالح الْعباد فِي دنياهم وأخراهم وَالله غَنِي عَن عبَادَة الْكل ، لَا تَنْفَعهُ طَاعَة الطائعين وَلَا تضره مَعْصِيّة العاصين ... " () .
وَقَالَ الشاطبي : " إِن وضع الشَّرَائِع إِنَّمَا هُوَ لمصَالح الْعباد فِي العاجل والآجل مَعًا " () .
وَقَالَ أَيْضا: "إِذاً ثَبت أَن الشَّارِع قد قصد بالتشريع إِقَامَة الْمصَالح الأخروية والدنيوية وَذَلِـكَ علـى وَجـه لَا يخْتـل لَهَـا بِـهِ نظام ، لَا بِحَسب الْكل وَلَا بِحَسب الْجُزْء وَسَوَاء فِي ذَلِك مَا كَانَ من قبيل الضروريات أَو الحاجيات أَو التحسينات " () .
وَقد كرر هَذَا الْمَعْنى فِي كِتَابه كثيرا.
وَقد انتقد الإِمَام الشاه ولي الله الدهلوي منكري التَّعْلِيل ، وَأنكر عَلَيْهِم ظنهم أَن الشَّرِيعَة ليستْ سوى تعبد واختبار ، لَا اهتمام لَهَا بِشَيْء من الْمصَالح قَائِلا :
" وَهَــذَا ظـــن فَــاســد تكذبه السّنـة وَإِجْمَـــاع الْقُــرُون الْمَشْــهُـود لَهَـــا بِالْخَيــرِ ... " () ] () .
( سابعاً ) / : النّظر إِلَى المآلات عِنْد تَقْدِير الْمصَالح والمفاسد :
[ وَمِمَّا يجب على الْمُجْتَهد والمفتي حِين يجْتَهد ويفتي أَن يقدّر مآلات الْأَفْعَال وعواقب الْأُمُور وَمَا يؤول إِلَيْهِ الْأَمر فِي النِّهَايَة ،
وَأَن لَا يعْتَبر مهمته تَنْحَصِر فِي إِعْطَاء الحكم الشَّرْعِيّ ، بل مهمته أَن يحكم فِي الْفِعْل وَهُوَ نَاظر إِلَى آثاره ومآلاته
وَيَقُول الشاطبي فِي هَذَا :
" النّظر فِي مآلات الْأَفْعَال مُعْتَبر مَقْصُود شرعا كَانَت الْأَفْعَال مُوَافقَة أَو مُخَالفَة ،
وَذَلِكَ أَن الْمُجْتَهد لَا يحكم على فعل من الْأَفْعَال الصادرة عَن الْمُكَلّفين بإقدام أَو بالإحجام إِلَّا بعد نظره إِلَى مَا يؤول إِلَيْهِ ذَلِك الْفِعْل ،
فقد يكون مَشْرُوعا لمصْلحَة فِيهِ تستجلب ، أَو لمفسدة تدرأ وَلَكِن لَهُ مآل على خلاف مَا قصد فِيهِ ،
وَقد يكون غير مَشْرُوع لمفسدة تنشأ عَنهُ أَو مصلحَة تنْدَفع بِهِ ، وَلَكِن لَهُ مآل على خلاف ذَلِك ،
فَإِذا أطلق القَوْل فِي الأول بالمشروعية فَرُبمَا أدّى استجلاب الْمصلحَة فِيهِ إِلَى مفْسدَة تَسَاوِي الْمصلحَة أَو تزيد عَلَيْهَا
فَيكون هَذَا مَانِعا من إِطْلَاق القَوْل بالمشروعية ،
وَكَذَلِكَ إِذا أطلق القَوْل فِي الثَّانِي بِعَدَمِ المشروعية رُبمَا أدّى استدفاع الْمفْسدَة إِلَى مفْسدَة تَسَاوِي أَو تزيد،
فَلَا يَصح إِطْلَاق القَوْل بِعَدَمِ المشروعية ، وَهُوَ مجَال للمجتهد صَعب المورد إِلَّا أَنه عذب المذاق ... " () .
ثمَّ أَخذ يسْتَدلّ على صِحَة ذَلِك بِأُمُور،
مِنْهَا : أَن التكاليف مَشْرُوعَة لمصَالح الْعباد، وَمِنْهَا أَن الاستقراء للشريعة وأدلتها يدل على اعْتِبَار المآلات ،
وَذكر أَمْثِلَة تفصيلية
كامتناعه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن قتل الْمُنَافِقين مَعَ قدرته على ذَلِك
خشيَة أَن يظنّ النَّاس أَنه يقتل أَصْحَابه فينفروا من الدُّخُول فِي الْإِسْلَام ،
وكامتناعه عَن إِعَادَة بِنَاء الْبَيْت الْحَرَام على قَوَاعِد إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ السَّلَام
حَتَّى لَا يثير بلبلة بَين الْعَرَب ويقولوا: إِن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يهدم المقدسات ويغير معالمها ،
وكنهيه - صلى الله عَلَيْهِ وَسلم - أَصْحَابه عَن زجر الإعرابي حَال تبوله فِي الْمَسْجِد
خشيَة أَن يُؤَدِّي هَذَا إِلَى نجس مَوَاضِع أُخْرَى فِي الْمَسْجِد وَرُبمَا كَانَ فِيهِ ضَرَر صحي عَلَيْهِ ...
إِلَى أَن قَالَ : قَالَ ابْن الْعَرَبِيّ : " النّظر فِي مآلات الْأَفْعَال فِي الْأَحْكَام ، اخْتلف النَّاس بزعمهم فِيهَا - وَهِي مُتَّفق عَلَيْهَا بَين الْعلمَاء فافهموها وادخروها " () .
( ثامناً ) / : وهناك قاعدة متفق عليها بين الأئمة والعلمـــاء ، وهي : أنّ الفتوى تتغيّر بتغير الزمان والمكان والأشخاص والأحوال والعوائد والنيات .
وقد كتب الحـافظ ابن القيّم ، رحمـه الله ، فصلاً في كتـابه ( إعلام الموقعين عن رب العالمين ) تحت عنوان :
[ فَصْلٌ فِي تَغْيِيرِ الْفَتْوَى، وَاخْتِلَافِهَا بِحَسَبِ تَغَيُّرِ الْأَزْمِنَةِ وَالْأَمْكِنَةِ وَالْأَحْوَالِ وَالنِّيَّاتِ وَالْعَوَائِدِ ] جاء فيه :
[هَذَا فَصْلٌ عَظِيمُ النَّفْعِ جِدًّا وَقَعَ بِسَبَبِ الْجَهْلِ بِهِ غَلَطٌ عَظِيمٌ عَلَى الشَّرِيعَةِ أَوْجَبَ مِنْ الْحَرَجِ وَالْمَشَقَّةِ وَتَكْلِيفِ مَا لَا سَبِيلَ إلَيْهِ مَا يُعْلَمُ أَنَّ الشَّرِيعَةَ الْبَاهِرَةَ الَّتِي فِي أَعْلَى رُتَبِ الْمَصَالِحِ لَا تَأْتِي بِهِ ] () .
واعتبـــر الإمام القرافي التقيّد بالفتاوى الموجودة في الكتب ؛ والتي أفتى العلماء بها ، ملائمةً لزمانهم ومكانهم ، وإنزالاً للنصوص على واقعهم .
إعتبر ذلك التقيّد – عند تغيّر ذلك العرف – ضلالاً في الدين ، وجهلاً بمنهج السلف وعلماء المسلمين .
وأكد على اعتبار عُرف المستفتي ، والأخذ به في الفتوى .
قال ، رحمه الله :
[ وَعَلَى هَذَا الْقَانُونَ تُرَاعَى الْفَتَاوَى عَلَى طُولِ الْأَيَّامِ فَمَهْمَا تَجَدَّدَ فِي الْعُرْفِ اعْتَبِرْهُ وَمَهْمَا سَقَطَ أَسْقِطْهُ وَلَا تَجْمُدْ عَلَى الْمَسْطُورِ فِي الْكُتُبِ طُولَ عُمْرِك
بَلْ إذَا جَاءَك رَجُلٌ مِنْ غَيْرِ أَهْلِ إقْلِيمِك يَسْتَفْتِيك لَا تَجْرِه عَلَى عُرْفِ بَلَدِك
وَاسْأَلْهُ عَنْ عُرْفِ بَلَدِهِ وَاجْرِهِ عَلَيْهِ وَأَفْتِهِ بِهِ دُونَ عُرْفِ بَلَدِك وَالْمُقَرَّرِ فِي كُتُبِك فَهَذَا هُوَ الْحَقُّ الْوَاضِحُ
وَالْجُمُودُ عَلَى الْمَنْقُولَاتِ أَبَدًا ضَلَالٌ فِي الدِّينِ وَجَهْلٌ بِمَقَاصِدِ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ وَالسَّلَفِ الْمَاضِينَ ] () .
وقد علّق الحافظ ابن القيّم ، رحمـه الله ، على كلام القرافي ، رحمه الله ، هذا بقوله :
[ وَهَذَا مَحْضُ الْفِقْهِ ، وَمَنْ أَفْتَى النَّاسَ بِمُجَرَّدِ الْمَنْقُولِ فِي الْكُتُبِ عَلَى اخْتِلَافِ عُرْفِهِمْ وَعَوَائِدِهِمْ وَأَزْمِنَتِهِمْ وَأَمْكِنَتِهِمْ وَأَحْوَالِهِمْ وَقَرَائِنِ أَحْوَالِهِمْ فَقَدْ ضَلَّ وَأَضَلَّ ،
وَكَانَتْ جِنَايَتُهُ عَلَى الدِّينِ أَعْظَمَ مِنْ جِنَايَةِ مَنْ طَبَّبَ النَّاسَ كُلَّهُمْ عَلَى اخْتِلَافِ بِلَادِهِمْ وَعَوَائِدِهِمْ وَأَزْمِنَتِهِمْ وَطَبَائِعِهِمْ بِمَا فِي كِتَابٍ مِنْ كُتُبِ الطِّبِّ عَلَى أَبْدَانِهِمْ ،
بَلْ هَذَا الطَّبِيبُ الْجَاهِلُ وَهَذَا الْمُفْتِي الْجَاهِلُ أَضَرُّ مَا عَلَى أَدْيَانِ النَّاسِ وَأَبْدَانِهِمْ وَاَللَّهُ الْمُسْتَعَانُ ] () .
أمثلة على تغير الفتوى بتغير الأزمنة والأمكنة والأحوال والأعراف :
عن سلمة بن الأكوع - رضي الله عنه – قال : قال النبي -صلى الله عليه وسلم - :
« من ضحى منكم ، فلا يصبحن بعد ثلاثة ويبقى في بيته منه شيء .
فلما كان العام المقبل قالوا : يا رسول الله ، نفـعل كما فعلنـا في العـام الماضـي ؟
قال : كلوا وأطعموا وادخروا ؛ فإن ذلك العام كان بالناس جهد - أي شدة وأزمة - فأردت أن تعينوا فيها » ()
وفي بعض الروايات : « إنما نهيتكم من أجل الدافّة () التي دفَّت » () .
أفاد الحديث : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن ادخار لحوم الأضاحي بعد ثلاثة أيام في حالةٍ معينة ، ولعلَّةٍ طارئة ،
وهي وجود ضيوف وافدين على المدينة ، فيجب أن يوفر لهم ما يوجبه كرم الضيافة من لحم الضحايا ،
فلما انتهى هذا الظرف العارض ، وزالت هذه العلة الطارئة ، زال الحكم الذي أفتى به الرسول - صلى الله عليه وسلم - تبعا لها ،
إذ المعلول يدور مع علته وجوداً وعدماً ، وتغيرت الفتوى من المنع إلى الإباحة ، كما جاء في بعض الروايات : « كنت نهيتكم عن لحوم الأضاحي فوق ثلاثة أيام ، فكلوا وادخروا » () .
فهذا مثلٌ واضحٌ لتغير الفتوى بتغير الأحوال ] () .
وعـن عبد الله بن عمرو بن العاص - رضي الله عنهما – قال : « كنا عنــد النبــي - صلى الله عليـه وسلم – فجـ-اء شاب ، فقال : يا رسول الله ، أقبّل وأنا صائم ؟ قال : لا ،
فجاء شيخ ، فقال : يا رسول الله ، أقبّل وأنا صائم ؟ قال : نعم ،
فنظر بعضنا إلى بعض ، فقال رسول الله :
" قد علمت نظر بعضكم إلـــى بعض ، إن الشيخ يملك نفسه » () .
فيلاحظ كيف أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - في هذا الموضع أجاب الشاب على سؤاله بجواب يختلف عن إجابته للشيخ رغم أن السؤال واحد ،
مما يـدل على مراعــاتـه للأحـــوال ] () .
يعني : سؤال واحد ، له جوابان مختلفان ، حسب حال السائل !
[ ولما رأى أمير المؤمنين عثمان - رضي الله عنه - ما عليه الناس من فساد الأخلاق
أمر بالتقاط ضالة الإبل وبيعها وحفظ ثمنها لصاحبها كما روى ذلك مالك في موطئه ،
مع نهيه - صلى الله عليه وسلم - عن التقاط ضالة الإبل .
وكذلك لما رأى ما عليه الناس من خراب الذمم ، في تطليق النساء في مرض الموت لأجل حرمانهن من الميراث ،
فقد ورَّث تماضر الأسدية ، عندما طلقها عبد الرحمن في مرض موته .
ولما رأى أمير المؤمنين علي - رضي الله عنه - ما عليه حال الناس ،
كان يضمِّن الصناع بعد أن كانت يد الصانع أمانة . وقال: لا يصلح الناس إلا ذاك
( تاسعاً ) / : هناك قاعدة فقهية ، متفق عليها بين الأئمة والعلماء نظرياً ، ولكن عند تطبيقها يهبط الذين حشروا أنفسهم بين العلماء ، ويطلق عليهم بعض الناس ألقاب ؛ علماء وفقهاء ومفتين .
يهبطون إلى مستوى الطغام والعوام من الناس !
وكأنهم لم يقرأوا أو يسمعوا كلمة من العلم أو الفقه !
والقاعدة هي : يُرتكَب أخف الضررين لدفع أعظمهما .
يعني : إذا كان هناك ضرران ؛ كلاهما ضرر ؛ وهناك حرامان يعترضان طريق المسلم ، ولابد من إرتكاب أحدهما . ولكن أحدهما أكبر من الآخر !
في هذه الحالة يختار المسلم الحرام الأصغر .
بل لا يبقى – في هذه الحالة – في حقه حرام .
[ الضرر الأشد يُزال بالضرر الأخف .
الألفاظ الأخرى :
* يختار أهون الشرين .
* يختار أهون الشرين أو أخف الضررين .
* يدفع أعظم الضررين باحتمال أخفهما .
* إذا اجتمع ضرران أسقط الأصغر الأكبر .
* يدفع شر الشرين.
التوضيح :
إن الضرر ليس على درجة واحدة ، وإنمـا يتفاوت في ذاته ، وفي آثاره ،
والضرر يجب رفعه لقاعدة : الضرر يزال وقاعدة : لا ضرر ولا ضرار.
ولكن إذا لم يمكن إزالة الضرر نهائياً ، وكان بعضه أشد من بعض ، ولا بدَّ من ارتكاب أحدهما ،
فتأتي هذه القاعدة : الضرر الأشد يزال ويرفع ويتجنب بارتكاب الضرر الأخف .
وذلك لعظم الأول على الثاني ، وشدته في نفسه ،
أو لأن الضرر الأول عام يعمُّ أثره ، والضرر الثاني خاص وينحصر أثره ،
فتقدم المصلحة العامة على المصلحة الخاصة ] () .
دليلها :
إختيار نبيّ الله هارون ، عليه السلام ، لقومه عبادة العجل – مؤقتاً – على التفرقـة بينهم – بعد نصيحتهم ، وتحذيرهم – بعد أن تيقّن أنّهم مصرّون على عبادته حتى يرجع إليهم نبيّ الله موسى .
ثم موافقة نبيّ الله موسى ، عليه السلام ، له ، بعد غضبه في بداية الأمر !
والأمران عظيمان ، وحرامان ، ولكن ضرر وحرمة التفرقة بين المسلمين ، أعظم وأكبر من الشرك مؤقتاً !
تعلّمنا ذلك من القرآن الكريم ، حيث يقول الله تعالى :
( وَلَقَدْ قَالَ لَهُمْ هَارُونُ مِنْ قَبْلُ يَاقَوْمِ إِنَّمَا فُتِنْتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي .
قَالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى .
قَالَ يَاهَارُونُ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا . أَلَّا تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي .
قَالَ يَبْنَؤُمَّ لَا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلَا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي ) () .
[ أي قال لهم هارون ناصحاً ومذكراً من قبل رجوع موسى إليهم: إنما ابْتُليتُم وأُضللتم بهذا العجل . . . وإنَّ ربكم المستحقَّ للعبادة هو الرحمن لا العجل، فاقتدوا بي فيما أدعوكم إليه من عبادة الله، وأطيعوا أمري بترك عبادة العجل . . . قالوا لن نزال مقيمين على عبادة العجل حتى يعود إلينا موسى فنظر في الأمر . . . فلما رجع موسى ووجدهم عاكفين على عبادة العجل امتلأ غضباً لله وأخذ برأس أخيه هارون يجره إليه وقال له: أيُّ شيء منعك حين رأيتهم كفروا بالله أن لا تتبعني في الغضب لله والإنكار عليهم والزجر لهم عن ذلك الضلال؟ . . . أخالفتني وتركت أمري ووصيتي؟ قال المفسرون: وأمرهُ هو ما كان أوصاه به فيما حكاه تعالى عنه
{ وَقَالَ موسى لأَخِيهِ هَارُونَ اخلفني فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلاَ تَتَّبِعْ سَبِيلَ المفسدين } [الأعراف: 142] . . . قال له هارون استعطافاً وترقيقاً: يا ابن أمي - أي يا أخي - لا تأخذ بلحيتي ولا بشعر رأسي . . . إني خفت إن زجرتُهم بالقوة أن يقع قتالٌ بينهم فتلومني على ذلك وتقول لي: لقد أشعلتَ الفتنة بينهم . . . ولم تنتظرْ أمري فيهم، فمن أجل ذلك رأيتُ ألاّ أفعل شيئاً حتى ترجع إليهم لتتدارك الأمر بنفسك ] () .
( وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ وَأَلْقَى الْأَلْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ قَالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلَا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْدَاءَ وَلَا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ . قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِأَخِي وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ ) () .
وعن أنس ، أن أعرابيًّا بال في المسجد ، فوثب إليه بعض القوم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
(لا تُزْرِموه ، ثم دعا بدَلْوٍ من ماء ، فصُبَّ عليه ) () .
البول في المسجد لا يجوز ، وهو حرام ، ولكن قطع البول عن الأعرابي كان ضرره أكبر !
ولهذا نهى النبيّ r الصحابة عن قطع بوله !
فالعلماء والأئمة الكبار يتعرضون للطعن والتجريح ، من قِبَل بعض مَن لا يفهمون ، وممَن ليس لديهم العلم الكافي في الشريعة ، وممن حُشِروا بين العلماء ، وهم لا يملكون المؤهلات التي ترفعهم إلى مستوى أولئك العظماء .
نعـم يتعرض أولئك الأئمة ، حينما يفتون ويطبقون عملياً ، ما أقرّوه نظرياً بالإتفاق ؛ من دفع أعظم الضررين بتحمل أدناهما
فيظن هؤلاء الأدعياء ، أن أولئك الأئمة قد أفتوا بالحرام مقابل الحلال !
يظنون أن أولئك العلماء كان أمامهم حلال وحرام ، فأفتوا بجواز الحرام !
ولا يعلمون أنهم كانوا أمام حرامين ؛ فأفتوا بتحمل أدناهما ، ودفع أعظمهما !
يقول تعالى : ( إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ) () .
فالله ، سبحـانـه وتعالى ، قد حرّم الميتة والدّم ولحم الخنزير وما قُدّم لغير الله تعالى ، ومع هذا فقد أباحها – بشروط – في حالة الضرورة ، ورفع عنها الإثم .
فهنا أمام المسلم حرامان ؛ إمّا تناول اللحوم المحرمة المضرّة ، وإمّا الموت جوعاً ، حيث يعتبره بعض الأئمة إنتحاراً !
فالله تعالى قد أباح – في هذه الحالة – تناول تلك اللحوم ، وتحمّل هذا الحرام ، دفعاً للحرام الأكبر منه ؛ وهو الإنتحار !
وتلك اللحوم تضر بصحة الإنسان في الحالات الإعتيادية ، ولكن حياة الإنسان ، ووجوده أعظم من صحته !
( عاشراً ) / : بعد هذا التمهـيد ، نأتي إلى موضوعنا الرئيس ، وهو : هل يجوز إعطاء زكاة الفطر نقداً ؟
1 - عن ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ : فَرَضَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم زَكَاةَ الْفِطْرِ، صَاعًا مِنْ تَمْرٍ أَوْ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ ، عَلَى الْعَبْدِ وَالْحُرِّ، وَالذَّكَرِ وَالْأُنْثَى وَالصَّغِيرِ وَالْكَبِيرِ، مِـنْ الْمُسْلِمِينَ ، وَأَمَرَ بِهَا أَنْ تُؤَدَّى قَبْـــلَ خُرُوجِ النَّــــاسِ إِلَــى الصَّلَاةِ i ()
2 - عن أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : كُنَّا نُخْرِجُ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ الْفِطْرِ صَاعًا مِنْ طَعَامٍ وَقَالَ أَبُو سَعِيدٍ وَكَانَ طَعَامَنَا الشَّعِيرُ وَالزَّبِيبُ وَالْأَقِطُ وَالتَّمْرُ i ()
في هذين الحديثين المباركين نستنبط ما يأتي :
أ - فرض النبيّ r ، في زكــاة الفطر ، ونصّ على : التمر ، والشعير ، فقط !
ب – ذكر الصحابيّ الجليل أبو سعيد الخدريّ t ، وفسّر الطعام ، الــذي كانوا يخرجونه فـي زكــاة الفطـــر ، فـي زمن النبيّ r : الشعير والزبيب والأقط والتمر ، فقط !
فلم ينص النبيّ r ، لا على الرز ، ولا على غيره !
فالذين يدّعون التقيّد بالنصوص ، من أين جاءوا بالرز وغيره ؟ والرز لم يكن موجوداً أصلاً في زمن النبيّ r ؟
ولم ينص النبيّ r ، على قوت البلـــد ، ولم يلفظ كلمتي ( قوت البلد ) ! فمن أين جاء الذين يحتجّون على غيرهم بالتقيّد بنص النبيّ r .
من أين جاءوا بـ( قوت البلد ) ، وهم يفرحون بأنهم يطبّقون السنة في هذا الموضوع ، دون غيرهم من الذين يخرجون النقود ؟ !
ونحن نرى أنّ آراء واجتهادات وأقوال ، ابن حزم الظاهري ، رحمه الله ، أكثر دقة ، ومنطقيّةً ، مع ظاهريته ، في تقيّده بالنص ، من الذين يدّعون ذلك ، ويحاربون غيرهم بحجة التقيّد بالنص .
وهم – في الحقيقة – مقيّدون باجتهادات وآراء رجال – غير معصومين – لا يرتقون إلى مستوى كُتّاب أولئك الأئمة ، الذين يحاربونهم ! !
أنظر إلى أقوال ابن حزم الظاهري ، رحمه الله ، لترى التقيّد حرفيّاً بالنص كيف يكون ؟ :
قال ، رحمه الله :
[ وَأَجَازَ قَوْمٌ أَشْيَاءَ غَيْرَ مَا أَمَرَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ –
فَقَالَ قَوْمٌ: يُجْزِئُ فِيهَا الْقَمْحُ وَقَالَ آخَرُونَ: وَالزَّبِيبُ، وَالْأَقِطُ.
وَاحْتَجُّوا بِأَشْيَاءَ مِنْهَا -:
أَنَّهُمْ قَالُوا: إنَّمَا يُخْرِجُ كُلُّ أَحَدٍ مِمَّا يَأْكُلُ وَمِنْ قُوتِ أَهْلِ بَلَدِهِ،
فَقُلْنَا: هَذِهِ دَعْوَى بَاطِلٍ بِلَا بُرْهَانٍ،
ثُمَّ قَدْ نَقَضْتُمُوهَا لِأَنَّهُ إنَّمَا يَأْكُلُ الْخُبْزَ لَا الْحَبَّ:
فَأَوْجَبُوا أَنْ يُعْطِيَ خُبْزًا لِأَنَّهُ هُوَ أَكَلَهُ، وَهُوَ قُوتُ أَهْلِ بَلَدِهِ،
فَإِنْ قَالُوا: هُوَ غَيْرُ مَا جَاءَ بِهِ الْخَبَرُ.
قُلْنَا: صَدَقْتُمْ، وَكَذَلِكَ مَا عَدَا التَّمْرَ، وَالشَّعِيرَ،
وَقَالُوا: إنَّمَا خَصَّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بِالذَّكَرِ - التَّمْرَ، وَالشَّعِيرَ؛ لِأَنَّهُمَا كَانَا قُوتَ أَهْلِ الْمَدِينَةِ.
قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ: وَهَذَا قَوْلٌ فَاحِشٌ جِدًّا؛ أَوَّلُ ذَلِكَ أَنَّهُ كَذِبٌ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَكْشُوفٌ، لِأَنَّ هَذَا الْقَائِلَ قَوَّلَهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - مَا لَمْ يَقُلْ؛ وَهَذَا عَظِيمٌ جِدًّا،
وَيُقَالُ لَهُ: مِنْ أَيْنَ لَكَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَرَادَ أَنْ يَذْكُرَ الْقَمْحَ، وَالزَّبِيبَ؛ فَسَكَتَ عَنْهُمَا وَقَصَدَ إلَى التَّمْرِ، وَالشَّعِيرِ؛ أَنَّهُمَا قُوتُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ،
وَهَذَا لَا يَعْلَمْنَهُ إلَّا مَنْ أَخْبَرَهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بِذَلِكَ عَنْ نَفْسِهِ، أَوْ مَنْ نَزَلَ عَلَيْهِ وَحَيٌّ بِذَلِكَ،
وَأَيْضًا: فَلَوْ صَحَّ لَهُمْ ذَلِكَ لَكَانَ الْفَرْضُ فِي ذَلِكَ لَا يَلْزَمُ إلَّا أَهْلَ الْمَدِينَةِ فَقَطْ،
وَأَيْضًا: فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ عَلِمَ وَأَنْذَرَ بِذَلِكَ رَسُولَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى سَيَفْتَحُ لَهُمْ الشَّامَ، وَالْعِرَاقَ، وَمِصْرَ، وَمَا وَرَاءَ الْبِحَارِ،
فَكَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يَلْبِسَ عَلَى أَهْلِ هَذِهِ الْبِلَادِ دِينَهُمْ؟ فَيُرِيدُ مِنْهُمْ أَمْرًا وَلَا يَذْكُرُهُ لَهُمْ وَيَلْزَمُهُمْ بِكَلَامِهِ مَا لَا يَلْزَمُهُمْ مِنْ التَّمْرِ، وَالشَّعِيرِ؟
وَنَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ مِثْلِ هَذَا الظَّنِّ الْفَاسِدِ الْمُخْتَلَطِ ] () .
فمن قال : يخرج المسلم زكاة الفطر مما يأكله ، ومن قوت بلده .
قيل : قوله هذا دعوى باطل بلا برهان ،
وهو قول مَن يتناقض مع نفسه – عند الإمام ابن حزم الظاهري – رحمه الله !
لأن قوت البلد هو الخبز لا الحَبّ ،
فمعنى كلامهم : أنه واجب عليهم إعطاء الخبز في زكاة الفطر !
وتناقضهم – حسب قول الإمام ابن حزم – هو : أنّهم يوجبون زكاة الفطر من قوت البلد من ناحية ! وقوت البلد هو : الخبز ! أي : الواجب فيها – حسب قولهم – هو الخبز !
ومن ناحية أخرى يقولون : الخبز ليس بواجب ، لأنه لم ينص عليه !
ثم إن قالوا : لم ينص النبيّ r ، على الخبز ،
قيل : صدقتم ، وكذلك لم ينص r ، إلا على التمر ، والشعير ! فمن أين جئتم بالرز ، والعدس ، و . . . ؟
فإن قالوا : إنما ذكر النبيّ r ، التمر ، والشعير ، لأنهما كان قوت أهل المدينة .
قال ابن حزم : هذا قول فاحش جداً ، وهو كذب مكشوف على رسول الله r ! وهوقول عظيم جداً ،
لأنه إفتراء وتقّوّل على النبيّ r ، ما لم يقله !
وقال : فكيف علِم هؤلاء أنّ رسول الله r ، أراد أن يذكر قوت البلد ، ولكنه سكت عنه ، ولم يذكره ، ولكنه ذكـر r ، التمر ، والشعير ، لأنهما كان قوت أهل المدينة !
فهل أخبرهم النبيّ r ، بذلك ، كما يقول الإمام ابن حزم ، رحمه الله ؟
أم أنهم قد نزل عليهم الوحي بذلك ؟ !
ثم قال الإمام ابن حزم : ولو صحّ قولهم ذلك ( أنه إنّما فرض ونصّ على التمر ، والشعير ، لأنهمـا كـان قوت أهل المدينة ) لكان ذلك الفرض يكون على أهل المدينة فقط ، ولا يلزم غيرهم !
وقال أيضاً : فإنّ الله تعالى كان يعلم ، وأخبر بذلك رسول الله r ، أنه سيفتح لهم الشام والعراق ومصر وما وراء البحار ، ولاشك أن قوت تلك البلاد يختلف عن قوت أهل المدينة .
فكيف يجوز أن يلبس على أهل هذه البلاد دينهم ؟ فيريد منهم أمراً ولا يذكره لهم ، ويلزمهم بكلامه ما لا يلزمهم من التمر ، والشعير ؟
أي : لو أراد رسول الله r ، قوت أهل كل بلد ، لذكـر ذلـك ، ولم ينص على التمر ، والشعير !
ثم استعاذ ابن حزم بالله من هذا الظن الفاسد المختلط !
هذا منطق مَن يأخذ بحرفية النص ، ويأخذ به !
وهو منطق وقول مَن لا يتناقض مع نفسه !
فالذي يخــالف و يحــارب المسلمين في هـذه المســــألة – لأنهم يقولون بجواز إخراج النقود – ويفتخر بنفسه ، على أنه مقيّد بنص حديث رسول الله r ، دون غيره
عليه : إمّا أن يردّ على الإمام ابن حزم قوله ، ويبطله !
أو يعترف بأنه أيضاً غير مقيّد بحرفية النص ، حاله حال المسلمين الذين يحاربهم !
وعليه أن يعترف أنه هو أيضاً مقيّد بقياسات واجتهادات العلماء !
هل ذكر النبيّ r ، الرز والعدس و . . . ؟ وهل قال r ، قوت البلد ؟
هل أخذوا ذلك من حرفية النص ؟ أم استنباطاً منه ؟
فلماذا يجوز ، ويحل لهم الإستنباط ، ولا يجوز لغيرهم ، ويحرم عليهم ذلك ؟ !
ج – ثم قال ابن حزم ، رحمه الله :
[ ثُمَّ إنَّهُ لَيْسَ مِنْ هَذَا كُلِّهِ خَبَرٌ مُسْنَدٌ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي شَيْءٍ مِنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلِمَ بِذَلِكَ فَأَقَرَّهُ،
وَلَا عَجَبَ أَكْثَرَ مِمَّنْ يَقُولُ فِي خَبَرِ جَابِرٍ الثَّابِتِ: «كُنَّا نَبِيــعُ أُمَّهَـــاتِ الْأَوْلَادِ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -»
وَحَدِيثُ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ الثَّابِتُ «ذَبَحْنَا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَرَسًا فَأَكَلْنَاهُ»
أَنَّ هَذَانِ لَيْسَا مُسْنَدَيْنِ " لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِمَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلِمَ بِذَلِكَ فَأَقَرَّهُ،
ثُمَّ يَجْعَلُ حَدِيثَ أَبِي سَعِيدٍ هَذَا مُسْنَدًا عَلَى اضْطِرَابِهِ وَتَعَارُضِ رُوَاتِهِ فِيهِ
فَلْيَقُلْ كُلُّ ذِي عَقْلٍ: أَيُّمَا أَوْلَى أَنْ يَكُونَ لَا يَخْفَى عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ –
بَيْعُ رَجُلٍ مِنْ أَصْحَابِهِ أُمَّ وَلَدِهِ، أَوْ ذَبْحُ فَرَسٍ فِي بَيْتِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ أَوْ بَيْتِ الزُّبَيْرِ،
وَبَيْتَاهُمَا مُطْنِبَانِ بِبَيْتِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَابْنَتُهُ عِنْدَهُ، عَلَى عِزَّةِ الْخَيْلِ عِنْدَهُمْ وَقِلَّتِهَا وَحَاجَتِهِمْ إلَيْهَا،
أَمْ صَدَقَةُ رَجُلٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ فِي بَنِي خُدْرَةَ فِي عَوَالِي الْمَدِينَةِ بِصَاعِ أَقِطٍ، أَوْ صَاعِ زَبِيبٍ،
وَلَوْ ذُبِحَ فَرَسٌ لِلْأَكْلِ فِي جَانِبٍ مِنْ جَوَانِبِ بَغْدَادَ مَا كَانَ يُمْكِنُ أَنْ يَخْفَى فِي الْجَانِبِ الْآخَرِ،
وَلَوْ تَصَدَّقَتْ امْرَأَةُ أَحَدِنَا أَوْ جَارُهُ الْمُلَاصِقُ بِصَاعِ أَقِطٍ؛ أَوْ صَاعِ زَبِيبٍ وَصَاعِ قَمْحٍ، مَا كَادَ هُوَ يَعْلَمُهُ فِي الْأَغْلَبِ؛
فَاعْجَبُوا لِعَكْسِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ الْحَقَائِقَ ] () .
يقول الإمام ابن حزم الظاهري ، رحمه الله ، عن قول أبي سعيد الخدري t - الذي يقول فيه - : كُنّا نفعل كذا . .
يقول : هذا ليس خبر مسند ، لأنه ليـــس فيــه أنّ رسول الله r ، عَلِم بذلك فأقرّه !
ويتعجب ابـن حزم ، مـن هـؤلاء العلمـاء ؛ الذين يعتمدون في إقرار سنة عن النبيّ r ، على قول أبي سعيد الخدري ، t : كنا نفعل كذا وكذا .
فيقولون بإخراج الزبيب والأقط و . . . إستناداً على قول أبي سعيد الخدريّ t : كنّا نُخْرِجُ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ الْفِطْرِ صَاعًا مِنْ طَعَامٍ وَقَالَ أَبُو سَعِيدٍ وَكَانَ طَعَامَنَا الشَّعِيرُ وَالزَّبِيبُ وَالْأَقِطُ وَالتَّمْرُ .
ويعتـبرونه سنّـة مقـررة مـن عنـد رسـول الله r ، علمـاً أنه ليس فيه أن رسول الله r ، قد عَلِمَ بذلك !
بينما هم يردّون ما هو أقوى من ذلك ، ولا يعتبـرونـه سنّة ! ويقولون : هو غير مسند ؛ لأنه ليس فيه أنّ رسول الله r ، عَلِمَ بذلك فأقرّه ! !
فيقول : هؤلاء العلماء قد ردّوا قول بعض الصحابة ، رضي الله عنهم ، مثل جابر بن عبد الله ، وأسماء بنت أبي بكر ، رضي الله عنهم ، وقولهما هو بنفس صيغة قول أبي سـعيـد الخدريّ ، الذي جعلوه سنّة ، بل قولهما أقوى في الإستنباط منه !
مثلاً : خَبَرِ جَابِرٍ الثَّابِتِ: «كُنَّا نَبِيعُ أُمَّهَاتِ الْأَوْلَادِ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -»
وَحَدِيثُ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ الثَّابِتُ «ذَبَحْنَا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَرَسًا فَأَكَلْنَاهُ»
فيقولون عنهما : هَذَانِ لَيْسَا مُسْنَدَيْنِ " لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِمَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلِمَ بِذَلِكَ فَأَقَرَّهُ
يقول ابن حزم : فليحكم كل مَن عنده عقل يحتكم إليه ، أي منهما منطقي ؟
هل يخفـى على رسول الله r ، أن يبيـع رجـل من أصحابـه كجابر t ، أم ولده ؟
أو هل يخفى على رسول الله r ، أن يُذبح فَرَس في بيت أبــي بكر الصدّيق t ، أبي أسمــاء ، أو في بيت الزبير بن العـوام t ، زوج أسماء ،
وبيت كل منهما بجنب بيت رسول الله r ،
وأخت أسماء ؛ هــــي عائشة بنت أبي بكر الصدّيق رضي الله عنهم ، وهي زوج النبيّ r ؟
ولاسيما كم كان الفَرَس عزيزاً ، وقليلاً عندهم ، وكم كانوا بحاجة إليه ، فيذبحونه ويأكلونه ،
ويخفى ذلك على رسول الله r ! ! ولا يعتبر عملهم سنّة !
أما حينما يتصدّق رجل مــن أصحابه كأبـــي سعيد الخدريّ t ، وبيته في عوالي المدينة المنورة ، في بني خُدرة ، أي بعيد عن بيت رسول الله r ،
حينما يتصدّق بصاع أقط ، أو زبيب ، فهذا لا يخفى على رسول الله r ، ويعتبر عمله سنّة إقرارية !
ويقول : لو ذُبح فَرَس للأكل ، في طرف من بغداد – في زمانه – ما كان ليخفى على الطرف الآخر ،
فكيف خفي ذلك على رسول الله r ، في جنب بيته ؟
يقول : بينما لو تصدّقت زوجة أحدنا بصاع أقط ، أو زبيب ، أو قمح ، ما كاد أن يعلمه ، وهو زوجها !
فأن لا يعلم جيرانه فبطريق الأَوْلى ! !
فكيف – حسب قول ابن حزم – عكَسَ هؤلاء العلماء الأمر ، فردّوا الأقوى ، وأخذوا بالأضعف منه ؟ !
د – جــاء فـي حديث ابن عمر ، رضي الله عنهما ، الذي رواه الشيخان ؛ البخاري ، ومسلم ، في صحيحيهما :
( وَأَمَرَ بِهَا أَنْ تُؤَدَّى قَبْلَ خُرُوجِ النَّاسِ إِلَى الصَّلَاةِ ) .
فهذا أمر من النبيّ r ، صريحاً واضحاً – للذين يتقيّدون بنص النبيّ r ، ويدّعون أنّهم لا يخرجون عن النص ، ويحاربون الأئمة ويضللونهم بخروجهم عن النص
هل هم يتقيّدون بأمر ، وسنة رسول الله r ، هنا ؟
وأمره r ، هنا هو أن تؤدّى زكاة الفطر ، بعد صلاة فجرعيد الفطر ، وقبل صلاة العيد !
فهل هم مقيّدون بذلك ؟
وقد استحب الأئمة ؛ أبي حنيفة والشافعي وأحمد ، تأخير صلاة عيد الفطر ، ليتسع وقت إخراج زكاة الفطر ، المستحب إخراجها فيه ! ()
فهل هم يتقيّدون بذلك ؟
لا ، طبــعاً ، هـم غيـــر مقيّـدون بذلك ، بل يؤدّونها قبل ذلك ، ربّما بيومين ! لماذا ؟
لأن الإمام البخاري ، رحمه الله ، قد روى في صحيحه ، عن ابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا
أنه كان «يُعْطِيهَا الَّذِينَ يَقْبَلُونَهَا، وَكَانُوا يُعْطُونَ قَبْلَ الفِطْرِ بِيَوْمٍ أَوْ يَوْمَيْنِ» () .
ولنا على هذا الإستدلال ملاحظتان :
1 – أن النبيّ r أمر بوضوح ، وبصريح العبارة ، أن تؤدّى زكاة الفطر ، قبل خروج الناس إلى الصلاة !
فلمـاذا عدل الملتزمون بالنص عن ذلك ، ويؤدونها قبل ذلك ؟
قالوا : [ ولا مانـــع من إخراجها قبل العيد بيوم أو يومين .
وبذلك يعلم أن أول وقت لإخراجها في أصح أقوال العلماء هو ليلة ثمان وعشرين ؛ لأن الشهر يكون تسعاً وعشرين ويكون ثلاثين ] .
وقالوا أيضاً : [ وقت وجوب إخراجها : تَجِبُ بِغُرُوبِ الشَّمْسِ لَيْلَةَ الفِطْرِ : هذا هو وقت الوجوب، أي الوقت الذي يوجه فيه الخطاب إلى الإنسان بإخراجها هو وقت غروب الشمس ليلة الفطر، والدليل حديث ابن عمر ـ رضي الله عنهما ]
ثم أنظر إلى قولهم – وهم يدّعون الإلتزام بنصوص الكتاب والسنة – :
[ولا مانع من إخراجها قبل العيد بيوم أو يومين ] .
[ وَيَجُوزُ إِخْرَاجُهَا قَبْلَ العِيدِ بِيَوْمٍ أَوْ يَوْمَيْنِ ] .
علماً أن رسول الله r ، أمر بإخراجها قبل خروج الناس إلى الصلاة !
أتدرون لمــاذا ؟ لأن الصحابـيّ الجليل عبد الله بن عمر ، رضي الله عنهما ، روى : أنهم كانوا يعطونها قبل الفطر بيوم أو يومين !
أي : أن الصحــابة هـم يفسـرون ، ويشـرحـون ، ويبيّنـون لنـا مقصد رسول الله r ، وما أراد بأوامره ، وكيفيّتها !
والصحابة ، رضي الله عنهم ، لا يفعلون شيئاً من عند أنفسهم ، بل لابد أنّهم إذا عملوا عملاً فبعلم رسول الله r ، عملوه ، وأقرّهم على ذلك .
مع أن أمر النبيّ r ، هنا واضح صريح !
قالوا : [ وكان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يخرجونها قبل العيد بيوم أو يومين ] .
[ لما روى الإمام البخاري ـ رحمه الله ـ في " صحيحه " ح (1511) من حديث ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: وَكَانُوا يُعْطُونَها قَبْلَ الْفِطْرِ بِيَوْمٍ أَوْ يَوْمَيْنِ ] () .
هذا هو سبب العدول عن أمر رسول الله r ، الواضح الصريح !
فالصحابة ، رضوان الله عليهم ، هم مَن يفسرون لنا أوامر رسول الله r ، ولا يعملون إلّا بعلم النبيّ r .
وهذا كلام جميل ، ومبدأ صحيح ، أليس نقول دائماً : الكتاب والسنة بفهم السلف الصالح ؟
وهل هناك – من السلف الصالح – أفضل ، وأعلم من الصحابة ، رضوان الله عليهم ؟ !
ولا ندري – ولا المنجّم يدري – لماذا عدلوا عن هذا المبدأ الصحيح الجميل في مكان آخر ؟ !
فعلى سبيل المثال – لا الحصر – مسألة الأخذ من اللحية ، وتقصيرها :
حيـث ( كَــانَ ابْـنُ عُمَـرَ: «إِذَا حَـجَّ أَوِ اعْتَمَـرَ قَبَـضَ عَلَـى لِحْيَتِهِ ، فَمَا فَضَلَ أَخَذَهُ » ) () .
وكان علي بن أبي طالب يأخذ من لحيته مما يلي وجهه .
وكان أبو هريرة يقبض على لحيته ، ثم يأخذ ما فضل عن القبضة .
وكان جابر يأخذ من لحيته .
وقال عطاء بن أبي رباح : كانوا () يحبون أن يعفوا اللحية إلا في حجٍّ ، أو عمرة .
وكان إبراهيم يأخذ من عارض لِحْيَتِهِ .
وكان الإمام طاووس يأخذ من لحيته ولا يوجبه .
وقال الحسن : كانوا يرخصون فيما زاد على القبضة من اللحية أن يؤخذ منها .
وكان القاسم : إذا حلق رأسه أخذ من لحيته وشاربه .
عن أبي هلال قال : سألت الحسن وابن سيرين فقالا : لا بأس به أن تأخذ من طول لحيتك .
وعن إبراهيم قال : كانوا () يبطنون لِحاهُم ويأخذون من عوارضها ، رضي الله عنهم ،ورحمهم الله تعالى . ()
وكذلك قال بذلك كلٌ من : ابن عباس ، ومحمد بن كعب القرضي ، ومجاهد ، وابن جريج ، والإمام أحمد .
وروي عن عمر بن الخطاب r ، أنه رأى رجلاً قد ترك لحيته حتى كثرت فأخذ بحديها ثم قال : ائتوني بجلمين ثم أمر رجلاً فجز ما تحت يده ثم قال : إذهب فأصلح شعرك أو أفسده ، يترك أحدكم نفسه حتى كأنه سبع من السباع () .
وأن سالم بن عبد الله بن عمر بن الخطاب ، رضي الله عنهم ، كان إذا أراد أن يحرم دعا بالجلمين فقصّ شاربه وأخذ من لحيته قبل أن يركب وقبل أن يُهل محرماً ()
قال الشيخ الألباني ، رحمه الله : [ السنة التي جرى عليها عمل السلف من الصحابة والتابعين والأئمة المجتهدين إعفاء اللحية إلا ما زاد على القبضة ؛ فيُقص ،
وتأييد ذلك بنصوص عزيزة عن بعض السلف وبيان أن إعفاءها مطلقاً هو من قبيل ما سماه الإمام الشاطبي بـ( البدع الإضافية ) ] () .
يعني : الذي لا يأخذ من لحيته ، ويتركها بدون قصها ، هو مبتدع عند الشيخ الألباني ، رحمه الله !
فمع عمل كل أولئك الصحابة ، رضوان الله عليهم ، والتابعين ، والأئمة ، رحمـهم الله تعالـى ،
فقد قـال مَـن يقـال لهم ( فقيه ) و ( علّامة ) ، في هذا العصر والزمان ، من قِبَل الذين يقولون : الكتاب والسنة بفهم الصحـابـة ، والسـلف الصـالح :
قال : [ القـص مــن اللحيـة خــلاف ما أمر به النبيّ r ، في قوله : ( وفروا اللحى ) ، ( اعفوا اللحى ) ، ( أرخوا اللحى )
فمن أراد اتباع أمر الرسول r ، واتباع هديه r ، فلا يأخذن منها شيئاً ، فإن هدي () الرسول عليه الصلاة والسلام ، أن لا يأخذ من لحيته شيئاً ،
وكذلك كان هدي الأنبياء قبله () ] !
وقال فقيه ، وعلّامة آخر – من الذين يقولون : الكتاب والسنة بفهم السلف الصالح :
[ مَن احتج بفعل ابن عمر ، رضي الله عنهما ، أنه كان يأخذ من لحيته في الحـــج ما زاد على القبضة .
فهذا لا حجة فيه ، لأنه اجتهاد ( ! ! ! ) من ابن عمر ، رضــي الله عنهما ، والحجة في روايته لا في اجتهاده .
وقد صرّح العلماء ، رحمهم الله : أن رواية الراوي من الصحابة ومن بعدهم الثابتة عن النبيّ r ، هي الحجة ، وهي مقدمة على رأيه إذا خالف السنة ] ! ! .
هناك بعض الملاحظات ، على تلك الكلمات ، التي فاه بها ذلك المفتي العلّامة :
أ – إنه يعتبر أخذ ابن عمر ، رضي الله عنهما ، من لحيته ، من قبيل الإجتهاد منه ، ومن قبيل الرأي !
أي : إنّ ابن عمر قد تأمل ، وتدبّر ، وأعمل فكره في فهم حديث رسول الله r ، ولكنه ما وافق اجتهاده الصواب ، بل خالف السنة !
علماً أنه هو راوي الحديث ! !
ولا داعي هنا لأنقل أقوال الصحابة ، والتابعيــن ، وأتباعهم ، والأئمة في إلتزام ابن عمر ، رضي الله عنهما ، وتقيّده بسنة رسول الله ، وهديه ، r ، حتى فيما هو غير ملزم !
وهذا يعرفه القاصي والداني ، حتى من شدّة ذلك ، كانوا يطلقون عليه : مجنون !
فلا داعي لأنقل ذلك ، ثم إنّ المسألة هنا ليست هي اللحية فقد أتيت بهذا الموضوع ، على سبيل المثال ، وليس الحصر !
ب – إنّ هذا الأمر ، لا يحتاج إلى إعمال فكر ، وتأمل ، وإجتهاد من ابن عمر ، راوي الحديث .
بل يحتاج فقط إلى النظر إلى وجه رسول الله r ! !
فهل رأى ابن عمر وجه رسول الله r ؟
وكم مرة رآه ؟ أو كم سنة رآه ؟
لماذا بعض المرات نجد فَهْم الصحابة والسلف الصالح – كما هُم يفهمون – هو المقدَّم .
وبعض المرات يُتّهم الصحابة والسلف الصالح – غير مباشر – بمخالفة سنة النبيّ r ، واتباع الهوى ! !
ما هو المقياس في ذلك ؟
فالنبيّ r ، أمر بإخراج زكاة الفطر بعد صلاة فجر يوم العيد ، قبل صلاة العيد .
وهؤلاء يجيزون إخراجها قبل يوم أو يومين من ذلك ، لأن ابن عمر ، رضي الله عنهما ، قال : كان الصحابة يخرجونها قبل ذلك الوقت الذي حدّده النبيّ r !
هنا يؤخذ بقول وعمل الصحابة ، وإن كان – ظاهراً – مخالفاً لأمر النبيّ r .
لأنّ الصحابة ، رضي الله عنهم ، هم أعلم ، وأدرى ، وأفهم لقول النبيّ r ، وأوامره وكيفيتها !
وتعتبر أعمالهم سنّة تقريرية ، علم بها النبيّ r ، وأقرّهم عليها !
علماً أنه هو نفس الصحابيّ الذي رفضوا تطبيقه للسنة في قضية اللحية !
فمع بيان عبد الله بن عمر ، رضي الله عنهما ، للسنة في اللحية بعمله ،
ومعه كل أولئك الصحابة الذين ذكرناهم ، وفيهم خلفاء راشدين ،
إضافة إلى التابعين ، وأتباعهم .
وجميعهم من السلف الصالح .
يرفضون كل ذلك ، ويعتبرون أفعالهم معصية مخالفة لسنة النبيّ r ! !
فلا ندري بأي ميزان ومقياس ، تصدر أقوالهم واجتهاداتهم هذه ؟
لماذا بعض المرات يأخذون بأقوال الصحابة وأفعالهم ، وهي ظاهراً معارض لأقوال النبيّ r ، وأفعاله ؟
ولمــاذا – فــي هـذه الإجتهـادات – يقولـون : الصحابة أعلم بأوامر رسول الله وأفعاله r ، وهم يبيّنون لنا كيفيتها ؟ كإخراج زكاة الفطر قبل العيد بيوم أو يومين !
بينما يقولون بعدم جواز الأخذ من اللحية ، لأن النبيّ r لم ينص على ذلك ! وهم مقيّدون بنص الحديث !
علماً أن النبيّ r لم ينص أيضاً لا على الرز والعدس ، ولا على قوت البلد ، فلماذا عدلوا هنا عن نص الحديث !
ثم كبار الصحابة وعلمائهم ، كانوا ، رضي الله عنهم ، قد فقهوا وفهموا الغاية من الزكاة عامة ، وهي : سد فاقة الفقير ، وإشباع حاجاته .
ولم يقيّدوا أنفسهم ببعض الوسائل المنصوصة عليها !
فقد صحّ عن معاذ بن جبل – أعلم الصحابة بالحلال والحرام – t ، أنه قال لِأَهْلِ اليَمَنِ:
«ائْتُونِي بِعَرْضٍ ثِيَابٍ خَمِيصٍ - أَوْ لَبِيسٍ - فِي الصَّدَقَةِ مَكَانَ الشَّعِيرِ وَالذُّرَةِ
أَهْوَنُ عَلَيْكُمْ وَخَيْرٌ لِأَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْمَدِينَةِ»
وكذلك جاء عن عمر بن الخطاب t ، أنه كان يأخذ من الأراضي الخراجية الدراهم ، مع أنّ النبيّ r ، أخذ من أهل خيبر شطر ما يخرج من أراضيهم ،
ومع هذا لم يتقيّد عمر بأخذ الثمار والزروع بل كان يأخذ الدراهم وغيرها منهم .
وما رأينا منكراً من الصحابة على ذلك ، وعلى هذا مضى من بعده () .
[ وكذلك الحال في الجزية ؛ فقد ثبت عن النبيّ r ، أنه أمر معاذاً أن يأخذ ( من كل حالم ديناراً أو عدله معافر ) كما روى أبو داود والترمذي والنسائي بسند صحيح ،
ولم يثبت عن النبيّ عليه الصلاة والسلام في الجزية غير ذلك ،
فقال ( أو عدله معافر ) فخص المعافر ولــم يقل ( أو عدله ) مطلقاً بدون تخصيص ، بل خصّه بالثياب ،
ومع هذا التخصيص لم يتقيّد الصحابة بذلك ،
فقد كان عمر يأخذ في الجزية الدنانير والدراهم والطعام والأنعام وغيرها ؛
روى أبو عبيد في الأموال بسند صحيح ( أن عمر كان يؤتى بنِعَم كثيرة من نِعَم الجزية )
وروى أبو عبيد كذلك بسند صحيح عن عليّ بن أبي طالب – رضي الله تعالى عنه – أنه كان : ( يأخذ الجزية من كل ذي صنع : من صاحب الإبر إبراً ، ومن صاحب المسان مسان ، ومن صاحب الحبال حبالاً )
وروى إبن زنجويه في الأموال بسند صحيح عن عمر – رضي الله تعالى عنه – أنه كتـب إلى أمراء الأجناد في أمر الجزية :
( مَن جرت عليه المواسي : على أهل الورق أربعين درهماً ، وأمر أن يختم في رقابهم ،
وعلى أهل الشام ، وعلى أهل الجزيرة مدين من بر وأربعة أقساط من زيت وشيئاً من الودك لا أحفظه ،
وعلى أهل مصر أردباً من بر ، قال : شيئاً من العسل لا أحفظه ، وعليهم كسوة أمير المؤمنين ضريبة مضروبة ،
وعلى أهل العراق خمسة عشر صاعاً ، وعليهم ضيافة المسلميــن ثلاثـاً يطعمونهم مما يأكلون مما يحل للمسلم من طعامهم ) .
والروايات في هذا كثيرة ، فهذا كله يدل على أن الصحابة نظروا إلى القيمة لا إلى عين ما ذكره النبيّ عليه الصلاة والسلام مع أنه حدّد ذلك فقال : ( ديناراً أو عدله من المعافر )
ومع هذا فقد تعدّوهما إلى غيرهما ،
وما ذلك إلّا تيسيراً على أهل الذمة ،
فقد كانوا يأخذون من أموالهم ولا يكلّفونهم من غيرها ، فمــن أحــقّ بالتيسير والنظر إلى حاجته :
المسلمون أم أهل الذمة ؟ !
قال أبو عبيد في الأموال : ( فأراهما – يقصد عمر بن الخطاب ، وعلي بن أبي طالب ، رضي الله عنهما – قد رخصا في أخذ العروض والحيوان مكان الجزية ، وإنما أصلها الدراهم والدنانير والطعام ،
وكذلك كان رأيهما في الديات من الذهب والورق والإبل والبقر والغنم والخيل ،
إنما أرادا التسهيل على الناس ، فجعلا على أهل كل بلد ما يمكنهم . . .
فالصدقة عندنا على هذا أن الأسنان يؤخذ بعضها مكان بعض ، إذا لم توجد السن التي تجب على ما روي عن علي بن أبي طالب ، وما كان يأخذ به سفيان ؛
لأن فيه تيسيراً على الذين تؤخذ منهم ، ووفاءً للذين تؤخذ لهم ) ] () .
ولا ندري لماذا هنا لا يؤخذ بأقوال وأعمال علماء الصحابة ، والخلفاء الراشدين منهم ؟
ولمــاذا هنــا لا يقــال : الصحابــة أعلم وأدرى وأولى ، بفهم وتفسير أقوال رسول الله r ؟
( حادي عشر ) / : ثم نقول بعد ذلك :
ليس صحيحاً أنّ الإمام أبا حنيفة ، رحمه الله ، قد تفرّد وشذّ بفتواه ، بجواز إخراج النقود في زكاة الفطر !
والذين يقولون بذلك بين أمرين ، لا ثالث لهما :
أ – إمّا الجهل ، وعدم اتصافهم بالعلم في هذا الموضوع !
ب – أو أنهم يعلمون ، ولكنهم يتعمّدون تضليل الناس ، تعصباً وتحزبا !
الذين قالوا بإخراج زكاة الفطر نقداً :
قال به الحسن البصري و طَاوُسٍ وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ وَعُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ وَأَبِو سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ وسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرِ والخليفة عمر ابن عبد العزيز وَمُجَاهِدٍ و سفيان الثوري وَهُوَ قَوْلُ الْأَوْزَاعِيِّ ، وَاللَّيْثِ وهو المشهور عن الإمام أبي حنيفة وأصحابه .
1 – الحسن البصري 2 – طاوس 3 – سعيد بن المسيّب 4 – عروة بن الزبير 5 – أبو سلمة بن عبد الرحمن بن عوف 6 – سعيد بن جبير 7 - الخليفة عمر بن عبد العزيز 8 – مجاهد 9 – سفيان الثوري 10 – أبو حنيفة 11 – أصحاب أبي حنيفة : أ – أبو يوسف يعقوب بن إبراهيم ب – محمد بن الحسن ج – زُفَر 12 – الأوزاعي 13 – الليث .
وبالنظر إلى أسماء الذين قالوا بجواز إخراج النقود في زكاة الفطر ، نلاحظ ما يلي :
1 – جميعهم – بلا إستثناء – من السلف الصالح ، ومن أفضل قرون الأمة الإسلامية ، والذين وصفهم النبيّ r بخيـر الناس ، فقال r : «خَيْرُ النَّاسِ قَرْنِي، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ . . . » () .
فلم يتخطى أحد منهم القرون الثلاثة المفضلة ، ولم يخرج خارج دائرتها .
2 – جميعهم من خيرة العلماء والأئمة ومن ساداتهم .
بعضهم أبناء الصحابة ؛ كعروة بن الزبير ، وأبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف
وكثير منهم تلاميذ الصحابة ؛ كالحسن البصري ، وطاووس ، وسعيد بن المسيب
( حيث تزوج بنت أبي هريرة ) ، وسعيد بن جبير ، ومجاهد ، و . . .
وبعضهم من أئمة المذاهب ؛ كالأوزاعي ، والليـث بن سعد ، وأبي حنيفة . وقريب منهم ؛ كأبي يوسف ، ومحمد بن الحسن ، وزُفر .
وفيهم خليفة راشد ؛ كعمر بن عبد العزيز .
وجميعهم معروفون مشهورون على مستوى العالم الإسلامي ، وأئمة يُقتدى بهم .
وجميعهم أصحاب تقوى ، وورع ، وزهد ، وعبادة .
ليس فيهم – بحمد الله – مَن يتبع الهوى ، ولا مَن يبيع دينه بدنيا غيره.
3 – وجميعهم عاشوا في بيئة ، وزمان يشبه إلى حدٍّ بعيد البيئة والزمان الذي عاش فيه النبيّ r .
ومع هذا فقد غيّروا في فتاواهم ، لتغيّر قليل في عرفهم وبيئاتهم وزمانهم .
فكيف بمن يعيش في بيئة وزمان ، يبتعد عن الذي عاش فيه النبيّ r أربعة عشر قرن ، أي : ألف وأربعمائة سنة ؟ !
وفي مسألة مرتبطة بالبيئة والعرف ، كمسألتنا ؟
( ثاني عشر ) / :
قال الشيخ أحمد الزومان :
[ يُجزيء نِصف صاع من البُرِّ في زكاة الفطر، وهو قول جمهور الصحابة رضي الله عنهم، والتابعين، ومذهب الإمام أبي حنيفة، واختاره أبو عُبَيد القاسم بن سلام ، وشيخ الإسلام ابن تيمية ، والألباني ، وظاهر كلام ابن القيم اختيار هذا القول ، وقوَّاه ابن عبدالهادي () .
الدليل الأول: عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: "كنا نُخرج - إذ كان فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم - زكاةَ الفِطر عن كل صغير وكبير، حرٍّ أو مَملوك - صاعًا من طعام، أو صاعًا من أَقِطٍ، أو صاعًا مِن شَعير، أو صاعًا من تمر، أو صاعًا من زبيب،
فلم نزل نُخرجه () حتى قدم علينا معاوية بن أبي سفيان حاجًّا أو مُعتمِرًا، فكلَّم الناس على المنبر، فكان فيما كلم به الناس أن قال: إني أرى أن مُدَّين من سمراء الشام تَعدِل صاعًا من تمر، فأخذ الناس بذلك،
قال أبو سعيد رضي الله عنه: فأما أنا فلا أزال أخرجه كما كنتُ أُخرجه أبدًا ما عشتُ () .
الدليل الثاني: عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: " أمَر النبي صلى الله عليه وسلم بزكاة الفِطر صاعًا من تمر، أو صاعًا من شعير"،
قال عبدالله رضي الله عنه: " فجعل الناس عِدلَه مُدَّين من حِنطة" () .
" الناس " في حديث أبي سعيد وابن عمر رضي الله عنهما هم الصحابة رضي الله عنهم وكبار التابعين ،
فالذي عليه عمل الصحابة رضي الله عنهم بعد الفتوحات وكثرة الحِنطة: إخراجُ نصف صاع من الحنطة،
وكانت الحِنطة قليلة في المدينة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم فخفيَ الحكْم على بعض الصحابة رضي الله عنهم . . .
صحَّ إخراج نِصف صاع من البُر في زكاة الفطر عن عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان وعبدالله بن الزبير وأمه أسماء وجابر بن عبدالله وأبي هريرة رضي الله عنهم،
ورُوي عن أبي بكر الصديق وعلي بن أبي طالب وابن عباس رضي الله عنهم ،
ولــم أقـف علـى مُخالف في ذلك من الصحابة رضي الله عنهم إلا أبا سعيد رضي الله عنه () ] .
وهذا الصحابيّ الجليل ؛ معاذ بن جبل ، t ، والذي أرسله النبيّ r ، لليمن ، معلماً لهم أمور دينهم .
وكان يعلم تمام العلم – آخذاً من القرآن ، وآخذاً من رسول الله r - أن الزكاة مفروضة في أموال مخصوصة حدد الشرع أعيانها، ومقادير نصابها، وقدر ما يجب إخراجه فيها وبمعايير مخصوصة في أنواع مخصوصة .
ومع هذا فقد قال هذا الصحابيّ ، العالِم الجليل ، مبعوث رسول الله ، r ، لأهل اليمن : ائْتُونِي بِعَرْضٍ ثِيَابٍ خَمِيصٍ - أَوْ لَبِيسٍ - فِي الصَّدَقَةِ مَكَانَ الشَّعِيرِ وَالذُّرَةِ أَهْوَنُ عَلَيْكُمْ وَخَيْرٌ لِأَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْمَدِينَةِ .
يعني حسب الكتاب والسنة : يؤخذ الشعير من الشعير ، والذرة من الذرة ، وكلٌ بمقادير معينة .
ولكنّ معاذاً غيّر الأنواع والأجناس منهما ، وذلك لأمرين وسببين :
1 - ( أهون عليكم ) . أي : للتيسير على الناس . وتسهيل أمور المزكّين .
2 – ( خير لأصحاب النبيّ r ) . أي : خير للفقراء والمساكين .
يعني أنّ معاذاً العالم ؛ مبعوث النبيّ r ، الذي يتقدم العلماء يوم القيامة بخطوة ، والذي شهد له النبيّ r ، بأنه أعلم الصحابة بالحلال والحرام .
هذا الصحابيّ الجليل t ، قد تعلّم من النبيّ r ، أنّ الهدف الرئيسي ، والغاية من الزكاة ، أمران :
أ – تطهير المزكّي من الذنوب والأوساخ والأخلاق الذميمة .
وزيادة أخلاقهم الحسنة ، والأعمال الصالحة ، وثوابهم الدنيوي والأخروي ، وزيادة أموالهم وتنميتها ، بالبركة فيها ()
( خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا ) () .
( يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ ) () .
ب – إيصـال النفـع إلى الفقراء والمساكين ، ورفع المعاناة عنهم ، وتنفيس كروبهم ، وسد إحتياجاتهم .
( لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَــــاءَ مِــنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُـمْ بِسِيمَاهُمْ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيم ) () .
ولقد طبّق هذا المبدأ العظيم – مع أهل اليمن – خير تطبيق .
ولم نسمع أحداً إعترض عليه ، أو إختلف معه !
لا من النبيّ r ، إن كان بين أظهرهم ، ولا من الخلفاء الراشدين ، ولا من الصحابة أجمعين !
فلم يقيّد نفسه ، t ، بظاهر النص . بل غاص في بحر النص ، فأخرج اللآليء المكنونة فيه !
فلقد تعلّم من النبيّ ، r ، الغاية من الزكاة ، للمزكّي ، وللفقير .
هذا في الزكاة المفروضة ؛ المبيّنة في الكتاب والسنة بالتفصيل ، فكيف بزكاة الفطر ؟
وقد ذهب الحافظ ابين تيمية ، رحمه الله ، إلى جواز إخراج القيمة أيضاً ، في الزكاة المفروضة بالكتاب والسنة ، عند الضرورة ، والمصلحة .
وهي زكاة ، نصّ الله تعالى عليها ، في القرآن الكريم ، وفصّلها رسول الله r ، في السنة ، وبيّن أنواعها ، ومقاديرها ، ومع ذلك ، فقـد جوّز الحافظ ابن تيمية ، رحمه الله ، إخراج القيمة فيها ، وذهب الإمام أحمد ، رحمه الله ، إلى الجواز في بعضها !
وهذا هو الذي يليق بعلمهم ، وإمامتهم ، وذكائهم .
فمن العجيب أن يخالفوا ذلك في زكاة الفطر ! !
قال ابن تيمية ، رحمه الله :
[ وَأَمَّا إخْرَاجُ الْقِيمَةِ فِي الزَّكَاةِ وَالْكَفَّارَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ. فَالْمَعْرُوفُ مِنْ مَذْهَبِ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيِّ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ
وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ يَجُوزُ وَأَحْمَد - رَحِمَهُ اللَّهُ - قَدْ مَنَعَ الْقِيمَةَ فِي مَوَاضِعَ وَجَوَّزَهَا فِي مَوَاضِعَ
فَمِنْ أَصْحَابِهِ مَنْ أَقَرَّ النَّصَّ وَمِنْهُمْ مَنْ جَعَلَهَا عَلَى رِوَايَتَيْنِ.
وَالْأَظْهَرُ فِي هَذَا: أَنَّ إخْرَاجَ الْقِيمَةِ لِغَيْرِ حَاجَةٍ وَلَا مَصْلَحَةٍ رَاجِحَةٍ مَمْنُوعٌ مِنْهُ
وَلِهَذَا قَدَّرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْجُبْرَانَ بِشَاتَيْنِ أَوْ عِشْرِينَ دِرْهَمًا وَلَمْ يَعْدِلْ إلَى الْقِيمَةِ
وَلِأَنَّهُ مَتَى جَوَّزَ إخْرَاجَ الْقِيمَةِ مُطْلَقًا فَقَدْ يَعْدِلُ الْمَالِكُ إلَى أَنْوَاعٍ رَدِيئَةٍ وَقَدْ يَقَعُ فِي التَّقْوِيمِ ضَرَرٌ
وَلِأَنَّ الزَّكَاةَ مَبْنَاهَا عَلَى الْمُوَاسَاةِ وَهَذَا مُعْتَبَرٌ فِي قَدْرِ الْمَالِ وَجِنْسِهِ
وَأَمَّا إخْرَاجُ الْقِيمَةِ لِلْحَاجَةِ أَوْ الْمَصْلَحَةِ أَوْ الْعَدْلِ فَلَا بَأْسَ بِهِ:
مِثْلُ أَنْ يَبِيعَ ثَمَرَ بُسْتَانِهِ أَوْ زَرْعِهِ بِدَرَاهِمَ فَهُنَا إخْرَاجُ عُشْرِ الدَّرَاهِمِ يُجْزِئُهُ وَلَا يُكَلَّفُ أَنْ يَشْتَرِيَ ثَمَرًا أَوْ حِنْطَةً إذْ كَانَ قَدْ سَاوَى الْفُقَرَاءَ بِنَفْسِهِ " وَقَدْ نَصَّ أَحْمَد عَلَى جَوَازِ ذَلِكَ.
وَمِثْلُ أَنْ يَجِبَ عَلَيْهِ شَاةٌ فِي خَمْسٍ مِنْ الْإِبِلِ وَلَيْسَ عِنْدَهُ مَنْ يَبِيعُهُ شَاةً فَإِخْرَاجُ الْقِيمَةِ هُنَا كَافٍ وَلَا يُكَلَّفُ السَّفَرَ إلَى مَدِينَةٍ أُخْرَى لِيَشْتَرِيَ شَاةً
وَمِثْلُ أَنْ يَكُونَ الْمُسْتَحِقُّونَ لِلزَّكَاةِ طَلَبُوا مِنْهُ إعْطَاءَ الْقِيمَةِ لِكَوْنِهَا أَنْفَعَ فَيُعْطِيهِمْ إيَّاهَا ()
أَوْ يَرَى السَّاعِي أَنَّ أَخْذَهَا أَنْفَعُ لِلْفُقَرَاءِ.
كَمَا نُقِلَ عَنْ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ لِأَهْلِ الْيَمَنِ: " ائْتُونِي بِخَمِيصِ أَوْ لَبِيسٍ أَسْهَلُ عَلَيْكُمْ وَخَيْرٌ لِمَنْ فِي الْمَدِينَةِ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ " () .
( ثالث عشر ) / :
هناك مَن ينـقل كلاماً عن الإمام أحمد بن حنبل ، رحمه الله ، من غير إعتراض عليه .
بل ينقل كلامــه موافقاً له ، وربما يفتخر ، ويفرح بهذا الكلام !
ونحن ننقل هذا الكلام ، ثم نعلق عليه :
[ قَالَ أَبُو دَاوُد قِيلَ لِأَحْمَدَ وَأَنَا أَسْمَعُ: أُعْطِي دَرَاهِمَ - يَعْنِي فِي صَدَقَةِ الْفِطْرِ - قَالَ: أَخَافُ أَنْ لَا يُجْزِئَهُ خِلَافُ سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - .
وَقَالَ أَبُو طَالِبٍ، قَالَ لِي أَحْمَدُ لَا يُعْطِي قِيمَتَهُ،
قِيلَ لَهُ: قَوْمٌ يَقُولُونَ، عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ كَانَ يَأْخُذُ بِالْقِيمَةِ،
قَالَ يَدَعُونَ قَوْلَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَيَقُولُونَ قَالَ فُلَانٌ ، قَالَ ابْنُ عُمَرَ: فَرَضَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} [النساء: 59]
وَقَالَ قَوْمٌ يَرُدُّونَ السُّنَنَ: قَالَ فُلَانٌ، قَالَ فُلَانٌ ] () .
وأنا أتعجب من هذا الإمام المشهور ، رحمه الله ؛ إمام مذهب من المذاهب المتبوعة ، كيف قال هذا الكلام ؟ !
التعليق :
1 – الإمام أحمد ليس برسول الله ، ولا هو معصوم ، وكلامه ليس بحجة على أحد .
2 – كلامه هذا الذي قاله ، هو إجتهاد منه .
3 – كلامه هذا يعتبر زلة من زلّاته ، تُغرق في بحر حسناته ، إن شاء الله تعالى
لأنه كيف جعل الخليفة الراشد عمر بن عبد العزيز ، رحمه الله ، نِدّاً لرسول الله ، وعاصياً له r ؟ !
وكيف حكم على المسلمين أنهم تركوا اتباع النبيّ r ، واتبعوا عمر بن عبد العزيز ؟ !
وكيـف وازن بيـن النبـيّ r ، وبيـن عمـر بن عبد العزيز ، وكأنهما نِدّان وصنوان ؟ !
4 – إنّ الناس لم يدَعوا قول النبيّ r ، لقول عمر بن عبد العزيز ، رحمه الله .
بل تركوا إجتهاد وفهم الإمام أحمد بن حنبل ، رحمه الله ، واجتهاد وفهم أمثاله ،
واتبعوا إجتهاد وفهم الخليفة الراشد عمر بن عبد العزيز ، رحمه الله ! واجتهاد وفهم أمثاله ، بل وأفضل منه .
فالمقارنة الصحيحة ، هي ليست بين النبيّ r ، وبين عمر بن عبد العزيز .
بل هي بين عمر بن عبد العزيز ، وبين أحمد بن حنبل !
بين علمهما وفهمهما !
5 – إنه قــد حكـم على الخليفة الراشد عمر بن عبد العزيز ، رحمه الله ، وكلُّ مَن قـــال مثل قوله ، وكل الذين اتبعوهم ، بأنهم عصوا الله تعالى ، وعصوا رسوله r ،
فلم يطيعوا الله ورسوله ، والله تعالى يقول : ( أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ ) .
وكذلك جميعهم ردّوا سنة رسول الله r ! !
ولماذا كل هؤلاء عصوا الله تعالى ، وعصوا رسول الله ، وردّوا سنته r ؟
الجواب : لأنهم قالوا بجواز إخراج زكاة الفطر نقداً !
6 – هل فقط عمر بن عبد العزيز ، رحمه الله ، قال بجواز إخراج زكاة الفطر نقداً ؟
إرجع إلى صفحة 37 من هذه الرسالة ، وانظر مرة أخرى ، لتتيقن مَن هم الذين خالفهم أحمد بن حنبل ، رحمه الله ، في إجتهادهم وفهمهم في هذا الموضوع ؟
ولا بأس أن نذكر أسماءهم فقط :
1 – الحسن البصري . 2 – طاوس . 3 – سعيد بن المسيب . 4 – عروة بن الزبير . 5 – أبو سلمة بن عبد الرحمن بن عوف . 6 – سعيد بن جبير . 7 – الخليفة عمر بن عبد العزيز . 8 – مجاهد . 9 – سفيان الثوري . 10 – الأوزاعي . 11 – الليث بن سعد . 12 – أبو حنيفة . 13 – محمد بن الحسن الشيباني . 14 – أبو يوسف يعقوب بن إبراهيم . 15 – زفر .
هؤلاء كلهم قالوا بجواز إخراج زكاة الفطر نقداً ، خلافاً لأحمد بن حنبل وأمثاله .
فهل هؤلاء عصوا الله تعالى ، وعصوا رسول الله ، وردّوا سنّته r ؟ !
وأنا أظن أن الإمام أحمد ، رحمه الله - لصلاحه - لا يقبل أن يرفعه الناس فوق مرتبته ؛ فيجعلوه تلميذاً من تلاميذ بعض أولئك الأئمة !
فالحسن البصري تابعي .
طاوس ، تابعي .
سعيد بن المسيب ، تابعي ، ولد سنة 24 هـ لسنتين مضتا من خلافة عمر بن الخطاب ، زوج بنت أبي هريرة t ، أحد الفقهاء السبعة والمفتين ، في المدينة المنورة من التابعين .
عروة بن الزبير ، تابعي ، إبن حواريّ رسول الله r ، أحد الفقهاء السبعة .
أبو سلمة بن عبد الرحمن بن عوف ، تابعي ، إبن صحابيّ جليل ؛ توفي رسول الله r ، وهو راضٍ عنه ( عبد الرحمن بن عوف t )
سعيد بن جبير ، تابعي .
عمر بن عبد العزيز ، ولد سنة 63 هـ .
مجاهد ، تابعي .
سفيان الثوري ، ولد سنة 97 هـ .
أبو حنيفة ، ولد سنة 80 هـ ، رأى الصحابي الجليل أنس بن مالك ، t .
أبو يوسف يعقوب بن إبراهيم ، تلميذ أبي حنيفة .
محمد بن الحسن الشيباني ، تلميذ أبي حنيفة ، وتلميذ مالك بن أنس ، وشيخ الشافعي .
زفر ، تلميذ أبي حنيفة .
الأوزاعي ، ولد سنة 88 هـ .
الليث بن سعد ، ولد سنة 94 هـ .
هؤلاء لم يفهموا الكلام ، وعصوا الله ورسوله ، وردّوا سنة رسول الله r ؟ !
فكلام الإمام أحمد ، الذي قاله يؤدي إلى هذه النتائج الخاطئة ، ولهذا قلنا : كلامه هذا ، زلة من زلاته !
فأولئك الأئمة لم ينافسوا النبيّ r ، ولم يزاحموه .
بل تنافسوا في فهم أقوال النبيّ وأوامره r ، وخدمة شريعته ، على الذي يرضي الله تعالى ، ويرضي رسوله r .
فكيف يقال عنــهم أنـــهم عصوا الله تعالى ، وعصوا رسوله ، وردّوا سنته r ؟ !
علماً أنه قد روي عن الإمام أحمد بن حنبل ، رحمه الله ، بجواز إخراج القيمة في الزكاة ما عدا زكاة الفطر .
قال الإمام إبن قدامة المقدسي ، رحمه الله :
[ وَقَالَ أَبُو دَاوُد: سُئِلَ أَحْمَدُ، عَنْ رَجُلٍ بَاعَ ثَمَرَةَ نَخْلِهِ. قَالَ: عُشْرُهُ عَلَى الَّذِي بَاعَهُ. قِيلَ لَهُ: فَيُخْرِجُ ثَمَرًا، أَوْ ثَمَنَهُ؟ قَالَ: إنْ شَاءَ أَخْرَجَ ثَمَرًا، وَإِنْ شَاءَ أَخْرَجَ مِنْ الثَّمَنِ.
وَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ إخْرَاجِ الْقِيَمِ.
وَوَجْهُهُ قَوْلُ مُعَاذٍ لِأَهْلِ الْيَمَنِ: ائْتُونِي بِخَمِيصٍ أَوْ لَبِيسٍ آخُذُهُ مِنْكُمْ، فَإِنَّهُ أَيْسَرُ عَلَيْكُمْ، وَأَنْفَعُ لِلْمُهَاجِرِينَ بِالْمَدِينَةِ.
وَقَالَ سَعِيدٌ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ عَمْرٍو، وَعَنْ طَاوُسٍ، قَالَ لَمَّا قَدِمَ مُعَاذٌ الْيَمَنَ، قَالَ: ائْتُونِي بِعَرْضِ ثِيَابٍ آخُذُهُ مِنْكُمْ مَكَانَ الذُّرَةِ وَالشَّعِيرِ، فَإِنَّهُ أَهْوَنُ عَلَيْكُمْ وَخَيْرٌ لِلْمُهَاجِرِينَ، بِالْمَدِينَةِ.
قَالَ: وَحَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنْ لَيْثٍ، عَنْ عَطَاءٍ، قَالَ كَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ يَأْخُذُ الْعُرُوضَ فِي الصَّدَقَةِ مِنْ الدَّرَاهِمِ.
وَلِأَنَّ الْمَقْصُودَ دَفْعُ الْحَاجَةِ ، وَلَا يَخْتَلِفُ ذَلِكَ بَعْدَ اتِّحَادِ قَدْرِ الْمَالِيَّةِ بِاخْتِلَافِ صُوَرِ الْأَمْوَالِ ] () .
( رابع عشر ) / :
والآن أنظر إلى الأقوال النابية ، والفتاوى ، التي تتضمن الطعون والتجريح ، في جميع أئمتنا ؛ الذين عاشوا في خير القرون ، وأفتوا بجواز إخراج زكاة الفطر نقداً .
من قِبَل حفظة نصوص ، حشروا أنفسهم بين العلماء ، وهم لا يصلحون أن يكونوا خدّاماً عند أولئك الأئمة ، لا علماً ، ولا تقوى !
لتعلم لماذا يطعن العوام والطغام فيهم ، ويلوكون لحومهم بكل برودة أعصاب ؟ !
يقول أحدهم :
[ ولا يجوز إخراج القيمة عند جمهور أهل العلم وهو أصح دليلاً ، بل الواجب إخراجها من الطعام ، كما فعله النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم ، وبذلك قال جمهور الأمة ] () .
من أين علم أنه أصح دليلاً ؟
أليس الخلاف في هذه المسألة هو : مَن هو أصح دليلاً ؟
وكيف اهتدى هو وأمثاله إلى ذلك ، دون كل أولئك السلف الصالح وأتباعهم ؟
وهل هم لا يخالفون جمهور الأمة في فتاواهم ؟
هل طلاق الثلاث لفظة واحدة – على سبيل المثال – تعتبر طلقة واحدة عند جمهور الأمة ؟
هل هم حريصون على اتباع جمهور الأمة ؟
لا نريد هنا نتتبع خروجهم – في كثير من الأمور – عن جمهور الأمة !
وقالوا أيضاً :
[ لا يجوز توزيع زكاة الفطر نقدًا على الصحيح فيما نعلم، وهو قول جمهور العلماء] .
إذا كان لا يجوز على الصحيح ، فلماذا خالف وضلّ كل أولئك الأئمة العظام ؛ من السلف الصالح وأتباعهم ، واهتدى هؤلاء الخلف إلى الصواب دونهم ؟ !
وهنا أيضاً يظهرون أنفسهم وكأنهم حريصون على اتباع جمهور العلماء !
وقالوا أيضاً :
[ أما إخراجهــا نقـداً فلا يجزىء ؛ لأنها فرضت من الطعام . . .
ثم قال ـ " فتبين من هذين الحديثين أنها لا تجزىء إلا من الطعام . . .
أما إخراجها نقداً فيجعلها خفية () ، وقد يحابي الإنسان نفسه إذا أخرجها نقداً فيقلل قيمتها () ، فإتباع الشرع () هو الخير والبركة . . . الذي نرى أنه لا يجوز أن تدفع زكاة الفطر نقوداً بأي حال من الأحوال () ، بل تدفع طعاماً .
ثم قال : ولا عبرة بقول من قال من أهل العلم: إن زكاة الفطر تجزىء من الدراهم؛ لأنه ما دام النص عن رسول الله صلى الله عليه وسلم موجوداً، فلا قول لأحد بعده، ولا استحسان للعقول في إبطال الشرع () ، والصواب بلا شك أن زكاة الفطر لا تجزىء إلا من الطعام . . . ] .
يظهر على قول هذا العلامة : أنّ مَن أحسن ، وأعطى نقوداً ، أو ثياباً للمساكين ، ولم يعطهم طعاماً فلن يُقبل منه ، وسيكون سبباً في دخوله النار ، مادام النص عن الله تعالـى موجوداً ! !
حيث يقول تعالى : ( وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَالَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ . وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ . يَالَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ . مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ . هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ . خُذُوهُ فَغُلُّوهُ . ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ . ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ )
ولماذا هذا العذاب ؟ :
والجواب ( إِنَّهُ كَانَ لَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ . وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ )
( فَلَيْسَ لَــهُ الْيــــَوْمَ هَاهُنَـــا حَمِيـــمٌ . وَلَا طَعَــــامٌ إِلَّا مِــنْ غِسْــلِيــنٍ . لَا يَــأْكُلُــهُ إِلَّا الْخَــاطِئُـونَ ) () .
قال الحافظ إبن كثير ، رحمه الله :
[ وَقَوْلُهُ: { إِنَّهُ كَانَ لَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ وَلا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ } أَيْ:
لَا يَقُومُ بِحَقِّ اللَّهِ عَلَيْهِ مِنْ طَاعَتِهِ وَعِبَادَتِهِ، وَلَا يَنْفَعُ خَلْقَهُ وَيُؤَدِّي حَقَّهُمْ؛
فَإِنَّ لِلَّهِ عَلَى الْعِبَادِ أَنْ يُوَحِّدُوهُ وَلَا يُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا،
وَلِلْعِبَادِ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ حَقُّ الْإِحْسَانِ وَالْمُعَاوَنَةِ عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى؛
وَلِهَذَا أَمَرَ اللَّهُ بِإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ ، وَقُبِضَ النَّبَيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يَقُولُ: "الصَّلَاةَ، ومـــا ملكــت أيمـــانـكم" ] () .
فالحافظ إبن كثير ، رحمه الله ، يفسر هنا ( الحض على الإطعام ) بالإحسان والمعاونة على البر والتقوى ، ولا يقصّرها على الطعام ، وإن كان النص عن الله تعالى موجوداً !
وكذلــك لا يمــدح الله تعالـى ، إلّا الذين يطعمون الطعام دون غيرهم ، مادام النص عن الله تعالى موجوداً :
حيث يقول تعالى : ( وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا ) () .
[ عن قتادة ، قوله: (وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا) قال: لقد أمر الله بالأسراء أن يحسن إليهم ] ()
فهنــا جـــاء تفسـيـر ( ويطعمــون الطعـام )
عن قتادة (حَافِظ العَصْرِ، قُدْوَةُ المفسِّرِيْنَ وَالمُحَدِّثِيْن ) () ،
بـ( الإحسان ) كما ذكر الإمام الطبري .
ولو أنّ المسألة لا تحتاج إلى إيراد أقوال السلف الصالح وأتباعهم ، فهي واضحة
ولكن نستأنس بأقوالهم ؛ ترجيحاً على أقوال واجتهادات الخلف وأتباعهم !
وإلّا مَن هو هذا الذي يقصّر الإحسان ، ومساعدة الفقير والمساكين على الطعام فقط ؟ !
فهل الإحسان هو فقط : إطعام الطعام ؟ !
وقال الشنقيطي ، رحمه الله ، أيضاً في تفسيره لتلك الآية الكريمة ( ويطعمون الطعام ) :
[ وَهَؤُلَاءِ الْأَسَارَى بَعْدَ وُقُوعِهِمْ فِي الْأَسْرِ، لَمْ يَبْقَ لَهُمْ حَوْلٌ وَلَا طَوْلٌ. فَلَمْ يَبْقَ إِلَّا الْإِحْسَانُ إِلَيْهِم ]ٍ () .
فالمفسرون يفسّرون ( إطعام الطعام ) بالإحسان !
والإحسان إلى الفقير لا يقتصر على إعطائه الطعام !
ثم انظر إلى إستهانته ، بأقوال وعلم كل أولئك الأئمة العظام من السلف الصالح ، رحمهم الله تعالى :
( ولا عبرة بقول من قال من أهل العلم : إن زكاة الفطر تجزىء من الدراهم؛ لأنه ما دام النص عن رسول الله صلى الله عليه وسلم موجوداً، فلا قول لأحد بعده، ولا استحسان للعقول في إبطال الشرع ) ! !
وانظر إلى إضافة اليقين والصواب إلى فهمه ، وإضافة الخطأ والمخالفة للشرع ، إلى أولئك السلف الصالح وأتباعهم :
(والصواب بلا شك أن زكاة الفطر لا تجزىء إلا من الطعام ) ! !
والغريـب أنه مادام الحديث قال : ( طعمة للمساكين ) فيجب أن تكون الزكاة طعاماً ، على حد زعمه وفهمه ! !
ويقول : فالنقود أي الدراهم تُقضى بها الحاجات ؛ من مأكول ومشروب وملبوس وغيرها ( يعني هي ليست طعمة ) !
وربما هذا العلّامة يعيب الظاهرية ، وهو ظاهريّ إلى النخاع ، ليس في علم الإمام إبن حزم ، بل فقط في ظاهريته !
ولا ندري حسب فهمه العجيب هذا ، هل الإيمان أيضاً هو طعام ؟ ! :
حيث جاء ( عَنِ الْعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ ، أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، يَقُــولُ : « ذَاقَ طَعْــمَ الْإِيمَانِ مَــنْ رَضِيَ بِــاللهِ رَبًّا ، وَبِالْإِسْلَامِ دِينًا ، وَبِمُحَمَّدٍ رَسُولًا » ) () .
قال العلماء والفقهاء ، عن معنى هذا الحديث المبارك :
[ وَلَا شَكَّ فِي أَنَّ مَنْ كَانَتْ هَذِهِ صِفَتَهُ فَقَدْ خَلَصَتْ حَلَاوَةُ الْإِيمَانِ إِلَى قَلْبِهِ وَذَاقَ طَعْمَهُ
وَقَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ رَحِمَهُ اللَّهُ مَعْنَى الْحَدِيثِ صَحَّ إِيمَانُهُ وَاطْمَأَنَّتْ بِهِ نَفْسُهُ وَخَامَرَ بَاطِنَهُ
لِأَنَّ رِضَاهُ بِالْمَذْكُورَاتِ دَلِيلٌ لِثُبُوتِ مَعْرِفَتِهِ وَنَفَاذِ بَصِيرَتِهِ وَمُخَالَطَةِ بَشَاشَتِهِ قَلْبَهُ لِأَنَّ مَنْ رَضِيَ أَمْرًا سَهُلَ عَلَيْهِ
فَكَذَا الْمُؤْمِنُ إِذَا دَخَلَ قَلْبَهُ الْإِيمَانَ سَهَّلَ عَلَيْهِ طَاعَاتُ اللَّهِ تَعَالَى وَلَذَّتْ لَهُ وَاللَّهُ أَعْلَم ] () .
و (عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ :
" ثَلاَثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ وَجَدَ حَلاَوَةَ الإِيمَانِ: أَنْ يَكُونَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا، وَأَنْ يُحِبَّ المَرْءَ لاَ يُحِبُّهُ إِلَّا لِلَّهِ، وَأَنْ يَكْرَهَ أَنْ يَعُودَ فِي الكُفْرِ كَمَا يَكْرَهُ أَنْ يُقْذَفَ فِي النَّارِ " ) ()
قال الأئمة ، عن معنى هذا الحديث :
[ هَذَا حَدِيثٌ عَظِيمٌ أَصْلٌ مِنْ أُصُولِ الْإِسْلَامِ قَالَ الْعُلَمَاءُ رَحِمَهُمُ اللَّهُ
مَعْنَى حَلَاوَةَ الْإِيمَانِ اسْتِلْذَاذُ الطاعات وتحمل المشقات في رضى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَرَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَإِيثَارُ ذَلِكَ عَلَى عَرَضِ الدُّنْيَا
وَمَحَبَّةِ الْعَبْدِ رَبَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بِفِعْلِ طَاعَتِهِ وَتَرْكِ مُخَالَفَتِهِ وَكَذَلِكَ مَحَبَّةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ الْقَاضِي رَحِمَهُ اللَّهُ
هَذَا الْحَدِيثُ بِمَعْنَى الْحَدِيثِ الْمُتَقَدِّمِ ذَاقَ طَعْمَ الْإِيمَانِ مَنْ رَضِيَ بِاللَّهِ) ] () .
وقال الحافظ إبن حجر العسقلاني ، رحمه الله :
[ وَفِي قَوْلِهِ حَلَاوَةُ الْإِيمَانِ اسْتِعَارَةٌ تَخْيِيلِيَّةٌ
شَبَّهَ رَغْبَةَ الْمُؤْمِنَ فِي الْإِيمَانِ بِشَيْءٍ حُلْوٍ وَأَثْبَتَ لَهُ لَازِمَ ذَلِكَ الشَّيْءِ وَأَضَافَهُ إِلَيْه ] () .
هذا هو العلم ، وهذا هو فهم العلماء والأئمة !
لا التشبّث بالطعام ، آخذاً الفهم من حروف الكلمات – وهو ما سمّاه العلماء : الفهم المعجمي ( القاموس اللغويّ ) () !
وقالوا أيضاً :
[ زكاة الفطر لا تصح () من النقود
والعبــــادات لا يجوز تعدي الشرع فيها بمجرد الاستحسان () ، فإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم فرضها طُعمة للمساكين، فإن الدراهم لا تطعم، فالنقود أي الدراهم تُقضى بها الحاجات؛ من مأكول ومشروب وملبوس وغيرها.
ثم إن إخراجها من القيمة يؤدي إلى إخفائها وعدم ظهورها () ،
لأن الإنسان تكون الدراهم في جيبه ، فإذا وجد فقيراً أعطـــاها لـه () فلم تتبين هذه الشعيرة () ولم تتضح لأهل البيت () .
ولأن إخراجها من الدراهم قد يخطئ الإنسان في تقدير قيمتها فيخرجها أقل () فلا تبرأ ذمته بذلك، ولأن الرسول صلى الله عليه وسلم فرضها من أصناف متعددة مختلفة القيمة، ولو كانت القيمة معتبرة لفرضها من جنس واحد ، أو ما يعادله قيمة من الأجناس الأخرى () ] .
[ وزكـــاة الفطــر عبــادة () بإجماع المسلمين ، والعبادات الأصل فيها التوقيف () ،
فلا يجوز لأحد أن يتعبد بأي عبادة إلا بما ثبت عن المشرع الحكيم عليه صلوات الله وسلامه ، الذي قال عنه ربه تبارك وتعالى:
وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى . إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى ،
وقال هو في ذلك :
(( من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد )) ،
(( من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد )) () .
وقد بيَّن هو صلوات الله وسلامه عليه زكاة الفطر بما ثبت عنه في الأحاديث الصحيحة : صاعاً من طعام () ، أو صاعاً من تمر ، أو صاعاً من شعير ، أو صاعاً من زبيب ، أو صاعاً من إقط .
فقـد روى البخاري ومسلم رحمهما الله ، عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال : (( فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم زكاة الفطر صاعاً من تمر أو صاعاً من شعير على العبد والحر والذكر والأنثى والصغير والكبير من المسلمين ، وأمر بها أن تؤدى قبل خروج الناس إلى الصلاة () )) .
وقال أبو سعيد الخدري رضي الله عنه : ( كنا نعطيها في زمن النبي صلى الله عليه وسلم صاعاً من طعام أو () صاعاً من تمر ، أو صاعاً من شعير أو صاعاً من زبيب ) ، وفــي روايــة (( أو صاعاً من إقط )) متفق على صحته .
فهذه سنة محمد () صلى الله عليه وسلم في زكاة الفطر
ومعلوم أن وقت هذا التشريع وهذا الإخراج يوجد بيد المسلمين وخاصة في مجتمع المدينة الدينار والدرهم اللذان هما العملة السائدة () آنذاك ولم يذكرهما صلوات الله وسلامـه عليــه فــي زكــاة الفطـر ، فلو كان شيء يجزئ في زكاة الفطر منهما لأبانه () صلوات الله وسلامه عليه ؛
إذ لا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة () ،ولو فعل ذلك لنقله أصحابه رضي الله عنهم .
وما ورد في زكاة السائمة من الجبران المعروف مشروط بعدم وجود ما يجب إخراجه ، وخاص بما ورد فيه ، كما سبق أن الأصل في العبادات التوقيف ، ولا نعلم أن أحداً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أخرج النقود في زكاة الفطر ، وهم أعلم الناس بسنته صلى الله عليه وسلم وأحرص الناس على العمل بها () ،
ولو وقع منهم شيء من ذلك لنقل كما نقل غيره من أقوالهم وأفعالهم المتعلقة بالأمور الشرعية () ، وقــد قــال الله سبحانـه : لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ () ،
وقال عز وجل : " وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ () رَّضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ .
ومما ذكرنا يتضح لصاحب الحق () أن إخراج النقود في زكاة الفطر لا يجوز ولا يجزئ عمن أخرجه () ؛ لكونه مخالفاً لما ذكر من الأدلة الشرعية .
وأسأل الله أن يوفقنا وسائر المسلمين للفقه في دينه () ، والثبات عليه () والحذر من كل ما يخالف شرعه () ، إنه جواد كريم ، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه ] .
نقلت هذه الأقوال النابية ، لمعرفة مكمن الداء ، ومِن أين يصدر العوام والطغام ، في الطعن ، وفي محـاربة الأئـمة والعلماء ؟ !
وكل تلك الأقوال التي فاه بها ، هؤلاء الذين يعتبرون أنفسهم علماء ، مجتهدون – ويعتبرهم جماعتهم كذلك – إن هي إلّا تعصباً لمذهب معين ، وتحزّباً لجهة معيّنة ، باسم الله تعالى ، وباسم رسول الله r !
( وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُون ) () .
( خامس عشر ) / :
ولقد ذكرنا من أدلتهم العقلية ، والحكمة – حسب زعمهم – في ترجيح إخراج الطعام في زكاة الفطر ، على إخراجها نقوداً ما قالوا :
( وإخراجها طعاماً يظهرها ويبينها ويعرفها أهل البيت جميعاً ، وفي ذلك إظهار لهذه الشعيرة، أما إخراجها نقداً فيجعلها خفية () ) !
يعني إظهار الصدقة هنا وبيانها ، أفضل من إخفائها !
مَن قال ذلك ؟ والله سبحانه يقول : (إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ) () .
قال الحافظ ابن كثير ، رحمه الله :
[ وقوله تعالى: { إِن تُبْدُواْ الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ } أَيْ إِنْ أظهرتموها فنعم شيء هي،
وقوله تعالـــى: { وَإِن تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ }
فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ إِسْرَارَ الصَّدَقَةِ أَفْضَلُ مِنْ إِظْهَارِهَا، لِأَنَّهُ أَبْعَدَ عَنِ الرِّيَاءِ،
إِلَّا أَنْ يَتَرَتَّبَ عَلَى الْإِظْهَارِ مَصْلَحَةٌ رَاجِحَةٌ مِنَ اقْتِدَاءِ النَّاسِ بِهِ، فَيَكُونَ أَفْضَلَ مِنْ هَذِهِ الْحَيْثِيَّةِ.
وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْجَاهِرُ بِالْقُرْآنِ كَالْجَاهِرِ بِالصَّدَقَةِ والمسرُّ بِالْقُرْآنِ كَالْمُسِرِّ بِالصَّدَقَةِ».
وَالْأَصْلُ: أَنَّ الْإِسْرَارَ أَفْضَلُ لِهَذِهِ الْآيَةِ،
وَلِمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
"سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمُ اللَّهُ فِي ظِلِّهِ يَوْمَ لَا ظِلَّ إِلَّا ظِلُّهُ: إِمَامٌ عَادِلٌ، وَشَابٌّ نَشَأَ فِي عِبَادَةِ اللَّهِ، وَرَجُلَانِ تَحَابَّا فِي اللَّهِ اجْتَمَعَا عَلَيْهِ وَتَفَرَّقَا عَلَيْهِ، وَرَجُلٌ قَلْبُهُ مُعَلَّقٌ بِالْمَسْجِدِ إِذَا خَرَجَ مِنْهُ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْهِ، وَرَجُلٌ ذَكَرَ اللَّهَ خَالِيًا فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ، وَرَجُلٌ دَعَتْهُ امْرَأَةٌ ذَاتُ مَنْصِبٍ وَجِمَالٍ فَقَالَ: إِنِّي أخاف الله رب العالمين
وَرَجُلٌ تصدَّق بِصَدَقَةٍ فَأَخْفَاهَا حَتَّى لَا تَعْلَمَ شِمَالُهُ ما تنفق يمينه".
وفي الحديث المروي: « صدقة السر تطفىء غَضَبَ الرَّبِّ عزَّ وجلَّ » ] () .
وكأن الكتاب والسنة ، يأمران بإظهار زكاة الفطر ، والمجيزون بإخراجها نقداً ، يأمرون بإخفائها !
فيأتي هؤلاء فيبيّنون حكمة أمر الشرع وجماله ، في الإظهار ، والإعلان ،
وقبح مخالفة الشرع ، في الإخفاء والستر !
و يبيّنون العلاقة الحتمية بين :
إخراج زكاة الفطر نقوداً والسر والإخفاء ،
وإخراجها طعاماً والإظهار والإعلان !
( سادس عشر ) / :
الإسلام – الرسالة الأخيرة إلى أهل الأرض – جاء لكل زمان ومكان ، ولكل العصور والأصقاع ، له هدف وغاية أساسية وهي : الخلافة في الأرض ، وتعميرها .
( وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَة ) ()
أي : [ إني متخذ في الأرض خليفة، يقوم بعمارتها وسكناها، وينفذ أحكامي فيها بين الناس ] () .
أي : [ يخلفني في تنفيذ أحكامي، والقيام بأوامري ] ()
( هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا ) () .
[ { واستعمركم فِيهَا } أي جعلكم عمَّارها وسكانها تسكنون بها ] () .
[ ( هُوَ أَنشَأَكم مِنَ الأَرْضِ ) أي خلقكم من الطين ، (واسْتَعْمَرَكمْ فِيهَا ) أي جعلكم تعمرونها فتنشئون فيها المباني والحدائق الغناء ،
والسين والتاء في كلمة ( اسْتَعْمَرَكمْ ) معناهما التكليف لعباده أن يعمروها فهو سبحانه مظهرهم على ما جعلهم يسخرون السماوات والأرض بما قدره تعالى لهم ] ()
وهذا الهدف ذو شقين :
أ – العلاقة الطيّبة من الإنسان ، مع الله تعالى .
وذلك بتحقيق عبودية الإنسان وإظهارها ، أمام ألوهية الله تعالى وربوبيته سبحانه .
ب – العلاقة الطيّبة بين أبنـاء آدم عامــة ، والبشرية جميعاً ، والمسلمون فيما بينهم خاصة .
وذلك بالتعاون والتكافل فيما بينهم .
فالمجتمع الإسلامي ، هو المجتمع الذي تحقق فيه ذلك الهدف بشقيه .
فالمسلمون – خاصة – في هذا المجتمع ، يتواسون فيما بينهم .
فالغني يواسي الفقير ، ويسعى – بما أنعم الله تعالى عليه – في تفريج كروبه ، وسد خلته ، وإدخال السرور إلى قلبه .
واحتياجات الفقير – كما هو معلوم – تتغير ، وتختلف حسب الزمان والمكان .
فرُبّ أمرٍ أو شيءٍ ، يكون من التحسينات للإنسان ، في زمانٍ أو مكانٍ ما .
ويكون نفـس الشـيء مـن الحاجيات ، في زمانٍ ومكانٍ آخر .
ويكون نفسه من الضروريات ، في زمانٍ ومكانٍ آخر .
وقد يكـون الفقيـر محتاجاً إلى الطعام ، في زمان وبيئة معينة .
ومحتاجاً إلى المال ، في عصر وبيئة أخرى .
فالغني مأمور بمواساته ، بما يسد فاقته ، ويشبع حاجاته .
ولقد أكّد الإسلام على هذا الأمر ، في آيات عديدة :
يقول تعالى :
( خُذُوهُ فَغُلُّوهُ . ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ . ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ . إِنَّهُ كَانَ لَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ . وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ . فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَاهُنَا حَمِيمٌ .
وَلَا طَعَامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ . لَا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخَاطِئُون ) () .
وكما ذكرنا سابقاً ، فقد قال الحافظ ابن كثير ، رحمه الله :
[وَقَوْلُهُ: { إِنَّهُ كَانَ لَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ وَلا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ }
أَيْ : لَا يَقُومُ بِحَقِّ اللَّهِ عَلَيْهِ مِنْ طَاعَتِهِ وَعِبَادَتِهِ، وَلَا يَنْفَعُ خَلْقَهُ وَيُؤَدِّي حَقَّهُمْ؛
فَإِنَّ لِلَّهِ عَلَى الْعِبَادِ أَنْ يُوَحِّدُوهُ وَلَا يُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا ، وَلِلْعِبَادِ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ حَقُّ الْإِحْسَانِ وَالْمُعَاوَنَةِ عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى ؛
وَلِهَذَا أَمَرَ اللَّهُ بِإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ ، وَقُبِضَ النَّبَيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يَقُــولُ : " الصَّــلَاةَ ، وما ملـكت أيمانكم" ] () .
فأمره ، سبحانه وتعالى ، بإقامة الصلاة ، وعقابه للذي لا يؤمن بالله العظيم ، يتعلق بالشق الأول للهدف الكبير ، والغاية الأساسية للحياة في هذه الدنيا .
وأمره ، عزّ وجل ، بإيتاء الزكاة ، وعقابه للذي لا يحض على طعام المسكين – فضلاً عن عدم إطعامه – يتعلق بالشق الثاني للهدف الكبير ، والغاية الأساسية للحياة في الدنيا !
والله ، سبحانه وتعالى ، قد ربط بين شقَّي الهدف الكبير ، في آيات أخرى : يقول تعالى :
( أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ . فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ . وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ . فَوَيْـــــلٌ لِلْمُصَلِّيـــنَ . الَّـــــــذِيـــــــنَ هُـــــــمْ عَـــنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ . الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ . وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ ) () .
[ وانظر إلى علامة المكذب بيوم الدين التي ذكرها القرآن:
منع الحقوق وإيذاء الضعفاء، والبخل الشديد على المستحقين ،
إذا عرفت ذلك فويل وهلاك للمصلين الذين هم عن صلاتهم غافلون،
الذين يصلون صلاتهم بدون خشوع وخضوع، وبدون استحضار قلبي لعظمة الله، وبدون تدبر لمعانى ما يقرءون، صلاة لا يشعر صاحبها أنه بين يدي الخالق
فتراه يسبح بفكره ويسرح طرفه ويتحرك ويعبث بأطرافه ولا يعرف عدد ما يصلى،
تلك صلاة بعض الناس الذين يكذبون بيوم الدين وهي بلا شك لا تنهى عن الفحشاء والمنكر، وقد سها أصحابها عن ذكر الله وهم لذلك يراءون الناس ويذكرونهم ويفعلون لهم ولا يفعلون لله ،
وهم لشدة الشح وكثرة البخل يمنعون الماعون!
أرأيت من يكذب بالدين؟
هو الذي يشتد على اليتيم، ولا يعطى حقوق المساكين وهو غافل عن صلاته مراء للناس في عمله، ومانع خيره عن غيره، فالويل ثم الويل لهؤلاء، إن صاموا وإن صلوا ] () .
فانظر كيف ربط الله تعالى بين الأمرين ؟ !
ولقد إقترن الأمر بإقامة الصلاة مع إيتاء الزكاة ، في القرآن الكريم ( 29 ) مرة.
وهما شقي الهدف الكبير ، والغاية الأساسية من الحياة !
ويقول تعالى : ( فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ . وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ . فَكُّ رَقَبَةٍ . أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ . يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ . أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ . ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ . أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ . وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا هُمْ أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ . عَلَيْهِم نَارٌ مُؤْصَدَةٌ ) () .
ويقول تعالى : ( كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ . إِلَّا أَصْحَابَ الْيَمِينِ . فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءَلُونَ . عَنِ الْمُجْرِمِينَ . مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ . قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ . وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِين ) () .
وإطعام الطعام ، هو كناية عن سدّ فاقة الفقير ، وإشباع حاجاته .
حيث في ذلك الزمان – ولاسيما في وقت التنزيل – كان الطعام من أولويات احتياجاته ، وضرورياته .
ثم إنّ نص الشارع ، على الحبوب والثمار والمواشي ، كان ( للتيسير ورفـع الحرج لا لتقييد الواجب وحصر المقصود فيه .
لأن أهل البادية وأرباب المواشي تعزُّ فيهم النقود ، وهم أكثر مَن تجب عليه الزكاة ،
فكان الإخراج مما عندهم أيسر عليهم
فلذلك فُرض على أهل المواشي أن يتصدّقوا من ماشيتهم ، وعلى أهل الحَبّ من حَبّهم ، وعلى أهل الثمار من ثمارهم ، وعلى أهل النقد من نقدهم تيسيراً على الجميع ،
ولئلّا يكلّف أحد استحضار ما ليس عنده ، مع اتحاد المقصد في الجميع ، وهو مواساة الفقراء ) .
ولقـد تفقّــه أعلــم الصحابة بالحلال والحرام ، بشهادة رسول الله r ، معاذ بن جبل t ، هــذا الأمــر ، خيــر فهــم وفقـه ، ولذلك قال لأهل اليمن – وهو مبعوث رسول الله r ، إليهم – :
( ائْتُونِي بِعَرْضٍ ثِيَابٍ خَمِيصٍ - أَوْ لَبِيسٍ - فِي الصَّدَقَةِ مَكَانَ الشَّعِيرِ وَالذُّرَةِ
أَهْوَنُ عَلَيْكُمْ وَخَيـْرٌ لِأَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّـــى اللهُ عَلَيــْهِ وَسَلَّمَ بِالْمَدِينَةِ ) () .
( ومعلوم أنّ رفع الحرج والكلفة في الحواضر اليوم إنّما هو في دفع المال ، لا في إخراج الحَبِّ ، بالنسبة لكل من الآخذ والمعطي ،
كما أن العلة التي من أجلها أمَر الشارع بإخراج الطعام وهي قلة النقود وعدم تيسيرها للجميع ، قد زالت .
وانعكس الحال ، فصارت النقود مُيَسّرة للجميع بخلاف الحَبِّ .
فوجب أن يدور الحُكم مع العلة ، وينتقل إلى الأسهل الأيسر وهو المــال ، الـذي هو أيـضــاً الأصـــل فـي دفع الصدقات ) () .
وهذا الأمر ليس بالغريب عن أسـلوب القـــرآن الكريـــم ، ومخاطباتـه .
فكما هو معروف ، قد استخدم القرآن الكريم مصطلحات كانت شائعة في زمن التنزيل ، لم يقصد حصر الأوامر وتقيّدها بها .
والقرآن هو الرسالة الخالدة لكل زمان ومكان ، وللناس جميعاً إلى يوم القيامة ، فكيف بالسنة الشريفة ؟
فعلى سبيل المثال : رباط الخيل .
يقول تعالى :
( وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَـــــدُوَّ اللَّــــــــــــهِ وَعَدُوَّكُــــــمْ وَآخَـــــــــــــــــــــرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ ) ()
[ تضمنت الآيات قواعد أو مبادئ أربعة مهمة في العلاقات الدولية بين المسلمين وغيرهم، وهي خطاب لجميع المؤمنين :
القاعدة الأولى: الاستعداد الدائم لمواجهة الأعداء، بجميع أوجه الإعداد المادي والمعنوي والفني والمالي، بما يناسب كل عصر وزمان ،
لأن الجيش المقاتل درع البلاد وسياج الوطن، به يدفع العدوان ، وتدحر قوى البغي والشر والتسلط ،
ولا يعقل أن نواجه الأعداء إلا بنفس المستوى الحربي والسلاح المتطور الذي تعتمد عليه الجيوش المحاربة ، وبالقوى المماثلة المناظرة عند الآخرين ،
لذا وردت كلمة قُوَّةٍ نكرة في قوله تعالى: مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وهي تشمل مختلف أنواع القوى البرية والبحرية والجوية ، من حيوان وسلاح وألبسة وآلات ونفقات وتقنيات متطورة ، ولما كانت الخيول في الماضي هي أصل الحروب وأقوى القوى وحصون الفرســان، خصهــا الله بالذكـر تشريفــا لهـا، وإذا تغيرت الوسائـل الحربية، تغير الواجب ] () .
وقال الشيخ السعدي ، رحمه الله ، في تفسيره :
[ { وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ } وهذه العلة موجودة فيها في ذلك الزمان ، وهي إرهاب الأعداء ، والحكم يدور مع علته.
فإذا كان شيء موجود أكثر إرهابا منها، كالسيارات البرية والهوائية، المعدة للقتال التي تكون النكاية فيها أشد، كانت مأمورا بالاستعداد بها ، والسعي لتحصيلها ، حتى إنها إذا لم توجد إلا بتعلُّم الصناعة ، وجب ذلك ، لأن ما لا يتم الواجب إلا به، فهو واجب ] () .
فهل يُعقل أن يصرّ بعضهم على رباط الخيل – في المعارك في هذا العصر – بحجة أنّ القرآن الكريم قد نصّ على ذلك ؟ !
أم أنه يركّز على رباط الدبّابات والمدرّعات والآليات المستخدمة في الحروب في هذا الزمان ، بدل رباط الخيل ؟
طالما أنّ هذه الوسائل المتغيّرة ، تحقق نفس الغاية الثابتة المقصودة منها .
فالغاية من رباط الخيل في زمن التنزيل هي : إرهاب العدو الشرس ، وتخويفه من أن يقتل ، أو يعتدي على الحرمات .
فهذه الغاية ثابتة لا تتغيّر .
وهذه الغاية الثابتة ، كان رباط الخيل ، هو إحدى وسائل تحقيقها ، في عصر الوحي .
ولكن هذه الوسيلة قد تغيّرت ، بوسيلة أخرى تؤدّي إلى نفس الغاية وهي : رباط الدّبابات والمدرّعات والآليات .
فهل يصر البعــض على نفس الوسيلة القديمة ( رباط الخيل ) ، قبل أكثر من عشرة قرون ، بحجة أنّ القرآن الكريم قد نصّ على ذلك ؟
وكذلـك فــي السنة أيضــاً ، قـد استخدم النبيّ r ، أمثلة من واقع الناس في عصره r ، لفهمهم ، وتقريب المعنى إليهم .
على سبيل المثال : إستخدام ( الإبِل ) .
لماذا الإبِل ؟
لأنه الحيوان الذي كانوا يعتمدونه ، وكان شائعاً بينهم :
[ روى البخاري (6498) ، ومسلم (2547) عن عَبْد اللَّهِ بْن عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: ( إِنَّمَا النَّاسُ كَالإِبِلِ المِائَةِ ، لاَ تَكَادُ تَجِدُ فِيهَا رَاحِلَةً )
هذا لفظ البخاري ، ولفـظ مسلم : ( تَجِدُونَ النَّاسَ كَإِبِلٍ مِائَةٍ ، لَا يَجِدُ الرَّجُلُ فِيهَا رَاحِلَةً ) .
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله:
" فَالْمَعْنَى:
لَا تَجِدُ فِي مِائَةِ إِبِلٍ رَاحِلَةً تَصْلُحُ لِلرُّكُوبِ، لِأَنَّ الَّذِي يَصْلُحُ لِلرُّكُوبِ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ وَطِيئًا سَهْلَ الِانْقِيَادِ،
وَكَذَا لَا تَجِدُ فِي مِائَةٍ مِنَ النَّاسِ مَنْ يَصْلُحُ لِلصُّحْبَةِ، بِأَنْ يُعَاوِنَ رَفِيقَهُ وَيُلِينَ جَانِبَهُ . . .
قَالَ الْخَطَّابِيُّ : تَأَوَّلُوا هَذَا الْحَدِيثَ عَلَى وَجْهَيْنِ :
أَحَدُهُمَا : أَنَّ النَّاسَ فِي أَحْكَامِ الدِّينِ سَوَاءٌ ، لا فضل فِيهَا لِشَرِيفٍ عَلَى مَشْرُوفٍ، وَلَا لِرَفِيعٍ عَلَى وَضِيعٍ ،
كَالْإِبِلِ الْمِائَةِ الَّتِي لَا يَكُونُ فِيهَا رَاحِلَةٌ، وَهِيَ الَّتِي تُرْحَلُ لِتُرْكَبَ . . .
وَالثَّانِي: أَنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ أَهْلُ نَقْصٍ، وَأَمَّا أَهْلُ الْفَضْلِ فَعَدَدُهُمْ قَلِيلٌ جِدًّا ،
فَهُمْ بِمَنْزِلَةِ الرَّاحِلَةِ فِي الْإِبِل الحمولة ، وَمِنْه قَوْله تَعَالَى : (وَلَكِن أَكثر النَّاس لَا يعلمُون) .
قُلْتُ: وَأَوْرَدَ الْبَيْهَقِيُّ هَذَا الْحَدِيثَ فِي كِتَابِ الْقَضَاءِ فِي تَسْوِيَةِ الْقَاضِي بَيْنَ الْخَصْمَيْنِ ، أَخْذًا بالتأويل الأول . . .
وَالْمَعْنَى : أَنَّ الزَّاهِدَ فِي الدُّنْيَا ، الْكَامِلَ فِيهِ ، الرَّاغِبَ فِي الْآخِرَةِ : قَلِيلٌ ؛ كَقِلَّةِ الرَّاحِلَةِ فِي الْإِبِلِ .
وَقَالَ النَّوَوِيُّ: هَذَا أَجْوَدُ . وَأَجْوَدُ مِنْهُمَا قَوْلُ آخَرِينَ:
إِنَّ الْمَرْضِيَّ الْأَحْوَالِ مِنَ النَّاسِ الْكَامِلَ الْأَوْصَافِ قَلِيلٌ. . .
وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: الَّذِي يُنَاسِبُ التَّمْثِيلَ:
أَنَّ الرَّجُلَ الْجَوَادَ الَّذِي يَحْمِلُ أَثْقَالَ النَّاسِ ، وَالْحَمَالَاتِ عَنْهُمْ ، وَيَكْشِفُ كُرَبَهُمْ : عَزِيزُ الْوُجُودِ ، كالراحلة فِي الْإِبِل الْكَثِيرَة .
وَقَالَ ابن بَطَّالٍ : مَعْنَى الْحَدِيثِ :
أَنَّ النَّاسَ كَثِيرٌ ، وَالْمَرْضِيَّ مِنْهُمْ قَلِيلٌ .
وَإِلَى هَذَا الْمَعْنَى أَوْمَأَ الْبُخَارِيُّ بِإِدْخَالِهِ فِي بَابِ رَفْعِ الْأَمَانَةِ ، لِأَنَّ مَنْ كَانَتْ هَذِهِ صِفَتَهُ فَالِاخْتِيَارُ عَدَمُ مُعَاشَرَتِهِ ".
انتهى من " فتح الباري "(11/ 335) .
فتحصل من هذا : أن الحديث يحتمل أن يكون المراد منه التسوية بين الناس .
ويحتمل أن يكون المراد : أن مرضي الدين والخلق من الناس قليل أو نادر ، كما أنك قد تجد مائة من الإبل وليس فيها واحدة تصلح للركوب .
وهذا المعنى الثاني هو الذي اختاره أكثر العلماء . . .
وانظر : " مرقاة المفاتيح " (8/ 3360) ، "عمدة القاري" (23/ 85) ، "التيسير" (1/ 359) ، "حاشية السندي على ابن ماجه" (2/ 479) .
والله أعلم ] () .
[ وعن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :
(( إنما مثل صاحب القرآن كمثل صاحب الإبل المعقلة ، إن عاهد عليها أمسكها ، وإن أطلقها ذهبت )) () .
في هذا الحديث مثّل النبي صلى الله عليه وسلم الشخص الذي يحفظ القرآن بصاحب الإبل المعقلة المربوطة
إن جعلها مربوطة استطاع أن يمسكها ، وإن أطلق رباطها صعب عليه مسكها .
ولقد كان للإمام الشافعي ، رحمه الله ، إجتهادات وأقوال ، وهو في العراق ؛ يسمى : القول القديم .
فلما انتقل إلى مصر ، كان له أقوال جديدة ، يقال عنها : القول الجديد .
وأحد أسباب ذلك هو : تغيّر العرف والعادة والبيئة والزمان .
ولماذا نرى كتب الفتوى في كل عصر ومصر تتجدّد ، وتؤلف وتُنشر ؟
أليس كثيـر من ذلــك بسبب تغيّر العرف ، واستحداث أمور ؛ لم تكن من قبل ، تحتاج إلى إجابات وحلول واجتهادات حديثة ؟ أي : تتغيّر الفتوى بتغيّر الزمان !
ونعيد هنا ، كلام الإمام القرافي ، رحمه الله :
( لَا تَجْمُدْ عَلَى الْمَسْطُورِ فِي الْكُتُبِ طُولَ عُمْرِك ) .
( الْجُمُودُ عَلَى الْمَنْقُولَاتِ أَبَدًا ضَلَالٌ فِي الدِّينِ وَجَهْلٌ بِمَقَاصِدِ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ وَالسَّلَفِ الْمَاضِينَ ) () .
ونعيـد – للتـذكـرة – تعليق الحافظ إبن القيّم ، رحمه الله ، على هذه القاعدة الذهبية :
( هَذَا مَحْضُ الْفِقْهِ ، وَمَنْ أَفْتَى النَّاسَ بِمُجَرَّدِ الْمَنْقُولِ فِي الْكُتُبِ عَلَى اخْتِلَافِ عُرْفِهِمْ وَعَوَائِدِهِمْ وَأَزْمِنَتِهِمْ وَأَمْكِنَتِهِمْ وَأَحْوَالِهِمْ وَقَرَائِنِ أَحْوَالِهِمْ فَقَدْ ضَلَّ وَأَضَلَّ ،
وَكَانَتْ جِنَايَتُهُ عَلَى الدِّينِ أَعْظَمَ مِنْ جِنَايَةِ مَنْ طَبَّبَ النَّاسَ كُلَّهُمْ عَلَى اخْتِلَافِ بِلَادِهِمْ وَعَوَائِدِهِمْ وَأَزْمِنَتِهِمْ وَطَبَائِعِهِمْ بِمَا فِي كِتَابٍ مِنْ كُتُبِ الطِّبِّ عَلَى أَبْدَانِهِمْ ،
بَــلْ هَــذَا الطَّبِيبُ الْجَاهِلُ وَهَذَا الْمُفْتِي الْجَاهِلُ أَضَرُّ مَا عَلَى أَدْيَانِ النَّاسِ وَأَبْدَانِهِمْ ) .
فالمقصود من الكلام : أن من أهداف الإسلام العظيمة : مساعدة الفقراء ، وسد احتياجاتهم ، وإشباع رغباتهم ، وتفريج كروبهم .
حتى لو كان الفقير غيرمسلم ، طالما أنه إنسان ، من أبناء آدم ، عليه السلام .
فهذا أمير المؤمنين الخليفة عمر بن الخطاب ، t ، عندما مر بسوق المدينة المنورة ، ورأى شيخاً كبيرا يسأل الناس حاجته ماداً يده ، طلبا للمساعدة ، عندما اقترب منه وسأله : مَن أنت يا شيخ ؟؟
فقال الشيخ الكبير : أنا يهودي عجوز أسأل الناس الصدقة لِأفئ لكم بالجزية .. و لأنفق الباقى على عيالى .. ؟؟
فقال عمر الخليفة متألماً : ما أنصفناك يا شيخ .. أخذنا منك الجزية شاباً ، ثم ضيَّعناك شيخاً .. ؟؟
وأمسك الخليفة عمر بيد ذلك اليهودي إلى بيته وأطعمه مما يأكل ..
وأرسل إلى خازن بيت المال و قال له : إفرض لهذا وأمثاله ما يغنيه و يغنى عياله ..
فخصص له راتبا شهريا يكفيه و يكفى عياله من بيت مال المسلمين
وأوقف عنه الجزية الى الأبد .. ()
واحتياجات الفقير ، وضرورياته ، تتغيّر وتتنوّع حسب الزمان والمكان .
فالشارع الحكيم عندما نصّ على شيء ، ليس معنى ذلك ، التقيّد بهذا الشيء ، وعدم الخروج عنه ، طالما أنّ بديله يحقّق نفس الغاية !
[ السنة بين اللفظ والروح أو بين الظواهر والمقاصد :
إنّ التمسك بحرفية السنة أحياناً لا يكون تنفيذاً لروح السنة ومقصودها ، بل يكون مضادّاً لها ، وإن كان ظاهره التمسك بها .
خذ مثلاً تشدّد الذين يرفضون كل الرفض إخراج زكاة الفطر بقيمتها نقداً ، كما هو مذهب أبي حنيفة وأصحابه ، وهو قول عمر بن عبد العزيز وغيره من فقهاء السلف . وحجة هؤلاء المتشدّدين :
أنّ النبيّ r أوجبها في أصناف معينة من الطعام : التمر والزبيب والقمح والشعيـر ، فعلينــا أن نقف عند مـــا حــدّده رسول الله r ، ولا نعارض السنة بالرأي .
ولو تأمل هؤلاء الأخوة في الأمر كما ينبغي له ، لوجدوا أنهم خالفوا النبيّ r ، في الحقيقة وإن اتبعوه في الظاهر . أقصد أنهم عنوا بجسم السنة وأهملوا روحها .
فالرسول r راعى ظروف البيئة والزمن ، فأوجب زكاة الفطر مما في أيدي الناس من الأطعمة ، وكان ذلك أيسر على المعطي ، وأنفع للآخذ .
فقد كانت النقود عزيزة عند العرب ، وخصوصاً أهل البوادي ، وكان إخراج الطعام ميسوراً لهم ، والمساكين محتاجون إليه ، لهذا فرض الصدقة من الميسور لهم .
حتى إنه رخص في إخراج ( الأقط ) – وهو اللبن المجفف المنزوع زبده – لمن كان عنده وسهل عليه . مثل أصحاب الإبل والغنم والبقر من أهل البادية .
فإذا تغير الحال ، وأصبحت النقود متوافرة ، والأطعمة غير متوافرة ، أوأصبح الفقير غير محتاج إليها في العيد ، بل محتاجاً إلى أشياء أخرى لنفسه أو لعياله ، كان إخراج القيمة نقداً هو الأيسر على المعطي ، والأنفع للآخذ . وكان هذا عملاً بروح التوجيه النبوي ، ومقصوده .
إنّ مدينــة القـاهرة وحدها فيها أكثر من عشرة ملايين مسلم ، لو كلّفتهم بإخراج عشرة ملايين صاع من القمح أو الشعير أو التمر أو الزبيب فمن أين يجدونها ؟ وأي عسر وحرج يجدونه وهم يبحثون عنها في أنحاء القرى حتى يعثروا عليهـا كلها أو بعضها ؟ وقد نفى الله عن دينه الحرج ، وأراد بعباده اليسر ولم يرد بهم العسر !
وهب أنّهم وجدوها بسهولة ، فماذا يستفيد الفقير منها ، وهو لم يعد يطحن ولا يعجن ولا يخبز ، إنّما يشتري الخبز جاهزاً من المخبز ؟
إنّنـا نلقي عليه عبئاً حين نعطيها له حَبّاً ، ليتولى بعد ذلك بيعه . ومَن يشتريه منه ، والنّاس كلهم من حوله لم يعودوا في حاجة إلى الحَب ؟ !
ولقد حدّثني الإخوة في بعض البلاد التي يمنع علماؤها إخراج القيمة : أنّ المزكي للفطر يشتري صاع التمر أو الأرز مثلاً بعشر ريالات ، فيسلمه للفقير ، فيبيعه الفقير في الحال لنفس التـــاجر بأقــل مما اشتراه بريـال أو ريالين ، وأحياناً بنصف القيمة () ، وأحياناً يرفض شراءه لكثرة ما عنده .
ويظل الصاع يباع ثم يشترى هكذا مرات ومرات () ، والواقع أنّ الفقير لم يأخذ طعاماً إنّما أخذ نقداً ، بأنقص مما لو دفع المزكي القيمة مباشرة ، فهو الذي يخسر الفرق ما بين ثمن شراء المزكي من التاجر ، وثمن بيع الفقير له ، فهل جاءت الشريعة لمصلحة الفقراء أو بضدّها ؟ وهل الشريعة شكلية إلى هذا الحد ؟
وهل التشديد في هذا على الناس كل الناس اتباع للسنة حقاً أو مخالفة لروح السنة التي شعارها : (( يسّروا ولا تعسّروا )) ؟
ثم إنّ الذين لم يجيزوا إخراج القيمة في زكاة الفطر أجازوا إخراج أنواع من الطعام لم ينص عليها الحديث إذا كانت هي غالب قوت البلد ؟
وهذا نوع من التأويل للسنة ، أو القياس على النص ، قلّدوا فيه أئمتهم ، ولم يجدوا فيه حرجاً ، وهو – في رأينا – قياس صحيح ، وتأويل مقبول .
فلمــاذا كـــان الرفض الشديــد لفكـرة القيمة في زكاة الفطر () ، مع أنّ المقصود بها إغناء المساكين عن السؤال والطواف في هذا اليوم ، ولعل هذا يتحقق بدفع القيمة أكثر مما يتحقق بدفع الأطعمة العينية ؟
نحن نوجب دفع الأطعمة في حالة واحدة ، وهي ( حالة المجاعة ) التـــي يحتــــاج النـاس فيها إلى الطعام أكثر من حاجتهم إلى النقود . وقد توجد النقود عند الإنسان ، ولكنه لا يجد الطعام ] () .
( سابع عشر ) / :
على ضوء تلك المباديء التي أثبتناها ، وبيّنّا صحتها ، والإستدلال عليها من الكتاب والسنة وأقوال الأئمة والعلماء ، ولاسيما :
( خامساً ) : الحجة على الخلق أجمعين ، هي فقط في كلام الله تعالى ، وسنة رسول الله r . ص 10 .
و ( سادساً ) : هنـاك فرق بين الحكم وبين الفتوى.ص 11 .
و ( سابعاً ) : النظر إلى المآلات عند تقدير المصالح والمفاسد . ص 17 .
و ( ثامناً ) : الفتوى تتغيّر بتغيّر الزمان والمكان والأشخاص والأحوال والعوائد والنيات . ص 18 .
على ضوء تـلك المباديء والمعلومات ، نستطيع أن نقــول وبقوة وثبات ، أنه يجوز إعطاء زكاة الفطر نقداً ، بلا أدنى شك أو ريب
ونحن مع إجتهاد كل أولئك الأئمة والعلماء ؛ من السلف الصالح
وأن الإعتراض على ذلك ، هو مجرد إجتهاد مرجوح .
وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين ، وصلاة الله وسلامه على سيّدنا محمد ، وعلى آله وصحبه أجمعين .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق