كان من ضمن معاني الإرجاء الواردة في كتب التراث والمذاهب؛ أن يُطلق العلماء وصف المرجئ على من يتبع السلطان في المعصية، اللذين يسوّغون لهم ما حرّم الله، فقد قال المُحدّث يحيى بن معين عن يونس بن بكير: ثقة إلا أنه مرجئ يتبع السلطان!! (سير أعلام النبلاء، الذهبي: 9 / 247). فالاتباع للسلطان بالباطل؛ من أوصاف علماء السوء حتى يلتصق بهم وصف الإرجاء، ومن ذلك ما ذكره ابن كثير عن النضر بن شميل قال: سألني المأمون: ما الإرجاء؟ فقلت: "دين يوافق الملوك، يصيبون به من دنياهم، وينقصون به من دينهم" (البداية والنهاية، ابن كثير: 14 /221 ). وكان رقبة بن مصقلة -أحد رواة البخاري- يقول: "وأما المرجئة فعلى دين الملوك!" (الإبانة الصغرى، ابن بطة، ص163).
لقد كان الإرجاء مع الملوك؛ يقتضي تأخير العمل عن الإيمان؛ لأنّ بعض فقهاء البلاط كانوا جلساء لحُكّام بني أميّة فأغروهم ببعض المفاهيم الدينية لتبرئتهم مما هم فيه حيث كانوا غارقين في العصيان! ومن ذلك ما ذكره عبد الرحمن بن يزيد: لما توفي عمر بن عبد العزيز، قال يزيد بن عبد الملك: سيروا بسيرته، فأتي بأربعين شيخًا شهدوا أن الخلفاء ليس عليهم حساب ولا عقاب. (سير أعلام النبلاء، الذهبي: 5 / 602).
ومن هنا تنشأ الأقوال والأفعال الباطلة التي يُكرّسها علماء السوء في سلاطينهم؛ حتّى يظنّ الحاكم أنّ أي عملٍ له؛ فإنّ مبناه على أساس من التفويض الإلهي؛ فتجب طاعته ويُتطلب رضاه؛ مع تسويغ سيئاته وتبرير ظُلمه !ومن خطورة هذا التفكير الإرجائي الوصول لنقطة الفكر الجبري؛ لهذا يكون حال المرجئ الرضا بحال الحاكم والاستسلام للأمر الواقع وعدم موافقة المخالفين لهم في الإنكار عن الظلم؛ مما ينشأ عنه عقيدة الجبر وأنّ هذا أمر يُريده الله، وأنه سيرفع بعد تقدير الله! ولهذا فإنّه يُطيع الأمراء مطلقاً ويرى أنّه ليس بالإمكان أفضل مما كان، يُوضّحُ ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية بقوله: "المرجئة وأمثالهم ممن يسلك مسلك طاعة الأمراء مطلقاً وإن لم يكونوا أبراراً" (مجموع الفتاوى، ابن تيمية: 28 /508).
حين يقع هؤلاء القوم بذنب الإرجاء، وينحرف مسار تفكيرهم عن المعتقد السُّنّي؛ تراهم يُسمُّون أهل السنّة ممن يُخالفونهم في تفكيرهم ويصفونهم بالخوارج
ولقد أوضح الإمام ابن تيمية مفاهيمهم الباطلة إذ يرون: "أن الإمام تجب طاعته في كل شيء، وأن الله إذا استخلف إماما تقبل منه الحسنات وتجاوز له عن السيئات" ثم قال بعد أسطر قليلة: "ولهذا سأل الوليد بن عبد الملك عن ذلك بعض العلماء، فقالوا له: يا أمير المؤمنين، أنت أكرم على الله أم داود، وقد قال له: "يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَىٰ فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ ۚ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ" ( سورة ص: 26 ).. وغلط من غلط منهم من جهتين: من جهة أنهم كانوا يطيعون الولاة طاعة مطلقة، ويقولون إن الله أمرنا بطاعتهم، الثانية: قول من قال منهم: إن الله إذا استخلف خليفة تقبل منه الحسنات وتجاوز له عن السيئات". (منهاج السنة النبوية، ابن تيمية: 6 / 200).
ويقول ابن تيمية في موطن آخر: "كثير من أتباع بني أمية -أو أكثرهم- كانوا يعتقدون أنّ الإمام لا حساب عليه ولا عذاب، وأن الله لا يؤاخذهم على ما يطيعون فيه الإمام، بل تجب عليهم طاعة الإمام في كل شيء، والله أمرهم بذلك. وكلامهم في ذلك معروف كثير. وقد أراد يزيد بن عبد الملك أن يسير بسيرة عمر بن عبد العزيز، فجاء إليه جماعة من شيوخهم، فحلفوا له بالله الذي لا إله إلا هو، أنه إذا ولّى الله على الناس إماما تقبل الله منه الحسنات وتجاوز عنه السيئات، ولهذا تجد في كلام كثير من كبارهم الأمر بطاعة وليّ الأمر مطلقاً، وأنّ من أطاعه فقد أطاع الله. ولهذا كان يضرب بهم المثل، يقال: "طاعةٌ شاميّة". وحينئذ فهؤلاء يقولون: إنّ إمامهم لا يأمرهم إلا بما أمرهم الله به" (منهاج السنة النبوية، ابن تيمية : 6/ 430- 431).
لقد ظهرت ثورة ابن الأشعث وغيره من الذين رفضوا حكم ولاة الجور؛ ولكن حين فشلت ثورة ابن الأشعث، ترسّخت عقدٌ نفسيّة أدّت لعقيدة الخنوع للحكّام دينياً؛ لهذا قال قتادة: "إنما أُحدِث الإرجاء بعد هزيمة ابن الأشعث" (السنة، عبد الله بن الإمام أحمد: 1 / 319). وعن طريق الإرجاء انفتحت المعاصي في الأرجاء!! حتّى قال النخعي: "لفتنة المرجئة أخوف على هذه الأمة من فتنة الأزارقة، تركتْ المرجئةُ الدين أرق من ثوب سابري" (السنة، لعبد الله بن الإمام أحمد: ٣١٣/١). وحين يقع هؤلاء القوم بذنب الإرجاء؛ وينحرف مسار تفكيرهم عن المعتقد السُّنّي؛ تراهم يُسمُّون أهل السنّة ممن يُخالفونهم في تفكيرهم ويصفونهم بالخوارج؛ ولا عجب أن يكونُ المتطرف عن جادّة الصواب ومسلك الوسط إذ يرى غيره في الطرف الآخر؛ وقد ذكر الإمام ابن القيم عن المرجئة مثل ذلك واتهامهم أهل السنة بالخوارج؛ فقال:
ومن العجائب أنهم قالوا لمن *** قد دان بالآثار والقرآن
أنتم بذا مثل الخوارج إنَّهم *** أخذوا الظواهر ما اهتدوا لمعاني
خطر الخوارج وغلاة التكفير على الإسلام والمسلمين من الخارج كبير وِزره؛ فلهم دور في تنفير الناس عن الإسلام، وكراهية كثير من الناس للإسلام لممارساتهم الفاجرة.
ومع أنّ المرجئة يعتقدون خطر تكفير الآخرين؛ إلاّ أنّهم قد يؤول حالهم لقتل الآخرين بغير السيف، واستحلال دمائهم! ومن هنا نفهم ما قيل لعبد الله بن المبارك: ترى رأي الإرجاء؟ فقال ابن المبارك: كيف أكون مرجئاً فأنا لا أرى السَّيفَ؟ "(ابن شاهين في "الكتاب اللطيف": 17). ذلك أنّ حالتهم قد تؤول لإشهار السيف والسلاح في وجه المُخالفين لهم لمجرّد اختلافهم معهم في العقيدة، فهم وإن لم يُكفّروا غيرهم؛ إلاّ أنّهم يُمكن أن يتطرّفوا لاستحلال دماء المسلمين بأدنى شبهة! لهذا كان إِبْرَاهِيم النخعي يقول: " الخوارج أعذر عندي من المرجئة" (السنة، عبد الله بن الإمام أحمد: 1 / 313). سبب ذلك أنّ الخوارج إن خرجوا فإنّهم سيخرجون من منطلق التكفير.
أمّا هؤلاء فقد يخرجون على أهل الإسلام مع كونهم لا يقولون بكفرهم، بسبب سوء نفسياتهم، وأمراض نفوسهم. ولهذا قال أبو قلابة: « ما ابتدع رجل بدعة إلا استحل السيف» (الاعتصام، الشاطبي 1 /83) فخطورة فكر الإرجاء متمثّلة كذلك في إمكانية الانقلاب على غيرهم بعقليّة استحلال الدماء؛ فعن أبي إسحاق الفزاري قال: سمعت سفيان والأوزاعي يقولان: «إن قول المرجئة يخرج إلى السيف» (السنة، لعبدالله بن الإمام أحمد : 1/ 217 ).
هذه مآلات فكر المرجئة؛ ومن هنا نجد عظيم تأثيرهم على تمييع الأحكام وقضايا الدين أمام السلاطين؛ بل يرون أنّ مجرد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا يصح أن يُقال ؛ لأنّ هذا يؤدي إلى فتنة، فقد وصفهم الإمام ابن تيمية فقال: "وآخرون من المرجئة وأهل الفجور قد يرون ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ظنا أن ذلك من باب ترك الفتنة" ( الآداب الشرعية، ابن مفلح: 1 / 157 ).
لهذا خاف على أمّة الإسلام العلماء الثقات من هذه الفرقة؛ حتّى أنّ الأوزاعي ذكر عن يحيى وقتادة أنّهما يقولان: "ليس من أهل الأهواء شيء أخوف عندهم على الأمة من الإرجاء" (الإبانة، ابن بطة : 2 / 885) وعلى كُلّ حال؛ فمن يعرف في نفسه مثل هذه الطبيعة الفكريّة التي شرحناها فإنّه لن يستقيم فكره إلاّ إذا أصلح نفسه وقلبه؛ وبالطبع فإنّ من لديه نبتة إرجائية يشيح بوجهه عن فضح المرجئة أو معرفة تصوراتهم؛ وكذا الحال فيمن لديه غلو في التكفير؛ فإنّ سينأى بنفسه عن سماع صفة الخوارج وفهم تطرفهم الفكري؛ لأنَّ سقيهم الفكري ونقاط التشابه فيما بينهم تجعلهم يأبون معرفة الحقيقة!
إنّ خطر المرجئة على الإسلام والمسلمين من الداخل عظيم ضرره؛ إذ أنهم يُرققون دين الله في قلوب الناس؛ دون أن تكون هنالك عمل لتطبيق دين الله في الواقع. وخطر الخوارج وغلاة التكفير على الإسلام والمسلمين من الخارج كبير وِزره؛ فلهم دور في تنفير الناس عن الإسلام، وكراهية كثير من الناس للإسلام لممارساتهم الفاجرة.
عافانا الله من تطرف الخوارج والمرجئة..
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق