الاثنين، 22 مارس 2021

فهم الإسلام في ظلال الأصول العشرين

 

 

 

فهم الإسلام في ظلال الأصول العشرين

الأستاذ : جمعة أمين عبد العزيز

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

(وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنتُمْ عَلَىَ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ ، وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ، وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَاخْتَلَفُواْ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ)         [آل عمران : 103-105]

صدق الله العظيم

قال صلى الله عليه وسلم:

"نضر الله امرءاً سمع مقالتي فوعاها فأداها كما سمعها فرب مبلغ أوعى من سامع،  ورب حامل فقه ليس بفقيه، ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه"

حديث صحيح

صدق رسول الله r.

 


إهــداء

إلى الذين أراد الله بهم خيراً ففتح عليهم باب العمل وأغلق عليهم باب الجدل .

وإلى الذين أحيوا الحق بذكره وأماتوا الباطل بهجره.

وإلى الذين يحسنون الظن بإخوانهم فيلقون إليهم بالثمر.

وإلى كل من علمني وأخذ بيدي وسرت معه طريق الدعوة إلى الله .

وإلى أبنائي وأسرتي ليواصلوا مسيرتي بهذا الفهم الدقيق والإيمان العميق والحب الوثيق والعمل المتواصل.

إلى هؤلاء جميعاً

أهدي سطوري لعلها تكون لبنة يعلو بها صرح الدعوة حتى لا ينقطع عملي بعد موتي ولعلها تكون من العلم الذي ينتفع به.

اللهم آمين.

وصلي اللهم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

 


المقـدمة

لا يشك مسلم رضي بالله رباً وبالإسلام ديناً وبمحمد r نبياً ورسولاً أن  الإسلام هو روح هذه الأمة ومبعث حياتها وقوام رشدها به نحيا وله نعيش وبدونه تنتهي الحياة (أَوَ مَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا...)

فنحن قبل الإسلام كنا موتى فبعث الله فينا الحياة الطيبة الآمنة المطمئنة فأصبحنا خير أمة أخرجت للناس نأمر بالمعروف وننهى عن المنكر ونؤمن بالله.

لذلك فان الذين يريدون سلب هذه الأمة دينها إنما يريدون سلب الروح من الجسد ليهلك ويموت ومن هنا فإن استعادتنا لشخصيتنا الإسلامية التي افتقدناها هي استعادة لهذه الروح التي تسري في كياننا فتبعث فيه الحياة (وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ....)

والتيارات التي تحاول سلب روحنا والمعادية لإسلامنا كثيرة –قديماً وحديثاً- وهي تتزايد يوماً بعد يوم، و ليس في هذا ما يدعو إلى الدهشة أو الاستغراب لأن أعداء الحق كثرة في كل زمان ومكان (وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ) (وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللّهِ) فالوحدة الوحدة ، والتعاون التعاون فيما اتفقنا عليه ويعذر بعضنا بعضًا فيما اختلفنا والحذر الحذر والوعي الوعي لمكائد الأعداء.

 وهذه التيارات المعادية للإسلام تمثلت اليوم في الصهيونية الماكرة والصليبية الحاقدة والشيوعية الملحدة، ولقد تفرعت من الصليبية بالذات تيارات خبيثة كالاستشراق الذي تعرف على الأرض والبشر ثم التبشير الذي أراد أن يهز ثقة المؤمن بدينه ثم الاستعمار بجيوشه وحقده للقضاء على العالم الإسلامي الذي مر بمراحل يجدر بنا أن نشير إليها:

أولاً-مرحلة الإشهاد بتطبيق الكتاب والسنة نصاً وحرفاً كمنهج حياة.

ثانياً-مرحلة الاستعمار بعد الاضمحلال ثم انحسر بفضل الله ثم بفضل المجاهدين الصادقين في كل بقعة من بقاع العالم الإسلامي ولكن للأسف الشديد فقد نجح المستعمر بنفوذه العسكري والسياسي الغربي في تغيير طبيعة المجتمع المسلم.

ثالثاً-مرحلة التبعية والاحتواء

والتي حرص المستعمر على بناء قاعدته من خلال المدرسة والصحيفة والثقافة والنفوذ الاجتماعي وانتهت هذه المرحلة برأس جسر للعدو في فلسطين المسلمة.

ومما يؤسف له أن هذه المرحلة انتهت أيضًا بجمود الدولة العثمانية في سنواتها الأخيرة لوهن قواها المادية وضعفت أدوات الحرب والعتاد وعلومها والانفلات من فريضة الجهاد فضلاً عن ضعف التيار الفكري الإسلامي، وعدم اتصاله بمنبعه وهو القرآن تربية وتوجيها فتغيرت المفاهيم والعادات والتقاليد وأدخل في الإسلام ما ليس منه في عقيدته وعبادته ونظامه إلى أن سقطت الخلافة الإسلامية، ومن ذلك اليوم وهناك صراع بين الذين يريدون علواً في الأرض وفسادا وبين من يريدون للإسلام مجداً وحكماً ونظاماً.

في هذا الجو المشحون بالأفكار والقيم والتصورات والمفاهيم الخاطئة للإسلام سواءً من الذين اجتزءوه أو الذين فصلوا بين عقيدته وشريعته أو الذين تركوه بالكلية إلى النظم الوضعية وهم يحملون اسمه وشهادته أو من الذين نشروا الصوفية التي انحرف بعض أصحابها عن الفهم السليم أو الشيوعية التي حادَّت الله ورسوله وأصبح لها وجود في مجتمعات المسلمين –أقول في هذا الجو- هيأ الله للدعوة الإسلامية رجلاً جدد أمر دينها ونادى في الناس أن آمنوا بربكم وعودوا إلى منهاج رسولكم r والسف الصالح من أمتكم ومن يومها مضت هذه اليقظة الإسلامية يرشدها الإمام حسن البنا رضوان الله عليه إلى الميادين الآتية:

أولاً- تحرير العقيدة من زيف الجمود وما داخلها من أوهام وشبهات مصححاً التصور السليم للكون والإنسان والحياة ليتحقق التوازن والاعتدال.

ثانياً- تخليص العقل المسلم من التركيز على النظرة الجزئية للإسلام لأن ذلك يؤدي إلى تضخيم دور بعض الفروع والجزئيات مما يخل بالنظرة الشمولية للإسلام.

ثالثاً- كسر الجمود الذي أصاب العقل المسلم من غلق باب الاجتهاد الذي مثل الإبداع والعطاء عند الإنسان وأوقعه في التقليد وحرم المسلمين من الحلول الإسلامية لمشاكل العصر الأمر الذي يقتل الإبداع ويصيب قدرة العطاء عند الإنسان ويوقع في التقليد ويحرم صاحبه من الإفادة من جهود إخوانه المسلمين، فكان لابد من نظرة شمولية للإسلام ليستعيد بها المسلم تصوره السليم.

وبهذا  الفهم المتكامل يستطيع المسلم أن يستعيد قدرته على المقاومة والدفاع عن دينه وعقيدته فيبذل المهج والأرواح لتكون كلمة الله هي العليا وكلمة الذين كفروا السفلى.

والجدير بالذكر أن الإمام الشهيد حسن البنا أعاد بدعوته المتكاملة هذا الفهم السليم الذي كاد أن يندثر وحملت جماعة الإخوان المسلمين هذا الفهم ودعت له وتحملت ما تحملت في سبيل تثبيته في المجتمع فكم من شهيد سقط في سبيله وأولهم مرشدها ومؤسسها حسن البنا ألحقنا الله به في الصالحين وجزاه الله عن الإسلام والمسلمين خيراً-وكم من دماء سفكت، وكم من أطفال يتمت وكم من نساء ثكلت؟ وكم وكم وندخر ذلك عند الله تعالى حتى ثبت هذا الفهم بفضل الله تعالى في مجتمعنا اليوم وأصبح أمراً بديهياً لا يختلف عليه اثنان.

ولكن الذي نريد أن نلفت النظر إليه هي التحديات والفلسفات والنظريات التي تري أن تنقض على الإسلام فتهدمه، هذه التحديات قامت عقبة كئود أمام الدعوة وغزت المجتمع في هذا الزمان بل وما زال أثرها فينا حتى اليوم:

قالوا إن التمسك بالإسلام والعمل بمقتضى شريعته نوع من التعصب ولون من ألوان التجاهل لغير المسلمين في المجتمعات الإسلامية، مما دفع كثيراً من حكام المسلمين بعد أن انطلت الحيلة عليهم أن يتحاكموا إلى النظم الوضعية وعطلوا الشريعة الربانية.

وادعوا بأن الدين الإسلامي دين ناسب العصر الذي جاء فيه والبيئة التي عاش فيها رسول الله r ويرومون بذلك أن تغزو هذه الفكرة الخبيثة عقول المسلمين حتى يصبح دينهم محلياً وليس عالمياً وأنه عاجز عن تلبية حاجات البشر زماناً ومكاناً فلا هو شامل ولا هو عام.

ثم ركزوا بعد ذلك على أن التدين من الأعمال الشخصية الفردية الخاصة بالإنسان في ذاته منفرداً عن الجماعة ومعنى ذلك وباختصار شديد أن الدين الإسلامي له صلة بالجماعات البشرية في نظمها الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والأخلاقية وبذلك عزلوا دين الإسلام عن الحكم وقتلوا الجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وأصبحنا نسمع من يقول : الدين لله والوطن للجميع ، دع ما لقيصر لقيصر وما لله لله وتناسوا قول الله (قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ)

وكثرت الفتن بعد ذلك وانتشرت الشبهات والدعاوى الباطلة والجدل العقيم ورحم الله امرءًا عرف زمانه واستقامت طريقته فكان البنا الذي أعاد البناء وأقام الأساس بعد أن تأكد له أن المشكلة ليست سهلة كما يظن البعض، فإن ما أصاب العقل المسلم من صدوع ورضوض وكسور وتقطيع وغزو فكري صده عن المضي إلى غايته وحال بينه وبين رسالته لا يمكن أن يعالج في يوم وليلة بمحاضرة عابرة أو درس هنا و دروس هناك أو موعظة وقتية ثم يمضي الواعظ لحال سبيله أو مقال منشور أو مؤلف مكتوب ولكنها التربية الطويلة والجهد المضني الذي يصنع الرجال الذين صدقوا ما عاهدوا الله عليه وهو يحتاج إلى:

المنهج السديد، والعمل الدءوب، الخلق القويم، والنفس الطويل، والصبر الجميل، والموعظة الحكيمة، والوعي المستنير، والمتابعة المتأنية.

وأي دعوة صادقة لا يتأصل فهمها ويصدر عن الكتاب والسنة هي دعوة مبتوتة اجتثت من فوق الأرض ما لها من قرار فإذا ما اتصلت بمعينها ومصدر غذائها وحياتها أصبح أصلها ثابت وفرعها في السماء تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها.

ولكي تتعرف على أي دعوة من الدعوات وتزنها بميزان ثابت معروف لابد من الوقوف على أمور ثلاثة:

1-تصوراتها ومعتقداتها.

2-أهدافها وغاياتها.

3-وسائلها لتحقيق الأهداف والغايات.

وبفضل الله وحده فقد بيَّن الإمام الشهيد حسن البنا في رسائله ذلك تبياناً لا يحتاج إلى إيضاح فلا غموض فيه من حيث : وضوح الفكرة ووحدة التصور والسلوك، ووحدة الهدف والمصير، ووحدة الغاية ووسائل تحقيق ذلك كله.

ولتأصيل الدعوة كانت رسالة التعاليم والتي قال الإمام الشهيد في مقدمتها:

إلى الإخوان المجاهدين من الإخوان المسلمين الذين آمنوا بسمو دعوتهم وقدسية فكرتهم وعزموا صادقين على أن يعيشوا بها أو يموتوا في سبيلها وهي ليست دروساً تحفظ لكنها تعليمات تنفذ أما غير هؤلاء فلهم دروس ومحاضرات وكتب ومقالات ومظاهر وإداريات ولكل وجهة هو موليها فاستبقوا الخيرات.

ثم حدد للشخصية المجاهدة معالم وصفات أخلاقية سميت بأركان البيعة وهي : الفهم ، الإخلاص، العمل، الجهاد، التضحية، الطاعة، الثبات، التجرد، الأخوة، الثقة.

وخص الفهم بأصول تعين المسلم على وضوحه حتى لا يبني على الظن والهوى، هذه الأصول : هي أصول الفهم وليست أصول للدين أو الإسلام كما تصور البعض، وهى تعين المسلم –كما قلنا- على تحديد إطار للفهم السليم حتى يتوحد التصور والسلوك ليكون كالشمس في رابعة النهار.

ذلك لأن أخطر ما يؤثر في بناء شخصية المسلم، ويقلل أو يزيد من فاعليته في مجتمعه الذي يدعو فيه درجة وضوح فكرته ودعوته فإذا ما وضحت هذه الدعوة لديه أخذ يدعو إليها كل قلب متفتح على أنها الخير المحض الذي يؤمن به.

لهذا كان لابد للداعي إلى الله أن يقدم التصور السليم الذي يعتقده للناس بالوضوح الذي لديه أن فاقد الشيء لا يعطيه ألا ترى إلي ربعي بن عامر حين خاطب رستم قائد الفرس كان  واضحاً أجلى الوضوح حين قال : إن الله ابتعثنا لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة الله، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة.

وها أنذا –بعون الله وحده- أحاول جهدي أن أدلي بدلوي وإن كان ماؤه قليل ولكن يكفيني شرفاً أن أخط بعض ما فهمت مما تركه الإمام الشهيد حسن البنا حول فهم الإسلام في ظلال الأصول العشرين وما كنت أفكر أو يخطر ببالي أن يكون لي قلم يتجاسر أو يخط سطوراً حول هذا الموضوع لولا إلحاح إخواني بأن أقوم بجمع ما قلته في محاضرات سبقت ليكون كتاباً يستفاد به.

فاحترمت رغبتهم وأنا أعلم أن لي أساتذة كرام وعلماء أفاضل هم أهل للتصدي لهذا  الموضوع وأستميحهم عذراً فيما كتبت فما كان لمثلي أن يتناوله ولكني استخرت الله تعالى فشرح صدري فكان هذا الكتاب الذي بين يديك والذي أسأل الله تعالى أن يكون في ميزان الحسنات يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم. فإن أصبت فمن توفيق الله تعالى لي وإن كانت الأخرى فأسأل الله أن يغفر ذنبي فإنه لا يغفر الذنوب إلا هو. والله من وراء القصد وهو يهدي إلى سواء السبيل .

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين .

     مولد الرسول r

12من ربيع الأول 1410هـ

12من أكتوبر 1989م

    الفقير إلى الله

  وراجي عفو ربه

جمعة أمين عبد العزيز


مقدمة الطبعة الثانية

الحمد لله الذي بفضله تتم الصالحات وبعونه يوفق العبد لما يحب ويرضى وبشكره يزيده من فضله وبالتوكل عليه يكن حسبه وبتقواه يعلمه ما لم يكن يعلم فالحمد لله حمداَ يوافي نعمه ويدافع نقمه ويكافئ مزيده، وأصلي وأسلم على نبي الهدى الذي أمرنا بالمعروف ونهانا عن المنكر وأحل لنا الطيبات وحرم علينا الخبائث ووضع عنا إصرنا والأغلال التي كانت علينا (فَالَّذِينَ آمَنُواْ بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُواْ النُّورَ الَّذِيَ أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) .

أما بعد

فما كان يجول بخاطري يوماً أن يكون لي الشرف في أن أكتب كتاباً أو أسطَّر سطوراً أشرح فيها دعوة الإخوان المسلمين وأبين ما تركه الإمام الشهيد حسن البنا من فهم للإسلام بأصوله العشرين محاولاً بهذه السطور –بتوفيق الله وحده- أن أنفي بها تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين وأقول بإيمان يملأ القلب: (هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللّهِ وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) .

والحق يقال: أني ما كنت أتوقع هذا الإقبال المنقطع النظير على اقتناء الكتاب حتى أن الطبعة الأولى منه نفدت بعد أيام قليلة من صدوره لم تصل إلى الشهرين ولهذا لم تتح لي الفرصة الكافية لسماع توجيهات الأساتذة الأفاضل وملاحظات الأخوة الكرام الذين تفضلوا بقراءته لأستكمل بذلك نقصاً قد فاتني أو أصوب خطأ زل القلم به.

ولذا كانت هذه الطبعة الثانية كأختها الأولى سواءً بسواء لم أزد عليها حرفا ًواحداً لقصر المدة والإلحاح في سرعة الطبعة الثانية تلبية لرغبات طالبيها فعذراً لعدم إضافة جديد أو تصويب خطأ والحمد لله الذي تفضل علينا بهذه الثقة والاهتمام بهذا الفكر الأصيل الذي يقدم الإسلام بفهم دقيق ، وإيمان عميق ، وحب وثيق وعمل متواصل ووعي كامل.

ولعل يكون في الوقت متسعًا إن كان في العمر بقية أتلقى فيه التوجيهات القيمة من العلماء الذين نحترمهم ونكن لهم كل حب واحترام ونثق فيما يقولون والملاحظات السديدة من الأخوة الذين هم كاليدين تغسل إحداهما الأخرى ليكون كل ذلك أمام الأعين للاستفادة به في طبعة قادمة بإذن الله تعالى.

فشكراً لله على هذه الثقة وهذا الإقبال على فكر جماعة صبرت وثابرت محتسبة على ما أصابها في سبيل الله لتكون كلمة الله هي العليا وكلمة الذين كفروا السفلى، لا نريد جزاءاً ولا شكوراً سائلاً الله أن يمكن لدينه في الأرض ويفتح له قلوب الناس.

وإلى أن نلتقي مع طبعة قادمة بمشيئة الله تعالى لكم مني خالص الحب ونسألكم خالص الدعوات.

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين .

  الفقير إلى عفو ربه

 جمعة أمين عبد العزيز


مقدمة الطبعة الثالثة

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين وعلى آله وصحبه أجمعين ومن اهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين؟

أما بعد...

فلقد كنت آمل أن تكون هذه الطبعة قد زيدت أفكاراً ونقحت أخطاءاً بعد مرور ما يزيد على العام على الطبعة الأولى، وكنت في شوق لأستمع إلى توجيهات أساتذتي الكرام وعلمائي الأفاضل وإخواني الأحبة لكني لم أتلق أية تعليقات أضيفها أو ملاحظات أحذفها وكنت كلما سألني إخواني عن كتابي هذا لا أجد إلا استحساناً لما كتبت  ورضاً لما سطرت وأوضحت فشكرت الله على هذا التوفيق ودعوت الله أن يغفر تقصيري ، ويحل عقدة من لساني ليتضح بياني. والحق يقال –وهذا من نعم الله علىَّ- ما كنت أتصور هذا الإقبال الشديد على هذا الكتاب بالذات في مشارق الأرض ومغاربها، سواء كان في بلادنا العربية والإسلامية التي تلقته بالقبول الحسن، بل فيها من طبعه في بلده ونشره بين إخوانه فأثلج صدري وأسال دمعي فسجدت لله داعياً أن يكون ذلك في ميزان الحسنات ومما زاد سعادتي استئذان الأخوة في أوربا وأمريكا في ترجمته إلى اللغة الإنجليزية ليعم نفعه ليشمل الإخوة المسلمين غير الناطقين باللغة العربية وهذا فضل الله يؤتيه من يشاء والله واسع عليم.

وبالرغم من حرصي على مراجعته وتنقيحه لأضيف جديداً أو أحذف مكرراً أو أصحح خطأً إيماناً مني بأنه ما كتب إنسان قط كتاباً من قبله إلا وقال في نهاره ليتني أضفت كذا ، ليتني حذفت كذا لأنه تأليف إنسان لا تصل سطوره إلى الكمال أبداً ، ليبقى كتاب الله الخالد "القرآن الكريم" يتحدى العقول على مر الأزمان وهو هو ما زيد عليه ولا نقص منه. ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً وهذا أكبر إعجاز أتى به حبيب الرحمن محمد بن عبد الله صلوات الله وسلامه عليه الصادق القائل (لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ) إلا أن نفاذ الطبعات بصورة سريعة وإلحاح الإخوة في الطلب لاقتنائه دفع الناشر "دار الدعوة" الحبيبة إلى الإسراع في إعادة طبعه مرة أخرى تلبية للرغبات ونشراً للأفكار التي أوجزها الإمام البنا إيجاز هو السهل الممتنع بحق، والذي شرفت بشرح بعضه وتبيانه ، غير أني لم تتح لي الفرصة لمراجعته كما ينبغي، فضلاً عن عدم تلقي أي تعليقات أو توجيهات تدفعني للإضافة أو الحذف وإني لمنتظر.

ومما زاد من فرحتي ورفع من قيمة كتابي ، هذه المقدمة القيمة التي شرفني بها أستاذ جليل وعالم فاضل، ومرب كريم، وداع فقيه، وأخ في الله حبيب هو فضيلة الأستاذ الشيخ محمد عبد الله الخطيب وهو من هو في علمه وورعه وفقهه وتربيته ومواقفه وجهاده –ولا أزكي على الله أحداً والله حسيبه- فهذا مما زاد في اطمئناني لما كتبت وثقتي فيما سطرت وصوابي فيما ألفت لأنها تزكية عالم حصيف، ومجاهد كريم فهي شهادة أعتز بها تدفعني إلى مزيد عناية لهذا الكتاب في طبعات أخرى قادمة بمشيئة الله تعالى إن كان في العمر بقية.

والله أسأل أن يوفقنا جميعاً لتجلية ما تركه الإمام البنا رضوان الله عليه من كنوز ونفائس ربت رجالاً (صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا) وصنعت جماعة ملء السمع والبصر ترث طريقاً أوضحه ومنهاجًا بينه بالرغم من قلة مؤلفاته وكتاباته وما كان قياس عظمة الرجال تعدد ما تركوا من كتب إنما تقاس عظمة الرجل بما خلّف من رجال يواصلون مسيرته ويحققون أهدافاً نادى بها هي من مشكاة رسول الله r دون تغيير أو تبديل أو إفراط أو تفريط فجزاه الله عني خير الجزاء وألحقنا به مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً.

وإلى اللقاء في طبعة أخرى أسأل الله فيها توفيقاً إلى الأحسن والأصوب وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب.

والله من وراء القصد وهو يهدي إلى سواء السبيل .

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين .

28من ربيع ثاني1413هـ

25 من أكتوبر 1992م

    الفقير إلى الله

  وراجي عفو ربه

جمعة أمين عبد العزيز


تقديم فضيلة الشيخ محمد عبد الله الخطيب

الحمد لله رب العالمين والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين. والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين-وبعد.

فقد جاء في الأثر "العلم علمان علم على القلب فذاك هو العلم النافع، وعلم على اللسان فذاك حجة الله على ابن آدم" وبفضل الله فإن من مميزات العاملين للإسلام أنهم دائماً يذكرون النعمة التي وكل الله إليهم رعايتها وحفظها ويعون تماماً المبادئ التي كلفوا بحراستها ويسعدون دائماً ويحمدون الله حيث تتضح لهم الرؤية، ويبتعدون عن التلبيس أو الانحراف إن الأقدار الإلهية التي وضعت أقدامهم على الطريق الذي خطه سيد الخلق r تحرسهم وترعاهم وصدق الله العظيم (وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْواهُمْ) سورة محمد.

إن هؤلاء الرجال الأبرار الذين يحملون عبء الدعوة إلى الله على بصيرة من بعد السلف الصالح الكرام، يحسون بالسعادة لأنهم صدقوا ما عاهدوا الله عليه،ووفقهم الله حين وقفوا عند حدود الالتزام بمنهج الله والذود عنه، ورد أمورهم دائماً إلى الله ورسوله..فكل أعمالهم وأقوالهم تخرج من القلب وإلى القلب والحمد لله فليس هناك مجال لغش، ولا مداخل للشيطان أو الهوى، ولا تنازل من أجل مغنم قريب أو بعيد أو غرض من أغراض الدنيا، لأنهم طلاب آخرة. وهؤلاء هم الذين نجلس إليهم ونتلقى عنهم ونصغي إلى حديثهم وأكثر من هذا أنهم دائماً بإذن الله أقوى من الدنيا وعواصفها وأرسخ من المغريات والعوائق التي تقعد بالبعض أو تحولهم في منتصف الطريق...

إن أقدام الرجال الصاعدين إلى الذرى والقمم قد يستل منها الدماء لصعوبة الطريق، لكن كل قطرة تجرى هنا أو هناك لها ثقلها ووزنها عند الله في الدنيا والآخرة.

وإذا تفضل الله علينا وهدانا إلى الطريق وفقنا لمتابعة السير عليه، فقد طوقنا بكرامته ، فما عند الله خير وأبقى..

وصدق الله العظيم إذ يقول:

(وَكَأَيِّن مِّن نَّبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُواْ لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَمَا ضَعُفُواْ وَمَا اسْتَكَانُواْ وَاللّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ)سورة آي عمران

من هذا المنطلق ننظر إلى كتَّاب الحركة الإسلامية وروادها، وحين نتعامل مع دعاتها يسيطر علينا هذا الشعور وإن ما قلته وبدأت به من وصف للرجال الذين تضعهم العناية الإلهية على الطريق .أحسب أنهم ينطبق عليهم وعلى الأخ الأستاذ جمعة أمين فهو من رجال الدعوة المباركة الأبرار ومن القلائل الذين خرجتهم هذه الجامعة العتيدة. جامعة الإسلام ومدرسة الإخوان نحسبه كذلك ولا نزكي على الله أحداً.

وقد شرح الله صدره فأقدم على شرح رسالة التعاليم وأظهر لنا جوانب عظيمة مما حوته من توجيهات وأفكار في البناء والتربية وهي رسالة بالغة الأهمية ولها دور في حياة الإخوان العاملين المجاهدين من قديم ولقد أفاض في بيان الأصول العشرين فجاء شرحه لها أضوأ من الشمس وأوضح من فلق الصبح وأبين من غرة النهار.

لقد تحدث المؤلف عن كل أصل من الأصول وبيَّن وضوح الأهداف المقصودة منه، ثم مهّد السبيل للوصول إلى تلك الأهداف وأشار إلى المناهج المستقاة من هذه الأهداف في جانب العقيدة أو العبادة أو الحركة كما أشار إلى مصادر التلقي المعتمدة التي يجب على كل مسلم أن يرد أمره دائماً إليها وأن يتلقى منها كما كشف عن المصادر التي لا تعتبر أبداً من أدلة الأحكام الشرعية ومنها شطحات  الصوفية وغيرها كالرؤى والأحلام والكشف والإلهام ثم أشار إلى موقف الإسلام من التمائم والودع والرقى، وقراءة الفنجان. وأفاض في ذلك وبيّن للقارئ الأسلوب الصحيح لإنكار المنكر والشروط التي قررها الفقهاء لذلك والتي يجب أن تتوفر فيمن يتصدى لهذا الأمر، ونقل عن أئمة السلف الرأي السديد في هذا لعل البعض من الأدعياء يعرفون حدود الله ويقفون عندها وأشار إلى معنى السلفية وبيَّن المقصود منها، ووضع الضوابط الصحيحة في هذا الأمر من غير تفريط ولا إفراط، وهكذا مضى الأستاذ المؤلف مع كل أصل من الأصول العشرين يحدد المراد منه ثم يشرحه في ملحمة شاملة مستدلاً من الحديث ومن القرآن ومن عمل السلف الصالح وعن أقوال الفقهاء، حريصاً على بيان الأحكام الشرعية الصحيحة وما تحتاج الدعوة منا من فهم صحيح شامل وعقيدة ربانية وتوجه سليم كما تحدث عن البدعة والضلالة التي يجب أن نحاربها ولا نتهاون في أمرها وعن البدع المختلف في الحكم عليها وفرق بينهما في جوانب كثيرة هامة ومفيدة لكل مسلم يحرص على طلب الحق والعمل به خاصة الشباب والحق أن دعوة الإخوان تسع جميع  المسلمين على ظهر الأرض على اختلاف اتجاهاتهم وأجناسهم وألوانهم ولغاتهم وتسعهم وتؤلف بينهم بل وتقيمهم جميعاً للعمل صفاً واحداً لإقامة فرائض الله التي من جملتها أن تكون كلمة الله وحده هي العليا.

وإن رسالة التعاليم بقواعدها تجمع المسلمين وتجعلهم جسداً واحداً وفهماً واحداً وتنمي بل وتثري حياة كل من رغب في العمل للإسلام تنمي فكره وتجدد فهمه الصحيح للإسلام وتدفعه إلى الأمام بعيداً عن الجدل والفلسفة التي لا طائل من ورائها إن رسالة التعاليم تعمل لتحديد الشخصية الإسلامية العاملة المجاهدة وتضعها في إطارها الصحيح الإطار الذي تتمثل فيه الإسلام عقيدة وفكراً وأخلاقاً وسلوكاً والمجتمع الذي يلتزم ويقتنع بالإسلام كنظام وشريعة وحياة نزل بها الوحي من عند الله.

يقول الإمام الشهيد:

"نحن نعتقد أن أحكام الإسلام وتعاليمه شاملة تنظم شئون الناس في الدنيا والآخرة وأن الذين يظنون أن هذه التعاليم إنما تتناول الناحية العبادية أو الروحية دون غيرها مخطئون في هذا الظن فالإسلام عقيدة وعبادة ووطن وجنسية ودين ودولة وروحانية وعمل ومصحف وسيف والقرآن الكريم ينطق بذلك كذلك ويعتبره من لب الإسلام ومن صحيحه ويوصي بالإنسان فيه جميعه وإلى هذا تشير الآية:

(وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ) سورة القصص

إن مفاهيم الأصول العشرين كما حددها الإمام الشهيد، وكما بينها المؤلف ندرك منها أن دعوتنا الإسلامية، وهذا يميزها عن المفاهيم الأخرى التي تريد أن تنطلق بالمسلمين من خلال فهم فيه غلو أو تجاوز وهي مفاهيم لا تكاد تبدأ السير حتى تتوقف وإذا مضت فعلى غير الطريق السوي، وهؤلاء نناديهم جميعاً تعالوا إلى الطريق الصحيح هنا.

وأخيراً..جزى الله إمامنا الشهيد خير الجزاء عن الإسلام وأهله وجزى الله الأخ المؤلف الشارح لهذه الأصول والموضح لها خير الجزاء.

وتقبل الله منه هذا العمل وجعله في ميزانه وأكثر الله من أمثاله من العاملين الصادقين المجاهدين والمربين ونفعنا الله بما قدم من علم وفقه سديد لدعوته وإني أطلب إلى الإخوة أن يحرصوا على قراءة هذه الرسالة ودراستها والاهتمام بها وفهمها. ثم العمل بعد ذلك والالتزام بكل ما ورد فيها. فهي عون لهم على المضي في طريق الدعوة ومن لم يفهم رسالة التعاليم لم يعرف ما يريده "الإخوان المسلمون" من الأخ المسلم اليوم وغداً ...والله أكبر ولله الحمد.

اللهم اجعل عملنا كله صالحاً

واجعله لوجهك خالصاً

ولا تجعل لأحد فيه شيئاً

اللهم آمين

      محمد عبد الله الخطيب

        القاهرة...شبرا

تحريراً في 10 ربيع ثاني 1413هـ

    الموافق 7 أكتوبر1992

 


تعالوا إلى كلمة سواء

نود قبل أن نبدأ الحديث في "فهم الإسلام في ظلال الأصول العشرين" للإمام الشهيد حسن البنا أن نتفق على قواعد كلية يجب أن تكون محل اتفاق بين المسلمين إذا عرضوا أمرهم للنقاش.

لأننا لا ندري لما هذه الحرب الضروس. والهجوم الذي لا ينقطع على فكر الإمام حسن البنا –رحمه الله- في أماكن متفرقة تزامنت في وقت واحد من أناس من جلدتنا وممن يدافعون عن إسلامنا وعقيدتنا ولا ندري لما أصبح هذا الفكر خطراً على الدعوة الإسلامية في أيامنا هذه بالذات وحصوننا مهددة من الداخل والخارج على حد سواء، والأمر جد لا هزل فيه يحتاج منا أن نهتم بعظائم  الأمور ونترك سفاسفها.

إننا نفعل فيما بيننا ما عجز عنه أعداء الإسلام ولم يستطيعوا تحقيقه وحققنا لهم أهدافهم بأيدينا ما كانوا ببالغيها حتى أصبح البعض منا يرى أن فكر الإمام البنا أخطر من فكر روسيا في أفغانستان وإسرائيل في القدس وأمريكا في بلاد الإسلام وفرنسا في شمال أفريقيا أو الصليبية في جنوب السودان وليت الأموال التي أنفقت في الصد عن دعوة الإخوان المسلمين في صفحات سودت للهجوم عليهم أُنفقت في التبشير بالإسلام في أفريقيا أو تعليم أبناء المسلمين في بيشاور بباكستان أو شراء سلاح للمقاتلين من أجل الإسلام في كل مكان أو حتى شراء حجارة لإرسالها لأطفال الحجارة في فلسطين لكان خيراً لنا جميعاً إلا أن يكون فكر الإخوان المسلمين أخطر من ذلك ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.

إن الأمور يا أحبة المتنازع حولها ومن أجلها يترتب عليها التمزق وتفريق الشمل بل هي الحالقة التي لا أقول تحلق الشعر بل تحلق الدين فهل نتقي الله جميعاً في إسلامنا؟ ونحب لله ونبغض لله ونعطي لله ونمنع لله حتى نستكمل إيماننا ويكون ميزاننا الذي نزن به الأمور هو ميزان السلف الصالح.

نسأل الله أن يجمعنا على كلمة سواء وأن يؤلف بين قلوبنا ويجرى الخير على أيدينا جميعاً لنتعاون فيما اتفقنا عليه من أصول يعذر بعضنا بعضاً في فروع ويعيد بناء أمة الإسلام من جديد إنه نعم المولى ونعم النصير.

وهيا إلى القواعد الكلية التي نود أن نتفق عليها جميعاً قبل أن نستعرض فهمنا للإسلام من خلال الأصول العشرين.

أولاً:عدم التعصب للرأي في سبيل كسب الأنصار وفرق بين التعصب والتمسك بالحق، فالتعصب يدفع الفرد إلى أن ينسب لغيره الضلال واضطراب العقيدة وينقد الدعاة ويلمزهم حتى ولو ارتكب في حقهم جريمتي الغيبة والنميمةـ بينما التمسك بالحق يصبغ صاحبه بالأخلاق الكريمة والكلمات العفيفة والموعظة الحسنة، والدعوة الحكيمة والمجادلة بالتي هي أحسن ووجوب رد التنازع في كل أمر إلى الله ورسوله.

ثانياً: لا يصح لفرد أو جماعة أن تدعي العصمة فيما تقول وتجعل رأيها-فى أمور الرأي- هو الحق وما عداه الباطل أو تدعي أنها تملك الحسم في الأمور الخلافية. بحيث يصبح الخروج على رأيها خروجاً عن الإسلام أو ضعفاً في الاعتقاد فلا عصمة لأحد وكل يؤخذ من كلامه ويرد.

ثالثاً: الأمور الخلافية لا إنكار فيها شرعاً والتماس العذر فيها ليس كتماناً لحق أو انتقاصاً للعقيدة. لكنه تعاون فيما اتفقنا عليه ويعذر بعضنا بعضاً فيما اختلفنا فيه.

رابعاً: أن يكون منهجنا قائماً على تحري الحق وبلوغ الصواب ليس استظهاراً لرأي أو محاولة إظهار هذا الرأي هو الصواب، ولكن نبحث عن الحق أين كان مصدره سواء ظهر على لساني أو لسان خصمي، يقول الإمام الشافعي:"ما ناظرت أحداً إلا رجوت الله أن يظهر الحق على لسانه، فالحق يقبل من كل من تكلم به".

خامساً: لا يجوز بل لا يحل التشنيع والإرجاف على جماعة ما بسبب مسائل تحتمل وجوهاً في الفهم والرأى ولا يحل فيها التكفير والتضليل والتفسيق لخطورة ذلك.

سادساً: لا يجوز بل لا يجب أن نبحث عن سقطات الآخرين ولا مواطن السقوط والضعف ونذيعها بين الناس لننفر الناس ممن يخالفنا فليس هذا المنهج الإسلامي ولا بأخلاق المسلمين.

سابعاً: الاتفاق العام على أصول المنهج لا يعني بالضرورة الاتفاق على التفاصيل ومخالفة المرء لبعض فروع المنهج لا يخرجه عن صحة أصل هذا المنهج فمثلاً قالت السيدة عائشة رضي الله عنها قال رسول الله r عن رؤية الله "نور أنّى أراه" بينما قال ابن عباس أنه r قال أنه رأى ربه بفؤاده فاختلفا وما خرجا عن أصل المنهج.

ثامناً: لا ينبغي الحكم على طائفة ما بأنها خارجة عن المنهج الصحيح بسبب خلاف جزئي مع اتفاقها على معظم الكليات فالحكم باعتبار الغلبة والرجحان.

تاسعاً: ضرورة التوسط والاعتدال حتى عند شنآن العداوة واستحكام الخلاف فلابد من الإنصاف.

فمثلاً الصوفية يجب الإنصاف في الحكم عليها لا المغالاة يقول ابن القيم في شطحات الصوفية : منهم من أساء الظن بالكلية وفرطوا ومنهم من أحسن الظن وأفرطوا وقال الحاكم في مستدركه على الصحيحين هم طائفة من المسلمين منهم أخيار ومنهم أشرار.

يقول ابن القيم : وكل أهل نحلة ومقالة يكسون نحلتهم ومقالتهم بأحسن ما يقدرون عليه من الألفاظ ، ومقالة مخالفيهم بأقبح ما يقدرون عليه من الألفاظ ومن رزقه الله بصيرة فهو يكشف بها حقيقة ما تحت تلك الألفاظ من الحق والباطل ولا تغتر باللفظ كما قيل في هذا المعنى.

تقول هذا جنى النحل تمدحه             وإن تشأ قلت ذا قيئ الزنابير

مدحاً وذماً وما جاوزت وصفهما               والحق قد يعتريه سوء تعبـير

فإذا أردت الاطلاع على كنه المعنى هل هو حق أو باطل فجرده من لباس العبارة وجرد قلبك من النفرة والميل ثم اعط النظر حقه ناظراً بعين الإنصاف ولا تكن ممن ينظر في مقالة أصحابه ويحسن الظن بهم نظراً تاماً بكل قلبه ثم ينظر في مقالة خصومه ويسيء الظن بهم كنظر الشرر فالناظر بعين العداوة يرى المحاسن مساوئ والناظر بعين المحبة  عكسه ولا يسلم من هذا إلا من أراده الله لكرامته وارتضاه بقبول الحق وقد قيل :

وعين الرضا عن كل عيب كليلةٌ               ولكن عين السخط تبدي المساويا

عاشراً: ضرورة الجمع بين النصوص التي قالها عالم من العلماء أو إمام من الأئمة بمعنى أننا قبل أن نتهم إمامًا أن عقيدته فاسدة أو لديه خطأ في تصور معين ينبغي ألا نجتزأ كلاماً من كلامه ثم نعمم الحكم ولكن ينبغي أن نجمع كل كلامه من متفرقات وأقواله فإن أجمل في وضع وفصّل في آخر فإننا نحمل المجمل على المفصّل وإن أبهم في موضع وأوضح في آخر فيحمل المبهم على الواضح البين، وكذلك نحمل المطلق على المقيد وهكذا ذلك لأن الاجتزاء قد يؤدي إلى الخطأ في الحكم فلو أنك علمت أن ابن القيم يقول بفناء النار والجنة بعد أن ينال المحسن إحسانه والمسيء جزاءه وهذه مقولة الجهمية فهل تتسرع بالحكم على ابن القيم بأنه جهمي بالطبع لا يجوز ذلك.

حادي عشر: ضرورة احتمال كلام العالم على أحسن المحامل إحساناً للظن بأخيك المسلم فإذا كان هناك كلاماً له وجوه باطلة وأخرى صحيحة نأخذ بالصحيح ونحسن الظن بهذا الإمام واسمع إلى ابن تيمية حيث تكلم بعض الصوفية فقال: مَن أحبه الله لم يضره الذنب. وهذا كلام له دلالة خطيرة يحمل الإرجاء فإذا بابن تيمية يفسره لصالح قائله ويقول يقصدون أن من أحبه الله وفقه إلى التوبة والاستغفار حتى لا يبقى على الذنب وهكذا حمله حملاً جميلاً إحساناً بالظن بقائله.

ثاني عشر: إن عرض مسائل الخلاف فيما نختلف مع غيرنا ينبغي أن يكون مستوعبًا أي يجب عرض جميع الجوانب كلها فلا نعرض جانباً ونترك آخر فلابد من الاستيعاب وتخير المقام الذي يقال فيه المسألة "حدثوا الناس بما يعرفون أتريدون أن يكذب الله ورسوله"

ثالث عشر: الأئمة المشهود لهم بالإمامة في الدين والتقى والورع والجهاد تنغمر هفواتهم في حسناتهم وفضائلهم ويجب أن نعرف أقدارنا في العلم ولا نتسرع في أمر الفتوى. قال الإمام السبكي: يجب أن نسلك الأدب مع الأئمة الماضيين ولا نخوض فيما وقع بينهم من خلاف فإن القوم أئمة أعلام ولأقوالهم محامل ربما لا يُفهم بعضها فليس لنا إلا السكوت عما شجر بينهم ونأخذ الحق من سبيله.

رابع عشر: العناية بدراسة ومعرفة الفرق الإسلامية لا يلزمنا اليوم إلا بمقدار ما نتعرف على المنهج الصحيح الذي رد به سلف هذه الأمة على فرق الضلال لنجابه به الضلالات المعاصرة فأهل السنة في كل زمان واجهوا الباطل في زمانهم.

واليوم هناك فرق ضالة وحديثة كالإسماعيلية والبهائية والقاديانية والماسونية والماركسية وغيرها من الفرق الضالة التي ظهرت لحرب الإسلام أليست هي الأولى بالمواجهة من الفرق القديمة التي اندثرت وليس لها وجود؟ إننا لا حاجة لنا بالفرق القديمة إلا بقدر معرفة وجه الشبه بين القديم والحديث وننظر في منهج العلماء الذي واجهوا به أهل الباطل في زمانهم فإن أفادنا ونفعنا فبها ونعمت وإلا فلا داعي لتجديد قديم غير موجود حتى لا تكون الحرب في غير ميدان.

وأخيراً نقولها من الآن وبصوت مسموع أن الحق الذي ندين به هو منهاج أهل السنة والجماعة وهو منهج السلف الصالح الذي يقوم على صحة النقل وصراحة العقل.

لأن العلم إما أن يكون عن قائل معصوم : وقول عليه دليل معلوم فإما قول مصدق أو استدلال محقق.

ونحن لا نلقي الكلام على عواهنه ولكنك سترى بمشيئة الله تعالى صدق ما نقول ونسأل الله التوفيق في عرض قضيتنا وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت .

فهيا إلى الأصول العشرين.


مقدمة الطبعة الرابعة

بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله ومن والاه وبعد :

فإن الله I إذا أنعم على عبد فقهه فى الدين (فَمَن يُرِدِ اللّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ) وهو I عادل يعطى الدنيا لمن أحب ولمن لا يحب ولا يعطى الدين إلا لمن أحب فمن أحبه الله أعطاه الدين وجعل له مذاقاً حلواً يجد حلاوته فى قلبه "ذاق طعم الإيمان من رضى بالله رباً وبالإسلام ديناً وبمحمد نبياً ورسولاًَ"

ومن نعم الله علينا أن أنعم علينا بفهم كامل شامل لهذا الدين كما جاء به المصطفى r ولا شك أن توريث هذه الدعوة أمر يستلزم من كل مسلم،كلٌ بقدره وبقدر ما يحمل من هذه الدعوة "بلغوا غنى ولو آية " لكى يكون المجتمع كله عاملاً لهذا الدين ولا يكون هناك أفراد يسمعون وآخرون يعملون بل الجميع يشارك بقدر ما يحصل من علم وهذه الدعوة المباركة التى مَنَّ الله I بها علينا وأصبحنا نحملها ونشكر الله  أن اصطفانا من بين خلقه وحَمَّلنا هذه الأمانة وننشرها بين الناس ،بعد أن منَّ علينا وبصرنا بمعالم الطريق كلما رأينا معلماً ثبتت الأقدام وتوجهنا للغاية المنشودة نرجو رحمته ونخشى عذابه، وكما تعلمنا فإن العبرة ليست بثمرة المنهج الصحيح ولكن الالتزام بخطواته كما جاء بها الرسول r أما الثمرة فـ (اللّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ) جنيناها في حياتنا الدنيا فنحمد الله، فإن لم نجنها استكمل غيرنا جنيها فهذه حكمة الله وما علينا إلا أن ننظر لخطواتنا، فنصحح الخطأ فيها ونثبت على الصواب ونتوكل على الله فهو حسبنا، من أجل هذا كان الإمام البنا يؤكد هذا المعنى ويقدم المنهج بوضوحه ووسائله وأهدافه، كي يكون المؤمن بهذه الطريقة على بينة من أمره ولقد اهتم الإمام البنا بتوضيح الفهم اهتماماً بالغاً؛ذلك لأن الإنسان المسلم إذا شاب فهمه أى أمر من الأمور عاقه ذلك عن المسير فى الطريق المستقيم الذي سماه ربنا صراطاً مستقيماً.

نقول هذا لأننا لا نستطيع أن نتكلم عن أصول الفهم العشرين إلا إذا حددنا معنى الفهم ذاته كركن من الأركان قبل أن نتكلم عن أصوله، ولكي يستبين لنا الأمر فإننا إذا نظرنا فى مجتمعاتنا الإسلامية نجد كثيراً من الراغبين فى العمل الإسلامى يتساءلون :أى الجماعات أهدى سبيلاً ؟فهم يرون فى سوق الدعوة تصورات كثيرة قد يحمل بعضها بضاعة مزجاة وقد يكون البعض الآخر شابه شيء من الإفراط أو التفريط ، أو من النقص أو الزيادة فكيف نفرق بين السوى من هذه الدعوات والمنحرف، وصحيح الفهم وسقيمه، وبين المفرط والمفرِّط وبين الصواب والخطأ، والناس فى حاجة إلى توضيح ذلك كله ولا نستطيع أن نقدم الفهم السليم إلا إذا كان عندنا واضحاً وضوح الشمس فى رابعة النهار؛ لأن الناس فى حاجة إلى تصويب ما أخطئوا فيه وإلى تأكيد ما أصابوه وإلى تقديم الدعوة كاملة لا تشوبها شائبة ولهم أن يسألون لكي يصلوا إلى الصواب وعلينا الإجابة والتوضيح وليس لنا أن تضيق صدورنا بأسئلتهم فقديماً سألت الملائكة ربها (أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ) وسأله إبراهيم u( كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى) وسأله موسى u (رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ) وسأل الناس رسول الله r حتى أننا نرى ذلك فى كتاب ربنا يسألونك عن كذا،فقل ،فلا يجوز للداعى أن يضيق صدره بأى سؤال مهما كان،عليه أن يتقبله بقبول حسن ويجيب عليه بما علمه الله  ،والحقيقة أن المقياس الذى يقيس به الناس هذا الأمر لكى يتبينوا الصواب من الخطأ ما كان متروكاً يوماً من الأيام للاجتهاد الشخصي ،وما كان متروكاً للميزان العقلى ولكنه أمر دقيق لأنه أمر ديني ودعوة خطاها رسول الله r بخطوات محددة وله مقياس واضح تحدث عنه العلماء ربما باستفاضة فقد يسألنا سائل: أي الجماعات مصيب وأيها عاملة بمنهاج الله وتابعة لرسوله r ومقتدية به كي نستبين الصواب من الخطأ؟نقول وبالله التوفيق: إذا أردت أن تقيم فكراً أو منهجاً أو جماعة من الجماعات التى تحمل منهاجاً،لابد أن نتأكد من معرفة التصور الذي تدعو إليه والفكر أو المنهج الذى تحمله من حيث :

أولاً- التصورات والاعتقادات والقيم والمبادئ التى يقوم عليها هذا المذهب أو هذه الجماعة من حيث عاداتها ، أساسها الفكري والعقيدي الذي قامت عليه ،نظرة هذه القيم والمبادئ للكون والإنسان والحياة.

ثانياً- الأشخاص الذين يدعون لهذا المنهج من حيث سلوكهم ككل وأخلاقهم كمجموعة وتكوينهم العقلى ومدى تطبيقهم لما يدعون إليه وتحملهم المشاق والتضحية من أجله ثم موقع هؤلاء الأفراد من الناس .

ثالثاً- نتائج هذا الفكر وأثره فى حياة معتنقيه ثم أثره فى أسرهم ومجتمعهم .

رابعاً- هل هذه النتائج وهذا التغير الذى حدث، تغير وقتى ينتهى بزوال هؤلاء الناس، أم هذا الفكر مستمر بعدهم يرثه جيل بعد جيل .

خامساً – هل هذا المنهج يرغم الناس على اعتناقه ويكرههم عليه ولا يسمح لمعارضيه بصوت ولا يسمع الرأى الآخر ولا ينتصح بمشورة أم أن معتنقيه يلتزمون به ولا يلزمون به أحد ويقنعون بالحجة والقول الحسن ولا يكرهون أحد عليه ويتركون الناس يختارون .

هذه مقاييس خمسة يستطيع أي إنسان أن يقيس بها أي جماعة من الجماعات عندما تعرض فكرها وبهذه المقاييس يتبين لنا الغث من الثمين،والصواب من الخطأ ولذلك وضع الإمام البنا لأتباع فكره مناهج ثلاثة محدودة :منهج للعقيدة ومنهج للعبادة ومنهج للحركة فمن أراد أن يتعرف على ما تحمله الجماعة من فكر وتصور فما عليه إلا أن يدرس هذه المناهج الثلاثة والتى تقدم لنا الإسلام بشموله وعمومه وسموه وكماله ودوامه ثم بعد ذلك يقيس هذا الفهم بالمقياس الثابت الذى لا يتغير وهو منهج رسول الله r الذى جاء به والذى حمله جيل بعد جيل ليومنا هذا ، وخير تفسير له سيرته r كما بينها العلماء الثقات.

منهج العقيدة:

فمنهج العقيدة عند الجماعة راعت لا إفراط فيه أو تفريط وباختصار هو منهج عقيدة أهل السنة والجماعة ومن فضل الله دُونت هذه العقيدة تدوين واضح من أهل السنة والجماعة بحيث لا نترك لمتأول فرصة ولكننا نعود دائماً للسلف والذى قرأ كتابي فهم الإسلام فى عرض عقيدة الإسلام، أو فهم الإسلام فى ظلال الأصول العشرين، يرى أن فكر الجماعة هو فكر أهل السنة والجماعة، كما أن منهج الإخوان فى عرض العقيدة يلتزم بهذا الفهم التزاماً واضحاً بصرف النظر عما يقوله أهل الهوى والذين تعودنا منهم أن يرمونا بالحجارة بينما نلق نحن عليهم الثمر وبهذا المنهج الذي نحرص عليه ونلتزم به لا تنشأ بيننا الفرق الإسلامية كما نشأت من قبل كالخوارج والمعتزلة والشيعة وغيرهم من الجماعات التى حادت عن منهج أهل السنة والجماعة والتي ظهرت في زماننا هذا فأشكال مختلفة كجماعة التكفير والهجرة وغيرها من الجماعات التي تُكفر المسلمين بالكبيرة بل ويتمادى بعضهم ويُكفر بالصغيرة ، ويعيدون سيرة الخوارج مرة أخرى.

ولقد نشأ هذا الفكر فى سجون عبد الناصر سنة 1965 حين اشتد التعذيب على الإخوان بوجه خاص وعلى المسجونين الآخرين بوجه عام فلم يروا إلا صورة من الحرب الشديدة على الإسلام والمسلمين فكان لا يسمح بصلاة ولا قرآن وكنا نسمع التهجم على الإله والتهكم عليه ولا نرى إلا صورًا بشعة لا تحتمل تأويلاً إلا الكفر وحامل الكفر ليس بكافر فاشتط البعض فكفَّر المجتمع كله مما دفع الإمام الهضيبى أن يكتب كتاب "دعاة لا قضاة" وضح فيه الفرق بين أصول العقيدة وفروعها وحدد هذه الأمور تحديدًا واضحًا كما بينها الإمام البنا سواء فى كتاب العقائد أو الأصول العشرين.

والذي نريد أن نؤكد عليه بعد ذلك أن الإمام البنا بالرغم من هذا التوضيح الهام إلا أنه لم يهتم بعلم العقيدة فحسب ولكنه اهتم بأثر العقيدة في بناء الإنسان حتى لا تكون العقيدة علم يحفظ وكلام يدرس وينتهي الأمر بحصيلة علمية تبحث عن أثرها فى القلب فلا تجد.

وهذا المعنى هو الذي أكد عليه الإمام ابن القيم حين قال : أن للا إله إلا الله قلب وقالب،قالبها علمها ،فالقالب الإطار الذى يحددها ويشترك فيه المؤمن والكافر، على حد سواء يقرأ المسلم ويحصل يستطيع المشرك أن يفعل ذلك وأكثر فالمستشرقون قرءوا أكثر ولكن ليسوا سواء، وأصحاب الهوى الذين يحاربوننا بالشبهات يقرءون ويلتقطون الشبهات

ولذلك فليست العبرة بقالب لا إله إلا الله فحسب ولكن الأهم قلبها وقلبها هو أثرها في القلب وهذا الذي ينفرد به المسلم عن الكافر وهو أساس العقيدة عند المسلم ، فليس أساس العقيدة حفظ النصوص فحسب بل تترك صفات الله فيه لكن الأهم الأثر فإن كان الله رحيم فهو يتحلى بالرحمة،وإن كان قوياً يتحلى بالقوة،وإن كان عزيزاً يتحلى بالعزة ،كل اسم من أسماء الله وصفاته تترك أثرها فيه ليصبح ذا شخصية عابدة مؤمنة (وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا) وإذا تأملت آيات الله فى القرآن لا تجد كلاماً عن وصفه الإيمان مجرداً لكن تجد كلامًا عن المؤمنين بصفاتهم كأن الإيمان أصبح رجالاً يمشون على الأرض ترجمة لهذا الإيمان ولذلك لا تجد تعريفات عن الإيمان والإسلام بل إن حديث جبريل المشهور حين جلس النبى r وجاءه جبريل يسأله عن الإيمان والإسلام وبعد أن جاء نظر رسول الله r لعمر وقال : أتدري من السائل ؟ قال ما المسئول بأعلم من السائل ، فقال هذا جبريل أتاكم يعلمكم أمر دينكم.فمهمة جبريل هي العلم فقط أما مهمة الرسول r فهي: (يُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ) فمهمة جبريل لم تكن تزكية وتربية ولكن تعليم فحسب بينما الرسول r يعلمهم ويزكيهم،ولذلك إذا وقفنا نحن عند تحصيل العلم نكون قد أخذنا جانباً واحداً من مهام الرسول ،وتركنا أهم مهمة له وهى التزكية والتربية التي يتحقق بها صفات المؤمنين ، ومن هنا فإننا نتعبد الله بذكر هذه الصفات التي يتحلى بها المؤمنون نقول في صلواتنا (كانوا قَلِيلًا مِّنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ {17} وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ {18} وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِّلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ).

إنها صفات رجال فى منتهى الصفاء والنقاء بعد أن أصبحت واقعاً ملموسًا يبرز الجانب الأخلاقى والسلوكي وهو نتيجة حتمية من أثر الاعتقاد ولذلك فإن الصحابة رضوان الله عليهم كانوا يتفاوتون في تحصيل العلم فهذا ترجمان القرآن وهذا عالم الفرائض وهذا عالم الفقه بينما لا يتفاوتون خلقاً فجميعهم خلوقين وإن كان الإسلام يشجع الإنسان على تحصيل العلم بقدر طاقته إلا أنه يلومه إن فقد شيئًا من الصفات الأخلاقية لأن تحصيل الأخلاق يستوي فيها العالم والجاهل على حد سواء، ولهذا فاهتمامنا بأثر العقيدة فى غاية الأهمية فى منهجنا الإسلامي أما العلم فيتحلى به ويحصله القادر عليه يقول ربنا (فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ), وأما الأخلاق فبضاعة كل مسلم لأن الرسول r يقول "إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق" من أجل ذلك فإن الرسول r غرس فى صحابته مشاعر ثلاثة : شعور بعظمة الرسالة التي يحملها المسلم ، وشعور بالاعتزاز بالانتساب إليها حتى يقول كنا أذلة فأعزنا الله بالإسلام فمن ابتغى العزة بغير الإسلام أذله الله .

وأما الثالثة الثقة فى نصرالله مهما اسودت الليالى ومهما طال الزمن سيأتى نصر الله (وَاللّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ) (إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ) (كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ) وتأمل مسلماً تربى على هذه المشاعر فهو يشعر بأنه يحمل شيئاً عظيمًا يعتز بالانتساب إليه ويثق فى نصر الله له، إنه في هذه الحالة ليقول لكل جبار:جئنا لنخرج العباد من عبادة العباد لعبادة الله وحده ومن جور الحكام لعدل الإسلام ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة ، وتأمل ما حدث في غزوة الخندق ووصف القرآن لقوة الأعداء وموقف المؤمنين منهم يقول القرآن (إِذْ جَاؤُوكُم مِّن فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ وَإِذْ زَاغَتْ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا) هنا افترق الناس إلى فريقين يحملان قلبين مختلفين:قلب خاوٍ من الإيمان مريض، وقلب مليء بالنور الرباني والثقة في الله فالذين انتسبوا إلى الدعوة لمصلحة شخصية قالوا (مَّا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا) فأين النصر والتمكين الذى تتحدثون عنه ؟

بينما الفئة التي تعمقت العقيدة فى قلبها وثبتت أقدامها على الطريق يصفها القرآن (وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا) قالوا هذا الكلام وهم فى شدة وبأس شديد ولأن العقيدة ملكت عليهم حياتهم نتيجة التربية التي أكد عليها القرآن لرسولنا r حتى صعدت روح الرسول r لخالقها فكل آية فيها من الدروس والعظات والعبر والمواقف سواء كان ذلك فى العقيدة أو العبادة أو التشريع، لذلك فإن الإمام البنا اهتم بهذا الأمر اهتماماً بالغاً وركز على أثر العقيدة فى بناء الرجال وهذا ما تركه البنا فلم يترك مؤلفات فحسب بل ترك ما هو أحسن الرجال الذين ما زالوا يحملون الدعوة ويضحون من أجلها يورثونها لمن بعدهم حتى يقضي الله أمراً كان مفعولاً.


منهج العبادة:

إذا تركنا منهج العقيدة الذي يسر شرحه الإمام البنا فحري بنا أن نشير إلى منهج العبادة والتي أعطاها الإمام معنى الشمول فلم تقتصر على الشعائر فحسب ولكي يتضح لك فإن الدارس لأحوال المسلمين قبل هذه الدعوة المباركة يرى الصوفية قد انتشرت انتشاراً واسعًا في بلادنا. فرق لا حصر لها واجتزأ الإسلام اجتزاءً وحصر مفهومه في الجانب التعبدي ولذلك حوربت هذه الدعوة لغرابة الفهم الذي جاءت به من المسلمين بوجه عام ومن بعض العلماء بوجه خاص ولقد أقام الإمام البنا منهجه على أمرين :صحة الاعتقاد وصدق الاتباع فهو يهتم بصحة العقيدة بإتباع السلف الصالح (إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ) وأقام فهم العبادة على الشمول والعموم والسمو والدوام والكمال فمنذ أقول عند نومي:"باسمك ربى وضعت جنبي وبك أرفعه" حتى أقوم فأقول "الحمد لله الذي أحياني بعدما أماتني وإليه النشور" فأنا في عبادة طوال النهار وآناء الليل منطلقاً إلى حياتي المعتادة وأنا لا تقف العبادة لحظة من اللحظات حتى وضع اللقمة فى فم امرأتي كل ذلك عبادة لله يقول أبو داود فى سننه:"إذا خرج رسول r من الخلاء فإنه يقول أستغفر الله ثلاثًا" ويعلق أبو داود قائلاً :لماذا يستغفر الرسول r بعد خروجه من الخلاء؟ فيجيب لأنه جلس فى مكان لا يستطيع أن يذكر الله فيه فاستغفر على الوقت الذى قضاه دون ذكر الله فيه .

إن العبادة تسري وتتحقق فى كل أمر من أمور حياتنا وليست وقفًا على الشعائر التى نؤديها فحسب كما ذكرنا من قبل ولا شك أن الشعائر هي الزاد الرباني الذي يتزود به العبد السائر فى طريق الله وبدونه ينقطع الطريق وتزل الأقدام ومن هنا أمر رسول الله r في أول الدعوة بتحصيل هذا الزاد (قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا، نِصْفَهُ أَوِ انقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا، أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا، إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا) فهو r ومن معه من الصحابة وهم الضعاف يواجهون أهل الباطل بهذا الزاد (وَإِن كَادُواْ لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ) حتى قوله الله (أَقِمِ الصَّلاَةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ) الآيات فلابد أن نكون عُبّاد لله أولاً وقبل كل شيء ولذلك جاءت الحركة متأخرة يتقدمها الزاد الرباني أولاً فإذا تحقق فليقم العبد ليتحرك بدعوته (قُمْ فَأَنذِرْ، وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ، وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ، وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ) فتتحقق الحركة الربانية المنضبطة.

منهج الحركة:

نحن لا نريد أن نسود العالم بأي شكل من الأشكال ونصبو إلى السلطة والحكم ولكننا نريد أن نقيم ديناً يقول ربنا عنه (شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ ) فقضيتنا هي قضية إقامة الدين وليس الاستيلاء على السلطة ومرشدنا رحمة الله عليه هو القائل "أقيموا دولة الإسلام فى قلوبكم تقم على أرضكم"لأن أساس التغيير عندنا قبل الحركة  تغيير النفس نبدأ بإصلاح النفس أولاً لأن المجتمع لا يتغير إلا إذا تغيرنا نحن من داخلنا (إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ) ،والمتأمل لإقامة الدولة فى المدينة يجدها قامت على أمرين أولهما عقد الإيمان، وهو أول أمر اهتم به النبي r حين هاجر إلى المدينة فبنى مسجدًا ليتحقق هذا العقد، ثم كان عقد الأخوة لتتحقق قوة الوحدة فإن تحققت هذه القوة تأتي بعد ذلك قوة العلم، قوة الجيش وأى قوة من القوى التي أمرنا المولى بإعدادها والتي يسبقها تقوى الله وحسن الخلق وهذه هي البداية الصحيحة التي لا بداية قبلها.

وبهذا المنهج المتكامل حقق الإمام البنا أموراً ثلاثة :

أول هذه الأمور أنه حرر العقيدة من زيف الجمود وما داخلها من أوهام وشبهات وصححها وقدمها بالتصور السليم والنظرة الصائبة للكون والإنسان والحياة وحقق التوازن والاعتدال واهتم بأثر هذه العقيدة في بناء الرجال (رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ ) ونحن نرى صدق هذا الوصف فيهم ولا نزكي على الله أحداً فمنهم (مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا).

الأمر الثانى :تخليص العقل من النظرة الجزئية للإسلام إلى النظرة الشمولية فخلَّص العقل من التركيز على الجزئيات والاهتمام بكليات الإسلام.

الأمر الثالث : كسر الجمود الذى أصاب العقل لقد نادى الإمام بفتح باب الاجتهاد كما دعى بذلك علماء من قبل لأنه لا معنى للمناداة بغلق باب الاجتهاد لأن الاجتهاد يمثل الإبداع عند الإنسان ويجعل العلماء يجتهدون فيما جد من أقضية تمس زمانهم ومجتمعهم ، صحيح هناك ثوابت لا يجب الاقتراب منها ومتغيرات ظنية هي مجال المعاصرة والاجتهاد للعلماء دور فيها وخير مثال على ذلك أستاذنا الفاضل الدكتور القرضاوي الذي اشتهر باجتهاداته في القضايا المعاصرة ومحاولته إيجاد حلول للمشاكل الحالَّة إسلامياً من نظرة إسلامية أفادت كثير من المسلمين وهو لا شك من تلاميذ البنا وتخرج من مدرسته فكل هذه الأمور مرتبطة بفهم الإخوان ارتباطاً وثيقاً بالرغم من اختلافهم في فروع المسائل ومن أراد زيادة بيان فليرجع إلى رسائل الإمام البنا خاصة رسالة العقائد ورسالة التعاليم وبالأخص ركن الفهم فيها.

إننا إذا تأملنا ما يركز عليه الإمام البنا بعد الفهم الدقيق والإيمان العميق والحب الوثيق تركيزه على ضرورة تحقيق قوة الجماعة لأنه بقوتها تحقق الأهداف وهي تقوى برباطين : الرباط الإيماني وأساسه الفهم والرباط التنظيمي وأساسه الأخوة فيقوى الرباط الإيمانى بالفهم والإخلاص والتجرد وفى الأمر تفصيل ليس مجاله هنا.

وقوة الرباط التنظيمى عندنا بالأخوة والطاعة والثقة فكلما تحققت الأخوة وقويت بين الأفراد كلما تحققت الطاعة وازادت الثقة ولا تتحقق شريعة الإسلام إلا بهذا الركن الركين ركن  الإخوة وإذا اختل الرباط الإيمانى ستختل تبعاً لذلك قوة الرباط التنظيمى فكان لابد من الحب والود بين أفراد الجماعة أولاً (وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مَّا أَلَّفَتْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ) وتدبر قول الله تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لآئِمٍ ) ثم يقول: (ذَلِكَ فَضْلُ اللّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ) فقوة الرباط الإيمان من الأهمية بمكان لأنه يحفظ المسلم من الزلل ويحفظ الحاكم من الطغيان وهو الذي دفع عمر بن الخطاب t أن يقول "لا خير فيكم إن لم تقولوها ولا خير فينا إن لم نسمعها"

فإذا تحققت قوة الرباط الإيمانى بالفهم والإخلاص والتجرد كما ذكرنا، وقوة الرباط التنظيمى تتحقق بالأخوة والطاعة والثقة دفعت هاتان القوتان الأفراد داخل الجماعة إلى العمل والجهاد والتضحية والثبات وهذه هى أركان البيعة العشر .

ونريد أن نقول بهذه المناسبة إن ما نقوله من أركان وصفات  ليست على سبيل الحصر لا تزيد ولا تنقص بل هو اجتهاد الإمام البنا فجعلها عشرة وهي في نظري لا تنقص عن العشرة ولكنها قد تزيد، وهذا ما فعله فضيلة الأستاذ الشيخ القرضاوى قال : وأنا أزيد عليها كذا ، لأن الزيادة في ذلك فضل لأنها أخلاق كريمة يجب أن يتحلى بها المسلم.

نسأل الله I أن يجمعنا على طاعته وأن يجعلنا من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه ويثبتنا فى هذه الدنيا بالقول الثابت وفى الآخرة حتى نلقى الله وما علينا خطيئة ، كما نسأل الله أن نكون قد أضفنا جديداً ينفع الناس بعد هذه المدة الطويلة التي حظي بها هذا الكتاب بثقة الجميع وأصبح بعون الله مصدراً لتلقي الكثير للفهم بالرغم من أننا لم نضف جديداً طوال هذه الفترة في .......... الموافق ............ والله نسأل أن يجعل ذلك في ميزان الحسنات ، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

   الفقير لعفو ربه

جمعة أمين عبد العزيز

25فبراير2005


الأصل الأول

أصل الشمول

" الإسلام نظام شامل يتناول مظاهر الحياة جميعها فهو دولة ووطن أو حكومة وأمة وهو خلق وقوة أو رحمة وعدالة وهو ثقافة وقانون أو علم وقضاء ،وهو مادة وثروة أو كسب وغنى وهو جهاد ودعوة أو جيش وفكرة كما هو عقيدة صادقة وعبادة صحيحة سواء بسواء".

هذا الأصل يعالج :

1-ربانية المصدر.

2-شمول المنهج.

3-عمومية الرسالة .

4-عالمية الدعوة.

5-أخلاقية الوسيلة والغاية وخصائص الدعوة الإسلامية بوجه عام.

لم يتوقف الإسلام عن الانتشار منذ بزوغ فجره حتى فى أشد أيام غزوه من القوى المعادية له فهم يريدون له انحساراً والله يريد له انتشاراً (يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ)

ولم يترك أعداء الإسلام وسيلة من  الوسائل الخسيسة إلا استخدموها للصد عن سبيل الله ومحاولة إبعاد المسلمين عن منهاج حياتهم بشتى الطرق يقول زويمر -كبير المبشرين فى البلاد العربية فى الثلاثينات- : "إن مهمة التبشير التى ندبتكم دول المسيحية للقيام بها فى البلاد المحمدية ليست هى إدخال المسلمين المسيحية فإن هذا هدية لهم وتكريم ،إن مهمتكم أن تخرجوا المسلم من الإسلام ليصبح مخلوقاً لا صلة له بالدين " هذا الكلام يبين قدم الكيد للإسلام والتخطيط القديم لذلك، ولنرى فضل الله علينا بهذه الدعوة التى جددت فهم الإسلام بشموله وعمومه ، يقول القس دولسن :"إنه لا شك فى أن التربية الغربية هى من قبيل قوة تنحل بها عُرى الروابط الإسلامية"وهذا هو التخطيط الذى خططه أعداء الإسلام بهذا الدين ويقول تاكلى :"يجب أن نشجع فتح المدارس على النمط الغربى العلمانى؛ لأن كثيراً من المسلمين قد تزعزع اعتقادهم فى الإسلام والقرآن حينما درسوا فى المدارس الغربية وتعلموا اللغات الأجنبية .

هذا التخطيط وُضع للأسف موضع التنفيذ ونتج عنه من استحالت عقولهم إلى عقول غربية يحملون أسماء إسلامية لكن كل أفكارهم وتصوراتهم هى أفكار وتصورات غربية، بل إن الصليبى كاتلى يقول :"يجب أن نستخدم القرآن وهو أخص سلاح الإسلام ضد الإسلام نفسه حتى نقضى عليه تماماً ،يجب أن نبين للمسلمين أن الصحيح فى القرآن ليس بجديد وأن الجديد ليس بصحيح".

ويقول بن جوريون :" نحن لا نخشى الاشتراكيات ولا الثوريات ولا الديمقراطيات فى المنطقة نحن نخشى فقط الإسلام ذلك المارد الذى نام طويلاً وبدأ يتململ .

ولكى تزداد قناعة استمع إلى جلادستون يصعد مجلس العموم البريطانى ومعه نسخة من القرآن يلوح بها فى وجه الأعضاء ويقول :"إنه ما دام هذا الكتاب باقياً فى الأرض فلا أمل لنا فى إخضاع المسلمين" فإذا بأحدهم يأخذ الكتاب منه ويمزقه فيقول له :"ليس هذا ما أردت إنما أردت أن نفرغه من معانيه".

بدأت حرب جديدة لا هوادة فيها، حرب فكرية تغزو عقول المسلمين وقلوبهم غزو فكرى وثقافى لأبعد الحدود مُمَكّن له فى مدارسنا وبلادنا كل هذا لكى يصيغوا العقل صياغة غير إسلامية فإذا أصبح العقل غير إسلامى فإن تفكيره ونتاجه يصبح غير إسلامى لذلك فقد ركزوا على هذا الأمر تركيزاً شديداً، وكان من نتيجة ذلك بُعد المسلمون عن الفهم الشامل للإسلام كما أراده المولى سبحانه وتعالى فى قوله (لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلآئِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّآئِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُواْ وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاء والضَّرَّاء وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ) [البقرة: 177]

فهذه آية واحدة من آيات الله بينت الشمول فى الإسلام بما تضمنه من: العقائد – والأخلاق – والعبادات –والمعاملات.

إن المسلم الذى يفهم إسلامه فهماً سليماً لا يفرق بين نداء الله (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) وهذه عبادة وبين نداءه سبحانه (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى) وهذا تشريع والذى يأمر بالعبادة هو الذى يأمر بالتشريع وعلى المسلم ألا يفرق بين أحد منهم (أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ)، فإذا استطاع الفرد أن يحقق الإسلام فى الصيام ألا يستطيع أن يحققه فى القصاص وغيره من الأمور التى جاءت بكتاب الله : فمن يحمي البيضة، ومن يرد المظالم ومن يقيم العدل ومن يقيم الحدود على الأرض أليست هذه كلها من الإسلام. إن الإسلام هو دين الجماعة ولابد للجماعة من منهج وأمير يضع المنهج موضع التنفيذ.

بين دعوة البنا والدعوات الأخرى:

إن دعوة الإمام البنا التي تؤكد أن الإسلام دين ودولة ونظام مجتمع ومنهج حياة قد أحدثت تحولاً فى الفكر الإسلامى فى زمانه الذى برز فيه مفهوم الإسلام مجرداً من جانبه السياسى والاجتماعى وفرض مفهوم جزئى يقوم على العبادات والمظاهر الدينية المختلفة وأن يكون المجتمع المسلم أشبه بالمجتمع الغربى فى نظرته للدين.

*لقد اختلف المسلمون فى ذلك الوقت فى معنى الإسلام اختلافاً عظيماً فمن الناس من لا يرى الإسلام شيئاً غير حدود العبادة الظاهرة فإن أداها أو رأى أحد يؤديها اطمئن إلى ذلك ورضى به وحسبه قد وصل إلى لب الإسلام وذلك هو المعنى الشائع عند عامة المسلمين .

*ومن الناس من لا يرى الإسلام إلا الخلق الفاضل والروحانية الفياضة والغذاء الفلسفى الشهى للعقل والروح والبعد بهما عن أدران المادة الطاغية الظالمة ولا مانع أن يستشهد بقول النبى r :"إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق" ، علماً بأن الشريعة الإسلامية تنبع وتنبثق من عقيدة أساسها الخلق، بل كل معاملاتنا مبنية على الأخلاق ولذلك يجب ألا نحصر معنى الأخلاق في الأخلاق الفردية التى يتحلى بها الأفراد من أمانة وصدق وإخلاص وغير ذلك من الصفات الكريمة.

ومنهم من يقف إسلامه عند حد الإعجاب بهذه المعانى الحيوية العملية فى الإسلام فلا يتطلب النظر إلى غيرها ولا يعجبه التفكير فى سواهها.

ومنهم من يرى الإسلام نوعاً من العقائد الموروثة والأعمال التقليدية التى لا غناء فيها ولا تقدم معها فهو متبرم بالإسلام وبكل ما يتصل بالإسلام وتجد هذا المعنى واضحاً فى نفوس كثير من الذين ثقفوا ثقافة أجنبية ولم تتح لهم فرص حسن الاتصال بالحقائق الإسلامية فهم لم يعرفوا عن الإسلام شيئاً أصلاً أو عرفوه صورة مشوهة بمخالطة من لم يحسنوا تمثيله من المسلمين، وهؤلاء هم أصحاب أو تلاميذ المدرسة الغربية الذين ينادون لا دين فى السياسة ولا سياسة فى الدين أصحاب فصل الدين عن الدولة وهؤلاء الذين عادوا الحركة الإسلامية سواء أكانت الحركة القومية أو الوطنية أو غيرها من التيارات التى كانت موجودة فى زمان الإمام البنا وناوءت الحركة التي نادت بشمول الإسلام وعمومه لدرجة أنك كنت تسمع في هذه الفترة أن التمسك بالدين نوع من التعصب، وأن الاستمساك بالدين فيه تجاهل لغير المسلمين، وأن هذا الدين ناسب عصره ، ونزل لفترة محددة من الزمان على قوم معهم رسول الله r والصحابة وهو لا يناسب غير هذا العصر الذى نزل فيه .

ثم ركزوا على أن التدين من الأعمال الشخصية التى تتصل بالفرد ،يقول :"إيمانى فى قلبى" ،"أنا بينى وبين ربنا عمار" ، دع ما لقيصر لقيصر وما لله لله " ونسوا أن "ما لقيصر لله وما لله لله" ، فكل أمر من الأمور هى لله.

هذه المفاهيم التى رآها الإمام البنا رضوان الله عليه وأرضاه فى هذا الوقت والتى ظهرت بعد أن انحصرت الخلافة الإسلامية فى بلاد المسلمين وغاب الحكم الإسلامى وأصبح واقع المسلمين هكذا وغزا أعداء الإسلام المسلمين بالشبهات والشهوات والدعاوى الباطلة، وإثارة ونشر المفاهيم المنحرفة البعيدة عن الإسلام لخلق شخصية ممسوخة ذلك لأن أعداء الإسلام يعلمون أن الشخصية الإسلامية لا تكتمل فهماً وتطبيقاً إلا ويتأكد الخطر الداهم الذى يهدد أعداء الإسلام فعملوا على هدم هذه الشخصية وبذلوا كل الجهود حتى لا تكون واقعاً على الأرض لأنها الشخصية الإسلامية الأخلاقية التى بناها رسول الله r أولاً فأقامت الإسلام فى قلبها ثم بعد ذلك جعلته حقيقة على أرضها.

هذه هى الحال التى دعا فيها الإمام البنا بدعوته وصحح فيها هذه المفاهيم الخاطئة قائلاً:

"نحن نعتقد أن أحكام الإسلام وتعاليمه شاملة تنتظم شئون الناس فى الدنيا والآخرة وأن الذين يظنون أن هذه  التعاليم إنما تتناول الناحية العبادية أو الروحية دون غيرها مخطئون فى هذا الظن فالإسلام عقيدة وعبادة ووطن وجنسية ودين ودولة وروحانية وعمل ومصحف وسيف والقرآن الكريم ينطق بهذا كله ويعتبره من لب الإسلام ومن صميمه ويوصى بالإحسان فيه وإلى هذا تشير الآية الكريمة (وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ)


وإنك لتقرأ القرآن فتجد فيه:

فى العقيدة والعبادة : (وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاء وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ)

وفى الحكم والسياسة : (فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا)

وفى التجارة والدِّين : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُب بَّيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ....)

وفى الجهاد والقتال والغزو : (وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاَةَ فَلْتَقُمْ طَآئِفَةٌ مِّنْهُم مَّعَكَ وَلْيَأْخُذُواْ أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُواْ فَلْيَكُونُواْ مِن وَرَآئِكُمْ وَلْتَأْتِ طَآئِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّواْ فَلْيُصَلُّواْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُواْ حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ...

الآية )

دعوة الإخوان:

وهكذا اتصل الإخوان المسلمون بكتاب الله واستلهموه واسترشدوه فأيقنوا بالفهم الشامل للإسلام الذي يجب أن يهيمن على كل شئون الحياة وأن تصطبغ جميعها به وأن تنزل على حكمه وأن تساير قواعده وتعاليمه وتستمد منه حياتها ما دامت الأمة تريد أن تكون مسلمة إسلاماً صحيحاً.

ولكى يتأصل هذا الفهم للإتباع وضع الإمام الشهيد أهدافاً محددة تصل بنا إلى الغاية المنشودة وهى:

1-إصلاح النفس.

2-تكوين البيت المسلم.

3-إرشاد المجتمع.

4-دعوة الحكومة لتطبيق شرع الله بالوسائل الحكيمة وآداب الإسلام.

5-الدعوة إلى الوحدة الإسلامية.

والسبيل إلى ذلك:

أولاً – دعوة تضبطها الحكمة والموعظة الحسنة والمجادلة بالتى هى أحسن لا إكراه فيها ولا عنف شعارها لا إكراه فى الدين.

ثانياً-تربية إسلامية أساسها منهاج القرآن وسنة الرسول صلى الله عليه وسلم شعارها اعرف ربك وأصلح نفسك وادع غيرك وأقم دولة الإسلام فى قلبك .

ثالثاً-من هذه اللبنات التى تربت تنشأ الأسرة، فالجماعة، فالحكومة المسلمة كى يتحقق الغرض المنشود بإذن الله .

ولقد وضع الإمام البنا مناهج ثلاثة تحدد إطاراً للفهم السليم للإسلام وهى:

منهج للعقيدة: لا إفراط فيه ولا تفريط يُستقى من معين السلف الصالح يبنى رجالاً تغرس فى نفوسهم مشاعر ثلاثة:

1-الشعور بعظمة هذه الرسالة .

2-الاعتزاز بالانتساب إليها.

3-الثقة فى نصر الله.

منهج للعبادة : يقوم على صحة الاعتقاد وصدق الاتباع ويمتاز بالشمول والعموم والسمو والكمال والدوام ولا يفرق بين العقيدة والشريعة ولا الصلاة والجهاد: (قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ، لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ....) وبذلك يتحقق الشمول .

وعموم يحقق قوله تعالى (قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا)

وكمال يحقق قوله تعالى (مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ)

ودوام يحقق قوله تعالى (وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ)

منهج للحركة: يهتم بالداعى بصفاته الأخلاقية والسلوكية كالأمانة والصدق والإخلاص والرحمة والوعى والفقه إلخ.

كما يهتم بالوسائل المشروعة والقواعد المنضبطة والمراحل المتدرجة التى يجب أن يمر بها وللعلم فإن هذا الذى دعا إليه الإمام الشهيد حسن البنا ليس إسلاماً جديداً وإنما هو جدد قديماً كاد الناس أن ينسوه وأكد على أن خصائص المنهج الإسلامى، فهو ليس تصوراً عقيدياً فحسب ولا ديناً عبادياً روحياً وكفى، ولا نظاماً اقتصادياً واجتماعياً وسياسياً مجرداً ولكنه منهج حياة يجمع بين رقة التوجيه ودقة التشريع وإلى جلال العقيدة ، جمال العبادة وإلى إمامة المحراب قيادة الحرب.

إنه منهج متكامل الجوانب شامل النظرة فيه تنظيم علاقة الفرد بنفسه وعلاقته بأسرته وعلاقة مجتمعه به وفيه بيان للأصول والقواعد التى تقوم عليها النظم والقوانين التى تحكم سير المجتمع والناس وفق نظرة الإسلام للكون والإنسان والحياة.

وما العجيب فى هذا فصانع الشريعة هو الله، وتتمثل فيها قدرة الخالق وكماله وعظمته وإحاطته بما كان وما هو كائن ومن ثم صاغها العليم الخبير بحيث تحيط بكل شيء فى الحال والاستقبال حيث أحاط علمه بكل شيء وأمر جل شأنه أن لا تغير ولا تبدل حيث قال (لاَ تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللّهِ) لأنها ليست فى حاجة للتغيير والتبديل مهما تغيرت الأوطان والأزمان وتطور الإنسان (أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ)

ونحن نطالع آيات القرآن الكريم وأحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم الخاصة بقيام الدولة فى الإسلام لا نلتقى بآية ولا بحديث يقول " يا أيها الذين آمنوا أقيموا دولة الإسلام أو اتخذوا منكم إماماً وحاكماً يضع القرآن موضع التنفيذ فى شئون الدنيا كلها " تماماً كما لا نلتقى بآية تقول أو بحديث يقول " يا أيها الذين آمنوا تنشقوا الهواء...!! ذلك أن القضية من البداهة بحيث لا تتطلب أمراً بها ودعوة إليها وإنما جاء الإسلام أكمل وأسمى من أن يعرض لجزئيات فى هذه الحياة وخصوصاً فى الأمور الدنيوية البحتة فهو يضع القواعد الكلية فى كل شأن من هذه الشئون ويرشد الناس للطريقة العملية للتطبيق عليها والسير فى حدودها ويتجه  القرآن وتتجه الأحاديث النبوية مباشرة إلى الحديث عن شكل هذه الدولة ومقاييسها وأخلاقياتها وعن المسئوليات المتبادلة بينها وبين الأمة وهذا ما أدركه صحابة الرسول r بفطرتهم وذكائهم، فهذا أبو بكر الصديق رضى الله عنه بمجرد وفاة الرسول r حدث أمر خطير فى سقيفة بنى ساعدة فإذا بأبى بكر يجمع المسلمين يقول:"أيها المسلمون لابد لهذا الأمر من قائم يقوم عليه"،قالوا: صدقت يا أبا بكر لابد أن يكون هناك أمير يقود المسلمين ولذلك وجدنا سيدنا عثمان t هو القائل:"إن الله ليزغ بالسلطان ما لا يزغ بالقرآن" ، أما سيدنا على t قال :"لابد للناس من إمارة بارة أو فاجرة، قيل يا أمير المؤمنين هذه البارة قد عرفناها ،فما بال الفاجرة ؟ قال تقام بها الحدود وتؤمن بها السبل ويجاهد بها العدو ويقسم بها الفيئ".

 لابد أن يكون هناك نظام يحكم المسلمين وينظم حياتهم مما يؤكد وجوب وجود الجماعة وأميرها وما أكثر أحاديث الرسول r في هذا المعنى والتحذير عن البعد عنها يقول الإمام الماردى:"الإمامة موضوعة لخلافة النبوة فى حراسة الدين وسياسة الدنيا"، ويقول r :"يد الله مع الجماعة ،ومن شذ،شذ فى النار "ويقول "عليكم بالجماعة" ويقول عنها ابن مسعود  :"حبل الله المتين الذى أمر به وإن ما تكرهون فى الجماعة والطاعة خير مما تحبون فى الخلاف والفرقة " ويقول على رضى الله عنه :"كدر الجماعة ولا صفاء الفرد "فإذا قلنا أن الإسلام عقيدة وشريعة فإننا نؤكد على أن الشريعة تنبثق من هذه العقيدة ،عقيدة التوحيد التى نحملها بين جنبينا فإذا صلحت العقيدة وصحت صح السلوك وصح التصرف ولن يقبل المولى الشريعة إلا إذا صحت العقيدة.

ويقول الإمام البنا:"كونوا عُبَّاداً قبل أن تكونوا قوادا تصل بكم العبادة إلى أحسن قيادة"، فى البداية ينبغى تصحيح العقيدة لأن صحة العقيدة أمر مهم، يقول ابن القيم:"إن للا إله إلا الله قلب وقالب وقال أن قالبها علمها ولكن قلبها أثرها"، ولذلك اهتم الرسول r ببناء الرجال الذين يقام بهم البناء لأن قوة المسلمين فى عقيدتهم التي لا تفرق بين أبيض وأسود، عجمى وعربى، رئيس ومرؤوس، بل تسوى بين الجميع إلا بالتقوى ميزان التفاضل بين الناس (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ) لقد جاءت العقيدة ووحدت المشاعر ثم جاءت الشعائر بعدها وعمقت العلاقة بين العبد وربه وأصبح أصحاب العقيدة الواحدة يعبدون رباً واحدًا ويتجهون لقبلة واحدة، ويتعلمون من رسول واحد، ويقرأون كتاباً واحد، ثم جاءت أخيراً الشرائع بعد ما تحققت وحدة المشاعر وهكذا نزل القرآن بهذا الترتيب وجاءت قضية البناء فى الشرائع متأخرة؛ لأن أمرها سهل جدًا إذا حققنا كمال العقيدة ثم تابعنا الرسول فيما أمر.

أثر العقيدة:

 إن نظرة واحدة لهؤلاء الذين عاشوا فى الجاهلية، ما الذى حدث لهم وجعل منهم رجالاً يقول الواحد منهم :"إن الله ابتعثنا لنخرج الناس من عبادة العباد إلى عبادة الله، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام ومن ضيق الدنيا لسعة الدنيا والآخرة"، فنحن نريد رجالاً حراساً على العقيدة يقولون للحاكم:" والله لا سمع ولا طاعة حتى تخبرنا من أين أتيت بهذا الثوب" ويقولون له:" اتق الله يا عمر" فلم يغضب بل يقول : "لا خير فيكم إن لم تقولوها ولا خير فينا إن لم نسمعها" هذه الأمور أساسها اعتقاد وإيمان سرى فى العروق حتى أن سحرة فرعون الذين كانوا يبحثون عن المال والأجر قبل أن تسرى العقيدة فى كيانهم يقولون له (إِنَّ لَنَا لأَجْرًا إِن كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ) ما بال هؤلاء القوم الذين حين سرت العقيدة في عروقهم وشرح الإيمان صدورهم وقال لهم الفرعون (فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُم مِّنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى) قالوا : (لَن نُّؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا ، إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى) إذاً وحدة المشاعر سابقة على وحدة الشرائع والتى نحققها على أرض الواقع متدرجة.

إن توحيد الله بقول لا إله إلا لله محمد رسول الله ليس أمر عقيدة تستقر فى النفوس فحسب دون المجتمع لبقى النبى فى مكة لا يغادرها، فلماذا خرج ؟ لأن الإسلام ليس عقيدة توحيد تعمل عملها فى نفس الإنسان فحسب ولكن لابد أن يتعدى العمل فى النفس إلى المجتمع ولذلك هاجر لأن الإسلام يحتاج إلى مجتمع مسلم فسعى r إليه لكى يبنيه ويقيمه.

إن المسلم لابد أن يكون صالحاً فى ذاته مصلحاً لغيره يسعى لإقامة دين الله على الأرض ولن يكون الأمر كذلك إلا بعد أن تصاغ العقول الصياغة الإسلامية التي ترتب العقل ترتيباً إسلامياً على أمرين:

الأمر الأول- أن الإسلام ليس عقيدة تستقر فى القلب فحسب ولا شعائر يؤديها وينتهى الأمر :

ولكنه منهج حياة يقام به دين الله على الأرض ولكى نقيم الإسلام بشموله وعمومه لابد أن يسبق هذا الأمر خطوات نحقق بها يقظة روحية إيمانية. فنوقظ قلب وعقل الأمة أولاً وقبل كل شيء يقول الإمام البنا فى هذا المعنى "نحن لا نسعى للحكم ولكن الحكم هو الذى يسعى إلينا". ولن يسعى الحكم إلينا إلا بعد يقظة إيمانية وحب لدين الله، يومها يطالب الناس بالإسلام ولا يُفرض عليهم والأمة على هذا الحال .

الأمر الثانى- تربية الفرد المسلم تربية إسلامية بمفهومها الشامل :

نربى الفرد تربية إسلامية أساسها إيمان بالله وتوحيد يملأ القلب وثبات على الطريق ووثوق في نصر الله، لا يخشى في الله لومة لائم (أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِن دُونِهِ) فرد يُربى تربية إسلامية متأنية تصنع (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا) هذا الفرد المسلم هو نفسه الذي يُكوِّن الأسرة المسلمة التى تقيم حدود الله "فاظفر بذات الدين تربت يداك" و "إذا جاءكم من ترضون دينه فزوجوه إن لم تفعلوا تكن فتنة فى الأرض وفساد كبير" فهذه الخطوات مقصودة لذاتها لا يمكن أبداً بأى حال من الأحوال أن يتجاوزها أي فرد مسلم ، ونحن نريد بهذه التربية أهدافاً محددة:

أولاً -أن الهدف من تطبيق أحكام الإسلام هو إيجاد واقع عملى إسلامى ملموس:

يراه الناس كى يزدادوا إيمان بما ندعو إليه وأن ما نرفعه من شعار "الإسلام هو الحل" حقيقة واقعة تتمثل في سلوك الأخ أو الأخت كنموذج للإسلام حركة وسلوكاً وحديثاً وعلاقة، نريد هذا النموذج سواء نموذج الفرد أو نموذج الجماعة التى تقدم الحلول لأصحاب المشاكل .

 

 

ثانياً-أن العمل لتحقيق هذه الأهداف يجب أن يقوم على أساس التخطيط المرحلى :

فإن "المنبت لا أرضًا قطع ولا ظهراً أبقى " والمنبت هو الذى يضرب الدابة كى تقطع الطريق بسرعة، يظل يضربها حتى يهلكها فأضاع الدابة بحماقته ولم يصل إلى الهدف المنشود، كذلك لابد أن يكون للإنسان المسلم عقلية تخطيطية ذات أهداف ومراحل كل هدف يوصل إلى الآخر حتى نصل إلى الغاية المنشودة وكل مرحلة من المراحل يكون لها أهداف وهكذا .

ثالثاً- أن العمل لتحقيق هذه الأهداف لابد أن يقوم على أساس العمل الجماعى :

لأن العمل الفردى لا يستطيع أن يحقق هذه الأهداف، بل لابد من طليعة تتحلى بصفات أخلاقية وتحمل هذه المعانى الإيجابية.

يقول الأستاذ عمر التلمسانى -رحمه الله- إن الأستاذ المرشد حسن البنا -رحمه الله- سأله يوماً :" هل تقرأ القرآن؟" فأجاب: بنعم، ثم قال:" وأخرجت من جيبى مصحفاً لأؤكد له ما أقول فسألنى:"ولماذا تحتفظ به فى جيبك؟" فقلت:"إنه خير وبركة"، فما كنت أعرف أن القرآن كتاب رسالة ومنهج ولكنى كنت أقول ما أفهمه من حمله وأنه بركة توضع على الرأس إكباراً أو فى الجيب حراسة أو فى المأتم رحمة، فقال المرشد : ما لهذا نزل القرآن يا عمر، لقد نزل تشريعاً يربط بين الدنيا والآخرة، لقد نزل لنعمل به فى سبيل الله وخير المسلمين، لا لكى تضعه فى جيبك أو لكى تقرأه لوحدك، وعندما تتمعن فى قراءة القرآن وإدراك معانيه فسوف تجد أن القراءة لمجرد القراءة لا يفيدك فأنت عبد من عباد الله تقرأ القرآن تقرباً لله وهذا صحيح، وإنما هذا أمر لا يكفى فالمسألة ليست مسألة بركة فحسب وإنما العمل بتعاليم القرآن فهل يرضى الإسلام أن يكون المسلم ذليلاً ؟ هل يرضى أن يكون فى مؤخرة العالم كله ؟ هل يرضى أن يكون حملة كتاب الله على هذه الصورة من التبعية ؟ إنه القرآن الذى جاء لكى يعز الذليل ويُمكَّن للضعيف وأن ينشر رحمته ونوره فى العالم .

يقول الإمام البنا :"إن الله قد بعث لكم إماماً ووضع لكم نظاماً وفصّل أحكاماً وأنزل كتاباً وأحل حلالاً وحرم حراماً وأرشدكم إلى ما فيه خيركم وسعادتكم وهداكم سواء السبيل فهل اتبعتم إمامه واحترمتم نظامه وأنفذتم أحكامه وقدستم كتابه وأحللتم حلاله وحرمتم حرامه كونوا صرحاء فى الجواب وستجدون الحقيقة،سترون الحقيقة واضحة أمامكم كل النظم التى تسيرون عليها فى شئونكم الحيوية نظم تقليدية بحتة لا تتصل بالإسلام من قريب ولا بعيد ولا تستمد منه ولا تعتمد عليه نظام الحكم الداخلى نظام العلاقات الدولية نظام القضاء نظام الدفاع والجندية نظام المال والاقتصاد للدولة والأفراد الثقافة والتعليم نظام الأسرة والبيت بل نظام الفرد فى سلوكه الخاص وروحه العام الذى يهيمن على الحاكمين والمحكومين ويشكل مظاهر الحياة على اختلافها كل ذلك بعيد عن الإسلام وتعاليم الإسلام ،إننا نناديكم والقرآن فى يميننا والسنة فى شمالنا وعمل السلف الصالح من أبناء هذه الأمة قدوتنا ندعوكم إلى الإسلام وتعاليم الإسلام وأحكام الإسلام وهدى الإسلام فإن كان هذا من السياسة عندكم فهذه سياستنا ،وإن شئتم أن تسموا ذلك سياسة فقولوا ما شئتم، فلن تصرفنا الأسماء متى صحت المسميات وانكشفت الغايات".

إنه دستور نزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم تبياناً لكل شيء وصدق الله حين قال (أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ)

دستور لا يزاحم ولا ينافس ولا يضاهى به سواه وليس أمام الدولة المسلمة أى خيار فى أن تأخذ بعضه وتذر بعضه وإن فعلت صمها تأنيب الله وهو يقول (أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاء مَن يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنكُمْ إِلاَّ خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ)

فكل ما تحتاجه الحياة ويحتاجه الناس من توجيهات ونظم وقوانين وآداب موجود فى إسلامنا موجود فى قرآننا العظيم وليس ثمة ما يدعو إلى هجر القرآن ولا هجر الإسلام اللذين ارتضاهما الله لنا كتاباً وديناً

وصدق رسول اللهr  فيما رواه الحارث عن على رضى الله عنه قال : سمعت رسول r يقول :"ستكون فتن كقطع الليل المظلم، قلت : يا رسول الله وما المخرج منها ؟ قال كتاب الله تبارك وتعالى فيه نبأ من قبلكم وخبر ما بعدكم وحكم ما بينكم هو الفصل ليس بالهزل من تركه من جبار قصمه الله ومن ابتغى الهدى فى غيره أضله الله هو حبل الله المتين ونوره  المبين والذكر الحكيم وهو الصراط المستقيم وهو الذى لا تزيغ به الأهواء ولا تلتبس به الألسنة ولا تتشعب معه  الآراء ولا يشبع منه  العلماء ولا يمله الأتقياء ولا يخلق على كثرة الرد ولا تنقضى عجائبه وهو الذى لم تنته الجن إذ سمعته أن قالوا : سمعنا قرآن عجباً ، من علم علمه سبق ومن قال به صدق ومن حكم به عدل ومن عمل به أجر ومن دعا إليه هدى إلى صراط مستقيم خذها إليك يا أعور" إنه الشمول فى الدعوة والداعى معاً.

 


الأصل الثانى

مصدر التلقي

"والقرآن الكريم والسنة المطهرة مرجع كل مسلم فى تعرّف أحكام الإسلام ويُفهم القرآن طبقاً لمعانى اللغة العربية من غير تكلف ولا تعسف ويرجع فى فهم السنة المطهرة إلى رجال الحديث الثقات "

هذا الأصل يعالج:

1-المصدر الأول الكتاب- القرآن الكريم.

2-المصدر الثانى السنة النبوية وما يتعلق بهما.

حين نقول إن الإسلام دين ودولة ، كان لابد أن يكون لهذا الكلام مصدره الذى يوثقه ويؤيده وكل كلام فى دين الله ليس له مصدره الصحيح من كتاب أو سنة هو كلام أبتر لا يعتد به.

ولذلك كان الأصل الثانى هو الأصل الذى يحدد مصدر التلقى لأن القرآن والسنة هما أساس الشريعة وهما اللذان جاءا بنصوص الشريعة المقررة للأحكام الكلية أما باقى المصادر فهى لا تأتى بأسس شرعية جديدة ولا تقرر أحكاماً كلية جديدة وإنما هى طرق للاستدلال على الأحكام الفرعية من نصوص القرآن والسنة ولا يمكن أن تأتى بما يخالف القرآن والسنة لأنها تستمد منهما وتستند إلى نصوصهما.

فما هو المصدر الأول؟

القرآن: هو المصدر الأول لأنه كلام الله المعجز ووحيه المنزل على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم المكتوب فى المصاحف المنقول عنه بالتواتر المتعبد بتلاوته .

ولا خلاف بين المسلمين فى أن القرآن من عند الله وأنه سبحانه وتعالى تجب له الطاعة فالقرآن حجة على كل مسلم ومسلمة وأحكامه واجبة الاتباع أياً كان نوعها

أحكام القرآن:

وأحكام القرآن على نوعين:

1-أحكام يراد بها إقامة الدين وهذه تشمل أحكام العقائد والعبادات.

2-وأحكام يراد بها تنظيم الدولة والجماعة وتنظيم علاقات الأفراد بعضها ببعض وهذه تشمل أحكام المعاملات والعقوبات والأحوال الشخصية والدستورية والدولية ...إلخ.

ولقد نزلت هذه الأحكام بقصد إسعاد الناس فى الدنيا والآخرة ومن يتتبع آيات الأحكام يجد كل منها يترتب عليه جزاءان : جزاء دنيوى وجزاء أخروى.

ولم تشرع آيات الأحكام للدنيا والآخرة عبثاًَ وإنما اقتضى ذلك منطق الشريعة فهى فى أصلها تعتبر أن الدنيا دار ابتلاء وفناء وأن الآخرة دار بقاء وجزاء وان الإنسان مسئول عن أعماله فى الدنيا ومجزى عنها فى الآخرة فإن فعل خيراً فلنفسه وإن أساء فعليها والجزاء الدنيوى لا يمنع من الجزاء الأخروى إلا إذا تاب الإنسان وأناب.


أحكام القرآن وحدة واحدة:

وأحكام القرآن لا تتجزأ ولا تقبل الانفصال لأن النصوص الشرعية تمنع من العمل ببعضها وإهمال البعض  الآخر كما تمنع من الإيمان ببعضها والكفر ببعض وتوجب العمل بكل أحكامها والإيمان بها إيماناً تاماً بكل ما جاءت به (أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاء مَن يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنكُمْ إِلاَّ خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ)

وتمتاز الشريعة الإسلامية عن الشرائع الوضعية بميزات عظيمة هى أن أحكامها شرعت للدنيا والآخرة – كما قلنا- وهذا هو السبب الوحيد الذى يحمل معتنقيها على طاعتها فى السر والعلن والسراء والضراء لأنهم يؤمنون بأن الطاعة لله نوع من العبادة تقربهم إليه وأنهم يثابون على هذه الطاعة ومن استطاع منهم أن يرتكب جريمة ويتفادى العقاب الدنيوى فإنه لا يرتكبها مخافة العقاب الأخروى وغضب الله عليه.

ولذلك فهى تلزم معتنقيها أن يتخلقوا بالأخلاق الفاضلة ومن تخلق بالأخلاق الفاضلة ندر أن يرتكب جريمة وهم بعد ذلك يعلمون أن الله رقيب مطلع على أعمالهم وأنهم مهما استخفوا من الناس فلن يستخفوا من الله وهو معهم أينما كانوا وبذلك تقل الجرائم ويحفظ الأمن وتصان الجماعة ومصالحها العامة بعكس الحال فى القوانين الوضعية فإنها ليس فى نفوس من تطبق عليهم ما يحملهم على طاعتها ومن استطاع أن يرتكب جريمة ما وهو آمن من سطوة القانون فليس ثمة ما يمنعه من ارتكابها من خلق ودين ولذلك تزداد الجرائم زيادة مطردة فى البلاد التى تطبق القوانين الوضعية وتضعف الأخلاق ويكثر المجرمون من الطبقات المستنيرة تبعاً لزيادة الفساد الخلقى فى هذه الطبقة ولقدرة أفرادها على التهرب من سلطان القانون.

ولأنها من عند الله فإنها أصلح نظام وأكمله وأعدله وأشمله لا نقول تصلح لكل زمان ومكان ولكننا نقول تصلح الزمان والمكان للشمول الذى تمتاز به من حيث نظرتها للإنسان ونظرتها للكون ونظرتها للحياة.

فالعقيدة تنطلق منها وحدة المشاعر، والعبادات تمثل وحدة الشعائر، والنظام يمثل وحدة الشرائع ومزج الشريعة بين أحكام الدنيا والدين وإيمان المسلمين بها ضمن للشريعة الاستمرار والثبات وبث فى المحكومين روح الطاعة والرضاء ودعاهم إلى التخلق بالأخلاق الكريمة وجعل الشريعة قوة فى الردع ليست لأى قانون وضعى آخر مهما أحكم وضعه وأحسن تطبيقه وتنفيذه.

ما اشتمل عليه القرآن :

واشتمل القرآن الكريم على أصول الشريعة وقواعدها وفى الحلال والحرام وجاءت أكثر أحكامه مجملة تشير إلى مقاصد الشريعة وتضع بيد الأئمة والمجتهدين المصباح الذى يستنبطون فى ضوئه أحكام جزئيات الحوادث فى كل زمان ومكان وهذا سر خلود الشريعة وشمول قواعدها الكلية ومقاصدها العامة لما يحدث فى الناس من أقضيات.

وإنما فصل القرآن ما لابد فيه من التفصيل الذى يجب أن يسمو عن مواطن الخلاف والجدل كما فى العقائد وأصول العبادات أو لأنه يبنى على أسباب لا تختلف ولا تتغير بتغير الأزمنة والأمكنة وذلك كما فى تشريع المواريث ومحرمات النكاح وعقوبة بعض الجرائم.

وللقرآن علوم منها المكى والمدنى ، والعام والخاص، والمحكم والمتشابه، والناسخ والمنسوخ، والمجمل والمشكل وأسباب النزول وغيرها من العلوم التى عرفت عند العلماء بعلوم القرآن.

ولذلك كان لابد للمفسر لآيات القرآن من علوم يحتاج إليها من أهمها :

1-اللغة والاشتقاق ذلك لأن بعض الفرق الإسلامية المنحرفة حرفت بعض آيات القرآن وأولتها تأويلاً بعيداً عن معانى اللغة وضوابطها كأصحاب التأويلات الباطنية والرمزية وغيرهما وصدق عمر بن الخطاب رضى الله عنه حين قال "عليكم ديوانكم لا تضلوا" ويقول مجاهد "لا يحل لأحد يؤمن بالله واليوم الآخر أن يتكلم فى كتاب الله إذا لم يكن عالماً بلغات العرب".

2-النحو والصرف.

3-الأدب وعلوم البلاغة.

4-علوم القرآن .

5-علم أصول الدين والتوحيد.

6-أصول الفقه.

7-الحديث النبوى والفقه والسيرة.

8-علوم أخرى كالعلوم الاجتماعية والتاريخ والجغرافيا..إلخ

وقد ضع الإمام السيوطى فى كتابه "الاتقان فى علوم القرآن" ثلاثة عشر علماً -منها ما سبق-يجب أن يحيط بها من يتكلم فى التفسير وبعد أن عدَّدها قال: وعلم الموهبة، فقيل له وما علم الموهبة ؟ قال:"نور يقذفه الله فى قلب من يشاء من عباده".

ولهذا فإن الصحابة أنفسهم كانوا يتفاوتون فى فهم القرآن تبعاً لمواهبهم وإطلاعهم على لغتهم وآدابهم فضلاً عن معرفة أسباب النزول .

فهذا ابن عباس ترجمان  القرآن يقول : كنت لا أدرى ما فاطر السماوات حتى أتانى أعرابيان يختصمان فى بئر فقال أحدهما : أنا فطرتها يقول : أنا ابتدأتها .

وها هو ذا أبو بكر -وفى رواية عمر رضى الله عنهما- لا يعرف معنى "وأبا" فيقول : أى سماء تظلنى وأى أرض تقلنى إن قلت فى القرآن برأيى .

والذى نريد أن نشير إليه إشارة سريعة أن قوماً اكتفوا بالقرآن وأنكروا السنة ويقول عنهم الإمام الشاطبى :

"إن الاقتصار على الكتاب رأى قوم لا خلاق لهم خارجين عن السنة ، إذ عولوا ما بنيت عليه من أن الكتاب فيه تبيان كل شيء فاطرحوا أحكام السنة فأداهم ذلك إلى الانخلاع عن الجماعة وتأويل القرآن على غير ما أنزل الله"

وعلى هذا فإن القرآن هو أساس الدين ومصدر التشريع وحجة الله البالغة فى كل عصر ومصر بلغه رسول الله لأمته لأمر ربه (يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ) وأمرنا ربنا باتباعه (اتَّبِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ وَلاَ تَتَّبِعُواْ مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ)

فأحلوا حلاله وحرموا حرامه وعملوا بمحكمه وآمنوا بمتشابهه واعتبروا بأمثاله.

وعلموا أن الرسول صلى الله عليه وسلم أوتى القرآن ومثله معه وهو المصدر الثانى للتشريع.

المصدر الثانى:

السنة: التشريع إما أن يكون وحياً إلهياً بالمعنى واللفظ وذلك يتمثل فى القرآن الكريم الذى أنزله الله على رسولنا صلى الله عليه وسلم.

وإما أن يكون إلهياً بالمعنى دون اللفظ وذلك يتمثل فى سنة الرسول صلى الله عليه وسلم فإن اللفظ لفظ الحديث من كلامه وإن كان معناه وحياً لقوله تعالى (وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى، إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى) والله سبحانه وتعالى هو المشرع ورسوله صلى الله عليه وسلم هو المبين لشرعه (وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ...) وأوجب الله طاعة الرسول لأنها من طاعته (مَّنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللّهَ...) وجعل حكمه عن إلهام منه (إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللّهُ..) فلا شرع إلا ما شرع الله وإلا ما شرع رسوله r ولهذا كان للتشريع الإسلامى مصدران أساسيان الكتاب والسنة وبانتهاء حياة الرسول صلى الله عليه وسلم انتهى عهد التشريع.

والسنة هى ما أثر عن الرسول r من قول أو فعل أو تقرير مع اختلاف فى هذا التعريف بين العلماء – وهى على ثلاثة أنواع :-

السنة القولية: وهى أحاديث الرسول r التى قالها فى مختلف المناسبات مثل قوله :"لا يحل قتل امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث : كفر بعد إيمان أو زنا بعد إحصان أو قتل نفس بدون نفس" وقوله r "الطهور شطر الإيمان".

السنة الفعلية: وهى أفعاله r سواء كان فى الصلوات أو كان فى الأفعال مثل قضائه بالعقوبة فى الزنا بعد الإقرار وقطعه اليد اليمنى فى السرقة وقضائه بشاهد واحد ويمين المدعى.

السنة التقريرية : وهى ما صدر عن بعض أصحابه r من أقوال أو أفعال أقرها الرسول r بسكوته وعدم إنكاره أو بموافقته وإظهار استحسانه فيعبتر عمل الصحابى أو قوله بعد أن أقره الرسول صلى الله عليه وسلم كأنه صادر من الرسول صلى الله عليه وسلم نفسه ومثل ذلك أن النبى صلى الله عليه وسلم لما بعث معاذ إلى اليمن سأله بم تقضى ؟ قال بكتاب الله ، فإن لم تجد فبسنة رسول الله فإن لم تجد أجتهد رأيى فأقره الرسول صلى الله عليه وسلم على ذلك حيث قال: الحمد لله الذى وفق رسول رسول الله إلى ما يرضى رسول الله أو كما حدث مع الصحابة الذين ذهبوا إلى بنى قريظة والذى صلى منهم العصر قبل وصولهم، ومنهم من صلى بعد الوصول، أقر هؤلاء وأقر هؤلاء فهذه تسمى سنة تقريرية، يقرها رسول الله r، والسنة هى  المصدر الثانى بعد القرآن وتلى القرآن فى المرتبة :




أحكام السنة:

وأحكام السنة من الناحية التشريعية لا تعدو أن تكون واحداً من ثلاثة:

1-إما أن تكون سنة تقرر وتؤكد حكماً جاء به القرآن فيكون الحكم مرجعه القرآن والسنة معاً كتحريم القتل بغير حق وشهادة الزور والسرقة ومثل تحريم القتل يقول ربنا I فى كتابه الكريم (وَلاَ تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ) ويقول الرسول r :"ولا يحل دم امرئ مسلم …" فهنا جاءت السنة ومن قبل جاء القرآن بهذا  التحريم وغيره من الأمور التى جاء بها القرآن والسنة معاً.

2-وإما أن تكون سنة مفصلة مفسرة حكماً جاء به القرآن مجملاً أو  مقيداً ما جاء فى القرآن مطلقاً، أو مخصصة للتى جاءت به السنة بياناً للمقصود من الحكم الذى جاء به القرآن لأن الله جعل لرسوله صلى الله عليه وسلم حق البيان لنصوص القرآن (وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ...) فالسنة هى التى فصلت الصلاة قال تعالى (وأقيموا الصلاة) لكن جاء الرسول r وقال:"صلوا كما رأيتمونى أصلى"فمنه أخذنا الصبح اثنين والظهر أربعة …وهكذا، والحج "خذوا عنى مناسككم "، والزكاة لأن القرآن يأمر بهم ولم يبين لا كيفية الصلاة ولا مقادير الزكاة ولا مناسك الحج فجاءت السنة وبينت ذلك :

ونصوص القرآن أحلت البيع وحرمت الربا والسنة هى التى بينت بيوع الربا ونصوص القرآن حرمت الميتة والدم والسنة قيدت هذا الإطلاق.

3-وإما أن تكون سنة مثبتة حكماً سكت عنه القرآن فيكون الحكم أساسه السنة وليس له دليل من القرآن كقول الرسول صلى الله عليه وسلم :"لا تنكح المرأة على عمتها ولا خالتها" وكقوله فى تحريم الذهب "حرام على رجال أمتى حلال لنسائها وكقوله "يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب" وهكذا.

حفظ السنة:

يقول الإمام ابن حزم :"ليس القرآن فقط الذى حفظه الله I ولكنه حفظ السنة أيضًا فى صدور رجال بالرغم من أن القرآن جمع ،ويستشهد ابن حزم استشهاداً لطيفاً جداً يقول (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) فيقول الذكر هنا ليس القرآن وحده ،ولكن الذكر هنا (لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ) فإذاً التبيان داخل فى الذكر فحفظ الله جمع بين القرآن والسنة.

ويتكون الحديث من السند وهو سلسلة الرجال الموصلة إلى متن الحديث أى نصه ويشترك فى السند رجال من الصحابة والتابعين عادة؟.

الصحابى: هو من لقى النبى صلى الله عليه وسلم مؤمناً به ومات على الإسلام طالت مجالسته أم قصرت، روى عنه أو لم يرو غزا أو لم يغز رآه رؤية ولم يجالسه وكذلك، من لم يره لعارض كالأعمى.

التابعى: قال الخطيب البغدادى "هو من صحب الصحابى" فهو لا يكتفى بمجرد اللقاء بل اشترط أن تكون هناك صحبة بين الصحابى والتابعى.

أما الحاكم النيسابورى قال هو من لقى الصحابى وروى عنه وإن لم يصحبه كسعيد بن المسيب والقاسم بن محمد وعروة بن الزبيير وسالم بن عبد الله بن عمر إلخ.

أنواع السنة:

أنواعها بحسب روايتها: سنة متواترة –ومشهورة –آحاد.

السنة المتواترة: هى ما رواه عن رسول الله جمع يمتنع عادة أن يتواطأ أفراده على الكذب لكثرتهم وأمانتهم ثم رواه عن الجمع جمع مثله وعن هذا الجمع جمع آخر وهكذا حتى وصلت إلينا بسند كل طبقة من رواته جمع لا يتفقون على كذب من مبدأ التلقى عن الرسول حتى وصلت السنة إلينا ، ومن هذا القسم السنن العملية فى أداء الصلاة والصوم وغير ذلك من شعائر الدين تلقاها المسلمون جموعاً عن الرسول ولقنوها جموعاً آخر دون خلاف عليها مع اختلاف الأعصار وتباعد الأمصار .

السنة المشهورة : هى ما رواها عن الرسول صحابى أو أكثر دون أن يبلغ الرواة حد التواتر ثم نقلها من الراوى أو الرواة جمع من جموع التواتر وتناقلها عن هذا الجمع جموع أخرى حتى وصلت إلينا بسند أول طبقة منه فرد أو أفراد لا يبلغون حد التواتر وباقى طبقاته من جموع التواتر ومن هذا القسم ما رواه عمر بن الخطاب وابن مسعود وغيرهما من الصحابة.

سنة الآحاد: هى ما رواه عن الرسول صلى الله عليه وسلم أحاد أو جمع لم يبلغ حد التواتر وتناقلها عن هؤلاء أمثالهم من الآحاد أو الجموع التى لم يبلغ حد التواتر ومن هذا القسم معظم الأحاديث.

والسنن جميعاً قد تكون قطعية الدلالة إذا كانت لا تحتمل تأويلاً وقد تكون ظنية الدلالة إذا كانت تحتمل التأويل وجميعها مصدر تشريعى واجب الإتباع (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ..)

ويجدر بنا أن نشير إلى أن جميع الأقوال والأفعال التى صدرت عن الرسول صلى الله عليه وسلم بقصد البيان والتعليم والإرشاد هى تشريع ملزم.

أما التى صدرت عنه بخبرته الخاصة بالشئون الدنيوية كالاتجار والزراعة وتنظيم الجيوش فليست تشريعاً لأنها من الخبرة الشخصية التي قال فيها "أنت أعلم بأمور دنياكم منا"

وما صدر منه باعتباره بشر كالقيام والقعود والشرب لا تعتبر تشريعاً فليست جزءاً من رسالته إلا ما سنه صلى الله عليه وسلم .

وكذلك الأفعال التى صدرت عنه ودل الدليل على أنها من خصائصه لا يشاركه فيها أحد كالزواج بأكثر من أربعة ودخوله مكة بغير إحرام والوصال فى الصوم لا يعتبر تشريعاً لأن ذلك خاص به صلى الله عليه وسلم لا يشاركه فيه غيره.

وإذا كانت هناك الأحاديث القولية والفعلية والتقريرية فهناك أيضًا الحديث القدسى الموحى معناه دون لفظه وهذا هو الفرق بينه وبين القرآن إذ أن القرآن موحى بلفظه ومعناه وترتيبه فليس للنبى صلى الله عليه وسلم إلا التبليغ وهو متواتر كله.

وأما الحديث القدسى ففيه الصحيح والضعيف والموضوع والمكذوب.

ومن هنا فإنه لابد من دراسة الحديث سنداً ومتناً ولقد وضع العلماء لدراسة كل منهما موازين ومقاييس تساعدهم على الوصول إلى أدق الأحكام وأصحها .

فمن العلوم التى استنبطوها لدراسة:

السند: 1-علم تاريخ الرواة      2-علم الجرح والتعديل              3-علم علل الحديث

المتن: 1-علم غريب الحديث ويبحث فى غريب الكلمات وألفاظه التى تخفى.

2-علم مختلف الحديث يبحث فى الحديثين اللذين ظاهرهما التعارض.

3-علم الناسخ والمنسوخ .

يقول الإمام ابن حزم : نقل الثقة عن الثقة يبلغ به النبى صلى الله عليه وسلم مع الاتصال أخص الله به المسلمين دون سائر الملل فقد حرص الصحابة والتابعون ومن بعدهم على أداء ما سمعوه من رسول الله صلى الله عليه وسلم بأمانة وإخلاص وتحروا فى النقل حتى انتهى هذا إلى أئمة رجال الحديث ودونت السنة.

ويالها من دقة لم تسبق إليها أمة فقد وضع العلماء مع هذه العلوم شروطاً للصحة والحسن والضعف من حيث: 

اتصال السند، العدالة،الضبط، عدم الشذوذ، عدم العلة.

وقالوا إذا ضعفت صفة من هذه الصفات أو فقدت صار الحديث ضعيفاً بل وقسموا الضعيف نفسه الذى لم تجتمع فيه صفات الحديث الصحيح أو الحسن إلى أنواع :

المرسل، المنقطع، المعضل، المدلَّس، المضطرب، المقلوب، الشاذ، المنكر، المتروك، المعلل، وهكذا.

بل ورتبوا كتب الصحاح كما اتفق عليها العلماء كالآتى:

أولاً-ما اتفق عليه البخارى ومسلم .

ثانياً -ما انفرد به البخارى

ثالثاً – ما انفرد به مسلم

رابعاً-ما كان على شرطهما – وإن لم يخرجاه.

خامساً- ما كان على شرط البخارى

سادساً-ما كان على شرط مسلم

سابعاً – ما صححه غيرهما من الأئمة

وهكذا يتضح أهمية هذا المصدر من مصادر التشريع

خلاصة هامة:

إن من الآفات التى تتعرض لها السنة أن يقرأ بعض الناس المتعجلين حديثاً فيتوهم له معنى فى نفسه هو يفسره به وهو معنى غير مقبول عنده فيتسرع برد الحديث لاشتماله على هذا المعنى المرفوض ولو أنصف وتأمل وبحث لعلم أن معنى الحديث ليس كما فهم وأنه فرض عليه معنى من عنده لم يجيء له قرآن ولا سنة ولا ألزمت به لغة العرب ولا قال به عالم معتبر من قبله.

قرأ بعضهم الحديث الذى رواه ابن ماجه عن أبى سعيد الخدرى والطبرانى عن عبادة بن الصامت "اللهم أحينى مسكيناً وأمتنى مسكيناً واحشرنى فى زمرة المساكين" ففهم المسكنة الفقر من المال والحاجة إلى الناس وهذا ينافى استعاذة النبى صلى الله عليه وسلم من فتنة الفقر وقوله لعمرو بن العاص "نعم المال الصالح للمرء الصالح"، ولقد امتن الله عليه بالغنى فقال له (وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى) والمعنى هنا هو التواضع وخفض الجناح قال ابن الأثير أراد التواضع والإخبات وألا يكون من الجبارين المتكبرين.

وقرأ أحدهم الحديث الذى رواه أبو داود والحاكم غير واحد عن أبى هريرة مرفوعاً "إن الله تعالى يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها" ففهم من التجديد التطوير والتغيير بما يلائم الزمان بينما التجديد هو تجديد الفهم له والإيمان والعمل به بينما التجديد يعنى  العودة به مرة أخرى حيث كان فى عهد الرسول وصحابته ومن تبعهم ، ومن الخطورة بمكان أيضًا أن تقرأ حديثاً وتقف عنده وتحاول فهمه بنفسك بينما المولى يقول : (فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ) فعدم سؤال أهل الذكر قد يؤدى بك إلى الشطط وأعطيكم مثال :السيدة عائشة رضى الله عنها قالت فى حديث :ما بال رسول r واقفاً منذ أنزل عليه القرآن ،ومن حدثكم أن رسول الله r بال واقفاً فلا تصدقوه، ما سيكون الموقف إذا وقع هذا الحديث بين أيديكم ثم جاءك من يقول :جائز أن يبول الرجل واقفاً .بينما كلام السيدة عائشة ينهى عن ذلك بقول صريح :"ومن حدثكم أن رسول الله r بال واقفاً فلا تصدقوه" .

ونأتى لحذيفة t يقول :أتيت لرسول الله r بوَضوء (الإناء الذى فيه ماء للوضوء)، فبال واقفاً ثم توضأ .

الحديث الأول صحيح والحديث الثانى متفق عليه، فالاثنان صحيحان.وللعلماء فيهما كلام وعلم.

أفرد الإمام ابن القيم باباً لهذين الحديثين تحت عنوان :تبول الرسول r وقوفاً ،وجاء بحديث السيدة عائشة الذى قالت :ما بال رسول r واقفاً منذ أنزل عليه القرآن ،ومن حدثكم أن رسول الله r بال واقفاً فلا تصدقوه ، وقال: "إن علماء الحديث يقولون :إذا كان هناك حديثين ظاهرهما التعارض (هذان الحديثان اللذان ظاهرهما التعارض ) فالتوفيق بينهما أولى .

فكيف وفق العلماء بين هذين الحديثين ؟

يقول ابن القيم : أسأل سؤالاً :من قال أن السيدة عائشة كانت قادرة ومقتدرة على إحصاء تبول رسول الله r فى كل مكان بال فيه ؟ فى بيته وفى خارج بيته ،فى أسفاره ،فى ترحاله ،فى كل مكان كيف تقول السيدة عائشة ومن حدثكم أن رسول الله r بال واقفاً فلا تصدقوه . فما هى القضية؟

قال :إن السيدة عائشة تحكى حال رسول الله فى بيته لأنها زوجته.

أما حذيفة فكان يصاحب رسول الله  rفى أسفاره فى كل خطواته فهو يتحدث عن حال رسول الله r فى أسفاره، وبذلك وفق العلماء بين الحديثين واستنبطوا جواز التبول وقوفاً.

إن رد كل حديث يشكل علينا فهمه – وإن كان صحيحاً مجازفة لا يجترئ عليها الراسخون فى العلم ومن أجل ذلك ألف الإمام محمد بن قتيبة كتابه (تأويل مختلف الحديث) للرد على مثل هذه الزوابع.

إنه لا فقه بغير سنة ولا سنة بغير فقه وقوام الإسلام بركنيه كليهما من كتاب وسنة كما قال البنا رضوان الله عليه.

والفقه شيء غير حفظ النصوص وسرعة الاستشهاد بها ففهم الدين هو الأصل فى التدين وعليه يتوقف إنجازه ولذلك كان للفهم فقهه الخاص به، وقد أفاض الأصوليون فى بيانه وتبويبه وتنظيره حتى غدا منضبط القواعد ولما كان الدين محرراً فى أصول ثابتة هى القرآن والسنة، وكلاهما يختص بخصائص، ويتصف بصفات من حيث حملها لتعاليمه كما أن الدين غايته الفعل فى الواقع لإجرائه على ما يحقق المصلحة فإن ذلك يقتضى أن يكون فهم المراد الإلهى بأوامره ونواهيه مبنياً على أساسين:

أولهما : خصائص الأصول فى الدلالة على الأوامر والنواهى – وسيأتى تفصيل ذلك بإذن الله حين نتكلم عن الخلاف الفقهى .

ثانيهما: اعتبار الغاية التطبيقية فيهما.

وكلما اختل فى الفهم أحد هذين السببين أو كلاهما أدى ذلك إلى الخطأ فى إدراك المراد الإلهى من تعاليمه.

ولهذا فإن فهم الدين من أصله النصى ليس بالأمر الهين كما يظن بعض الناس ، بل هو أمر خطير الشأن وخاصة إذا لابسته ظروف من الضعف فى فقه اللغة العربية وقوانينها فى التعبير أو من الميل إلى  التعسف فى استخراج المعانى من وعائها اللغوى وقد وقعت من ذلك نماذج كثيرة فى التاريخ الإسلامى.

والنص الدينى نفسه ورد يحمل من المعنى ما يناسب البشر جميعاً فى كل مكان وزمان باعتبار خاتمية الوحى فيه وهذا ما يجعل المجموع النصى يحمل من كنوز المعانى ما لا يستنفده فهماً جيل واحد من المسلمين بل يمكن أن يكتشف فيه كل جيل ما لم يكتشفه الذى قبله وذلك وجه من وجوه إعجازه كما أن لعملية الفهم علاقة بكسب العقل البشرى من العلوم والمعارف التى يكتسبها من خارج دائرة النص.

إذاً نحن نقصد بهذا الكتاب وهذه السنة المباركة المطهرة إلى أمرين ،المقصد الأول :إقامة أمة صالحة ،أى ماذا نريد؟ لا نريد دولة ،حكومة،هياكل ونظم ،نريد أمة صالحة ولا تصلح الأمة إلا إذا توفرت فيها أمور، فإذا كنا نريد أن نقيم الأمة يجب أن تتحقق فيها أمور أولها أن يكون لها رسالة من مبادئ وقيم ،لأن رسالة الإسلام رسالة تربية قبل أن تكون رسالة تنظيم وتشريع، رسالة قيم وأخلاق ومبادئ قبل أن تكون رسالة جهاد وقتال . ورسالة مبادئ يراها الغادى والرائح فى تطبيق عملى قبل أن تكون رسالة انتشار واتساع ،فيجب أن نضع فى اعتبارنا أن رسالتنا رسالة أخلاقية قبل كل شيء، نريد أن نبنى أمة متحابة مترابطة ذات رسالة وهذا هو المقصود الأول.

المقصد الثانى:أن تكون الأمة مُضحية،فادية لدينها تعمل ،تضحى بالغالى والنفيس (إِنَّ اللّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ)

المقصد الثالث:أن يكون على رأس هذه الأمة حكومة صالحة، تقيم الدين، لذلك يقول تعالى (شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ) ، فمهمتنا إقامة الدين، ولذلك لابد أن تكون الحكومة صالحة خادمة للشعب ولا تشعر بالسيادة والفوقية، مصدر حكمها ربانى (لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ) (مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ) إنها :

*ربانية وسطية فى اختيارها.

*إيجابية فى نظرتها للكون والإنسان والحياة.

*أخلاقية فى غايتها ووسائلها.

*واقعية حين تتعامل مع الفرد والمجتمع.

*شمولية فى منهاجها.

*عالمية فى دعوتها.

*شورية فى حكمهما.

*جهادية فى تربيتها.

هذه كلها خصائص تتميز بها دعوة الإسلام التي نعمل على تمكينها على الأرض واضعين نصب أعيننا المعانى الآتية:

أولاً- أن التمكين لدين الله لا يتم إلا بعد أن يسود فى المجتمع القيم والأخلاق والعادات والتقاليد الإسلامية.

ثانياً - أن التمكين لدين الله بهذا المعنى يكون شامل لجميع وحدات المجتمع ،نحن لسنا جماعة انتقائية ننتقى من المجتمع، بل نحن جماعة جهادية تريد أن تقيم شرع الله على الأرض فتبسطه للأبيض والأسود والأعجمى والعربى والسيد والمسود فى آن واحد ، توضحه لجميع شرائح المجتمع دون انتقاء طبقة أو مستوى دون آخر.

ثالثاً- أن التمكين لدين الله لا يتحقق فى الأمة قسراً ولا قهراً ، ولكن رغبةً وطواعية واختياراً واقتناعاً وإيماناً تستمر عليه طوال حياتك (وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىَ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللّهُ الشَّاكِرِينَ) .

رابعًا- أن استمرارية المنهج ودوامه لا يمكن أن يتحقق بحالة مؤقتة، لكن بالتخطيط البعيد والقريب مع استمرارية المنهج.

خامساً- أن التمكين لدين الله ليست قضية وطنية ولا قومية ولا قُطرية ولا محلية ،إنما هى عالمية (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ) ومن هنا فنحن فى حاجة للارتقاء بالمجتمع كى يكون الإسلام مرجعاً يرجع إليه الفرد فى سلوكه واعتقاده وأفعاله، ثم نرتقى بالمجتمع كى يكون له مرجعية إسلامية يعود إليها فى صغير الأمر وكبيره.

 


الأصل الثالث

مصادر ليست من أدلة  الأحكام الشرعية

"وللإيمان الصادق، والعبادة الصحيحة، والمجاهدة نور وحلاوة يقذفها الله في قلب من يشاء من عباده ولكن الإلهام والخواطر والكشف والرؤى ليست من أدلة الأحكام الشرعية ولا تعتبر إلا بشرط عدم اصطدامها بأحكام الدين ونصوصه".

هذا الأصل يعالج :

1-الإيمان الصادق.

2-العبادة الصحيحة والمجاهدة.

3-المصادر التي ليست من أدلة الأحكام الشرعية كالإلهام والخواطر والكشف والرؤى.

هذا الأصل يضع أيدينا على أمرِ من الأهمية بمكان فليس الأمر أمر معارف فحسب فنحن عندما تكلمنا في الأصلين الأول والثانى كانا يشملان المعارف والعلوم ومصدر التلقي وتحديد للمفاهيم وهذا أمر ضرورى أوضحه قول الله (فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ) ثم يأتى بعد ذلك العمل (وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ) هذا أمر لا نشك فيه ولكن هذا الأمر لا يقف عند العلم والمعرفة، فقد قال تعالى في الكافرين (وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ) ، (وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ) فليس الأمر أمر تحصيل علوم وتخزينها في العقل فحسب فلابد للإيمان من نبض قلبى وحركة شعورية ونور يملأ الفؤاد وهذا كله ثمرة المعارف والأقوال لأن في أحيان كثيرة لا يتعدى الأمر القول باللسان، فنحن نريد المفكر المسلم العملي الذي يضع ما يعتقده من فكر سليم موضع التنفيذ (وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ) مجرد قول باللسان (وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِّنْهُم مِّن بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُوْلَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ) (وَمِنَ النَّاسِ مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ) ونحن كمسلمين ومؤمنين لابد أن يتفاعل قلبنا بهذا الإيمان ويتأثر به، يقول تعالى (وَقُولُواْ لِلنَّاسِ حُسْناً) ولا يقول للناس حسنا إلا صاحب القلب السليم وصاحب المشاعر الفياضة الذي يربط القول بالعمل، وبالحركة التي يشترك فيها القلب النابض مع الجارحة الخاشعة.

ونحن نريد العبد المتبتل ، العبد القانت لله، الذي يقول (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) والذى مهما حصَّل من علوم فهي لتحقيق عبوديته لله رب العالمين، وقد تأثر أصحاب الرسول r بالقرآن تأثراً عجيباً فكانت الآيات حياة لهم، يترجمونها واقعاً على الأرض، وها هو سيدنا عمر t يقرأ قول الله (إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ مَا لَهُ مِن دَافِعٍ) فيصاب بالحمى ويمكث في بيته شهراً كاملاً يرتجف جسده كله، لأن العقيدة ما كانت في يوم من الأيام مجرد كلام يُقرأ

أو علم يحصل فحسب بل هي انفعال قلبى ووجدانى يشعر به المسلم وينفعل به.

ونحن لا تنقصنا العلوم المقروءة والنصوص المحفوظة ولكن ينقصنا هذا الجانب التعبدى لله I  تنقصنا الأيدى المتوضئة، العيون الدامعة، تنقصنا الوقفة بين يدى الله بتذلل (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ ، الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ، أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا) فأين هؤلاء ؟ أين (التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدونَ الآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللّهِ)؟ حتى يحقق الله النصر على أيديهم، نحن ننتصر بضعفائنا، ننتصر بالسجَّد الرُكّع ،ننتصر بـ (أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِين) ننتصر بـ(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ َ) هذه هي أسباب النصر (إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُواْ وَاذْكُرُواْ اللّهَ كَثِيرًا لَّعَلَّكُمْ تُفْلَحُونَ وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُواْ إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ ) ثم يأتي بعد ذلك كله الأخذ بالأسباب المادية والعلمية.

ولذلك فإن هذا الأصل يتكلم عن هذا الجانب "الأثر الإيمانى"، أثر الإيمان في قلب المؤمن الذي يتحقق بالقرب إلى  الله عبادة ومجاهدة (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ)

الإيمان والعبادة والمجاهدة : يتحقق الإيمان الصادق بصحة الاعتقاد وصدق الإتباع، والإيمان كما يعرفه الأستاذ الدكتور القرضاوى في كتابه "الإيمان" هو :" عمل نفسى يبلغ أغوار النفس ويحيط بحواسها كلها من إدراك، وإرادة، ووجدان، فلابد من إدراك ذهنى تنكشف به حقائق الوجود على ما هي في الواقع وهذا الانكشاف لا يتم إلا عن طريق الوحى المعصوم ولابد أن يبلغ هذا الإدراك الجزم الموقن أو اليقين الجازم الذي لا يزلزله شك "( إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا) ولابد أن يصحب المعرفة الجازمة إذعان قلبى وانقياد إرادى يتمثل في الخضوع والطاعة والرضى والتسليم (فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا) .

والعبادة الصحيحة : تتحقق بإخلاص النية ومتابعة عمل الرسول صلى الله عليه وسلم.

 وأما المجاهدة : فمتعددة، فتجاهد النفس حتى تصبح نفسك مطمئنة، والهوى حتى يكون تبعاً لما جاء به المصطفى  r، وتجاهد الشيطان بطاعة الملك الذي يأمرك بأمر الله لتحقق التقوى.

وقد ورد في حديث مشهور أن عمر بن الخطاب  tسأل أُبى بن كعب عن التقوى، ما التقوى ؟

قال: يا أمير المؤمنين أما سلكت طريقاً ذا شوك ؟ قال: بلى، قال: فما عملت ؟ قال شمرت واجتهدت ، قال فذلك التقوى. تشمير عن المعاصى واجتهاد في الطاعات.

ومن فضل الله على العباد أن أرسل الرسل وأنزل الكتب بل وأيد الإنسان بملك كريم في مقابل هذا الشيطان اللعين كلما أمره شيطانه بأمر، أمر الملك بأمر الله والإنسان على نفسه بصيرة كما جعل المولى له مقابل النفس الأمارة بالسوء نفساً مطمئنة تعده بالخير فضلاً عن أن المولى سبحانه وتعالى جعل له نوراً وبصيرة وعقلاً والعاقل من هدى إلى صراط مستقيم.

والعبد لابد له من أمر يفعله ونهى يجتنبه وقدر يصبر عليه وهو بين فعل المأمور وترك المحظور والصبر على المقدور يغزو الشيطان قلبه بسلاحين :

سلاح الشهوات ليفسد به سلوكه وعمله.

وسلاح الشبهات يفسد به فكره وتصوره واعتقاده.

ومن فضل الله عليه أن منحه ما يواجه به عدوه : سلاح الصبر يجاهد به الأهواء والشهوات وصلاح اليقين يجاهد به الشكوك والشبهات وصدق الله القائل (وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ).

وتأملوا الصحابة رضوان الله عليهم وأرضاهم أصحاب العيون الدامعة، الذين هانت عليهم الدنيا يقول أحدهم :"أبينى وبين الجنة تلك التمرات؟ والله إنها لحياة طويلة".

والصحابي الآخر الذي صدق مع الله، وجاء بالغنيمة التي هي حق له ويقول للرسول r : ما على هذا بايعتك، قال: علام إذاً ؟ قال على أن أُرمى بسهم هنا وسهم هنا، قال : إن تصدق الله يصدقك ، وبعد قليل يأتون به محمولاً على الأيدي لرسول الله فيقول r:أهو هو ؟ قالوا: هو هو يا رسول الله قال :صدق الله فصدقه.

ولقد رأينا بفضل الله مثل هذا الصنف من الرجال –الذين يقتدون بهؤلاء- رأى العين في السجون والمعتقلات وما أدراك ما هي نار حامية، رأينا الأخ المتبتل للهI الدامع العينين، الخاشع لله، الذليل أمامه، القائم، الصائم، الصابر على التعذيب وهو يقول أحد أحد والذي يضعونه في زنزانة فيها من الكلاب الضارية سبعة ينام معهم وبعد الليالي التي قضاها معهم يضحك معه أحد الأخوة ويقول :كيف قضيت لياليك؟ فيقول : نعم تدبير الله، هل هذا اختيارى ؟ هذا اختيار الله لى ،فنعم اختيار الله لى والله لقد بت ليالٍ آمنة مطمئنة كلها ذكر وتبتل لله أستعذب العذاب في سبيل الله.

ولا عجب في هذا فإن المولى I جعل قلب الإنسان يشعر بالسعادة والشقاء كما تشعر الأبدان بالسقم والصحة لذلك يعرف الإمام ابن القيم السعادة بقوله: أطباق السعادة ثلاثة : إذا أُنعم عليه شكر، وإذا أًبتلى صبر، وإذا أذنب استغفر.

فقد يشقى الإنسان بالمال والجاه والسلطان، وقد يسعد مع الفقر وقلة المال، وقلة الولد، لكن لو امتلأ القلب بالإيمان، فإن الإيمان الصادق الذي يتحلى به المسلم هو الحياة الطيبة (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً) وهو النور الذي يمشى به المؤمن (وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ) (وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِن نُّورٍ) وهو الروح التي يحيا بها (وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا) فهو يعيش مطمئن النفس مرتاح البال في جنة الدنيا بشكره وصبره واستغفاره فهل بعد هذه  الجنة التي يعيشها في دنياه شقاء أو ضلال أو ضنك أو رهق ، صدق ربى القائل (فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى ، وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا)

إن للإيمان الصادق حلاوة يتذوقها المؤمن الذي رضى بالله رباً وبالإسلام ديناً وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبياً ورسولاً، يتذوقها العبد القانت لربه الواقف بين يديه ركوعاً وسجوداً فيجد الحلاوة، وهذه الحلاوة ليست معنوية بل يكاد يلمسها حين يجد لها مذاقاً، وكيف لا يشعر بهذا المذاق من يقول : إياك نعبد وإياك نستعين فقد عبد الله بما يحبه ويرضاه فشكره وأحبه ومن تفضل الله عليه بهذ المذاق كان بعد موته مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين  وحسن أولئك رفيقًا.

إنك بهذا الإيمان الصادق دخلت جنة الدنيا فكيف تُحرم من جنة الآخرة؟ التي قال عنها الإمام ابن تيمية :"للمؤمن جنتان، جنة في الدنيا وجنة في الآخرة، حُرم جنة الآخرة من لم يدخل جنة الدنيا "

وجنة الدنيا ندخلها بالطاعة، بالإيمان، بالإخبات إلى الله، والخشية منه، بالركوع والسجود، بالاستغفار، بالتوبة النصوح، ولا يزال العبد يخرج من طاعة إلى طاعة، فإذا به يرزق الرضا والسكينة وطمأنينة النفس، وطهارة القلب، وسعادة الدنيا.

إنك تعيش بين الناس بهذا الإيمان تصل من قطعك وتعفو عمن ظلمك وتعطى من حرمك فيتقبل الله منه القبول الحسن وينادى : يا جبريل إنى أحب فلان فأحبه فينادى جبريل في ملائكة السماء: يا ملائكة الله إن الله يحب فلان فأحبوه فيحبه أهل السماء ثم ينزل الله له القبول على الأرض مصداقاً لقوله (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا ) هذا في الدنيا، وأيضًا يتجلى فضل الله ورحمته على العبد حتى في ساعة الاحتضار تطمئنه الملائكة (إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ، نُزُلًا مِّنْ غَفُورٍ رَّحِيمٍ) فالإنسان الذي يذهب إلى مكان مجهول دائماً يهابه، والله I يزيل عنه هذه المخاوف وهو ما زال في الغرغرة لم يمت تتنزل عليه الملائكة (أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ)، أى بشارة وأى اطمئنان نفس، وينزل القبر فتدافع عنه الصلاة، والصيام، والزكاة، وأعماله الصالحة، ويعيش في روضة من رياض الجنة في قبره إلى أن يلقى الله (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَن شَاء اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُم قِيَامٌ يَنظُرُونَ ،وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاء وَقُضِيَ بَيْنَهُم بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ،وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَا يَفْعَلُونَ) وبعد ذلك؟ لكي تكمل فرحته بصحبة الجماعة التي كان يأتنس بها في دنياه يجتمع معها في أخراه ( وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا) فأي راحة نفسية، وسعادة في الدنيا والآخرة وملائكة يستغفرون لك (الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَّحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ).

ولسائل الجنة وقاصدها نسوق إليه حديث يقول فيه رسول الله r:"اضمنوا لى ستاً من أنفسكم أضمن لكم الجنة :اصدقوا إذا حدثتم، وأوفوا إذا عاهدتم، وأدوا إذا اؤتمنتم، واحفظوا فروجكم، وغضوا أبصاركم، وكفوا أيديكم"  تطهير للداخل والخارج، للباطن والظاهر فهل من عاقل يضع ذلك موضع التنفيذ ليسعد بالجنة يقول قتادة t : "خلق الله الملائكة عقلاً بلا شهوة، وخلق البهائم شهوة بلا عقل، وخلق الإنسان عقل وشهوة، فمن سبقت شهوته عقله فهو مع البهائم، ومن سبق عقله شهوته فهو مع الملائكة".

عقل مرتب على طاعة الله I ليحظى بنفسٍ مطمئنة يناديها ربها من علٍ (يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ،ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً) يقول ابن عباس نزلت وأبو بكر جالس مع رسول الله  فقال يا رسول الله ما أحسن هذا ،فقال : "أما إنه سيقال لك يا أبا بكر ،سيقال لك هذا".

ولذلك كان من دعاء الرسول  rالذى علمه أحد الصحابة: قل اللهم إنى أسألك نفساً بك مطمئنة تؤمن بلقائك وترضى بقضائك وتقنع بعطائك، يقول محمد بن عمرة وكان من أصحاب رسول الله r "لو أن عبداً خر على وجهه من يوم ولد إلى أن يموت في طاعة الله لحقره يوم القيامة ولود أنه رد إلى الدنيا كى ما يزداد من الأجر والثواب ".

التفكر:

يجب على المسلم أن يجعل لنفسه أوقاتاً يخلو فيها مع ربه يتفكر في خلق السماوات والأرض، وفى هذا الكون وقدرة الله I  القادرة فاجعل لنفسك وقتاً تخلو فيه مع ربك، فمن السنة إذا قام الإنسان من الليل فإنه يقلب وجهه في السماء ويقول (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لِّأُوْلِي الألْبَابِ ،الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ) فيكتسب السكينة والأمن والأمان.

فأي سعادة وأي حلاوة بهذا الإيمان وأي صلاح بال كما قال القرآن (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ) فكيف لا يسعد المؤمن وهو الذي إذا أصابته سراء شكر وإذا أصابته ضراء صبر فكان خيراً له في كل الأحوال .

وقد دلنا الحكيم العليم الرؤوف الرحيم على سعادة الدنيا قبل الآخرة، بل والنصر الذي وعدنا به في الدنيا قبل الآخرة (إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا ) أين؟ (فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ) (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا ) ولكن هذا النصر مشروط (يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا)

إن هذه السعادة لا توهب إلا لمن أحبه الله من عباده لأنه I يعطى الدنيا لمن أحب ولمن لا يحب، ولا يعطى الدين إلا لمن أحب فمن أعطاه الدين فقد أحبه.

ولك أن تسأل وكيف يحبنا الله حتى ننعم بهذه الحلاوة؟

(قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ) وهكذا يتحدد للطريق معالمه فاسلك طريق رسول اللهr يتحقق لك حب الله، والله تعالى إذا أحب عبدًا فتَّح له القلب فيتلقى به ما يرضي به ربه حتى يصبح ولياً من أولياء الله الذين قال الله فيهم في الحديث القدسى :" من عادى لى ولياً فقد آذنته بالحرب، وما تقرب إلى عبدى بشيء أحب إلى من أداء ما افترضته عليه وما يزال عبدى يتقرب إلى بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشى بها ولئن سألنى لأعطينه ولئن استعاذنى لأعيذنه "فهل بعد هذا يخاف الإنسان من بشر؟! (أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِن دُونِهِ)

وينقل إلينا ابن تيمية ما قاله بعض السلف يقول: قال بعض السلف بصيرة المؤمن تنطق بالحكمة وإن لم يسمع فيها بأثر فإذا جاء الأثر كان نوراً على نور فهو دائماً على بصيرة من ربه إن أقبلت عليه الدنيا قال (إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى) وإن أدبرت قال (وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنتَهَى) فالمؤمنون دائماً يستبشرون بنعم الله وفضله وهم الذين استجابوا لله من بعد ان أصابهم القرح للذين أحسنوا منهم واتقوا أجر عظيم.

علامات حب الله للعبد:

ربما يسأل سائل: ما هي دلائل هذا الحب، وكيف نعرف أن الله يحبنا؟

هناك كثير من الأمور التي إذا ظهرت في سلوك العبد دل ذلك على حب الله له منها:

1- يحبب الله إليه الإيمان ويزينه في قلبه مصداقاً لقوله تعالى (حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ) فكلما زاد حبك للإيمان كان هذا دليلاً على حب الله لك.

2- أن يجد حباً لكل عمل فيه طاعة وقربى إلى الله I، كما يجد بغضاً لكل عمل يبغضه الله.

3-أن يوفق الله العبد أن يتبع الطاعة بطاعة أخرى، والحسنة بحسنة أخرى، فيستعمله الله في طاعته.

4- أن يؤلف الله بين قلب العبد وقلوب الصالحين، فإن الله تعالى إذا أحب عبداً حبب الصالحين فيه، يقول عيسى عليه السلام:"تحببوا إلى الله ببغض أهل المعاصى وتقربوا إلى الله بالتباعد عنهم والتمسوا رضا الله بسخطهم قالوا يا روح الله فمن نجالس؟ قال : جالسوا من تذكركم الله رؤيته ومن يزيد في إيمانكم كلامه ومن يرغبكم في الآخرة عمله".

ولذلك فإن قيمة الحياة يحصرها عمر بن الخطاب t في ثلاثة أمور فيقول :لولا ثلاثة ما أحببت البقاء : لولا أن أحمل على جياد في سبيل الله ومكابدة الليل ومجالسة أقوام ينتقون أطايب الكلام كما ينتقى أطايب التمر (وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا) .

وقد ردد ابنه عبد الله بن عمر نفس المعنى فقال : والله لو صمت النهار لا أفطره، وقمت الليل لا أنامه، وأنفقت مالى غلقاً غلقاً في سبيل الله، أموت يوم أموت وليس في قلبى حباً لأهل طاعته، ولا بغضًا لأهل معصيته ما نفعنى ذلك شيئًا .

ونحن عندما نحب بعضنا البعض ونجد هذه الألفة، نشعر بأن الله هو الذي غرس هذه المحبة والألفة في القلوب لأنه هو القائل (وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مَّا أَلَّفَتْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ).

5- أن يشعر العبد دائماً بأنه كلما وُفق إلى طاعة فإنه لم يوف شكر الله عليها فيزداد منها.

6- يوفقه الله I إلى التوبة النصوح؛ لأن الله تعالى يعلم أن عباده يخطئون "لو لم تخطئوا لذهب الله بكم وأتى بقوم يخطئون فيستغفرون الله فيغفر الله لهم " والعبد عندما يذنب فإن حسن الصلة بينه وبين الله تجعله يشعر بالذنب الذي فعله وأن الله تواباً رحيماً وأنه غافر الذنب وقابل التوب، فإذا تاب فإنه يشعر بأن الله  Iوفقه للتوبة من هذا الذنب.

7- زيادة العلم والفقه، فكلما زاد علمه وفقهه وعمله دل ذلك على حب الله له لأن "من أراد الله به خيراً فقهه في الدين ".

8- صلاح البال وطمأنينة النفس، يقول تعالى في سورة محمد (الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ، وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ).

9- الصبر على البلاء "لا يزال البلاء بالمؤمن والمؤمنة في نفسه وماله وولده حتى يلقى الله وما عليه خطيئة ".

10- اليقين بالله والقناعة بما في يدك وعدم التطلع إلى ما في يد الغير.

11-استعمال المولى للعبد في كل أمرٍ من أموره، وأن يوفق الله العبد إلى نية خالصة في كل عمل يقوم به (إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ، لاَ شَرِيكَ لَه وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ ُ).

وبذلك يصبج من الذين عناهم المولى في قوله (أَلا إِنَّ أَوْلِيَاء اللّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ، الَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ ، لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَياةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ).

لا نعبد أشخاصاً:

والمسلم لكي يذوق طعم الإيمان يعمل لفكرة وعقيدة وتصور وليس لشخص أياً كان هذا الشخص "من كان يعبد محمداً فإن محمداً قد مات ومن كان يعبد الله فإن الله حى لا يموت" ( وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىَ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللّهُ الشَّاكِرِينَ) وهناك فرق كبير بين احترام العلماء وتقدير المجاهدين ورد الفضل لأهله، وبين عبادة الأشخاص وتقديسهم، فنحن نحترم علماءنا ولا نقدس إلا الله I، ومن الأمانة أن نرد الفضل لأهله لأن من الأمانة أن ترد الفضل لأهله.

إن  الإمام ابن القيم كان يكثر ذكر اسم شيخه في كتاباته فيقول في كثير من كتبه :"قال شيخنا" يقصد ابن تيمية فهل هو بذلك يقدسه؟!

ونحن لا نجامل أحداً على حساب ديننا أبدًا، وعلى يقين من أن الذي جاء به الإمام البنا هو الإسلام.

وليس معنى ما نقول أننا ننكر الولاية والكرامة بل نثبتها ولكننا نقول ما قاله الإمام البنا من أن الإلهام والخواطر والكشف والرؤيا ليست من أدلة الأحكام الشرعية ولا تعتبر إلا بشرط عدم اصطدامها بأحكام الدين ونصوصه وهذا نفس ما قاله الإمام ابن تيمية قال : والرؤيا المحضة التي لا دليل يدل على صحتها لا يجوز أن يثبت بها شيء بالاتفاق : فإنه قد ثبت في الصحيح عن النبى I قال :"الرؤيا ثلاث: رؤيا من الله ورؤيا مما يحدث به المرء نفسه،ورؤيا من الشيطان " ورضوان الله على عثمان بن عفان حين دخل عليه أنس بن مالك –وكان قد نظر إلى امرأة جميلة وهو في الطريق- فقال له عثمان رضى الله عنه : مالكم تدخلون علىَّ وأثر الزنا في وجوهكم، قال أنس: أوحىٌ بعد رسول الله؟ قال : لا ولكنها الفراسة ...وبالرغم من هذه الفراسة فإنه لا ينبني عليها حكم ولا هي مصدر من مصادر الأحكام، يقول ابن عباس t: إن للحسنة ضياء في الوجه ونوراً في القلب وقوة في البدن وسعة في الرزق ومحبة في قلوب الخلق وإن للسيئة سواداً في الوجه وظلمة في القلب ووهناً في البدن ونقصاً في الرزق وبغضاً في قول الخلق.

شطحات ننكرها:

إذا كان معجزات الرسل نفسها حجة على من رآها، فماذا عن الكرامات إذا كنا لا نراها، نصدقها أو لا نصدقها لا شيء في ذلك، هناك كرامات؟ نعم توجد كرامات "يا سارية الجبل"، بل والصحابي الذي كان يمشى بالعصا وتضيء في الليلة الظلماء وفى ليلة من هذه الليالي وكانا رجلين يقول الصحابى:"فكسرها إلى قطعتين وأعطانى قطعة لأواصل الطريق فأنارت لى الطريق"..

إن هذه الفرق من الصوفية كانت موجودة ومنتشرة في مصر، وحذر الإمام البنا من شطحاتهم وسلوكها.

وهذه شطحات بعضهم: قال أحد الحكام لأحد رعاياه تعال واحضر النطع والسيف ، فقال : ما حدث؟ قال رأيت في المنام أنك تعرض عنى وتعطينى قفاك وعبَّرها معبرى أنك تضمر لى شراً وتظهر لى طاعة، فقال له: ما أنت بإبراهيم الخليل ولا معبرك بيوسف عليه السلام أفبهذه الرؤيا تقطع رقاب الرجال بتأويلها.

إن الرؤيا عند بعض الصوفية تعتبر من الأحكام والواقع أن الرؤيا لا يكون لها حكم إلا أن يراها نبى – كما رأى سيدنا إبراهيم رؤيا ذبح إسماعيل –أو يقرها نبى كما أقر النبى r رؤيا الأذان أما غير ذلك فلا.

والمضحك المبكى أن بعضهم يقول "حدثنى قلبى عن ربى"، ويقول أحدهم: "إن على كل قدم نبى من الأنبياء ولىٌ من أولياء الله وأن في الأرض سبعة أبدال، ونقباء، ونجباء، وكلما مات رجلٌ أقام الله I عوضه رجلاً ولا تزال الوراثة دائمة في علم الباطن إلى قيام الساعة".

بل وصل الأمر أن بعضهم يقول :"أنتم تأخذون كلامكم عن ميت عن ميت -يقصد الصحابة-، أما نحن فنأخذ من الحى الذي لا يموت مباشرة"، ويقول آخر:"صح عندنا كشفا ًولم يصح عندنا سنداً" ويذكرنى ذلك ما كان يحدث في السجن حين كان الأخوة يرون رؤى كثيرة ويصبح الأخ وقد أولها مستبشراً منتظراً فرج الله عليه فلما كثرت الرؤى وكثر المؤولون لها أطلق الإخوان على كثرة الرؤى وأخبارها "وكالة أبشروا" .

وبعد ذلك كله فإننا نتساءل : هل قال الإمام البنا ما قاله هؤلاء من الصوفية أو أقرهم على قولهم أم خالفهم وبيَّن خطأ بعضهم وبيَّن موقفه من الصوفية ذاتها.

فما هي الصوفية حتى يتبين لنا حقيقة ما قال؟

بالنسبة للمصطلح قالوا:

إنها من لبس الصوف: وعلى هذا فنحن نتساءل هل الأحق بالولاية لابس الصوف؟ لقد تهكم أحدهم فقال: لو كان التقى بالصوف لطار الخروف.

أما الإمام ابن تيمية فيقول: إنها أول ما ظهرت في البصرة على يد بعض أصحاب عبد الواحد بن زيد وهو من أصحاب أبى الحسن البصرى ورجح ابن تيمية هذه التسمية من لبس الصوف زهداً.

وقال آخرون هي نسبة إلى أهل الصفَّة لاتصافهم بالمحامد أو أنه من الصفاء لصفاء قلوبهم وطهارتها.

وأهل الصفة : هم قوم عبدوا الله حق عبادته واتقوا الله حق تقاته وجاهدوا في الله حق جهاده وأذاعوا علماً وفضلاً كانوا إذا ضرب أمر وجد جد، وعدا على المسلمين عاد خرجوا للجهاد باذلين أرواحهم في سبيل الله فلم يكونوا كفقراء التكايا يأكلون ويشربون ويصلون وينامون ولم يكونوا أهل دعة وتكفف فكانوا زهاء أربعمائه من فضلاء العباد والزهاد انقطعوا للذكر والتبتل في مسجد المصطفى r ولكنهم لم يكونوا من القاعدين عن نصرة الحق والإسلام في يوم من الأيام، فأنت ترى أن المصطلح اختلف أصلاً كما اختلف في النظر إليهم.

فهل يجوز استخدام المصطلح؟

إن استخدام المصطلح جائز شرعاً حين يقصد به الجانب الإيجابى والمفيد للمسلمين وأنت تقرأ قول الله تعالى (وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ...) وذكرها المولى هنا في مجال الذم إلا أننا نرى رسول الله استخدمها في مجال يعود على المسلمين بالنفع حيث قال "ورهبانية أمتى  الجهاد" فأخذ الجانب الإيجابى فيها.

فالقرآن ذم الرهبانية والرسول استخدم الكلمة فيما يفيد المسلمين تربية:

وفى الحديث الثابت عن النبى r "إنما أنا لكم بمنزلة الوالد أعلمكم" بينما القرآن يقول (مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ وَلَكِن رَّسُولَ اللَّهِ...) والنبى r أخذ الجانب الإيجابى فيه: التعليم والتوجيه والتربية، وقد ذهب بعض العلماء إلى أنه لا يقال فيه r أنه أبو المؤمنين وإن كان يقال في أزواجه أمهات المؤمنين فيقال هو مثل الأب أو كالأب أو بمنزلة أبينا ولا يقال هو أبونا أو والدنا .

روى أن رجلين قدما على رسول الله فخطب أحدهما فعجب الناس من فصاحته وبلاغته فقال الرسول : "إن من البيان لسحرا". فإن قيل : كيف سمى النبى r روعة البيان سحراً مع أن السحر مذموم عقلاً ونقلاً؟

فالجواب أن هذا على المجاز لا على الحقيقة فالخطيب يستميل القلوب بحسن بيانه وروعة أدائه وجمال تعبيره كما يستميل الساحر قلوب الحاضرين إليه بخفته ورشاقته وتمويهه على الحاضرين فمن هذا الوجه سمى البيان سحراً، إذاً فمن الجائز شرعاً أن نستخدم الجانب الإيجابى في المصطلح.

أفلا يجوز من باب المجاز أن يستخدم الإمام البنا مصطلح "حقيقة صوفية" في بعض أوصاف جماعته؟

لقد كان الإمام البنا ابناً فقيهاً لوالد فقيه، وكان من بيت فقه وعلم فضلاً عن أنه كان نابغة وملهم، وكل كلمة يقولها الإمام البنا لها مرمى ومغزى ومحكومة بالفقه، فعندما قال "حقيقة صوفية" كان يعنى ما يقول ولا ندري لماذا هذا  الهجوم الضاري عليه؟

إن للنقد آداباً وإنصاف العلماء أمر مطلوب ومرغوب فهم إن أصابوا لهم أجران وإن أخطئوا فلهم أجرهم فحسن الظن بهم مقدم واسمع إلى أدب الأستاذ الدكتور يوسف القرضاوى وهو يعلمنا كيف يكون موقفنا من العلماء إن قالوا غير ما نعتقد يقول عن الشيخ محمد عبده "وقد أُخذ على الشيخ محمد عبده بعض فتاواه وبعض آرائه في تأويل القرآن كقوله في قصة آدم وكلامه عن الطير الأبابيل ونحو ذلك وعذره أن الحضارة الغربية كانت في أوجها وكان الانبهار بها على أشده لذلك غلبت النزعة العقلية ومحاولة إخضاع النص حتى يوافق المفاهيم الجديدة .

ومن الإنصاف لمن يريد تقويم شخص ما وتقدير فكره وعمله أن يضعه في إطاره التاريخي لا يعدو به زمانه ومكانه إلى زماننا نحن ومكاننا فبعض ما يبدو لنا اليوم واضحاً مسلماً لم يكن كذلك في زمنه فرحم الله امرئ أنصف من نفسه وأعطى كل عامل ما يستحقه وأقام الشهادة لله"

انطباع خاطئ:

عند بعض الناس انطباع عجيب إذا ذكر التصوف فهو عندهم صور شائهة لحلقات الذكر المليئة بالبدع والمنكرات والخرافات فإذا ذُكر التصوف فهو التصوف الفلسفى الذي تقل عن الهنود واليونان الأقدمين، وانطباعه عن الصوفية دائماً أنها عقائد وحدة الوجود والحلول وشطحات المنحرفين والمخربين منهم كالحلاج وابن عربى والفارابى وغيرهم ونحن لا نختلف في انحرافهم كيف لا وقد وصل بهم الأمر إلى تفسير بعض آيات القرآن بهذا الأسلوب المنكر يقول بعضهم في قول الله تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ قَاتِلُواْ الَّذِينَ يَلُونَكُم مِّنَ الْكُفَّارِ وَلِيَجِدُواْ فِيكُمْ غِلْظَةً...) قالوا هي النفس أمرنا بقتال من يلينا لأن النفس أقرب الشر إلى الإنسان نفسه، وهم بهذا يسقطون فريضة الجهاد.

وفى قوله تعالى (إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ) يقولون نوح هو العقل ويعتقدون أن الله تعالى يلقى إليهم كلاماً ينتفعون به حتى أن ابن الصلاح يقول : إن الإمام أبا الحسن الواحدى المفسر رحمه الله قال إن كان قد اعتقد أن ذلك من التفسير فقد كفر، وإن كان غير ذلك فقد سلك مسالك الباطنية وهذا فيه من  الإبهام والالتباس ما فيه .

يقول بعضهم : (خاتم النبيين) يعنى زينة النبيين، وجاءت من الخاتم الذي يلبس للزينة، ويقولون ما الذي يمنع أن يأتى نبى ورسول بعد محمد r ونسوا أن الرسول r قال:"وأنا خاتم الأنبياء، ولا نبى بعدى".

وهذا لا يختلف فيه مسلم أنه من المناكير التي يجب محاربتها.

ولكن يبقى سؤال هل كل الصوفية على هذا المنوال وهذا الانحراف وهل كلهم يتمايلون ذات اليمين وذات اليسار في حلقات منكرة وأقوال منكرة وأفعال منكرة؟

رأى علماء أهل السنة في الصوفية:

يقول ابن تيمية: قد انتسب إلى الصوفية طوائف من أهل البدع والزندقة، كالحلاج وابن عربى .

ثم يقسم موقف العلماء منهم إلى :

طائفة ذمتهم وقالوا مبتدعون خارجون على أهل السنة .

وطائفة غلت فيهم وادعوا أنهم أفضل الخلق وأكملهم بعد الأنبياء.

ثم يقول رأيه في الصوفية : إنهم مجتهدون في طاعة الله كما اجتهد غيرهم من أهل الطاعات ففيهم السابق المقرب بحسب اجتهاده وفيهم المقتصد الذي هو من أهل اليمين ومنهم من يذنب فيتوب أو لا يتوب.

ويقول: وهذا من باب قد تنازع فيه يقول هذا: أنا حنبلى ويقول هذا أنا أشعرى وقد أحضرت كتب الأشعرى وكتب أكابر أصحابه مثل كتب أبى بكر الباقلانى وأحضرت أيضًا من نقل من مذاهب السلف من المالكية والشافعية والحنبلية وأهل الحديث وشيوخ الصوفية وأنهم جميعاً متفقون على اعتقاد واحد.


ولنا وقفة:

إن التصوف الفلسفى والذى قارب من الرهبانية البوذية والنصرانية وحارب الجسد واستدار عن عمارة الدنيا وكوَّن أجيالاً من الكسالى القاعدين المنسحبين وكذلك التصوف الذي يدعو لتشييد القبور في المساجد ليطاف بها ويحتفى بأصحابها في موالد ينكرها كل عاقل لما يفعل فيها.

إن هذا التصوف نرفضه وننكره بقواعد الإنكار المعروف ابتداءًا ولكن هناك تصوف المجاهدين كعبد الله بن المبارك أو شفيق البلخى هذا التصوف الذي نبت في أكناف الإيمان والإسلام والإحسان وأتم بالعبودية الحقة والحس الرقيق الذي يقول فيه إن سجنى لخلوة وإن نفيى لسياحة وإن موتى لشهادة.

يقول ابن عطاء السكندرى: شكوت همومى وأحزانى إلى العباس المرسى فقال لى: أحوال العبد أربعة لا خامس لها : النعمة، والبلية، والطاعة، والمعصية.

فإن كنت في النعمة فمقتضى الحق منك الشكر.

وإن كنت في البلية فمقتضى الحق منك الصبر.

وإن كنت في الطاعة فمقتضى الحق منك شهود منته عليك.

وإن كنت في المعصية فمقتضى الحق منك وجوب الاستغفار.

يقول ابن عطاء السكندرى: فقمت من عنده وكأنما كانت الهموم والأحزان ثوبا نزعته.

وهذا الإمام جعفر الصادق يقول إذا سمعت المولى يقول : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ) فاصغ إليه  فإنما هو أمر أو نهى، ويقول وإجابة ذلك على الحقيقة ثلاثة :تصديقه، والعمل به، وإرادة وجهه بالعمل به ،واعلم أن أصل كل معصية وشهوة وغفلة :الرضا عن النفس، وعلامة ذلك هي رؤية الحق لنفسه، والشفقة عليها، والإغضاء عن عيوبها، وأصل كل طاعة وعفة ويقظة عدم الرضا منك عنها وعلامة ذلك اتهامها والحذر من آفاتها وحملها على المكاره في عموم أوقاتها.

ويقول ابن عطاء السكندرى عن سهل بن عبد الله التسترى: احذر صحبة ثلاثة من أصناف الناس: القراء المداهنين، والمتصوفة الجاهلين، والجبابرة الغافلين.

ويقول :كن طالباً للاستقامة، ولا تكن طالباً للكرامة، فإن نفسك تهزك لطلب الكرامة ومولاك يطالبك بالاستقامة ولئن تكون بحق ربك أولى من أن تكون بحظ نفسك.

ويقول عمى البصيرة ثلاثة : إرسال الجوارح في معاصى الله، والطمع في خلق الله والتصنع بطاعة الله.

وسُئل أحد الصوفية: بم أدركت ما أدركت؟ قال وجدته بأفضل التوحيد، وخدمته خدمة العبيد، وأطعته فيما أمرنى ونهانى فكلما سألته أعطانى.

ويقول آخر: اليقين نور يجعله الله في قلب المؤمن حتى يشاهد به أمور آخرته ويخرق به كل حجاب بينه وبينها حتى يطالع الآخرة كالمشاهد لها.

ويقول آخر: من علامات الاكتفاء بالله ثلاثة: الرضا عن الله، والاهتمام بأمره، وعدم الالتفات لغيره.

هذا تصوف يؤدى إلى التكاليف برضى نفس رحب، ويترك المعاصى باستغناء واستعلاء ويتذوق الإيمان فينقله من التعريف إلى الإحساس القلبى لأن العالم الذي لا قلب له كالشجرة التي لا ظل لها ولا ثمر فالدين عقل وقلب وهنا نرى علماء جمعوا بين العقل والقلب ألا ترى ابن القيم حين يتكلم في مدارج السالكين كم يخفق قلبك أو تدمع عيناك أو يقشعر جسدك وكأنك ترى الجنة رأى عين أو أبا حامد الغزالى وهو يكشف لك اعوجاج أرسطو في فكره وأفلاطون في نظره وابن الجوزى وابن عطاء السكندرى والجنيد الذي قال فيه ابن تيمية وكان الجنيد رضى الله عنه سيد الطائفة وإمام هدى ومن أحسنهم تعليماً وتأديباً وتقويماً وأثنى عليه ابن القيم في مدارج السالكين وأبو الحسن الشاذلى وغيرهم الكثير.

ماذا تقول عن تصوف أهل العلم والاستقامة كالفضيل بن عياض وإبراهيم بن أدهم وأبى سليمان الدارانى وسهل بن عبد الله التسترى الذين ضبطوا التصوف بضوابط الشريعة فقدموا لنا دراسة عن البواعث النفسية وفرضوا رقابة صارمة على بواعث العمل حتى تصفو النية وعلمونا كيفية التمرس بمقام الإحسان وطول البقاء في نطاق أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك.

فإذا وهم يتتبعون آيات الله في الأنفس والآفاق ومحاولة تدارس الحاضر والماضى والارتقاء على مستوى الكتاب والسنة ليحققوا الشخصية الإسلامية التي افتقدناها .

أبعد هذا يرفض التصوف بالكلية ؟ ليس من النصفة في شيء فإن التعميم في الأحكام ليس بمنهج علمى.

واسمع إلى أحد تلاميذ الإمام البنا يقول:

الأصل في الصوفية أخذ النفوس بأسلوب يطهرها من أدرانها ويزكيها ويصقلها فيرقى بها إلى مدارج الكمال الإنسانى وهو أسلوب من أساليب التربية ونحن الإخوان المسلمين نعتبر التربية الروحية أساس دعوتنا لتكوين الفرد...

ثم يقول: وليس معنى هذا أن ينقطع المسلم لهذا الأسلوب وينعزل عن المجتمع ولا يتخذ هذا الأسلوب للارتزاق وجمع المال والتسلط على الناس وكسب الصيت والسمعة فللأسف الشديد أن بعض مشايخ الطرق انحرفوا بأتباعهم عن الطريق الصحيح وانعزلوا عن المجتمع ولما أحسوا بتيار الإخوان المسلمين الحركى يجذب بعضهم بعد أن عرضت عليهم فكرة الشمول أعلنوا الحرب على الجماعة خاصة في الريف، أليس هذا الفهم من أستاذه الذي عايشه وفهم منه؟

وإن تعجب فعجب قولهم أن الإخوان المسلمين صوفيون مبتدعون بينما الرجل –كما رأيت- إنه يبين أن الصوفيين الذين انحرفوا حاربوا الجماعة فبالأمس كان يحاربنا الصوفيون المنحرفون لانحرافنا عن الفهم السليم واليوم نُحارب لأننا صوفيون مبتدعون ولا حول ولا قوة إلا بالله العلى العظيم.

الحقيقة التي ندين بها:

من هنا فإننا لا نرفض الصوفية بالكلية وكيف نرفضها بالكلية وهم الذين نشروا الإسلام في أفريقيا ورفعوا راية الجهاد في بلادهم: السنوسية في ليبيا، والمهدية في السودان، بل وفى الجزائر وتونس ومراكش وغير ذلك من بلاد المسلمين فضلاً عن أفاضل علمائهم الذين أشرت إليهم.

كما أن الحكم الدقيق في هذه المسألة: أن منهم العالم التقى الورع المجاهد ومنهم الجاهل بدينه ومنهم الكاذب المشعوذ وقد تجد ذلك في غيرهم من الجماعات ..فهل أخطأ الإمام البنا حين قال عن دعوة الإخوان أنها"حقيقة صوفية" أحسب أنه أصاب والله أعلم.

"فاللهم رب جبريل وميكائيل وإسرافيل فاطر السماوات والأرض عالم الغيب والشهادة أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون اهدنا لما اختلف فيه من الحق إنك تهدى من تشاء إلى صراط مستقيم.


الأصل الرابع

المنكر التي يجب محاربته

"والتمائم والرقى والودع والرمل والكهانة وادعاء معرفة الغيب وكل ما كان من هذا الباب منكر تجب محاربته إلا ما كان آية من قرآن أو رقية مأثورة "

تكلمنا من قبل عن قول الإمام ابن القيم t:"إن للا إله إلا الله قلب وقالب"، فقالبها علمها وهذا يشترك فيه المؤمن والكافر على حد سواء ثم قال أما قلبها فهو أثرها وهذا هو الذي يتميز به المسلم عن غيره.

ولذلك ركز الإمام البنا على أثر لا إله إلا الله في بناء الرجال، فالتركيز على أثر العقيدة في البناء والتربية أمر من الأهمية بمكان إلا أن الإمام البنا رضوان الله عليه وأرضاه لفت نظرنا إلى أن حركة القلب قد تتجه اتجاهاً خاطئاً حين تعتمد على الإلهام والخواطر والكشف والرؤى وهي أمور تتصل بالقلب والتي قد تحدث التأثير الخاطئ البعيد عن تأثير عقيدة لا إله إلا الله المطلوبة، أما الكشف والرؤى والخواطر فهي من الأمور التي لا يعتد بها البتة .

والذي نريد أن نؤكد عليه هو أن الإلهام لا يمكن بأى حال من الأحوال أن يعتد به إذا اصطدم بقاعدة شرعية أو نص صريح من نصوص الدين، ولذلك كان هذا الأصل الذي يوضح هذه المعاني ويركز على حماية التوحيد والعقيدة من أن يشوبها شائبة وأن لله I سنن مبثوثة في الكون والإنسان والحياة فيجب أن تراعى هذه السنن وأن توضع في موضعها دون إهمال ودون إفراط أو تفريط.

فرعاية سنن الله في الخلق والاجتماع البشرى واحترام نظم الأسباب والمسببات فإذا كان من سنن الله التداوى فذلك لا يتعارض مع الرقى الشرعية التي علمنا الرسول r إياها بعيداً عن الشركيات والمناكير.

ولذا فقد ارتكز هذا الأصل على قاعدتين في غاية الأهمية :

1-القاعدة الأولى وهى تجريد التوحيد لله I حتى لا نركن للأسباب، نحن نأخذ بالأسباب ولكن لا نعتقد في أنها هي التي تفعل بل الله I هو الذي يفعل فإذا أخذنا بالأسباب كما أمرنا الله اعتقدنا فإننا يجب علينا أن نعتقد بأن الشافي هو الله وليس الرقية حتى نجرد التوحيد من أى شيء شابه أو لحق به إلا أن يكون لله I لأن من الإيمان أن نعتقد أن الضار والنافع هو الله I والذين من دونه لا يملكون لا حياة ولا موتاً ولا نشورا ويقول ربنا (وَإِن يَمْسَسْكَ اللّهُ بِضُرٍّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ) (قُلْ أَفَرَأَيْتُم مَّا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ) .

2- القاعدة الثانية وهى رعاية سنن الله تعالى في الخلق والحياة والإنسان واحترام نظام الأسباب والمسببات لتنقية التوحيد مما لحق به من شوائب من الدَخَن والدَخَل هذا هو الأمر الأول.

والأمر الثانى أننى أرعى الأسباب والمسببات ولابد من الأخذ بها عبادة لله I -كما قلنا- لأنه شاع جو من الشرك والوثنية حينما دب الضعف في الجسد المسلم فدخل الدجالون بالشعوذة والسحر والكهانة والاتصال بالجان ولا أقول قديماً بل وحديثاً، وانتشرت الأباطيل والخرافات مما أحدث خللاً في فهم العقيدة ومنكراً في المجتمع يجب محاربته، فتصدى العلماء لهذه المنكرات والتي منها التمائم والرقى والودع والرمل والكهانة وادعاء معرفة الغيب وكل ما كان من هذا الباب.

قواعد وأصول محاربة المنكر:

هذا الأصل يعتبر استكمالاً للأصل الثالث فهو ينفى من مصادر التشريع ما ليس منها، ليتحدد الفهم السليم تحديداً دقيقاً، ولقد تعرض الإمام البنا لهذه الأمور لأنها كانت منتشرة في زمانه فكان من الطبيعي أن يقدم العلاج لمشاكل عصره وزمانه.

والغريب أن بعض الناس حتى يومنا هذا يدَّعون معرفة الأسرار والغيبيات ومع  تقدم العلم وانتشاره إلا  أن بعضهم تراه يتشاءم من أماكن معينة وأيام محددة بل وأشياء بعينها وهذا لون من الجهل حاربه الإسلام منذ نزوله ووجه العباد إلى الله وحده كي يعتمدوا عليه في تذليل ما قد يعترضهم (قُلْ أَنَدْعُو مِن دُونِ اللّهِ مَا لاَ يَنفَعُنَا وَلاَ يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللّهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الأَرْضِ حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا قُلْ إِنَّ هُدَى اللّهِ هُوَ الْهُدَىَ وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ) الأنعام :71

حب الإنسان لمعرفة الغيب:

يرجع حب الإنسان لمعرفة الغيب إلى أمرين يتملكان الإنسان:

أولاً- رغبته الملحة في سرعة اكتشاف الغيب وخاصة فيما يتعلق بمستقبله ومستقبل من يتصل به (خُلِقَ الْإِنسَانُ مِنْ عَجَلٍ) (وَكَانَ الإِنسَانُ عَجُولاً). 

ثانياً-خوفه الشديد من اعتراض ما يعوقه عن أهدافه التي يتجه إليها ويعزم عليها ولذلك أخذ يتسمع لما يجرى بين الناس من الوهم والخيال عن طريق معرفة الغيب في خيره وشره، وهذا قدح في التوكل والتفويض لله I فما على الإنسان إلا أن يأخذ بالأسباب ثم يتوكل على (الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ ، الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ ،وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ) ومن هنا وجب البعد عن الوهم والخيال.

ومن هذه الطرق الشاذة: الولاية، الكهانة، التنجيم، ضرب الحصى، والودع، وخطوط الرمل، الفنجان، المندل، استخارة المسبحة، استخارة القرآن، التشاؤم بالزمان والمكان سواء كان في الساعة أو اليوم أو الشهر أو الأشخاص والأشياء والكلمات وأضغاث الأحلام وأضف إلى كل هذا تحضير الأرواح وحظك اليوم في زماننا هذا.

وهذا الدجل وهذه الشعوذة التي أشرنا إليها تعطل الأعمال وتهمل سنن الله التي وضعها للسعادة والشقاء وتتعامى عن الأخذ بالأسباب فكم من ابنة منعوها من الزواج دجلاً وكم من تاجر قعد عن السفر وأهمل تجارته اعتماداً على نبوءة دجال كاذب وكم من مريض أهمل الأطباء والعلاج وأخذ بهذه الشعوذات والخزعبلات وكم تنشر الصحف والمجلات من هذا الدجل الكثير وهى التي يفترض فيها أن تكون مصدراً للثقافة والعجيب أننا سمعنا عن قرارات سياسية في دول عظمى صدرت بعد استشارة منجمة كان يستشيرها الحاكم الأمريكي.


موقف الإسلام من التشاؤم:

لقد أنكر الإسلام التشاؤم، ونهى عنه بشكل قاطع وبين أنه لا يجوز أبداً للمسلم أن يتشاءم، كما تشاءم قوم موسى (فَإِذَا جَاءتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُواْ لَنَا هَذِهِ وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُواْ بِمُوسَى وَمَن مَّعَهُ) [الأعراف:131] أو تشاؤم قوم صالح الذين (قَالُوا اطَّيَّرْنَا بِكَ وَبِمَن مَّعَكَ) [النمل :47] أو تشاؤم أهل القرية برسلهم (قَالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ) [يس:18] فكان الرد عليهم أن الشر جاء من قبلكم ومن عند أنفسكم بكفركم وعنادكم وإهمالكم سنن الله (أَلا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِندَ اللّهُ) [الأعراف:131]

والغريب أن هؤلاء المتشائمين يستشهدون بالقرآن للتدليل على صوابهم في مثل قوله تعالى (فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي أَيَّامٍ نَّحِسَاتٍ) [فصلت:16] (فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُّسْتَمِرٍّ) [القمر:19] (وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ، سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا) [الحاقة:7]

إن الإمام الألوسي وضح هذا اللبس الذي لديهم وهذا الفهم المعكوس حين تسائل عن قول الله تعالى (سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا) فقال فإذا كانت نحوسة الأيام لذلك فقل لى : أى يوم من الأسبوع خلا منها، والحق كما قال إن كل الأيام سواء ولا اختصاص ليوم بنحوسة ولا لآخر بسعد وأنه ما من ساعة من الساعات إلا وهى سعد على شخص ونحس على آخر باعتبار ما يقع فيها من خير على هذا ومن شر على ذاك وهكذا.

الغيب:

والإنسان المسلم من صفاته أنه يؤمن بالغيب وهو ما استتر عنه وغاب عنه وهو لا يستطيع أن يتوصل للغيب إلا وحياً لأنه لا يعرف شيئاً عن الغيب إلا عن طريق الوحى فإذا كنا نؤمن بالغيب فإننا نؤمن به لأنه جاء من عند الله I فعندما يخبرنا القرآن ويكلمنا عن الملائكة فنحن نؤمن بها بالرغم من أنها غيب بالنسبة لنا وإيماننا بها يرجع إلى تصديقنا بالكتاب والسنة لأنه لا يمكن أبداً للمسلم أن يؤمن بالغيب إلا  عن طريق الكتاب والسنة المطهرة التي بينها رسول الله r .

والذي نريد أن نؤكد عليه أن الفرق بين الإنسان والحيوان هو الإيمان بالغيب، والإيمان بالغيب أمر حسي ومعنوي يدركه الإنسان بعقله وإن كان لا يصل إليه يشعر أن وراء هذا الكون الكثير مما يغيب عنه والعلماء يبذلون كل الجهد ليدركوه وذلك من خلال سنة من سنن الله التي تتكشف لهم عن طريق العلم، ومهما اكتشفوا فسيستمر قول الله (سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ) فكلما اكتشفوا سنة من سنن الله المبثوثة في الكون بحثوا عن غيرها لحاجتهم إليها بالرغم من كل ما اكتشفوه فستبقى هناك أمور لا يدركها العقل،هذا هو الإدراك  الحقيقي يقول سيدنا على t كلمة لطيفة في هذا المعنى وهى: (عدم الإدراك إدراك) فاعترافى بعجزى عن إدراك ما في الكون هو الإدراك بعينه (عرفت ربى بربى ولولا ربى ما عرفت ربى ) نحن لم نعرف الله بعقولنا فحسب، يمكن أن نكون قد عرفنا التوحيد ووصلنا إليه بعقولنا (لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا) ( قُل لَّوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذًا لاَّبْتَغَوْاْ إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلاً) كل هذه قضايا عقلية  وبعد كل ذلك يتساءل العقل أسئلة كثيرة : ماذا يريد ربنا ؟ ماذا يحب ؟ماذا يكره ؟ ماذا بعد الموت؟ إلى آخر هذه الأسئلة.

أسئلة كلها عقلية تريد إجابة ولا يستطيع العقل أن يجيب عنها فيأتي الوحي فيجيب عن هذه الأسئلة ولذلك سيأتى يوم يقول ويعرف السائل الهدى ويمسك لسانه ويحترم عقله وسيرى من أنكروا وجود الإله يوم القيامة وهم يقولون (لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ فَاعْتَرَفُوا بِذَنبِهِمْ فَسُحْقًا لِّأَصْحَابِ السَّعِيرِ) فإذاً إدراك وجود المجهول أمر لا يستطيع أن ينكره عاقل ولكن محاولة إدراك العقل لهذا الغيب لون من ألوان العبث ، لماذا؟ لأن استخدام الحاسة في غير ما خلقها الله له لون من ألوان العبث فعلاً فالأذن مهمتها السمع فلا يمكن أن نسأل لماذا لا ترى ؟ بل إن حاسة السمع نفسها لها مدى معين لا تستطيع أن تسمع ما فوقه وما دونه، فالعقل نفسه حاسة خلقها ربنا I للإنسان لكن في إدراك الماديات والعلاقات بين الأمور بعضها ببعض أما ما وراء المادة فلا يملك العقل إلا التسليم به إن آمن بربه واهتدي (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ) حتى ولو كان هذا الأمر غير معقول المعنى.

فصلاة الصبح ركعتان والعقل يقول الزيادة أفضل فهل نستطيع أن نصليها أربع أو خمس كلا إنه التسليم لأمر الله فالغيب أمر اختص الله به نفسه أو من ارتضى من رسول (قُل لَّا يَعْلَمُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ) ولذلك فإن رسول الله r أمره الله I بأن يقول (لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلاَ ضَرًّا إِلاَّ مَا شَاء اللّهُ وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاَسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ)

والإيمان بالغيب صفة من صفات المؤمنين(يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة) فهم يصدقون بما غاب عنهم وما لم تدركه حواسهم من البعث والجنة والنار والصراط والحساب وغير ذلك مما أخبر عنه القرآن أو النبى صلى الله عليه وسلم

يقول تعالى (إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) [لقمان:34] .

وصدق الله القائل (عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا، إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ) [الجن:26-27]، لذا وجدنا يوسف عليه السلام يقول لصاحبى السجن (لاَ يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلاَّ نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَن يَأْتِيكُمَا ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي) [يوسف:37]، وترى اعتراف الجن بعجزهم حين خر سيدنا سليمان (فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَن لَّوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ) .

فيجب على المسلم أن يفرق بين ما يخبر به الوحي من غيب من عند الله نزل به الروح الأمين وبين من يخبر به من المشعوذين والدجالين عن طريق الكهانة والعرافة والدجل والشعوذة ، فالتصديق بالأول إيمان وأما التصديق والإيمان من هؤلاء المشعوذين شرك قد يؤدي إلى الكفر، يقول الرسول r :"من أتى عرافاً سأله عن شيء فصدقه لم تقبل له صلاة أربعين يوماً " رواه مسلم ،ويقول:" من أتى كاهناً فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد " رواه الترمذي .

أبعد هذا يدعى مدع أنه يعلم الغيب ...إنه لكاذب بل يفتري على الله الكذب.

لهذا فإننا سنبين بوضوح ما هي التمائم، والرقى، والكهانة، والسحر، التي أشار إليها الإمام البنا في هذا الأصل.

ما هي التميمة ؟

عرفها العرب في الجاهلية وهى عبارة عن  خرزة يعلقها العربى في رأسه أو رقبته لتدفع عنه الضر والشر ومن التمائم أيضاً ما يُعلق على الأبواب مثل الكفين الأزرقين والخرزة الزرقاء وما يعلق في السيارة وغيرها، وكانوا يعتقدون في الخرزة بينما لا يعتقدون في الله النافع الضار، كما كانوا يعتقدون في العين والحسد وأن تعليق مثل هذه الأشياء تدفع عنهم الضرر، ولا يصبهم أذى بفضلها يقول المولى I (قُلْ أَفَرَأَيْتُم مَّا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ) [الزمر:38] وروى الإمام أحمد عن عقبة بن عامر مرفوعاً "من علق تميمة فلا أتم الله له ومن تعلق ودعة فلا ودع الله له" وفى رواية "من تعلق تميمة فقد أشرك" والمعنى من علق هذه الأشياء متعلقاً بها قلبه في طلب خير أو دفع شر فلا أتم الله له، وهو دعاء عليه بعدم حصوله ما أراد.

ولقد بين لنا الرسول r أن هذا الأمر لون من ألوان الشرك ، يقول الإمام أحمد في مسنده عن عقبه بن عامر أن الرسول r أقبل إليه رهط يبايعونه فبايع تسعة وترك العاشر ، فقالوا له : يا رسول الله بايعت تسعة وتركت هذا،قال إن عليه تميمة فأدخل يده فقطعها فبايعه الرسول r وقال :من علق تميمة فقد أشرك "، ويقول r :"من علق تميمة فلا أتم لله له" أى لا أتم الله له ما أراد ،" ومن علق ودعة فلا ودع الله له " أى لا جعله الله في دعة وسكون ولقد ذكر العلماء حكم التميمة أنها لون من ألوان الشرك يربأ المؤمن عن فعله، وعن عمران بن حصين أن الرسول r رأى في يد رجل حلقة فقال : ما هذا ؟ قال اتخذتها من الواهنة (الواهنة عرق في القدم أو اليد يصيب الإنسان بشيء من المرض) قال :ما تزيدك إلا وهناً انبذها عنك فإنك إن مت وهى عليك وكلت إليها".

إلى هذا الحد يكره الرسول r ويأمر الرجل بأن ينزع هذه عن يده لأنه يعتقد أنها سبب في شفائه ، وفى رواية أخرى في مسند الإمام أحمد " إن مت وهى عليك ما أفلحت أبداً " وفى الآية القرآنية (وَلاَ تَدْعُ مِن دُونِ اللّهِ مَا لاَ يَنفَعُكَ وَلاَ يَضُرُّكَ) وفى الصحيحين عن أبى بشر الأنصارى أنه كان مع رسول الله r في بعض أسفاره فأرسل رسولاً ألا يبقين في رقبة بعير قلادة من وتر إلا قطعت " متفق عليه .

ويذكر الإمام بن الجوزى أن هناك ثلاثة أقوال في هذا الموضوع (البعير) فيقول:

1-كانوا يضعونها خشية أن تصيبها عين فتدفع القلادة العين .

2-كانوا يضعونها خشية أن البعير عندما يشرب ويرفع رقبته أن يختنق فحرصًا من  الرسول r على حياة البعير أمر برفعها من رقبته .

3-كانوا يضعون فيه الأجراس حتى إذا غابت البعير عرفوا مكانها .

والحقيقة أن الصحابة رضوان الله عليهم كانوا يتميزون بخشيتهم من الشرك الأصغر فضلاً عن الشرك الأكبر فكانوا  يتحرون في ذلك كل الأمور خاصة وأن الرسول r حذرهم من الشرك ووصفه بأنه أدق من دبيب النملة السوداء على الصخرة الملساء في الليلة الظلماء ، فقالوا يا رسول الله كيف نتقيه؟ قال :"قولوا : اللهم إنا نعوذ بك من أن نشرك بك شيئاً نعلمه ونستغفرك لما لا نعلمه"

ويروى ابن مسعود t قصة سمعها من زوجته زينب، كانت زينب تقول:"إن عبد الله إذا جاء من حاجة عند الباب تنحنح كراهية أن يهجم منا على شيء نكرهه، وقالت أنه جاء ذات يوم فتنحنح وكانت عندى عجوز ترقينى من الحمرة فأدخلتها تحت السرير فدخل فجلس جانبى فرأى في عنقى خيطاً فقال ما هذا الخيط؟ قلت خيط رُقىَ لى فيه فأخذه فقطعه وقال:"إن آل عبد الله لأغنياء عن الشرك، سمعت رسول الله r يقول:" إن الرقى والتمائم والتولة شرك".

والرقى هنا المقصود بها الرقى التي بها ألفاظ شركية وأما التولة فهي شيء يصنعونه يزعمون أنه يحبب الزوجة إلى زوجها والزوج إلى زوجته وهو نوع من السحر وإنما كان من الشرك لما يراد من جلب المنافع ودفع المضار من غير الله.

موقف الصحابة والتابعين والعلماء:

أحاديث رسول الله r التي سبقت وقف منها الصحابة والتابعون بل وأصحاب المذاهب موقفين:

1-قسم من أهل العراق تلاميذ ابن مسعود أصحاب المذهب الحنفى كانوا يكرهون التمائم كلها سواء كانت من القرآن أم من غير القرآن ولا يجوزونها على الإطلاق .

2-أما عبد الله بن عمرو لم يكن يمانع ذلك، روى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال : كان رسول الله r يعلمنا كلمات نقولهن عند الفزع من النوم (بسم الله أعوذ بكلمات الله التامة من غضبه وعقابه وشر عباده ومن شر الشياطين وأن يحضرون ) قال : فكان عبد الله بن عمرو يعلمهن من بلغ من ولده أن يقولها عند نومه ومن كان منهم صغيراً لا يعقل أن يحفظها كتبها له فعلقها في عنقه ، فالمسألة كما ترى خلافية ، و(المختلف فيه لا إنكار فيه ) كما قال الإمام النووى.

-يقول ابن حجر العسقلانى في فتح البارى أنه يميل إلى الرأى الذي يقول بجواز تعليق التميمة إذا كانت من قرآن أو سنة يقول :هذا في ما ليس فيه قرآن فأما ما فيه ذكر الله فلا نهي فيه وإنما يجعل للتبرك بأسمائه وذكره، أما العراقيون وعلماؤهم فقالوا بكراهة ذلك فيما فيه القرآن وما ليس فيه قرآن، فإذا تركنا هؤلاء وجئنا إلى الإمام محمد بن عبد الوهاب الذي يعتبره البعض متشدداً فإنه يقول في كتاب "التوحيد" تعليقاً على هذا الحديث :" إن الرقى والتمائم والتولة شرك" يقول : إن هذا رخص فيه بعض علماء السلف وبعضهم لم يرخص فيه وجعله من المنهى عنه وللمسلم إذاً في هذه القضية أن يأخذ ما يطمئن له قلبه.

أما أستاذنا وشيخنا الدكتور القرضاوي فهو من الذين لا يجوزون، وأيد رأيه بأمور أربعة فيقول إني أرجح كراهية التمائم كلها للأسباب الآتية:

1-عموم النهى عن التمائم حيث لم تفرق النصوص بين بعضها وبعض ولم يوجد مخصص وأن النصوص التي قالها الرسول r واضحة في أن فيها عموم وليس فيها مخصص يخصصها .

2-سد الذريعة حتى لا يفضى لتعليق ما ليس كذلك حتى لا يتصور بعض الجهلة أن الجواز مصروف للكل .

3-أنه إذا علق ذلك لابد أن يمتهنه (من المهانة) كحمله في قضاء الحاجة ودورة المياه مثلاً .

4-أن القرآن أنزل ليكون هداية ومنهاجاً للحياة لا أن يكون تمائم وحجباً وما إلى ذلك .

ونحن نلخص حكمها في الآتي:

1-إما أن تكون بألفاظ شركية وهذا مجمع عليه بعدم الجواز مع كراهيته وحرمته .

2-تميمة فيها أدعية أو قرآن أو اسم من أسماء الله الحسنى هذه كما حدث من عبد الله بن عمرو.

والإمام ابن حجر والإمام ابن عبد الوهاب قالوا بالجواز في هذه المسألة أيضًا، وهذا يدل على أنها خلافية في حكمها.

الرقى:

جمع رقية وهى العوذة التي يرقى بها صاحب الآفة كالحمى والصرع ولدغ الثعبان ويضاف إليها الرقية من العين .

والرقية ليست على إطلاقها قال تعالى (كَلَّا إِذَا بَلَغَتْ التَّرَاقِيَ، وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ) والاستفهام هنا استنكارى إذا بلغت الروح الحلقوم من يرقيهم ومن يحميهم ، وهذه الرقى كانت معروفة عند العرب وقبل مجيئ الإسلام وكان فيها شركيات ظاهرة كذا قال رسول الله r :"إن التمائم والرقى والتولة شرك" إلا أن الرقى منها ما كان بأسماء الله وهي الرقية المشروعة لأنها بأسماء الله وصفاته وأمرها مطلوب مرغوب وسنة عن الرسول حين تقول "أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق " أو تقول "أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما أجد وأحاذر " أو تقول "اللهم رب الناس أذهب البأس واشفه أنت الشافى لا شفاء إلا شفاؤك شفاءً لا يغادر سقماً"، أو تقرأ الراقية فاتحة الكتاب والمعوذتين وغير ذلك من الأدعية والرقى المأثورة، وقد رقى جبريل رسول الله r ورقى رسول الله r نفسه ورقى بعض الصحابة ، فالرقية مشروعة ومأمور بها ما لم يكن بها شرك ، هذا إجماع على غير التميمة.

يقول الإمام ابن تيمية: إن هناك بعض رقى بألفاظ غير عربية، ولا معنى لها في كلام العرب وكل اسم مجهول ليس لأحد أن يرقى به فضلاً عن أن يدعو به، ومكروه بل ممنوع الرقية بغير العربية، أما لغير الناطقين بالعربية فقد جوزوا الرقية بالمعنى، لكن الأصل أن يرقى بالعربية.

يقول ابن حجر: أجمع العلماء على جواز الرقى عند توافر ثلاثة شروط :

1-أن تكون بكلام الله وأسمائه وصفاته .

2-أن تكون باللسان العربى وبما يعرف معناه ويرخص لغير العرب بالترجمة باللسان .

3-أن يعتقد أن الرقية لا تؤثر بذاتها بل بتقدير الله .

والرقية كالدواء، والدواء من عند الله I والذى يؤمن بأن الدواء من عند الله يؤمن بأن الرقية يتم الشفاء بقدر الله لا فرق بين الاثنين بل إن بعض العلماء يقول إن الطب الروحانى لا يمنع من الطب الجسمانى ولا يمنع الطب الجسمانى أبداً الطب الروحانى، لأن رسول الله r الذي شرع الرقية قال إن "لكل داء دواء"، ولا تعارض بينهما ويقول الإمام بن القيم في زاد المعاد (واعلم أن الأدوية الطبيعية الإلهية تنفع من الداء قبل حصوله وتمنع من وقوعه وإن وقع لم يقع وقوعاً مضراً وإن كان مؤذياً وإنما الأدوية الطبيعية تنفع بعد حصول الداء)

والتعوذات والأذكار إما أن تمنع من وقوع هذه الأسباب أو تحول بينها وبين كمال تأثيرها بحسب كمال التعوذ وقدره، وذلك يرجع لصفاء النفس وحسن العلاقة بالله تعالى، يقول ابن خذيمة سألت رسول الله r : يا رسول الله أرأيت رقى نسترقيها ودواء نتداوى به وتقاة نتقيها هل ترد من قدر الله شيئاً ؟ قال هي من قدر الله.

فالرقية مجمع عليها بين العلماء وهي سنة رسول الله r وقد أمر فيها بقراءة المعوذتين يقول r :"من نزل منزلاً فقال أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق لم يضره شيء حتى يرتحل من منزله "، ويقول سهل بن أبى صالح عن أبيه قال: سمعت من رجل من أسلم قال : جاء رجل من أصحابه r فقال : يا رسول الله لدغت الليلة فلم أنم حتى أصبحت ، قال :ماذا؟ قال :عقرب ، قال أما إنك لو قلت حين أمسيت أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق لم تضرك إن شاء الله " رواه مسلم.

تقول عائشة رضى الله عنها كان سول الله r إذا آوى إلى فراشه نفث في كفه ثم قرأ قل هو الله أحد ،والمعوذتين ،ثم يمسح بها وجهه وما بلغت يده من جسده ،  وكانت تقول أيضًا أنه r كان يقرأ آخر آيتين من سورة البقرة في ليلته .

وكان في سفره r يقول :"يا أرض ربى وربك الله أعوذ بالله من شرك وشر ما فيك وشر ما يدب عليك أعوذ بالله من أسد وأسود ومن الحية والعقرب ومن ساكن البلد ومن والد وما ولد " رواه الإمام أبو داود في سننه.

وأفضل الرقى هي الصيغة المأثورة عن رسول الله r  وما رقى بها جبريل الرسول r وهى أفضل الرقى لوجهين :

1-أنها ذكر ودعاء واستعانة بالله .

2-إتباع المأثور عنه r وهذا أمر مطلوب فنأخذ أجر الذكر وأجر الإتباع.

تقول السيدة عائشة رضى الله عنها :"كان رسول الله r إذا اشتكى منا إنسان مسحه بيمينه ثم قال :اللهم أذهب الباس رب الناس اشفى أنت الشافى لا شفاء إلا شفاءك شفاء لا يغادر سقما، فلما مرض r وسقم أخذت بيديه لأصنع به نحو ما كان يصنع فنزع يده وقال اللهم اغفر لى واجعلني مع الرفيق الأعلى لأنه r كان يعلم أن المنية قد اقتربت"، وأما حديث العين الذي رواه مسلم فكان الرسول r يقول فيه :" اللهم أنت ربى لا إله إلا أنت عليك توكلت وأنت رب العرش العظيم لا حول ولا قوة إلا بالله العلى العظيم ،ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن أعلم أن الله على كل شيء قدير وأن الله قد أحاط بكل شيء علماً وأحصى كل شيء عدداً ، اللهم إنى أعوذ بك من شر نفسى ، ومن شر كل دابة أنت آخذ بناصيتها ،إن ربى على كل صراط مستقيم " ومن المعلوم أنه يجوز للرجل والمرأة على حد سواء أن ترقى، إلا أن المرأة ترقى المحارم فحسب، ولا يجوز لها أن ترقي المحارم على التأقيت، بل المحارم المقطوع بهم ويكفيها أن ترقى أختها وبنات جنسها .


الكهانة :

هى ادعاء علم الغيب والأصل في هذا الموضوع استراق الجن السمع من كلام الملائكة ثم يأتون في أذن الكاهن ويقولون ما سمعوه من كلام في الملأ الأعلى .

والكاهن : هو العراف أو المنجم أو من يضرب بالحصى وكل من يرجم بالغيب .

وكانت الكهانة فاشية في الجاهلية تماماً وهى على أنواع متعددة ومنها ما يتلقونه من الجن فلقد كان الجن يركب بعضهم البعض ليتسمّع في الوقت الذي لم يحُل المولى I بينهم وبين السمع فكان كل واحد يلقي ما يسمعه للآخر حتى يصل للكاهن وكان الكاهن يزيد عليه أو ينقص منه بل يضيف إليه ما يشتهيه (إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ) وهذا كله كان قبل رسالة الرسول r .

فكان الجن نفسه يخبر وليّه بما يسمع ويصبح الجن مصدر المعلومة للكاهن أو من يتصل به.

أو عن طريق الظن والتخمين والحدس وهذا فيه كثير من الكذب والاستنتاج أو يكون للكاهن خبرة وتجربة يستند إليها من تراكم المواقف فيدعى علم الغيب .

وعلى كلٍ فهو لون من ألوان السحر، تقول عائشة رضى الله عنها سُئل رسول الله r عن الكهانة فقال :" ليسوا بشيء " فقالوا يا رسول الله إنهم يحدثوننا فيكون حقاً ، فقال :تلك الكلمة من الحق يخطفها الجنى فيقرها في أذن وليه فيخلطون معها مائة كذبة "

لذلك قال r " من أتى عرافاً أو كاهناً فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد" وفى رواية "لا تقبل صلاته أربعين يوماً "،ولقد ذكر الرسول r في حديث السحر، اجتنبوا السبع الموبقات "الشرك بالله والسحر …".

ولنا وقفة مع الجن.

الجن غيب من الغيب وما عرفنا الجن إلا عن طريق الوحى قال تعالى (قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِّنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا ،يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ) كما عرفنا الوحي أن مع الجن الذين خُلقوا من نار الملائكة الذين خلقوا من نور، والجن أرواح عاقلة مريدة (عندها إرادة) يحاسبون مثل الإنس ، لذلك بُلغ القرآن والرسالة لهما وهم مجردون عن المادة البشرية لديهم القدرة على التستر عن الحواس لا نراهم على طبيعتهم ولا على صورتهم الحقيقية بل لهم القدرة على التشكل .

ولقد علمنا الكتاب الكريم مادة خلقهم فقال: (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ ، وَالْجَآنَّ خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ مِن نَّارِ السَّمُومِ) ،وهم طوائف منهم المؤمن كامل الاستقامة، ومنهم العاصى ومنهم الكافر (كُنَّا طَرَائِقَ قِدَدًا) أنواع وطرائق متعددة وكل هذه الأصناف لا نعرفها إلا عن طريق الوحى (وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُوْلَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَدًا، وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا) ولقد روى لنا ابن عباس رضي الله عنهما أنه كان مع رسول الله r وانطلق معه حتى إذا وصلا إلى مكان معين قال له r :"لا تتجاوزه" ثم ذهب رسول الله r إلى وادى الجنة وبلغهم رسالة ربه (فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا ،يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ)، ولقد بين لنا القرآن تسخير الجن لسيدنا سليمان u وقصتهم معه معروفة ، والجدير بالذكر أن أشد أنواع الجن خروجاً على طاعة الله I إبليس اللعين وهو أبو الشياطين، والشياطين هم المتمردون من الجن، ولذلك عندما نستعيذ فنحن نستعيذ من الشيطان ولا نستعيذ من الجن؛ لأن فيهم المسلم والمؤمن، ولكن نستعيذ بالله من الشيطان لأن الشيطان هو المتمرد الكافر منهم ، فالشياطين هم المتمردون على الله ، ولذلك كانت العداوة بيننا وبين الشيطان الذي أمرنا المولى باتخاذه عدوا (إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا) فمطلوب من الإنسان تعبد الله أن يحذر ألاعيب إبليس وكلما اقترب الإنسان من الله واتقاه I ، ابتعد عنه الشيطان ولا يستطيع أن يفرض سلطانه علينا يقول ربنا (فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ ،إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ ،إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ) إذاً لا سلطان للشيطان على الإنسان و تبين لنا السيرة أن الفاروق عمر t كان إذا رآه الشيطان يسير في فج سار في فج آخر من مهابته، وهذا اللعين لا ينجو من مسه أحد حتى الذين اتقوا لا ينجون من مس الشيطان يقول المولى (إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَواْ إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ) إلا أن صاحب التقوى تنجيه منه، لقد جاء اللعين لسيدنا عيسى u وهو يسير في الطريق وقال يا  عيسى ألم تقل إن ربك قادر على أن يحيى الموتى وأنه لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء ؟ قال :بلى ، قال فاصعد هذا الجبل وألق بنفسك من فوقه وأرني كيف يصنع الله بك؟ ، قال عيسى عليه السلام : خسئت يا عدو الله يا لئيم، لله أن يختبر العبد وليس للعبد أن يختبر ربه، و لذالك حذرنا المولى من اتباع خطوات الشيطان فهو يستدرج الإنسان خطوة بعد خطوة حتى يقول اكفر ( فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِّنكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ) وهكذا يستدرج الإنسان الساحر خطوة خطوة حتى يكفر بالله.

إننا ولا شك نؤمن بالسحر ولكن في نفس الوقت نؤمن بأن النفع والضر من الله ومن شاء أن يتحصن من الشيطان فلا يضره إلا بإذن الله فعليه بأمور ثلاثة :

1-قراءة القرآن لأن الإنسان الذي يقرأ القرآن ويلجأ إلى الله تعالى تصفو نفسه وتصبح نفساً مطمئنة صافية لا يمسها السوء في الدنيا ويناديها ربها من علٍ (يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ،ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً ،فَادْخُلِي فِي عِبَادِي ،وَادْخُلِي جَنَّتِي).

2-الاستعاذة الدائمة بالله من الشيطان الرجيم.

3-الإيمان بالله والتوكل عليه.

والسحر من الأمور التي يشارك فيها الجن بل يتولى كبرها وما قصة طالوت منا ببعيد يقول ربنا U (وَلَمَّا جَاءهُمْ رَسُولٌ مِّنْ عِندِ اللّهِ مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِّنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ كِتَابَ اللّهِ وَرَاء ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ وَاتَّبَعُواْ مَا تَتْلُواْ الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيْاطِينَ كَفَرُواْ يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولاَ إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلاَ تَكْفُرْ ).

لقد أرسل الله تعالى ملكين إلى قوم انتشر فيهم السحر في عهد سليمان u وأرسل الله الملكين حتى يعلموا الناس السحر لرد كيد هؤلاء السحرة فكانوا يعلمون الناس السحر لرد كيد السحرة عن الناس فكان الذي يتعلم هذا السحر يستخدمه في الضرر ولذلك أصبح فتنة له يقول المولى (وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُواْ لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْاْ بِهِ أَنفُسَهُمْ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ) وعندما كانا يعلمان أحد يحذرونه ويقولون له (إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلاَ تَكْفُرْ ) نحن نعلمك لاستخدامه في دفع المضرة واستخدامه في الخير لتجزى خيراً واستخدامه في الشر فتنة وكفر ، ولذلك كان تعلم السحر فتنة وبلاء وامتحان يقول ربنا (وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولاَ إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلاَ تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُم بِضَآرِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللّهِ).

ولذلك كان للعلماء حكم على الساحر.

حكم الساحر :

وقف العلماء أمام حديث رسول الله r الذي يقول "من أتى كاهناً أو عرافاً أو ساحراً فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد " وهنا اختلف أيضًا العلماء واختلفوا في تأويله.

قال أبو حنيفة: يقتل ولا يستتاب حتى لو قال سأترك السحر فحكم الساحر حكم المرتد.

أما الإمام مالك فقال : يقتل ولا يستتاب إلا أن يكون من أهل الكتاب وإذا كان يؤذى المسلمين يقتل وإذا كان إيذاؤه بعيداً عن المسلمين فهو وشأنه .

أما الإمام الشافعى فقال : لا يكفر بسحره إلا أن يكون متعمداً لذلك .

وللإمام أحمد روايتان في توبته : قال يكفر بسحره وإن كان له روايتين في توبته رواية تقول تقبل توبته ، ورواية أخرى تقول لا تقبل توبته .

وعن عقبة بن نافع قال :قال رسول الله r :"ألم تر آيات أنزلت هذه الليلة لم ير مثلهن قط (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ) و(قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ) تقول عائشة رضى الله عنها كان رسول الله r يقرأ بهن وينفث في كفيه ويمسح بكفيه على جسده.

وتقول السيدة عائشة رضى الله عنها أخذ رسول الله r بيدى فأرانى القمر حين طلع وقال تعوذى بالله من الغاسق إذا وقب ومن شر النفاثات في العقد " هذا فضلاً عن الحديث الذي أخبرنا أن جبريل عليه السلام أتى النبي r وقال:اشتكيت يا محمد فقال نعم فقال بسم الله أرقيك من كل داء يؤذيك من شر كل حاسد وعين الله يشفيك.

فكيف نحارب هذه المنكرات؟

أول أمر نهتم به في محاربة هذه المناكير العمل على إزالة الجهل وتوضيح الأمر بالتثقيف وبث الوعي والتعريف بالإسلام الصحيح والدعوة بالحكمة الموعظة الحسنة والمجادلة بالتي هي أحسن فإذا لم يفد ذلك فبالزجر وبالتعنيف وهذا يدعونا إلى أن نتكلم عن كيفية إنكار المنكر.

كيفية إنكار المنكر:

قد يظن القارئ حينما يسمع ما قاله الإمام البنا "وكل ما كان من هذا الباب منكر تجب محاربته " أن الأمر يحتاج إلى  استخدام العنف والقوة والإرهاب لأنه يقول: "تجب محاربته" هذا نظر من لا فقه عنده أما من يرجع إلى علماء الأمة الثقات وصحيح أن العلماء اتفقوا على وجوب الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر ولكنهم اختلفوا في تحديد هذا الواجب من وجهين :

1-فى صفة الواجب.

2-فيمن يلزمهم هذا الواجب.

فقال بعض الفقهاء في صفة الواجب أنه فرض عين على كل مسلم ولو كان هناك من هو أقدر منه، وأما الجمهور على أنه فرض كفاية لأن الله تعالى يقول (وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ) و(من) هنا للتبعيض .

وأما فيمن يلزمهم الواجب فالجمهور على أنه كل أفراد الأمة (كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ...) وغيرهم قالوا القادرين عليه وهم علماء الأمة دون غيرهم وحجتهم أن الجاهل ربما نهى عن المعروف أو أمر بمنكر وقد يغلظ في مواطن اللين والعكس وربما عرف الحكم في مسالة وجهل الأخرى ولذلك فهم يقولون إنه فرض على العلماء دون البعض ولقد رد عليهم العلماء وقالوا : إن الواجب لا يسقط بتحميله للبعض دون البعض وإنما يسقط بالأداء فإذا لم يقم به العلماء فهو فرض على غيرهم لأن فرض الكفاية يقتضى أن يلزم به الكل أولاً حتى يقوم به من يكفيهم، ولذلك وضعوا شروطاً يجب أن تتوفر في الآمر بالمعروف.

الشروط الواجب توافرها في الآمر بالمعروف:

1-أن يكون مكلفاً أى مدركاً مختاراً رجلاً وهذا أمر له فقهه وقواعده فالعبرة ابتداءً ليست في إيذاء من يرتكبون المنكر ولكن الداعي بفقهه وخلقه يصرف الذين يرتكبون المنكر بحكمته عنه فينتهوا .

2-أن يكون مؤمناً بالدين الإسلامي بشموله وعمومه ومنهاجه.

3-القدرة - بمعنى أن يكون صاحب ولاية عليه - فإن كان عاجزاً فلا وجوب عليه بل يغيره بقلبه.

4-العدالة وهذه مختلف فيها.

5-الإذن: وهو مختلف فيه أيضًا بين العلماء فهل يأذن له الإمام أم لا علماً بأن الجمهور لا يشترط هذا فضلاً عن العلم والورع وحسن الخلق.

ويشترط عند النهى عن المنكر لتغييره:

1-وجود منكر وهو –كما عرفه العلماء - كل معصية حرمتها الشريعة أو كل ما كان محذوراً في الشرع.

2-أن يكون معلوماً دون اجتهاد أى من الأمور القطعية المجمع عليها؛ لأن المختلف فيه ليس فيه أمر بالمعروف ولا نهى عن المنكر.

3-أن يكون موجوداً في الحال – أى وقت ارتكاب المنكر.

4-أن يكون ظاهراً دون تجسس ولا تفتيش لأن الرسول نهى عن تتبع عورات المسلمين وقال لمعاوية "إنك إن تتبعت عورات الناس أفسدتهم أو كدت تفسدهم" وهناك قصة معروفة مشهورة حدثت مع عمر بن الخطاب t فقد اعتلى بيت رجل ليضبطه متلبساً بجريمته فقال له الرجل : إن كنت قد ارتكبت منكراً واحداً فقد ارتكبت ثلاثة مناكير يا عمر : تجسست والمولى يقول (وَلَا تَجَسَّسُوا) وأتيت البيت من ظهره والمولى يقول (وَأْتُواْ الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا) ولم تستأذن والله يقول (لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا) فتركه عمر واشترط عليه التوبة .

5-دفع المنكر بأيسر ما يندفع به لا بأقل فلا يقف عند القليل من الدفع إن كان يقدر على الأكثر ولا بأكثر إن كان الأيسر لا يحتاج إلا القليل .

وسائل تغيير المنكر:

1-التعريف: (وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً) ويقول المولى (وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُم مَّا يَتَّقُونَ إِنَّ اللّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) فوجب التعريف أولاً.

2-النصح والوعظ: فالدين النصيحة لله ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم .

3-التعنيف: ويكون عند العجز عن المنع باللطف ويوجه إلى المصر المستهزئ بالوعظ والنصح ويشترط في التعنيف شرطان:

    أ-ألا يقدم عليه إلا عند الضرورة والعجز بعد اللطف.

    ب-ألا ينطق المعنف إلا بالصدق ولا يسترسل بالتعنيف بما لا يحتاج إليه.

4-اليد: وتكون لمن له ولاية ولها شروط:

    أ-لا يكون إلا في المعاصى التي تقبل بطبيعتها التغيير المادى أما معاصى اللسان والقلب فليس في الاستطاعة تغييرها مادياً بعكس كسر أوانى الخمر أو إخراجه من الدار المغصوبة.

    ب-لا يباشر التغيير باليد طالما استطاع أن يحمل فاعل المنكر على التغيير فليس له أن يريق الخمر مثلاً بنفسه إذا استطاع أن يكلف شاربها بإراقتها وهكذا.

    ج-أن يقتصر فيه على القدر المحتاج إليه؛ لأنه إذا زاد ظلم واعتدى، بمعنى لا يشده من لحيته إن كان يستطيع أن يجذبه من يده أو يحرق أدوات الملاهى إن استطاع كسرها أو يكسر أوانى الخمر لأن الأصل في التغيير لا يقصد منه عقوبة فاعل المنكر ولا زجر غيره.

5-التهديد بالضرب والقتل: التهديد يسبق الضرب كلما أمكن أى استخدام اللسان ويشترط فيه أن لا يهدد بوعيد لا يجوز تحقيقه كقوله : لأنهَبَنَّ دارك أو لأضربن ولدك أو لأسجنن والدك، أو لأسبين زوجتك إلخ.

وكل هذه الوسائل في حق الكافة عدا:

    أ-الوالدين : فالولد ليس على والديه إلا التعريف ثم النهى بالوعظ والنصح وليس له أن يعنفهما أو يهددهما أو يضربهما (فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا) .

ب -الزوجة: حكمها مع زوجها حكم الولد مع أبويه لقول الرسول r "لو جاز السجود لمخلوق لأمرت الزوجة أن تسجد لزوجها " فلا تؤذى الزوجة زوجها.

ج-الحاكم: ليس للرعية على الحاكم المسلم الذي يحكم بما أنزل الله إلا التعريف والنهى بالموعظة والنصح أما التغيير باليد فالرأى الراجح أنه غير جائز لأنه يفضى إلى خرق هيبته وإسقاط حرمته وذلك محظور لقول الرسول r :"من كانت عنده نصيحة لذى سلطان فلا يكلمه بها علانية وليأخذ بيده فليخل به فإن قبلها قبلها وإلا قد أدى الذي عليه والذى له" وقوله "من أهان سطان الله في الأرض أهانه الله في الأرض"

تغيير المنكر وابن القيم:

جعل ابن القيم إنكار المنكر أربع درجات ، فأنت حين تفكر في التصدى لإنكار المنكر تحدث إحدى الاحتمالات الأربعة الآتية :

الأولى- إذا استطاع الإنسان أن يزيله بالكلية دون مضرة وجب عليه أن يزيله.

الثانية- إذا استطاع أن يزيل جزء من المنكر دون مضرة، وبقى جزء فيه مضرة، يزيل الجزء الذي ليس فيه مضرة ويترك الذي به مضرة .

الثالثة- إذا أزاله ونتج عنه منكر مساوٍ له، فله الخيار إن شاء تركه وإن شاء أزاله.

الرابعة- إذا أزاله وحل محله منكر أشد يكون آثماً إن غيره ويبقيه على ما هو عليه.

وهكذا ترى الإمام الشهيد رضوان الله عليه يضع القواعد والضوابط والأصول حتى يكون سلوك المسلم منضبطاً ودعوته مؤصلة وخطواته ممنهجة ووعيه بعصره دقيق ثم يدعو إلى الله على بصيرة لتقوية الروح الإنسانية والسمو بها عن مزالق الأوهام والخرافات إلى ميدان الحقائق والسنن الإلهية الثابتة التي بنى عليها صرح هذا العالم ينقى العقائد مما شابها إذ أن العقيدة الصحيحة ما جاءت إلا لتخلص الإنسان من هذه الأوهام فبين – رحمه الله – دجل الدجالين وشعوذة المشعوذين، ونبه إلى عبث العابثين حتى تصفو العقيدة فيجمع المسلم بين صحة الاعتقاد وصدق الإتباع ثم ينطلق في طريقة متوكلاً على الله متحملاً الإيذاء في سبيله يقول : (وَمَا لَنَا أَلاَّ نَتَوَكَّلَ عَلَى اللّهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَا آذَيْتُمُونَا وَعَلَى اللّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ)

 


الأصل الخامس

مصالح العباد والأصل في الأشياء

" ورأى الإمام ونائبه فيما لا نص فيه، وفيما يحتمل وجوهاً عدة وفى المصالح المرسلة معمول به ما لم يصطدم بقاعدة شرعية وقد يتغير بحسب الظروف والعرف والعادات، والأصل في العبادات التعبد دون الالتفات إلى المعاني وفى العاديات الالتفات إلى الأسرار والحكم والمقاصد"

هذا الأصل يعالج :

1-رأى الإمام ونائبه فيما لا نص فيه وفيما يحتمل وجوهاً عدة.

2-المصالح وأنواعها وحكمها.

3-الأصل في الأشياء الإباحة.

4-الأصل في العادات والعبادات.

هذا الأصل يشير ضمناً إلى معنى نردده دائماًُ ألا وهو أن الإسلام دين الجماعة فهذا الأصل يثبت ويوضح بل ويؤكد هذا المعنى لأن الإسلام لو لم يكن دين الجماعة فما كان له إمام ولا كان له نائب وما كانت له شريعة تنظم هذا الأمر تنظيماً دقيقاً فكلمة: (ورأى الإمام ونائبه) تدل على أن الإسلام دين لا يتحقق واقعاً على الأرض إلا بالجماعة فلابد أن يكون له إمام وأن يكون له أمير يتناول السياسة الشرعية المنوطة بالإمام، والإمام هنا يقصد به خليفة المسلمين أو رئيس الدولة أو نائبه ورأيه في أمور السياسة والحكم ومدى اعتبار ذلك ، هذه واحدة.

أما الثانية فيعالج الأصل المجالات المختلفة التي يُعمل بها في هذا الأمر ، وقد حدد الإمام البنا إعماله فيما لا نص فيه وفيما يحتمل وجوهاً عدة وفى المصالح المرسلة.

ثالثاً : هل يقبل هذا الرأى التغير تبعاً للظروف والأوضاع أم هو جامد لا يلين ؟ثابت لا يتحرك ؟ قطعي لا ظنية فيه ولا اجتهاد.

رابعاً : من خلال النص يتبين لنا أن الشورى أمر ضروري للجماعة فما هو موقف الإمام منها؟

وأخيراً : هل يعمل بهذا الرأى الذي يقوله الإمام في العبادات والمعاملات على حد سواء  أم أن هناك فرقٌ في النظر إلى المقاصد والعلل أو عدم النظر إليها، فابتداءً إذا كنا سنتكلم في هذا الموضوع فإننا سنتناول الأمور التي لا نص فيها وما فيه وجوه عدة وكذلك المصالح المرسلة، فهذه كلها أمور تتصل بالتشريع والفقه فلابد أن نفهم أن الفقه الإسلامي فقه شمولي بمعنى أنه يشمل جميع علاقات الإنسان.

يشمل علاقة الإنسان بربه وأيضًا علاقة الإنسان بحياته خاصة ما يتصل بمأكله ومشربه وملبسه، الإنسان بأسرته من زواج وطلاق وميراث حدده هذا كله الشرع الحكيم تحديداً واضحًا، فضلاً عن علاقة الإنسان بالمجتمع الذي يعيش فيه، فكل هذه الأمور شملها الفقه الإسلامى وتناولها بتفصيل دقيق واضح لذلك حين يتعامل علماء المسلمين مع هذه القضايا والتي منها الثابت الذي لا يتغير ولا يجوز فيه الاجتهاد رأي قطعي في حكمه ومنها الظنى الذي يجتهد فيه ودائرة الاجتهاد فيه واسعة وهو هنا ما يسمى بالسياسة الشرعية التي يراعي فيها العلماء المصلحة المعتبرة شرعاً، من فضل الله علينا أن الأمور القطعية قليلة جدًا وتكاد تكون محدودة أما المجتهد فيه فما أكثره ودائرة المجتهد فيه ليس متروكة كما يظن البعض لكل إنسان يستطيع أن يعمل عقله، فقبل أن يعمل هذا العقل لابد أن يكون مرتباً ترتيباً إسلامياً: ثقافته إسلامية ونظرته إسلامية وعلمه يخدم إسلامه لأن كل إناء بما فيه ينضح ، وقد يظن البعض أن مصطلح الرأي هو القول في مسألة بالهوى والظن دون قواعد ولا أصول وهذا فهم خاطئ للمصطلح لأن الرأى في الشرع قد يكون مرادفاً للاجتهاد كما ذكر الإمام الشافعى وهو على كل حال الاعتماد على الفكر في استنباط الأحكام الشرعية.

فاستخدم الرأى بمعناه الشرعي هو الاجتهاد وإعمال العقل في استنباط حكم ما واتخاذ القرار فيه هو، الاجتهاد الذي له قواعده وأصوله التي تفيد الاجتهاد في المسألة بهذه القواعد وبذلك يكون الرأى بعيداً عن الهوى والظن فالاجتهاد هو علم يجتهد فيه في نصوص ظنية تحتمل وجوهاً عدة ولذلك فإن المجتهد لابد أن يكون عالماً بالعلوم الشرعية والدنيوية فضلاً عن القواعد الفقهية الأصولية، وهناك مدرستان في الفقه: مدرسة الرأي وعلى رأسها الإمام أبو حنيفة وكانت في العراق، وأما المدرسة الثانية فهي مدرسة الأثر وكانت في المدينة وعلى رأسها عبد الله بن عمر والجدير بالذكر ونريد أن نلفت النظر إليه أن الأحاديث التي تذم الرأى يقصد به الهوى والظن ولا يقصد به الاجتهاد الفقهي.  

يقول سيدنا على: لو كان الدين بالرأى لكان أسفل الخف أولى من عاليه، ويقول جابر بن زيد: لقينى بن عمر فقال، يا جابر إنك من فقهاء البصرة وتُستفتى فلا تفتينا إلا بكتاب ناطق أو سنة ماضية.

والذي يدل على أن الرأي هنا ليس هو الهوى والظن أن بعض الصحابة أنفسهم قضوا بالرأى، أي قضوا بالاجتهاد ولذلك يجب أن نفرق بين الرأى المذموم والرأى المحمود.

يقول ميمون بن مهران: كان أبو بكر إذا ورد عليه حكم نظر في كتاب الله فإن وجد فيه ما يقضى به قضى به وإن لم يجد نظر في سنة الرسول فإن وجد فيها ما يقضى به قضى به ، فإن أعياه ذلك سأل الناس هل تعلمون حكماً فيه في كتاب الله وسنة رسوله وإلا جمع رؤوس الناس واستشارهم فإذا اجتمع رأيهم على شيء قضى به وهم علماء الأمة وكذلك كان يفعل عمر، فقد كتب لأبى موسى يقول له اعرف الأشباه والأشياء والأمثال وقس الأمور.

بل إن رسول الله r يقول لمعاذ بن جبل :" يا معاذ بم تقضى ؟ فقال بكتاب الله ، قال فإن لم تجد ؟ قال فبسنة رسول الله r قال فإن لم تجد ؟ قال أجتهد رأيى ولا آلو ، قال : الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله إلى ما يحب الله ويرضاه "

لقد سُئِل على عن مسيره في صفين هل كان بعهد عهده إليه رسول الله أم رأى رآه ، قال بل رأى رأيته .

يقول الإمام أحمد عن عبد الله بن مسعود أنه قال : إن الله اطلع على قلوب العباد فوجد قلب محمد r خير القلوب فاختاره لرسالته ، ثم اطلع على قلوب العباد بعده فرأى أصحابه خير قلوب العباد فاختارهم لصحبته ، فما رآه المؤمنون حسناً فهو عند الله حسن ، وما رآه المؤمنون قبيحاً فهو عند الله قبيح .

يقول الإمام ابن القيم في هذه القضية الرأي ثلاثة : رأى باطل بلا ريب، ورأى صحيح بلا ريب ، والثالث الرأى موضع الاشتباه ، فهل هو باطل بالكلية أم صحيح بالكلية هذه أمور أشار إليها السلف الصالح واستعملوا كلمة الرأى في هذه الوجوه الثلاثة.

والرأى الباطل أنواع، نوع هو مخالف للدين بمخالفته النص، أو الكلام في الدين بالظن والخرص والتخمين، أو الرأى المتضمن التعطيل مثل المعطلة الذين يعطلون أسماء الله، أو الرأى الذي أحدث البدع وغَّير من السنن وهذه كلها آراء اتفق السلف الصالح على ذمها وإخراجها من الدين ، أضاف بعض العلماء نوع آخر من الرأى المذموم ما سموه في التاريخ (الأرأيتيين) وهم الذين يسأل عن أشياء لم تقع بعد، ويقولون : أرأيت إن حدث فما هو الحكم؟ وهذا أمر مذموم يقول ربنا (لاَ تَسْأَلُواْ عَنْ أَشْيَاء إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ) فعندما تنزل النازلة يجتهد فيها العلماء ولكن قبل نزولها أمسك عليك لسانك لأنه أمر لا دخل لك فيها ومكروه أن تتكلم فيه ولذلك ذم العلماء هذا النوع من الآراء .

إن مسروق وهو من التابعين يقول سألت أبى بن كعب في شيء فقال أكان هذا وحدث ؟ قلت لا ، فقال فأجمنا حتى يكون - أي اتركنا- فإذا كان اجتهدت لك رأينا.

ويقول ابن عمر: لا تسألوا عما لم يكن فإنى سمعت عمر يلعن من يسأل عما لم يكن .

وهذه القضايا سميت المعضلات أو الأغلوطات لأنك تسأل عن أشياء لم تقع بعد تريد أن ترى فيها رأياً، وهذه لون من ألوان المغالطة ولذلك نهى الرسول r عن ذلك.

وأما الرأي المحمود فهو رأى الصحابة رضوان الله عليهم ومن جاء بعدهم من فقهاء الأمة والذي يفسر النصوص ويبين وجه الدلالة فيها ويقرها ويوضح محاسنها ويسهل طريق الاستنباط منها يقول ابن المبارك : ليكن ما تعتمد عليه الأثر وخذ من الرأى ما يفسر لك الحديث وهذا هو الفهم الذي يختص به الله من يشاء من عباده فضلاً منه ونعمة (ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ).

والخلاصة نجد أن الرأى إما رأى مجرد لا دليل عليه ويخضع للتخمين وحين سُئل أبو بكر عن الكلالة قال أى سماء تظلنى وأى أرض تقلنى إن قلت في كتاب الله برأى.

ومن الآراء المحمودة الرأى الذي اجتمعت عليه الأمة وتلقاه الخلف من السلف بالقبول ولابد أن يكون اجتهاد الرأى في ضوء الشرع يقول عمر لأبى موسى الفهم الفهم لما أدلى إليك فيما ورد عليك وليس في قرآن ولا سنة قايس الأمور عند ذلك واعرف الأمثال ثم اعمد فيما ترى إلى أحبها إلى الله وأشبهها بالحق وذلك بتشاور أهل الاختصاص يقول ربنا (وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ) (وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ) وهذا يعنى أن تكون المشاورة فيما يحكم فيه بطريق الاجتهاد لا فيما يحكم فيه بطريق الوحى وقد ورد عنه r قوله "أنا أقضى بينكم فيما لم ينزل فيه وحى" وروى عن على بن أبى طالب رضى الله عنه أنه قال : قلت يا رسول الله الأمر ينزل بنا لم ينزل فيه قرآن ولم يمض فيه منك سنة، قال "اجمعوا له العالمين أو قال العابدين من المؤمنين فاجعلوه شورى بينكم ولا تقضوا فيه برأى واحد".

فالرأى إذاًَ الاجتهاد والاجتهاد له شروطه وقواعده وأصوله -كما قلنا- فليس كل أحد يقول برأى في الشرع ولذلك قال الإمام البنا ورأى الإمام ونائبه [الأصل الذي نحن بصدده].

وهنا ستدور في الخاطر أسئلة، من هم الذين يستشارون؟ وكيف يختارون؟ وفيما يكون مشاورتهم؟ وما الحكم إذا اختلفوا فيما بينهم أو اختلفوا مع ولى الأمر؟ وهل الشورى ملزمة أم معلمة؟ والشورى دائماً فيما لا نص فيه أما ما فيه نص محكم فليس فيه شورى إذ لا شورى في القطعى وإنما في الأمور الظنية المجتهد فيها فحسب، نكرر هذا لنؤكد على هذا الفهم

فأما الذين يستشارون فهم أهل الحل والعقد، وأهل الاختصاص (فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ) ويبين لنا القرآن ذلك فيقول (وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ) ولقد اخترنا الشورى الملزمة فيما يتعلق بالحركة، أما فيما يتعلق بالعبادة فله أن يختار المذهب الفقهي الذي يراه.

والجدير بالذكر أن حكم الشورى مختلف فيه بين العلماء ، فمنهم من قال أنها ملزمة، ومنهم من قال هي معلمة فهذا أمر خلافي ولكن عندما تختار الجماعة وجهًا من وجوه الفقه المتعددة ويتصل بحركتها فلابد للأفراد أن ينزلوا عليه حسماً للخلاف وإعمالاً للشورى.

فحين يحتمل الأمر وجوهاً عدة، فإن الشريعة تركت للمسلم أن يختار ما شاء من هذه الوجوه فعلى سبيل المثال كفارة اليمين فيها إما الصيام أو الإطعام وكلا الوجهين صواباً وكذلك معاملة الأسرى في الحرب فيها المن أو الفداء أو الاسترقاق أو القتل أو الحرية فاختيار أحدهم للمصلحة متروك، وللإمام اختيار ما هو في صالح المسلمين فمثلاً يمنّ في حالة قوة المسلمين كى يظهر حسن أخلاق المسلمين ورحمتهم بالأسرى، ويقبل منهم الفداء إذا كان المسلمون فقراء ويحتاجون لمال يتقووا حينئذ يقبل الفداء، ويقتل لو كان فيهم عتاة مثلما حدد الرسول r أشخاصًا بعينهم وقال "اقتلوهم ولو تعلقوا بأستار الكعبة" وهكذا نرى في حالة التعدد في أوجه الاجتهاد للإمام أن يختار ما فيه مصلحة مجتمعه.

فعندما فتح عمر بن الخطاب t العراق وغنم المسلمون أرض السواد كان الحكم الفقهي فيها أن توزع الغنائم على المحاربين المجاهدين ولما كانت تلك الأرض أرضاً زراعية ضخمة اجتهد سيدنا عمر ورأى أنه إذا قسمها فإن القوة الاقتصادية التي ستعود على المسلمين ستضعف ، فأبقاها واستثمرها لصالح المسلمين.

لقد فعل ذلك عمر رضوان الله عليه مستنداً إلى مصلحة المسلمين من جانب ويسر الشريعة من جانب آخر لأن  المولى I أقام الشريعة على اليسر أساساً لا العسر، أقامها على التخفيف وليس التشديد ، على رفع الحرج عن الناس وقال I (يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ) وقال (يُرِيدُ اللّهُ أَن يُخَفِّفَ عَنكُمْ وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفًا) وقال (مَا يُرِيدُ اللّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ وَلَكِن يُرِيدُ لِيُطَهَّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ) وقال (هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ)

فمنح الشريعة دائماً منح تيسيري فتجد الرخص في مقابلة العزائم "إن الله يحب أن تؤتى رخصه كما يكره  أن تؤتى معصيته " حديث رواه الإمام أحمد ووضع العلماء لرفع الحرج ومن القواعد الأصولية قاعدة الضرورات تبيح المحظورات واختيار أكبر المصلحتين وأقل المفسدتين وارتكاب أهون الشرين وأخف الضررين.

تعريف السياسة الشرعية:

السياسة الشرعية بكلمات قليلة هي تدبير أمور المسلمين في دنياهم حسب قواعد الشرع فينظر الفقهاء في تدبير شئون  الناس في أمور دنياهم بشرائع الدين، ولهذا يعرفون الخلافة بأنها نيابة عن رسول الله r في حراسة الدين وسياسة الدنيا به، وقد يقصد بكلمة السياسة كما يقول أستاذنا الدكتور القرضاوي، ما يراه الإمام أو ما يصدر عنه من الأحكام قرارات زجراً عن فساد واقع أو وقاية من فساد متوقع أو علاج لوضع خاص وهو معنى خاص.

والحقيقة أن هناك فهماً مغلوطاً عند بعض المسلمين وهو أن السياسة الشرعية يجب أن تكون في أموراً فعلها الرسول r أو تكون في الأمور المنصوص عليها في كتاب الله ولو كان كذلك ما كان هناك اجتهاد لأن العلماء يجتهدون فيما لا نص فيه.

لقد حدث حوار بين رجلين أحدهما شافعي المذهب والآخر حنبلي ، يقول الشافعى : لا سياسة إلا ما وافق الشرع ، فقال الحنبلى السياسة ما يكون معه الناس أقرب للصلاح وأبعد عن الفساد وإن لم يضعه الرسول أو نزل به وحى فإن أردت بقولك إلا ما وافق الشرع ، أى لم يخالف ما نطق به الشرع فهذا صحيح وإن أردت لا سياسة إلا ما نطق به الشرع - أى ما يقله الشرع لفظاً - فهذا هو الخطأ بعينه.

والأمثلة كثيرة في الأمور التي لم ينطق بها الشرع ولكنها أصبحت صحيحة باجتهاد العلماء فيها فهل تجد فيما فعله عثمان t من تحريق للمصاحف نص، أن سبب تحريقه المصاحف هو أن بعض الناس في عهده بدءوا يكتبون المصاحف ويدخلون فيها بعض المعانى التي يفهمونها فاختلطت بعض المعانى بالقرآن فرأى أن يجمعهم على مصحف واحد هو ما تلاه رسول الله r على جبريل وأما باقي المصاحف الأخرى فحرقها، حتى لا يظن الناس أن المعانى التي أدخلوها على المصاحف من القرآن .

وإليك أمثلة من السياسة الشرعية

- الغل من الغنيمة (وهو الذي يخفي شيئاً من الغنيمة) ويأخذه خلسة فالرسول r أسقط سهمه وحرق متاعة ، وهذا أمر ليس منصوصًا عليه لكن الرسول r وجد من المصلحة فعل هذا الأمر.

-القطع في السرقة بشروط فلابد أن يكون مال مُحرزاً ومقوماً أي له قيمة وبلغ حد النصاب فإذا لم تصل السرقة لحد النصاب كان يجلد فيها الرسول r ولم يقطع وهذا غير منصوص عليه .

- أمر الرسول r بقتل شارب الخمر بعد الثالثة أو الرابعة ، في حين أن شارب الخمر يجلد ولا يقتل ، الرسول r قتله ولم يقم عليه الحد.

- حرق سيدنا أبو بكر اللوطية في عهده واعتبر هذا الأمر جرمًا عظيماً ، عندما كتب له سيدنا خالد بن الوليد وقال إنه وجد في بعض نواحي العرب رجلاً ينكح كما تنكح المرأة فاستشار أبو بكر أصحابه وكان فيهم سيدنا على فقال ،إن هذا الذنب لم تعص به أمة من الأمم إلا أمة واحدة فصنع الله بهم ما قد علمتم ،فأرى أن يحرقوا بالنار ، (وهذا أمر غير منصوص عليه ولكنه أمر اجتهادي فيه مصلحة للمسلمين كما رأى الصحابة ) فأرسل أبو بكر لسيدنا خالد وقال حرقهم وجاء من بعده عبد الله بن الزبير وهشام بن عبد الملك وفعلوا مثله.

-سيدنا عمر وقصة نصر بن حجاج عندما افتتنت به النساء نفاه من المدينة ، فهذه أمور كلها غير منصوص عليها ولكنه اجتهاد لمصلحة الأمة .

-بل إن الأمر وصل عند سيدنا عمر t أن اختار للناس الإفراد بالحج وعدم التمتع ليعتمروا في غير أشهر الحج فيصير البيت عامراً طوال العام، فظن الناس أنه يمنع التمتع بينما هو يدعو للأفضل والأولى لعمارة البيت.

يقول ابن القيم هذه سياسة بحسب المصلحة تختلف باختلاف الأزمنة، والأمثلة السابقة على هذه السياسة تختلف زماناً ومكاناً وشخصياً لأنها مسألة اجتهادية والاجتهاد يختلف من زمان لزمان، ومن مكان لمكان فهذا ليس حكماً شرعياً ثابتاً بل هو أمر اجتهادي والدليل على ذلك قضية اللبن المغشوش الذي أراقه سيدنا عمر في زمانه وجاء الإمام مالك للبن المغشوش وهي نفس القضية ولم يسكبه حتى لا تضيع منفعته وتصدق به على الفقير ليستفيد منه طالما أنه خُلط بالماء ولم يخلط بمحرم، والمجال في هذا الأمر واسع والأمثلة كثيرة.

وبعد فإننا نقول أن الأمر –كما رأيت- خلافي بين العلماء تبعاً لاجتهادهم في المصلحة التي تعود على المسلمين بالنفع إذا رأى إمام المسلمين ذلك، فمن هو الإمام ؟

من هو إمام المسلمين ؟

الإمام في العرف الإسلامى هو الخليفة الذي يحكم الأمة نيابة عن رسول الله r في إقامة الدين وسياسة الدنيا به ، وقد ينوب عنه من يدير البلاد من الولاة يقومون بالسلطة التنفيذية وهؤلاء أيضًا طالما أنهم أُنيبوا عن الإمام فلهم السمع والطاعة فيما أمروا به شرط أن يكون الأمر في معروف لأنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق كما جاء في حديث الرسول r "من أطاع أميرى فقد أطاعنى ومن عصى أميرى فقد عصانى " ولقد وضع علماء المسلمين شروطاً لمن يحكم المسلمين حتى يطلق عليه إمام المسلمين أو خليفتهم.

فما هي شروطه؟

1-الإسلام: فهو من المسلمين لقول الله (أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ) ويقول (وَلَن يَجْعَلَ اللّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً) .

2-الذكورة أو الرجولة "لن يفلح قوماً ولوا أمرهم امرأة " ونحن نتكلم هنا عن الولاية العامة أي الحاكم أما دون ذلك ففيه خلاف واجتهادات عند العلماء كمثل أن تكون قاضية أو يكون لها حق الانتخاب وتدلى بصوتها وتشارك في المجالس التشريعية فالذكورة هنا نقصد بها الولاية العامة أي الخليفة أو الحاكم "فلن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة " في الولاية العامة.

فالولاية العامة لا تصلح لها المرأة لأن الإمامة والولاية العامة تحتاج لمن يسهر في حاجات الناس بالليل ويتحسس الناس بالنهار وينظم الجيوش ويقودها وهذه كلها أمور لا تقوى عليها المرأة وإن كان لا يمنعها أن تشارك في الجهاد كما فعلت أم سليم حين أشيع أن رسول الله r قتل في أحد، قالت للرجال "قوموا وموتوا على ما مات عليه نبيكم " .

3-أن يكون عدلاً في دينه لا يعرف عنه فسق متقياً الله ورعاً عارفاً بأمور السياسة وشئون الحكم جريئاً على إقامة حدود الله لا تأخذه في الله لومة لائم، شجاعاًَ ذا دراية بمصالح الأمة وسبل تحقيقها مع الحرص عليها .

4-أن يكون جامعاً للعلم بالأحكام الشرعية لأنه مكلف بتنفيذها إذ لا يمكنه التنفيذ مع الجهل (فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ) .

هذا الإمام ونائبه هو الذي له حق الرأي فيما لا نص فيه فإذا اختلف الفقهاء في مسألة خلافية فيها أكثر من رأى فله هو أو نائبه إلزام الجماعة المسلمة برأي من هذه الآراء يلزمها ولا تحيد عنه وهذا رأي الإمام البنا في القديم.

ما هو النص؟

إن علماء الأصول بحثوا دلالات الألفاظ والعبارات وما فيها من وضوح أو غموض لأن بعضها يكون واضحاً وبعضها يكون غامضاً ثم بحثوا اللفظ من حيث اشتراكه في أكثر من معنى ذلك لأن قواعد التفسير اللغوى تقتضى أن ندرس الدلالات والعبارات والألفاظ ومفهوماتها، لأن النص الشرعى مكون من ألفاظ لها دلالاتها وعبارات لها مفهومات، مفهوم العبارة ومفهوم الإشارة ومفهوم الدلالة ومفهوم الاقتضاء ومفهوم المخالفة إلى آخر ذلك.

وتنقسم الألفاظ والعبارات والنصوص من حيث ظهور معناها إلى :

أ-نوع واضح الدلالة على معناه وليس في دلالته غموض ولا إبهام وهو ليس على درجة واحدة بل وضوح دلالة بعضه أوضح من بعض وهو مقسم إلى : الظاهر –والنص-والمفسر-والمحكم.

ب-نوع غامض الدلالة وفيه غموض وخفاء وليس أيضًا على درجة واحدة فهناك:

الخفى –والمشكل-والمجمل-والمتشابه

وفى الأمر تفصيل ليس هنا مجاله ولكن المهم هو أن النص ما دلت صيغته دلالة واضحة على معناه المقصود أصله من السياق كقول الله (وَأَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا)  فهذا نص على عدم المماثلة بين البيع والربا.

فهو إذاً اللفظ الدال على معنى لا يحتمل غيره: بعكس المتشابه الذي يحتمل معنيين احتمالاً متساوياً فرأى الإمام إذاً كما قال البنا فيما لا نص فيه أى النصوص التي تحتمل تأويلاً والتى لها وجوه عدة معمول به ومعتبر فإذا اصطدم بنص أو قاعدة شرعية لا يعتد به ولا يعتبر على خلاف وهاك مثالاً على ذلك:

هناك إجماع أن رسول الله كان يصلى العيد أولاً ثم يخطب الناس وهناك أحاديث صحيحة كثيرة تثبت ذلك منها:

عن ابن عباس رضى الله عنهما قال :"شهدت مع رسول الله العيد وأبى بكر وعمر وعثمان فكلهم صلى قبل الخطبة بغير أذان ولا إقامة"

إلا أن طارق بن شهاب عن أبى سعيد الخدرى رضى الله عنه قال : أخرج مروان المنبر في يوم عيد ولم يكن يُخرج به – أى أن رسول الله ما كان يخطب على منبر فأخرج هو المنبر – وبدأ بالخطبة قبل الصلاة ولم يكن يُبدأ بها وقال فقام رجل فقال لمروان خالفت السنة وأخرجت المنبر يوم عيد ولم يك يخرج به في يوم عيد وبدأت بالخطبة قبل الصلاة ولم يك يُبدأ بها قال فقال أبو سعيد : أما هذا فقد قضى ما عليه [يقصد أمر ونهى عن منكر ] سمعت رسول الله يقول "من رأى منكم منكراً فإن استطاع أن يغيره بيده فليفعل وقال مره فليغيره بيده فإن لم يستطع بيده فبلسانه فإن لم يستطع بلسانه فبقلبه وذلك أضعف الإيمان"

فهذا حاكم المسلمين في زمانه رأى أن من مصلحة العباد تقديم خطبة العيد على الصلاة فأصبحت هذه المصلحة غير معتبرة لاصطدامها بنص ولذلك تصدى له الرجال ليمنعوه من فعله، أما ما لا نص فيه فيسميه العلماء منطقة العفو التي دلت على مرونة الشريعة الإسلامية فهي منطقة الاجتهاد بقواعد الشرع للمصلحة ، فما هي المصلحة؟.

تعريف المصلحة:

المصلحة هي كل ما فيه صلاح، ونفع للخلق في دنياهم ودينهم وفي معاشهم ومعادهم سواء كانت فردية أو جماعية مادية أو معنوية آنية أو مستقبلية .

مصلحة العباد : ومصلحة العباد ورفع الحرج عنهم أصل الشريعة (وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) بنيت شريعة الله على ذلك فلا يوجد نص في الكتاب والسنة يصطدم بمصلحة العباد (أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ) .

فمصلحة العباد هي ما يدفع عنهم المضرة ويجلب لهم المنفعة (النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَآئِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ) .

ولذلك قسم الفقهاء المصالح إلى ثلاثة أنواع:

1-مصالح معتبرة : وهى التي أعطاها الشارع الحكيم درجة الاعتبار ونص على حلها كالزواج ، والبيع والشراء وكل ما  أمر الله به فعلاً للمأمور وتركاً لمحظور ولا يمكن أن يكون هناك حكم من الله يضاد مصلحة العباد على القطع لأن الشرع وحى من الله وهو معصوم من ذلك وهو يقدر المصلحة التي تعود على العباد بالفائدة في حياتى الدنيا والاخرة وحكم الله يتعدى العقل والحكمة .

أولاً-وتنقسم المصالح المعتبرة إلى :

أ-المصالح الضرورية: وهى التي لابد منها في قيام مصالح الدين والدنيا إذا فقدت لم تحصل المصالح وهى "حفظ الدين والنفس والعقل والنسل والمال"، وكل أمر فيه مفسدة لهذه الأمور لابد أن يدفعها الشارع الحكيم أى أنه أمر يفسد الدين أو النسل أو المال أو العقل أو النفس هي مصلحة غير معتبرة عند الشارع الحكيم ولذلك فإننا نجد المولى في هذه الضرورات أوجب القصاص في قتل الكافر وعقوبة المبتدع وإيجاب القصاص في حد شرب الخمر كي يحفظ العقل والدين .

ب-المصالح الحاجية: وهى المصالح التي توسع على المكلفين وترفع الضيق الذي يؤدى إلى الحرج كرخصة السفر – والفطر في المرض، وقصر الصلاة، وإباحة الصيد إلخ.

ج-المصالح التحسينية : وهى ما يرجع إلى التحسين والتزيين كستر العورة والزينة والنوافل وآداب المأكل والمشرب وأى أمر يتصل بالعادات والمعاملات من نواحيها الخلقية والتعبدية، وهكذا .

ثانياً-مصالح مهدرة : أى الغير معتبرة وهى المصالح التي أعطاها الشارع الحكيم درجة الإهدار ونص على حرمتها بالرغم من أن فيها منافع للناس فالخمر والميسر فيهما إثم كبير ومنافع وغيرها الكثير ومن المصالح المهدرة:

-الذي يأمر بالإفطار في رمضان لمصلحة الإنتاج.

-والذي يجعل صلاة الجمعة متعددة في أوقات مختلفة بإمام واحد حرصاً على الدخل القومى.

-أو الذي يصلى الجمعة يوم الأحد في بلاد الغرب لعدم الاستطاعة يوم الجمعة.

-أو يساوى بين الرجل والمرأى في الميراث.

-أو الذي يحرم البنت من الميراث حتى لا تُعطى الأموال للغريب.

-أو يقيد الطلاق ويحدد عدد الزوجات بواحدة.

-أو الاعتراف بالزواج المثلى.

-أو يحدد النسل باثنين فقط.

-أو يجيز الربا لمصلحة البلاد والعباد.

-أو يحل الخمر والنساء للسياحة ولزيادة العملة الصعبة.

-أو الاختلاط بين الجنسين.

كل ذلك مصالح مهدرة غير معتبرة لأنها تصطدم إما بقاعدة شرعية أو نص في كتاب الله أو سنة رسول r .

ثالثاً-مصالح مرسلة: وهى التي أرسلها الشرع فلم ينص عليها باعتبار أو إهدار ولا تصطدم بقاعدة شرعية وهذه أدنى رتب المصالح لأن أعلى رتب المصالح شهد لها الشرع بالاعتبار ومن هنا اختلف الفقهاء في الأخذ بها كدليل شرعى وأكبر الفقهاء أخذ بها الإمام مالك فهي ضمن الأدلة الشرعية عند بعض العلماء ، وكان البعض الآخر لا يعتبرونها ضمن الأدلة ومن أمثلتها :

لا ضرر ولا ضرار، درء المفاسد مقدم على جلب المصالح، ما أبيح للضرورة يقدر بقدرها، الضرر يدفع بقدر الإمكان وغير ذلك. 

ومن أمثلة المصالح المرسلة زراعة صنف معين كالذرة والقمح أو القطن لحاجة البلاد عندما يتدخل الحاكم لصالح المجتمع فيفرض زراعة معينة للمصلحة فهو أمر مطلوب ومصلحة مرسلة وإن كان ليس فيها نص بالإيجاب ولا بالمنع فلا بأس بها لأنها لا تصطدم لا بقاعدة شرعية ولا نص وكذلك أنواع الصناعات المختلفة وكل شيء فيه مصلحة للناس لم ينص عليها الشرع كالترع والمصارف والكبارى والمستشفيات والمدارس.. إلخ، كل ذلك من المصالح المرسلة.

فرأى الإمام يعمل به في هذه المصالح وفقاً للظروف والعادات والأعراف والقاعدة فيها: يمكن تغيير الحكم فيها طبقاً للمصلحة الإسلامية يقول الإمام الشافعى : واجتهادات الإمام قد تتغير بحسب الظروف والعرف والعادات .

الأصل في الأشياء الإباحة :

كان هذا هو أول مبدأ قرره الإسلام، الأصل فيما خلق الله من أشياء ومنافع هو الحل والإباحة ولا حرام إلا أن يكون هناك نص بمنعه وحرمته، ونص صريح وصحيح من الشارع بتحريمه فإذا لم يكن النص صحيحاً كبعض الأحاديث الضعيفة – أو لم يكن صريحاً في الدلالة على الحرمة بقى الأمر على أصل الإباحة.

ودليل ذلك قوله تعالى (هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً) [البقرة 29]وقوله تعالى (وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِّنْهُ...) [الجاثية:13] وقوله تعالى (أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً) [لقمان:20] ومن هنا يجب أن تتنبه إلى أن دليل الحل ليس هو المطلوب وإنما المطلوب هو دليل التحريم فإذا عرفته استبان لك الحلال لأن الأصل في الأشياء الإباحة –كما قلت- ولذلك فإن المولى يقول (وَقَدْ فَصَّلَ لَكُم مَّا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ).

من هنا ضاقت دائرة المحرمات ضيقاً شديداً واتسعت دائرة الحلال اتساعاً بالغاً فالنصوص التي جاءت بالتحريم قليلة جداً وما لم يجئ نص بحله أو حرمته فهو باق على أصل الإباحة في دائرة العفو الإلهى.

يقول r:"ما أحل الله في كتابه فهو حلال وما حرم فهو حرام وما سكت عنه فهو عفو" لم يحدد له حكم ثابت لأنه ربما كان قد يسبب حرجًا للمسلمين لأنه من رحمة الله أن جعل النصوص الظنية فيما يتصل بتنظيم حياة البشر في داخل مجتمعهم لأن هذا هو المتغير زماناً ومكاناً فيه فهو  مرن وفى رواية  "فهو عافية من الله ، فإن الله لن يكن لينس شيئاً " ثم قرأ (وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا) يقول ابن عباس : كان أهل الجاهلية يأكلون أشياء ويتركون أشياء فبعث الله نبيه وأنزل كتاباً واحل حلاله وحرم حرامه فما أحل فهو حلال ، وما حرم فهو حرام ، وما سكت عنه فهو عفو ثم تلى (قُل لاَّ أَجِدُ فِي مَا أُوْحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَن يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَّسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ)

وعن سلمان الفارسى t سئل رسول الله r عن السمن والجبن والفراء فقال : "الحلال ما أحل الله في كتابه والحرام ما حرم الله في كتابه وما سكت عنه فهو مما عفا عنكم." [رواه الترمذى وابن ماجة]

ويقول r :"إن الله فرض فرائض فلا تضيعوها وحد حدود فلا تعتدوها وحرم أشياء فلا تنتهكوها وسكت عن أشياء رحمة بكم غير نسيان فلا تبحثوا عنها " [رواه الدارقطنى وحسنه النووى]

يقول الدكتور القرضاوى : لا تقتصر الإباحة على الأشياء والأعيان بل تشمل الأفعال والتصرفات التي ليست من أمور العبادة وهى التي نسميها العادات والمعاملات وقوله (وَقَدْ فَصَّلَ لَكُم مَّا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ) عام في الأشياء والأفعال هذا بخلاف العبادة، ويقول ابن تيمية: إن تصرفات العباد من الأقوال والأفعال نوعان : عبادات يصلح بها دينهم وعادات يحتاجون إليها في دنياهم.

العبادات توقيفية:

فباستقراء أمور الشريعة نعلم أن العبادات التي أوجبها الله أو أحبها لا يثبت الأمر بها إلا بشرع فنحن نصلى الصبح ركعتين لا نبحث لماذا ولا نبحث عن المعانى؛ لأن العلماء يسمون العبادات غير معقولة المعنى ، فالصبح ركعتان وهي توقيفية نبتعد عن المعانى فيما يتصل بالعبادات فلا نبحث عن المقاصد والمعانى.

وأما العادات فهى ما اعتاده الناس في دنياهم مما يحتاجون إليه والأصل فيه عدم الحظر فلا يحظر منه إلا ما حظره الله وذلك لأن الأمر والنهى هما شرع الله، أما في العادات والمعاملات فأبحث فيها عن المعانى والمقاصد، فهذا هو الذي يبحث عن الحكمة فيها.

يقول الإمام أحمد وفقهاء الحديث : إن الأصل في العبادات التوقيف فلا يشرع منها إلا ما شرعه الله وإلا دخلنا في معنى قوله (أَمْ لَهُمْ شُرَكَاء شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ اللَّهُ) ويجب أن نعلم أن العادات الأصل فيها العفو فلا يحظر منها إلا ما حرمه وإلا دخلنا في معنى قوله (قُلْ أَرَأَيْتُم مَّا أَنزَلَ اللّهُ لَكُم مِّن رِّزْقٍ فَجَعَلْتُم مِّنْهُ حَرَامًا وَحَلاَلاً قُلْ آللّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللّهِ تَفْتَرُونَ) ويقول ابن القيم: الأصل في العبادات البطلان إلا ما شرعه الله ورسوله

والأصل في الفروج التحريم إلا ما أباحه الله ورسوله وعكس هذا العقود أما المطاعم الأصل فيها الصحة والحلال إلا ما حرم الله ورسوله وأبطله.

ومن هذا الباب قول جابر بن عبد الله: كنا نعزل والقرآن ينزل فلو كان شيء ينهى عنه لنهى القرآن فهم في حل لأفعالهم حتى يبين القرآن .

ومن هنا فإن القاعدة أن الأصل في العبادات التوقيف والتعبد بها لله سبحانه وتعالى والأصل في العادات البحث في الحكم والمقاصد فإن فهمنا حكمة الله في شيء حمدنا الله على ذلك فإن عجز العقل عن إدراكها اتهمنا العقل بالعجز ولا نتهم الشرع بالنقص ...فهل في هذا ما يخالف كلام البنا الذي قال: الأصل في العبادات التعبد دون الالتفات إلى المعاني وفي العاديات الالتفات إلى الأسرار والحكم والمقاصد .

 


الأصل السادس

الميل القلبي والتعصب للأشخاص

"وكل واحد يؤخذ من كلامه ويترك إلا المعصوم r وكل ما جاء عن السلف رضوان الله تعالى عليهم موافقاً للكتاب والسنة قبلناه وإلا فكتاب الله تعالى وسنة نبيه r أولى بالإتباع ولكننا لا نعرض للأشخاص فيما اختلف فيه بطعن أو تجريح ونكلهم إلى نياتهم وقد أفضوا إلى ما قدموا "

الحديث في الأصول العشرين يزيد الإنسان المنتمي إلى هذه الجماعة بصيرةً وفهماً لأنها تحدد له إطاراً للفهم وتوضيحاً للتصور للتصور وتبصرة بثوابت هذا الدين ومتغيراته وقد وفق الله الإمام البنا رضوان الله عليه في صياغة هذه الأصول كثابت من ثوابت الفهم عند الجماعة نفسها لا يستطيع المنتمى لها أن يخرج عليه فبعد أن قدم الإمام البنا الفهم الشامل للإسلام وحدد مصادر هذا الفهم من الكتاب والسنة وبين لنا المصادر التي ليست من أدلة الأحكام الشرعية والمنكر الذي يجب محاربته بالقواعد الفقهية والأصول الشرعية ثم انتقل بنا إلى احترام رأي الإمام ونائبه والعمل به فيما لا نص فيه وحدد مصالح العباد المعتبرة والمهدرة والمرسلة والأحكام التي يتعدد فيها وجوه الفقه ، ثم قدم لنا معالجة للميل القلبي والتعصب للآراء والأشخاص وأكد على أن الطاعة يجب أن تكون لله وحده لا شريك له وهذا الأصل الذي نحن بصدده يعالج:

1-مصدر التلقي يجب أن يكون من الكتاب والسنة أما غير ذلك فيؤخذ منه ويرد ولا عصمة لأحد إلا لرسول الله r .

2-احترام العلم والعلماء وليس الميل القلبى للأشخاص والتعصب لهم.

3-من هم السلف والسلفية ووجوب إتباعهم .

4-احترام الصحابة وحبهم وعدم الخوض في الخلاف الذي كان بينهم.

والجدير بالذكر أن بعض الشباب حين يستشهد بهذا النص "وكل واحد يؤخذ من كلامه ويترك إلا المعصوم r" ينتابه شعور بأن من حقه أن يقول برأيه دون أن يكون معه أدوات الاجتهاد وقواعده بل يزيد على ذلك بالتطاول على العلماء ورد ما يقولون بعقله ودونما أدوات تخول له أن يرد عالماً وكأن الساحة مفتوحة لكل من هب ودب وحفظ نصاً أو نصين أو كتاباً أو كتابين وينسى أن حق الرد على العلماء للعلماء أمثالهم فليس للمتفيقهة حق في ذلك ولذلك وجب علينا أن نؤكد على أن للعلم والعلماء فضل نحب أن نعرفه كما أن لهم منزلة يجب احترامها حتى يعرف كل إنسان قدره وحدّه.

فضل العلم :

لا يجهل مسلم أن أول ما نزل على رسول الله r (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ) فالقراءة البناءة هي وسيلة تحصيل العلم ثم أقسم الله تعالى بمادة العلم (ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ) وجعل القلم أداة للقسم لعظم هذا الأمر ثم قرن شهادته بشهادة العلماء (شَهِدَ اللّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلاَئِكَةُ وَأُوْلُواْ الْعِلْمِ قَآئِمَاً بِالْقِسْطِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) وكلما حصّل الإنسان العلم وشرح الله صدره له زاد قربى من الله وخشية منه (كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء) ولذلك أمر المولى وأمر رسوله r أن يسأله الزيادة في العلم (وقل رَّبِّ زِدْنِي عِلْمًا) فردد المؤمنون من بعده r "اللهم إنى أسألك علماً نافعاً"

ولعن المولى I الذين يكتمون العلم النافع الذي يقوى به الدين ويعمر به الكون لأن كتمانه فيه الخطورة بمكان إذ بدونه تُبنى المفاهيم على الباطل وتفسد التصورات من أجل ذلك يقول الله تعالى (إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِن بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلعَنُهُمُ اللّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ) فلا يتحقق صلاح الناس في دنياهم إلا بصلاح علمائهم ويفسدون بفسادهم والحكمة تنطق بذلك : اثنان إذا فسدا فسد الناس وإذا صلحوا صلح الناس العلماء والحكام، ومن أجل ذلك أخذ الله الميثاق من الذين أوتوا الكتاب (وَإِذَ أَخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلاَ تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاء ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْاْ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ) .

ولهذا السبب فليس من المعقول شرعاً ولا عقلاً أن يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون والقرآن يبين ذلك فيقول (قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ) ويقول (يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ) ويقول (وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ) أليس العلماء ورثة الأنبياء؟

يقول ابن مسعود رضى الله عنه قال رسول الله r :"لا حسد إلا في اثنتين : رجل آتاه الله مالاً فسلطه على هلكته في الحق، ورجل آتاه الله حكمة فهو يقضى بها ويعلمها الناس" وإذا كان هذا فضل العلم فلا عجب أن يدعونا رسول الله r أن نحصل علماً يقربنا إلى الله I  ونعمر به كوننا لأن المولى I خلقنا لنعمر الكون بعبادته وأنزل الكتاب الذي بين أيدينا والذى لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه لنؤدى رسالتنا في هذا  الوجود ولذلك حث الرسول r أصحابه على المسارعة إلى تحصيل العلم ، فعن معاوية t يقول سمعت رسول الله r يقول :" من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين ".

وعن أبى هريرة قال قال رسول الله r :"من سلك طريقاً يلتمس فيه علماً سهل الله له طريقاً إلى الجنة"

وعن أبى أمامة يقول : إن الله وملائكته وأهل الأرض حتى النملة في جحرها حتى الحوت ليصلون على معلمى الناس الخير" ويتفاوت في تحصيل العلم كما تفاوت الصحابة أنفسهم فليسوا جميعاً سواء في ذلك فليسوا على درجة واحدة من العلم، كما أنهم ليسوا جميعًا علماء ولا فقهاء فمنهم العالم في الفقه، ومنهم من لا يضارعه أحد في علم الفرائض (المواريث) ومنهم ترجمان القرآن ومنهم من هو عالم بالسِيَر، وإن كانوا جميعاً قمة في الأخلاق أسوة في القيم والمبادئ لأنهم يقتدون برسول الله r الذي شبههم بالكواكب في السماء يهتدي بهم الحائر في صحراء دنياه ولأنهم كانوا يتنافسون في تحصيل العلم وكان الواحد منهم يحترم صاحب العلم فيهم.

فضل العلماء:

كان ابن عباس رضي الله عنهما يأخذ بركاب زيد بن ثابت ويقول هكذا أمرنا أن نفعل بعلمائنا.

وعن سعيد بن سمرة بن جندب t قال :"كنت على عهد رسول الله r غلاماً فكنت أحفظ عنه فما يمنعنى من القول إلا أن ههنا رجالاً هم أسن منى"

واسمع إلى ما يقوله على t في حق العالم : إن من حق العالم عليك :

-أن تسلم على القوم عامة وتخصه بالتحية.

-وأن تجلس أمامه.

-ولا تعينه في الجواب.

-ولا تطلبن عثرته.

-وإن زل قبلت عثرته.

-ولا تقولن له سمعت فلاناً يقول كذا ولا فلاناً يقول بخلافك.

-ولا تصفن عنده عالماً فإنما هو بمنزلة النخلة تنتظر حتى يسقط عليك منها شيء.

ويقول بن عمر عن رسول الله r :"أفضل العبادة الفقه وأفضل الدين الورع" وقال r :"ثلاث لا يستخف بهم إلا منافق: ذو الشيبة في الإسلام وذو العلم وإمام مقسط"

وعن عمر بن الخطاب t قال قال رسول الله r : "يظهر الإسلام حتى يختلف التجار في البحار وحتى تخوض الخيل في سبيل الله ثم يظهر قوم يقرءون القرآن يقولون: من أقرأ منا؟ من أعلم منا؟ من أفقه منا؟ ثم قال لأصحابه هل في أولئك من خير قالوا : الله ورسوله أعلم قال :"أولئك منكم من هذه الأمة وأولئك هم وقود النار".

ويقول ابن عباس عن النبى r إن عيسى عليه السلام قال :إنما الأمور ثلاثة أمر تبين رشده فاتبعه ، وأمر تبين لك غيه فاجتنبه، وأمر اختلف فيه فرده إلى عالم".

من أجل ذلك قال أبو ذر t : العالم والمتعلم شريكان في الخير وسائر الناس لا خير فيهم ، كن عالماً ، أو متعلماً، أو مستمعاً ولا تكن الرابعة فتهلك.

فالعلماء هم روح هذه الأمة وعليهم يقوم صلاح المجتمع وبهم تتحقق آيات الله I على الأرض وبهم يعمر الكون .

والعلماء هم المتواضعون أصحاب الأخلاق العالية فهم أحاسن الناس أخلاقاً الموطئون أكنافاً الذين يألفون ويؤلفون ولذلك:

يقول عمر بن الخطاب t :" تعلموا العلم وتعلموا للعلم السكينة والحلم وتواضعوا لمن يعلمكم وتواضعوا لمن تعلمون ولا تكونوا من جبارى العلماء فلا يقوم عملكم مع جهلكم"

وتقول عائشة رضى الله عنها : تغفلون أعظم عبادة : التواضع.

وقال الشعبى : اتقوا الفاجر من العلماء والجاهل من المتعبدين فإنه آفة كل مفتون".

وقال الثورى : نعوذ بالله من فتنة العالم الفاجر، والعابد الجاهل فإن فتنتهما فتنة لكل مفتون"

وقال الفضيل بن عياض: إن الله يحب العالم المتواضع ويبغض العالم الجبار"

فكلما ازداد العلماء علماً ازدادوا تواضعاً وسكينةً ووقاراً، وصحابة رسول الله r أجمعين كانوا يتحلون بهذا التواضع  ولقد رأينا ترجمان القرآن عبد الله بن عباس -وهو الذي دعا له الرسول r بأن يفقهه الله في الدين- يشد ركاب زيد بن ثابت ويقول هكذا أمرنا أن نفعل بعلمائنا .

لهذا كان العلماء يتورعون عن الفتيا وكثرة الكلام وكانوا يتعففون عن إبداء الرأى وإظهار الحكم في مسائل الاجتهاد وكانوا لا يرغبون فيها.

يقول عبد الرحمن بن أبى ليلى أدركت في هذا المسجد مائة وعشرين من أصحاب رسول الله r ما أحد يسأل عن حديث أو فتوى إلا ودَّ أن أخاه كفاه ذلك ، ثم آل الأمر إلى أقوام يدعون العلم يقدمون على الجواب في مسائل لو عرضت لعمر بن الخطاب لجمع لها أهل بدر واستشارهم بالرغم من أنهم كالإخاذ، الإخاذ يروى الرجل ويروى الرجلين ويروى العشرة والألف والإخاذ لو اجتمع عليه أهل الأرض لكفاهم.

يقول سيدنا عمر بن الخطاب t : العلم ثلاثة كتاب ناطق وسنة ماضية ولا أدرى.

وقال ابن مسعود t إن الذي يفتى الناس في كل ما يستفتونه لمجنون.

وقال الإمام أحمد : ليس كل شيء ينبغى أن يتكلم فيه كان النبى r حين يُسأل يقول : "لا أدرى حتى أسأل جبريل" .

وقال سفيان : من فتنة الرجل إذا كان فقيهاً أن يكون الكلام أحب إليه من السكوت.

وقال عبد الملك بن عمير : إضاعة الحديث أن يحدث به من ليس بأهل .

وصدق الرسول الكريم r  القائل :"إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من الناس ولكن يقبض العلم بقبض العلماء حتى إذا لم يُترك عالماً اتخذ الناس رؤساء جهالاً فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا"

وعن أنس بن مالك t قال: قال رسول الله r "من أشراط الساعة أن يرفع العلم ويثبت الجهل (أى ينتشر) وتشرب الخمر ويظهر الزنا ".

وقد كان أحد إخواننا -وهو على علمٍ غزير- يتورع عن الحديث في بعض القضايا كالطلاق، وعندما يأتى إليه من يسأله في مثل هذه القضايا، كان يقول له :"أفضل أن تذهب إلى العالم فلان"، فسألته عن ذلك فضحك وقال: "إن هذه القضايا تُحل فروجاً وتُحرم فروجاً، وأنا أرسله إلى عالم أثق في علمه أما أنا فإذا أخطأت في حقوق الرب كالصلاة أو الصوم أو الحج فهذه أمور يتجاوز الله عنا فيها، لكن هذه أمور أبتعد عنها لأن الكلمة فيها تحل فروجاً أو تحرمها وأنا لا أقوى على ذلك".

فأين نحن من هذا الفضل العميم الذي يتمتع به علماء الأمة والذين يقولون : كل يؤخذ من كلامه ويرد إلا المعصوم r .

وأولوا العلم من لهم حق الرد على العلماء فليس لكل إنسان هذا الحق وإلا لفسدت الأمور واختل النظام وهلك الحرث النسل، حين يتصدى غير المتفقهة وغير العلماء لمثل هذه الأمور العلمية الدقيقة وتوسد الأمر إلى غير أهله.

فعن زيادة بن لبيد t قال: ذكر النبى r شيئاً فقال "وذاك عند أوان ذهاب العلم" قال قلنا : يا رسول الله وكيف يذهب العلم ونحن نقرأ القرآن ونقرؤه أبنائنا ويقرؤه أبناؤنا أبناءهم إلى يوم القيامة قال : "ثكلتك أمك يا ابن أم لبيد إن كنت لأراك أفقه رجل بالمدينة أو ليس اليهود والنصارى يقرؤن التوراة والإنجيل ولا ينتفعون مما فيها بشيء"

وعلى هذا فإن الذي يرد قول العلماء لابد وأن يكون أهلاً لذلك ويجب أن يتحلى ب :

1-تحرى الصدق.

2-تحرى القصد.

3-تحرى الأسلوب الطيب.

4-تحرى الموضوعية .

صحيح أنه لا عصمة إلا للأنبياء عليهم الصلاة والسلام إلا أن الله I رفع قدر العلماء ومنزلتهم فقال: (يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ) وهذا العلم الذي يرفعهم به ليس وقفًا على العلوم الشرعية كأصول العقائد والعبادات والأخلاق الحميدة فحسب ،إنما نتكلم عن علم يحقق منهج الله بسننه وآياته ويعيش الناس في كنفه آمنين مطمئنين بيعاً وشراءً زواجاً وطلاقاً علماً يمكن المسلمين من أن يعيشوا باكتفائهم الذاتي آمنين مطمئنين ليسوا عالة على أحد ولذلك فالتقدم العلمي الذي يعود على المسلمين بخير سواء في الهندسة أو الطب أو الزراعة أو أى علم فهو ينطوي تحت لواء هذه الآية شرطهم الوحيد أن يكونوا ممن يخشون الله I ويعبدونه ويقدرونه حق قدره وعندنا بفضل الله من العلماء في غير المجال الشرعى الكثير ممن خلدهم التاريخ في العلوم الطبيعية وغيرها ، فليس الأمر وقفاً على العلوم الشرعية فحسب وربنا I يقول (وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ) وقد أُمرنا أن نحترم هؤلاء العلماء وهم الذين قال فيهم رسول الله r :"العلماء ورثة الأنبياء" لأنه r كما جاء بالعبادة والعقيدة فقد جاء أيضًا بشريعة ودعا إلى تعلمها، وعلماؤنا في الإسلام هم الذين تواضعوا لله ودعوا الناس للتعرف عليه من خلال علومهم المختلفة ومن فضل الله أن جعل علماء أمة محمد ليسوا كغيرهم من علماء الأمم، يقول ابن تيمية :"كل أمة قبل مبعث نبينا محمد r علماؤها شرارها وأن الله تعالى شرف هذه الأمة بعلمائها بعد رسول الله r كما قال r فهم خيارهم؛ لأن الخشية لباسهم وتقوى الله ديدنهم".

قال ابن عمر بن الخطاب t :"لا يكون الرجل عالماً حتى لا يحسد من فوقه ولا يحقر من دونه".

لذلك كانوا هم ورثة الأنبياء، ولا يأخذ ميراث الإنسان إلا من هم أقرب الناس إليه، أى أن العلماء أقرب الناس إليهr .

يقول سفيان بن عيينه إن أرفع الناس عند الله منزلة من كان بين الله وبين عباده وهم الرسل والعلماء ،

ومن هنا وجبت طاعتهم، وطاعة العلماء من طاعة الله طالما أننا تحرينا صدق ما يقولون وتحرينا أخلاقهم ومسلكهم، ودعوة الإسلام نفسها تحذر من التطاول على العلماء لأننا حينما نتطاول على العلماء فإننا نهدم الركن الركين عندنا ونهدم مصدر التلقي لدينا نهدم هذا الصرح الشامخ الذي يمد المجتمع بالعلوم التي تجعله في رخاء وصفاء وأمن وإيمان .

يقول ابن عباس في قول ربنا I (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ) فسر ابن عباس أولى الأمر بأهل الفقه والدين، وقال مجاهد وابن عطاء هم العلماء ولذلك كان توقير العلماء أمر واجب نطق به القرآن وأثبتته السنة الشريفة ولهذا التوقير مظاهر.

فما هي مظاهر هذا التوقير؟ فأهمها:

1-كثرة الثناء عليهم .

2-إظهار الاحترام لهم في صورة عملية .

3-عدم التقدم بين أيديهم وإعلاء كلمتهم .

4-صيانة حرماتهم والمحافظة على أوقاتهم .

5-رد الغيب عنهم .

يقول معاوية بن أبى سفيان عن عبد الله بن عمر وهو يقف في الحج مفتياً متحدثاً مع زوجته (هذا هو الشرف بل هذا والله شرف الدنيا والآخرة ) أما الإمام أبو حنيفة فيقول ما صليت صلاة منذ أن مات حماد (هو شيخه الذي تلقى منه) إلا استغفرت له مع والدي وإني لأستغفر لمن تعلمت منه علماً أو علمته علماً .

ويقول الإمام أحمد بن حنبل:"ما صليت منذ أربعين سنة إلا وأنا أدعو للشافعي رحمه الله".

فقال له ابنه أي رجل كان الشافعي حتى تدعو له كل هذا الدعاء ؟ فقال الإمام أحمد يا بنى كان الإمام الشافعي رحمة الله تعالى عليه كالشمس للدنيا والعافية للناس فانظر هل لهذين الاثنين من خلف .

أما الإمام مسلم عندما لقى الإمام البخاري t قبله بين عينيه وقال :دعني حتى أقبل رجليك يا أستاذ الأستاذين، وحكى أن الخليفة هارون الرشيد بعث ابنه إلى الأصمعي ليعلمه العلم والأدب فرآه يوماً يتوضأ ويغسل رجله وابن الخليفة يصب الماء على رجله فعاتب الأصمعي في ذلك، وقال له : إنما بعثته إليك لتعلمه وتؤدبه فلماذا لم تأمره أن يصب الماء بإحدى يديه ويغسل بالأخرى رجلك، فهل استفاد الشباب من هذه الدروس العملية الأخلاقية كي يتعلم الأدب ويحدد العلاقة السليمة التي يجب أن تكون بين العالم والمتعلم؟

روى الإمام البخارى في صحيحه عن أبى هريرة رضى الله عنه قال :قال رسول الله r قال الله U "من عادى لى ولياً فقد آذنته بالحرب " ومن يكون الولى إذا لم يكن علماء الأمة هم أولياء الله ومن أولى منهم بذلك؟ ويقول تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ ،فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَإِن تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ ) فإيذاء الولى كآكل الربا كلاهما آذنه الله بالحرب.

يقول الإمام الشافعى إن لم يكن العلماء العاملون أولياء الله فليس لله ولى ،ويقول الإمام ابن القيم ورثة الأنبياء سادات أولياء الله U ،ويقول ابن عباس من آذى فقيهاً فقد آذى رسول الله r ومن آذى رسول الله r فقد آذى المولى U

فإذا كان المسلم- بوجه عام - مصان دمه وماله وعرضه "كل المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه"فما بالك إذا وجد التخصيص فلا شك أن تكون الحرمة أشد.

يقول ابن رجب الحنبلي من علامات العلم النافع أن صاحبه لا يدعى العلم ولا يفخر به على أحد ولا ينسب غيره إلى الجهل إلا من خالف السنة وأهلها فإنه يتكلم فيه غضباً لله لا غضباً لنفسه ولا قصداً لرفعتها على أحد أما من علمه غير نافع فليس له شغل إلا التكبر بعلمه على الناس وإظهار فضل علمه عليهم ونسبتهم إلى الجهل .

الحسد:

وقد يكون هذا الموقف من العلماء والنيل منهم سببه الحسد كما قال ربنا (أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ) وهذا مرض من أمراض القلوب أن يحسد الإنسان عالماً من العلماء فيهاجمه ويتطاول عليه ، قيل لبعض العلماء عن هذا الحسد فقالوا لا يأتي هذا الحسد إلا من نفس أصابها مرض.

ونخلص من هذا كله بأن احترام العلماء وإجلالهم وإمساك اللسان عن التشهير بهم أمر واجب ولا شك أن احترامهم من الدين ومن أخلاق الإسلام فلا يجوز للمسلم أن يعيب عالماً أو ينال منه ، وقد رأى أحد الحكماء رجلاً يعيب غيره فقال له لقد استدللت على كثرة عيوبك بما تكثر من عيوب الناس؛ لأن طالب العيوب يطلبها بقدر ما فيه منها، ويقول إبراهيم بن أدهم إن أحدكم إلى أدب حسن أحوج منه إلى خمسين حديثاً، وأشرف الإمام الليث على أصحاب الحديث فرأى منهم شيئًا فقال أنتم إلى يسير الأدب أحوج منكم إلى كثير العلم، يقول ابن تيمية "ما يفسد الدنيا نصف متكلم ونصف متفقه ونصف متطبب ونصف نحوى، هذا يفسد البلدان ، وهذا يفسد الأديان، وهذا يفسد الأبدان، وهذا يفسد اللسان".

هل معنى ذلك أن العلماء ليس لهم أخطاء ؟

إن العصمة لأنبياء الله تعالى فقط والعلماء يخطئون وهذا أمر طبيعى جدًا، لذلك يجب أن يكون للمتلقى منهج للتعلم كما يجب عليه أن يمحص مصدر التلقى ، وذلك بالآتى:

أولاً : وجوب التثبت مما ينسب لأهل العلم من أخطاء.

ثانياً : ضرورة تحديد نوع الخطأ والتعامل معه قدر حجمه دون تجاوز.

يقول الإمام السبكى :الصواب عندنا أن من ثبتت إمامته وعدالته وكثر مادحوه ومزكوه وندر جارحوه - من أهل العلم والصلاح - وكانت هناك قرينة دالة على سبب جرحه من تعصب مذهبه أو غيره فإنا لا نلتفت إلى الجرح فيه .

-يقول ابن جرير الطبرى:لو كان كل من ادُعِىَ عليه مذهب من المذاهب الرديئة ثبت ما ادعى به وسقطت عدالته وبطلت شهادته بذلك للزم ترك أكثر محدثى الأمصار لأنه ما منهم إلا وقد نسبهم قوم مما يرغب به عنه .

يقول الإمام أبو حامد الغزالى :المجتهدون ومقلدوهم كلهم معذورون بعضهم مصيبون ما عند الله وبعضهم يشاركون المصيبين في أحد الأجرين فمناصبهم متقاربة وليس لهم أن يتعاندوا أو يتعصب بعضهم مع بعض ولا سيما المصيب لا يتعيب.

ويقول الإمام ابن تيمية: لا نعتقد في القوم العصمة –يقصد الأئمة – بل تجوز عليهم الظنون ونرجو لهم مع ذلك أعلى  الدرجات لما اختصهم الله من الأعمال الصالحة ،والأحوال السُنية وإنهم لم يكونوا مصرين على ذنب ولا نكون من الذين إذا رأوا حسناً ستروه وإذا رأوا سيئاً أذاعوه ولكن لابد من رد الفضل لأصحابه وننظر إلى أقوالهم بعين الإنصاف .

يقول محمد بن سيرين :ظلم لأخيك أن تذكر منه أسوأ ما تعلم وتكتم خيره ،ويقول سعيد بن المسيب :إنه ليس من شريف ولا عالم ولا ذى فضل إلا وفيه عيب ولكن من الناس من لا ينبغى أن تذكر عيوبه وقال من كان فضله أكثر من نقصه وُهب نقصه لفضله.

يقول ابن القيم : ومن له علم بالشرائع والواقع يعلم قطعاً أن الرجل الجليل الذي له في الإسلام قدم صالح وآثار حسنة وهو من الإسلام وأهله بمكان قد تكون منه الهفوة والزلة هو معذور بل مأجور لاجتهاده فلا يجوز أن يُتبع فيها ولا يجوز أن تهدر مكانته وإمامته ومنزلته في قلوب المسلمين .

وها هو الإمام ابن القيم وهو يستدرك على بعض المعانى التي أتى بها الإمام الهروى في كتابه مدارج السالكين يقول "شيخ الإسلام حبيبنا ولكن الحق أحب إلينا منه" وهو يقول هذا الكلام في مجال انتقاد ما يقول ولكنه يثبت له هذه الصفة.

واسمع للإمام الذهبى وهو يتكلم عن إحياء علوم الدين للإمام الغزالي يقول عنه :وأما الإحياء ففيه من الأحاديث الباطلة جملة وفيه خير كثير لولا ما فيه من آراء ورسوم وزهد من طرائق الحكام ومنحرفي الصوفية نسأل الله علماً نافعاً، وقال انظر إلى إمام كبير وليس من شرط العالم أنه لا يخطئ وقال رحم الله أبا حامد فأين مثله في علومه وفضائله ولكن لا ندعى عصمته من الخطأ والغلط ألا يكفي هذا لإقناع الذين لا همّ لهم إلا الهجوم على الإمام البنا فكأنه لا حسنة له ويسودون الصفحات كسواد قلبهم ويفترون على الرجل الكذب وهم بعين عوراء لا ترى الوجه بكامله.

يقول الإمام الشافعى : إذا صح الحديث فهو مذهبى ، ويقول غيره من العلماء : إذا خالف قولى حديث رسول الله r فاضربوا به عرض الحائط فأين هذا الكلام من المتعصبة الذي قال أحدهم : كل آية أو حديث يخالف ما عليه أصحابنا فهو منسوخ أو مؤول. فأي غلو وأي تعصب هذا !!وهل هذا ما يفعله تلاميذ الإمام البنا ،كبرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولون إلا كذباً.

أعتقد أن الفرق واضح بين التعصب واحترام العلماء وكيف نختلف معهم ؟ فالإخوان المسلمون يحترمون ويقدرون إمامهم البنا رحمة الله عليه ويسندون ما يقولونه إليه لأنه كما قيل من بركة العلم إسناده لقائله.

وإلا فماذا نقول عن إمام كابن القيم فكثيراً ما يقول قال شيخنا يقصد –ابن تيمية- ويسند ما يقوله إليه بل إن ابن تيمية نفسه كثيراً ما يذكر الإمام أحمد بن حنبل ويسند ما يقوله له وأحمد بن حنبل يذكر الشافعي، والشافعي يذكر الإمام مالك ، وهكذا فهل هؤلاء متعصبون لعلمائهم أم مقدرون لهم؟ يحترمونهم ويردون الفضل لأهله.

إننا نلتزم بالأصول التي قالها الإمام البنا وأصَّل بها دعوته لأنها مستمدة من كتاب الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه فالأهداف التي حددها لا يختلف عليها مسلم وكذلك الغايات أما الوسائل فقد تختلف من زمان إلى زمان ومن بيئة إلى بيئة أخرى فما العيب في ذلك؟

إننا في كل ما يقول الإمام البنا ويعتقده نرده إلى الله ورسوله ذلك لأن الله يقول (وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ) ، ويحذر المولى فيقول (أَمْ لَهُمْ شُرَكَاء شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ اللَّهُ) فالله وحده المشرع ورسوله هو المبين فلا شرع إلا ما شرع الله أو ما شرع رسوله r وبوفاة الرسول r انتهى عهد التشريع أي انتهت العصمة وحمل العلم من بعده علماء غير معصومين ،فما هي العصمة؟

العصمة: معناها حفظ ظواهر الأنبياء وبواطنهم من التلبس بمعصية فالرسول r معصوم من القتل حتى يبلغ رسالة ربه.

معصوم من العيوب التي تنفر الناس منه لأن وجودها يمنع الفائدة من الرسالة وما قيل عن أيوب عليه السلام أنه مرض مرضاً منفراً كذب وافتراء عليه.

لكنهم لهم صفات البشر :

1-يأكلون ويشربون ويتصلون بأزواجهم .

2-يرضون ويفرحون ويحزنون ويغضبون ويخافون.

3- يمرضون بأمراض لا تعجزهم عن أداء رسالتهم ولا تنفر الناس منهم فلا يجوز عليهم الإغماء الطويل ولا الجذام والبرص والجنون والعمى .

4-يجوز عليهم السهو وعدم إصابة الأولى وأما المعاصي والنسيان من جانب الشيطان فمستحيل عليهم.

والذين يعتقدون في عصمة علمائهم وأئمتهم هم الشيعة وغلاة المتصوفة فالكيسانية من الشيعة تقوم على أساس أن  الإمام شخص مقدس يبذلون له الطاعة ويثقون بعلمه ثقة مطلقة ويعتقدون فيه العصمة عن الخطأ لأنه رمز للعلم الإلهى وكذلك الاثنى عشرية الذين يعتبرون الأئمة أوصياء استودعهم النبى أسرار الشريعة ليبينوا ما لم يبينه النبى r وإن ما يقول الأوصياء شرع إسلامي لأنه تتميم للرسالة حتى أنهم يخصصوا النصوص العامة ويقيدوا النصوص المطلقة ولذلك قرروا أن الإمام معصوم عن الخطأ والنسيان والمعاصي يجوز أن تجرى خوارق العادات على يده لتثبت إمامته ويسمونها معجزة.

ونحن لا نصف علماءنا بهذه الصفات ولكننا نعطيهم حقهم من الاحترام والتقدير بل نعطي العلماء جميعاً هذا الحق طالما تحققت فيه صفة العالم من أخلاق ودين وعلم فله منا الاحترام والتقدير وعدم النيل أو الحط من شأنه .

فهل ترون بعد هذا التوضيح والتبيان أن أتباع الإمام البنا يعتبرونه معصوماً ويصفونه كما تصف الشيعة علماءها وينشرونها بين الناس كعقيدة لديهم أجيبونا بصدق وأنصفونا يرحمكم الله ورضوان الله عليه حين قال "وكل أحد يؤخذ من كلامه ويترك إلا المعصوم r" هذا ما طالبنا به رحمة الله عليه، وهذا ما اتبعه السلف وساروا على منواله سرنا بعدهم نقتفي أثرهم ونقتدي بهم فهل نحن مخطئون في ذلك؟ أليسوا هم سلف هذه الأمة؟

السلف والسلفية : معناها زماناً القرون الثلاثة الأولى والتي تنتهى عند المأمون تقريباً "خير القرون قرنى ثم الذي يليه ثم الذي يليه".

والسلفية ليس المقصود بها الزمان فقد انتهى زمانها وليست المقصود بها مكاناً معيناً ولا علماء معينين فبعض الناس يقصرون السلفية على فقه الإمام  بن حنبل فماذا عن غيره من الأئمة؟ وماذا عن فقهاء السلف الذين خالفوا الإمام أحمد في أصول مذهبه؟

والذين يظنون أن السلفية هي مدرسة النص فماذا عن مدرسة الرأى وهى كمدرسة الأثر سواء بسواء أم نعتبر الإمام أبا حنيفة ليس سلفياً لا هو ولا تلاميذه ولا مدرسته . أجيبونا غفر الله لنا ولكم.

ونحن نرى أن السلفية هي نزعة عقلية وعاطفية ومنهجية ترتبط بخير القرون وتعمق ولاءها لكتاب الله وسنة رسوله r وتبذل الجهد لإعلاء كلمة الله على الأرض ولذلك فهى لها منهجاً للعقيدة يفسر الكون والحياة والإنسان بعيداً عن  علم الكلام ومستمداً من منهج القرآن، ومنهجاً للعبادة يقوم على الشمول والعموم والكمال والسمو والدوام ينبع من صحة الاعتقاد وصدق الإتباع ومنهجاً للحركة تعريفاً وتكويناً وتنفيذاً.

فالسلفية تكون بالاقتداء الكامل بصحابة رسول الله r في مجال العلم والعمل معاً وليس في مجال العقائد فحسب ، لكن حصرها في جزء من العلم النافع لا يجوز أبداً وكلما التزم الإنسان بما جاء به السلف الصالح والصحابة واقتدى بهم هو من السلفيين.

فإذا جاء عالم من العلماء بهذا التصور في أي زمان وفي أي مكان وبأي لغة يعبر بها عن هذا المنهج وبلغة عصره كان سلفياً عقيدة وعبادة وحركة طالما أنه يقدم مفاهيم السلف الصالح ويتمسك بسنة الخلفاء الراشدين المهديين.

فعن العرباض بن سارية t قال : صلى بنا رسول الله r ذات يوم ثم أقبل علينا بوجهه فوعظنا موعظة بليغة ذرفت منها العيون ووجلت منها القلوب، فقال رجل : يا رسول الله كأنها موعظة مودع فماذا تعهد إلينا؟ قال:"أوصيكم بتقوى الله والسمع والطاعة وإن كان عبداً حبشياً فإنه من يعش منكم بعدى سيرى اختلافاً كثيراً فعليكم بسنتى وسنة الخلفاء الراشدين المهديين تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة"

والحقيقة قصور السلفية على هذه النظرة الضيقة بهذه الصورة وقصرها على مفاهيم بعينها تتصل بالاعتقاد وتترك التطبيق والعمل والحركة لإقامة المجتمع بعقيدته وبعبادته وشريعته لها سلبيات كثيرة فأول شيء أننا لو قصرنا السلفية على منهج الاعتقاد وركزنا عليه وتركنا الجوانب الأخرى بل وأهملت وأصبح النظرة إلى السلفية والسلف كأنهم هم أصحاب العقيدة الصحيحة أى الذين يهتمون بالجانب الاعتقادي فحسب ولا يشغلهم الباطل وأهله وكيف يغيروه لإقامة مجتمع العدل ويكتفون بشرح العقيدة لا يبرحونها ويتهمون الآخرين في دينهم وعقيدتهم عليهم أن يراجعوا أنفسهم، صحيح أن الانطلاق الصحيح والاهتمام البالغ لابد أن يبدأ بتصحيح العقيدة هذا أمر لا نختلف فيه لكن لابد أن يكون هناك إطلاق بعد ذلك لاستكمال البناء ولإتمام الدين لأنه وإن كانت العقيدة هي الأساس وهى الجدار فأين البناء ليسكنه الناس ويحتمون به.

ومن السلبية أيضًا أن السلفية بهذا المعنى القاصر على العقيدة ظن بعض المسلمين أن  هذا هو الإسلام وأصبحوا يقدمون الإسلام من جانب العقائد فحسب ويتركون العمل حتى خيل لبعض المسلمين أن الإسلام قاصر على هذا الجانب ويرضون بذلك ويتصورون أنهم قد أدوا الذي عليهم.

ونحن إن قلنا إننا الإخوان المسلمين لأن الإمام البنا أسمانا جماعة الإخوان المسلمين بهذا الاسم الذي يحمل العقدين معاً، عقد الإيمان وعقد الأخوة الذي بهما يقوم الإسلام وبالرغم من هذا فإننا لا ننكر على الناس سلفيتهم أبداً إن كانوا يتبعون منهج السلف الصالح لأننا ندعو للتقارب والحوار البنَّاء، ووحدة المفاهيم، ونقول : نتعاون فيما اتفقنا عليه ويعذر بعضنا بعضاً فيما اختلفنا فيه، وفى نفس الوقت نبين ونقول توضيحاً أن من السلبيات أن المسلم يركز على جانب واحد من الدين فإلى متى نصحح للناس عقائدهم ولا ننتقل إلى غيرها؟ لقد أقام الرسول r الجماعة المسلمة في المدينة وكان الشرك موجوداً، وقد نزلت آيات التشريع في المدينة وكان الشرك موجوداً في مكة فهل ظل الرسول r يصحح عقائد الناس أم أنه كان يطبق الآيات التي تنزل؟ وفي نفس الوقت يصحح ويبين وإلا فأين شرع الحج وأين شرع الصيام وشرعت الصلاة ، ألم يشرعا في المدينة فهل أوقف الرسول r تنفيذ هذه الشرائع حتى يصحح للناس عقائدهم أولاً؟ أم أنه أقام كل ذلك واقعاً على الأرض؟

والأمر المحزن أن بعض إخواننا جعلوا السلفية وكأنها مدرسة حديث فلا يجوز أن نقول حنفي ولا شافعى ولا مالكى ولا حنبلي، أنا الحديث ديدني وكأن هذه المذاهب لم تأخذ من الحديث، يبغون بذبك إنكار المذهبية.

جاءنى أحد الإخوة من هؤلاء الذين ينكرون المذهبية ويريدون أن يأخذوا من الحديث فحسب، فقلت له :"هذا الكلام الذي تقوله مقنع جدًا ولكنى أسألك سؤالاْ : ما رأيك في صحيح الإمام مسلم؟ قال : هو مصدر من مصادر التعلم الصحيح، قلت له : هل تقرأ النصوص والمتون وتستخرج منها الأحكام أم أنك تقرأ تفسير الحديث عند الإمام مسلم ؟

قال أقرأ التفسير ، قلت له أتدرى من كتب هذا التفسير؟ الإمام النووي وهو شافعي المذهب، فلِمَ تضيق واسعاً؟

وللأسف الشديد إن إخواننا حين يتعصبون لمثل هذه الأمور فإنهم يلقنون الشباب الغض هذه المفاهيم فلا يربى الشباب على الحب، ولكن ينشأ في نفوسهم الكره والبغض والتعصب وكأنهم في معركة بينهم وبين الآخرين ويكون من نتيجة ذلك تقسيم الناس بين مسلم وكافر ونترك الدعوة إلى الله وننشغل بالحكم عليهم.

والحقيقة أن كل مسلم له حظ من السلفية بقدر حظه من الاهتداء بهدى رسول الله r وهذا أمر لا نستطيع أبداً أن ننكره على أى مسلم التزم بمنهاج محمد r وصحبه ومن هنا كانت دعوة الإخوان دعوة سلفية.

فضل الصحابة :

الآيات القرآنية في فضل الصحابة كثيرة منها (لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ...) وقوله (وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ...) وقوله (لَقَد تَّابَ الله عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ...)

وها هو ذا عمر يقول مرفوعاً : سألت ربى عن اختلاف أصحابى من بعدى فأوحى إلىَّ: يا محمد إن أصحابك عندى بمنزلة النجوم في السماء بعضها أقوى من بعض ولكلٍ نور فمن أخذ بشيء مما هم عليه من اختلافهم فهو عندى على هدى  .

وعن عبد الله بن عمر رضى الله عنهما قال: من كان مستناً فليستن بمن قد مات أولئك أصحاب محمد r كانوا خير أمة أبرها قلوبا وأعمقها علماً وأقلها تكلفاً قوم اختارهم الله لصحبة نبيه r ونقل دينه فتشبهوا بأخلاقهم وطرائقهم فهم أصحاب محمد r كانوا على الهدى المستقيم والله ورب الكعبة.

وعن قتادة قال : سئل ابن عمر رضي الله عنهما : هل كان أصحاب النبي r يضحكون ؟ قال نعم والإيمان في قلوبهم أعظم من الجبال .

ولهذه المنزلة العالية فإننا لا نتعرض لخلافهم وأشخاصهم بشيء فيما اختلفوا فيه، ويا لروعة ما قاله بعض العلماء عندما سُئل عما وقع بين الصحابة رضوان الله عليهم فقال: تلك دماء قد طهر الله منها أيدينا فلا نلوث بها ألسنتنا وسبيل ما جرى بينهم كسبيل ما جرى بين يوسف وإخوته –حين قال لا تثريب عليكم.

وسئل الحسن البصري عن قتالهم قال: قتال شهده أصحاب محمد r وغبنا وعلموا وجهلنا واجتمعوا فاتبعنا واختلفوا فوقفنا

وقال المحاسبي: فنحن نقول كما قال الحسن ولا نبتدع رأياً منا، ونعلم أنهم اجتهدوا وأرادوا وجه الله U .

فهل نتأدب بهذا  الأدب العالي وننهج هذا المنهج القويم نسألك اللهم علماً نافعاً وقلباً خاشعاً ولساناً ذاكراً وعملاً صالحاً متقبلاً وجسداً على البلاء صابراً.

 


الأصل السابع

المذهبية ودرجة النظر – أو الاجتهاد والتقليد

"ولكل مسلم لم يبلغ درجة النظر في أدلة الأحكام الفرعية أن يتبع إماماً من أئمة الدين ويحسن به مع الإتباع أن يجتهد ما استطاع في تعرف أدلته، وأن يتقبل كل إرشاد مصحوب بالدليل متى صح عنده صلاح من أرشده وكفايته وأن يستكمل نقصه العلمي إن كان من أهل العلم حتى يبلغ درجة النظر"

هذا  الأصل يعالج:

1-قضية الاجتهاد والتقليد .

2-المذهبية وهل للعامي أن يتبع مذهباً؟

3-عدم التعصب للمذهب.

4-الحث على استكمال النقص العلمي.

إن هذا الأمر شُد بين طرفيه وغالى كل طرف في رأيه ، فمجموعة من الدعاة بل ومن علماء العصر طالبوا الناس بالنظر والاجتهاد في كل ما يعرض عليهم حتى ولو لم يملكوا أدوات الاجتهاد والنظر وحرموا على الناس اتباع المذاهب والأئمة وقالوا لا نأخذ من أحد إلا من كتاب الله وسنة رسوله r  .

وفريق آخر حرموا على غير المجتهد أن يجتهد أو ينظر في الدليل ويقولون لا يجوز التعبد لله إلا من خلال كتب المذاهب وعلى كل مسلم أن يتخذ مذهباً يتبعه ولا يحيد عنه.

والحقيقة أن الفريقين ما أصابوا لأنهم بين إفراط وتفريط في المسألة ولذلك عالج العلماء هذه القضية في كتب كثيرة وحسموها حسماً لا يحتاج إلى نزاع أو إلى جدال حتى لا يكون لسائل مهما كان سؤاله إلا أن يجد الإجابة عليه ونحن نريد في هذه المسألة الاعتدال والتوسط ونلتزم بما التزم به أهل السلف وجماهير الأمة، من العلماء الذين يقولون إن الاجتهاد جائز وهذا قول الإمام ابن تيمية في فتاويه ، يقول : " إن الاجتهاد جائز في الجملة والتقليد جائز في الجملة" وليس للذين يقولون بالاجتهاد أن يحرموا التقليد أو العكس .

ونأخذ نموذجاً من الذين كتبوا في هذا الموضوع حديثاً وأعطوه حقه مثل الدكتور عصام البشير الذي كتب بعض المقالات الطيبة في مجلة المجتمع ومما قال في هذه القضية:" الناس في أمر الاجتهاد والتقليد ثلاث مراتب:

الأولى: عالم يفقه الآيات ودلالتها والأحاديث ومضامينها راسخ في معرفة قواعد الاستنباط ومدارك الأدلة وضوابط الاستدلال وأصول التدقيق في ما ظاهره الاستدلال ملم بلغة العرب وتصاريفها له خبرة بمدلولات الألفاظ عارف بمواقع الاختلاف والإجماع ومسالك المجتهدين .

والثانية:متبع ليست عنده القدرة على الاستقلال في البحث واستخراج الدلالات من النصوص واستنباط الأحكام منها لكنه في الوقت نفسه يفهم الحجة ويعرف الدليل

الثالثة: وهو عامى لا يفقه نصوص من القرآن والسنة ولا يستطيع الاستنباط منها ولا معرفة ما يطلب منه هؤلاء هم الثلاثة أصناف من الناس الذين بين مجتهد وبين ناظر في بعض الأدلة وبين جاهل بهذه الأمور جهلاً تاماً".

وكذلك ما كتبه الأستاذ سعيد حوى –رحمه الله – "جولات في الفقهين الكبير والأكبر" يقول :"الناس في الأحكام العملية التي هي مدار علم الفقه ثلاثة أقسام :إنسان وصل إلى رتبة الاجتهاد وإنسان عالم بمصادر القول وموارده ولم يصل إلى رتبة الاجتهاد وإنسان عامى عادى ، أما الأول فمكلف بالسير على ما وصل إليه اجتهاده يجتهد وينظر لأن معه أدوات الاجتهاد ،الثانى مكلف أن يسير على رأى من اقتنع أن معه الحق من الأئمة الثالث فله أن يتابع أى إمام من الأئمة ممن سأله فأفتاه فله أن يعمل بفتواه إن كان من أهل الفتيا والهدى ومن ثم قال العلماء : العامى لا مذهب له أو يتبع مذهب مفتيه".

يقول الشيخ ابن عبد البر:"العامة لابد لها من تقليد علماءها عند النازلة تنزل بها لأنها لا تتبين موقع  الحجة ولا تصل لعدم الفهم إلى علم ذلك لأن العلم درجات لا سبيل إلى أعلاها إلا بنيل أسفلها وهذا هو الحائل بين العامة وطلب الحجة ولم يختلف العلماء أن العامة عليهم تقليد علماءها وأنهم المرادون بقول الله تعالى : (فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ) وأجمعوا على أن الأعمى لابد له من تقليد غيره ممن يثق بمعرفته بالقبلة".

وابتداءً لا يمكن تصور تساوى الناس علماً وفهماً وتحصيلاً في أي مجتمع من المجتمعات فهذا محال لسبب بسيط وهو أن المولى I أخرجنا جميعاً من بطون أمهاتنا لا نعلم شيئاً ومنحنا أدوات المعرفة . وتفاوت الناس إنما يرجع إلى اختلاف قدراتهم في استخدام هذه الأدوات يقول المولى I (وَاللّهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ الْسَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) وقال (وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً) ولذلك كان التفضيل بين المؤمنين بالعلم والعمل لا يستوى الذين يعلمون والذين لا يعلمون ...ورفع الدرجات بينهم يرجع للعلم الذي بذل فيه الجهد البشرى والتوفيق الربانى (يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ) وهناك جهد بشرى تفاوت الناس فيه فالمولىI رفع بعضهم فوق بعض درجات وكان المقياس كما سمعنا في الآية (يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ ) وتدبر الآيات إنما يكون بهذا العلم (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّلْعَالِمِينَ) (وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ) فكان من الطبيعى أن يكون أحق الناس بخشية الله هم العلماء لأنهم عرفوا الله حق المعرفة (إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء) فهم ورثة الأنبياء لا شك في ذلك.

فهذه الآيات تؤكد هذا المعنى بأن الناس صنفان صنف عالم وصنف جاهل وإلا كيف يفضل الله I الناس وهم متساوون في القدرة والنظر إذا كان الأمر كذلك فكان من الطبيعي أيضًا ان تختلف درجة العلم من واحد إلى آخر

وكان من الطبيعي أن يتوجه الجاهل إلى العالم بالسؤال ليكشف له ما غُمّ عليه حتى مع الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين والمولى I يبين لنا ذلك فيقول (وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ) الآية واضحة أن هناك من يستطيع الاستنباط ومن لا يستطيع أن يستنبط حكماً والأمر إذا كان كذلك كان لابد من العلماء في المجتمع، ولكي نصل إلى الصواب عن طريق العلماء في مجتمع المسلمين يُرد إليهم ما استشكل من أمر ولو خلا المجتمع من العلماء لأثم المجتمع كله حتى توجد مجموعة من العلماء الذين يكفون حاجيته في العلوم المختلفة (فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ) .

ومجتمع رسول الله r نفسه وُجد فيه مختلف العلماء في أبواب العلم فإذا وجدنا فيه العامي والأمي والجاهل نجد فيه العالم فنجد فيه الفقيه الورع وترجمان القرآن والمحدث عن رسول الله r وعالم الفرائض وكاتم سر النبي r وهكذا ،  نجد اختلاف الصحابة في درجات العلم وأبوابه.

درجات الصحابة من حيث الرواية :

فالعلماء من الصحابة متنوعون من حيث الرواية فمنهم:

المكثرون وهم سبعة: عمر بن الخطاب، وعلى بن أبى طالب، وعبد الله بن مسعود، وعائشة أم المؤمنين، وزيد بن ثابت، وعبد الله بن عباس، وعبد الله بن عمر، يقول ابن حزم يمكن أن يجمع لكل واحد منهم سفر ضخم ، وقد جمع لابن عباس رضى الله عنهما فتيا في عشرين كتاباً.

المتوسطون: أبو بكر، وأم سلمة، وأنس بن مالك، وأبو سعيد الخدرى، وأبو هريرة، وعثمان بن عفان، وغيرهم.

المقلّون: لا يروى الواحد منهم إلا المسألة أو المسألتين كأبى الدرداء وأبى عبيدة والحسن والحسين ، وأبى طلحة، وأبى ذر وغيرهم، يقول ربنا (وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ هُوَ الْحَقَّ)قالوا هم أصحاب محمد r.

قال أبو البحترى قيل لعلى بن أبى طالب t حدثنا عن أصحاب رسول الله r قال: عن أيهم؟ قالوا عن عبد الله بن مسعود، قال: قرأ القرآن وعلم السنة ثم انتهى ، وكفاه بذلك قالوا فحدثنا عن حذيفة قال: أعلم أصحاب محمد بالمنافقين، قالوا فأبى ذر، قال كنيف مُلئ علم عجز فيه، قالوا فعمار قال: مؤمن نَسِى إذا ذكرته ذكر ، خلط الله الإيمان بلحمه ودمه ليس للنار فيه نصيب، قالوا فأبى موسى قال صُبغ في العلم صبغة، قالوا فسلمان قال علم العلم الأول والآخر بحر لا ينزح منا أهل البيت قالوا فحدثنا عن نفسك يا أمير المؤمنين قال: إياها أردتم، كنت إذا سُئلت أعطيت وإذا سكت ابتديت.

وصدق مسروق إذ يقول : جالست صحابة رسول الله r فكانوا كالإخاذ، الإخاذ يروى الرجل، والإخاذ يروى الرجلين والإخاذ يروى العشرة والإخاذ يروى المائة والإخاذ لو اجتمع له أهل الأرض لأصدرهم وبالرغم من هذا إلا أنه غاب عن بعض الصحابة بعض المعاني نذكر منها بعضاً.

غياب بعض المعاني عن الصحابة

ومع هذا الذي قلناه فإننا نجد أن بعض المعاني تغيب عن بعضهم – وهم بين ظهرانى رسول الله r - فهذا ابن عباس رضى الله عنهما –بالرغم من أنه ترجمان القرآن - يقول كنت لا أدرى ما (فاطر السماوات) حتى أتانى أعرابيان يختصمان في بئر فقال أحدهما : أنا فطرتها يقول: أنا ابتدأتها، فتعلم من الأعرابى معنى كلمة (فاطر السماوات).

وهذا عدي بن حاتم حين قرأ (وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ) أتى بعقالين أحدهما أبيض وآخر أسود حتى ضحك رسول الله r من تصرفه وأعلمه أنه بياض النهار وسواد الليل .

وهذه عائشة تسأل رسول الله r عن قول الله تعالى (وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ) أهو الذي يزنى ويسرق ويشرب الخمر وهو يخاف الله U ؟ فقال : لا يا بنت الصديق !! ولكنه الذي يصلى ويصوم ويتصدق وهو مع ذلك يخاف الله U.

وها هم أصحاب رسول الله r لما نزل قول ربنا (الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ) أشفقوا منها وقالوا : أينا لم يظلم نفسه؟ فقال r ليس كما تظنون وإنما هو كما قال لقمان لابنه (يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ) فالظلم هنا بمعنى الشرك، وليس لأحد أن يفسرها بغير هذا بعد تفسير رسول الله r .

وهذا هو سيدنا عمار t عندما لم يجد الماء أراد أن يتيمم فتمرغ في التراب وظن أن التيمم هكذا فلما ذهب لرسول الله r علمه كيف يتيمم، فضلاً عن ذلك فهناك القصة المشهورة التي غضب منها رسول الله r عندما كان الصحابة في ليلة ممطرة شديدة البرودة واحتلم أحد الصحابة فلما قام من نومه سأل ماذا أصنع والجو بارد وسيقتلنى الماء البارد إن استعملته فقالوا له لا نجد لك رخصة طالما أن الماء موجود فاغتسل فمات لأن رأسه كانت قد شجت من حادثة ،فلما ذهبوا إلى رسول الله r غضب وقال :"قتلوه قتلهم الله ، قتلوه قتلهم الله ألا سألوا إذ لم يعلموا إنما شفاء العي السؤال" ، هؤلاء هم صحابة رسول الله r.

فما بالك بالمستعربين والأرقاء وأهل الحيرة والطلقاء بل ماذا نقول في زماننا هذا عن المسلمين الذين لا يعرفون عن العربية شيئاً ولا للقرآن قراءة بل ماذا نقول عن الأوربي والأمريكي والروسي الذي يسلم وجهه لله، أمثل هؤلاء يجتهدون ولا يقلدون رضوان الله عليك يا ابن عباس حيت قلت : نزل القرآن على أربعة أوجه : وجه تعرفه العرب من لغتها ووجه لا يعذر مسلم بجهله، ووجه لا يعلمه إلا العلماء، ووجه لا يعلمه إلا الله.

نحن أمام قضية بسيطة نستطيع أن ندركها بعقولنا قبل أن ندركها بما قاله العلماء فما قاله العلماء يؤيد ما استنبطه العقل لأن الناس كما قلنا غير متساوين ويختلفون في العلم تفاوتاً منهم العالم ومنهم الجاهل فكان لابد من التقليد

فالناس إذاً من عهد رسول r إلى يومنا هذا بين : عالم ومتعلم، وتابع ومتبوع، ومقلد ومجتهد.

ونسأل سؤالاً ...هل إذا جاء إنسان شرح الله صدره للإيمان ويريد أن يتعلم الصلاة مثلاً ماذا أنت فاعل؟

هل تقول له يقول تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَينِ ) ثم تتركه يجتهد في فهمها أم أنك تقول له : تعال وافعل مثل ما أفعل وتتوضأ أمامه كى يتعلم فهل هو في هذه الحال يقلد أم يجتهد؟ وكذلك في باقى الأمور والأحكام الأخرى من صلاة وحج وصيام إلخ.

وهنا لابد لنا من الحديث أولاً عن التقليد ثم عن الاجتهاد؛ حتى يتبين لنا حقيقة المسألة .

 

 

فما هو التقليد:

المعنى اللغوي:

التقليد لغة هو جعل القلادة في العنق ، ومعني ذلك أن التقليد في الدين كأن المقلد فيه جعل الحكم الذي يأخذه من العالم كالقلادة سواء بسواء لا ينظر فيها بل يأخذها كما هي .

المعنى الاصطلاحي:

هو الأخذ بقول الغير ممن ليس قوله حجة شرعية من غير مطالبته بالدليل الذي بنى عليه حكمه، أو نقول إنه العمل بقول غيرك من غير حجة فعندما نطلب الحكم من العالم ليس من حقنا أن نطالبه بدليل ما يقول لأن الدليل عند الجاهل يستوي والواقع إن التقليد لا يكون إلا في الأمور الاجتهادية أما الأمور المنصوص عليها أي ما يتصل بالعقائد والنصوص القطعية فلا مجال للاجتهاد فيها .

يقول الإمام ابن القيم الاجتهاد يكون في أمرين : ما لا نص فيه أصلاً وما فيه نصوص ظاهرها التعارض فيجب الاجتهاد في الجمع بينهما أو الترجيح بين هذه النصوص أو يكون في النصوص الظنية في الأحكام العملية.

ويقول الإمام الشاطبى في كتاب الاعتصام: المكلف بأحكام الشريعة لا يخلو من أحد أمور :

أولها -أن يكون مجتهداً فيها.

ثانياً- أن يكون مقلداً صرفاً خلياً من العلم الحاكم جملة فلابد من قائد يقوده .

ثالثاً- أن يكون غير بالغ مبلغ المجتهدين لكنه يفهم الدليل وموقعه ويصلح فهمه للترجيح بالمرجحات المعتمدة وله القدرة على تحقيق المناط (يعنى أنه يثبت الحكم الذي وصل إليه بمدركه الشرعى ).

يقول العز بن عبد السلام بعد أن تكلم فيمن تجب طاعته ومن تجوز طاعته :"ويستثنى من ذلك العامة فإن وظيفتهم التقليد لعجزهم عن التوصل إلى معرفة الأحكام بالاجتهاد بخلاف المجتهد فإنه قادر على النظر المؤدى إلى الحكم"

ويقول الفقيه الحافظ البغدادي: "أما من يسوغ له التقليد فهو العامى الذي لا يعرف طرق الأحكام الشرعية فيجوز له أن يقلد عالماً ويعمل بقوله تعالى (فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ) ولأنه ليس من أهل الاجتهاد فكان فرضه التقليد كتقليد الأعمى في القبلة فإنه لما لم يكن معه آلة الاجتهاد في القبلة (التى هي البصر) كان عليه تقليد البصير فيها وإذا كان العامي لابد له أن يقلد العالم فهل للجاهل أن يسأل عن الدليل ؟ نعم له أن يسأل ولكنه يسأل لكي يتعلم، لكي يزداد بصيرة ولكنه لا يسأل ليرجح بين أحكام أو ليعرف قوة الدليل، لأن قوة الدليل عنده واحدة لأنه ليس لديه الميزان الذي يزن به قوة الدليل.

وإذا كان عنده القدرة وكان من الصنف الثاني الذي يستطيع أن يعرف الدليل في المسألة ونظر إلى من أفتاه ثم انتقل إلى عالمٍ آخر ووجد دليله أقوى بل وجد الأول على خطأ والثاني على صواب أله أن يتمسك بالتقليد مع من أفتاه أولاً ؟ إن كانت عنده القدرة أن ينظر في هذه المسألة الجزئية فإنه إذا تبين له خطأ الأول فعليه أن يتبع الثاني.

وقد اتفق العلماء على تقليد العامي للعالم في الأحكام العملية مع مراعاة ما يأتي:

أولاً-تقليد العامي لعامي مثله هو تقليد محرم اتفاقاً.

ثانياً-تقليد مجتهد اجتهد في مسألة لمجتهد آخر في تلك المسألة هو ممنوع أيضًا اتفاقاً.

وذلك لأن الأول استفرغ الجهد وبذل الوسع فوصل الظن الغالب عنده إلى صحة المسألة فأصبح هذا هو الصواب عنده فلا يأخذ من مجتهد آخر لأن الاثنين في درجة واحدة من الاجتهاد واضحة ؟

ثالثاً-تقليد مجتهد لعامى -وهذه وإن كانت بعيدة الاحتمال إلا أن العقل لا يستبعدها - وهذه ممنوعة أيضًا اتفاقاً  بالقياس على السابقة.

رابعاً-تقليد مجتهد قبل اجتهاده في مسألة لضيق الوقت أو لتكافؤ الأدلة أو عدم ظهور دليل له أو غيره لمجتهد آخر في تلك المسألة، قد وقع فيه خلاف والراجح جواز التقليد في هذه الحالة.

خامساً-تقليد عامى لمجتهد من غير أن يطلب منه دليلاً على ما وصل إليه من الأحكام وهذه الصورة التي حددها العرف لتكون محلاً للخلاف بين العلماء وتقسيماتهم:

يقول ابن القيم في إعلام الموقعين: يجوز التقليد لمن لم يبلغ مرتبة الاجتهاد وأن عليه إتباع إمام يسترشد به ويقلده في أحكام الحلال والحرام ولا يجوز لمثل هذا الإنسان أن يفتى الناس ولو توفرت له كتب "الحديث".

فهل هناك فرق بين هذا الكلام وكلام الإمام البنا؟ ارجع إلى ما قاله الإمام البنا تراه متطابقاً تمام التطابق مع ما قاله علماء الأمة.

يقول الإمام ابن القيم في إعلام الموقعين :

المذموم من التقليد ثلاثة:

1-الإعراض عما أنزل الله وعدم الالتفات إليه اكتفاء بتقليد الآباء (بَلْ وَجَدْنَا آبَاءنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ)؛ لأن أصل الإيمان هو اليقين الجازم ونحن لا نصل إلى اليقين الجازم في التقليد، ولهذا تجد كثيراً من الاستدلالات العقلية التي توصل إلى الإيمان بالوحدانية في كتاب الله في مثل قوله (أَفَلَا يَنظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ) وفى قوله (أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَادًا) وفى قوله (فَلْيَنظُرِ الْإِنسَانُ مِمَّ خُلِقَ) وفى قوله (فَلْيَنظُرِ الْإِنسَانُ إِلَى طَعَامِهِ) وفى مثل قوله (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لِّأُوْلِي الألْبَابِ) والآيات في هذا المجال كثيرة يقول فيها ابن القيم : الأمور الاعتقادية المتعلقة بأصول الدين لا يجوز التقليد فيها بالإجماع لأن هذه الأمور لا يغنى فيها الظن وإنما سبيلها اليقين والقطع لقوله تعالى (وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً) 

يقول الإمام أحمد :"من ضيق علم الرجل أن يقلد في اعتقاده وقال لرجل :"لا تقلد دينك أحد وعليك بالأثر " ويقول ابن مسعود :"ألا لا يقلدن أحدكم دينه رجلا" إن آمن آمن وإن كفر كفر .ويقول :"لا يكون أحدكم إمعة يقول إنما أنا رجل من الناس إن ضلوا ضللت وإن اهتدوا اهتديت ".

2-تقليد من لا يعلم المقلد أنه أهل لأن يؤخذ منه بقوله.

3-التقليد بعد قيام  الحجة وظهور الدليل على خلاف قول المُقَلَّد.

بين التقليد والإتباع

إذا تكلمنا في هذه القضية عن التقليد والإتباع فالمقصود بالإتباع هي الأمور التي لا يجتهد فيها (اتَّبِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ)، والاتباع ما جاء به المصطفى r وحكمه ظاهر لا اجتهاد فيه ألبتة ولا يجوز فيه التقليد أيضًا أما المعنى الآخر (إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُواْ مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُواْ) فالمقصود به هنا هو التقليد .

ولا يصح الاجتهاد في الأمور الموحى بها في الآيات (اتَّبِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ وَلاَ تَتَّبِعُواْ مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ) فالعلم بفريضة الصلاة أمر فيه اتباع وليس فيه اجتهاد سواء كان في فرضية الصلاة والزكاة الصوم وفرضية الوضوء والأمور التي فرضها المولى علينا وإجمالاً دون دخول في مسائلها الفرعية هذه يشترك فيها العوام والمجتهدون على حد سواء وليس لأحد أن يجتهد في هذه المسألة لكنها من المعلوم من الدين بالضرورة وليست الأمور الأخرى التي تتصل بالأحكام العملية فكلها ينطبق عليها ما قلناه إذا كان عنده القدرة على الاجتهاد.

فلا فرق بين التقليد والاتباع لغة، والذين يقولون إننا نتبع ولا نقلد نقول لهم : إن المولى I في كتابه الكريم يقول (إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُواْ مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُواْ وَرَأَوُاْ الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَابُ، وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُواْ لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ....) وهذا تعبير عن التقليد في أسوأ أنواعه وهو التقليد الأعمى.

ويقول الإمام الغزالي في المستصفى: دليل إجماع الصحابة إنهم كانوا يفتون العوام ولا يأمرونهم بنيل درجة الاجتهاد علماً بأن المستفتى لم يلتزم مع ذكر الحكم ببيان دليله .

ويقول الآمدي في الأحكام أما الإجماع فهو أنه لا تزال العامة في زمن الصحابة والتابعين يستفتون المجتهدين ويتبعونهم في الأحكام الشرعية والعلماء منهم من يبادرون إلى إجابة سؤالهم من غير إشارة إلى ذكر دليل فكان إجماعاً على جواز إتباع العامي للمجتهد المطلق.

يقول الإمام الشاطبي في الاعتصام: فتاوى المجتهدين للعوام كالأدلة الشرعية بالنسبة للمجتهدين .

الاجتهاد المطلق:

المجتهد المطلق هو الذي يستنبط الأحكام من أدلتها الشرعية وهذا قمة الاجتهاد ويسمونه مجتهد مطلق لأنه عنده القدرة على النظر في الأدلة من الكتاب والسنة واستنباط الحكم منها، ودرجة الاجتهاد المطلق تحصل بتمكنهم من تعرف الأحكام الشرعية من أدلتها استدلالاً من غير تقليد.

الاجتهاد المقيد:

والمجتهد في المذهب يجتهد في اجتهاد عالمه وصاحب مذهبه فيما قال وقد يخالفه ويكون الاجتهاد في أدلة المذهب نفسها، وأما الاجتهاد المقيد فهو درجة تحصل بالتبحر في مذهب إمام من الأئمة بحيث يتمكن من إلحاق ما لا ينص عليه ذلك الإمام بما نص عليه معتبراً قواعد مذهبه وأصوله.

ولكل إمام تلاميذ وقد يخالفون إمامهم في بعض المسائل العملية، وأكبر دليل يستشهد به العلماء على ذلك هو محمد بن الحسن وأبو يوسف تليمذى أبا حنيفة ، فهم تلاميذه وفى نفس الوقت خالفوه في المذاهب واجتهدوا ما فيه.

سئل ابن الصلاح هل إمام الحرمين، والإمام الغزالى والإمام أبو إسحاق رضى الله عنهم بلغ أحد من هؤلاء الأئمة المذكورين درجة الاجتهاد في المذهب الشافعى على الإطلاق أم لا؟ وما حقيقة الاجتهاد على المذهب وهل بلغ أحد منهم درجة الاجتهاد المطلق؟

فأجاب ابن الصلاح بقوله : لم يكن لهم الاجتهاد المطلق وبلغوا الاجتهاد المقيد في مذهب الشافعى t ودرجة الاجتهاد المطلق تحصل بتمكنه من تعرف الأحكام الشرعية من أدلتها استدلالاً من غير تقليد وأما الاجتهاد المقيد درجة تحصل بالتبحر في مذهب إمام من الأئمة بحيث يتمكن من إلحاق ما لا ينص عليه ذلك الإمام بما نص عليه معتبراً قواعد مذهبه وأصوله فما هو المذهب ؟

تعريف المذهب: المذهب يقتضى أن يتكون من منهاج علمى لفريق من الدارسين الباحثين، يبنون فيه أصولاً لتفكيرهم متميزة واضحة ثم يكون لكل منهاج طائفة أو مدرسة تعتنق هذه الأصول وتدافع عنها وتقويها بموالاة البحث والدراسة" وللمذاهب أدلة أصلية وأدلة فرعية.

وقد اجتمعت المذاهب على الأدلة الأصلية وهى الثلاثة:كتاب،سنة،إجماع واختلفوا في القياس ثم تأتي بعد ذلك الأدلة الفرعية وهي الاستحسان وقول الصحابة والمصالح المرسلة وغيرها ويُبنى كل مذهب على قواعد ولذلك فإن الإمام المطلق يجب أن يكون لديه قواعد يستنبطها ويبنى عليها مذهبه وعندما يأتي المجتهد في المذهب لا يخرج عن قواعد المذهب ويكون اجتهاده داخل قواعد المذهب نفسه.

والجدير بالذكر أن المذاهب الفقهية غير الفرق الإسلامية: فهذه اختلافاتها في أمور العقيدة أما المذاهب فاختلافاتها في فروع الأحكام وشتان بين الاثنين فالأولى تفرق وتمزق وتخرج عن منهاج أهل السنة والجماعة والثانية تجمع وتعطى سعة وتوسعة واختلاف الرأي فيها لا يذهب للود قضية.

وعلى هذا فإننا نرى أن العلماء اتفقوا على تقليد العامي لمذهب معين فهو سُلّم لابد منه للوصول إلى هدى الرسول r فالمذاهب هي لب الإسلام وجوهره وهي التي بصرت المسلمين في كل زمان بأحكام دينهم ويسرت لهم سبيل التمسك بالكتاب والسنة وفرق كبير بين إتباع مذهب والتعصب له.

فالمسلمون الذين لم يبلغوا درجة النظر – درجة الأخذ من الكتاب والسنة مباشرة - عليهم أن يتبعوا مذهب إمام من الأئمة وللواحد منهم أن يلازم إماماً من الأئمة إن شاء وله أن يتحول إلى غيره وقد كان في الصحابة من يأخذ برأى ابن عباس في مسألة ويتحول إلى غيره ولم ينكر عليه ذلك.

ولقد عاش أهل العراق أمداً طويلاً من الزمن وهم يلتزمون مذهب عبد الله بن مسعود متمثلاً في شخصه أو في أشخاص تلاميذه من بعده دون أن ينكر عليهم أهل العلم ذلك كما عاش أهل الحجاز أمداً مثله يلتزمون مذهب عبد الله بن عمر وتلاميذه وأصحابه دون أن ينكر عليهم أحد من أهل العلم ذلك.

وقد انفرد عطاء بن رباح ومجاهد بالفتوى في مكة زمناً طويلاً وكان يصبح منادى الخليفة "أن لا يفتى الناس أحد إلا هذان الإمامان " ولم يقم من علماء التابعين من ينكر على الخليفة أو على الناس هذا الالتزام فكيف يمنع البعض ذلك.

نبذة عن تاريخ المذاهب:

بعد الفتوحات الإسلامية بدأ الصحابة في عهد سيدنا عمر رضى الله عنه وأرضاه موجة من المد الإسلامى في المشرق والمغرب على حد سواء وكان العرب المسلمين والفاتحين مؤهلين بما حملوا من علم ومعرفة لأنهم عاشوا حياة رسول الله r ومكثوا فترة ليست بالقليلة يأخذون العلم من مصادره وينابيعه الطيبة فلما انتشروا في البلاد وكان الصحابة متفاوتين علماً كما قلنا بدأ الناس الذين يتصلون بهم في البلاد المختلفة يتناولون العلوم من هذه المصادر وهى الصحابة رضوان الله عليهم وأرضاهم ،والجدير بالذكر أن الرسول r نفسه في حياته أرسل أناساً إلى اليمن وإلى البحرين ووجدنا سالم بن عبد الله بن عمر يقول كنا مع بن عمر يوم مات زيد بن ثابت فقلت مات عالم الناس اليوم فقال ابن عمر يرحمه الله فقد كان عالم الناس وحبرهم لقد فرقهم سيدنا عمر في البلدان، يقول سيدنا عمر حين خرج معاذ بن جبل إلى الشام لقد أخلَّ خروجه بالمدينة وأهلها في الفقه وما كان يفتيهم به، ولقد كنت كلمت أبا بكر رحمه الله أن يحبسه لحاجة الناس إليه فأبى علىَّ وقال : رجل يريد الشهادة فلا أحبسه فقلت والله إن الرجل ليرزق الشهادة وهو على فراشه . وكتب سيدنا عمر لأهل الكوفة إنى بعثت إليكم بعبد الله بن مسعود معلماً ووزيراً وآثرتكم به على نفسي فخذوا عنه فقدم الكوفة ونزلها وابتنى بها داراً إلى جانب المسجد وكذلك فقد انتشر الصحابة في هذه البلدان كما يحدثنا التاريخ وكان لكل واحد منهم مدرسته.

كيف نشأت هذه المذاهب ؟

قلنا أن الصحابة انتشروا في الأمصار بل إن الرسول r كان يرسل الصحابة لبعض الأمصار لتعليم الناس وبعد وفاة الرسول r مكثت مجموعة من الصحابة في المدينة ولم تغادرها وانتشرت مجموعة أخرى في البلاد والجميع يحملون علماً ففي مكة مثلاً كان سيدنا معاذ بن جبل يعلم أهلها الحلال والحرام وكان يعتبر معلم مكة وعندما حدث الخلاف بين عبد الملك بن مروان وعبد الله بن الزبير -فى القصة المعروفة - ذهب ابن عباس إلى مكة أيضًا وعلم بها فكان يجلس في البيت الحرام يعلم الناس التفسير والحديث والفقه بل والأدب وتخرج من تحت يديه تابعين مثل مجاهد بن جبر وعطاء بن أبى رباح وطاووس بن كيسان، وفى المدينة دار الهجرة ومركز الخلافة تفرغ للحياة العلمية كثير من الصحابة كزيد بن ثابت وعبد بن عمر بن الخطاب رضى الله عنهم وتخرج على يد علماء الصحابة كثير من التابعين مثل سعيد بن المسيب وعروة بن الزبير بن العوام وكان ابن شهاب الزهرى قد أخذ من كبار التابعين وحفظ فقه علماء المدينة، وفي الكوفة كان من أصحاب الرسول r على بن أبى طالب ،عبد الله بن مسعود ،وكان ابن مسعود طبعاً أكثرهم في الأثر والعلم بعثه سيدنا عمر بن الخطاب إلى أهل الكوفة يعلمهم وتكونت في الكوفة حركة علمية كبيرة في العراق وتخرج من التلاميذ على يد هؤلاء الصحابة علماء معروفين كعلقمة الأسود ومسروق وشريح والشعبى والنخعى وسعيد بن جبير كل هؤلاء تلامذة لصحابة رسول الله r ، وكان في البصرة أبو موسى الأشعرى وأنس بن مالك رضوان الله عليهم وقد أخذ منهم أبو الحسن البصرى ومحمد بن سيرين ثم في الشام أيضًا رأينا أبو الدرداء رضوان الله عليه وأرضاه كان هناك وأخذ منه من التابعين أبو إدريس الخولاني ومكحول الدمشقي وعمر بن عبد العزيز ورجاء بن حيوة وتخرج أيضًا من هذه المدرسة إمام أهل الشام المشهور بالأوزاعى عبد الرحمن الأوزاعى، وفي مصر كان عبد الله بن عمرو بن العاص من أشهر الصحابة الذين نزلوا في مصر وتتلمذ على يديه الليث بن سعد فقيه مصر وكان تلميذ من تلاميذه في اليمن مطرف بن مازن وعبد الرزاق بن همام وكل هؤلاء الصحابة أعطوا للتابعين من العلم الكثير .

وعندما تفرق الصحابة بهذه الصورة أصبح هناك فريقان من الصحابة فريق في داخل الحجاز يأخذ الأثر ويعيش حياة رسول الله r ويتمسك بالنص وفريق ساح في البلاد الأخرى واحتك بالفرس واحتك بالعجم وأصبح هناك مشاكل غير موجودة بالحجاز فبدأ العلماء يفكرون في استنباط الأحكام التي تصلح لهذا الزمان وانقسم الناس فريقان:

فريق أسموه أهل الأثر وهم أهل الحجاز.

وفريق أسموه أهل الرأي وهم أهل العراق والشام، وأصبح هناك بعد ذلك مدرستان مشهورتان في الفقه

وعندما جاء الإمام الشافعى يضع قواعد أصول الفقه قسم الأدلة إلى نوعين فرعى وأساسى فالمجمع عليها والذي لا يختلف فيها إمام هي الكتاب والسنة والإجماع (إجماع الصحابة) فلا يوجد إمام من الأئمة ولا عالم من العلماء يستطيع أن يخرج عن هذه الثلاثة وهى موجودة في كل مذهب من المذاهب، ولكنهم اختلفوا في القياس كدليل فالغالبية يعتبروه من الأساس ثم تأتي الأدلة الفرعية التي يأخذ بها بعض الأئمة والبعض الآخر لا يأخذ بها .

ومن الأدلة التي انفرد بها الإمام مالك عن باقي الأئمة "عمل أهل المدينة" يقول أن أهل المدينة أقرب لرسول الله r ثم انتقل الأمر من فئة إلى فئة وجماعة إلى جماعة واختلفوا فإذا وجدنا أهل المدينة يعملون عملاً فيها صار دليلاً عند الإمام مالك يأخذ به في حين أن الإمام الشافعي لم يأخذ به لأن له أدلته أيضًا فالمسألة ليست مسألة ضعيف وقوى، فالمسألة مسألة الأدلة التي استند إليها العلماء أنفسهم فالخلاف الذي بين الأئمة هو خلاف في الأحكام الفرعية لأنهم جميعاً متفقون في الأحكام القطعية فحسب مختلفون في الظنية، ولما انتشر الصحابة في الأمصار بقيت مدرستان مدرسة سُميت بمدرسة الرأي وأخرى سميت بمدرسة الأثر.

وصار أهل المدينة يعتمدون في أحكامهم وعلمهم على حديث رسول الله r وكان أهل العراق يعتمدون على الرأي، يقول الشعبي: كانت القضية ترفع  إلى عمر t فربما تأمل في ذلك شهراً ويستشير أصحابه فيها وكان لتدوين الحديث أكبر الأثر في اتساع الحركة العلمية والفقه.

أسباب انتشار مدرسة الرأى في العراق:

1-تأثر أهل العراق بوجود صحابي جليل هو عبد الله بن مسعود يتلقى منه التابعون هذه العلوم .

2-قلة وجود الصحابة وحفظة الحديث في العراق جعل إعمال العقل والرأي أكثر من الأثر.

3-احتكاك المسلمين بغيرهم مثل الفرس جعل هناك أموراً تجد ومشاكل في حاجة إلى النظر وإعمال العقل فيها للوصول إلى حكم شرعي.

4-كان العراق موطناً للشيعة والخوارج الذين كانوا متمركزين في هذا المكان وبحدوث الفتن والأمور التي ليس فيها نص كان من الطبيعي أن يجتهد العلماء للوصول إلى حكم فيها.

مميزات مدرسة أهل الرأي :

1- كان لديهم كثرة التفاريع في المسائل ولم يكتفوا بالحكم.

2-قلة روايتهم للحديث واشتراطهم فيه شروطاً شديدة جدًا جعل الذي يصل إليهم من الأحاديث يدققون فيه ويخرجونه بمنتهى الدقة للحرص على صحته.

المدرسة الأخرى وهى مدرسة أهل الحجاز وهى تعتمد على الحديث كما ذكرنا.

وسبب انتشارها وجود الصحابة رضوان الله عليهم وأرضاهم في مدينة رسول الله r وما يحملونه من ثروة كبيرة جداً من أحاديث رسول الله r .

مميزات مدرسة أهل الحجاز :

1-وجود ثروة كبيرة جداً من أحاديث رسول الله r.

2-كانت الحياة بسيطة وميسرة فلم توجد لديهم مشاكل مثل التي كانت عند أهل العراق نتيجة احتكاكهم بالفرس.

3-البعد عن أرض الفتنة.

4-كانوا يكرهون كثرة السؤال.

ومن هاتين المدرستين نشأت المذاهب فكان أبو حنيفة هو صاحب مدرسة الرأي لأنه عاش في العراق أما الإمام مالك فقد نشأ في المدينة وهو صاحب مدرسة الأثر ولذلك بدأت المذاهب تظهر في هاتين المدينتين وعندما جاء الإمام الشافعي وكان صاحب مذهب فاجتهد في قواعد كل مذهب من هذه المذاهب ثم كتب كتابه المسمى بـ"الرسالة" والذي وضع فيه قواعد أصول الفقه وكان أول من وضع هذه القواعد.

والجدير بالذكر أننا عندما نتكلم عن المذاهب الأربعة نتكلم عن المذاهب الشهيرة، والحقيقة أنها كانت أكثر من ثلاثة عشر مذهباً لكن اندثر منها ما اندثر لعدم التدوين ودُون منها حوالى تسعة مذاهب، بل إن هناك من المذاهب ما لا نعرفه لأنها اندثرت مثل مذهب الإمام الطبري وللعلم فإن اندثار المذهب لا يندثر معه اجتهاد صاحبه، فالاجتهاد باق بالرغم من اندثار المذهب.

وهذه أمثلة من أصحاب المذاهب:

الإمام أبو سعيد الحسن البصرى والذي توفى سنة 110هـ ، الإمام أبو حنيفة الذي توفى سنة 150هـ والإمام الأوزاعي الذي توفى سنة 157هـ الإمام سفيان ابن سعيد بن مسروق الثورى الذي توفى سنة 160هـ والإمام الليث بن سعد والذي توفي سنة 175هـ والإمام مالك بن أنس الذي توفى سنة179 والإمام سفيان بن عيينة الذي توفى سنة 198 والإمام محمد بن إدريس الشافعي الذي توفى سنة 204هـ والإمام أحمد بن حنبل الذي توفى سنة 241هـ ، ونضيف إلى هؤلاء الإمام ابن داود الظاهرى ابن حزم الذي توفى سنة 270هـ وهؤلاء هم الذين جُمعت مذاهبهم وسُجلت ولكن هناك كثير من الفقهاء والأئمة اندثر مذهبهم لعدم تسجيله وعلى هذا نقول أن الأئمة الثلاثة : مالك والشافعى وأحمد بن حنبل من مدرسة الأثر والإمام أبو حنيفة من مدرسة الرأي، وأعطيك أمثلة بسيطة جداً تظهر  الخلاف بين المدرستين فمثلاً:

القراءة خلف الإمام ، يقول أهل الأثر نقرأ خلف الإمام فيما لا يجهر فيه بالقراءة وأغلب أهل الرأى يقول :عدم القراءة خلف الإمام فيما جهر وفيما أسر على السواء، وأيضًا صفة الجلوس يقول أهل الحجاز الجلوس على الورك الأيسر سواء أكانت الصلاة ثنائية أو رباعية ، أما أهل العراق فقالوا يفترش قدمه اليسرى ويوم أن كان هناك فهم سليم للمذاهب فإنهم يختلفون ولكن يبقى الود والحب ويختفي التعصب.

التعصب للمذهب:

وصل التعصب للمذهب والبعد عن الفهم السليم للإسلام إلى أن أتباع الشافعية في فترة من الفترات كانوا يحرمون الصلاة خلف تلاميذ المالكية بل وصل الأمر إلى تحريم تزويج ابنة الشافعى من المالكى. وهذا التعصب للمذهب هو الهوى بعينه والتعصب المذموم والممنوع وهو مكروه غير مرغوب لأن التعصب هو الميل مع الهوى لأجل نصرة مذهب بعينه سواء أكان على صواب أو على خطأ. وبهذا ينشأ لون من ألوان الاحتقار والحط من المذاهب الأخرى وهو مخالف لتوجيه رسول الله r :" كل أمتى يدخلون الجنة إلا من أبى، قالوا ومن يأبى ؟ قال : من أطاعني دخل الجنة ومن عصانى فقد أبى " وهذا الذي جعل العلماء يحذروا من التعصب للمذهب يقول الإمام أبو حنيفة رضوان الله عليه وأرضاه : لا يحل لأحد أن يأخذ بقولنا ما لم يعلم من أين أخذناه وهو بذلك يخاطب من استطاع أن يجتهد سواء اجتهاداً كلياً أو جزئياً، وفى رواية :"حرام على من لم يعرف دليلى أن يفتى بكلامى فإننا بشر نقول القول اليوم ونرجع عنه غداً " ومعنى هذا الكلام إن أصل الاجتهاد والفتيا تختلف زماناً ومكاناً وشخصاً فقد ينظر في المسألة بظروفها ومكانها وشخصها ويفتى بفتوى فإذا اختلفت الظروف في نفس المسألة فسيختلف معها الحكم لأن الحكم يدور مع العلة حيث دارت، يقول الإمام مالك :"إنما أنا بشرٌ أُخطئ وأصيب " فانظروا في رأيى فكل ما وافق الكتاب والسنة فخذوه وكل ما لم يوافق الكتاب والسنة فاتركوه ، ويقول الشافعى:"أجمع المسلمون على أن من استبان له سنة من رسول الله r لم يحل له أن يدعها لقول أحد " ويقول الإمام أحمد :"لا تقلدنى ولا تقلد مالكاً ولا الشافعى ولا الأوزاعى ولا الثورى وخذ من حيث أخذوا "

هذه النصوص قرأها بعض الشباب وضل فهمهم فهؤلاء العلماء لا يقولون هذه النصوص ليجتهد العامي والجاهل إنما قالوا هذه النصوص خشية التعصب فلقد قالوا هذا الكلام لأمرين : الأمر الأول للحث على التعلم ودفع الغير لكي يحصل العلوم النافعة حتى لا تقلد .

والأمر الثاني: حتى لا يتعصب للمذهب ولا يأخذ بغيره وهو ليس أهلاً للاجتهاد وقد قال العلماء أن الصحابة رضي الله عنهم كان الواحد منهم يقتدي بالآخر.

مما سبق نخلص إلى أن تقليد العامي أو من لم يبلغ مرتبة الاجتهاد يلزم أي مذهب إمام مجتهد سواء التزم واحداً بعينه أو عاش يتحول من واحد لآخر – دون ترقيع أو تتبع للرخص- وهو أمر جائز شرعاً وأكبر دليل على ذلك هو صحة إتباع مذهب ابن عباس وعبد الله بن مسعود وأم المؤمنين عائشة.

وهناك مقولة ظاهرها الرحمة تقول : إن الأخذ بأقوال العلماء وقياساتهم بمنزلة التيمم إنما يصار إليه عند عدم الماء ، فحيث وجد النص من الكتاب أو السنة أو أقوال الصحابة رضى الله عنهم فالأخذ به واجب لا يعدل عنه إلى أقوال العلماء.

وظاهر هذا القول لدى الرجل العامى صحيح ولكن العلماء يعتبرون هذا القول من البلاء العظيم والشر المستطير!!

ولكي يتضح ذلك الشر ، ضع صحيحي البخاري ومسلم أما سواد المسلمين اليوم وقل لهم حاولوا أن تفهموا أحكام دينكم من النصوص التي فيهما ثم أنظر كيف سيكون الجهل والتخبط والعبث بالدين فالحال سيكون مثل مزين الصحة الذي يدعى مهارة في الطب ويودى بمريضه ويهلكه، إن توفر كتب السنن وحدها –كما قال ابن القيم- لا يكفى في صحة الفتوى بل لابد إلى جانبها بلوغ درجة الاستنباط وتوفر أهلية البحث والنظر وإن لم يتوفر لديه ذلك ففرصته متاحة في قول ربنا (فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ)

أما إذا تمرس المقلد في فهم مسألة من المسائل وتبصر بأدلتها من الكتاب والسنة وأصول الاجتهاد وجب عليه أن يتحرر في الأخذ بها من مذهب إمامه وحرم عليه التقليد طالما أمكنه أن يجتهد فيها معتمداً على طاقته المتوفرة لديه فلا يرجح رأى إمامه على ما هداه إليه اجتهاده في تلك المسألة وهذا ما يسمى أو يطلق عليه "مجتهد في المذهب" وهو غير المجتهد المطلق كما وضحنا من قبل.

ونختم قضية التقليد بضوابط منها:

أولاً-إذا استبان للمُقَلِّد حكم صحيح بخلاف ما انتهى إليه إمام مذهبه وتيقن ذلك بصدق من أرشده وكفايته العلمية ورسوخه الفقهى لزمه أن يتحرر من قول إمامه أو مذهبه.

ثانياً-إذا تبصر إنسان بمعرفة مسألة ما من وجوهها المختلفة وصورها المتعددة وأحاط بأدلتها ونصوصها فعليه أن يتبع في تلك المسألة ما انتهى إليه اجتهاده وهداه إليه علمه.

ثالثاً-العالم بمصادر النصوص وقواعد الفهم إذا عجز عن الاجتهاد في مسألة ما إما لتكافؤ الأدلة أو لضيق وقته أو لعدم ظهور دليل له جاز له التقليد فالاجتهاد ليس أمراً واحداً لكنه قابل للتجزئة والانقسام .

رابعاً -أن المقلد يجوز له التنقل من مذهب إلى آخر بناء على قوة الحجة وظهور الدليل وليس من قبيل التتبع للرخص بغير مستند شرعى نقل الشاطبى عن ابن حزم أنه حكى الإجماع على أن تتبع رخص المذاهب بغير مستند شرعى فسق لا يحل.

ونهى العلماء عما يسمى بالترقيع وهو أن يأخذ من كل مذهب رخصة فلا تجوز عملية الترقيع هذه.

وأيضًا عدم التجاسر على الفتيا لمن ليس من أهلها بل الواجب احترام التخصص والرجوع في كل فن إلى عارفيه فدلائل النصوص مشتملة على العام والخاص والمطلق والمقيد والمحكم والمتشابه والناسخ والمنسوخ والجلى والخفى ومعرفة مواطن الإجماع ومواطن الخلاف كي يتصدى لهذا الأمر جاء عن ابن مسعود إن أحدكم ليفتى الفتيا لو سُئل عنها عمر لجمع لها أهل بدر وأجرؤكم على الفتيا أجرأكم على النار أعاذنا الله من هذا .

وأخيراً فإن أحد المجتهدين إذا ترك العمل بحديث من الأحاديث لعذر من الأعذار المعتبرة مثل اعتقاده عدم صحة الحديث أو أن ظاهر القرآن يخالفه أو القياس أو عمل بعض الأمصار ثم تبين لمن يقلده أن ظاهر القرآن لا يخالفه وأنه صحيح مقدم على الظاهر والقياس والعمل لم يكن عذر ذلك الإمام المجتهد عذراً في حقه فإن ظهور المدارك الشرعية وخفاءها أمر لا ينضبط طرفاه فتعين عليه العمل بما أوجبه الحديث الذي اعتقد صحته ودلالته وإن خالف إمامه.

الأئمة على حق :

وينبغى أن نفهم أن جميع الأئمة على حق بمعنى أن اجتهاد كل منهم جعله معذوراً عند الله U  إن هو لم يستيقن حقيقة الحكم الذي أراد الله U لعباده في تلك المسائل الاجتهادية فليس عليه إلا أن يسير فيه حسب ما هداه إليه اجتهاده.

ومن هنا كان إتباع المقلد لمن شاء منهم إتباعاً لحق وتمسكاً بهدى وهو إذ يختار واحداً منهم لا ينبغى أن يتصور أن الآخرين على خطأ ولذلك أجمع العلماء على صحة إقتداء الحنفى بالشافعى أو المالكى والعكس ولك أن تعلم أن العز بن عبد السلام مثلاً شافعى المذهب، وابن القيم حنبلى المذهب والدهلوى حنفى المذهب والجميع من كتاب الله وسنة رسول الله  r ملتمس.

يقول الإمام الشاطبى في الموافقات :

إن المكلف بأحكام الشريعة لا يخلو من أحد ثلاثة أمور :

أولاً- أن يكون مجتهداً فيها فحكمه ما أداه إليه اجتهاده فيها.

ثانياً- أن يكون مقلداً صرفاً خلياً من العلم الحاكم جملة، فلابد له من قائد يقوده وحاكم يحكم عليه ،  وعالم يقتدى به، ولا يحل اتباعه إذا علم أنه ليس أهلاً لذلك لأنه لا يسلم المريض نفسه إلى أحد يعلم أنه ليس بطبيب إلا أن يكون فاقد العقل.

ثالثاً- أن يكون غير بالغ مبلغ المجتهدين لكنه يفهم الدليل وموقعه ويصلح فهمه للترجيح بالمرجحات المعتبرة وله القدرة على تحقيق المناط وهو في هذه الحالة إما أن يعتبر نظره أو لا يعتبر.

ولذا وجب علينا أن نتعرف على ما هو الاجتهاد ؟ ومن هو المجتهد حتى نعرف قدرنا؟

الاجتهاد:

الاجتهاد هو بذل غاية الجهد، واستفراغ الوسع في استنباط الأحكام الشرعية من أدلتها بطريق النظر وإعمال الفكر، يقول والآمدي في استفراغ الوسع هو طلب الظن بشيء من الأحكام الشرعية على وجه يحس من نفسه العجز عن المزيد، فمثلاً قوله تعالى (فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ) كيف تطبق في حالة وجود الخمر مع استشراف الإنسان على الموت مع عدم وجود الماء يجوز له شرب القليل منها بعد أن يبحث ويجدّ في البحث عن الماء حتى يشرف حقيقة على الموت، فيبدأ في شرب القليل لينجو.

هذان الأمران اللذين لابد أن يتوفرا عند المجتهد وهما بذل الجهد والوسع وشرب القليل دون عدوان.

والجدير بالذكر إنه لا يوجد في الإسلام طبقة تحتكر الاجتهاد فليس عندنا رجال دين ولكن لدينا علماء دين، عالم متخصص يملك أدوات الاجتهاد وتتحقق فيه شروطه فوجب عليه الاجتهاد.

شروطه:

هذه الشروط منها شروط علمية وثقافية مثل العلم باللغة العربية والكتاب والسنة ومواضع الإجماع المتيقن والعلم بأصول الفقه ، وطرائق القياس والاستنباط والعلم بمقاصد الشريعة وقواعدها الكلية.

وفضلاً عن ذلك لابد أن يكون لديه ملكة الاستنباط وهى تنمو بممارسة الفقه ومعرفة اختلاف الفقهاء ومدارسهم ولهذا قالوا:"من لم يعرف اختلاف الفقهاء لم يشم رائحة الفقه" ويضيف ابن القيم في إعلام الموقعين أن يكون عالماً بالناس لأن الفتيا تتغير زماناً ومكاناً وشخصاً فضلاً عن شرط الإخلاص والعدل وأن يكون مرضى السيرة يخشى الله تعالى .

والمجتهد الحق هو الذي ينظر إلى النصوص والأدلة بعين وينظر إلى الواقع والعصر بعين أخرى حتى يوائم بين الواجب والواقع ويعطى لكل واقعة حكمها المناسب لمكانها وزمانها وحالها : فهل هذا يتوفر لكل الناس؟

قال حذيفة : يفتى الناس : أحد ثلاثة، من يعلم ما نسخ من القرآن أو أمير لا يجد بداً أو أحمق متكلف قال فربما قال بن سيرين فلست بواحد من هذين ولا أحب أن أكون الثالث ، ويقول الإمام مالك ما جلست للفتيا إلا بعد أن شهد لى سبعون من أهل العلم أنى أهل لذلك كما يقول الإمام الشافعى لا يحل لأحد يفتى في دين الله إلا رجلاً عارفاً بكتاب الله ناسخه ومنسوخه ومحكمه ومتشابهه وتأويله وتنزيله ، مكيه ومدنيه وما أُريد منه وكذلك السنة كما عرف من القرآن ،بصيراً باللغة والشعر وما يحتاج إليه للسنة والقرآن وإلا لا يفتى .

ويقول الإمام أحمد : قلت لأبى ما تقول في الرجل يُسئل عن الشيء فيجيب بما في الحديث وليس بعالم في الفقه ، قال : ينبغى للرجل إذا حمل نفسه على الفتيا أن يكون عالماً بالسنن عالماً بوجوه القرآن عالماً بالأسانيد الصحيحة .

كما يقول رضوان الله عليه : لا ينبغى للرجل أن ينصب نفسه للفتيا حتى يكون فيه خمس خصال :

أولاها :أن تكون له نية فإن لم تكن له نية لم يكن عليه نور ولا على كلامه نور.

الثانية :أن يكون على علم وحلم ووقار وسكينة

الثالثة :أن يكون قويا ًعلى ما هو فيه وعلى معرفته

الرابعة :الكفاية وإلا مضغه الناس

الخامسة: معرفة الناس.

واسمع إلى حديث دار بين الإمام أحمد ووالده يقول يا أبت الرجل يحفظ مائة ألف حديث أيكون مفتياً ؟ قال : لا

قال الرجل يحفظ مائتى ألف حديث ؟ أيكون مفتياً ؟ قال :لا

قال الرجل يحفظ ثلاثمائة ألف حديث ؟ أيكون مفتياً ؟ قال :لا

قال الرجل يحفظ أربعمائة ألف حديث ؟ أيكون مفتياً ؟ فأشار يده هكذا (أي من الممكن وهذا هو الحد الأدنى)

فهل بعد ذلك كله يقول قائل للعامى لا تقلد ولا تتمذهب وعليك بالكتاب والسنة وربما لا يعرف أن قراءتهما فضلاً عن معرفة الأحكام فيهما !!

فمن هؤلاء الذين تقولون لهم لابد من النظر في الدليل ؟ إن كانوا أولئك الذين أوتوا القدرة على فهم الحكم من الكتاب والسنة بدون استعانة بمفت أو إمام فهذا لا يخالفكم فيه أحد ، فهم أهل لذلك إذا لا يصح لهم تقليدهم لأحد وليس في المسلمين عالماً حديثاً أو قديماً يخالفكم في ذلك!!

وإن كان من عامة الناس ومن لا يملك وسيلة الاجتهاد والاستنباط والتبصر بالأدلة فنقول "هل عندكم من علم فتخرجوه لنا" اللهم إلا علم من أعطى لنفسه حق تشخيص الداء والدواء وهو ليس أهلاً لذلك" فتكون الهلكة.

وانظر إلى القاسم بن محمد بن أبى بكر يُسأل عن شيء فيقول : لا أحسنه فقال السائل: إنى جئت إليك لا أعرف غيرك. فقال القاسم: لا تنظر إلى طول لحيتى وكثرة الناس حولى والله ما أحسنه ، فقال شيخ من قريش جالس إلى جنبه :يا ابن أخى ألزمها فوالله ما رأيتك في مجلس أنبل منك اليوم فقال القاسم :"والله لئن يقطع لسانى أحب إلىَّ من أن أتكلم بما لا علم لى به".

وقال أحد أصحاب مالك :شهدت مالك سئل عن ثمان وأربعين مسألة فقال في اثنتين وثلاثين منها لا أدرى، وقيل ربما كان يُسأل عن خمسين فلا يجيب في واحدة منها، وكان يقول من أجاب في مسألة فينبغى من قبل أن يجيب أن يعرض نفسه على الجنة والنار وكيف يكون خلاصه في الآخرة ثم يجيب عنها.

سُئل عن مسألة فقال لا أدرى، فقيل له إنها مسألة خفيفة سهلة. فغضب وقال: ليس في العلم خفيف أما سمعت قول الله (إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا).

 وسُئل الشعبى عن شيء فقال لا أدرى فقيل له ألا تستحى أن تقول لا أدرى وأنت فقيه العراق؟ فقال لكن الملائكة لم تستح عندما قالت (لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا) وصدق أبو الذيال حين قال تعلم لا أدرى فإنك إن قلت لا أدرى علموك حتى تدرى وإن قلت أدرى سألوك حتى لا تدرى.

وقال عبد الله كنت أسمع أبى كثيراً يسأل عن المسائل فيقول لا أدرى ويقف إذا كانت مسألة فيها اختلاف وكثيراً ما كان يقول سل غيرى فإن قيل له من نسأل ؟ قال سلوا العلماء.

هكذا حال العلماء إمساك اللسان عن الفتيا لا الإسراع فيها سواء كان هؤلاء العلماء من الصحابة أو من التابعين أو تابع التابعين إلى أن جاء القرن الرابع وما بعده بدأ التقليد المذموم والتعصب البغيض والتشنيع على من يخرج عن آراء المذهب ومرت على الفقه الإسلامى فترة جمود قيل فيها قفل باب الاجتهاد ولا ندرى من الذي أغلقه وكيف؟ والناس تجدّ لها مشاكل وأحوال يحتاجون إلى النظر فيها وهي تختلف عن سوابقها فلكل زمان مشاكله وظروفه فكيف يغلق باب الاجتهاد؟  يجب أن نعلم أن الممقوت ليس إتباع مذهب ولكن الممقوت هو التقليد مع القدرة على الاجتهاد بعد أن تتحقق شروطه كما ذكرت، ولذلك سمعنا من الأئمة كلمات تثلج الصدور عند الاجتهاد:

يقول الإمام أبو حنيفة : هذا أحسن ما وصلنا إليه فمن رأى خيراً منه فليتبعه.

وقد سأله بعض الفقهاء : أهذا الذي انتهيت إليه هو الحق الذي لا شك فيه؟ فقال الإمام : لا أدرى لعله الباطل الذي لا شك فيه، ويقول الإمام الشافعى : أى أرض تقلنى وأى سماء تظلنى إذا جاء حديث رسول الله r وخالفته، إذا صح الحديث فهو مذهبى.

ولذلك رأى الإمام أبو حنيفة تلميذه أبا يوسف يكتب ما يقوله فقال له: ويحك يا يعقوب أتكتب كل ما أقول إنى قد أرى رأياً اليوم وأخالفه غداً وقد أرى الرأي غداً وأخالفه بعد غد"، ذلك لأن الناس لم تفهم أن أقوال الفقهاء ليس دينًا يتبع ، وما دعوا هم الناس إلى إتباعهم بل دعوهم إلى إتباع الدليل الذي يوصل إلى الحق ولو خالف أقوالهم لو كانوا أهلاً لذلك.

وصدق القائل : إن أقوال الفقهاء بالنسبة للشريعة كمثل أغصان الشجرة تتشعب وتتفرع والأصل الذي انبعث عنه واحد يغذى جميع الأغصان المتفرعة.

بقى أن تعلم أن الاجتهاد يعمل في منطقتين:

إحداهما : منطقة ما لا نص فيه مما تركه الشارع لنا قصداً منه ورحمة غير نسيان.

ثانيهما: منطقة النصوص الظنية سواء أكانت ظنية الثبوت ومعظم الأحاديث النبوية كذلك، أو ظنية الدلالة ومعظم نصوص القرآنية كذلك.

وهكذا ترى الإمام البنا يضع الضوابط في كل شيء فعلى من لم يبلغ درجة النظر أن يتبع إماماً من أئمة الدين ويحسن به مع الإتباع أن يجتهد ما استطاع في تعرف أدلته وبذلك يحث القادر على الاجتهاد أن يجتهد ويحث الذي يتبع إماماً أن يجتهد في تحصيل العلم ويستكمل فقهه العلمي حتى يبلغ درجة النظر. وهذا ما يوافق ما قاله العلماء الأثبات في كل زمان ومكان.

 

 


الأصل الثامن

ما يجوز الخلاف فيه وما لا يجوز

"والخلاف الفقهي في الفروع لا يكون سبباً للتفرق في الدين ولا يؤدى إلى خصومة ولا بغضاء ولكل مجتهد أجره ،ولا مانع من التحقيق العلمي النزيه في مسائل الخلاف في ظل الحب في الله والتعاون على الوصول إلى الحقيقة من غير أن يجر ذلك إلى المراء المذموم والتعصب "

هذا الأصل يعالج :

1-الخلاف الفقهي في الفروع .

2- أنواع الخلاف .

3- المختلف فيه لا إنكار فيه .

4-نتعاون فيما اتفقنا عليه ويعذر بعضنا بعضاً فيما اختلفنا فيه .

هذه الدعوة التي من الله بها علينا تحتاج منا إلى الفهم الدقيق ، والإيمان العميق، والحب الوثيق ، والعمل المتواصل، والوعي الكامل؛ وذلك لأن الفهم الدقيق يؤلف القلوب ويوحد الصفوف ويعالج النفوس فنتعاون مع من يوافقنا ونعذر من يخالفنا والقاعدة الذهبية تقول :"المختلف فيه لا إنكار فيه " وهو الخلاف المعتبر-فالفهم يحدد معالم الطريق بل هو الضمانة الحقيقية لشرعية علاقاتنا والملاذ الوحيد في تصفية خلافاتنا فإذا بإيماننا يزداد وعلاقاتنا تقوى وحبنا يعمق" (وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ).

لذلك فإننا نحب أن نؤكد على بعض الأمور التي تتصل بهذه القضية ومنها -لا شك- إحداث التنازع وإحداث التعصب في أمور نبه العلماء فيها على أن المختلف فيه لا إنكار فيه ابتداءً ومن أجل ذلك حذرنا الرسول r من التشرذم والتفرق والتقاطع والتدابر فعن عبد الله بن عمرو رضى الله عنهما قال :قال رسول الله r :"ليأتين على أمتى ما أتى على بنى إسرائيل حذو النعل بالنعل حتى إذا كان منهم من أتى أمه علانية كان من أمتى من يصنع ذلك وإن بنى إسرائيل تفرقت على اثنتين وسبعين ملة وتختلف  أمتى على ثلاث وسبعين ملة كلهم في النار إلا ملة واحدة قالوا من هي يا رسول الله ؟ قال ما أنا عليه وأصحابي " والحديث عن الافتراق مشهور عن رسول الله r من حديث أبى هريرة وسعد ومعاوية وغيرهم.

فما هو الاختلاف المقصود هنا والذى نهى عنه الرسول r ؟ والخلاف المعتبر شرعاً ؟

إن رسول الله r أخبر بافتراق أمته على ثلاث وسبعين فرقة اثنتان وسبعون هم الذين خاضوا كخوض الذين من قبلهم وهو اختلاف إما في الدين فقط، وإما في الدين والدنيا ثم يؤول إلى الدين وقد يكون في الدنيا فقط.

وهذا الاختلاف الذي دلت عليه هذه الأحاديث هو ما نهى عنه المولى I في قوله (وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَاخْتَلَفُواْ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ) وقوله (إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمْ وَكَانُواْ شِيَعًا لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ) وقوله (وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ) والاختلاف المنهي عنه هو الخلاف الذي يفرق الأمة كالاختلاف الذي حدث بين الفرق الإسلامية التي اختلفت في أمور تتصل بالعقائد لا يجوز الخلاف فيها فتمزق الصف وتشتت الجمع وهذه الفرق الإسلامية غير المذاهب الإسلامية كما قلنا من قبل وكما سنبين بمشئية الله تعالى.

ولكى نوضح المسألة – بتوفيق الله – لابد أن نبين ما ذكره القرآن في قضية الاختلاف.

أنواع الاختلاف التي ذكرها القرآن:

إحداهما : أنه يذم الطائفتين المختلفتين جميعاً كقوله تعالى (وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ) فجعل أهل الرحمة مستثنيين من الاختلاف وقوله I (ذَلِكَ بِأَنَّ اللّهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُواْ فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ) وقوله تعالى (وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَاخْتَلَفُواْ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْبَيِّنَاتُ) وقوله تعالى (وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوْتُواْ الْكِتَابَ إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ) وترى وصف القرآن لاختلاف النصارى في قوله (فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللّهُ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ) ووصف اختلاف اليهود أيضًا بقوله (وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ كُلَّمَا أَوْقَدُواْ نَارًا لِّلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللّهُ) وقوله (فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُم بَيْنَهُمْ زُبُرًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ)

وهذا الاختلاف المذموم من الطرفين سببه :

1- فساد النية لما في النفوس من البغي والحسد والعلو في الأرض والفساد ولذلك يجب أن يذم قول غيره أو فعله

أو غلبته ليتميز عليه أو نصرة مذهب معين أو حصول الرياسة وهذا لا شك من الظلم.

2- جهل المختلفين بحقيقة الأمر الذي يتنازعون فيه، أو الجهل بالدليل الذي يرشد به أحدهما الآخر ، أو جهل أحدهما بما عند الآخر من الحق في الحكم أو في الدليل وإن كان عالماً بما مع نفسه من الحق حكماً ودليلاً.

والجهل والظلم هما  أصل كل شر (إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا) 

ثانيهما – وأما الاختلاف من النوع الثانى المذكور في كتاب الله فهو ما حُمِد فيه إحدى الطائفتين وهم المؤمنون، وذم الأخرى كما قال تعالى (تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِّنْهُم مَّن كَلَّمَ اللّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ وَلَوْ شَاء اللّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِن بَعْدِهِم مِّن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُواْ فَمِنْهُم مَّنْ آمَنَ وَمِنْهُم مَّن كَفَرَ وَلَوْ شَاء اللّهُ مَا اقْتَتَلُواْ وَلَكِنَّ اللّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ) [البقرة:253] وكقوله (هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِّن نَّارٍ يُصَبُّ مِن فَوْقِ رُؤُوسِهِمُ الْحَمِيمُ ،يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ ،وَلَهُم مَّقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ ،كُلَّمَا أَرَادُوا أَن يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ ،إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ) ففى الصحيح أنها أُنزلت كما ذكر أبو ذر في المقتتلين يوم بدر : على وحمزة وعبيدة بن الحارث من الصحابة والذين بارزوهم من الكفار : عتبة وشيبة والوليد بن عتبة والحقيقة أن أكثر الاختلاف الذي يؤول إليه الأهواء بين الأمة من القسم الأول وقد يصل إلى سفك الدماء والبغضاء واستباحة الأموال ذلك لأن إحدى الطائفتين لا تعترف للأخرى بما معها من الحق ولا تنصفها، بل تزيد على ما مع نفسها من الحق زيادات من الباطل والأخرى كذلك وكلٌ يبتغى الانتصار على الآخر.

ولذلك فإن الرسول r بيّن أن عامة المختلفين هالكون من الجانبين إلا فرقة واحدة هم أهل السنة والجماعة من كانوا على مثل ما كان عليه النبى r وأصحابه.

والنزاع دائماً منتهاه الفشل يقول تعالى : (وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ) لأنه ليس قائمًا على الوصول إلى الحقيقة والصواب بقدر ما هو انتصاراً للنفس وللذات وتعصبًا للرأي، ولذلك فهو دائماً مؤداه الفشل لأن  النية فسدت وولغ الشيطان بين هذه وتلك.

وهناك فرق كبير جدًا بين التنازع وبين الخلاف الفقهي، فالخلاف الفقهي خلاف معتبر يقول به العلماء يستندون في خلافهم إلى أدلة شرعية لكن النزاع يتحكم فيه الهوى والظن، ولكي نفرق بين ما يجوز الخلاف فيه وما لا يجوز يجدر بنا أن نتعرف على أحكام القرآن فقد جاءت أحكام القرآن على نوعين:

أولاً- ما أبانه الله لخلقه نصاً وجاء بصيغة قاطعة لا مجال للاجتهاد فيها وقد جاءت هذه الأحكام تفصيلية سمواً بها عن الجدل ببنائها على أسباب لا تختلف باختلاف الأزمنة والأمكنة كآيات وجوب الصلاة والزكاة والصيام والمواريث التي حددت أنصبة الوارثين وتحريم الفواحش ما ظهر منها وما بطن كحرمة الزنا والقذف والخمر والربا وأكل أموال الناس بالباطل والقتل بغير حق وأكل الميتة ولحم الخنزير وما إلى ذلك من العقائد والعبادات وأمهات الأخلاق والرذائل مما اشتهر عند المسلمين وأخذ حكم المعلوم بالضرورة.

ثانياً- ما جاء حكمه في القرآن مجملاً وبينه الرسول r بسننه القولية والعملية وهى الأحكام التي تشير إلى مقاصد الشريعة وقواعدها الكلية وتدع للمجتهدين في مجال الفهم والاستنباط على ضوء هذه القواعد وتلك المقاصد وهذا المنهج من ضرورة خلود الشريعة ودوامها.

وجدير بالذكر أن هذه الأحكام المجملة منها ما فصله الرسول r كمواقيت الصلاة وعدد الركعات وسائر أحكامها وبيان مقادير الزكاة وأوقاتها والأموال التي تزكى وبيان أحكام الصوم وتفاصيل الأنكحة والبيوع والحج ومناسكه ...إلخ، وهذا يدخل في قول الله تعالى (وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ) .

وهذا الذي بينه الرسول r منه ما هو متفق عليه مجمع على حكمه وتواتره فلا مجال للاجتهاد فيه وبعضه لا يتعين المراد منها فهى ظنية الدلالة فكانت مجالاً للبحث والاجتهاد لأنه ليس من المعقول أن تعرض شريعة جاءت على أساس من الخلود والبقاء والعموم لتفصيل أحكام الجزئيات التي تقع في حاضرها ومستقبلها فإنها مع كثرتها الناشئة من كثرة التعامل وألوانه متجددة بتجدد الزمن وصور الحياة فلا مناص إذاً من هذا الإجمال والاكتفاء بالقواعد العامة والمقاصد التي ينشدها للعالم وبإزاء هذا حثت على الاجتهاد واستنباط الأحكام الجزئية التي تعرض حوادثها من قواعدها الكلية ومقاصدها العامة وبذلك ظهرت بحق أنها صالحة لتنظيم جميع الشئون الاجتماعية والفردية إلى يوم الدين"

والفرق بين الذي لا مجال للاجتهاد فيه والذى مجاله البحث والاجتهاد أن الأول بمنزلة العقائد واجب الإتباع عيناً على كل إنسان فمن أنكره يكون خارجا ًعن الملة –بالقواعد الشرعية – بخلاف الثانى فإن من أنكر فيها فهماً معيناً تحتمله الآية كما تحتمل غيره لا يكون كذلك وكل مجتهد يتبع فيه ما ترجح عنده.

ثالثاً- وهو ما سنه الرسول r مما ليس فيه حكم بالقرآن حيث فرض الله في كتابه طاعة رسوله والانتهاء إلى حكمه (وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ) فمن قبل هذه السنة امتثل أمر الله ففي السنة أشياء لا تحصى كثرة لم ينص عليها القرآن كتحريم الرسول r للحُمُر الأهلية وتحريم كل ذى ناب من السباع ، وألا يقتل مسلماً بكافر ، وتحريم الذهب والحرير  على الرجال ... إلخ فلا مناص من الاعتراف بأحكام في الشريعة لم تثبت إلا في السنة وحدها وصدق r إذ يقول :"ألا إنى أوتيت القرآن ومثله معه ألا يوشك رجلاً شبعان على أريكته يقول عليكم بهذا القرآن فما وجدتم فيه من حلال فأحلوه وما وجدتم فيه من حرام فحرموه ، وأن ما حرم رسول الله كما حرم الله "

ومن ألوان الضلال أن يخرج أناس يسمون أنفسهم بالقرآنيين يريدون إتباع القرآن فقط ، فمن أين أتوا بأن صلاة الصبح ركعتان والظهر أربع ...إلخ ؟ بل ومن أين أتوا بأنصبة الزكاة ومناسك الحج؟ وهذا لون من ألوان الضلال، والرسول r يحذرنا من هذا الأمر؛ لأنه r (وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى ، إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى) فإذاً لم يختلف العلماء والفقهاء في الأصول والمسائل الإيمانية أو ما يمس الاعتقاد، كذلك في وجوب العمل بما أنزل الله ووجوب العمل بالحديث وأمهات الأخلاق وأمهات الرذائل التي نسميها النصوص القطعية ، إنما اختلفوا في النصوص الظنية، يقول الدكتور القرضاوى في فقه الأولويات:"لو شاء الله أن يجمع الناس على فهم واحد ورأى واحد لأنزل كتابه كله آيات محكمات وجعل النصوص كلها قاطعات".

ومن هذا يتضح معنى قول العلماء في "تفصيل ما لا يتغير وإجمال ما يتغير"

وعلى هذا يجب أن نعلم :

أولاً- أن الفقهاء لم يختلفوا في النصوص القطعية في ثبوتها وفى دلالتها من الكتاب والسنة المتواترة سواء كانت الأحكام الدالة عليها معلومة من الدين بالضرورة أو كانت مما خفى على بعض الناس كأنصبة المواريث مثلاً أو كانت من المقدرات الشرعية التي لا مجال للرأى فيها وثبتت بالسنة المتواترة كعدد الركعات في كل صلاة ومواقيت الصلاة وما شاكلها.

هذا بالإضافة إلى الإجماع الصريح المنقول إلينا بالتواتر والذي لا يجوز الاجتهاد معه بل ويكفر جاحد الحكم الثابت لهذا الإجماع القطعى إذا كان معلوماً بالضرورة في أحد أقوال ثلاثة للعلماء.

ثانياً-اختلفوا فيما كان ظنياً في ثبوته ظنياً في دلالته على الحكم وما كان من الأدلة ظنياً في ثبوته قطعياً في دلالته فهذا يقبل الاجتهاد أيضاً وما كان من الأدلة قطعياً في ثبوته ظنيا ًفى دلالته على الحكم وهذا يتمثل في آيات كثيرة من الكتاب العزيز تحتمل التأويل .

وهنا قد يعن سؤال لماذا لا تكون كل الأدلة قطعية؟ حتى لا تختلف الأنظار فيها فتتفرق الكلمة ، ويختلف الصف ولا تكون كلمة المسلمين واحدة ويقع الخلاف المفضي إلى النزاع وتفريق الكلمة؟

الحقيقة أن المسائل الأساسية في الدين سواء أكانت اعتقادية أو عملية والتى يكون الخلاف فيها مفضياً إلى التشتت والنزاع وتفريق الكلمة تأتى أدلتها قطعية –لا تحتمل التأويل- والاختلاف فيها اختلاف في الدين والله يقول (إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمْ وَكَانُواْ شِيَعًا لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ) وهذه دائرة لا يعذر فيها أحد باختلافه فيها بل يجب التعاون فيها كواجب مفروض على محاربة المخالف بالطرق الشرعية.

أما ما وراء ذلك من أحكام فليس الاختلاف فيها ضرراً أو مفسدة بل هو توسعة على الأمة في مجال الاختيار وفسحة أمامهم في طريق العمل يأخذون من هذه الأحكام ما يحقق مصالحهم ويتفق مع ما تتطلبه حياتهم ويرفع عنهم الحرج والضيق.

"بل كان هذا الاختلاف نفسه مصدر ثروة تشريعية عظيمة وتراث فقهى رائع يستوعب حاجات الناس في ظلال شريعة الإسلام الخالدة"

وهنا يظهر بوضوح الفرق بين الفرق الإسلامية والمذاهب الإسلامية.

الفرق بين الفرقة والمذهب : الفرقة هم أصحاب الاختلاف العقائدى والسياسى كالمعتزلة والشيعة والمرجئة والقدرية والجبرية وغيرهم فالاختلاف عندهم اختلاف في العقائد فالشيعة وهم فرق كثيرة اختلافهم كبير فيما يتصل بالعقائد والخوارج كَفَّروا بالكبيرة والمعتزلة قالوا بالمنزلة بين المنزلتين والمرجئة قالوا لا يضر مع الإيمان معصية كما لا ينفع مع الكفر طاعة والجبرية نفوا صفات الخالق حتى لا يشبه المخلوق والقدرية قالوا لا قدر والأمر أُنُف.

فهل يتساوى هؤلاء مع المذاهب التي لا تتنازع في الأصول ولا تختلف فيها فالنتائج في الأولى كبيرة والفروق شاسعة بينما الاختلاف في المذاهب وبين الأئمة في الفروع ونتائجها محدودة وأظهر هذا الاختلاف مرونة في هذا الدين إذ لو جاءت الشريعة كلها قطعية لجمدت وما اتسعت بعالميتها مشارق الأرض ومغاربها تشمل الزمان والمكان والأشخاص فأقوال الفقهاء بالنسبة للشريعة كمثل أغصان الشجرة تتشعب وتتفرع والأصل الذي انبعثت منه واحد والذي تتغذى منه واحد يغذى جميع الفروع والأوراق والأغصان المتفرعة ولذلك قال العلماء:

1-إن الأدلة لو جاءت قطعية كلها لكان في هذا حجر على العقول البشرية وفي هذا جمود الأفكار.

2-إلزام الناس كلهم في مشارق الأرض ومغاربها : بحكم موحد فيه حرج شديد وتضييق كبير فكان اختلاف الرأي في غير المسائل الأساسية توسعة على العباد وهذا ملحظ الإمام مالك t عندما رفض    أن يكون موطأه دستوراً للأمة الإسلامية حين عرض عليه المنصور أن يعلق الموطأ في الكعبة ويحمل الناس عليه حسماً لمادة الخلاف فرد الإمام مالك قائلاً : لا تفعل فإن الصحابة تفرقوا في الآفاق وردوا أحاديث أهل الحجاز التي اعتمدتها وأخذ الناس بذلك فاتركهم على ما هم عليه".

3-أن قطعية النصوص تجعلنا نقف عاجزين أمام المسائل المتجددة في كل عصر والتى يطلب الناس معرفة حكمها ولا يكون ذلك على الوجه الأكمل إلا إذا نظر المجتهدون في الظنى من النصوص واستنبطوا منها أحكاماً لما يجد من الحوادث وبذلك تتعامل الشريعة مع مصالح الناس في كل مصر وعصر .

ولو جاءت النصوص قطعية لقال قائل هلا جاءت مرنة حتى لا نكون أمام النصوص آلات لا إرادة لها ولا اختبار ولا إعمال عقل (أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ)

أقوال العلماء عن الخلاف  :واسمع ما قاله علماء السلف في قضية الخلاف الفقهى:

يقول عمر بن عبد العزيز : ما يسرنى أن أصحاب رسول الله r لم يختلفوا لأنهم إذ اجتمعوا على قول فخالفهم رجل كان ضالاً، وإذا اختلفوا فأخذ رجل بقول هذا ورجل بقول هذا كان في الأمر سعة.

ويقول الإمام أحمد : الخلاف سعة .

ويقول القاسم بن محمد بن أبى بكر : لقد نفع الله باختلاف أصحاب رسول الله r في العمل لا يعمل الواحد منهم إلا لأنه يرى في ذلك سعة .

ويقول يحيى بن سعيد : أهل العلم أهل التوسعة، وما برح المفتون يختلفون فيحل هذا ويحرم هذا فلا يعيب هذا على هذا .

ويقول الإمام الشاطبى: إن اختلافهم كان رحمة بالأمة .

ويقول الإمام النووى: إن المختلف فيه لا إنكار فيه ،ولكن ندبه على جهة النصيحة إلى الخروج من الخلاف فهو حسن محبوب مندوب إلى فعله برفق .

وعلق المحقق المقدسى على كلام الإمام النووى قائلاً : هو التحقيق الذي عليه جماهير العلماء من جميع المذاهب .

ويقول ابن تيمية : إن ما فيه خلاف إن كان الحكم المخالف يخالف سنة أو إجماعاً وجب الإنكار عليه وكذلك يجب الإنكار على العامل بهذا الحكم وإن كانت المسألة ليس فيها سنة ولا إجماع ولا اجتهاد فيه مساغ فإنه لا يُنكر على المخالف لرأى المنكر ومذهبه سواء كان المخالف مجتهداً أو مقلداً.

ولذلك قالوا : من لم يعرف اختلاف الفقهاء لم يشم رائحة الفقه

يقول الإمام الخطابى : الاختلاف في الدين ثلاثة:

1-فى إثبات الصانع ووحدانيته وإنكاره كفر .

2-فى صفاته ومشيئته وإنكارهما بدعة.

3-فى أحكام الفروع المحتملة وجوهاً فهذا جعله الله رحمة وكرامة .

ويقول أبو حنيفة : أعلم الناس هو أعلمهم باختلاف الناس لأن من ينظر للأمر من كل وجوهه يكون أجدر على الحكم فيه بالصواب والخطأ .

لا إنكار على المخالف في الفروع: لو فقه المسلمون هذه القاعدة "المختلف فيه لا إنكار فيه" لانتهت كثير من المعارك في غير ميدان.

يقول الإمام الغزالى :كل ما هو محل اجتهاد لا حسبة فيه

ولذلك رأينا الإمام أبو حنيفة يقول : هذا أحسن ما وصلنا إليه فمن رأى خيراً منه فليتبعه وحين سأله رجل أهذا الذي انتهيت إليه هو الحق الذي لا شك فيه قال الإمام : لا أدرى لعله الباطل الذي لا شك فيه.

وكان تلميذه أبو يوسف يكتب كل ما يقوله الإمام من فتاوى فقال له: ويحك يا يعقوب أتكتب كل ما أقوله إنى قد أرى رأياً اليوم فأخالفه غداً وقد أراه غداً فأخالفه بعد غد

قد أصاب الإمام البنا حين قال : يجب أن نعلم أن الخلاف الفقهى في الفرعيات أمر ضرورى لابد منه إذ أن أصول الإسلام آيات وأحاديث وأعمال تختلف في فهمها وتصورها العقول والأفهام لذا كان الخلاف واقعاً بين الصحابة وأنفسهم وما زال كذلك وسيظل إلى يوم القيامة.

فهل اختلف الصحابة حقاً؟ نعم اختلفوا

أسباب اختلاف الصحابة : الذي لا خلاف فيه بين العلماء أن الصحابة رضوان الله عليهم قد أجمعوا على أن يستقوا الأحكام الشرعية من كتاب الله وسنة رسوله r وأن يحكموا بالرأى والاجتهاد في كل واقعة وقعت لهم ولم يجدوا لها نصاً فيهما وأحياناً كانوا يجمعون على ما وصلوا إليه من حكم وتكون المسألة من مسائل الإجماع الذي لا يجوز الخلاف فيه وأحياناً أخرى يبقى كل فريق عند رأيه وتبقى المسألة مختلفاً فيها قابلة للبحث والنظر والمناقشة والمشاورة.

والمسائل الخلافية بين الصحابة لا تعد ولا تحصى ابتداءًا من قصة بنى قريظة وأمر الرسول r لصحابته أن يصلوا العصر في بنى قريظة وخلافهم في ذلك إلى أمور أخرى كثيرة منها على سبيل المثال لا الحصر:

خلافهم في التلبية والتكبير فعن ابن عمر رضى الله عنهما قال : غدونا مع رسول الله r إلىعرفات منّا المكبر ومنّا الملبى.

فالشائع بين الحجيج أنه لا تكبير في عرفات، ولكن الجميع يلبى قال العلامة السندى في حاشيته على النسائى الظاهر أنهم كانوا يجمعون بين التلبية والتكبير فمرة يلبى هؤلاء ويكبر آخرون ومرة العكس والظاهر أنهم ما فعلوا ذلك إلا لأنهم وجدوا النبى r فعل مثله.

ولقد ذكر الحافظ بن حجر ما هو صريح في ذلك قال عند أحمد وابن أبى شيبة والطحاوى من طريق مجاهد عن معمر عن عبد الله قال خرجت مع رسول الله r فما ترك التلبية حتى يرمى جمرة العقبة إلا أن يخالطها بتكبير، فالأقرب للعامل أن يأتى بالذكرين جميعاً لكن يكثر التلبية ، ويأتى بالتكبير في أثنائها والله أعلم.

قول السندى رحمه الله مرة يلبى ويكبر آخرون وبالعكس وليس بلازم على هذا النظام بل يجوز أن كل واحد منهم كان يجمع التلبية والتكبير بغير هذا النظام والله أعلم.

ومثل خلافهم في رؤية رسول الله r ربه في الدنيا، تقول السيدة عائشة :"من زعم أن محمداً رأى ربه فقد أعظم على الله تعالى الفرية" ،وابن عباس ثبت  عنه هذا الحديث واختلف الصحابة في هذه القضية بين مثبت ومخالف.

قضية عذاب الميت ببكاء أهله أيضًا فيها خلاف بين العلماء والسيدة عائشة أنكرت أن يكون الأموات يسمعون أقوال أو سلام أهليهم عندما ندخل المقابر ونقف على قبر من نزور نقول السلام عليكم أهل الديار ،ماذا يحدث ؟ الرسول r ورد عنه أنه قال :"إن الله يرد عليه روحه ليرد السلام على أهله"، والسيدة عائشة أنكرت أن الأموات يسمعون بينما ورد أن الرسول r قال لمن سأله أيسمعوننا يا رسول ؟ قال :ما أنتم بأسمع لما أقول منهم وبالرغم من هذا فإن السيدة عائشة أولتها أى أنهم ليعلمون ما قلت لهم في الدنيا.

وكما يقول ابن تيمية : لو كان كل ما اختلف في شيء مسلمان تهاجرا لم يبق بين المسلمين عصمة ولا أخوة.

ولذلك لابد للفقيه أن يتوقف إذا وجد عقل السائل لا يدرك ما يقوله، كما أن عليه أن يؤخر البيان لحين الحاجة إليه فهذا سيدنا على رضوان الله عليه وأرضاه يقول : حدثوا الناس بما يعرفون ودعوا ما ينكرون أتحبون أن يُكذَّب الله ورسوله.

ويقول ابن مسعود ما من رجل يحدث قوماً حديثاً لا تبلغه عقولهم إلا كان فتنة لبعضهم ، وكذلك فإن ابن عباس رضي الله عنهما قال لمن سأله عن معنى قول الله (اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ) قال له : ما يؤمنك أنى لو أخبرتك بتفسيرها لكفرت.

وأيضًا يقول لمن سأله عن (تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ)  فقال هو يوم أخبر الله به الله أعلم

وحين خرج رجلان من الصحابة في سفر وحضرت الصلاة وليس معهما ماء فتيمما صعيداً طيباً ثم وجدا الماء في الوقت فاختلفوا، نعيد الوضوء ونصلى أم أننا أتينا بالفريضة ولا يجوز إعادة الصلاة ؟ فاجتهدوا فمنهم من قال إذا وجد الماء فلابد أن نعيد صلاتنا لأن الوقت مازال موجوداً وفيه سعة ومنهم من قال لا لقد أدينا الفريضة بالتيمم، فأقر رسول الله r الاثنين على ذلك .

وهذا عمار t يقول : أجنبت فلم أصب الماء فتمعكت بالصعيد وصليت فذكرت ذلك للرسول r فقال إنما يكفيك هكذا ،وأشار إليه وعلمه كيفية التيمم التي يجب عليه أن يفعلها.

وفيما يسمى ضالة الإبل، سأل رجل الرسول r عنها يقول له ماذا نفعل في ضالة الإبل التي لا نعرف صاحبها؟ فغضب رسول r وقال للسائل : "ما لك وما لها ،معها سقاؤها وحذائها " ترد الماء وتأكل الشجر حتى يلقاها ربها- مالكها وصاحبها- وظل الحال على ذلك في عهد الرسول r وجاء من بعده أبو بكر الصديق رضوان الله عليه وأرضاه حتى ذهب الأمر لسيدنا عثمان t فقد أمر أن تُعَرَّف ثم تباع فإذا جاء صاحبها أُعطى له ثمنها، وبالرغم من هذا النص إلا أن هذا اجتهاد للمصلحة ولرفع الحرج لأن الفتوحات في عهد عثمان t بدأت تزيد وبدأ يدخل في الإسلام من ليس منه وبدأت الانحرافات تظهر في داخل المجتمع، فلو تركنا ضالة الإبل فاحتمال وجود من يأخذها ويسافر بها إلى بلد آخر ويبيعها فلكي يحفظ لمالكها حقه قال نبيعها ونحتفظ بثمنها. ولما جاء سيدنا على t أقام لها مربضًا (المعلف) خاصًا بالضوال، تعلف وتسمن وتأكل وتشرب ويحافظ عليها من مال بيت المال ، فإذا جاء صاحبها وأقام البينة على ملكيته لها أخذها وضمها إلى إبله.

ولو انتقلنا إلى العبادات لوجدنا الخلاف في فروع المسائل بين الصحابة لا عد له ولا حصر بل إن هناك ما سماه العلماء بالخلاف المعضل وإليك مثال منه فلقد جرت العادة أننا ننبه الناس في صلاة الجنازة ونقول صلاة الجنازة أربع تكبيرات الأولى نقرأ الفاتحة والثانية الصلاة على الرسول r والثالثة الدعاء للميت ثم الدعاء لأموات المسلمين،و هذا رأي الجمهور فإذا بالإمام أبو حنيفة يخالف الجمهور ولا يجوّز قراءة القرآن في صلاة الجنازة ويقول كل التكبيرات الأربع يتخللها الدعاء فحسب وكذلك قصة الطلاق الثلاث، أمضاه عمر بن الخطاب على خلاف ما كان عليه الأمر قبله فعن طاووس عن ابن عباس أنه قال : كان الطلاق على عهد رسول الله r وأبى بكر وسنتين من خلافة عمر طلاق الثلاث واحدة ، فقال عمر بن الخطاب إن الناس قد استعجلوا أمراً كان لهم فيه أناة لو أمضيناه عليهم فأمضاه عليهم.

أيضًا اختلفوا في صلاة التراويح، جاء قيام رمضان وصلى رسول الله r بصحابته جماعة ثم ترك ذلك مخافة أن توجب عليهم، فصلاها الناس فرادى في زمان رسول الله r وأبى بكر وصدراً من خلافة عمر فخرج  عمر ليلة فرأى الناس أوزاعاً في المسجد فقال لو اجتمعتم على إمام فأمر أبى بن كعب فصلى بهم ثم خرج ليلة أخرى فرآهم مجتمعين على أبى بن كعب فصلى بهم.

اختلافهم في صلاة الكسوف والخسوف : ذكر الإمام مسلم في رواية ابن عباس أنها الركعتان في كل ركعة  ثلاث ركعات، ومن رواية ابن عباس وعلى فكل ركعة أربع ركعات، وقال الشافعى إنها ركعتان في كل ركعة قيامان وقراءتان وركوعان وأما السجود فسجدتان كغيرهما وقال الكوفيون هما ركعتان كسائر النوافل عملاً بظاهر الحديث الذي رووه.

بل في راوية أبى بن كعب ركعتين في كل ركعة خمس ركعات وقد قال بكل نوع من هذه الهيئات بعض الصحابة

قال الشوكانى إن صح تعدد الواقعة أن الأحاديث المشتملة على الزيادة الخارجة من مخرج صحيح يتعين الأخذ بها لعدم منافاتها للمزيد وإن كانت الواقعة ليست إلا مرة واحدة فالمصير إلى الترجيح أمر لابد منه، وأحاديث الركوعين أرجح.

قال الحافظ ابن القيم رحمه الله في الهدى وذهب جماعة من أهل الحديث إلى تصحيح الروايات في عدد الركعات وحملوها على أن النبى r فعلها مراراً وأن الجميع جائز، أضف إلى ذلك اختلافهم في حكم النائم هل ينقض وضوؤه أم لا؟وهم في هذا على ثمانية مذاهب كما ذكر الإمام النووى وكذلك اختلافهم في أحكام الصيام وما يجوز فيه الزكاة ومسائل كثيرة لا نستطيع أن نحصيها في فروع العقيدة والعبادة والشريعة.

وبالرغم من أن مصادر تشريعهم كانت واحدة إلا أنهم اختلفوا في جزئيات تتعلق بهذه المصادر و تبيان ذلك.

أولاً- بالنسة للقرآن الكريم كانت أسباب خلافهم في هذا المصدر ترجع إلى :

1-ما كان يسبب تعارض النصوص واجتهادهم في دفع هذا التعارض .

مثال: خلافهم في عدة الحامل المتوفى عنها زوجها وقد قال عمر بن الخطاب وابن مسعود رضى الله عنهما أن الحامل المتوفى عنها زوجها تعتد بوضع الحمل وقال ابن عباس رضى الله عنهما تعتد بأبعد الأجلين.

والمسألة كما رآها الصحابة فيها نصان قوله تعالى (وَأُوْلَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَن يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ) وقوله تعالى (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا) .

ولهذا اختلفوا فهماً بالرغم من أن الرسول r حكم في قضية سبيعة الأسلمية مبيناً لرفع هذا التعارض فقد قتل زوجها وبعد ليال وضعت حملها فأحلها النبى r للأزواج .

ولقد حكم ابن عباس بما حكم به لأنه لم يصل إليه حديث سبيعة ولهذا أرسل غلامه كربياً إلى أم سلمة –بعد وقوع نقاش في هذه القضية – فأخبرته بما وقع لسبيعة الأسلمية.

فالخلاف قد يرجع من جهة أخرى إلى السنة فالبعض لم يسمع الحديث والبعض سمعه واختلفا.

2-ما كان بسبب فهمهم للفظ المجمل مثل تردد اللفظ بين معنيين كخلافهم في عدة المطلقة الحائض فقد أفتى ابن مسعود ووافقه عمر بأنها لا تخرج من عدتها إلا إذا اغتسلت من الحيضة الثالثة ومنشأ الخلاف اختلافهم في فهم لفظ (القرء) الوارد في قوله تعالى (وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ قُرُوَءٍ) فهل القرء الوارد في الآية هو الحيض أم هو الطهر ولما كان (القرء) من الألفاظ المشتركة لذا كان الأمرين صواباً.

3-ما كان بسبب وقوف بعضهم عند ظاهر النص والبعض الآخر نظر إلى المعنى المقصود من تشريع الحكم فقد أفتى ابن عباس فيمن ماتت عن زوج وأبوين بأن للزوج النصف وللأم الثلث وللأب الباقى تعصيباً تمسكاً بظاهر قوله (فَإِن لَّمْ يَكُن لَّهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلأُمِّهِ الثُّلُثُ) وقال زيد بن ثابت وبقية أعلام الصحابة : لها الثلث ما بقى بعد فرض الزوج نظراً للمعنى المقصود من تشريع الحكم لأن الأم والأب ذكر وأنثى ورثا بجهة واحدة فللذكر مثل حظ الأنثيين شأنهما في ذلك شأن الأولاد وغيرهم.

4-ما كان بسبب وقوف البعض عند ظاهر النص ولم ير له مخصصاً بينما يرى البعض الآخر أنه مخصص كموقف ابن عباس من قوله تعالى في شأن البنات (فَإِن كُنَّ نِسَاء فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ) فيرى أن البنات لا يأخذن الثلثين إلا إذا كان عددهن فوق اثنتين عملاً بظاهر الآية وغيره يرى أن البنتين فصاعداً يأخذن الثلثين أما البنتان فبالقياس على الأختين حيث يقول الله فيهما (فَإِن كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ) وأما ما فوق الاثنين فبالنص.

5-ما كان بسبب موقفهم في بيان الإجمال في التراكيب فقد أفتى عبد الله بن مسعود إذا آلى –الإيلاء- الرجل من زوجته ومضت أربعة أشهر دون أن يفيء – يرجع -  فقد طلقت منه طلقة بائنة وزوجها خاطب من الخطاب وأفتى غيره بأنها لا تطلق بمضى المدة بل يؤمر الزوج بعدها بالفيء أو التطليق.

ومنشأ الخلاف هو فهمهم لقوله تعالى (لِّلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِن نِّسَآئِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَآؤُوا فَإِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ، وَإِنْ عَزَمُواْ الطَّلاَقَ فَإِنَّ اللّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) فكان الحكم حسب فهم كل منهم وكلاهما على صواب.

 

 

ثانياً- بالنسبة للسنة النبوية يرجع الاختلاف فيها إلى أسباب كثيرة منها:

1-ما كان بسبب عدم سماعهم للحديث لعدم تفرغ بعضهم للسماع فهم مشغولون بمعايشهم وأحوالهم وجهادهم وأعمالهم ولهذا نرى البعض يسمع الحديث والبعض لا يسمعه كما حدث في حديث سبيعة الأسلمية السابق ذكره.

2- ما كان بسبب ردهم للحديث لعدم الثقة في الراوى فقد توقف أبو بكر t في خبر المغيرة في ميراث الجدة وطلب الاستظهار بقول راو آخر فلما ثبت عنده قضاء رسول الله r فيها قضى به.

3- ما كان بسبب عدم علمهم بالنسخ فيعمل البعض بالحديث وهو لا يعلم بنسخه.

4-ما كان بسبب معارضة الحديث لما هو أقوى منه.

5-ما كان بسبب تغير أحوال الناس فقد قال ابن عباس t كان الطلاق على عهد رسول الله r وأبى بكر وسنتين من خلافة عمر طلاق الثلاث واحدة، فقال عمر إن الناس قد استعجلوا في أمرٍ كان لهم فيه أناة فلو أمضيناه عليهم فأمضاه عليهم.

أي لما تغيرت أحوال الناس لأنهم كانوا يستعملون الطلاق على الوجه الذي شرعه الله ويفهمون الحكمة من جعله ثلاثاً فلما استعملوا ما جعل الله لهم فيه الأناة عجل لهم عمر بحكمه بإيقاع الطلاق الثلاث في مجلس واحد فهو عمل بالمصلحة.

6-ما كان بسبب اختلافهم في فهم السنة بعد ثبوتها ومن ذلك اختلافهم في الرّمل في الطواف هل هو سنة أو كان سياسة حركته لإرهاب المشركين وإذهاب ما في نفوسهم من ظن أن حمى يثرب أثرت في المسلمين والذى يؤيد أنه سنة أن رسول الله r فعله في حجة الوداع فكان سببه ما ذكرناه ثم أصبح سنة متبعة.

ثالثاً-ما كان بالاجتهاد في الرأى :

وها هو ذا ابن تيمية في كتابه "اقتضاء الصراط المستقيم" يقول:

أنواع الاختلاف قسمان : اختلاف تنوع – واختلاف تضاد.

اختلاف التنوع: وهو على وجوه منه ما يكون كل واحد من القولين أو الفعلين حقاً مشروعاً كما في القراءات التي اختلفت فيها الصحابة حتى زجرهم رسول الله r عن الاختلاف بقوله r "كلاكما محسن" فعن عبد الله بن مسعود قال : سمعت رجلاً يقرأ آية سمعت النبى r يقرأ خلافها فأخذت بيده فانطلقت به إلى النبى r فذكرت ذلك فعرفت في وجهه الكراهة وقال "كلاكما محسن ، ولا تختلفوا فإن من كان قبلكم اختلفوا فهلكوا" فالرسول r هنا ينهى عن الخلاف الذي فيه جحود ونكران ولأن كلا المختلفين على صواب وحق.

ومثله اختلاف الأنواع في صفة الأذان والإقامة والاستفتاح والتشهدات وصلاة الخوف وتكبيرات العيد وتكبيرات الجنازة إلى غير ذلك مما شرع جميعه.

وإن كان يقال إن بعض أنواعه أفضل فنجد الاختلاف في مثل هذه الأمور بسبب الجهل أو الهوى لأحد هذه الأنواع والإعراض عن الآخر والنهى عنه وهذا ما نهى عنه رسول الله r.

ومنه ما يكون المعنيان غيرين لكن لا يتنافيان فهذا قول صحيح وذاك قول صحيح وإن لم يكن معنى أحدهما هو معنى الآخر وهذا كثير في المنازعات جداً.

ومنه ما يكون طريقين مشروعين ولكن قد سلك رجل أو قوم هذه الطريقة ، وآخرون قد سلكوا الأخرى وكلاهما حسن في الدين ثم الجهل أو الظلم يحمل على ذم أحدهما أو تفضيله بلا قصد صالح أو بلا علم أو بلا فقه.

اختلاف التضاد : وأما اختلاف التضاد فهو القولان المتنافيان إما في الأصول وإما في الفروع عند الجمهور الذين يقولون "المصيب الواحد" وإلا فمن قال "كل مجتهد مصيب" فعنده : هو من باب اختلاف التنوع لا اختلاف التضاد.

فهذا الخطب فيه أشد لأن القولين يتنافيان لكن نجد كثيراً من هؤلاء قد يكون القول الباطل الذي مع منازعة فيه حق ما أو معه دليل يقتضى حقاً ما فيرد الحق في هذا الأصل كله حتى يبقى هذا مبطلاً في البعض كما كان الأول مبطلاً في الأصل كما رأيته لكثير من أهل السنة في مسائل القدر والصفات والصحابة وغيرهم وأما أهل البدع فالأمر فيهم ظاهر.

ولك أن تتصور أن الخلاف في فروع المسائل قد يصل إلى ثمانية آراء يقول الإمام النووى في شرح مسلم اختلف العلماء في مسألة النوم الذي ينقض الوضوء إلى مذاهب عدة ثم عددها إلى ثمانية مذاهب فضلاً عن صلاة الضحى والقنوت وغير ذلك من أمور الفروع.

بل إن قضية كقضية تارك الصلاة فيها ثلاثة آراء فمنهم من قال : يكفر إذا تركها جحوداً ونكراناً ومن تركها وهو معذور لقرب عهده بالإسلام أو لأنه نشأ في بادية فإنه لا يكفر ويُعلم أحكامها فإن أنكر بعد ذلك كفر وأقيم عليه الحد، ومن تركها كسلاً حتى يخرج الوقت فقيل يكفر وقيل لا يكفر ولكل دليله ولك أن تعلم أن الجمهور يقول بعدم كفره.

ومن الفقه أن تعلم أن من الاختلاف ما هو قريب كاختلاف العلماء في أمر هل هو سنة أو واجب ؟ كالاختلاف في ترتيب أعضاء الوضوء فمن العلماء من يقول إنه واجب ،  ومنهم من يقول إنه سنة، والكل متفق على أنه مشروع أصلاً وكان الاختلاف في كون الشيء أو الفعل حراماً أو مكروهاً مع الاتفاق أصلاً على عدم مشروعيته، كخطبة الجمعة من خطيب غير متوضأ فهو حرام عند جماعة ومكروه عند آخرين .

ومنه ما هو اختلاف تنوع – كما ذكر ابن تيمية – وهذا وإن كان أحدهما أرجح من الآخر فمن فعل المرجوح فقد فعل جائزاً.

فهذا النوع من الاختلاف دال على الإباحة والتوسع على العباد وكل الأقوال جائزة وإن كان البعض يفضل قولاً على آخر.

ومن الاختلاف أنواع متباعدة كالاختلاف في أمر هل هو سنة أومكروه؟ وكالاختلاف في أمر هل هو واجب أو محرم؟ فمن النوع الأول رفع اليدين عند كل تكبيرة من تكبيرات صلاة العيد، مستحب عند البعض ، ومكروه عند البعض،  ومن أمثلته أيضًا الصلاة على النبى r في التشهد مستحب عند البعض مكروه عند الآخرين.

ومن النوع الثانى وهو ما كان الاختلاف فيه في أمر هل هو واجب أم حرام؟ وهذا ما عبر عنه بعض العلماء بأنه أخطر أنواع الخلاف ومن أمثلته قراءة الفاتحة في صلاة الجنازة بعد التكبيرة الأولى واجب عند الشافعية والحنابلة تبطل الصلاة بتركها وأما عند الأحناف حرام ويأثم المصلى إذا قرأها ومن أمثلته أيضًا رفع اليدين عند الركوع والرفع منه فهو واجب عند البعض محرم عند البعض الآخر ، قال الحافظ ابن حجر بعد أن ذكر الخلاف في ذلك ومستمسك كل قول ومقابل هذا قول بعض الحنفية إنه يبطل الصلاة ونسب بعض محققيهم كما حكاه ابن دقيق إلى تركه درءاً لهذه المفسدة .

وإليك ما روى عن عبد الوارث بن سعيد أنه قال: قدمت مكة فألفيت فيها أبا حنيفة وابن أبى ليلى وابن شبرمة فأتيت أبا حنيفة فقلت : ما تقول في رجل باع بيعاً وشرط شرطاً ؟ فقال البيع باطل والشرط باطل، وقال ابن أبى ليلى : البيع جائز والشرط باطل وقال ابن شبرمة : البيع جائز والشرط جائز ، فقلت : يا سبحان الله ثلاثة من فقهاء العراق لا يتفقون على مسألة ثم ذكر الحديث الذي احتج به كل من الفقهاء الثلاثة ليعضد كلٌ رأيه.

والواجب علينا أن نقبل الخلاف ونسعه ما دام معتبراً بل ونرحب به لأنه من أبواب الوصول إلى الحق والجدير بالذكر أنه كما اختلف الصحابة رضوان الله عليهم في فروع المسائل اختلف كذلك التابعون والأعلام واختلف من بعدهم الفقهاء المتقدمون فما زادت الثروة الفقهية من هذا الخلاف المعتبر إلا حضارة شهد لها الجميع.

حكم القاتل المكره:

أي الذي أكرهه آخر على القتل وهو الذي يقتل إنسان بغير حق خضوعاً وإذعاناً لمن أكرهه (مسألة في الفقه)، يقولون : هل في هذا القتل قصاص أم لا ؟ وممن يكون القصاص ؟

أربعة أقوال ذهب إليها الفقهاء :

من قال القصاص على القاتل المكرَه؛ لأنه لم يكن له أن يسمع للآخر ولو أدى إلى قتله هو نفسه ،لأنه هو الذي باشر القتل ولم يكن له أن ينقذ نفسه بقتل غيره.

الرأي الثاني: القصاص على المكرِه لأن القاتل مُكرَه، وقد كان بمثابة الآلة.

الرأي الثالث: لا قصاص على أي منهما لأن شروط القتل لم تتوفر في الاثنين؛ لأن جناية كل منهما لم تكتمل ولم تستوفى العناصر المطلوبة للقتل العدواني.

الرأى الأخير : القتل عليهما معاً .

ثروة في الفقه واتساع ومرونة وتجدد وعطاء في هذا الجانب مع ثبات الأمور القطعية التي تمثل هوية الأمة الإسلامية لو فقه الشباب المسلم هذا الأمر لتعاونوا فيما اتفقوا عليه ولعذر بعضهم بعضاً فيما اختلفوا فيه ولجمعوا بذلك بين  الأصالة والمعاصرة.

ونختم بأمر نحب أن ننبه إليه لكي يستبين لك ما يفعل أعداء الإسلام ، وتأمل فيما قاله ريتشارد ميتشل ، وقد كان رئيس هيئة الخدمة السرية في المخابرات الأمريكية فضمن ما وصى به قومه لغزوا المسلمين كما قال:"تعميق الخلافات المذهبية والفرعية وتضخيمها في أذهانهم".

كي نرى أن بعض إخواننا الشباب المسلم غير مدرك للمؤامرة وتجدهم يكتبوا الكتب يهاجموا فيها العلماء.

وهذا وليام جيفارد يقول:"متى توارى القرآن ومدينة مكة عن بلاد العرب يمكننا أن نرى العربى يتدرج في طريق الحضارة الغربية بعيداً عن محمد وكتابه".

إنه بمجرد توقف الفكر وانحسرت الآراء وانعدم النظر في الأحكام وعم التقليد وحرم الاجتهاد حتى نكصت الحضارة الإسلامية على عقبيها وعقمت الثقافة الإسلامية من كل مجتهد فيها وأصبح المسلمون على ما نراهم اليوم ولا حول ولا قوة إلا بالله العلى العظيم يثيرون قضايا جميعها يدخل في دائرة المختلف فيه : ابتداءاً من اللحية مروراً بالحجاب والنقاب والقنوت والموسيقى والتمثيل والشرب وقوفاً وقعوداً والتبول وقوفا ًوقعوداً وتكبيرات العيدين ودخول مجلس الشعب ودخول المقبرة حافى القدمين ولولا أن المجال لا يتسع لعددت هذه القضايا التي تدخل جميعها في دائرة الاجتهاد أي أنها ليست قطعية بما فيها حكم اللحية والحجاب والنقاب فالمهم أن يعلم المسلمون بوجه عام الشباب بوجه خاص أن هناك منطقة لا اجتهاد فيها هي منطقة القطعيات -  وقد بيناها بتوفيق الله وهذه المنطقة هي التي تجسد الوحدة الفكرية والسلوكية للأمة فلا يجوز أن تدخل دائرة الاجتهاد بل يتعاون الجميع على وجوب تنفيذها وأما غيرها من المناطق الشرعية فهى محل اجتهاد وخلاف بين العلماء بما فيها الموضوعات التي أشرنا إليها فلا يصح أن تكون سبباً للفرقة والتخاصم والتدابر ونخلق ميدانًا للقتال فيما بيننا ونترك أعداء الإسلام يشجعون هذه الخلافات بل ويغذونها حتى تكون الحالقة لا أقول تحلق الشعر ولكن تحلق الدين وذلك لأن أكثر الجهل إنما يقع في نفى ما عليه الآخرين وجحوده وتكذيبه لا في إثبات ما هو عليه وأحاط به، لأن إحاطة الإنسان بما يثبته أيسر من إحاطته بما ينفيه عن غيره.

نريد الوعي مع فهم الإسلام لندرك ما قاله رشيد رضا وجاء الإمام البنا يؤكده في هذه المقولة الذهبية : نتعاون فيما اتفقنا عليه ويعذر بعضنا بعضاً فيما اختلفنا فيه

ورضوان الله على الإمام البنا حين قال "إن الخلاف أيها الإخوان قد يتناول فروع الأعمال والعبادات ولا يرقى بحال إلى مرتبة العقيدة وصحيحها وهذا الخلاف لا يحرج صدراً ولا يؤذى أحداً وأمره دائر بين خطأ وصواب فإذا عرفنا أن المخطئ والمصيب مأجوران هان الخطب واستطعنا في ظل الإخاء والحب أن نصل إلى الحقيقة واستطاع الحكم الشرعي أن يرفع الخلاف..."

ثم يقول ومن الخلاف أيها الإخوة ما يتصل بالعقيدة وصحيحها ومصدره عدم تحديد العبارات وعدم تعرف المقاصد والجمود على عبارات ومصطلحات لم يتعبدنا الله تبارك وتعالى بالجمود عليها وأعتقد أيها الإخوان لو حددت العبارات وتعرف كل فريق على مقاصد الآخر ولم يتقيد بعبارات ومصطلحات خاصة ما دام المعنى المقصود سليماً وأعتقد أننا لو فعلنا ذلك وحاولنا التقريب بين وجهات النظر لاستطعنا الجمع بين الآراء المتنافرة والفكر المتخالف ولوصلنا إلى نتيجة محمودة أقلها أن نخرج من حيز كفر وإيمان إلى حيز خطأ وصواب.

فهل أخطأ البنا حين قال نتعاون فيما اتفقنا عليه – من الأصول والعقائد والأمور القطعية التي لا تحتمل تأويلاً ولا اجتهاداً – ويعذر بعضنا بعضاً – في الأمور الخلافية الظنية الاجتهادية – أحسب أنه كان موفقاً بتوفيق الله حين قال : "والخلاف الفقهى في الفروع لا يكون سبباً للتفرق في الدين ولا يؤدى إلى خصومة ولا بغضاء ولكل مجتهد أجره ،ولا مانع من التحقيق العلمى النزيه في مسائل الخلاف في ظل الحب في الله والتعاون على الوصول إلى  الحقيقة من غير أن يجر ذلك إلى المراء المذموم والتعصب " فجزاه الله عنا خير الجزاء.


الأصل التاسع

قيمة الوقت في القول السديد والعمل السليم

"وكل مسألة لا ينبنى عليها عمل فالخوض فيها من التكلف الذي نهينا عنه شرعاً، ومن ذلك كثرة التفريعات للأحكام التي لم تقع والخوض في معانى الآيات القرآنية التي لم يصل إليها العلم بعد، والكلام في المفاضلة بين الأصحاب y وما شجر بينهم من خلاف، ولكل منهم فضل صحبته وجزاء نيته وفى التأول مندوحة" .

هذا الأصل يعالج :

1-عدم الخوض في  المسائل التي لا ينبنى عليها عمل.

2-قيمة الوقت بالنسبة للمسلم.

3-آفات اللسان وإمساكه.

4-عدم الخوض والكلام في المفاضلة بين الأصحاب .

هذا أصل في التربية عظيم يعتمد أساساً على جانب من جوانب تربية الإنسان المسلم ويبرزه ذلك لأن الإسلام عنى عناية فائقة بالفرد المسلم تربيةً لأن أداة التغيير، هي الإنسان الصالح ولذلك رأينا في الفترة المكية عناية القرآن  المكي كله بتعميق معاني العقيدة وتغيير السلوك وربط الإنسان برباط قوي بالله I ولا شك أن شخصية المسلم الذي كلفه المولى I بحمل الرسالة شخصية سوية متوازنة ومتكاملة في كل شيء ، في خلقها وعبادتها وسلوكها وحركتها وتعاليمها ولكى تكتمل هذه الشخصية كان لابد أن تصطبغ توجيهاتها وسلوكها بصبغة كتاب الله الذي (لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ) هذا الكتاب الذي تعهد بالفرد تربية وبالأسرة ترابطاً والأمة بناءً، والحضارة إبداعًا وذلك لأن المسلم صاحب رسالة من أجلها خلق (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) فهو شخصية عابدة عاملة جادة تعمر الكون بمنهاج الله I له رسالة مجيدة ودور عظيم في هذا الوجود الذي يعيشه فهو لا يعرف لهواً ولا لغواً ولا عبثاً ولا هراءً ولا جدلاً ولا مراء ينشغل بعظائم الأمور ويترك سفاسفها فجميع سلوكه وتكاليفه من توجيهات الله I وأوامره وذلك من المهد إلى اللحد وهو مطالب بأن تكون حركاته وسكناته لله رب العالمين لا شريك له ولذلك فهو يخضع له جوارحه للمحاسبة فيحاسب العين على ما ترى والأذن على ما تسمع واليد على ما امتدت والرجل على ما سعت والبطن على ما حوت والعقل فيما يفكر حتى يطرد منه الخواطر السيئة ليكون عبداً خالصاً لله I في كل أمراً من أموره، ومن أجلها اكتمال هذه الشخصية أنزل الله على رسوله r كتاباً عرفنا جميعاً أموراً أربعة.

1-عرفنا بربنا لنعبده.

2-وعرفنا بأنفسنا حتى لا نغتر وحدد لنا العلاقة التي يجب أن تكون بين العبد وربه واضحة وضوح الشمس في رابعة النهار لكي يقوم بالدور المنوط به فها هي الملائكة حين قال لها ربها (إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ، وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاء كُلَّهَا) فبين لنا المولى من خلال هذا الموقف القرآني أنه سبحانه علم آدم الأسماء كي يتعامل مع ذاته، ومع بنى جنسه، ومع الطبيعة والكون الذي يعيش فيه.

3-وعرفنا بالكون الذي نتعامل معه لنسخره.

4-وعرفنا بالمصير الذي سنصير إليه، إما إلى جنة إن هو أجاد هذا الدور وأدى الرسالة على وجهها الصحيح بفعل المأمور وترك المحظور والصبر على المقدور وأطاع الله I في سره وعلانيته في كل أمر من أمور حياته حتى يقول (إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ)، أو إلى نار –أعاذنا الله منها-إن عصى الإنسان الله تعالى وأطاع شيطانه وهواه.

والإنسان في هذه الدنيا يكد ويتعب ويجتهد ويجاهد ليجد ثمرة عمله هناك في يوم لا ينفع فيه مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم (يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ) والكدح هذا مرتبط بعمره ومدة أجله.

ومن هنا فإن الوقت عنده له قيمة وهو عند المسلم هو الحياة " ما إن ينبثق فجر يوم جديد إلا وينادى مناد يا ابن آدم أنا خلق جديد وعلى عملك شهيد فاغتنمني فإني لا أعود إليك أبداً إلى يوم القيامة " ولذلك لكي يحقق هذه الغنيمة فإنه لا يقوم بعمل ولا يقول قولاً إلا وهو يحاسب نفسه قبل أن يحاسب (مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ) .

الوقت ليس من ذهب : إن الوقت بالنسبة للمسلم ليس من ذهب كما يقول الذين يقيسون الوجود من الناحية المادية ولكنه الحياة لأن حياة الإنسان في هذا الوجود هي الوقت الذي يمضى بين الوفاة والميلاد فقد يذهب الذهب وينفد ولكنك تستطيع الحصول عليه بعد ذلك بل وأن يكون معك منه أضعاف ما فقدت ولكن الوقت الذاهب والزمن الفائت لا تستطيع له إعادة أو إرجاعاً.

ولذلك كان أعظم تعرضاً للخسارة والإخفاق أولئك المضيعون لوقتهم الغافلون عن رسالتهم (وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِّنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ) ، فالغافل معطل هذه الجوارح ضاع منه وقته ضاع منه يومه ضاع منه نهاره وضاع منه ليله وبالتالي ضاعت منه حياته وسيأتى في هذا اليوم نادماً على الغفلة التي أصابته أما المسلم اليقظ فدائماًً في طاعة لله Iآناء الليل وأطراف النهار ولذلك كان من دعاء الصديق t "اللهم لا تدعنا في غمرة ولا تأخذنا على غرة ولا تجعلنا من الغافلين" ومن هنا سأل ربه (اللهم إنى أسألك  البركة في الأوقات وإصلاح الساعات) ذلك بأن  اللحظات والثوانى والدقائق والساعات والأيام إما أن تكون لك أو عليك فإن كانت لك فهى الصديق الودود وإن كانت عليك فهى العدو اللدود.

ولذلك كان على المسلم أن يبتعد عن  الأمور الآتية.

الأمر الأول: الثرثرة وعدم إمساك اللسان؛ وذلك لأن المسلم واجباته أكثر من أوقاته فلا ينبغي عليه أن يضيع شيئاً منه ليؤدي رسالته وهو يبلغها للناس فما أحوجه إلى وقت لتعلم البيان بالإضافة إلى حاجته للتعلم كيفية عرض هذا التبيان الذي يقدمه للناس مقتد برسول الله r الذي قال له ربه (وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ) فالمسلم بالتبعية له دوره في تبيان هذه الرسالة، ونشر الدعوة، وشرح مفاهيمها، وشرح عقيدتها وعبادتها وضوابط حركتها ففي كل أمر من الأمور هو مطالب بالتبليغ والتوضيح ولذلك فإننا كأصحاب دعوة نبتعد عن الثرثرة والكلام الذي لا طائل تحته بأى شكل من الأشكال نلتزم بقول ربنا I (لاَّ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاَحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتَغَاء مَرْضَاتِ اللّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا) والمسلم الجاد الذي يرغب في الاستفادة بوقته دائماً يسأل نفسه قبل أن يتكلم : هل هناك داعٍ لهذا لكلام ؟ وما فائدة هذا القول ؟ وما هو مردوده التعبدي والدعوي ؟ فيمسك لسانه عن الثرثرة.

ويقول ابن مسعود t "والذي لا إله غيره ما على ظهر الأرض شيء  أحوج إلى طول سجن من لسان" ويقول عبد الله بن عباس y :" خمس أحسن من الدُهم الموقذة -يعنى الجيد منها-، "لا تتكلم فيما لا يعنيك فإنه فضل ولا آمن عليك الوزر، ولا تتكلم فيما يعنيك حتى تجد له موضعاً فرب متكلم في أمر يعنيه قد وضعه في غير موضعه فَعِيب"  ويقول " ولا تمارى حليماً ولا سفيهاً فإن الحليم يغريك وإن السفيه يؤذيك واذكر أخاك إذا تغيب عنك بما تحب أن يذكرك به وأعفه عمن تحب أن يعفيك منه واعمل عمل رجل يرى أنه مجازٍ بالإحسان مأخوذاً بالإجرام".

استمع إلى نصيحة الرسول r لأبي ذر يقول :"عليك بطول الصمت فإنه مطردة للشيطان وعون لك على أمر دينك" لأن الثرثرة حبل في يد الشيطان يقود به الإنسان إلى كل شر، فيقوده إلى الغيبة والنميمة، وإلى الهمز واللمز ولذلك يقول الرسول r :"لا يستقيم إيمان عبد حتى يستقيم قلبه، ولا يستقيم قلبه حتى يستقيم لسانه".

الأمر الثانى: الإعراض عن اللغو فأولى مراحل الاستقامة الإعراض عن اللغو لأن الإنسان لا يكون مستقيماً إلا أن ينفض يديه مما لا شأن له به هذه أولى الاستقامة وألا يقحم نفسه فيما لا يُسأل عنه، لأن "من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه" فالبعد عن اللغو من أركان الفلاح.

وتدبر الآية التي تكلمت عن اللغو تجدها بين فريضتين ، بين الصلاة والزكاة يقول ربنا (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ، الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ، وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ، وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ) فأتى باللغو بين فريضتين ليبين أن الأمر جد خطير والمسلم الذي يصبو إلى الفلاح لاشك عليه  أن ينأى بنفسه عن اللغو؛ لأن الإنسان إذا شغل نفسه بعظائم الأمور لغى في سفسافها يقولr "إن العبد ليقول الكلمة لا يقولها إلا ليضحك بها الناس أو المجلس يهوى بها أبعد ما بين السماء والأرض" ويقول r :"يهوى بها أبعد ما بين السماء والأرض وإن المرء ليزل عن لسانه أشد مما يزل عن قدمه" فإذا تكلم المرء لا يتكلم إلا بما يرضى الرب وإذا قال للناس قال حسنا يقول ربنا (وَقُولُواْ لِلنَّاسِ حُسْناً) لأن القول الحسن هو الذي يحفظ المودة ويديم الصداقة ويمنع كيد الشيطان كما قال ربنا (وَقُل لِّعِبَادِي يَقُولُواْ الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ) ولا شك أن اللغو يوصلنا بالتبيعة إلى الجدل وهو لون من ألوان اللغو الذي لا طائل من تحته ولا من فوقه ولا شك أن الرسول r كما بين لنا أن المسلم  يعرض عن اللغو كذلك يمسك عن الجدل الذي لا يستفيد منه المسلم لأن ليس كل الجدل محرم أو مكروه بل هناك جدل محمود (وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) (وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ)

لما نزلت آية تحريم الميتة وكان المشركون يأكلون الميتة فجادلوا المسلمين في هذا التحريم وقالوا لهم "والله إننا نعجب من أمركم تأكلون ما تذبحون بأيديكم وتتركون ما قتله الله " فأنزل I (وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَآئِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ) وها هي ذا امرأة تجادل رسول الله r وسمعه المولى من فوق سبع سماوات (قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا) ومن هنا فليس كل الجدل مكروهاً أو ممنوعًا لأنه إذا كان يعود بالفائدة أو الوصول به إلى الحق أو تبيان بينة وتأكيد حجة فلا شك أنه في هذا الحال مرغوب ومطلوب، يقول رسول الله r :"أنا زعيم ببيت في ربض الجنة –أعلاها- لمن ترك المراء وهو محق" أو كما قال r فالمسلم يمسك لسانه ولا يحركه إلا بما ينفع إلا في حالة مداراة السفيه بشروط منها:

أولاً- أننا لا نعطى الدنية أبداً في حديثنا معه في ديننا بأى شكل من الأشكال فلنضبط النفس أمام عوامل استقرارها.

ثانياً: أن المولى I أجازه في القول الذي تعافه نفس المسلم حين يسمع الجهر بالسوء من القول (لاَّ يُحِبُّ اللّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوَءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلاَّ مَن ظُلِمَ) فإذا أراد أنه يقتص لنفسه ويرد على من أهانه فله الحق ولكن (وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ).

اللدد في الخصومة لا يجوز للمسلم أن يوصف بهذا الوصف لأنه يخشى من قول رسول الله r :"إن أبغض الرجال إلى الله الألد الخصم العنيد في الخصام "إذا خاصم فجر" كل هذا الذي ذكرناه من مداخل الشيطان ليقتل وقته ولذلك وجب على المسلم المحافظة على وقته واقتناص الفرص وانتهاز الساعات عبادة لله I ولذلك كان لابد له من تحصيلاً للعلم النافع الذي يملأ به وقته ولذا كان من دعاء الرسول r "اللهم إنا نسألك علماً نافعاً وقلباً خاشعاً ولساناً ذاكراً وعملاً متقبلاً وأعوذ بك من علم لا ينفع" ولما كان الوقت هو الحياة فإنه إذا لم يقض في طاعة الله قضي في معصيته وخير استفادة بالوقت هو تحصيل العلم النافع نقول العلم النافع لأن هناك علوم لا تنفع بل وتضر.

ولذلك قسم العلماء العلوم إلى :

1-علوم حث الإسلام على تعليمها وأمر بها وأوجب بذل الجهد والوقت في تحصيلها ، وهى علوم نافعة تفيده في تأدية رسالته واستخلافه في الأرض كعلم القراءة والكتابة والقراءات والتجويد والنحو الصرف والبلاغة واللغة والعلوم الكونية والكيمياء وعلم النبات وعلم الأحياء والهندسة والحساب والجغرافيا والتاريخ والصناعات المختلفة التي عليها قوام المجتمع وعمارته لأن المسلم مأمور بعمارة الكون أساساً يقول الشيخ الغزالى رحمه الله:" أننا لو حصرنا الآيات التي تتكلم عن العبادة والعقيدة لن تصل إلى ثلث القرآن بينما عمارة الكون وتنظيمه والنظر فيه والسعي فيه نجد أن معظم آيات القرآن شملت هذه النواحي لكي تعين المسلم على عمارة الكون وهو بتحصيلها عابد لله لأن معنى العبادة أشمل وأعم من أن تحصر العلوم في العلوم الشرعية والدينية.

2-علوم اختلفوا في جوازها كعلم المنطق فقد ذهب البعض إلى المنع المطلق والبعض الآخر إلى الجواز المطلق يقول الشيخ عبد الرحمن الأخضر في منظومته عن الحكم في علم المنطق:

فابن الصلاح والنووي حرما                وقال يوم ينبغي أن يعلما

والقولة المشهورة الصحيحة                جوازه لكامل القريحة.

ممارس السنة والكتاب                      ليهتدي به إلى الصواب

وعلى هذا فالسؤال لتحصيل هذه العلوم التي حث الإسلام على تعليمها وأمر بها أو التي اختلف في جوازها عند الذين يجوزون لا يعتبر خوضاً في باطل ولا مراءً ولا جدلاً طالما أن النية هي تحصيل العلم للاستفادة به.

3-العلوم التي لم يختلفوا في تحريمها قطعياً وذلك لضررها وخلوها من أي منفعة تعود على الإنسان كالسحر والرمل والكهانة والودع والتنجيم والشعوذة وكل ما كان سبباً لإثارة الشكوك أو تعلم ما ينشط إلى الشر أو يخدمه وما يثبط عن الخير أو ما يستعان به على الشر فالخوض فيها ليس من التكلف الذي نهينا عنه بل هو إثم عظيم وذنب كبير لا يحطه المولى عنه إلا بالتوبة وعدم الاشتغال فيها .

يقول الإمام الغزالى: العلم ثلاثة:

1-قسم محمود قليله وكثيره وهو العلم بالله صفاته وأفعاله وسننه في خلقه إلخ

2- قسم مذموم قليله وكثيره كالسحر والكهانة والنجوم والودع إلخ

3-قسم لا يحمد منه إلا بمقدار مخصوص مثل فروض الكفايات .

فعن عبد الله بن عمر رضى الله عنهما قال: قال رسول الله r :"العلم ثلاثة آية محكمة أو سنة قائمة أو فريضة عادلة وما سوى ذلك فهو فضل" .

ولذلك كان من منهج القرآن في التربية : أن نمسك اللسان فيما لا يعنينا وألا نتكلم إلا فيما يفيدنا وأن تكون مناقشاتنا وأسئلتنا ومجادلاتنا بالتى هي أحسن في كل ما يخدم دعوتنا ويحقق رسالتنا (وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ) ذلك لأن وقتك ثمين ومشاركتك في ضياعه إثم مبين.

أمة مجادلة:

لقد ضرب الله لنا المثل بأمة مجادلة هي أمة بنى إسرائيل لينبه المسلمين إلى أن اليهود قد احترفوا اللجاجة والجدل العقيم من قديم وهذا داء أصابهم وأراد القرآن أن ينفر المؤمنين من هذا الداء الوبيل حتى لا يكونوا مثلهم في المماراة واللجاج الباطل خاصة فيما يتعلق بشريعة الله تعالى حتى تتلقى بالقبول الحسن لا بالمماراة والجدل العقيم .

واسمع إلى القرآن وهو يقول (يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَن تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِّنَ السَّمَاء فَقَدْ سَأَلُواْ مُوسَى أَكْبَرَ مِن ذَلِكَ فَقَالُواْ أَرِنَا اللّهِ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ) الآية ... وما قصة البقرة منا ببعيد حين قال لهم موسى (إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُواْ بَقَرَةً) فكان الجدال والمراء واللجاجة (أَتَتَّخِذُنَا هُزُواً) ثم قالوا (إِنَّ البَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا) وفى قصة تحويل القبلة قالوا (مَا وَلاَّهُمْ عَن قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُواْ عَلَيْهَا)قال لهم الله (قُل لِّلّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَن يَشَاء إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ) وحين علموا أن جبريل هو الذي ينزل بالوحى قالوا ليته ميكائيل الذي ينزل بالنماء والخير.

وهذه دروس لأمة محمد r الذي قال لهم :"لتركبن سنن من كان قبلكم شبراً بشبر وذراعاً بذراع حتى إذا دخلوا جحر ضب دخلتموه " حتى لا يتركوا ما ارتكبه أهل الكتاب من أخطاء بجدلهم ومماراتهم.

وانظر إلى لفت أنظارهم حين سألوا عن الأهلة . يقول المفسرون في قوله تعالى (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأهِلَّةِ) سألوا رسول الله r فقالوا : يا رسول الله إن الهلال يبدو ضعيفاً ضئيلاً ثم يكبر إلى أن يصير بدراً ثم يأخذ في النقص.

-فلما كان السؤال لا ينبنى عليه عمل- أنزل الله I (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ) فعدل بهم I عن الانشغال بالسؤال عن جرم الهلال إلى الإخبار بما يترتب عليه خلق الهلال من المصالح والأحكام إذ هي المقصود الأعظم من خلق الهلال يقول الله I : (هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاء وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُواْ عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللّهُ ذَلِكَ إِلاَّ بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ)

إذ ما يفيد لو سألنا كما يسأل البعض عن أمور لا يبنى عليها عمل وأمور لا يجب السؤال عنها والتى سألها بعض الناس ودخلوا في منزلق خطير جداً كأصحاب الفرق الإسلامية والتى ضل بعضها بكلامها وأصبحت خارج الملة حين كفرت بالله I وحين تكلمت كلاماً عظيماً أخرجها من الملة، يقول العلماء ما فائدة أن تسأل عن الفرق بين الجوهر والعرض ؟ وما فائدة أن تسأل هل الصفات زائدة عن الذات أم لا؟ وما عدد أصحاب الكهف بالتحديد ؟ وكيف كلم الله موسى تكليماً، أكان الكلام باللفظ والصوت أم ماذا؟ كيف اتخذ الله إبراهيم خليلاً؟ وكيف انعقدت المودة بين الله وبينه؟ ما هي الشجرة التي أكل منها  آدم على التحديد؟ كيف تكلم الهدهد وماذا قال ؟ وبأي لغة؟ وهل نملة سليمان ذكر أم أنثى؟ كيف شق صدر رسول الله r وهل كان الإسراء بالجسد والروح أم بالروح فقط؟ أين والدا رسول الله r في الجنة أم في النار؟من هذا الذي أتى بعرش بلقيس ؟وما اسمه؟ من أمثال هذه الأسئلة التي لا تعد ولا تحصى وتثير جدلاً ولا ينبنى عليها عمل فهي لا ينبني عليها : حفظ العقيدة أو بيان أداء الفريضة أو تجنبنا الكبائر وتجعلنا نتسامى عن الصغائر أو تتصل بفعل المأمور وترك المحظور ...لا شك أنها من باب (وخضتم كالذى خاضوا) ومن هنا كان لابد للمسلم أن ينشغل بما يفيد. يقول الإمام مالك : أدركت هذا البلد –يقصد المدينة- وما عندهم علم غير الكتاب والسنة فإذا نزلت نازلة جمع الأمير لها من حضر من العلماء فما اتفقوا عليه أنفذوه وأما أنتم تكثرون المسائل - الأمور التي لم تقع بعد -وقد كرهها رسول الله r ..ولذلك وجدنا بعض العلماء -لا أقول ينهون عن الخوض في مثل هذه المسائل فهذا أمر متفق عليه - ولكن يكرهون المناظرات العلمية ويجعلون لها آداباً يجب على المسلم إن شارك فيها أن يلتزمها.

آداب المناظرة : كره بعض العلماء المناظرة والجدال في العلم واحتجوا بقول الله تعالى (مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا) وقوله (وَكَانَ الْإِنسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا) فلامهم على المجادلة وذمهم عليها.

وروت عائشة رضى الله عنها عن النبى r أنه قال "أبغض الناس إلى الله الألد الخَصِم" كما روى أبو أمامة الباهلى عن النبى r " ما ضل قوم بعد هدى كانوا عليه إلا أوتوا الجدل" وقال r :"دع المراء ولو كنت محقاً"

وقال بعض أهل العلم لا بأس بها إذا قصد بها ظهور الحق (وجادلهم بالتى هي أحسن) وقوله (فلا تمار فيهم إلا مراء ظاهراً) وقال تعالى (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَآجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رِبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللّهُ الْمُلْكَ) ...الآيات.

ولكنهم شرطوا شروطاً منها:

1-أن ينوى بالتعليم الخروج من الجهل.

2-أن ينوى به إحياء العلم لأن الناس لو تركوا التعلم لذهب العلم كما روى عن الرسول r قال :"تعلموا العلم قبل أن يرفع ورفعه ذهاب العلماء" .

3-أن ينوى منفعة الخلق لأن النبى r قال "خير الناس أنفعهم للناس" .

4-أن ينوى أن يعمل به لا بخلافه فالعلم بلا عمل وبال والعمل بلا علم ضلال.

5-أن يقصد وجه الله ولا يعجب بذاته فإن العجب كالرياء يقول الإمام الشافعى "وددت أن الخلق تعلموا هذا العلم حتى أن لا ينسب إلىّ حرف منه ويقول : ما ناظرت أحداً قط على الغلبة ووددت إذا ناظرت أحداً أن يظهر الحق على يديه".

6-أن يأخذ بوصية لقمان الحكيم لابنه ويلزم نفسه بما دلت عليه ولا يتجاوزها يقول :" لا تجادل العلماء فتهون عليهم ويرفضوك ولا تجادل السفهاء فيجهلوا عليك ويشتموك ولكن اصبر نفسك لمن هو فوقك في العلم ولمن هو دونك فإنما يلحق بالعلماء من صبر لهم ولزمهم واقتبس من علمهم في رفق"

فضول الكلام:

يقول الرسول r :"ألا هلك المتنطعون" "ثلاثاً" والمتنطعون المتكلفون ، يقول ربنا لرسوله r (قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ) .

لقد تربى الصحابة رضوان الله عليهم على عدم التكلف والتنطع يقول أنس t كنا عند عمر t فسمعته يقول: نهينا عن التكلف حتى أنه رضى الله عنه كان يمر يوماً فسقط عليه شيء من الميزاب ومعه صاحب له فقال يا صاحب الميزاب ماؤك طاهر أم نجس ؟ فقال عمر لا تخبره ومضى.

وصدق رسول الله r إذ يقول :"يحمل هذا العلم من كل خلف عدول ينفون عنه تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين"

ويقول الإمام النووى:"واعلم أنه ينبغى لكل مكلف أن يحفظ لسانه عن جميع الكلام إلا كلام ظهرت فيه  المصلحة وحتى الكلام وتركه في المصلحة فالسنة الإمساك عنه لأنه الكلام المباح قد يجر إلى حرام أو مكروه ولذلك قال r "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت".

وهذا صريح في أنه ينبغى أن لا يتكلم إلا إذا كان الكلام خيراً وهو الذي ظهرت فيه المصلحة ومتى يشك في ظهور المصلحة فلا يتكلم، فعن أبى هريرة t قال: قال رسول الله r "إن العبد ليتكلم بالكلمة من رضوان الله تعالى لا يلقى لها بالاً يرفعه الله بها درجات وإن العبد ليتكلم بالكلمة من سخط الله تعالى لا يلقى لها بالاً يهوى بها في جهنم" وعن سهل بن سعد قال: قال رسول الله r :"من يضمن لى ما بين لحييه وما بين رجليه أضمن له الجنة".

يقول المولى U (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ، الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ، وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ،وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ، وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ) إلى آخر هذه الآيات التي تجعلنا نتساءل : من هؤلاء الذين كتب الله لهم هذه الوثيقة ووعدهم هذا الوعد وأعلن هذا الإعلان عنهم؟ من هؤلاء (الْوَارِثُونَ، الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) هذه صفاتهم وهذه السمات التي يتميزون بها ومنها إمساك اللسان عن لغو الكلام ولغو الفعل بل ولغو الشعور والاهتمام ذلك لأن قلب المؤمن مشغول بأشياء كثيرة لا يجب عليه أن يميد بأمر غير هذه الأمور التي منها مثلاً الانشغال بذكر الله I وتدبر ما في الأنفس وما في الكون (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لِّأُوْلِي الألْبَابِ) ومنها أيضًا ما يشغله من هموم المسلمين وحالهم الذي نعيشه فمن هذا الذي ينشغل بسفاسف الأمور وهو يرى ما يحدث في بلاد المسلمين؟ إنه ينشغل بالأمور الجسام ويضع يده في يد إخوانه كى ينقذ المسلمين من حالهم الذي تردوا فيه فيستخدم اللب ويشغل الفكر في أمر المسلمين ومعاصيهم فيأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ويصبر على البلاء الذي يصيبه فيبعد عن الجدل والمراء والغضب واللغو واللهو وينشغل بالبناء والتعمير والإصلاح ولا يضيع وقته أبداً فيما لا طائل من تحته وليس معنى ذلك أن المسلم لا يروح نفسه ساعة ولكنه حتى الترويح لا يكون إلا لتجديد النشاط ثم مواصلة العمل وهو بذلك يضع أمام ناظريه قول الرسول r :"لن تزولا قدم عبد يوم القيامة حتى يُسأل عن أربع : عن عمره فيم أفناه وعن شبابه فيم أبلاه وعن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه ، وعن علمه ماذا عمل به " لو تأملنا هذا الحديث لوجدنا أن الرسول r يوجهنا فيه لاقتناص الوقت في كل ثانية ودقيقة لأن المولى I سيسألنا عنه في (يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ، إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ)، واسمع إلى ما يقوله غير المسلمين حول هذا الموضوع:

 يقول كسرى "إذا قلت ندمت وإذا لم أقل لم أندم " ، ويقول قيصر "أنا على رد ما لم أقل أقدر منى على رد ما قلت"، ويقول ملك الصين :"إن تكلمت بالكلمة ملكتنى وإن لم أتكلم بها ملكتها ".

ويقول أبو سعيد:" إذا أصبح ابن آدم قالت الأعضاء كلها للسان اتق الله فينا فإنما نحن بك فإن استقمت استقمنا وإن اعوججت اعوججنا" أتى عمر بن الخطاب t على أبى بكر الصديق t فوجده يمسك لسانه ويشده شداً فقال عمر : مه غفر الله لك ، فقال أبو بكر إن هذا أوردنى الموارد.

ولذلك قالوا أحسن الكلام ما كان قليله يغنى عن كثيره وما دار معناه في رمزه فليست البلاغة بكثرة الكلام ولا بخفة اللسان ولا بكثرة الهذيان ولكنه إصالة المعنى والقصد إلى الحجة، يقول الإمام الشافعى رضوان الله عليه وأرضاه : ما ناظرت أهل الكلام إلا مرة وأنا أستغفر الله من ذلك ، يستغفر الله من الوقت الذي قضاه وهو يجادل أهل الكلام وهذا يذكرنا بحديث الرسول r الذي رواه أبو داود قال : كان رسول الله r إذا ذهب إلى الخلاء وخرج منه قال "غفرانك" ويعلق أبو داود على هذا القول "غفرانك" ، يعنى أطلب منك المغفرة لأنه وهو يقضى حاجته يمسك لسانه عن ذكر الله فالرسول r يطلب المغفرة من الله عن وقت قضاه في قضاء حاجته لم يذكر الله فيه I وفي الصحيحين عن المغيرة بن شعبة أن الرسول r نهى عن قيل وقال وإضاعة المال وكثرة السؤال.

أصالة المنهج الإسلامى :

إن أصالة المنهج الإسلامى وواقعيته جعلت من كل مسألة لا ينبنى عليها عمل نافع – فالخوض فيها – مضيعة لوقت لا طائل من ورائه لأن كل فكرة لا تتحول إلى واقع يتمثل في عمل صالح يعتبر لهواً أو لغواً في نظر الإسلام ومن أجل ذلك وجدنا القرآن الكريم يمنع صراحة الخوض النظرى في مسائل العقيدة ويدعو إلى تجنب جعل المباحث الدينية ألعوبة للاستدلالات والمناقشات المجردة قال تعالى (وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلاَ تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) وإنا نجد في إعراض الرسول r عن سؤال الأعرابي عن زمن الساعة وإجابته الحازمة له : ما أعددت لها؟ فهو ينقله من الجدل والنقاش إلى الجانب العملي التطبيقي الذي سيعود عليه بالنفع وفي هذا دلالة تربوية هامة فهي تدعم المسلك القرآنى الدافع إلى ميادين العمل والبناء.

ولقد أراد الرسول r أن يلقن السائل ومن ورائه كل الأمة أن البحث في قضايا الساعة وموعدها خروج عن المنهج الإيجابى الذي زكاه الإسلام والذى ينزع إلى ملء حياة المسلمين بما يصلح أحوالهم ويؤهلهم للفوز بنعيم الآخرة.

الخوض في القدر وبعض معاني القرآن:

حين يكثر الجدل والمراء ولا يمسك الإنسان لسانه عن الخوض فيما لا يفيد فإنه يتكلم الكلمة من سخط الله تعالى لا يلقى لها بالاً يهوى بها في جهنم فهذا أحدهم يقول : كيف يكتب الرب علينا الشقاء ويعذبنا بالنار ويقول آخر يخلق الله إبليس ويسلطه على الناس ثم يعذب من أطاعه بالنار والذنب ذنب الذي خلق إبليس –كبرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولون إلا كذبا- وهؤلاء مجوس هذه الأمة.

لهذا كله فالخوض في قضايا القدر منهي عنه وربنا I (لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ) وهذا رسول الله r يوجه العقل لكي يفكر التفكير السليم فيقول :"تفكروا في آلاء الله ولا تفكروا في ذات الله " في رواية "فتهلكوا" ، وفى رواية "فإنكم لن تقدروا قدره"، وعن طارق بن شهاب قال : جاء يهودي إلى عمر بن الخطاب t وقال له : أرأيت قوله تعالى (وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ) فأين النار ؟ فقال عمر لأصحاب محمد r أجيبوه فلم يكن عندهم فيها شيء ، فقال عمر : أرأيت إذا جاء الليل يملأ الأرض فأين الآخر ؟ فقال له: حيث شاء الله ، فقال عمر: والنار حيث شاء الله ،  فقال اليهودي والذي نفسي بيده يا أمير المؤمنين إنها لفي كتاب الله المنزل كما قلت .

من أجل لذلك كان الصحابة لا يخوضون في القدر ولا في المسائل الجدلية العقيمة ولا التفريعات الكثيرة حتى أنه يحكى أن عمر بن الخطاب t حين أتاه رجل قد سرق فقال له : ما حملك على السرقة؟ قال : حملنى عليها قضاء الله وقدره قال: وأنا أقطع يدك بقضاء الله وقدره، ولم يخض معه في مقولته ولم يجادله فيما قال.

عدم الكلام في المفاضلة بين الصحابة ولا فيما شجر بينهم:

ومن هذا الباب أيضًا عدم الخوض في الخلاف بين الصحابة فلا طائل تحته ولا ينبغي الخوض في هذه الخلافات .

ولقد سئل بعض العلماء عما وقع من خلاف بين الصحابة فقال: تلك دماء قد طهر الله منها أيدينا فلا نلوث بها ألسنتنا وسبيل ما جرى بينهم كسبيل ما جرى بين يوسف وإخوته، وسئل الحسن البصري عن قتالهم فقال: قتال شهده أصحاب محمد r وغبنا عنه وعلموا وجهلنا اجتمعوا فاتبعنا واختلفوا فوقفنا.

قال المحاسبى فنحن نقول كما قال الحسن ولا نبتدع رأيأ منا ونعلم أنهم اجتهدوا وأرادوا وجه الله U.

وصدق الله إذ يقول (لاَّ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاَحٍ بَيْنَ النَّاسِ) وصدق الرسول r إذ يقول لمعاذ "وأخزن لسانك إلا من خير فإنك بذلك تغلب الشيطان" فإن الإنسان لا يغلب الشيطان إلا بالسكوت.

يقول الإمام النخعى: يهلك الناس من فضول الكلام والمال وهذا معنى ما قاله الرسول r إذ يقول :" طوبى لمن أنفق الفضل من ماله وأمسك الفضل من لسانه" ذلك أن نطق اللسان يدخل فيه الشرك وهو أعظم الذنوب ويدخل فيه القول على الله بغير علم ولذلك قال r :"إن من حسن إسلام المرء قلة الكلام فيما لا يعنيه" ولقد دخلوا على صحابي في مرضه ووجهه متهللاً فسألوه عن سبب ذلك فقال ما من عمل أوثق عندى من خصلتين : كنت لا أتكلم فيما لا يعنينى وكان قلبى سليماً للمسلمين.

ويقول الحافظ ابن رجب إن كف اللسان وضبطه وحبسه هو أصل الخير وأن من ملك لسانه فقد ملك أمره وأحكمه وضبطه.

واللسان له عبوديات:

عبودية واجبة : لابد أن يؤديها لأن هذا واجب اللسان، النطق بالشهادتين، تلاوة ما يلزم تلاوته من القرآن، التلفظ بالأذكار الواجبة في الصلاة التي أمر بها رسوله r في الركوع والسجود والتشهد رد السلام، الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، تعليم الجاهل وإرشاد الضال، أداء الشهادة متعينة على الشخص نفسه، هذه كلها أمور يسمونها عبودية اللسان وهي أن ينطق بهذه  الأشياء جميعاً .

أما العبودية المستحبة : كتلاوة القرآن، دوام ذكر الله، المذاكرة في العلم النافع، وتوابع ذلك كله.

أما العبودية المحرمة على اللسان: النطق بكل ما يبغض الله تعالى ورسوله r كالنطق بالبدعة والدعوة إليها وتحسينها والقذف وسب المسلم وكل ما هو يغضب المولى I كالكذب وشهادة الزور والقول بغير العلم ومنها أيضًا التكلم بأمور تركها خير من التكلم بها مع عدم العقوبة عليها، وفضول الكلام اختلف العلماء في المباح منه قالوا أنه ليس هناك كلام متساوي الطرفين يقول رسول الله r :"كل كلام ابن آدم عليه لا له إلا ما كان ذكر الله أو من والاه "أكثر ما يكب الناس على مناخيرهم في النار حصائد ألسنتهم أو كما قال r .

منهج الإمام البنا رضوان الله عليه في هذا الموضوع :

بعد هذا العرض كله نود أن نركز على منهج الإمام البنا في هذه الأمور نفسها فللإمام البنا منهج متميز معروف فهو يعلمنا كيف نستغل الوقت استغلالاً فيما يفيد وكيف نبين دعوتنا دونما إضاعة للوقت في أمور لا طائل من تحتها فكان من منهجه في الدعوة الاعتماد على طريقة القرآن وسبيل الرسول r في بناء الرجال لذا كان يهتم بأثر العقيدة في بناء الرجال وينفق في ذلك جل وقته أما علم العقيدة فربما نجده في رسالة مثل رسالة العقائد معدودة الصفحات مركزة المعنى وكان يبتعد عن التعمق في الألفاظ أو التشعب في البحوث وإيراد الآراء المذهبية الكثيرة وكان لا يخوض في مصطلحات الفلاسفة والمناطقة والكلاميين والجدليين وهذه هي طريقة السلف الصالح رضوان الله عليهم وأرضاهم التي كان يتبعها الإمام البنا رضوان الله عليه وأرضاه لأن بيان آثار هذه العقائد في النفوس تعلم الإنسان أين هو من درجة استيلاء هذه العقيدة والإسلام عليه وعلى نفسه وكيف تأثر بها ولذلك حين أراد أن يكتب في مجلة المسلمون بيَّن هذا المنهج الطيب الذي كل كلمة فيه ينبنى عليها عمل ويبعد عن الأمور الجدلية التي لا تفيد حتى أنه سجل هو بخط يده في منهجه ما يجب الابتعاد عنه ومنها:

أولاً - البعد عن التفريعات والفروض.

ثانياً - عدم استعمال الألفاظ الاصطلاحية الغامضة ما أمكن.

ثالثاً- سهولة العبارة وبساطتها.

رابعاً - مزج الأحكام الفقهية بما يذهب جفافها من الفوائد والأسرار وحكم التشريع ،لأن هذا الجانب –حقيقة- هو الذي يؤثر على العقل علماً وعلى الروح مشاعراً وهذا هو منهج القرآن فليس من آداب الإسلام أن تجلس مع الذين يخوضون في آيات الله ويضيعوا الوقت في السؤال عن أمور لا ينبني عليها عمل –كما قلنا- ويخوضون في هذه الأمور التي حذرنا منها فقال (وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُواْ) فالمسلم بدل أن يجلس مع هؤلاء الذين نهى المولى عن مجالستهم في قوله (وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ) فإنه يجلس ويصبر مع الطائعين كما أمرنا ربنا (وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا) فمسألة الوقت والحرص عليه أمر قال فيه العلماء الكثير حتى شبهوه كالسيف البتار وقالوا الوقت سيف بتار حاد تأخذه بحقه أو يقطعك ويقول ابن الجوزي :"كن في الدجى نادماً، وقف على الباب تائباً، واستدرك من العمر ذاهباً ودع اللهو والهوى جانباً وإذا لاح الغروب رأى راهباً فطلق الدنيا إن كنت للأخرى طالباً" وقال حكيم :"من لم يمض يوماً من عمره في حق قضاه أو فرض أداه أو مجد أثله –يعنى ورثه- أو حمد حصله أو خير أسسه أو علم اقتبسه فقد عق يومه وظلم نفسه".

هكذا المسلم ينشغل دائماً بوقته ويقضى الوقت فيما يفيد نفسه وأهله وبني وطنه بل الإنسانية جمعاء ولقد أدرك البعض أهمية  الوقت حتى أنهم نحتوا علماً سموه "إدارة الوقت" أُلف فيه المؤلفات وكتبت فيه الكتب وعملت فيه الدورات وإن كان هذا العلم قصد به خدمة التجارة والصناعة والأعمال المعيشية واستغلاله فيما يجلب عليهم المنافع المادية ونحن المسلمون أولى الناس بتعلم كيفية إدارة الوقت وكيف أن الله I علمنا تنظيمه من خلال الأوقات الخمس موزعة على اليوم والليلة والحج الذي له أيام معدودة والصيام الذي له أشهر معلومات وكذلك كل أمر من الأمور في حياة المسلم منظم دقيق لتحقيق رسالته على الأرض يقول الجاحظ محذراً المتحدث وناصحاً له : وأنا أحذرك من اللجاج والتتابع في الأمر - يعنى السير فيه على خلاف الناس- وأرغب إلى الله لك في السلامة من التلون والتزين والاستطراف والتكلف فإن اللجاج لا يكون إلا من خلل القوة وإلا من نقصان قد دخل على التمكين.

يقول رسول اللهr  :"نعمتان مغبونٌ فيهما كثير من الناس: الصحة والفراغ" ويعلق ابن بطان الفقيه على الحديث وعلى قول رسول الله r كثير من الناس أى أن الذي يوفق لذلك قليل فمن استعمل فراغه وصحته في طاعة الله فهو المغبوط ومن استعملهما في معصية الله فهو المغبون لأن الفراغ دائماً يعقبه الشغل والصحة يعقبها السقم فإما أن تكون الصحة والفراغ في صالحك أنت وإما أن تكون عليك والحسن البصرى يقول أدركت أقواماً كان أحدهم أشح على عمره كما أن ابن القيم يشير إلى إضاعة القلب وإضاعة الوقت فيقول :"سبب كل بلية إضاعة القلب من إيثار الدنيا على الآخرة وإضاعة الوقت من طول الأمل فاجتمع الفساد كله باتباع الهوى وطول الأمل والصلاح كله في اتباع الهدى والاستعداد للقاء الله.

فالمسلم يعقل لسانه إلا عن : باطل يدفعه أو حكمة ينشرها أو نعمة يذكرها قال العلماء رأس مال العبد أوقاته فالمفروض ألا يصرفها فيما لا يعنيه فإما أن يصرفها فيما يفيد أو يدخرها لوقتها.

وصدق رسول الله r إذ يقول :"ما ضل قوم بعد هدى كانوا عليه إلا أوتوا الجدل " ثم قرأ (مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ) وقول ربنا (فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ...) قالوا هم أهل الجدل الذين عناهم الله .

الأمور التي تساعد المسلم في استغلال وقته:

1-معرفة أهمية الوقت:

 لأن فهم القضية جزء من العلاج وفهم الأمر دافع ومثير للإنسان أن يضعه موضع التنفيذ كما يقول ابن عباسt :"يا ابن آدم إنما أنت أيام كلما ذهب يوم ذهب بعضك" فكيف تضيعه؟

2- الزهد في الدنيا:

وما الدنيا ؟ قال الرسول r: "إن الله لا يحب كل جعزري جواظ صخاب بالأسواق جيفة بالليل حمار بالنهار عالم بأمور الدنيا جاهل بأمور الآخرة " ونحن لا ندعو إلى ترك عمارة الدنيا كيف والرسول r يطلب منا استغلال آخر دقيقة في حياتنا فيقول :"إذا قامت الساعة وفى يد أحدكم فسيلة فليغرسها" وفي نفس الوقت لا تكن الدنيا أكبر همنا ولا مبلغ علمنا ولكن تشغلنا الآخرة ومن شغلته الآخرة عمر دنياه.

3- الخوف من الله:

الخوف من الله سيدفعك إلى الطاعة وطاعة الله تأمرك بعمارة الكون وعمارة الكون تقتضى العمل لا الجدل.

4- تنوع أنشطتك:

ولكي ينجح المسلم في ذلك عليه أن يتدبر قول رسول الله r :"إن لربك عليك حقاً وإن لنفسك عليك حقاً وإن لأهلك عليك حقاً فأعط كل ذي حق حقه"  ساعة وساعة وهذا التنوع يدفع الإنسان إلى استغلال الوقت استغلالاً مفيداً.

5- ترتيب الأوليات:

فترتيب الأولويات بالنسبة للمسلم أمر واجب؛ حتى لا يضيع وقته في أمر مهم ويترك الأهم.

6- تنمية الهمة العالية:

يقول ربنا (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ).

7- معرفة قيمة شبابك:

استفراغ وقت الشباب في طاعة الله، فلم لا تنتهز هذه الصحة وهذه القوة وهذه الفتوة فتوجه الطاقات وتحافظ على الأوقات وتعمل بتوجه رسول الله r.

8- وأخيراً الدعاء لله I أن يبارك في الأوقات:

قال بعض السلف : يكون آخر الزمان قوم يغلق عليهم باب العمل ويفتح عليهم باب الجدل ويقول r :"لا تتعلموا العلم لتباهوا به العلماء ولتماروا به السفهاء ولتصرفوا وجوه الناس إليكم فمن فعل ذلك فهو في النار"

نلزم الجماعة ففيها النجاة من هذه الأمراض جميعاً واسمع إلى قول رسول الله r :"من أراد بحبوحة الجنة فليزم الجماعة فإن الشيطان مع الواحد وهو مع الاثنين أبعد" ويقول على t "كدر الجماعة خير من صفو الفرد" ويقول المُزني رحمة الله عليه سمعت الشافعي t يقول ليس لأحد إلا وله محب ومبغض فإذا كان لابد من ذلك فليكن المرء مع أهل طاعة الله I.


الأصل العاشر

أسمى عقائد الإسلام

"معرفة الله تعالى وتوحيده وتنزيهه أسمى عقائد الإسلام، وآيات الصفات، وأحاديثها الصحيحة وما يلحق بذلك من المتشابه، نؤمن بها كما جاءت من غير تأويل ولا تعطيل، ولا نتعرض لما جاء فيها من خلاف بين العلماء ويسعنا في ذلك ما وسع رسول الله r وأصحابه (وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا)

هذا الأصل يعالج:

1- قضية الأسماء الصفات.

2- وآراء الفرق الإسلامية فيها.

3- رأى السلف الصالح الذي ندين به.

هذه قضية كثر فيها اللغط والغلط، كثر فيها الحديث واختلطت فيها المفاهيم وكثر فيها الكلام واتهُم فيها علماء أفاضل ومجاهدون باعوا أنفسهم رخيصة في سبيل الله وممن اتهُم فيها الإمام البنا – رحمة الله عليه- فهو مرة جهمى وثانية من المفوضة وثالثة من المبتدعة وما أكثر ما قيل عن هذا العالم الجليل ولا حول ولا قوة إلا بالله العلى العظيم.

وللأسف فإن أصحاب هذا الاتهام من ذوى القربى الذين أمرنا أن نصل أرحامهم الدينية وممن يدعون إلى الله ويسيرون طريقه رجال لا نتهم نياتهم ولكن نعتب عليهم لأنهم لم يتبينوا وظنوا أن ما يقولونه هو الحق الذي يجب أن يرجع إليه وليس الصواب الذي يحتمل الخطأ، وكما قال علماء الأمة رأيي صواب يحتمل الخطأ ورأى غيرى خطأ يحتمل الصواب.

ولا شك أن القضية شأنها عظيم لأنها تتصل بالعقائد – وهى أهم العلوم على الإطلاق بالنسبة للمسلم لأن الاعتقاد الصحيح والسليم أمرٌ لازم للمسلم قبل أن يعزم على أى سلوك؛ ذلك لأن العقيدة هي أساس التصور السليم وهي الدافع لأي تصرف أو سلوك فإن كانت العقيدة فاسدة كان السلوك التابع لها كذلك وإن كانت صحيحة كان السلوك المنبثق منها صحيح بإذن الله.

ذلك لأن أنواعاً كثيرة من الانحرافات في الفكر والتصور والسلوك والاعتقاد لم يكن لها سبب إلا البعد عن فهم أصول هذا الدين ولذلك فإن هناك بعض الإخوة الذين لم يفرقوا بين أصول العقيدة وبين فروعها فالأمر عندهم سواء بينما علماء الأمة فرَّقوا بين أصول العقيدة وفروعها فالإسراء - مثلاً - من حيث حدوثه أصل لا يختلف فيه مسلم أما كيفيته هل بالروح أم بالجسد فهو فرع من الاعتقاد وكذلك يختلف الحكم بإنكار كل منهما، فالذى ينكر أصل حدوث الإسراء ليس كمن ينكر كيفيته بالروح أو بالجسد فهذا خلاف بين العلماء وذاك أمر مجمع عليه لأنه من العقيدة ومثال آخر كلنا يعلم أن عيسى عليه السلام رسول الله وكلمته وهذا الاعتقاد لا يستطيع مسلم أن ينكر رسالته فهو أصل من أصول العقيدة أما رفعه فهو فرع من الاعتقاد اختلف فيه العلماء فهما لا يستويان حكماً؟ فهناك أصول لابد أن نجتمع عليها جميعاً كما أن هناك فروعاً قد نختلف فيها ولذلك فإن العلماء وضعوا شرطاً أساسياً لقبول العمل ألا هو صحة الاعتقاد أولاً مع صدق الاتباع ثانياً.

ولذلك فإنه ما جاء رسول ولا نبى إلا وأوضح أصل دعوته (وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ) ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حى عن بينة وهذا ما جاء به كل نبي كأصل من أصول الاعتقاد ما خالفها أي نبي ولا رسول.

فلو شاب هذه العقيدة في أصولها شائبة لأدى ذلك الانحراف إلى إبطال العمل (فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا) وذلك لأن أى انحراف عن أصول العقيدة الصحيحة انحراف عن الإيمان قد يؤدى إلى إبطال العمل (وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاء مَّنثُورًا) فالاختلاف في أصول العقيدة اختلاف كفر وإيمان أما الاختلاف في فروعها فهو اختلاف صواب وخطأ وشتان ما بين الاثنين، ولذلك لم يختلف العلماء في أصول الاعتقاد ولكن اختلافهم كان في فروع العقيدة.

مسلك الأنبياء في تقديم العقيدة:

والذي نريد أن نؤكد عليه أن مسلك الأنبياء والرسل في تقديم العقيدة لم يكن تقديما ًنظرياً ولا تجريبياً ولا مصطلحياً إنما كان منهجاً متحركاً باعثاً للحياة الأفضل التي ينشدها كل عامل في مجتمعه ولذلك كان التقديم لها يتصل بواقع المجتمع الذي يعيشونه.

فالعقيدة إذاً حين قدموها إنما قدموها ليعالجوا بها مشكلات كانت مستأصلة في زمانهم ولم يقدموها على أنها علم مجرد يجب أن يحفظ ومصطلحات يجب أن  تحدد وينتهى الأمر بهذا العلم.

فنوح u قال لهم (اعْبُدُواْ اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ) ليستقيم سلوكهم وتصورهم ويعرفوا مصدر الخير لأنفسهم ولبلادهم لكن لما وجد إعراضاً من هؤلاء القوم وتصوروا أن الخير يأتى من غير طريق الله I وصموا آذانهم و(جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا) فأراد سيدنا نوح u أن يبين لهم أن هذا الإصرار ليس فيه خير وإن الخير يأتي بالذكر والاستغفار (فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا، يُرْسِلِ السَّمَاء عَلَيْكُم مِّدْرَارًا، وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَل لَّكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَل لَّكُمْ أَنْهَارًا) فلما استكبروا ردهم إلى الصواب (مَّا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا، وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا، أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا، وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا، وَاللَّهُ أَنبَتَكُم مِّنَ الْأَرْضِ نَبَاتًا، ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجًا، وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِسَاطًا، لِتَسْلُكُوا مِنْهَا سُبُلًا فِجَاجًا) وهكذا بهذه العقيدة عالج خللاً في الرؤوس لكى يستقيم تفكيرها كي تفكر تفكيراً سليماً وترتب عقلها ترتيباً ربانياً إذا وعت معنى العبودية.

وهود u هو نفسه قالها (أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ) ليعالج بها أمراً في مجتمعه فقومه غرتهم قوتهم المادية وعاثوا في الأرض فساداً وهذه القوة المادية التي ملكوها ظنوا أنهم بذلك أصبحوا أقوى من أى قوة أخرى على هذه الأرض يقول لهم ربنا : (أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ، وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ، وَإِذَا بَطَشْتُم بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ، فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ).

وكذلك عالج صالح u بالعقيدة الحضارة المادية أيضًا التي سادت في مجتمعه، فلفت أنظارهم إلى فساد تفكيرهم قائلاً لهم : (وَبَوَّأَكُمْ فِي الأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِن سُهُولِهَا قُصُورًا وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ بُيُوتًا فَاذْكُرُواْ آلاء اللّهِ وَلاَ تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ)

وأما لوط u فقد عالج بها التحلل الأخلاقي والانحراف الذي ساد مجتمعه (أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُم بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِّن الْعَالَمِينَ، إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِّن دُونِ النِّسَاء بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ مُّسْرِفُونَ)

ولم يختلف عنهم شعيب u فعالج بها مشكلة اقتصادية في مجتمعه متمثلة في تطفيف الكيل والميزان (أَوْفُوا الْكَيْلَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ، وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ، وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ).

وجاء موسى u فعالج بها ثلاثة أنواع من الطغيان : الطغيان السياسى متمثلاً في فرعون، والطغيان المالى متمثلاً في قارون، والبطانة الفاسدة متمثلة في هامان، ثم جاء عيسىu متمماً لما جاء به موسىu (وَلِأُحِلَّ لَكُم بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ) من هذا الاستعراض السريع نجد أن قضية الاعتقاد حين ترسخ في القلوب فإنها تغير السلوك وتعالج أمراض القلوب فليست العقيدة مساجلة ولا مناظرة ولا أمراً تجريدياً إنما هي أمر قلبي يتغير القلب بها فتتغير الأحوال (إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ).

وجاء محمد r وما كان بدعاً من الرسل إنما جاء بهذه العقيدة كمنهاج حياة كامل لأنه الدين الخاتم فكانت رسالته مستوعبة مناحى الحياة جميعاً اقتصادية واجتماعية، وسياسية وتعليمية، وأخلاقية وفكرية وأسرية وفردية وما كانت هذه الرسالة إلا لتكون (كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُواْ السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللّهِ هِيَ الْعُلْيَا) وكلمة الله كانت شاملة لكل أمر من الأمور (مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ).

فإذاً قضية العقيدة كما رأينا جاءت لكى تعالج فساداً موجوداً في المجتمع فيه الربا والخنا والخمر والميسر والأصنام بل والشرك الأكبر والتمييز بين أفراد الأمة بين الأبيض والأسود والعربى والعجمى فكانت لا إله إلا الله محمداً رسول الله r هي العلاج الناجع ومن هنا رأينا رسول الله r أول ما اهتم، اهتم في مكة بتغيير القلوب لتتوجه إلى الله أولاً لأنها أساس (إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ) فليست العبرة بحفظ المصطلحات فحسب، وتحديد المفاهيم فهذه أمور علمية بحتة لا غني عنها ولكن الأهم ما قالته السيدة عائشة أم المؤمنين رضوان الله عليها وهى تتحدث عن نزول القرآن فتقول:"إنما نزل أول ما نزل من سور المفصّل فيها ذكر الجنة والنار حتى إذا ثاب الناس إلى الإسلام نزل الحلال والحرام ولو نزل أول شيء لا تشربوا الخمر لقالوا لا ندع الخمر أبداً، ولو نزل لا تزنوا لقالوا لا ندع الزنا أبداً، لأن علاج القلوب بالعقيدة أولاً تستقيم معه العقول وتفكر تفكيراً سليماً فتنصاع لخالقها ويصبح لدى المرء وازعاً داخلياً يغير من سلوكه فيفعل المأمور ويترك المحظور ويصبر على المقدور، إذا أُنعم عليه شكر، وإذا أُبتلى صبر، وإذا أذنب استغفر، فهناك فرق كبير جداً بين مقام الدعوة والتعليم وبين الفهم والتطبيق فيجب أن نتعلم ولكن العلم -كما أسميناه- هو العلم التكويني الذي يكوِّن الإنسان ويغير ما فيه، فالعبرة في فقه الداعي أن توجه العقيدة إلى حل مشاكل عصره الذي يعيشه فلا ينفصل المسلم أبداً عن الواقع الذي يعيشه، تحقيقاً لتوجيه رسول الله r"المسلم الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم خير من المسلم الذي لا يخالط الناس ولا يصبر على أذاهم" وإلا لأصبح الداعى في واد والناس في وادٍ آخر لأنهم يحملون مشاكل يريدون لها حلاً في حين أن الداعى منفصل عنهم تماماً ومنفصل عن مجتمعه، ومستغرق في تحصيل العلوم والتي من المفروض إنزالها على أرض الواقع فنعالج شبهات عصرنا الموجودة والظواهر السيئة في حياتنا التي نحياها الآن، كالإلحاد، العلمنة، والعولمة والتحاكم لغير شرع الله I فضلاً عن العادات والتقاليد التي ليست من شرعنا هذه قضايا عصرنا إذا أردنا أن نعالج قضايانا من أجل ذلك حذر العلماء من تقديم العقيدة وتعليمها للناس بالأساليب الكلامية أو المناهج  الفلسفية التي صيغت بها كثير من الكتب القديمة فضررها أكثر من نفعها ولكن لابد أن نقدم العقيدة بمنهج القرآن لأنه خير تقديم وأصوبه يصل إلى العقول وإلى القلوب فينير والأولى ويطمئن الأخرى ولا يتحقق ذلك أبداً بمنهج الفلسفة ولا علم الكلام ولا المنطق ولا أى منهج من هذه المناهج ولكن بالالتزام بمنهاج رسول الله r والطريقة التي قدم بها العقيدة للعرب والعجم على حد سواء وبهذا المنهج الذي غرس رسول r به مشاعر ثلاثة في نفوس الجيل الأول وهي:

1-الشعور بعظمة هذه الرسالة .

2-الاعتزاز بالانتساب إليها .

3-الثقة في نصر الله .

هذه بعض آثار لا إله إلا الله القلبية والإيمانية، أما الجانب العلمى منها فلا إله إلا الله فيها نفى تسقط معه الألوهية عن كل الطواغيت التي ادَّعت من دون الله I وهي كلمة تحمل نفياً فتُسقط الصنم والوثن والنظام والشعار والبشر وصدق الله إذ يقول: (مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُؤْتِيَهُ اللّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُواْ عِبَادًا لِّي مِن دُونِ اللّهِ وَلَكِن كُونُواْ رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ، وَلاَ يَأْمُرَكُمْ أَن تَتَّخِذُواْ الْمَلاَئِكَةَ وَالنِّبِيِّيْنَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُم بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنتُم مُّسْلِمُونَ).

وأما الإثبات فهو يعطى للألوهية كل أوصافها وسماتها وأفعالها لله رب العالمين لا شريك له ، يخلق ويرزق ويحكم ويأمر ويشرع (أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ) وهكذا تتحقق العبودية الحقة بكمال الحب وكمال الذل كما يقول الإمام ابن تيمية رحمه الله إنه علم رباني وتربية ربانية يصحبها معاناة وتربية ومجاهدة وجهاد تلمح ذلك في مهام الرسول التي حددها قول ربنا (لَقَدْ مَنَّ اللّهُ عَلَى الْمُؤمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ) فمهمة الداعى إلى الله I تنحصر في :

1-تلاوة آيات الله.

2-تعليم الكتاب والحكمة (السنة).

3-التزكية - وهى التربية

وعلى هذا فإن تقسيم الإمام ابن تيمية للعقيدة من حيث توحيد الألوهية وتوحيد الربوبية وتوحيد الأسماء والصفات إنما هي من باب التعلم البحت الذي كان يراد به الرد على مشكلات ومباحث ظهرت في عصره -سنتناولها في حينها- هذا التقسيم ليس توقيفياً بل هو اجتهاد بشر لعالم جليل فقيه عصره وإلا كيف كانت تقدم العقيدة قبل هذا التقسيم؟

وما أطيب وأعمق وأشمل هذا التعريف الذي ذكره فضيلة الدكتور يوسف القرضاوى يقول :

"الإيمان عمل نفسى يبلغ أغوار النفس ويحيط بحواسها كلها من إدراك وإرادة ووجدان فلابد من إدراك ذهنى تنكشف به حقائق الوجود على ما هي في الواقع وهذا الانكشاف لا يتم إلا عن طريق الوحى الإلهى المعصوم ولابد أن يبلغ هذا الإدراك الجزم الموقن أو اليقين الجازم الذي لا يزلزله شك (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا) ولابد أن يصحب المعرفة الجازمة إذعان قلبى وانقياد إرادى يتمثل في الخضوع والطاعة والرضا والتسليم (فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ) ولابد أن يتبع تلك المعرفة وهذا الإذعان حرارة وجدانية قلبية تبعث على العمل بمقتضيات العقيدة والالتزام بمبادئها السلوكية والخلقية والجهاد في سبيلها بالمال والنفس وبذلك تنفذ هذه العقيدة إلى العقل فتقنعه وتطمئنه وإلى القلب فتهزه وتحركه وإلى الإرادة فتدفعها وتوجهها وإذا اقتنع العقل وتحرك القلب واتجهت الإرادة استجابت الجوارح واندفعت إلى العمل، استجابة الرعية للراعى الصالح" إنه تعريف شامل أحاط بكل مكونات العقيدة من علم، وتفكير، وإرادة، ومن قلب، وجوارح تتحرك، وهذا هو الإيمان الحق وليس الإيمان الجامد وهذا هو المفهوم القرآني في عرض العقيدة.

منهج القرآن في عرض الإيمان : إن آيات خمس في مواضع ثلاثة من الذكر الحكيم صورت لنا أبرز سمات الإيمان في أحسن تصوير، وتحدد لنا معالمه :

ففى سورة الأنفال : (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ، الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ، أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا).

وفى سورة النور : (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ)

وفى سورة الحجرات : (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ) .

والمتأمل في هذه الآيات يجد الأمور الآتية:

أولاً-كل منها مصدر بهذا القول "إنما" وأهل البلاغة يقولون إنما أداة تفيد قصر سمات المؤمن الصادق على الصفات والخصائص التي بينتها كل آية وهى :

أ-وجل القلب عند ذكر الله .

ب-ازدياد الإيمان به عند تلاوة آياته.

ج-التوكل عليه وحده.

د-إقامة الصلاة.

هـ-الإنفاق مما رزقه الله .

هذا في الآية الأولى يضاف إلى هذه الصفات في الآيتين الأخريين.

و-الإيمان بالله ورسوله.

ز-عدم الذهاب في الأمور الجامعة إلا بعد إذنه r.

ح-عدم الارتياب في الإيمان.

ط-الجهاد في سبيل الله بالمال والنفس.

ولا يعنى هذا أن صفات المؤمنين تقتصر وتنحصر في هذه أو تلك إنما تضاف لهذه الصفات صفات أخرى حكاها القرآن كالتى في صدر سورة "المؤمنون" مثلاً وغيرها من السور، فليس ما قلناه حصراً ولكن على سبيل المثال لكى نبين أن الإيمان ليس كلاماً يقال وليس أمراً مجرداً دون حركة قلبية سلوك قرآني واسمع إلى قول الله وهو يصف هذا  الصنف (كَانُوا قَلِيلًا مِّنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ، وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ، وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِّلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ) إنها صفات تلبست برجال صدقوا في إيمانهم فكان هذا هو واقعهم على أرض الواقع فكانوا: (التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدونَ الآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ) هكذا منهج القرآن في عرض هذه العقيدة يجمع بين القلب والعقل كما يجمع بين الإيمان والعمل.

كلام القرآن عن المؤمنين وليس الإيمان:

إن مبنى أمر الحديث في هذه المواضع وغيرها هو على المؤمنين لا على مفهوم الإيمان المجرد فلم يقل ربنا مثلاً "إنما الإيمان وجل القلب وذكر الله إلخ" إنما جرى على ما جرى عليه لحكمة جليلة وعبرة سامية –والله أعلم بمراده- أن الحكيم الخبير يعلمنا أن الإيمان لا يصلح ولا ينبغى له أن يكون مجرد اعتبار كونه مفهوماً نظرياً يتصوره الذهن دون أن يكون له حظ من التطبيق أو صدق في السلوك العملى ينزل على أرض الواقع وبذلك يصح مفهوم الإيمان على وجهه المرضى المستقيم بأن يكون ترجمة صادقة لسلوك المؤمنين في القول والعمل وهذا يدعو كل مؤمن ألا يركن نفسه أو ينخدع قلبه بمجرد صوت خافت لداعى الإيمان يختلج في ضميره وأيضًا ليس مجرد كلمة أو اصطلاح يلوكه لسانه ثم لا يلبث أن تموت حروفها على شفتيه بل يتطلب مصداق ذلك سلوك حياته العملية مع ربه ونفسه ومجتمعه والكون كله (قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ، لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ)

من أجل ذلك رأينا الحديث عن المؤمنين وليس على الإيمان المجرد أو بعبارة أخرى عن الإيمان بوصفه متحققاً في الأفراد المنعوتين به "المؤمنين" وباسم مخصوص هو "الذين" وصفوا بهذه الصفات النبيلة "أولئك هم "المؤمنون حقاً – وهذا هو منهج القرآن في عرض العقيدة.

ابن القيم والعقيدة: وسار على هذا الدرب ابن القيم إذ يقول : "إن للا إله إلا الله قلب وقالب قالب أو جسد هو ما نعلمه وما نتعلمه حول الربوبية والألوهية وسماه بعلم القالب، وكذلك قلب أو روح تحرك هذا الجسد فتبعث فيه الحياة سماه عمل القلب ثم قال إن علم القالب يتساوى فيه المؤمن والكافر على حد سواء (وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ) (وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ) .

أما عمل القلب فهذا هو النور الذي يبعثه الله في قلب من يحب من عباده، وبهذه البساطة عرف المسلمون دينهم وعرفوا ربهم منذ عصر رسول الله r وصحابته الأبرار فلم يكن هناك حاجة للتقعيد والتعقيد إذ لم يكن قد حصل تبلبل في العقيدة ولا تشتت في الفكر والنظر وما أبسط إجابة أبى بكر الصديق t حين سئل : بم عرفت ربك؟ فقال عرفت ربى بنقض العزائم، وكما قال سيدنا على t قال "عرفت ربى بربى ولولا ربى ما عرفت ربى، وأليس الأعرابى البسيط الذي سئل نفس السؤال فقال : البعرة تدل على البعير والروثة تدل على الحمير وآثار الأقدام تدل على المسير ، فسماء ذات أبراج وأرض ذات فجاج وبحار ذات أمواج ألا تدل على الصانع العليم القدير؟ إنها عقيدة راسخة في النفس عبر عنها هذا التعبير البسيط.

ذلك لأن المؤمنين من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان كانوا يستقون عقيدتهم من القرآن الكريم والسنة فهما الينبوع الذي يستقى منه المسلمون عقائدهم وأخلاقهم وأوامرهم ونواهيهم وتصوراتهم وأفكارهم ومنهما عرفوا ما يليق بذات الله تعالى وما ينزه عنه جل وعلا تعالت كلماته فلم يكن بينهم جدل في شأن العقيدة وكانوا يعتقدون اعتقاداً جازماً لا شك فيه:

1-أنه يجب لله تعالى كل صفة كمال تليق بجلاله ووصف نفسه بها.

2-أنه يستحيل على الله كل صفة نقص لا تليق بجلاله.

3-أنه يجوز في حقه تعالى كل ممكن أو تركه كالإحياء والإماتة مثلاً.

والحقيقة أن هذه هي النصاعة وهذه السهولة في تلقى العقيدة في الجيل الأول وبعد وفاة الرسول r.

وكاد ينتهى العصر الأول في إيمان خالص من الجدل حتى أواخر عهد عثمان حيث ظهر الخلاف في المسائل السياسية وكان سبباً في بدء الخلاف الدينى بعد ذلك فتكونت الفرق، فمن حزب على t تكونت الشيعة ومن لم يرضى بعلى تكون منهم الخوارج ومن كره الخلاف بينهما كونوا المرجئة وهكذا بدأت الفرق الإسلامية في الظهور .

ظهور الفرق الإسلامية:

لما غزا الإسلام كثيراً من البلاد المتحضرة – في ذلك الزمان - ودخل فيه كثير من أهل الحضارات ممن لهم ثقافات وعلوم وكان لهم نظر في المعتقدات ثم أضيف إليهم دخول اليهود والنصارى والمجوس الإسلام وكان لكل أولئك أفكارهم الدينية الباقية من دياناتهم القديمة التي استولت على مشاعرهم، فكانوا يفكرون في الحقائق الإسلامية على ضوء اعتقاداتهم القديمة فأثاروا بين المسلمين ما كان يثار في دياناتهم من الكلام في الجبر والاختيار وصفات الله هل هي شيء غير الذات أم هي والذات شيء واحد؟ إلى غير ذلك من المسائل الكلامية التي ليست لها أي مردود تربوي.

وبالإضافة إلى ذلك كانت حركة الترجمة للكتب الفلسفية مما كان له أثر أيضًا على الفكر الإسلامى فتأثر بمنازع الفلسفة والمذاهب القديمة في الكون والمادة وما وراء الطبيعة المحسوسة وظهر علماء من المسلمين نزعوا منزع الفلاسفة الأقدمين وأخذوا بطريقتهم وظهر في العصر العباسى من سلك مسلك "السوفسطائيين" والأرأيتيين (أرأيت إن حدث كذا) يخترعون قضايا ويبحثون لها عن حل وليس هذا من الإسلام في شيء لأن الإسلام يتعامل مع الواقع ، وثار خصام وعراك ودارت مناقشات ومناظرات وأدلى كل بدلوه فكان الناس أصنافاً شتى فمنهم الزنديق المنافق الذي يبغى هدم الإسلام ومنهم الجاهل المخدوع ومنهم المستقيم على الحق وأنتجت هذه المعارك مذاهب مختلفة منها الصواب ومنها الباطل ومنها الخليط بين الحق والباطل.

فبعد أن كان المسلمون ينتهجون منهج القرآن في رده على أهم الفرق التي كانت منتشرة في عصر النبوة بأسلوب بليغ حكيم في نقض أقوالهم وسلك علماء المسلمين في ذلك الوقت مسلك القرآن في الرد على المخالفين إلا أنه لما كان كثير ممن دخل الإسلام بعد الفتح من ديانات مختلفة كاليهودية والنصرانية والمجوسية والصابئة والبراهمة وغيرهم قد أظهروا آراء دياناتهم القديمة في لباس دينهم الجديد مما جعل الفرق الإسلامية الأولى وخاصة المعتزلة التي كان همها الأول الدفاع عن الدين والرد على المخالفين من اليهود والنصارى وغيرهم الذين تسلحوا بالفلسفة مما دفع المعتزلة لدراستها ليستطيعوا الدفاع بنفس السلاح فاضطرهم ذلك إلى قراءة الفلسفة اليونانية والتكلم في شأنها والرد عليها وأخذوا في إثبات العقائد الإسلامية بالأقيسة المنطقية والتعديلات الفلسفية والدراسات العقلية المجردة وجرهم ذلك إلى دراسة مسائل ليس في استطاعة العقل البشرى أن يصل إلى نتائج مقررة ثابتة عنها كمسألة إثبات صفات الله تعالى ونفيها، ومسألة قدرة العبد بجوار قدرة الرب وغير ذلك مما فتح باباً واسعاً من أبواب الاختلاف بين علماء الكلام.

وللأسف فإن اتساع الحياة أمام المسلمين بعد فتح الأقطار والأمصار جعلتهم ينشغلون بأمور الحكم فقل تفرغهم لكتاب الله والسنة بقدر ما شغلهم بما واجههم من الأمور الجديدة إلا فئة قليلة من الباحثين والقراء المتفرغين ولذلك فقد نازعت بعض النفوس الغير مطمئنة آراء وأفكار وشكوك حول العقائد فظهرت على ألسنة بعضهم وفى آرائهم فتحدثوا بها وتناقشوا فيها.

وهنا خشى الراسخون في العلم على الناس أن تتزلزل عقائدهم فدعوا الناس إلى الرجوع للقرآن ومنهجه وحفزهم هذا الوضع الذي عاشوه إلى وضع قواعد وضوابط وبراهين واستدلالات عقلية يرد بها على أولئك المجادلين ثم أخذت هذه البراهين تعمق وتؤصل حتى تكونت عن هذه الحركة فكرة وضع أسس للعقائد سميت أول الأمر علم الكلام ثم علم التوحيد أو علم العقائد.

وكانت العراق – خاصة البصرة- مظهراً لجميع النحل والملل فقامت جماعات بَعُدت عن منهج القرآن في عرض عقائد الإسلام وكثر الكلام في كلام الله هل هو مخلوق أم غير مخلوق وكثرت الزندقة وظهر ما يسمى بالفرق الإسلامية التي منها.

القدرية: وهى تقول بحرية الإرادة وعلى رأسهم معبد الجهمى وتقول لا قدر والأمر أُنُفُ فأنكروا قدرة الله.

الجبرية: وهم يسلبون الإنسان إرادته وأقاموا في الكوفة وقالوا إن الإنسان كالريشة في مهب الريح ونفوا صفات الرب سبحانه وتعالى.

ووسط هذا الجو المضطرب قامت جماعة من المخلصين يشرحون عقائد المسلمين بأسلوب القرآن ومنهجه من أشهرهم الحسن البصري الذي قال لابد من العودة لمنهج القرآن في عرض العقيدة واختلف معه تلميذه واصل بن عطاء وتكونت المعتزلة وفى أواخر القرن الثالث ظهر الإمام أبو منصور الماتريدي ورد على أصحاب العقائد الباطلة وتكونت الماتريدية كما ظهر الإمام أبو الحسن الأشعري وأعلن انفصاله عن المعتزلة وأعلن مبادئه التي وافق عليها خيرة علماء المسلمين في ذلك الوقت وظهرت فرقة الأشاعرة ثم تكونت بعد ذلك جماعة أهل السنة والجماعة.

ولقد نشأ علم الكلام في جو غريب عن طبيعة الحياة الإسلامية الأصيلة يتناول قضايا التوحيد بغير أسلوب القرآن مما انتهى بهذا العلم الجليل إلى الجفاف والتعقيد فجهله عامة المسلمين ونفر منه خاصتهم وهاجمه كثير من الأئمة كالإمام مالك والشافعى وأحمد .

يقول الشيخ محمود شلتوت:"وجاء المتأخرون الذين فقدوا الذوق العربى الفصيح والاسترشاد الداعى من القرآن والسنة فصبوا قوالب التوحيد في قواعد جافة ومن ثم ضعف الإيمان وضعفت الإرادة تبعاً لذلك بل وضعفت الأخلاق".

ولقد قيض الله لهذه الأمة من مسح عن وجه عقيدتها ما شابها من غبش مثل الإمام أحمد بن حنبل في القرن الثالث الهجرى فكانت كتاباته دعوة إلى النهج السديد وسار على دربه الإمام البنا رضوان الله على الجميع.

أمر يجب التنبيه عليه: إن القضايا التي سنتناولها في هذه المسألة ليست للعامة بل هي مسألة انشغل بها علماء الأمة دون غيرهم لأنه ليس المطلوب من المسلم العامى أو الأمى أن يعرف صفات الله الواجبة ويعرف صفة الوجود وأن يفرق مثلاً بين صفات الذات وصفات المعانى ويشتغل بأدلة كل مسألة فليس مكلفاً بذلك كما يقول الإمام الغزالى:" اكتفى رسول الله r من أجلاف العرب بالتصديق والإقرار من غير تعلم دليل .. ثم يقول وهناك حديث مشهور في كتب السير والحديث "قصة ضمام بن ثعلبة" رواه الإمام مسلم يبين أن رسول الله r لم يعلم ضمام بن ثعلبة دليلاً واحداً حين آمن به كما أنه -أى ضمام- حين دعا قومه للإيمان لم يقدم لهم أدلة على ذلك ولذلك حين أُتهم ابن تيمية بأنه يقوم بإثارة البلبلة الفكرية والحيرة النفسية عند الناس من كثرة الكلام في آيات وأحاديث الصفات.

 قال رحمه الله : وأما قول القائل لا يُتعرض لأحاديث الصفات وآياتها عند العوام فأنا ما فاتحت عامياً في شيء من ذلك قط".

ويقول أنا ما بغيت على أحد ، ولا قلت لأحد وافقنى على اعتقادى وإلا فعلت بك ولا أكرهت أحداً بقول ولا عمل بل ما كتبت في ذلك شيئاً قط إلا أن يكون جواب استفتاء بعد إلحاح السائل واحتراقه وكثرة مراجعته ولا عادتى مخاطبة الناس في ذلك ابتداءً.

رأى العلماء في علم الكلام: للعلماء الأعلام رأى واضح في علم الكلام فهذا:

الإمام الشافعى : رأى بعض تلاميذه يتناظرون في علم الكلام فقال لهم: أتظنون أنى لا أعلمه لقد دخلت فيه حتى بلغت مبلغاً عظيماً إلا أن الكلام لا غاية له تناظروا في شيء إن أخطأتم فيه يقال أخطأتم ولا يقال كفرتم.

الإمام مالك: يقول الإمام الشاطبى كان الإمام مالك بن أنس يقول : الكلام في الدين أكرهه ولم يزل أهل بلدنا -أى العلماء - يكرّهونه وينهون عنه نحو الكلام في رأى جهم والقدر وما أشبه ذلك ولا أحب الكلام إلا فيما تحته عمل فأما الكلام في الدين وفى الله U فالسكوت أحب إلىّ لأنى رأيت أهل بلدنا ينهون عن الكلام في الدين إلا فيما تحته عمل .

وقال ابن عبد البر: قد بين مالك رحمه الله أن الكلام فيما تحته عمل هو المباح عنده وعند أهل بلده –يعنى العلماء منهم- فأخبر أن الكلام في الدين نحو القول في صفات الله وأسمائه وضرب مثلاً نحو رأى جهم والقدر قال: والذى قاله مالك عليه جماعة الفقهاء قديماً وحديثاً.

ويقول الإمام الشاطبى : وأما الجماعة فعلى ما قاله الإمام مالك -رحمه الله- إلا أن يضطر أحد إلى الكلام فلا يسعه السكوت إذا طمع في رد الباطل وصرف صاحبه عن مذهبه أو خشى ضلالة عامة أو نحو ذلك ومع ذلك فقد قال الإمام الشاطبى لا بأس بتعلم طرق الاستدلال في الحدود التي لا يأخذ بها البحث الطرق الوعرة والمسالك الشائكة فتعلم الحجة والبرهان أمر مطلوب وليس محظوراً شرعاً إنما المحظور هو التوعر فيه وسلوك السبل المعقدة والدخول به في طرق تؤدى إلى الأهواء والظنون أما معرفة طرق الاستدلال من أيسر طرق البرهان فهذا أمر مطلوب والمولى يقول (وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَّن نَّشَاء) والحق يقال أن الرسول r كان يدعو زعماء القبائل بل الناس جميعاً فكان يقدم لهم أركان الإيمان في غاية البساطة ولا عبرة بما يقال أنهم كانوا يفهمون من هذه الكلمات البسيطة كل تفاصيل العقيدة بأصولها وفروعها وما يترتب عليها بدليل أن رسول الله r خاطب بنفس هذه الكلمات البسيطة دون حواشى الفرس والروم والحبش والقبط خارج الجزيرة العربية بل العرب أنفسهم ولقد وقع من العرب بل ومن الصحابة أنفسهم رضوان الله عليهم جميعاً ما يدل على عدم فهم بعض المعاني التي تتصل بالعقيدة ونبههم لها رسول الله r وما قصة حادثة ذات أنواط منا ببعيد.

وعلى هذا فقضيتنا بعد هذا الإطناب الذي قصدنا به تبيان منهج القرآن وكيف بدأ علم الكلام وما أثير حول قضية الأسماء والصفات إنما هي قضية ما عرفها مجتمع رسول الله r على هذه الصورة التي نحن عليها اليوم دون تمييز بين أصل وفرع، ولا كفر وإيمان، وصواب وخطأ وأصبحت القضية التي يجب أن تفاصل عليها الناس في نظر بعض المسلمين بل أصبحت تقسيمات العقيدة من حيث توحيد الألوهية والربوبية والأسماء والصفات كأنها توقيفيه من عند الله I وليست اجتهاد بشر أو عالم أراد أن يواجه مشاكل عصره ويخدم دينه بلغة زمانه وإلا فماذا نقول عن المسلمين جميعاً قبل هذه التسميات التي ذكرها الإمام ابن تيمية ليعالج بها فكراً ظهر في زمانه والتى لم يعرفها المسلمون على هذه الصورة ؟

ورضوان الله على الإمام الشافعى حين قال: وقد تكلم في العلم من لو أمسك عن بعض ما تكلم فيه منه لكان الإمساك أولى به وأقرب من السلامة إن شاء الله .

 

 


فما هي قضية الأسماء والصفات التي أثيرت؟

يقول ابن القيم : التوحيد نوعان

توحيد في المعرفة والإثبات: وهو توحيد الربوبية والأسماء والصفات بمعنى أن يعتقد المؤمن إثبات ذات الله وصفاته وأفعاله فهو I الأول والآخر والظاهر والباطن والخالق إلى آخر ما يجب أن يتصف به من أسماء وهذا لم يكن مثار جدل بين المسلمين والمشركين (وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ) .

توحيد في العبادة والقصد: وهو توحيد الألوهية والعبادة أى لا يعبد إلا الله ولا يقصد إلا الله ولا يتوكل إلا عليه ولا يعادى إلا فيه ولا يعمل عملاً إلا ابتغاء وجهه وهذا الذي بسببه سُمى الكفار مشركين وهذا وقع فيه كثير من المسلمين بقصد وبغير قصد (اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ)

أسماء الله : وجميع أسماء الله تعالى كلها تعتبر صفات لله تعالى إلا اسم واحد فقط هو "الله" علم على الذات وليس صفة ويقول جمهور الفقهاء إن أسماء الله توقيفية ، يقول أبو هريرة t قال رسول الله r:"إن لله تسعًا وتسعين اسماً -مائة إلا واحداً - من أحصاها دخل الجنة" وفى رواية البخارى ومسلم"لا يحفظها واحدٌ إلا دخل الجنة وهو وتر يحب الوتر" ولقد تعلم الصحابة صفات الله من كتاب ربهم كما وصف الله نفسه وكما وصفه رسوله r دون تقعر ولا تنطع ولا جدال وما أثاروا قضية وما تكلم أحد منهم حول الأسماء والصفات بل فهموها كما نزلت.

يقول المقريزى في خططه: "اعلم أن الله تعالى لما بعث من العرب نبيه محمدًا r رسولاً إلى الناس جميعاً وصف لهم ربهم I بما وصف به نفسه الكريمة في كتابه العزيز فلم يسأله r من العرب قرويهم وبدويهم عن معنى شيء من ذلك كما كانوا يسألونه عن أمر  الصلاة والزكاة والحج"، وغير ذلك مما لله I فيه أمر ونهى وكما سألوه عن أحوال يوم القيامة والجنة والنار إذ لو سأله إنسان منهم عن شيء من الصفات الإلهية لنقل كما نقلت الأحاديث الواردة عنه r في أحكام الحلال والحرام، وفى الترغيب والترهيب إلخ، ومن أمعن النظر في دواوين الحديث النبوى ووقف على الآثار السلفية علم أنه لم يُرو قط من طريق صحيح ولا سقيم عن أحد من الصحابة رضى الله عنهم على اختلاف طبقاتهم وكثرة عددهم أنه سأل رسول الله r عن معنى شيء مما وصف الرب I نفسه الكريمة في القرآن الكريم وعلى لسان نبيه r بل كلهم فهموا معنى ذلك وسكتوا على الكلام في الصفات ولا فرق أحد منهم بين كونها صفة ذات أو صفة فعل وإنما أثبتوا له تعالى صفات أزلية من العلم والقدرة والحياة والسمع والبصر والكلام والجلال والإكرام والجود والإنعام والعزة وساقوا الكلام سوقاً واحداً فهذا حال أصحاب رسول الله r أما غير هؤلاء من الذين لم يتربوا في مدرسة النبوة ولم يلتزموا منهج القرآن فإنهم أثاروا قضايا تتصل بالعقيدة وفروعها وأصول القدرية الذين قالوا بإنكار قدر الله والمغالاة في إثبات قدرة الإنسان باعتباره حر الإرادة كما قالوا بخلق القرآن.

والجبرية (أو الجهمية أو المعطلة) الذين اعتبروا الإنسان مجبوراً كالريشة في الهواء فنفوا صفات الرب حتى لا يشبه المخلوق وقالوا بفناء الجنة والنار بعد نعيم أهل الجنة وعذاب أهل النار كما قالوا بخلق القرآن، وإنكار رؤية الله في الآخرة.

والمعتزلة الذين قالوا بالمنزلة بين المنزلتين وأن العبد يخلق أفعال نفسه بقدرة أودعها الله فيه ونفوا أيضاً صفات الله القديمة وقالوا بخلق القرآن.

الأشاعرة :  زعيمهم أبو الحسن الأشعرى تخرج على المعتزلة في علم الكلام وتتلمذ على شيخهم في عصره أبى على الجبائى وابتعد عن المعتزلة في تفكيرهم وأثبت الصفات وقرر أنها صفات تليق بذات الله ولا تشبه صفات المخلوق فسمع الله تعالى ليس كسمع الحوادث وكذلك بصره وكلامه..إلخ.

يقول الشيخ محمد أبو زهرة: قال في قول الله (يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ) يده يد تليق بذاته الكريمة وليست يد جارحة كأيدينا بل يده يد صفة كالسمع والبصر وهذا ما ذكره في كتاب الإبانة ولكن يظهر أنه رجع عن هذا الرأى وأوّل الصفات في كتاب اللمع إذ أوّل اليد بالقدرة.

يقول فضيلة الدكتور يوسف القرضاوى بأنه يحتمل أن يكون الأشعرى قد رجع عن التأويل إلى منهج السنة في آخر زمانه وهذا هو الراجح عنده – وإن كان رأيه الأول التأويل له وجه في اللغة تحتمله ورأى السلف أولى بالإتباع.

ويقول فضيلة الشيخ أحمد بن حجر قاضى المحكمة الشرعية الأولى بدولة قطر: قال الإمام الأشعرى في كتابه "الإبانة" وكتاب "مقالات الإسلاميين" صرح رحمه الله بإثبات جميع الصفات الواردة في القرآن والحديث كالاستواء والوجه واليد والنزول إلى غير ذلك فما عذر هؤلاء المنتسبين إلى أبى الحسن الأشعرى رحمه الله زاعمين أنهم أشعريون وعقيدتهم في هذه الصفات كعقيدة المعتزلة والجهمية، ولا شك أن انتسابهم إلى أبى الحسن الأشعرى رحمه الله في هذه الصفات غير صحيح ولا أدرى بماذا يعتذرون إلا أن ينكروا كتاب الإبانة وكتاب مقالات الإسلاميين فإن إنكارهم لا يجدى لأن المؤرخين ذكروا هذين الكتابين في ترجمته وأثبتهما الإمام ابن عساكر في كتابه "تبيين كذب المفترى فيما نسب إلى الإمام الأشعرى" وكذا ذكر السبكى في الطبقات أن عقيدة الإمام نحو ما ذكرت، واسمع إلى سماحة الشيخ محمد بن صالح العثيمين في شرح "لمعة الاعتقاد" لموفق الدين ابن قدامة يقول فيه الرجل العالم الجليل:"اعلم أن حكم التأويل على ثلاثة أقسام:

الأول أن يكون صادراً عن اجتهاد وحسن نية بحيث إذا تبين له الحق رجع عن تأويله فهذا معفو عنه لأن هذا منتهى وسعه وقد قال تعالى (لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا) .

الثانى أن يكون صادراً عن هوى وتعصب وله وجه في اللغة العربية فهو فسق وليس بكفر إلا أن يتضمن نقصاً أو عيباً في حق الله فيكون كفراً أعاذنا الله منه.

الثالث أن يكون صادراً عن هوى وتعصب وليس له وجه في اللغة العربية فهذا كفر لأن حقيقته التكذيب حيث لا وجه له".

وقد صدرت فتوى صادرة من اللجنة الدائمة للإفتاء بالمملكة العربية السعودية جاء فيها "موقفنا من أبى بكر الباقلانى والبيهقى وأبى فرج ابن الجوزى وأبى زكريا النووى وابن حجر وأمثالهم ممن تأول بعض صفات الله تعالى أو فوضوا في أصل معناها كمثل (وَجَاء رَبُّكَ) قالوا وجاء أمر ربك أنهم في نظرنا من كبار علماء المسلمين الذين نفع الله الأمة بعلمهم ورحمهم الله رحمة واسعة وجزاهم عنا خير الجزاء وأنهم من أهل السنة فيما وافقوا فيه  الصحابة y وأئمة  السلف في القرون الثلاثة التي شهد لها النبى r بالخير وأنهم أخطئوا فيما تأولوه من نصوص الصفات وخالفوا فيه سلف الأمة وأئمة السنة رحمهم الله سواء تأولوا الصفات الذاتية وصفات الأفعال أم بعض ذلك " رقم الفتيا 3/173 .

وقد تعصب كثير من الأئمة لمذهب الأشعري منهم أبو بكر الباقلاني المتوفى سنة 403هـ والإمام الغزالي والبيضاوى المتوفى سنة 701هـ وكان مناظرًا مجيداً وإماماً متعبداً وفقيهاً مدققاً وله في علم العقائد كتاب الطوالع وكذلك الشريف الجرحانى وكان فقيهاً حنفياً وغيره كثير.

الماتريدية: إمامها هو محمد بن محمد بن محمود المعروف بأبى منصور الماتريدى ولد بماتريد بسمرقند فيما وراء النهر وتوفي سنة 333هـ.

قرر العلماء أن ما وصل إليه يتفق مع ما رواه الإمام أبو حنيفة فهم يعتبرون معرفة الله مدركة الوجوب بالعقل بعكس الأشاعرة الذين يعتبرونها واجبة بالشرع وهم يعتبرون للأشياء حسناً ذاتياً يدركه العقل فالعقل عندهم يستقل بمعرفة الله ولكنه لا يستقل بمعرفة الأحكام التكليفية وهذا رأى أبى حنيفة t وهم يؤولون الصفات.

وهذه هي أهم الفرق الإسلامية وآراؤها – باختصار شديد – في قضايا العقيدة فما هو رأى السلف؟

رأى ابن تيمية : يقول إن طرائق العلماء في فهم العقائد الإسلامية أربعة أقسام:

القسم الأول: الفلاسفة وهؤلاء يقولون جاء القرآن بالطريقة الخطابية والمقدمات الإقناعية التي تقنع الجمهور ويدعون أنهم هم أهل البرهان واليقين لأن العقائد طريقها البرهان واليقين .

القسم الثانى : المتكلمون (المعتزلة) وهؤلاء يقدمون قضايا عقلية قبل النظر في الآيات القرآنية فهم يأخذون بالنوعين من الاستدلال -العقل والنقل- ولكن يقدمون النظر العقلى على الدليل القرآنى. فيأولون على مقتضى العقل وإن كانوا لا يخرجون عن عقائد القرآن .

القسم الثالث: طائفة من العلماء –الماتريدية- تنظر إلى ما في القرآن من عقائد للعقل فتؤمن بها فتأخذه لا على أنه أدلة هادية مرشدة موجهة للعقل ليلتمس المقدمات من بينها بل على أنها آيات إخبارية يجب الإيمان بما اشتملت عليه من غير أن يتخذ مضمونها مقدمة للاستنباط العقلى وهم يستعينون بالعقل ليبرهنوا على عقائد القرآن .

القسم الرابع : وهو قسم يؤمن بالقرآن -عقائده وأدلته - ولكنه يستعين بالأدلة العقلية بجوار الأدلة القرآنية وهم الأشاعرة.

ثم يقول ابن تيمية : ومنهج السلف ليس واحداً من هذه الأربعة بل هو غيرهم لأن العقائد لا تؤخذ إلا من النصوص القرآنية .

فأهل السلف يثبتون ما جاء في القرآن والسنة عن أوصافه I أو شئونه فيثبتون له المحبة، والغضب، والسخط والرضا والنداء والكلام والنزول إلى الناس في ظلل من الغمام ويثبتون الاستواء على العرش، والوجه واليد من غير تأويل ولا تفسير بغير الظاهر لأن هذه الصفات ليست كشأن الحوادث.

فالصواب في هذا هو أن يوصف الله تعالى بما وصف به نفسه أو وصفه به رسوله r لا يتجاوز القرآن والحديث.

وقال: إن مذهب أهل السلف بين التعطيل والتمثيل فلا يمثلون صفات الله تعالى بصفات خلقه كما لا يمثلون ذاته بذوات خلقه ولا ينفون عنه ما وصف به نفسه ، أو وصفه به رسوله r فيعطلون أسماءه الحسنى وصفاته العليا ويحرفون الكلم عن مواضعه ويلحدون في أسماء الله وآياته.

ولقد سبق ابن تيمية في هذا الرأى طائفة من الحنابلة منهم أبو يعلى الحنبلى سنة 405هـ وابن الزاغونى سنة 527هـ والجدير بالذكر أن طائفة أخرى من الحنابلة خالفوا هذا الرأى وقالوا إنه يؤدى إلى التشبيه والجسمية لا محالة وكيف لا يؤدى إليهما والإشارة الحسية إليه جائزة ومن هؤلاء:

ابن الجوزى الفقيه الحنبلى الذي تصدى لهذا الرأى وقال ليس هذا بمذهب السلف بالنفى أن يكون هذا رأى الإمام أحمد بن حنبل وقال بالتأويل وقالت طائفة من الحنابلة في أبى يعلى القاضى الحنبلى "لقد شان أبو يعلى الحنابلة شيئاً لا يغسله ماء البحر " وكذلك قالوا في ابن الزاغونى "إن في قوله من غرائب التشبيه ما يحار فيه النبيه"

وقد استنكر الحنابلة هذا الاتجاه عندما شاع في القرن الرابع والخامس حتى استتر هذا المذهب إلى أن أعلنه الإمام ابن تيمية مرة أخرى .

المسلك القويم : والمسلك القويم كما قال الإمام الشوكانى أن تجعل عمدتك في هذه القضية هاتين الآيتين:

(لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ) وقوله (وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا) فيهما الإثبات والنفى ، إثبات صفات البارى ونفى المماثلة للحوادث ثم تقييد هذا الإثبات بظاهر ما صرحت به الآيات وأجملته والزجر عن الخوض في كيفية هذه الصفات فإن الله I  قد أخبرنا أنهم لا يحيطون به علماً فمن زعم أن ذاته كذا أو صفته كذا ، فلاشك أن صحة ذلك متوقفة على الإحاطة ،وقد نفيت عن كل فرد من الأفراد (وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا) ولذلك لما سئل بن الصلاح عن رجلين تشاجرا في قوله ينزل ربكم في كل ليلة إلى سماء الدنيا (الحديث) فقال أحدهما للآخر الحديث يتأول وقال الآخر بل هو كما جاء ليس فيه تأويل بل ينزل وكذا في جميع الصفات والآيات والأخبار وكل واحد يدعى الصحة في قوله.

أجاب رضى الله عنه: الذي عليه الصالحون من السلف والخلف رضى الله عنهم في ذلك جميعاً على الإيمان الحق والإعراض عن الخوض في معانيها مع اعتقاد التقديس المطلق وإنه ليس معناها ما فهم من مثلها حق المخلوق والله أعلم.

الإمام البنا : عد إلى رسالة العقائد فستجد نفس المعانى التي أثبتها علماء السلف والتى ذكرناها هي نفسها التي ذكرها الإمام البنا في رسالة العقائد فبعد أن تكلم عن صفات الله في القرآن من حيث الوجود والبقاء والقيام بنفسه والوحدانية والقدرة والإرادة والعلم والحياة والسمع والبصر والكلام.

قال رحمه الله : وصفات الله تبارك وتعالى كثيرة وكمالاته تبارك وتعالى لا تتناهى ولا تدرك عقول البشر كنهها سبحانه لا نحصى ثناء عليه هو كما أثنى على نفسه .

يقول الإمام البنا :"اعلم أن جمهور المسلمين على أنه لا يصح أن نطلق على الله تعالى اسماً أو وصفاً لم يرد به الشرع بقصد اتخاذه اسماً له تعالى وإن كان يشعر بالكمال فلا يصح أن نقول، هو مهندس الكون الأعظم، ولا نقول مثلاً المدير العام لشئون الخلق على أن تكون هذه أسماء أو صفات له تعالى هذا أمر لا ينبغى؛ لأن الصفات والأسماء توقيفية من عند الله I ليس لنا أن نزيد عليها أو أن ننقص ولقد انقسم الناس في هذه المسألة على أربعة فرق: الفرقة الأولى : أخذت بظواهرها كما هي فنسبت إلى الله وجهاً كوجوه الخلق –تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً- ويداً كأيديهم وضحكاً كضحكهم وهكذا حتى فرضوا الإله شيخاً وبعضهم فرضه شاباً وهؤلاء هم المجسمة والمشبهة وصفوا هذه الصفات بصفات المخلوق هذه واحدة ليسوا من الإسلام في شيء وليس في قولهم نصيب من الصحة لأن المولى يقول (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ) (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ، اللَّهُ الصَّمَدُ، لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ، وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ) هؤلاء هم المجسمة والمشبهة وهي فرقة من الفرق ليست الضالة فحسب بل الكافرة بتجسيدهم الإله تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً.

وفرقة عطلت معانى هذه الألفاظ على وجه يقصدون بذلك نفى مدلولاتها مطلقاً عن الله تبارك وتعالى فالله تبارك وتعالى عندهم لا يتكلم ولا يسمع ولا يبصر عكس الأخرى يقولون لأن ذلك لا يكون إلا لجارحة فإذاً هم يشبهوه بالمخلوق أيضًا والجوارح يجب أن تنفى عنه I فبذلك يعطلون صفات الله I ويتظاهرون بتقديسه، وهذان رأيان باطلان لا حظ لهما من النظر وبقى أمامنا رأيان هما محل أنظار العلماء في العقائد وهما رأى السلف ورأى الخلف.

ثم قسم الناس في هذه القضية إلى أربعة فرق وتكلم عن كل واحدة بما يوافق كلام السلف ثم عقد مقارنة بين السلف والخلف وقال:

ترجيح مذهب السلف: ونحن نعتقد أن رأى السلف من السكوت وتفويض علم هذه المعانى إلى الله تبارك وتعالى أسلم وأولى بالإتباع حسماً لمادة التأويل والتعطيل –يقصد تفويض علم الكيفية- فإن كنت ممن أسعده الله بطمأنينة الإيمان وأثلج صدره ببرد اليقين فلا تعدل به بديلاً ونعتقد إلى جانب هذا تأويلات الخلف لا توجب الحكم عليهم بكفر ولا فسوق ولا تستدعى هذا النزاع الطويل بينهم وبين غيرهم قديماً وحديثاً وصدر الإسلام أوسع من هذا كله.

فهل هذا الكلام فيه خروج على رأى السلف ؟

نحن نجمل لك: رأى السلف والخلف في سطور قليلة لتتضح لك المقارنة.

السلف يقولون :

1-نؤمن بما ثبت من الصفات (اليد والعين والاستواء ...إلخ) كما هي لأن القرآن والسنة قد ذكروا ذلك.

2-ونحن نفهم من هذه الصفات معناً ذهنياً مطلقاً هذا المعنى عند إضافته للخالق I يختلف تماماً عنه إذا أُضيف  للمخلوق ولا يشبهه فهو في حق الله كامل بما يليق بجلاله وفى حق المخلوق ناقص .

3-لا يعرف حقيقة هذه المعانى وكنهها إلا الله فنحن نفوض إليه I معرفة المراد بهذه الصفات من حيث معانيها اللائقة به كمالاً وكنهًا.

 

الخلف يقولون :

1-نؤمن بكل ما جاء في القرآن والسنة مما يتعلق بصفات الله [اليد والعين والاستواء ...إلخ].

2-نؤمن أن هذه الصفات ليس المقصود منها معانيها في حق المخلوقين فالله لا يشبهه شيء.

3-نقطع بأن معانى هذه الصفات [اليد والعين والاستواء ...إلخ] ليست على ظاهرها المراد في حق المخلوقات. وليس هناك ظاهر إلا المعروف في حق المخلوق بذلك نحمله على ما تجيزه اللغة ولا يصطدم مع الشرع لنبتعد عن شبهة المماثلة التي تتبادر إلى الذهن لأن الذهن ألف إطلاق هذه الصفات على المعنى المضاف إلى المخلوق فالمسافة كما ترى ليست بعيدة بين الاثنين وهذا ليس رأى الإمام البنا وحده ولكن معه من أئمة السلف الكثير.

واسمع ما قاله الإمام الشاطبى : يقول : "ومن أشد مسائل الخلاف –مثلاً- مسألة إثبات الصفات حيث نفاها من نفاها فإذا نظرنا إلى مقاصد الفريقين وجدنا كل واحد منهما حائماً حول حمى التنزيه ونفى النقائص وسمات الحدوث وهو مطلوب الأدلة وإنما وقع اختلافهم في الطريق وذلك لا يخل بالقصد في الطرفين معاً فالحاصل في هذا الخلاف أشبه الواقع بينه وبين الواقع في الفروع "أي أنها من مسائل الخلاف حيث قال : ولا يوجب هذا الخلاف تكفير كل من أخطأ فيها إلا أن تقوم فيه شروط التكفير.

ويقول الإمام ابن تيمية : فأما سائر وجوه الاختلاف كاختلاف التنوع والاختلاف الاعتبارى واللفظى فأمره قريب وهو كثير أو غالب على الخلاف في المسائل الخبرية" والمسائل الخبرية أي مسائل العقيدة الدقيقة أغلبه خلاف اعتبارى ولفظى.

ويقول الشيخ أبو زهرة : إن اختلاف العلماء في هذه المعانى لا يقتضى أن يُكفّر فريق لآخر لأنه اختلاف نظر لا اختلاف حقيقة .

فلقد أصاب الإمام البنا فيما قال ووافق السلف في قولهم ولم يخالفهم فيما قالوا فالكلام أم الذي سمعته من الفقهاء هو عين ما قاله البنا .

ومع هذا يجب أن ننبه على أمرين

1-أن الخلاف قريب بين السلف وهذه الطائفة التي أولت الصفات في دائرة اللغة والشرع ولا يصطدم.

2-ونحذر من شبهتين: الأولى شبهة من ظن أن الإثبات القصد منه مشابهة الحوادث ، فيظن أن المقصود باليد يد كأيدينا –تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً – وانتهى الأمر بهم على التجسيد والتشبيه.

والشبهة الثانية من ظن أن التأويل هو النفى فنفى عن البارى I السمع والبصر إلخ. فطريق أهل السنة والجماعة محصور بين من أثبت بالشروط التي ذكرناها – وهم من قال عنهم الإمام البنا فإن كنت ممن أسعده الله بطمأنينة الإيمان.." وبين من أوّل بالشروط التي ذكرنا وهم من قال عنهم الإمام البنا أنهم لا يجب الحكم عليهم بكفر ولا فسوق.

بعد هذا الذي سقناه لك لنبين مطابقة ما قاله الإمام البنا مع ما قاله علماء السلف في هذه القضية إلا أن من الغريب حقاً أن ترى بعض المسلمين يتركون كل ما قاله موضحاً رأيه ويتمسكون بكلمة قالها في معرض كلامه في هذه القضية حين قال "ونحن نعتقد أن رأى السلف من السكوت وتفويض علم هذه المعانى إلى الله تبارك وتعالى أسلم وأولى بالاتباع" فإذا بهم تارة يرمون الإمام البنا بالتفويض وأنه أشعرى علماً بأنهم ينسون أن الأشعرى كان إمام أهل السنة والجماعة في زمانه وتارة يرمونه بأنه جهمى والجهمية من المبتدعة الذين نفوا الصفات تماماً والإمام البنا منهم برئ.

والحقيقة التي نريد أن نؤكد عليها أن الإمام البنا tلم يكن غرضه أن يكون مدرس عقيدة أو مدرس فقه ولكن كان كل همه أن يدعو إلى الإسلام ويربى عليه رجال والذى يقرأ ما كتبه يجد اهتمامه وتركيزه في غرس العقيدة وتربية جيل عليها وحين تكلم عن معانى الإسلام كان دائماً يشير إلى منهج الرسول r في غرس هذه العقيدة ونحى منحى رسول الله r في تربية الرجال عليها ودائماً كان يركز على أثرها في تربية الرجال، هذا هو الذي اهتم به ولم يخض لا في المصطلحات الفلسفية ولا في التعبيرات الكلامية ولا كان يميل إلى الدخول في هذه المساجلات التي لا تسمن ولا تغنى من جوع ولكن كان منهجه في تقديم العقيدة هو منهج القرآن والسنة المطهرة يقول الإمام البنا:لم ألجأ إلى المصطلحات الفنية التي تواضع عليها العلماء المختصون بعلم الكلام ولا النظريات الفلسفية ولا الأساليب المتعمقة التي درج عليها المتكلمون ولكن سألجأ إلى القرآن الكريم والسنة المطهرة وما عرفناه من سيرة الصدر الأول. ولو أننا نظرنا إلى منهج القرآن في عرض الأسماء والصفات بعيد عن هذا الجدل الذي يعيش فيه الناس لو أننا قرأنا آيات تثبت صفات لله I وقدرته القادرة كما يقول القرآن فمثلاً (أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّىَ يُحْيِي هَذِهِ اللّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللّهُ مِئَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَل لَّبِثْتَ مِئَةَ عَامٍ فَانظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِّلنَّاسِ وَانظُرْ إِلَى العِظَامِ كَيْفَ نُنشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ).

وتأمل ما يقوله سيدنا إبراهيم عليه السلام (رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَى وَلَكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِّنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِّنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) فانظر إلى عرض الصفات لتعطي العقل حقه من التفكير كما تعطي للقلب اطمئنانه واستقراره وشعوره بقدرة الله I وهذا هو المنهج القرآنى. ولذلك بَعُد الإمام البنا عن تكفير الناس لأن هذه ليست مهمته ولا رسالته ولكن مهمته أن يبين ويدعو ويستثير العقول لتفكر ويستجيش عواطف ومشاعر القلوب كي تستطيع أن ترى طريق الله I ولذلك فإن الإمام البنا رضوان الله عليه لم يفاتح العامة في مثل هذه القضايا، فليست هذه القضايا لعامة الناس إنما هي كما قال المولى (فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ).

فما هو التفويض الذي اتهم به الإمام البنا؟

إن التفويض من الألفاظ المجملة التي تضم تحتها معان مختلفة فهو ينقسم إلى نوعين :

أ- نوع مذموم يجب أن ننأى عنه.

ب- نوع محمود يجب أن نقول به ونعتقده.

فأما المذموم الذي يجب أن ننأى عنه هو أن يظن امرؤ أن ألفاظ هذه الآيات وأحاديثها – آيات الصفات وأحاديثها- ليس لها معان ولا يفهم منها شيء على أي وجه من الوجوه فهى عنده بمثابة طسم، كهيعص إلخ فالسلف كانوا يقرءون آيات الصفات وأحاديثها ويتدبرونها لأن الله يقول (أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا) وكانوا يفهمون الآيات على معانيها ولكن ليست المعاني المرادفة للغة فليس هذا هو المقصود بمنهج السلف لأن الخلف كانوا يفهمون هذه المعاني إنما المعاني التي كان يفهمها السلف من الآيات والأحاديث هي المعاني الكلية العامة المجردة فإذا أضيفت هذه المعانى المجردة اختلفت دلالتها تماماً في حق الخالق عن دلالتها في حق المخلوق فإذا تدبرت ذلك زال الإبهام.

أما النوع المحمود اعتقاده : هو تفويض حقيقة معناها عند إضافتها للمولى I لأننا لا ندرك كنه الذات ولذلك فلا يمكننا أن ندرك كنه الصفات فإنه I (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) (وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا)

ولذلك يقول الإمام السيوطى : السلف وأهل الحديث على الإيمان بها وتفويض معناها المراد إلى الله تعالى ولا نفسرها هذا ما قاله الإمام السيوطي وإليك ما قاله الإمام البنا:"ومعرفة الله تبارك وتعالى وتوحيده وتنزيهه من أسمى عقائد الإسلام وآيات الصفات وأحاديثها الصحيحة وما لحق بذلك من المتشابه نؤمن به كما جاء من غير تأويل ولا تعطيل ولا نتعرض لما جاء فيه من خلاف بين العلماء ويسعنا ما وسع رسول الله r وأصحابه (وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا)" ويقول :"والذى يجب أن يتفطن له المؤمن أن المعنى الذي يقصد باللفظ في صفات الله تبارك وتعالى يختلف اختلافاً كلياً عن المعنى الذي يقصد بهذا اللفظ عينه في صفات المخلوقين...إلخ ثم يقول: فهذه كلها مدلولات الألفاظ فيها تختلف عن مدلولاتها في حق الخلق من حيث الكمال والكيفية اختلافاً كلياً لأنه تبارك وتعالى لا يشبه أحداً من خلقه فتفطن لهذا المعنى فإنه دقيق"

فماذا في هذا حين يفوض حقيقة المعنى المتعلق بذات الله وعدم إدراك مدلولات الألفاظ من حيث الكمال والكيفية فهل يدعى أحد معرفة حقائق ما يتعلق بذات الله والإحاطة بذلك؟ أم يفوضها لله تعالى؟ وهذا ما قال به الإمام البنا رحمه الله وهو نفس ما قاله الإمام مالك : أن الاستواء معلوم والكيف مجهول والإيمان به واجب والسؤال عنه بدعة.

يقول الشيخ محمد الأمين الشنقيطي :"واعلموا أن آيات الصفات كثير من الناس يطلق عليها اسم المتشابه وهذا من جهة غلط ومن جهة قد يسوغ كما قال مالك بن أنس بقوله الاستواء غير مجهول والكيف غير معقول والسؤال عنه بدعة والإيمان به واجب فكون الاستواء غير مجهول يدل على أن معناه غير متشابه بل هو معروف عند العرب وقوله والكيف غير معقول يدل على عجز البشر عن إدراكه وما استأثر الله بعلمه يسمى متشابه" كل ما استأثر الله بعلمه يسمى متشابه (وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللّهُ) I وهو بالنسبة إلى المعنى غير متشابه وبالنسبة إلى كيفية الاتصاف به متشابه ولذلك هذه الأمور تذكرنا موقف الرسول r مع الجارية التي سألها الرسول r أين الله؟ فأشارت إلى السماء وقالت: في السماء فقال: اعتقها فإنها مؤمنة" جاء عن بعض السلف أنهم قالوا في الصفات أمِرّوها كما جاءت بلا تفسير ووضعوا لذلك قاعدة أسموها "الإقرار والإمرار" يعنى نقر الصفة ونمرر الكيف .

وقال به الإمام السيوطى :"ومن المتشابه آيات الصفات نحو(الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى)و (يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ) وجمهور أهل السنة ومنهم السلف وأهل الحديث على الإيمان بها وتفويض معناها المراد إلى الله تعالى ولا نفسرها مع تنزيهنا له عن حقيقتها".

فالمنهي عنه كما قال نعيم بن حماد والخزاعي شيخ البخاري هو أن ننكر ما وصف الله به نفسه فهذا كفر أو أن نشبه الله بخلقه فهذا كفر ، إنما نثبت لله تعالى ما أثبت لنفسه من الصفات ولكن معاني هذه الصفات يفهمها الناس كلٌ على قدر فهمه كما قاله الإمام ابن تيمية فيفرقون بين السمع والبصر أما كيفية هذه الصفات فلا يعلمها إلا الله تعالى فهل قال الإمام البنا بغير ذلك؟

إن هذه الاتهامات ليست جديدة على علماء الأمة بل هي أمور قديمة فالمعتزلة أنفسهم يتهمون من لا يقول بتخليد مرتكب الكبيرة بأنه من المرجئة ونحن في نظرهم كذلك ، وقد أطلق على أبى حنيفة وتلاميذه أبى يوسف ومحمد ابن الحسن وغيرهم اسم المرجئة وكذلك قيل عن سعيد بن جبير ومقاتل بن سليمان وحماد بن أبى سليمان شيخ أبى حنيفة وغيرهم فكيف لا يُتهم الإمام البنا ؟ ليس بدعاً من العلماء ولو سرنا على منهج هؤلاء الذين يتهمون البنا لقلنا إن ابن القيم من الجهمية لأنه قال كما قالوا بفناء الجنة والنار وإن أحداً لم يُبدَّعه لأن هذا ليس بمنهج علمى لأنه لا ينظر إلى جميع آراء ابن القيم كلها ويحكم عليها وإنما حكم مجرد أن قرأ عنده معنى واحد فساقه وعمم وهذا الأسلوب يفرق ولا يجمع يُبغض ولا يحبب يمزق ولا يؤلف فما أطيب منهاج السلف!

للعقيدة أصول وفروع :

والذى يجب أن ننبه إليه ونؤكد عليه أن للعقيدة أصولاً وفروعاً والخلاف في فروع العقيدة فيه نظر ولا إنكار فيه طالما أنه يحتمل وجوهاً فهذه أم المؤمنين عائشة رضى الله عنها خالفت ابن عباس وغيره من الصحابة في أن محمداً r رأى ربه وقالت: من زعم أن محمداً r رأى ربه فقد أعظم على الله الفرية، بينما جمهور العلماء على رأى ابن عباس ولا يبدعون المانعين الذين وافقوا أم المؤمنين رضى الله عنها.

لقد أنكرت أيضًا أن يكون الأموات يسمعون دعاء الحى لما قيل أن النبى r قال "ما أنتم بأسمع لما أقول منهم" فقالت إنما قال : إنهم ليعلمون الآن أن ما قلت لهم الحق. بالرغم من أن الموتى يسمعون خفق النعال كما ثبت عن رسول الله r "ما من رجل يمر بقبر الرجل كان يعرفه في الدنيا فيسلم عليه إلا رد الله عليه روحه حتى يرد السلام" إلى غير ذلك من الأحاديث الصحيحة التي لم تمنع أم المؤمنين رضى الله عنها من خلافها مع ابن عباس رضي الله عنهم أجمعين، فهل نسوى بين أصول العقيدة وفروعها؟

وعلى هذا فأهل السنة -كما رأيت– وسط بين الفرق في الأسماء والصفات فهم بين من عطّل ومن شبه ينزهون بلا تعطيل ويثبتون بلا كيف وهم وسط بين القدرية والجبرية فأثبتوا للإنسان مشيئة وإرادة وقالوا أفعال العبد من الله خلقاً وتقديراً وإيجاداً ومن العبد فعلاً وكسباً ومباشرة.

وهم وسط بين من كفر مرتكب الكبيرة وبين المرجئة الذين قالوا : لا يضر مع الإيمان معصية ولا ينفع مع الكفر طاعة، فلا يقولون بتخليد مرتكب الكبيرة ويقولون أهل الكبائر تحت المشيئة " إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء" فما دون الشرك الأكبر تحت المشيئة فهو مؤمن بإيمانه فاسق بكبيرته أي ليس مؤمناً كاملاً.

ووسط في نظرهم للصحابة رضوان الله عليهم بين من فسقهم وكفرهم ومن عصمهم وعظمهم تقديساً فهم يحترمونهم ويجلونهم ويحبونهم ويثنون عليهم " لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ..." " وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ " وأمسكوا عن الخوض في خلافهم فالواجب إتباعهم فنتكلم فيما تكلموا فيه ونسكت عما سكتوا عنه ويسعنا ما وسعهم.

فهل نأخذ بهذا المنهج جميعاً ونتعاون فيما اتفقنا عليه ويعذر بعضنا بعضاً فيما اختلفنا فيه ونضع ما أمرنا الرسول r به موضع التنفيذ :"وكونوا عباد الله إخوانا" حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله.

يروى لنا البخارى عن زينب بنت جحش أنها قالت : استيقظ النبى r محمرا ًوجهه يقول : "لا إله إلا الله ويل للعرب من شر قد اقترب" (الحديث). يقول الشيخ أبو زهرة : يشير r إلى ما سيجرى بين المسلمين من خلاف من بعده.

وعن كرز بن علقمة الخُزاعى t قال، قال أعرابى يا رسول الله هل للإسلام من منتهى قال : "نعم أيما أهل بيت من العرب أو العجم أراد الله U بهم خيراً أدخل عليهم الإسلام" قال : ثم ماذا يا رسول الله ؟قال : "ثم تقع فتن كأنها الظلل"، قال الأعرابى : كلا – وفى رواية كلا والله إن شاء الله – قال r "بلى والذى نفسي بيده لتعودن فيها أساوِد صبا يضرب بعضكم رقاب بعض "، وفي رواية زاد وقال r : "وأفضل الناس يومئذ مؤمن معتزل في شعب من الشعاب يتقى ربه تبارك وتعالى ويدع الناس من شره" وصدق الإمام البنا حين قال: "إلى متى تتقارض أمتنا التهم وتتبادل الظنون وتتنابز بالألقاب وتترك يقيناً يؤيده الواقع في سبيل ظن توحيه الشكوك؟ فاللهم جنبنا الفتن ما ظهر منها وما بطن واجعل أعمالنا خالصة لوجهك الكريم ليس لأحد فيها شيء، اللهم آمين.

 


الأصل الحادي عشر

البدعة الضلالة التي يجب محاربتها

"وكل بدعة في دين الله لا أصل لها استحسنها الناس بأهوائهم سواء بالزيادة فيه أو بالنقص منه ضلالة يجب محاربتها والقضاء عليها بأفضل الوسائل التي لا تؤدى إلى ما هو شر منها".

هذا الأصل يعالج :

1-البدعة الحقيقية وماهيتها.

2-محاربتها بأفضل الوسائل.

الحقيقة أن هذا الموضوع حدث فيه لغط كثير والتبست مفاهيمه عند كثير من الناس وخلطوا خلطاً كبيراً فيه والصورة التي نراها اليوم بتكرار كلمة البدعة في صغير الأمر وكبيره خير شاهد مما يجعلنا نحتاج إلى ضبط فقهي لهذا المصطلح حتى نتبين ما هي البدعة الضلالة التي يجب محاربتها، والبدعة التي اختلف فيها العلماء، والحقيقة لكي نرسم إطاراً دقيقاً يحدد الحكم الصحيح لهذا الموضوع يجب أن نعلم أولاً أن رسول الله r جاء برسالة سمحة تتسع لكل مطالب الناس وتفي بكل مستلزمات الحياة " مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ " فالمولى I من يوم أن قال لرسولنا r (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا) فكلمات هذه الآية أنها تبين لنا أن الأمر قد اكتمل وأن الرسول r بين أمر الدين ووضحه بما لا يدع مجالاً للتساؤل في أصول العقيدة وأصول العبادة وثوابت الإسلام.

ومن هنا فإن الرسول r حين شرع لنا سنن الهدى قال r :"عليكم بسنتى وسنة الخلفاء الراشدين المهديين عضوا عليها بالنواجز وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة" إنها رسالة شاملة فصلت ما لا يتغير من الشئون الدينية ، وأجملت ما يتغير مما يتعلق بتنظيم الدنيا واستغلال خيرات الكون لتتيح للمسلم سبل التقدم المادى والرقى والتطور الحضارى والوصول في مجال العمل والإبداع والإنشاء والاختراع إلى أقصى غاية لتكون الأمة الإسلامية كما أرادها الله خير أمة أخرجت للناس.

وعلى هذا فإن الأمور التي أمر فيها الرسول r بأمر أو نهى عن شيء مطلوب فيها الطاعة والالتزام بفعل المأمور وترك المحظور مصداقاً لقول الله تعالى (وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا إن الله شديد العقاب)

والمسلم وقَّاف عندها لا يتخطاها بحال من الأحوال لأن كل ما خالف سنة رسول الله r بدعة لا يرضاها الله ورسوله ذلك لأن حقيقة الدين تتمثل في أمرين:

أولاً-ألا يعبد إلا الله.

ثانياُ-ألا يعبد إلا بما شرع .

فمن ابتدع في ذلك شيئاً فهى ضلالة ترد عليه لأن الشارع وحده هو صاحب هذا الحق (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ) هذا في العبادات .

وأما العادات أو المعاملات فليس الشارع الحكيم منشأ لها بل الناس هم الذين أنشئوها وتعاملوا بها والشارع الحكيم جاء إما مصححاً لها أو معدلاً ومهذباً أو مقراً في بعض الأحيان ما خلا عن الفساد والضرر منها.

يقول شيخ الإسلام ابن تيمية:"إن تصرفات العباد من الأقوال والأفعال نوعين:

1-عبادات يصلح بها دينهم.

2-عادات يحتاجون إليها في دنياهم .

وباستقراء أمور الشريعة نعلم أن العبادات التي أوجبها الله أو أحبها لا يثبت الأمر بها إلا بالشرع.

وأما العادات فهى ما اعتاده الناس في دنياهم مما يحتاجون إليه والأصل فيه عدم الحظر فلا يحظر منه إلا ما حظره الله I وذلك لأن الأمر والنهى هما شرع الله، والعبادة لابد أن تكون مأموراً بها، فما لم يثبت أنه مأمور به كيف يحكم عليه بأنه محظور؟

قاعدة نفيسة : يقول الإمام أحمد وفقهاء أهل الحديث : إن الأصل في العبادات التوقيف فلا يشرع فيها إلا ما شرعه الله وإلا دخلنا في معنى قوله تعالى (أَمْ لَهُمْ شُرَكَاء شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ اللَّهُ) .

والعادات الأصل فيها العفو ، فلا يحظر فيها إلا ما حرمه الله وإلا دخلنا في معنى قوله (قُلْ أَرَأَيْتُم مَّا أَنزَلَ اللّهُ لَكُم مِّن رِّزْقٍ فَجَعَلْتُم مِّنْهُ حَرَامًا وَحَلاَلاً...) ومن هذا قول جابر بن عبد الله t في الحديث الصحيح "كنا نعزل والقرآن ينزل فلو كان شيء ينهى عنه لنهى عنه القرآن" فهم في حل لأفعالهم حتى يبين القرآن.

فالأصل في الأشياء الإباحة فلا حرام إلا ما ورد به نص صريح صحيح من الشارع بتحريمه وإلا بقى الأمر على أصل الإباحة والحل – كما ذكرنا في الأصل الخامس.

وهنا يعنّ لنا سؤال ما هي البدعة إذاً؟

لابد أن نعلم أن مقابل البدعة السنة فنحدد أولاً معنى السنة؛ لأن ابن عباس t وقف أمام قول الله (يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ) فقال: تبيض وجوه أهل السنة وتسود وجوه أهل البدعة.

فما هي السنة؟

السنة: لها معنى لغوى، فهي تعنى الطريقة سواء أكانت محمودة أم مرفوضة لكن يختلف المعنى تماماً إذا انتقلنا إلى المعنى الشرعى فهى ما بيَّن الرسول r من كتاب الله تعالى بالقول أو الفعل وهى طريقته المتبعة التي فيها بيان لهذا الدين سواء أكان قولاً أو فعلاً أو تركاً أو تقريراً كما بيَّن العلماء .

أما البدعة : لغة هي الاختراع على غير مثال سابق قال تعالى (بديع السموات والأرض) وقال (قل ما كنت بدعاً من الرسل) .

أما تعريفها شرعاً فهى ما أحدث بعد الرسالة على سبيل التقرب إلى الله ولم يكن فعلها الرسول r ولا أمر بها ولا أقرها ولا فعلتها الصحابة.

وهى الحديث في الدين و (في الدين) هذا لفظ مقصود بذاته، فعندما نقول في الدين نكون قد أخرجنا العادات والتقاليد إلا ما نهى الرسول r عنه بعينه وما أستُحدث من بعد النبى r من الأهواء والأعمال، هذه الأمور التي استحدثت في الدين هي ما يطلق عليها كلمة البدعة وهناك خلط في هذه الأمور ولذلك فإن التلقي في الدين يجب أن يكون من رسول الله r وهذا أمر لا يمكن أن يمارى فيه مسلم لأن ربنا I يقول (وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا) فهو التزام بما أمر به رسول الله r وتحذير من البدع.

التحذير من البدع : هناك الآيات كثيرة وكذلك أحاديث رسول الله r التي تحذر من الابتداع في الدين ومخالفة شرع الله مثل قوله (قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِن تَوَلَّوا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُم مَّا حُمِّلْتُمْ وَإِن تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا) ومثل قوله (فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) وما روته السيدة عائشة أم المؤمنين عن رسول الله r قال: "من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد" وفى لفظ آخر "من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد"

وعن العرباض بن سارية t أنه قال : صلى بنا رسول الله r ذات يوم ثم أقبل علينا فوعظنا موعظة بليغة ذرفت منها العيون ووجلت منها القلوب فقال قائل: يا رسول الله كأنها موعظة مودِّع فماذا تعهد إلينا؟ قال :"أوصيكم بتقوى الله والسمع والطاعة وإن تأمَّر عليكم عبد حشى فإنه من يعش منكم فسيرى اختلافاً كثيراً فعليكم بسنتى وسنة الخلفاء الراشدين تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة" .

وقال r : "ستة لعنتهم ولعنهم الله وكل نبى مجاب، الزائد في كتاب الله، والمكذب بقدر الله، والمتسلط بالجبروت فيعز بذلك من أذل الله ويذل من أعز الله والمستحل لحُرم الله ، والمستحل من عترتى ما حرم الله، والتارك لسنتى" وعن ابن مسعود t قال: الاقتصاد في السنة أحسن من الاجتهاد في البدعة.

بغض الصحابة للبدع:

كان الصحابة y حذرين جدا ًمن أى أمر يتصل بالدين فكانوا يتحرون مصدر التلقي ويتأكدون من أن رسول الله r فعله أو أمر به .

قال أبو بكر: إنما أنا مثلكم وإنى لا أدرى لعلكم ستكلفونى ما كان رسول الله r يطيقه إن الله اصطفى محمداً على العالمين وعصمه من الآفات وإنما أنا متبع ولست بمبتدع فإن استقمت فبايعونى وإن زغت فقومونى"

وقال ابن مسعود: "اتبعوا ولا تبتدعوا فقد كفيتم".

وقال ابن عباس لمن سأله الوصية :"عليك بتقوى الله والاستقامة واتبع ولا تبتدع"

وعن حذيفة قال : "كل عبادة لا يتعبدها أصحاب رسول الله r فلا تَعَبَّدوها فإن الأول لم يدع للآخر مقالاً"

شروط البدعة : البدعة التي يجب محاربتها لابد أن يتحقق فيها:

1-أن تكون من الأمور التي يفعلها العباد على أنها من العبادات

2-يتقربون بها إلى الله تعالى .

3-لم يجيء بها أصل في الدين .

وبالتالى كل أمر يتصل بالعقيدة أو يتصل بالعبادة أو يتصل بالتشريع هذه الأمور كلها إن كانت تخالف نصاً من النصوص أو فعلاً من أفعال رسول الله r أو قولاً فيه نهى عن هذا وتقرب به العبد لله I عبادة تعتبر من البدع التي يجب محاربتها.

ذلك لأنه ليس كل ما يقال عنه أنه بدعة بإطلاق يجب أن يحارب –وسنوضح ذلك تفصيلاً بمشيئة الله – لأنه يجرى على ألسنة كثير من الناس كلمة "بدعة وابتداع" فيتسع معناهما تارة حتى لا يخرج عن دائرتها شيء ويضيق تارة حتى لا يتناول شيئاً والحق أن المولى I كلف عباده عقائد تتصل به سبحانه وبرسالاته وكتبه واليوم الآخر كما كلفهم عبادات هي غذاء لهذا الإيمان وعلامة الصدق فيه، وحرم عليهم أشياء صوناً لحياتهم وحفظاً لعقولهم وأخلاقهم وقد فصل لهم لك في كتبه ورسالاته ومجموع ما حرمه عليهم وما فصل وبين هو الدين الذي تعبدهم به ولا يقبل منهم سواه.

وعلى العبد أن يقف عند حد العقيدة والعبادة والحل والحرمة لا يتعدى ما شرع الله وبين، والتصرف في شيء منه هو الانحراف عن دين الله وهو الابتداع فيه.

فالابتداع في الدين في عقيدته أو عبادته أو ما حل وحرم – ولذلك قال الإمام البنا وكل بدعة في الدين لا أصل لها ..أما ما لم يتعبدنا الله بشيء منه فليس من هذا الباب في شيء والتصرف فيه بالتنظيم والتغيير لا يكون من الابتداع الذي يؤثر على تدين الإنسان وعلاقته بربه.

والبدعة التي نتكلم عنها هي باعتبارها أمر استحدثه بشر ليستكمل به عبادة قربى لله وما هي من الدين في شيء فكل ما يتصل بمثل هذه الأمور منهى عنها نهياً قاطعاً وليس هناك خلاف بين العلماء في هذه القضية البتة، لكن الذي نريد أن نركز عليه ما قاله ابن تيمية t يقول:"إن تصرفات العباد من الأقوال والأفعال نوعين:

الأول عبادات يصلح بها أمر دينه.

الثاني عادات يحتاجون إليها.

1- والعادات بطبيعة الحال ترتبط ببيئة المجتمع الذى يعيش فيه الإنسان ارتباطاً وثيقاً وطالما أن هذه العادات لا تصطدم بنص شرعى ولا توجيهٍ نبوى فالأصل فيها الإباحة، تخضع لهذه القاعدة "الأصل فى الأشياء الإباحة" فلا يطلب أحد الدليل على الأمور المباحة شرعاً كالعادات والتقاليد المباحة فالمطلوب دليل على الحرمة وليس للحِل دليل فالأصل فيه الإباحة فالذى يقول حرام هو المطالب بأن يأتى بدليل الحرمة فالدماء والأموال والفروج الأصل فيها الحرمة، ولا تنتقل إلى الحل إلا بحكم الله I يقول القرآن الكريم (قُلْ أَرَأَيْتُم مَّا أَنزَلَ اللّهُ لَكُم مِّن رِّزْقٍ فَجَعَلْتُم مِّنْهُ حَرَامًا وَحَلاَلاً قُلْ آللّهُ أَذِنَ لَكُمْ) فالأصل فى هذه المأكولات الإباحة إلا ما حرم الرسول r وما قصة الضب منا ببعيد فحين هاجر المسلمون إلى المدينة وجدوا حيوانًا يسمى الضب كان يأكله أهل المدينة فسألوا رسول الله r أحلال هو أم حرام؟ قال:"هو حلال ولكن نفسى تعافه" أي لو رأيتمونى لا آكله فهذا أمر لا يتصل بالشرع ولكن نفسه r تعافه ونحن نؤكد على هذه المعاني لأن بعض الناس وصل بها الحال إلى أنها حرمت رابطة العنق (الكرافتة) والبدلة والقمصان الأفرنجية وغير ذلك تحريمًا قاطعاً وبذلك لم يفرقوا بين الأمور التعبدية وما يتصل بالعادات والتقاليد

2- يقول r عن العرباض بن سارية قال: صلى بنا رسول الله r ذات يوم ثم أقبل فوعظنا موعظة بليغة ذرفت منها العيون ووجدت منها القلوب فقال قائل: يا رسول الله كأنها موعظة مودِّع فماذا تعهد إلينا؟ قال :"أوصيكم بتقوى الله والسمع والطاعة وإن تأمَّر عليكم عبد حشى فإنه من يعش منكم فسيرى اختلافاً كثيراً فعليك بسنتى وسنة الخلفاء الراشدين تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة" أو كما قال r، ومن هنا كان الصحابة y حذرين جدا ًمن أى أمر يتصل بالدين إلا ويتأكدون من أن رسول الله r فعله، حذيفة t يقول:"كل عبادة لا يتعبَّدها أصحاب رسول الله r فلا تعبَّدوها" يريد أن يطمئن نفسا ًفالصحابة y بمنزلتهم ومصاحبتهم لرسول الله r أرجع إليهم أمر العبادات لاتصالهم برسول الله r فى صغير الأمر وكبيره.

3-والحقيقة أن العلماء صاغوا معنى الابتداع وقالوا : إنه الأمر الذي يخرج به المؤمن عن دائرة الرسالة الإلهية التي جاء بها رسول الله r والذى يغتصب به المبتدع حق الله فى التشريع وهذا يعنى أنه يدعو الناس إلى تشريعات ليست من السنة ولا من القرآن فى شيء والذى به يضع المبتدع نفسه موضع من يرى أن العبادات أو العقائد التى رسمها المولى ليتقرب بها العباد إليه ناقصة، كقصة الثلاثة الذين سألوا عن عبادة الرسول r فكأنهم تقالّوها ، فقال أحدهم أما أنا فأصوم ولا أفطر، وقال الثانى وأما أنا فأقوم ولا أنام وقال الثالث أما أنا فلا أتزوج النساء فلما جاء الرسول r قال:"أما أنا فأصوم وأفطر وأقوم وأنام وأزوج النساء وهذه سنتى ومن رغب عن سنتى فليس منى" لذا كان لابد أن يلتزموا بما التزم به رسول الله r.

وعلى هذا فإن الابتداع في مقتضيات الحياة هو من التطور المطلوب كى نلبى حاجة العصر الذي نعيشه حتى لا نتخلف عن الركب ولا نكون في عزلة عن الدنيا ولا يُسمع للمسلمين فيها صوت ولا يعرف لهم فيها وجود.

فالمولى I ما تعبدنا بمنهج خاص للأرض الزراعية وأنواعها وطرقها – مثلاً- بل أطلق للعقل الإنسانى حريته ولم يأمره إلا بالبحث والنظر والكد والعمل بقصد الإصلاح "والله يعلم المفسد من المصلح" وقد كان ما أخذ الله به الأمم السابقة وقبّحه منهم ونعاه عليهم خاصاً بالابتداع في العقائد والعبادات والحل والحرمة ولم يكن شيء منه مما يتصل بزينة الحياة الدنيا التي أخرج لعباده أو بنموها وتقدمها فلم ينكر سبحانه مثلاً على سبأ أن تكون لهم جنتان عن يمين وشمال ولم ينكر على قارون أن كان له من الكنوز ما إن مفاتحه لتنوء بالعصبة أولى القوة، وامتن على داود عليه السلام بإلانة الحديد له ورضي عن دعوة سليمان (رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَّا يَنبَغِي لِأَحَدٍ مِّنْ بَعْدِي) فيسخر له الريح تجرى بأمره رخاء حيث أصاب ويسيل له عين القطر، ويسخر له الجن يعملون له من محاريب وتماثيل وجفان كالجواب وقدور راسيات ثم يطمّعه في المزيد ويغريه بالعمل (اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ)

فالإنكار إذاً على الذين بدلوا عقائدهم الصحيحة وغيروا في رسوم العبادة وكيفيتها فكانت الصلاة عند البيت مكاء وتصدية، وطافوا به عرايا وحرموا ما أحل الله (وَقَالُواْ هَذِهِ أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لاَّ يَطْعَمُهَا إِلاَّ مَن نّشَاء بِزَعْمِهِمْ وَأَنْعَامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُهَا وَأَنْعَامٌ لاَّ يَذْكُرُونَ اسْمَ اللّهِ عَلَيْهَا افْتِرَاء عَلَيْهِ سَيَجْزِيهِم بِمَا كَانُواْ يَفْتَرُونَ)

وعلى هذا فإن الابتداع في الدين هو :

1-الذى يخرج به المؤمن عن دائرة الرسالة الإلهية.

2- والذى يغتصب به المبتدع حق الله في تشريع هو له وحده

3-والذى به يضع المبتدع نفسه موضع من يرى أن العبادات أو العقائد التي رسمها المولى ليتقرب بها العباد إليه ناقصة، أو فاسدة فأكملها أو أصلحها بابتداعه.

4-أو موضع من يرى أن الرسول الذي اصطفاه الله لتبليغ دينه قد قصر فيما أمر بتبليغه ، وحجز عن عباد الله بعض ما يقربهم إليه.

ولقد كان هذا الابتداع هو السبب الوحيد في اندراس العقائد والعبادات في التحلل من قيود الحل والحرمة وانتزاع التدين من القلوب وبذلك انقطعت صلتهم بالخالق وصار أساس التعامل بينهم القوة الغاشمة والطغيان المزرى بالإنسانية وعلى هذا فإن الابتداع يكون من الهوى والظن (إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنفُسُ وَلَقَدْ جَاءهُم مِّن رَّبِّهِمُ الْهُدَى).

فهم يجب أن يسود:

بعد هذا الفهم المحدد للبدعة في الدين يتضح أن الأمور الخلافية والأحكام الظنية التي يختلف فيها العلماء ليست من البدع ولا من الهوى والظن فليس كل من خالف أخاه في رأى – كما سنرى بالنسبة للبدعة التركية والإضافية – أو أخذ برأى فقيه يصير مبتدعاً وإنما هو مقلد وبذلك تخرج الأمور التي في دائرة الخلاف الفقهى من الابتداع.

وعلى هذا فإن على المسلم أن يفكر فيما يلائم عصره من طرق التثقيف وخطط التعليم بما يوسع مدارك أبناء الشعب ويصل بهم إلى الثقافة النافعة من أقرب الطرق وأيسرها وليس له أن يجمد على ما ورث من ذلك من آبائه وأجداده ويقف مكتوف اليدين دون أن يسلك طريق الاختراع والابتداع بما يحقق له العزة والمجد من وسائل الحياة ما دام لم يخرج عن دائرة ما أبيح التصرف فيه إلى دائرة المنهى عنه وليعلم المسلم أن كل ما يحدث في هذا الجانب من المخترعات التي لم يسبق بها يكون محفوظاً له في تاريخ العاملين على ترقية شعوبهم ويكون له في الوقت نفسه الثواب عند الله بقدر ما ينتفع العباد بمخترعاته وإنتاجه ، وليس لنا أن نقول عن شيء يقع في هذه الدائرة أنه لم يفعله الرسول r ولا أحد من خلفائه فلا نقول نفعل ذلك لأنهم لم يفعلوه لأن زمنهم لم يطلبه ولم تخلق لديهم بواعث عمله أو التفكير فيه، ومحال على الرسول r وخلفائه أن يعترضوا لأن تقدمهم في الحياة شيء لا يمس عمله عقيدة أو عبادة فضلاً عن أن لديهم وسائل القدرة عليه إلا أنهم لم يعملوه بحجة أن الله لم يأذن لهم فيه فهو من باب "أنتم أعلم بأمور دنياكم" .

وقد وافق الرسول r سلمان الفارسى في حفر الخندق حول المدينة واشترك في حفره وما مشروعات عمر بن الخطاب في تنظيم الدولة وإنفاذ الجيوش وترتيب الخراج وحبس ما أفاء الله على المؤمنين وتعيين الولاة وتغييرهم إلا أثراً من آثار هذا الإطلاق الذي كانوا يؤمنون أن الله تركهم عليه يبحثون به ما يحتاجون إليه من الشئون الزمنية فتقدموا ودانت لهم الدنيا وأيقظوا الإنسانية من نومها فثبتت أقدامهم ودانت لهم قوى الفساد في الأرض.

إن الناس في زماننا هذا ترى على ألسنتهم كلمة بدعة في كل شيء عرفوه وحرموا باسمها كثيراً من العادات الطيبة ووسائل الحياة السهلة ولقد عرفنا من تاريخ الأديان أن التحريف الابتداعى قد أصابها من جهات ثلاث:

1-من جهة العقيدة ومنها دخل الشرك وعبادة غير الله ودعاؤه والاستعانة به واللجوء إليه.

2-من جهة العبادة ومنها دخل التغيير بالزيادة والنقص والتغيير في الكيفية.

3-من جهة الحلال والحرام ومنها حرم الحلال واحتيل فأحلوا الحرام.

ولذلك فإن أشد ما نخشاه على شخصيتنا الإسلامية أن تسلك أمتنا بالأهواء أو التعصب مسلك السابقين فتطغى البدع على ديننا والانحراف على استقامتنا ونتشبه بهم في  أمورهم كلها- ونقصد بمشابهة المخالفين في الدين فيما يقصده فيه التشبه في خصائصهم الدينية – أما مجرد المشابهة فيما تجرى به العادات والأعراف العامة فإنه لا بأس بها طالما لا يوجد نص بتحريم أو كراهة فإن لم يوجد فلا كراهة ولا حرمة فقد قيل لأبى يوسف صاحب الإمام أبو حنيفة وقد رُئي لابساً نعلين مخصوفين بمسامير إن فلاناً وفلاناً من العلماء كرها ذلك لأنه تشبه بالرهبان فقال : كان رسول الله r يلبس النعال التي لها شعر وإنها لمن لباس الرهبان"

اتفاق لا خلاف معه:

وعلى هذا فإنه لا يوجد بين المسلمين من يختلف في حكم البدعة في الدين بهذا التحديد الذي رأيت – أي البدعة الأصلية – والتى حدثت أول محاولة لها مع هؤلاء الثلاثة رهط الذين جاءوا إلى بيوت النبى r يسألون عن عبادته r فلما أخبروها كأنهم تقالّوها، فقالوا وأين نحن من النبى r وقد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، قال أحدهم أما أنا فإنى أصلى الليل أبداً، وقال آخر أنا أصوم الدهر لا أفطر وقال آخر أنا أعتزل النساء فلا أتزوج أبداً، فجاء الرسول r فقال:"أنتم الذين قلتم كذا وكذا ؟ أما والله إنى أخشاكم لله وأتقاكم له لكنى أصوم وأفطر وأصلى وأرقد وأتزوج النساء فمن رغب عن سنتى فليس منى" ، وهنا تتدخل النية، هل يعمل هذا العمل قربى إلى الله I استشعاراً بأن الشريعة وأن المنهج وأن الطريقة التي تعبد بها رسول الله r ناقصة فيكملها، فهذا يُخشى عليه من الكفر. أم أن هذا اجتهاد منه في أمورٍ جائزة بالنسبة له وليست في أصل العبادات.

عن أبى سعيد قال:"بين الرسول r يُقسّم –أى يقسم الفيئ-جاء عبد الله بن ذى الخويصرة التميمى فقال اعدل يا رسول الله، فقال رسول الله r :"ويلك من يعدل إذا لم أعدل! فقال عمر بن الخطاب: يا رسول الله دعنى أضرب عنقه، قال: دعه إن له أصحاب يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم وصيامه مع صيامهم يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية" فانظر إلى التطاول وصل إلى أي حد، فالرسول r يقسّم بأمر من؟ بأمر الله I وعملية القسمة في     الفيئ محددة بنص ولذلك فعندما يأتى هذا الرجل ويقول للرسول r اعدل يكون قد وقع في أمرين كلهم يؤدي إلى الكفر، الأمر الأول منهما وصفه للرسول r بصفة لا ينطق بها مؤمن (اعدل)، أما الأمر الثانى فالاعتراض على كتاب الله الذي قسّم الفيء بأقسام محددة ليس لأحد من المسلمين أن يتقدم عنها أو يتأخر.

ولقد حاول هذا المعترض أن يفتح باب الاعتراض على رسول الله r والخروج عن حد التسليم الكامل له وتمام الإتباع فما بالك بالذين يعترضون على شرع الله كله!!

إن الوحي كان يتنزل والدين يتكون ورءوس الضلال تخمد وباءت كل المحاولات للانحراف بالدين أو التشكيك فيه بالفشل أليست هذه بدعة لا يختلف المسلمون فيها؟ فالبدعة ليست لها زمان أو مكان محدد ولكنه موجودة في كل زمان ومكان ولا ينجو منها أحد إلا بالتمسك بالكتاب والسنة.

نشأة البدع في عهد الصحابة :

لقد حدث أول خلاف بين المسلمين بعد رسول الله r فيمن يكون الخليفة من بعده وحسم الأمر في سقيفة بنى ساعدة ومر أيضًا عهد عمر ولم تظهر البدع ثم جاء عهد عثمان رضى الله عنهم أجمعين وحصل الخلاف في أواخر عهده وجرى ما جرى وقتل عثمان مظلوماً ثم بايع المسلمون الساكنون في المدينة علياً إلا طائفة ، وبحرب الجمل وصفين ظهرت الخوارج والشيعة ثم المرجئة.

وفى أواخر عصر بنى أمية أظهر معبد الجهنى القول بالقدر، ثم جاء تلميذه جهم بن صفوان وضم إلى ذلك قوله ببدعة التعطيل وهى نفى أسماء الله وصفاته ثم جاء المعتزلة في عصر المأمون بن هارون الرشيد فقويت شوكتهم وقد تأثروا بالفلسفة فكانت بدعة خلق القرآن التي امتحن فيها الإمام أحمد بن حنبل هذا كله قديماً أما اليوم فما أكثر بل وما أشد البدع في زماننا هذا فهى لا تعد ولا تحصى وأشدها بدعة الحكم بغير ما أنزل الله والاحتفال بأعياد لها مناسبات دينية عند غير المسلمين والعادات الغربية التي تصطدم بشرعنا كالسفور والنساء الكاسيات العاريات والاختلاط بين الجنسين وغير ذلك من الأمور التي مسخت شخصيتنا حتى صدق فينا قول رسولنا r :"لتركبن سنن من قبلكم شبراً بشبر وذراعاً بذراع حتى إذا دخلوا جحر ضب دخلتموه" وصدق سفيان الثورى حين قال : لا يقبل قول إلا بعمل ولا يستقيم عمل إلا بنية ولا يستقيم قول وعمل ونية إلا بموافقة السنة.

والواجب علينا كمتبعين لرسول الله r: محاربة هذه البدع والقضاء عليها بأفضل الوسائل التي لا تؤدى إلى ما هو شر منها – وقد بينا بتوفيق الله تفصيلاً في الأصل الرابع لهذا فلتعد إليه فإنه مفيد.

وعلى هذا نقول: إن البدعة الأصلية هي التي في دين الله ولا أصل لها وهذه لا يختلف مسلم في إنكارها ومحاربتها بالطرق الشرعية والجدير بالذكر أن البدعة عامة لها تقسيماتها وأحكامها التي تختلف باختلاف هذا التقسيم وهذا ما سنبينه بتوفيق الله في الأصل الثانى عشر.

 

 


الأصل الثاني عشر

البدع المختلف في الحكم عليها

"والبدعة الإضافية والتركية والالتزام في العبادات المطلقة خلاف فقهي لكلٍ فيه رأيه ولا بأس بتمحيص الحقيقة بالدليل والبرهان "

هذا الأصل يعالج :

1-البدعة الإضافية.

2-البدعة التركية .

3-الالتزام في العبادات المطلقة.

هذا الأصل متمم بل ومبين للفرق الواضح بين الأصل السابق ذلك لأننا إذا قلنا أن الأصل السابق تكلم عن البدعة الأصلية والتي هي في أمور تتصل بأصل الدين ويقصد بها العبادة والتقرب إلى الله بالرغم من أنها لا أصل لها واستحسنها الناس بأهوائهم بالزيادة فيه أو بالنقص منه، وهذه هي البدعة التي يجب محاربتها بالطرق الشرعية وهذا لا خلاف فيه بين العلماء لأنها عمل يخالف معلوماً من الدين بالضرورة أو نص لا يحتمل اجتهاد أو تأويلاً أو إجماعًا أو غير ذلك من  الأمور القطعية التي لا اجتهاد فيها وهذا الأصل المختلف فيه بين العلماء لذلك فإن الإمام البنا رحمه الله أفرد له هذا الأصل وخصصه ليوضح الفرق بين البدعة الإضافية والتركية والالتزام في العبادات المطلقة وبين البدعة الحقيقية التي تتصل إما بالعقيدة أو العبادة أو الحل والحرمة.

فالذي نحن بصدده في هذا الأصل –ونكرر ذلك ونؤكد عليه –أنه من مسائل الخلاف الفقهى فهناك من العلماء من جوزها وهناك من منعها ولكل رأيه، فأصبح من المسائل الظنية المجتهد فيها، والإمام النووي t قال :"المختلف فيه لا إنكار فيه" أي عند اختلاف العلماء في قضية من القضايا فلا أمر فيها بالمعروف ولا نهى عن المنكر لأن من شروط الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر أن تكون القضية التي فيها أمر ونهى مُجمع عليها وليس مختلف فيها ، فما حقيقة هذه البدع المختلف فيها؟

البدعة الإضافية : هي كل بدعة لها أصل في الدين أي أصلها مشروع وهذا هو الشرط الأول ولكن اختلف في الكيفية، أي كيفية الأداء ولها شائبتان.

إحداهما: لها من الأدلة متعلق فلا تكون من تلك الجهة بدعة لأن لها أصل في الدين مشروع كما قلنا.

الأخرى: ليس لها متعلق إلا بمثل ما للبدعة الحقيقية ولذلك سميت بدعة إضافية لأنها بالنسبة إلى إحدى الجهتين سنة لأنها مستندة إلى دليل وبالنسبة للجهة الأخرى بدعة لأنها مستندة إلى شبهة لا إلى دليل أو غير مستندة إلى شيء ولذلك سميت إضافية لأنها لم تتخلص لأحد الطرفين: إما المخالفة الصريحة أو الموافقة الصريحة.

مثال : الصلاة على رسول الله r بعد الأذان مباشرة وبتغن وتلحين في الصوت كما يفعل بعض المسلمين في جميع مساجد الأوقاف وبعض المساجد الأهلية فهى من حيث الأصل مشروعة لأن الرسول r طلب منا أن نصلى عليه r بعد الأذان ولكن الكيفية هنا هي التي اختلفت فبعضهم يقول يردد المؤذن والسامعون الصلاة الإبراهيمية فى آخر التشهد لأنها الصيغة الواردة والبعض من المؤذنين يستكمل بعد الأذان وبصوت جهور الصلاة على النبي r بصيغ متعددة ولذلك اختلف الكيف مع الاتفاق فى أداء الصلاة على النبي r بعد الأذان ولذلك سميت بدعة إضافية لأن الأصل موجود ثم أضيف الكيف بوجوه متعددة. وقس على ذلك هل لصلاة الجمعة أذان واحد يردده المؤذن والإمام على المنبر أم أذانين وأكبر دليل على صحة هذا وذاك ما يحدث فى الحرمين، المسجد الحرام ومسجد رسول الله r من رفع الأذانين وليس أذان واحد.

مثال آخر: قراءة سورة الكهف في بعض المساجد من قارئ معين بصوت مسموع ويجلس على كرسى والجميع ينصت له – وذلك لانتشار الجهل والأمية وعدم حفظ القرآن وهذه الطريقة تعين هؤلاء على سماع القرآن- فقراءة سورة الكهف مشروعة وسنة من السنن فلو قرأها مسلم على حدة فقد أصاب السنة في رأي الذين يحكمون على ابتداع من قرأها بصوت يسمعه جميع المصلين وأما الحكم الشرعي فإن هذا الفعل مشروع أيضًا إلا أنه مختلف فيه لنفس السبب السابق الذي سقناه فالأصل مشروع واختلف الكيف فكانت بدعة إضافية.

مثال آخر :خطبة الجمعة، أيضًا يقولون هذا مسجد بدعة لماذا؟ لأنه يؤذن أذانين وحدثت معركة ووصل الأمر  إلى أن بعضهم يسمع أذان الفجر يؤذن في رمضان ويتعمد أن يأكل ويشرب أمام الناس لأن هذا الفجر الكاذب ولم يأت وقت الفجر الصادق حتى الآن، أمور عجيبة جداً والغريب أن الأمر وصل إلى أن يقال لأحد الإخوة الدعاة الذين يعطوا دروساً في المساجد: أنت أشد عداوة من اليهود؛ لأن اليهود معروفين أنهم أعداء الله لكن أنت باسم الدين تلبس على الناس وتنشر البدعة فأولى بنا أن نحاربك أنت قبل أن نحارب اليهود.

المأثورات وورد الرابطة : نستطيع أن نقول على أكثر الفروض أنهما من البدع الإضافية المختلف في حكمها ذلك لأن الأدعية التي وردت في المأثورات مشروعة وأحاديثها صحيحة والدعاء بها سنة مستحبة ولكن قراءتها بهذا الترتيب الذي وضعه الإمام البنا غير واجبة وغير واردة فالخلاف هنا فى الكيف مع وجود الأصل ولذلك نعتبرها فى أشد الأحكام بدعة إضافية ومن دقة الأستاذ البنا وتحرزه أنه قال في ورد الرابطة بعد أن ذكر المأثور من الدعاء قال يدعو الأخ بمثل هذا –الدعاء- حتى لا يظن أحد أن هذا الترتيب واجب الإتيان به.

يقول الدكتور القرضاوي ولكى نتلافى هذا الخلاف – وإن كانت مسألة خلافية – يمكن قراءتها- أي المأثورات- بأن نقدم بعضها مرة ونؤخر بعضها مرة أخرى حتى لا يظن ما هو ليس بواجب واجب وإن كانت هذه الكيفية من الصعوبة بمكان بل إن فعلها ؟؟؟؟ (غير واضحة) ولا بأس لمن فعل ذلك، فلقد كان أبو بكر وعمر لا يضحيان مخافة أن يرى ذلك الناس واجباً وكان ابن عباس يشترى درهمين لحم ويقول هذه أضحية ابن عباس حتى لا يعتقد الناس وجوب الأضاحى والأمثلة على ذلك كثيرة فكل بدعة لها أصل في الدين مشروع ولكن اختلفت الكيفية فهى بدعة إضافية من مسائل الخلاف الفقهى الذي لا إنكار فيه.

وها هو ابن عمر رضى الله عنهما يسمى صلاة الضحى جماعة في المسجد بدعة إلا أنه استحسنها فعن مجاهد قال : دخلت أنا وعروة بن الزبير المسجد فإذا عبد الله بن عمر جالس إلى حجرة عائشة والناس يصلون الضحى في المسجد فسألناه عن صلاتهم فقال: بدعة وفى رواية – نعمت البدعة.

الذكر الجماعي ومشروعيته:

فضل الذكر[1]:

إن ذكر الله U ودعاءه ومناجاته بالمأثور عن رسول الله r فى جميع الأحوال والأوقات والمناسبات هو إحدى الركائز الكبرى فى هذا الدين العظيم، يقول المولى U موجهاً نداءه الكريم إلى عباده المؤمنين : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا ، وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا) [الأحزاب : 41] وتلك الصفات العشر التي يجب على جميع العباد –رجالاً ونساءً- أن يكونوا من أهلها ، والتي بدأها المولى I بالإسلام جَعَل مسك الختام (الذكر والذكر الكثير) فقال عَزَّ من قائل: (إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا) [الأحزاب : 35] وحسب الذكر والذاكرين شرفاً وفضلاً أن يقول رسولنا الحبيب r ردًا على هذا الصحابي الذي سأله: "يا رسول الله إن شرائع الإسلام كثرت عليّ، فدلني على شيء أتشبث به" فقال :"لا يزال لسانك رطباً بذكر الله تعالى".

والمؤمن القوي الإيمان يذكر ربه على جميع حالاته ذكراً كثيراً ، ولقد وصف الذكر المأمور به فى القرآن بالكثرة فى عدة مواضع. فنعوذ بالله من الغفلة عن ذكره ، كما نعوذ به كذلك أن نشبه المنافقين – ولو فى الشكل والصورة- ذلك أن الله تعالى قد وصفهم بقوله : (وَلاَ يَذْكُرُونَ اللّهَ إِلاَّ قَلِيلاً) ولنسعتن به I على ذكره وعلى أمرنا كله، داعين ملحين مخبتين "اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك" " اللهم لا تولنا غيرك، ولا تُؤمنا مكرك ولا تنسنا ذكرك، ولا تكشف عنا سترك ولا تجعلنا من الغافلين".

فوائد الذكر:

إن للذكر فوائد جليلة الشأن عظيمة الأثر فى حياة المسلم فى دنياه وآخرته وقد ذكر أكثرها الإمام ابن القيم فى كتابه الصغير المبارك" الوابل الصيب".

فمنها: أنه يطرد عنك عدوك اللعين إبليس وجميع شياطين الإنس والجن ، ويزيل عن قلبك كل هم وغم وحزن، ويملؤه بالفرح والسرور والبهجة وبه يقذف الله فى قلبك نور الإيمان وحلاوته فإذا بهما ينعكسان على وجهك وظاهرك مهابة وإشراقاً ونضرة وجمالاً .. كما أن الذكر يغرس فى قلبك حب الله تعالى ومراقبته والإنابة إليه ويجعلك قريباً منه I فيحبك ويرضى عنك ويرزقك من حيث لا تحتسب ،ويعلمك ما لم تكن تعلم ...إلخ.

وما أشد افتقار المسلمين إلى مذاكرة هذه الفوائد كلها ، وهضمها واستشعارها وتذوقها واليقين بصدقها، حتى يدفعهم ذلك بقوة وعزيمة إلى الإكثار من ذكر الله تعالى بقلوبهم وألسنتهم وجوارحهم فى كل لحظة من لحظات هذا  العمر المحدود فى طريق الرحلة الطويلة الشاقة إلى الله U : إلى فردوسه الأعلى ..إلى رضوانه الأكبر.

نذكر هذه المقدمة لأهميتها لنذكر أنفسنا بفضل الذكر وقد يقول قائل : وهل هذا ينكره مسلم إننا نتحدث عن الذكر الجماعي وبدعيته ونقر الذكر الفردي بين  الإنسان وبين ربه وندعو إليه ولكننا ننكر الذكر الجماعي فهذا ما نقصده ونسأل هل هو بدعة أم لا؟

فنقول وبالله التوفيق للإجابة على هذا عقد الإمام الفقيه المحدث محي الدين النووي t بابًا فى كتابه الأذكار تحت عنوان : "فضل حلق الذكر والندب إلى ملازمتها والنهي عن مفارقتها لغير عذر" ذكر فيه خمسة أحاديث صحاح عن رسول الله r فى هذا  الموضوع واستفتح الباب بقوله تعالى (وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ) ولعل مما يحسن فى هذا المقام أن نورد تفسير الإمام ابن كثير لهذه الآية الكريمة السابقة "اجلس مع الذين يذكرون الله ويهللونه ويحمدونه ويسبحونه ويكبرونه ويسألونه بكرة وعشيا من عباد الله ، سواء كانوا فقراء أو أغنياء أو أقوياء أو ضعفاء"[2].

ويسوق ابن كثير نفسه عدة أحاديث فى هذا المعنى كذلك –على طريقته فى تفسير القرآن بالسنة، ومنها:

1-روى أبو داود الطيالسي عن أنس t قال: قال رسول الله r :"لأن أجالس قوماً يذكرون الله من صلاة الغداة إلى طلوع الشمس أحب إلي مما طلعت عليه الشمس".

2-روى الإمام أحمد عن أنس أيضًا t عن رسول الله r قال :"ما من قوم اجتمعوا يذكرون الله تعالى لا يريدون بذلك إلا وجهه إلا ناداهم مناد من السماء : أن قوموا مغفورًا لكم قد بدلت سيئاتكم حسنات".

3-روى الطبراني عن عبد الرحمن بن سهل بن حنيف رضي الله عنهما قال : "نزلت على رسول الله r وهو فى بعض أبياته : (وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ) فخرج يلتمسهم فوجد قوماً يذكرون الله تعالى فلما رآهم جلس معهم وقال :"الحمد لله الذى جعل فى أمتى من أمرني أن أصبر نفسي معهم".

وأما الأحاديث الخمسة التى أشرنا إليها آنفًا فهي:

1-روى البخارى ومسلم عن أبى هريرة t قال : قال رسول الله t :"إن لله تعالى ملائكة يطوفون فى الطرق، يلتمسون أهل الذكر، فإذا وجدوا قوماً يذكرون الله U تنادوا : هلموا إلى حاجتكم ، فيحفونهم بأجنحتهم إلى السماء الدنيا فيسألهم ربهم –وهو أعلم بهم – ما يقول عبادي؟ قال : يقولون : يسبحونك ويكبرونك ويحمدونك ويمجدونك، فيقول هل رأوني؟ فيقولون : لا والله ما رأوك، فيقول كيف لو رأوني؟ يقولون لو رأوك كانوا أشد لك عبادة وأشد لك تمجيدًا، وأكثر لك تسبيحاً قال: فماذا يسألون؟ قال: يقولون : يسألونك الجنة، قال : يقول : وهل رأوها؟ قال : يقولون : لا والله يا رب ما رأوها ، قال : يقول : فكيف لو رأوها ؟ قال يقولون : لو أنهم رأوها كانوا أشد عليها حرصاً ، وأشد لها طلباً وأعظم فيها رغبة قال فمم يتعوذون ؟ قال : يتعوذون من النار قال فيقول : وهل رأوها؟ قال: يقولون : لا والله ما رأوها فيقول : فكيف لو رأوها ؟ قال يقولون : لو رأوها كانوا أشد منها فراراً وأشد لها مخافة . قال : فيقول فأشهدكم أنى قد غفرت لهم، قال: يقول ملك من الملائكة: فيهم فلان ليس منهم، إنما جاء لحاجة ، قال : هم الجلساء لا يشقى بهم جليسهم".

2-فى إحدى روايات الإمام مسلم لهذا الحديث ، بشرح النووي :" إن لله تبارك وتعالى ملائكة سيارة فُضُلاً[3] يتبعون مجالس الذكر. فإذا وجدوا مجلساً فيه ذكر قعدوا معهم، وحف بعضهم بعضاً بأجنحتهم حتى يملئوا ما بينهم وبين السماء الدنيا فإذا تفرقوا[4] عرجوا وصعدوا إلى السماء قال : فيسألهم الله U -وهو أعلم بهم- من أين جئتم، فيقولون جئنا من عند عباد لك فى الأرض يسبحونك، ويكبرونك ويهللونك ويحمدونك ويسألونك قال وماذا يسألونني؟ قالوا : يسألونك جنتك. قال وهل رأوا جنتي؟ قالوا لا أى رب ؟ قال فكيف لو رأوا جنتي؟! قالوا : ويستجيرونك، قال ومم يستجيرونني قالوا : من نارك يا رب ، قال وهل رأوا نارى؟ قالوا لا ، قال فكيف لو رأوا نارى ؟! قالوا ويستغفرونك قال : فيقول قد غفرت لهم فأعطيتهم ما سألوا وأجرتهم مما استجاروا ، قال فيقولون رب فيهم فلان عبد خطاء إنما مر فجلس معهم، قال فيقول وله غفرت ، هم القوم لا يشقى بهم جليسهم".

3-روى الإمام مسلم فى صحيحه عن أبى سعيد الخدرى وأبى هريرة رضى الله عنهما أنهما شهدا على رسول الله r أنه قال :"لا يقعد قوم يذكرون الله تعالى إلا حفتهم الملائكة وغشيتهم الرحمة ونزلت عليهم السكينة، وذكرهم الله تعالى فيمن عنده". والرواية المذكورة لهذا الحديث فى (بلوغ المرام) للحافظ بن حجر :"ما جلس قوم مجلساً يذكرون الله فيه إلا حفتهم الملائكة..." إلخ ويقول الإمام الصنعاني فى شرحه لهذا الحديث : "دل الحديث على فضيلة مجالس الذكر والذاكرين، وفضيلة الاجتماع على الذكر".

4-عن أبى واقد الحارث بن عوف t أن رسول الله r بينما هو جالس فى المسجد والناس معه إذ أقبل ثلاثة نفر فأقبل اثنان إلى رسول الله r وذهب واحد ، فوقفا على رسول الله r فأما أحدهما فرأى فرجة فى الحلقة فجلس فيها، وأما الآخر فجلس خلفهم ، وأما الثالث فأدبر ذاهباً فلما فرغ رسول الله r قال : "ألا أخبركم عن النفر الثلاثة أما أحدهم فآوى إلى الله فآواه الله، وأما الآخر فاستحيى فاستحيى الله منه، وأما الآخر فأعرض فأعرض الله U عنه" متفق عليه.

5-عن أبي سعيد الخدري t قال : خرج معاوية t على حلقة فى المسجد فقال : ما أجلسكم؟ قالوا جلسنا نذكر الله تعالى ، قال : آلله ما أجلسكم إلا ذاك؟ قالوا والله ما أجلسنا إلا ذاك، قال أما إنى لم أستحلفكم تهمة لكم وما كان أحد بمنزلتي من رسول الله r أقل عنه حديثًا منى وإن رسول الله r خرج على حلقة من أصحابه فقال؟ ما أجلسكم؟ قالوا جلسنا نذكر الله ونحمده على ما هدانا للإسلام ومنّ به علينا، قال آلله ما أجلسكم إلا ذاك؟ أما إنى لم أستحلفكم تهمة لكم ، ولكنه أتاني جبريل فأخبرني أن الله تعالى يباهي بكم الملائكة" رواه الإمام مسلم فى صحيحه.

هذه الأحاديث الخمسة التى ذكرها الإمام النووى فى هذا الباب من كتابه "رياض الصالحين".

وقال فى كتابه الأذكار[5] :"اعلم أنه كما يستحب الذكر يستحب الجلوس فى حلق أهله وقد تظاهرت الأدلة على ذلك ، وسترد فى مواضعها إن شاء الله تعالى ويكفي فى ذلك حديث ابن عمر رضى الله عنهما قال: قال رسول الله r :"إذا مررتم برياض الجنة فارتعوا قالوا : وما رياض الجنة يا رسول الله؟ قال: حلق الذكر، فإن لله تعالى سيارات من الملائكة يطلبون حلق الذكر فإذا أتوا عليهم حفوا بهم" ثم ساق حديثين آخرين مما تقدم.

وقد ذكر الإمام ابن القيم فى كتابه (الوابل الصيب)[6] هذا الحديث بزيادة لطيفة فقال: "ذكر ابن أبى الدنيا وغيره من حديث جابر بن عبد الله رضى الله عنهما قال " خرج علينا رسول الله r فقال :"يا أيها الناس ارتعوا فى رياض الجنة" قلنا يا رسول الله وما رياض الجنة؟ قال "مجالس الذكر" ثم قال :"اغدوا وروحوا واذكروا ، فمن كان يحب أن يعلم منزلته عند الله تعالى فلينظر كيف منزلة الله تعالى عنده، فإن الله تعالى ينزل العبد من حيث أنزله العبد من نفسه".

وذكر ابن القيم فى هذا الموضع من كتابه بقية الأحاديث التى ساقها فى فضل الذكر الجماعي وقد روى الإمام شمس الدين الجزرى فى كتابه (الحصن الحصين من كلام سيد المرسلين) الحديث السابق بلفظ مختصر رواه الترمذي وهو :"إذا مررتم برياض الجنة فارتعوا ، قالوا : يا رسول الله وما رياض الجنة؟ قال حلق الذكر"

كما روى الإمام الجزرى فى كتابه المذكور أحاديث عديدة عن موضوعنا هذا، منها ما تقدم وغيره ومما يجذب القلب منها بصورة أقوى هذان الحديثان:

1-قال رسول الله r :"يقول الله U : سيعلم أهل الجمع اليوم من أهل الكرم؟! قيل من أهل الكرم يا رسول الله؟ قال أهل مجلس الذكر" رواه ابن حبان والطبراني فى الأوسط.

2-قال رسول الله r : " لأن أقعد مع قوم يذكرون الله تعالى من صلاة الغداة حتى تطلع الشمس أحب إلى من أن أعتق أربعة من ولد إسماعيل" رواه أبو داود وقال العراقي: إسناده حسن.

وليكن مسك الختام لهذه المجموعة الطيبة من الأحاديث الدالة على هذا الفضل العظيم لأهل مجالس الذكر ما رواه البزار بإسناد حسن عن أنس بن مالك t عن النبي r قال: " إن لله سيارة من الملائكة يطلبون حلق الذكر، فإذا أتوا عليهم حفوا بهم ثم بعثوا برائدهم إلى رب العزة تبارك وتعالى فيقولون ربنا أتينا على عباد من عبادك يعظمون آلاءك ويتلون كتابك ويصلون على نبيك محمد r ويسألونك لآخرتهم ودنياهم فيقول تبارك وتعالى غشوهم رحمتي فيقولون يا رب إن فيهم فلاناً الخطاء إنما اغتبقهم اغتباقاً فيقول تبارك وتعالى غشوهم رحمتى فهم القوم لا يشقى بهم جليسهم".

ألا ما أجزل هذا الثواب !! وما أعظم هذا الأجر!! وما أجل هذا الفضل الذي يمنحه الله تعالى ويتكرم به على عباده الصالحين الذين يتحلقون حلقاً حلقاً فيتلون كتابه ويهللونه ويكبرونه ويسبحون بحمده ويذكرونه بما علمهم إياه رسول الله r ويسغفرونه من ذنوبهم ويحمدونه على آلائه ونعمه عليهم ويصلون على نبيه r ويسألونه جنته ويستعيذون به من ناره ويدعونه في كل ما يشمل مصالح آخرتهم ودنياهم.

تُرى ما هذا الفضل الكبير؟ وهل هناك أعظم من المغفرة؟ من الرحمة؟ وأن يجيرهم الله مما استجاروا ويعطهم ما سألوا ؟ هل هناك أروع وأبلغ من أن تحفهم ملائكة الرحمن بأجنحتها العلوية، و أن تتنزل عليهم السكينة فتطمئن منهم القلوب وتنشرح الصدور، وينعمون بالرضا والأمان والراحة النفسية أليسوا فى رياض الجنة؟ بلى ..ألم يبشرهم الصادق الصدوق r بذلك ؟! بلى .. ثم ماذا؟ ثم مباهاة ربهم بهم لدى الملائكة ..بل إن الله تبارك وتعالى يذكرهم هناك ..هناك في الملأ الأعلى كما ذكروه سبحانه هنا في جمعهم المبارك ذِكرٌ بِذِكرٍ ..وجمع بجمع ..وشتان بين  الذكرين !! وشتان بين الجمعين .

وهناك نقطة مهمة ينبغي إبرازها في هذا المقام ذكرها الإمام النووي في شرح مسلم تحت باب "فضل الاجتماع على  تلاوة القرآن وعلى الذكر"

فقد ربط بين هذين الحديثين:

1-حديث : "وما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة وحفتهم الملائكة وذكرهم الله فيمن عنده".

2-وحديث: "لا يقعد قوم يذكرون الله تعالى إلا حفتهم الملائكة وغشيتهم الرحمة ونزلت عليهم السكينة، وذكرهم الله تعالى فيمن عنده".

فقال وهو يشرح الحديث الأول : " ويلحق بالمسجد في تحصيل هذه الفضيلة : الاجتماع في مدرسة ورباط ونحوهما إن شاء الله تعالى ، ويدل عليه الحديث الذى بعده [يقصد الحديث الثانى لا يقعد قوم يذكرون الله عز وجل ...إلخ] فإنه مطلق يتناول جميع المواضع ويكون التقييد في الحديث الأول خرج على الغالب لا سيما في ذلك الزمان" حيث كان المسجد هو مجمع المسلمين في كل أمورهم وأيضًا كما أن الحديث الثاني مطلق من حيث المواضع فهو مطلق كذلك من حيث أنواع الذكر سواء كانت قرآناً أو غيره كالتسبيح والتحميد ونحوهما، و لذلك كانت ترجمة النووي السابقة بعطف "الذكر" على " تلاوة القرآن" مع التأكيد بإعادة "الجآر".


لإيضاح هذا المعنى بجلاء:

الجهر غير المكروه والرفع غير المذموم:

1-روى البخارى ومسلم عن أبى هريرة t أن رسول الله r قال:"يقول الله تعالى : أنا عند ظن عبدي بي ، وأنا معه إذا ذكرني ، فإذا ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي وإن ذكرني في ملإ ذكرته في ملإ خير منهم..".

والشاهد في هذا الحديث القدسي على ما نحن بصدده هو قوله تعالى :" وإن ذكرني في ملإ ذكرته في ملإ خير منهم" في  مقابلة قوله تعالى: " فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي " -والملأ هم الجماعة كما في  القاموس[7] وغيره- فمعنى الجملة الأولى "ذكرني في نفسه" أى سرًّا منفرداً لم يُسمع أحداً، ومعنى الجملة الثانية : "ذكرني في ملإ" أي: ذكرني في جماعة جهراً بحيث يسمعون ذكره لله تبارك وتعالى. ولذلك كان ثوابه أن يذكره الله تعالى هناك في الملأ الأعلى وهم الملائكة، وهم المعبر عنهم هنا بقوله :"في ملإ خير منهم". حيث يحدثهم عن عباده الذاكرين له في جماعة، ويباهيهم بهم، ويثني أمامهم عليهم . وكل هذا الذكر الكريم من المولى U إنما يكون جهراً في مقابلة أن عباده ذكروه جهراً كذلك فيما بينهم. وهنا ملاحظة مهمة نُبادر بذكرها لتندفع بها شبهة[8] قد تَرِدُ ، وذلك أن العلماء الذين جمعوا أحاديث الأذكار في كتب خاصة كالنووي وابن القيم والجزرى وغيرهم يوردون هذا الحديث في هذه الكتب الخاصة،  وكذلك فإن كثيراً من العلماء الذين يجمعون السنة المطهرة ويؤلفونها أبواباً أبواباً ، إنما يدونون هذا الحديث في أبواب الذكر[9] ، وليس في أبواب العلم والتفقه في الدين ، ولا في أبواب النصيحة والتذكير والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر.

2-في قوله r في الحديث السابق :"فيهم فلان ليس منهم إنما جاء لحاجة" .وفى رواية : "إنما مر فجلس معهم". وأمثال ذلك من أحاديث النبي r السابقة دلالة واضحة على ارتباط هؤلاء الذاكرين واتفاقهم على أن يذكروا الله تعالى في جماعة بعضهم مع بعض.

أضف إلى ذلك إن مادة "التحلق" الواردة بلفظ : "الحلقة" ، و "الحِلَق". مرات عديدة في تلكم الأحاديث المذكورة في الفقرة السابقة تدل على أن اجتماعهم وتحلقهم إنما هو على ذكر موحد يشتركون فيه جميعاً ، سواء كان قرآناً يتلى ويتدارس أو غيره من أنواع الأذكار والدعوات، إذ لو لم يكونوا مجتمعين على ذكر معين يجهرون به كلهم أو بعضهم أو أحدهم على الأقل – لما كان لهذا التحلق فائدة، وكان الأولى بهم أن يتفرقوا ويبتعد بعضهم عن بعض دفعاً لأية شبهة رياء، وكان الأولى بهذه الحلقة أن تنفضّ، حتى يتمكن كل منهم من استقبال القبلة، ويخلو بنفسه مع ربه ويذكره على الوضع الذى يريد ما دام كل منهم منفرداً ومستقلاً تماماً عن الآخرين.

والحق أن كلا من النوعين : الذكر الفردي والذكر الجماعي مطلوب ، ولكل منهما أهميته ودواعيه وظروفه وفوائده وثوابه الخاص به.

3-اشتراك حديث(الذكر العام المطلق) وحديث (الذكر الخاص بتلاوة القرآن ومدارسته) في هذا الثواب العظيم المشتمل على هذه الأمور الأربعة المحددة : غشيان الرحمة، ونزول السكينة، وحفّ الملائكة وذكر الله لهؤلاء المجتمعين على ذكره فيمن عنده- يشير بوضوح إلى الاشتراك والتماثل بينهما في الصفة، ومعلوم أن تلاوة القرآن ومدارسته في جماعة لا تكون إلا جهراً ، فهذه قرينة على أن الذكر الذى يُجتمع عليه يكون جهراً كذلك.

4-قوله r :"وذكرهم الله فيمن عنده". ملتق من حيث المعنى في خط واحد مع قوله I في الحديث القدسي : "...ذكرته في ملإ خير منهم" ، وبما أن الحديث القدسي يدل على الجهر دلالة واضحة كما سبق، فإن الثواب المماثل له في الحديث الآخر يدل على أن الذكر الوارد فيه جهرٌ أيضًا.

5-روى أبو داود والترمذي وابن ماجة عن ابن عمر رضي الله عنهما، قال :"كنا نعد لرسول الله r في المجلس الواحد مائة مرة "رب اغفر لي وتب علي إنك أنت التواب الرحيم". قال الترمذي : حديث صحيح.

فها هو ذا عليه الصلاة والسلام يجهر بالاستغفار وهو في مجلس أصحابه ، ولم يكن بضمير الجمع كدعاء عام مثلاً وهم يؤمّنون، بل كان بصيغة المفرد، ويظل يجهر طوال المجلس حتى يفرغ من المائة، والصيغة سهلة محدودة كان يمكن حفظها بمرة أو اثنتين أو ثلاث!! ويبعُد أنهم رضوان الله عليهم لم يشاركوه هذا الاستغفار؛ حيث يستغفر كل منهم لنفسه سرًّا أو جهراً خفيفاً، فهم أشد منه r افتقاراً واحتياجاً إلى مغفرة ربهم، كما يبعد أن ينصرفوا إلى شيء آخر وهم في مجلسه r، ويسمعونه ويرونه وهو يستغفر ربه وهم لا يستغفرونه بل وينشغلون بشيء آخر غير الاستغفار مهما كان خيراً، لأن هذا يتنافى مع تمام الأدب معه وكمال التأسي به، وحرصهم الشديد على الثواب. كما أن "العد" لا يتعارض مع "الفعل" فهم يعدون ويستغفرون كما يعد الإنسان لنفسه، وواضح أيضًا أنه r لم يجهر ببعض المائة ويسر ببعضها، ولكنه جهر بها جميعاً وإلا لما انضبط العدد، كما يتضح من أسلوب سيدنا عبد الله بن عمر أن هذا كان يحدث كثيراً، فهو لم يحدث مرة واحدة وقضي الأمر وإلا لقال مثلاً : عددنا لرسول الله r في أحد مجالسه كذا ولكنه قال :"كنا نعد". وقال :"في المجلس الواحد" .

والحق أن هذا الحديث جليل الشأن في  الباب كله؛ فهو دليل على الجهر بالذكر، وهو دليل على الاجتماع على الذكر الجهري، وهو دليل على تكرار الذكر الواحد في مجالس متعددة. فالحمد الله رب العالمين الذي بنعمته تتم الصالحات.

6-روى الترمذى عن عبد الله بن عمر رضى الله عنهما قال، :"قَلَّما كان رسول الله r يقوم من مجلس حتى يدعو بهؤلاء الدعوات لأصحابه: اللهم اقسم لنا من خشيتك ما تحول به بيننا وبين معصيتك، ومن طاعتك ما تبلغنا به جنتك، ومن اليقين ما تهون به علينا مصائب الدنيا، اللهم متعنا بأسماعنا وأبصارنا وقوتنا ما أحييتنا، واجعله الوارث منا، واجعل ثأرنا على من ظلمنا ، وانصرنا على من عادانا ، ولا تجعل مصيبتنا في ديننا، ولا تجعل الدنيا أكبر همنا ولا مبلغ علمنا، ولا تسلط علينا من لا يرحمنا". قال الترمذي: حديث حسن.

فهذا الحديث الشريف يدل بلا ريب على مواظبة الرسول r على هذا الدعاء في كل مجالسه إلا قليلاً، وإنه r كان يجهر به دائماً، وإلا لما سمعه عبد الله في كل مرة ..وهذا هو منحى الإمام النووي في فقه هذا الحديث ، حيث ترجم له في كتاب (الأذكار)  بهذا العنوان: (باب دعاء الجالس في جمع لنفسه ومن معه). وذكر النووي أيضًا في (الأذكار)[10] :"أن السلف كان يجمع بعضهم بعضاً للدعاء عند ختم القرآن ، يقولون : لتنزُّل الرحمة، ولاستجابة الدعاء في هذا الموطن"، وقال النووي أيضًا في الكتاب نفسه:"روى ابن أبي داود بإسنادين صحيحين عن قتادة التابعي الجليل صاحب أنس t قال :"كان أنس بن مالك t إذا ختم القرآن جمع أهله ودعا" اهـ. وذلك تطبيقاً للحديث الشريف :"من ختم القرآن فله دعوة مستجابة" رواه الطبراني وغيره.

7-هذا الحديث الكريم الذى أخرجه السبعة عن عبد الله بن عباس رضى الله عنهما قال :"إن رفع الصوت بالذكر حين ينصرف الناس من المكتوبة كان على عهد رسول الله r ". فها أنت ذا ترى أن رسول الله r وصحابته رضى الله عنهم كانوا بعد تسليمهم من صلاة الفريضة يرفعون أصواتهم بالأذكار التي تقال عقب الصلاة كالتكبير والتهليل، ولا شك أن الصيغ كانت مُوَحدة فيما بينهم، وإلا لحدثت جلبة وضوضاء وتشويش من بعضهم على بعض ولا شك أيضًا أنه كان رفعًا مناسباً ومعقولاً حتى لا يحدث تشويش على المسبوقين.

فها هى ذى جماعة مجتمعة على ذكر معين قد رفعوا به أصواتهم في بيت الله U والحديث صحيح صريح محكم لم يقل أحد بنسخه والعلماء الذين لم يذهبوا هذا المذهب وقالوا باستحباب الإسرار بأذكار ما بعد الصلاة تأولوا الحديث على أنه r جهر مدة بقصد التعليم ثم أسَرَّ، علما بأن هذا التفسير لم ينقل قط كخبر من أحد الصحابة وهم المعاصرون المشاهدون فهذه سبعة أدلة على مشروعية الجهر بالذكر في جماعة، كل دليل منها يكفي وحده في بيان مشروعية هذا الأمر في دين الله ، فما بالك إذا اجتمعت هذه الأدلة وتضافرت وقوى بعضها بعضًا؟

وأوضح من ذلك وأصرح ما قرره حامل لواء السنة الإمام الحافظ ابن حجر في كتابه (فتح  الباري شرح صحيح البخاري) قال :"المراد بمجالس الذكر الواردة : ما اشتمل على تسبيح وتكبير وغيرهما وعلى تلاوة كتاب الله وعلى الدعاء بخيري الدنيا والآخرة" ثم يقول : "وفى دخول قراءة الحديث النبوي ومدارسة العلم الشرعي ومذاكرته والاجتماع على صلاة  النافلة: في هذا المجلس نظر والأشبه: اختصاص ذلك بمجلس التسبيح والتكبير ونحوهما والتلاوة فحسب، وإن كانت قراءة الحديث : ومدارسة العلم ،  والمناظرة فيه : من جملة ما يدخل تحت مسمى ذكر الله تعالى" اهـ كلام الحافظ.

وقد علق الشيخ عبد الجليل عيسى في كتابه (الصفوة) على هذه العبارة موضحاً لهما فقال :"يعني : أن دخول مجلس التسبيح وما يليه[11] في مجلس الذكر لا شك فيه وأما دخول مجلس قراءة الحديث وما يليهما[12] في هذا المجلس ففيه احتمالان والأشبه عنده[13] عدم دخوله لأن هذه الأمور لا تدخل تحت مسمى الذكر حقيقة وإن دخلت تحته مجازاً ،  وذلك بتشبيهها بالتسبيح ونحوه ، بجامع التقرب إلى الله تعالى ، ثم إطلاق اسم الذكر عليها".

ولذا فإن الأئمة الذين يجمعون أحاديث الأذكار والدعوات في كتب خاصة بها. يدونون في هذه الكتب تلك الأحاديث التى أوردناها في الفقرات السابقة عن مجالس الذكر، وما ذاك إلا لأنهم فقهوا هذا المعنى الذي فصلناه سابقًا ونقلناه عن الإمامين الصنعاني وابن حجر ولم يفهموا منها أنها خاصة بمجالس العلم والفقه أو مجالس الأمر والنهي والتذكير-وإن شملتهما من حيث المعنى العام، بعد شمولها الأولى المباشر- من حيث المعنى الخاص – لمجالس التسبيح والتحميد والتكبير والتهليل والاستغفار- وتلاوة القرآن والدعاء والصلاة على رسول الله r وسائر الأذكار.

ومما يجب التنبيه إليه هنا : أن الذي حمل بعض العلماء قديماً أو حديثاً على صرف هذه الأحاديث عن ظاهرها البين الواضح وجعلها قاصرة على مجالس العلم والتذكير دون مجالس الذكر: هو ما تعقده بعض الطرق الصوفية –قديماً وحديثاً أيضًا- من مجالس الذكر البدعية المنحرفة فهم قد انحرفوا عن الصراط السوي للذكر الجماعي الشرعي إلى ذكر شيطاني ما أنزل الله به من سلطان، وذلك لاشتمال هذه المجالس على كثير من البدع والمنكرات : كالرقص والغناء والشطحات والتشويش والإيذاء واللحن في القراءة والبناء على قراءة الغير، والمبالغة في رفع الأصوات بصورة فيها إزعاج ورعونة والإتيان بأذكار غير واردة وتفضيلها على الواردة وما إلى ذلك، وهم مع هذا جاهلون بأمور دينهم، لا يعرف أحدهم كيف يستبرئ أو يتوضأ ولا يحسن قراءة الفاتحة، وقد يضيعون بسبب هذه المجالس الليلية الطويلة صلاة الصبح من جراء سهرهم المفرط في هذا الذكر المبتدع أصلاً وشكلاً ...إلخ.

وفى هذا المقام يتبادر هذا السؤال إلى الأذهان:

ما هي الصورة الطيبة للاجتماع على الذكر حتى نحظى بتلك الفضائل الواردة فيه؟ دون أن نقع في شيء من هذه الآثام؟؟

والجواب: أن من سعة رحمة الله وفضله أن جعل هيئة الذكر من الهيئات الموسعة فليست كهيئة الصلاة مثلاً، ذلك أن المسلم يذكر ربه في كل أوقاته وعلى جميع حالاته قائماً وقاعداً وماشياً وسابحاً وراكباً ومضطجعاً ، بقلبه ولسانه معاً، أو بقلبه فقط، أو بلسانه فقط، سرًا أو جهراً ، منفرداً أو مع الناس ، طاهراً أو محدثاً حدثاً أصغر أو أكبر..إلخ ولم يستثنوا اتفاقاً إلا حالتي (الجماع وقضاء الحاجة) بالنسبة للذكر اللساني.

وتفرع عن هذه السعة في هيئة الذكر أنه لم ترد لنا صورة معينة للاجتماع في مجالس الذكر الوارد فضلها العظيم في تلكم الأحاديث، وهذا يدل على جواز انعقادها بأية صورة تحقق مقاصدها والمصالح المترتبة عليها، والثواب الموعود به في أحاديثها.

والشرط الرئيسي الواجب تحقيقه في هذه المجالس حتى تكون مجالس ذكر شرعية لا نكير عليها: هو خلوها من جميع المحظورات الشرعية السابقة وأمثالها، فإن اشتملت على أي محظور شرعي منعت،  ودرء المفاسد مقدم على جلب المصالح.

وكذلك ينبغي أن تتحقق في المجلس وفى أفراده: آداب الذكر والدعاء المحررة في مظانها من (كتب الأذكار) وغيرها ، كالوضوء ، والإخلاص وتدبر المعاني، وحضور القلب، واستحضار الثواب، واليقين بصدق الوعد، وتعظيم الله تعالى، والتأدب معه سبحانه ظاهراً وباطناً ، وطرح الوساوس الشيطانية والخواطر الدنيوية، والتفرغ من المشاغل والعوائق قبل الاجتماع وارتياد المكان الصالح الطاهر الملائم، واختبار الأوقات الفاضلة والمناسبة، وسد فرجات الحلقة ...إلخ.

فإن خلا المجلس من الموانع واشتمل على الآداب استُحب انعقاده على أي شكل يناسب كل ظرف وكل مجتمع وكل موضع. ومن هذه الصور المحتملة[14]:

1-أن يقرأ الجميع بصوت خفيف وسط بين الجهر القوى والسر الخفي ، ومما يستشهد به لهذه الصورة حديث ابن عباس السابق ذكره وهو أنهم كانوا يرفعون أصواتهم بالأذكار التي تقال عقب الصلاة.

2-أن يقرءوا سراً بحيث يُسمع كل منهم نفسه فقط، ما عدا واحداً منهم يرفع صوته بعض الشيء ، بحيث يُسمع من بالحلقة فقط؛ حتى يحققوا الاشتراك والاجتماع على الذكر. ولعل مما يستأنس به لأرجحية هذه الصورة حديث الاستغفار مائة مرة حيث كان يجهر الرسول r وهم في مجلسه يسمعون ويعدون، ويبعد (كما قلنا) أنهم لا يستغفرون.

3-أن يسروا جميعاً بحيث يسمع كل منهم نفسه فحسب، متفقين مثلاً على وقت البداية والنهاية وعلى بعض الأذكار أو أكثرها أو كلها، ويستفتح أمير مجلسهم هذا المجلس ويختمه.

4-الصورة السابقة ، ويزداد عليها مثلاً : أن يرفع أمير مجلسهم أو أحدهم صوته بما تيسر من القرآن وهم مستمعون منصتون ، أو أن يرفع صوته ببعض الدعوات وهم يؤمِّنون.

5-الصورة الأولى بالنسبة لصيغ الذكر التي ليست قرآناً ولا دعاء بشرط أن لا يشوش بعضهم على بعض. أما في القرآن والدعاء فيتوقفون عن القراءة، إلا واحداً منهم فهو الذي يتلو ويدعو، وهم يستمعون لتلاوته ويؤمِّنون على دعائه.

وليس معنى هذا تفضيل هذه الصورة الخامسة على الصورة الأولى مطلقًا فقد يكون ما يُتلى من قرآن وما يُدعَى  الله به من دعاء: من الصيغ التي ورد بشأنها أحاديث معينة تقول مثلاً : إن من تلا كذا (من الآيات والسور) فله كذا وإن من قال كذا (من صيغ الدعوات) فله كذا، كما هو الحال في أذكار الصباح والمساء مثلاً ، ففى نحو هذا ربما يُفضل الاشتراك من كل فرد على الاكتفاء بمجرد الاستماع أو التأمين.

6-الصورة الأولى أيضًا إلا في الصيغ التي يزيد عددها عن ثلاث مثلاً كالسبع والعشر والمائة ، فيمكن أن يُسر الجميع بها، على أن يحدد أحدهم وقت البداية والنهاية لكل صيغة منها.

وفى مقدمة كتاب الأذكار (المأثورات)[15]عن الرسول r توجه مؤلفه الجليل ذلكم الشيخ الصالح إلى تلاميذه وقال ما معناه : إليكم خاصة وإلى المسلمين عامة نقدم بعض أذكار الصباح والمساء (الوظيفة الكبرى أولاً ، فإن كان هناك عذر أو فتور فالوظيفة الصغرى )  فلتجتمعوا عليها في دوركم وتقرءوها جماعة فيما بينكم، حتى يتعلم أميكم وينشط ضعيفكم ، وتقوى هممكم ، وتتآلف على الله قلوبكم، ويذهب الفتور والكسل عنكم ، وتحفكم الملائكة وتغشاكم الرحمة بشرط أن لا تقعوا في أى محظور شرعي، كالتشويش على مصلِّ، أو بناء البعض على قراءة البعض الآخر...إلخ الكلام الطيب حول هذه المعاني.

ولقد نشرت جريدة الأهرام فتوى لمفتي الجمهورية فضيلة الدكتور على جمعة تحت عنوان: الذكر الجماعي ومدح الرسول r مشروع وسنة ثابتة تقول :

أكد مفتي الجمهورية فضيلة الدكتور على جمعة على أن الذكر الجماعي أمر مشروع ولا شيء فيه وأن مدح النبي r عمل مطلوب وممدوح شرعاً وهو سنة ثابتة منقولة بالتواتر أخذها الخلف عن السلف، على أن يكون في إطار الحد الذى وضعه النبي r في قوله "لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم" يقصد في اتخاذهم إياه ولداً لله أو إلهاً معه فالرب رب والعبد عبد وهناك فارق بين المخلوق والخالق.

وأضاف أنه إذا ما عرف المسلم تلك الثوابت فليمدح بعد ذلك كما يشاء وليعلم أن كل غلو هو في حقيقته تقصير لأنه لا يحيط بصفاته وشمائله r إلا الذى خلقه I ولا يبلغ المادحون في مدحه r إلا على قدر ما يفهمونه من ذلك لا على قدره r كما أن المدائح النبوية كانت وما زالت تحبب الناس في رسول الله r عبر العصور وترغبهم في اتباع سنته والاقتداء بشمائله الشريفة وسجاياه الكريمة التي تنير القلوب وتنشرح بها الصدور وتزكو النفوس. وأوضح أن هذه السنة من السنن المهجورة عند كثير من المسلمين ونسأل الله أن يحييها في الأمة كما كان يفعل السلف الصالح.

ووصف د.على جمعة مدح الله تعالى ورسوله r بأنه من أعظم الطاعات تقرباً إلى الله تعالى كما أن المدح والذكر من أعظم ما يثبت حب الله تعالى ورسوله r في القلوب وقد وردت أحاديث كثيرة بأنه لا أحد أحب إليه المدح من الله تعالى .وفى حديث الأسود بن سريع t أنه قال قلت يا رسول الله مدحت الله تعالى بمدحه ومدحتك بمدحك .

قال : هات وابدأ بمدح الله تعالى ، وقد سمع مدحه بأذنه من حسان بن ثابت، وعمه العباس وأنس بن مالك وعبد الله بن رواحه وزهير وغيرهم ولم ينكر أحد ذلك كما تغنى المتغنون بين يديه بمدحه فرادى وجماعات عند استقبال الأنصار له ولم يرد إنكار لهذا الأمر.

وأشار فضيلة المفتي إلى أن معظم الآيات القرآنية التي أمرت بالذكر جاء الأمر الإلهي فيها بصيغة الجمع كقوله تعالى (فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ) وقوله (فَاذْكُرُواْ اللّهَ عِندَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ) وقوله (وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا) وقوله (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا، وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا) إلى غير ذلك من الآيات الدالة على مشروعية الاجتماع على ذكر الله تعالى ودعائه.

وقال أن هناك من الأحاديث النبوية الشريفة الدالة على ذلك فعن أبى هريرة وأبي سعيد رضي الله عنهما أنه r قال :"لا يقعد قوم يذكرون الله U إلا حفتهم الملائكة وغشيتهم الرحمة ونزلت عليهم السكينة، وذكرهم الله تعالى فيمن عنده". وعن أنس بن مالك t عن رسول الله r قال :"ما من قوم اجتمعوا يذكرون الله لا يريدون بذلك إلا وجهه إلا ناداهم مناد من السماء أن قوموا مغفوراً لكم قد بدلت سيئاتكم حسنات " كما أوضح أنه يوجد الكثير من الأحاديث الدالة على مشروعية الاجتماع على الذكر على ذلك فإن القول بأن هذا اللون من الذكر بدعة هو نفسه بدعة مذمومة إذ من البدعة تضييق ما وسع  الله ورسوله r وعلى ذلك فإن الذكر في الجمع أرجى للقبول وأيقظ للقلب وأجمع للهمة وأدعى للتضرع بين يدي الله تعالى.

الالتزام في العبادات المطلقة:

وهى أن يلتزم المسلم بعبادة لها أصل مشروع ولكنه يحدد لها مكاناً معيناً أو زماناً محدداً أو عدداً بعينه مكرراً ذلك مثل قراءة (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ) مائة مرة بعد الفجر أو في أي وقت معلوم ، أو استمرارية قراءة الكهف كل يوم جمعة بطريقة معينة فإلزام المسلم نفسه بعبادة لها أصل في الدين مشروعة واستمراره عليها تسمى التزام عبادة مطلقة وحكمها كالبدعة الإضافية سواء بسواء اختلف العلماء في الحكم عليها فهى من مسائل الخلاف الفقهى الذي لا إنكار فيه أيضًا.

البدعة التركية، يقول الإمام الشاطبى الترك فعل من الأفعال الداخلة تحت الاختيار وعلى ذلك يكون طاعة ويكون معصية ما دام داخلاً تحت الاختيار فإذا ما خرج الترك من حد الاختيار ولم يقصد الإنسان إليه فلا أثر له في ثواب ولا في عقاب.

والبدعة كما تشمل الفعل المخالف للسنة تشمل الترك المخالف للسنة كذلك والمسلم إن عزم على ترك المباح من الطيبات لغير سبب مقبول كمرض يزيد بتناوله أو ضرر ينتج عنه فإن كان تركه لذلك على وجه من التحريم بحيث لو رغب فيه لتناوله فلا شيء عليه لأن المباح يستوى فيه الفعل والترك وإن حرمه على نفسه أو نذر ترك تناوله مطلقاً أو لمدة محدودة فهو مبتدع بهذا التحريم وبهذا النذر.

ومن هذا الباب ترك المباح تقرباً إلى الله – في كثير من أنواع الزهد وعند بعض المتصوفة فلقد قُدم لأحدهم تفاحة فرفض أن يأكلها فقيل له لم؟ قال لا أستطيع أن أقدم شكرها كنعمة فقال له الحسن البصري: وهل يستطيع الأحمق شكر نعمة الماء البارد ومثل ذلك ترك الزواج كي لا يقرب النساء تعففاً أو غير ذلك.

وكقاعدة فإن البدعة التركية هي ترك الأشياء المشروعة بغية التقرب إلى الله تعالى وعلى كل حال فهي من المسائل الخلافية بين العلماء كما ذكرنا.

نحلص من هذا أن العلماء اختلفوا في حكم البدعة باختلاف مفهومها فمن العلماء من عم البدعة في كل حادث مذموماً كان أو ممدوحاً فالبدعة عنده ليست على مرتبة واحدة بل تختلف فيما بينها من ناحية القبول والرد فمنها ما هو واجب ومنها ما هو حرام يقول ابن حزم البدعة في الدين كل ما لم يأت في القرآن ولا عن رسول الله r إلا أن منها ما يؤجر عليه صاحبه ويعذر بما قصد من الخير ومنها ما يؤجر عليه صاحبه ويكون حسناً وهو ما كان أصله الإباحة كما روى عن عمر t "نعمت البدعة هذه" حين جمع المسلمين على صلاة التراويح ومنها ما يكون مذموماً ولا يعذر صاحبه وهو ما قامت الحجة على فساده فتمادى القائل به؟

ومن أصحاب هذا الرأى الإمام القرافى يقول: فالبدعة إذا عُرضت تعرض على قواعد الشرع وأدلته فأى شيء تناولها من الأدلة والقواعد أُلحقت به من إيجاب أو تحريم وغيرهما وإن نظر إليها من حيث الجملة إلى كونها بدعة -مع قطع النظر عما يتقاضاها -كُرهت -فإن الخير مع الإتباع والشر كله في الابتداع"

ولقد تعقب الإمام الشاطبى هذا القول بما يفيد تناقضه فقال ما خلاصته:

"هذا كلام يقتضى أن الابتداع شر كله فلا يمكن أن يجتمع مع فرض الوجوب أى كيف، يقول الإمام القرافى إن البدعة أحيانًا تكون واجباً وقد ذكر أن البدعة قد تجب وإذا وجبت لزم العمل بها فقد اجتمع في رأيه الأمر بها والأمر بتركها لأنه يقول والبدعة من حيث الجملة مكروهة ولا يمكن فيها الانفكاك وإن كان من جهتين لأن الوقوع يستلزم الاجتماع  لأنها إذا وجبت فإنما تجب على الخصوص وقد فرض أن الشر فيها على الخصوص فلزم التناقض"

ورد الشيخ البراد ما قاله الشاطبى : بأن المقصود أن حكم البدعة المقررة لها بحسب ذاتها والثابت لها من حيث أصلها وبقطع النظر عن عوارضها هو الكراهة وليس القصد أن الكراهة من جهة والوجوب من جهة أخرى حتى يرد ما زعم فهى نظير النكاح مثلاً له حكم بحسب أصله وهو الندب وقد يخرج عنه لعارض وكذلك أكل الميتة يخرج إلى الوجوب عن أصله وهو الحرمة عند الاضطرار"

وأصحاب هذا الرأى – كما رأيت- لا يجيزون إحداث شيء يتصل بالشريعة إلا إذا اقتضت الظروف والأحوال ذلك لمصلحة الدين وهو ما قيل فيه إنه مندوب أو واجب.

والحق يقال إن العلماء اختلفوا من حيث تقسيم البدع فللعلماء فيها أقوال فمنهم من وسع في التحديد فاتسع عنده مدلولها وما يندرج تحت اسمها ويمثل هذا  الاتجاه بعض العلماء ذوو المكانة العلمية الفائقة منهم:

الإمام الشافعى : يقسم البدعة إلى حسنة وسيئة ومحمودة ومذمومة وهى عنده تشمل كل حادث بعد عصر رسول الله r وعصر الخلفاء الراشدين يقول حرملة بن يحيى: سمعت الشافعى رحمه الله يقول: البدعة بدعتان بدعة محمودة وبدعة مذمومة فما وافق السنة فهو محمود وما خالف السنة فهو مذموم.

ابن الأثير: يقول أيضًا البدعة بدعتان : بدعة هدى وبدعة ضلالة وبدعة الهدى هي ما كانت واقعة تحت عموم ما ندب الله إليه وحض عليه سبحانه أو رسوله r وبدعة ضلالة هي ما كانت على خلاف ما أمر الله به ورسوله r وما لم يكن له مثال موجود.

الإمام الغزالى : يقول " وما يقال أنه أبدع بعد رسول الله r فليس كل ما أبدع منهياً عنه بل المنهى عنه بدعة تضاد سنة ثابتة وترفع أمراً من الشرع مع بقائه عليه بل الابتداع يجب في بعض الأحوال إذا تغيرت الأسباب"

ومنهم من ضيق هذا المدلول وما يندرج تحته من الصور والأحكام وهذا الاتجاه ينقسم إلى قسمين:

القسم الأول: لا تتقيد فيه البدعة بشيء سوى مخالفة السنة بحيث تكون البدعة على غير مثال سابق في الشرع سواء اتخذت ديناً أم لا ومن هؤلاء:

ابن رجب الحنبلى يقول : البدعة ما أحدث مما لا أصل له في الشرائع يدل عليه، أما ما كان أصل من الشرع يدل عليه فليس ببدعة شرعاً.

ابن حجر العسقلانى يقول: البدعة أصلها ما أحدث على غير مثال سابق وتطلق في الشرع في مقابل السنة فتكون مذمومة.

ابن حجر الهيثمى: يقول البدعة كل ما أحدث خلاف أمر الشارع ودليله الخاص والعام.

الإمام الزركشى : يقول البدعة في الشرع موضوعة للحادث المذموم .

القسم الثانى : ويمثله:

الإمام الشاطبى : وعرف البدعة بتعريفين :

الأول: البدعة عبارة عن طريقة في الدين مخترعة تضاهى الشريعة يقصد بالسلوك عليها المبالغة في التعبد لله I - وهذا رأى من لا يدخل العادات في معنى البدعة.

الثانى: البدعة طريقة في الدين مخترعة تضاهى الشريعة يقصد بالسلوك عليها ما يقصد بالطريقة الشرعية.

والإمام الشاطبى يقول في تعريفه "طريقة في الدين" ليخرج الطريقة في الدنيا كإحداث الصنائع والبلدان ويقول "مخترعة" أي لا أصل لها في الشريعة ولا تعلق لها بها ، ويقصد بالسلوك عليها ليخرج العادات من البدعة

ونحن نكتفى هنا بهذا القدر لنؤكد أن ما قاله الأستاذ البنا رحمه الله – إنما هو تأصيل فقهى قال به كثير من فقهاء الأمة وعلماء السلف – وفى المسألة تفصيل ليس هنا مجاله فقد قسم العلماء البدعة إلى عادية وتعبدية وحقيقية وإضافية وحسنة وسيئة وفعلية وتركية واعتقادية وقولية وفعلية وكلية وجزئية وكل نوع منها له حكمه عند العلماء وفي هذا  القدر ما يكفي لتبيان صواب ما ذهب إليه الإمام البنا فى هذه القضية فما كان بدعاً من العلماء ولكنه سار على نهجهم.

والذي نريد أن نقف عنده مسألة الاحتفال بمولد الرسول r:

لقد أُعلنت الحرب الشعواء على الاحتفال بمولد الرسول r لأن هذا لون من ألوان البدع التي يجب محاربتها واتهم الإخوان بأنهم مبتدعة لاحتفالهم بمولد الرسول r بل والمناسبات الإسلامية المختلفة والمتعددة وقال بعضهم إن  الإخوان ما وجدوا بدعة إلا وأحيوها وما وجدوا سنة إلا وأخفوها، وإنا لله وإنا إليه راجعون.

فنقول وبالله التوفيق لا خلاف بين المسلمين في أن الاحتفال بيوم مولد الرسول r عمل محدث لم يعهد في عهد رسول الله r ولا في عهد أصحابه أو التابعين لهم بإحسان يقول الإمام السخاوي إن عمل المولد حدث بعد القرون الثلاثة.

وأول من أحدثه في القاهرة المعز لدين الله الفاطمى سنة 362 هجرية ودام الاحتفال به إلى أن أبطله الأفضل أمير الجيوش بدر الجمالى سنة 488 هجرية في عهد المستعلى بالله ولما ولى الخلافة الآمر بأحكام الله ابن المستعلى أعاد الاحتفال به سنة 495 هجرية.

والغريب أنه بالرغم من أن حكم الاحتفال بمولد الرسول r هو من المسائل الخلافية بين العلماء -كما سنرى- إلا أن بعض العلماء الأجلاء غيرة منهم على دين الله، وخوفاً من الانحرافات التي تظهر في المجتمعات الإسلامية بوجه عام وفي الموالد بوجه خاص غالوا في الحكم في هذا الموضوع حتى أننا وجدنا عالماً جليلاً يكتب في رسالة سماها "الإنصاف فيما قيل في المولد من الغلو والإجحاف" يهاجم فيها الإمام السيوطى هجوماً شديداً لأنه يقول بجواز الاحتفال بمولد الرسول r فيقول عن رأى الإمام السيوطى بجواز الاحتفال بمولد الرسول r "كان رده ساقطاً بارداً لأنه يجادل بالباطل ليدحض به الحق ، والعياذ بالله تعالى".

أليست هذه مغالاة فى الأحكام الشرعية؟ وهل مثل الإمام السيوطي يُقال عنه أن يجادل بالباطل ليدحض به الحق إلى هذا الحد يصف عالماًَ جليلاً من علماء السنة بأنه يجادل بالباطل أي أنه يعلم أنه الباطل الذي يريد أن يدحض به الحق الذي يعلمه فهل هذه صفة المسلم يعرف الحق فضلاً عن أن يكون عالماً جليلاً، وهل علماء الإسلام حين يختلفون يجادلون بالباطل ليدحضوا به الحق ولا حول ولا قوة إلا بالله العلى العظيم.

إن الأمر لا يحتاج إلى هذا الغلو الشديد فى أمر اجتهادي فكلا طرفى الأمور ذميم؛ لأن العلماء اختلفوا في الاحتفال بمولد الرسول r، فالبعض أجرى عليه أدلة ذم البدع باعتبار حدوثه وترك النبى r له ومن بعده السلف الصالح هذا من ناحية وقالوا من ناحية أخرى لأنه تخصيص بغير مخصص وقد ورد النهى عن مثله ، فقد نهى النبى r عن تخصيص يوم الجمعة بصيام ولولا أن المفسدة إنما تنشأ من تخصيص ما لا خصوصية له – كما في الاحتفال بالمولد– لما نهى عنه r فإن الناس إنما يخصصون هذا اليوم بالاحتفال لاعتقادهم فيه فضيلة تقتضى ذلك ولا فضيلة فيه فأقل أحوال هذا الاحتفال –في نظر الشرع- أن يكون مكروهاً.

وقالوا أيضًا: أن الواجب على الناس في نظرهم إلى الأيام من ناحية التشريف والتكريم وتخصيص بعضها بالعبادة أو الاحتفال به دون البعض الآخر اتباع الكتاب والسنة وإن لم يدركوا ذلك من المصلحة أو المفسدة.

ومن أشهر هؤلاء المانعين الاحتفال بمولد رسول الله r تاج الدين عمر بن على اللخمى السكندرى المالكى المعروف بالفاكهانى حيث ألف كتاباً سماه "المورد في الكلام على عمل المولد" رد فيه هذا الاحتفال وقال بمنعه لأنه لا يعلم له أصلاً في كتاب ولا سنة.

وهذا الرأى يوافق رأى الإمام ابن تيمية والشاطبى وغيرهما، ومما يوضح أن هذا الأمر مختلف فيه بين العلماء وبالتالي لا إنكار فيه كما شدد البعض هو من رأوا إباحة هذا الاحتفال بل ويحبذون القيام به ويستحسنوه وإليك ما قالوه:

يقول العلامة أبو شامة: "إن من أحسن ما أحدث في زماننا ما يفعل كل عام في اليوم الموافق ليوم مولده r من الصدقات والمعروف وإظهار الزينة والسرور فإن ذلك مع ما فيه من الإحسان إلى الفقراء مشعر محبته r وتعظيمه في قلب فاعل ذلك وشكر الله تعالى على ما منّ به من إيجاد رسوله الذي أرسله رحمة للعالمين r" هذا رأي إمام من الأئمة.

ويمثل هذا الاتجاه الإمام السيوطى وأما ابن حجر فيرى أن الاحتفال بالمولد بدعة اشتملت على محاسن وضدها فمن تحرى في عمله المحاسن وتجنب ضدها كان بدعة حسنة وإلا فلا .ويستدل الإمام ابن حجر بقول الرسول r حين قدم إلى المدينة فوجد اليهود صياماً يوم عاشوراء فقال :"ما هذا اليوم الذي تصومونه؟ فقالوا هذا يوم عظيم أنجى الله فيه موسى وقومه وأغرق فرعون وقومه فصامه موسى شكراً فنحن نصومه، فقال رسول الله r : فنحن أحق وأولى بموسى منكم فصامه رسول الله r وأمر بصيامه.

فإذا نظرنا إلى ما منّ الله به على الناس أجمعين برسالة محمد r لكان أولى بالاحتفال به فإن كان ابن حجر استخدم القياس فإن ابن الحاج –في المدخل – كان موفقاً في توصله إلى دليل على تخصيص هذا اليوم باستحباب عبادة خاصة فيه إظهاراً للسرور بالمولد شكراً لله على مولده r ألا وهو تعليل الرسول r استحباب صوم يوم الاثنين بقوله :"ذاك يوم ولدت فيه، ويوم بعثت أو أُنزل علىّ فيه"

ويرجع ابن الحاج ترك الرسول r ومن بعده من السلف للاحتفال بهذا اليوم إلى رحمة النبى بأمته ورفقه بهم حيث كان يترك العمل خشية أن يفرض على أمته ومما يدل على ذلك أنه r حرم المدينة بقوله "اللهم إن إبراهيم حرّم مكة وإنى أُحرم المدينة بما حرم إبراهيم مكة ومثله معه"

ومع ذلك فإنه r لم يشرع في قتل صيدها أو في قطع شجرها شيئاً من الجزاء تخفيفاً على أمته ورحمة بهم.

وقد يكون سبب ترك الصحابة لهذا الاحتفال : إنما لانشغالهم بما هو أهم وهو الجهاد وإعداد الدولة الإسلامية أو كانوا يحتفلون به فرادى أو أسراباً .

والغريب أن البعض قالوا : إن الحزن فى هذا اليوم والذى توفي فيه أولى من الفرح بمولده r فإن الإمام السيوطى يقول "الشريعة حثت على إظهار شكر النعم والصبر والسكوت والكتم عن المصائب فيأمر بالعقيقة وهى إظهار شكر وفرح بالمولود وينهى عن النياحة وإظهار الجزع عند الموت ، ولا يأمر بذبح ولا بغيره وذلك يدل على أن الأحسن في هذا الشهر إظهار الفرح لولادته r دون إبداء الحزن على وفاته r " قال ابن رجب :"لم يأمر الله ولا رسوله باتخاذ أيام مصائب الأنبياء وموتهم مأتماً فكيف بمن دونهم"

ويمكن أن نضيف إلى ما ذكره الإمام السيوطى في ذلك أن الرسول r أشار إشارة واضحة إلى أن وفاته نعمة لا نقمة فقال :"إن الله U إذا أراد رحمة أمة من عباده قبض نبيها قبلها فجعله لها فرطاً وسلفاً بين يديها ، وإذا أراد هلكة أمة عذبها ونبيها حى فأهلكها وهو ينظر فأقر عينه بهلكتها حين كذبوه وعصوا أمره"

ومن هنا يظهر بوضوح اختلاف العلماء في الحكم على الاحتفال بيوم المولد في صورة شخصية أو أسرية بل استحب بعض العلماء هذا الاحتفال وذلك لما يأتي:

1-تخصيص يوم الاثنين بفضيلة الصوم وبيان أن سبب هذا التخصيص أنه r ولد فيه.

2-حث الرسول r على صوم يوم عاشوراء شكراً لله تعالى على نجاة موسى ومن معه وفى ذلك ما يشير إلى  الحث على صوم مولده والاحتفال به بشتى ألوان العبادة والطاعة.

3-تخصيصه r الأوقات الفاضلة بمزيد العناية كزيادة الجود في شهر رمضان والاجتهاد في العبادة فيه أكثر من غيره من الشهور ، ومن أفضل الأيام مولده r.

هذا ومما تجدر الإشارة إليه أن الاحتفال بالمولد على ما اخترناه في تعريف البدعة ليس من المنهي عنه شرعاً بدعة. فلم يقترن به ادعاء ورود الشرع به أو حثه على هذا  التخصيص أو نسبة ما ليس من الشرع في هذا المجال إليه.

وعلى ذلك فهذا الاحتفال ليس مما تحقق فيه تعريف البدعة الأصلية على أي اتجاه من الاتجاهات في تعريف البدعة لثبوت أصله من السنة ، وتوارد الأدلة المؤيدة لوقوعه وهو كما رأيت من الأمور المختلف فيها ولا إنكار فيها.

أما ما يعمل فيه أو كيفية ممارسته فذلك مشروط بأن يقتصر فيه على ما يفيد الشكر لله تعالى من التلاوة والتذكير بسيرته ومآثره r والإطعام والصدقة وإنشاء شيء من الأشعار في المدائح النبوية والزهدية المحركة للقلوب إلى فعل الخير والعمل للآخرة وهذا مقيد بشرط ألا يشغل عن فرض أو يعطل عن طاعة أو يسوق إلى إرهاق من كثرة السهر لأن الغرض تحصيل السرور عن طريق مشروع وإظهار الشكر لله تعالى على أي وجه أما كشف العورات والاختلاط المزرى والألعاب الملهية المشتملة على فنون النصب والاحتيال فيجب تجريد ذكرى المولد من كل ذلك على أي حال.

وهذا ما نراه إذ لا يمكن أن يستوى الاحتفال بشم النسيم أو أعياد الغربيين الدينية أو "غدير خم" [16] مع الاحتفال بمولد الرسول r فليسوا سواءً.

وفي النهاية يجدر بنا أن نشير إلى أهم الأسباب التي بها تنتشر البدع كي نحذر منها:.

أسباب انتشار البدع

1-سكوت كثير من العلماء على تلك البدع وعدم تبيانها .

2-تأييد كثير من الحكام لتلك البدع ومحاربة شرع الله.

3-القول في الدين بغير علم في الفتوى.

4--الجهل بالسنة من حيث مكانتها في التشريع أو الجهل بتمييز الأحاديث.

5-إتباع المتشابه والهوى والجهل بأساليب اللغة.

6-عمل العالم نفسه بالبدعة فيقلده العامة.

فما هي وسائل الوقاية منها لكي نحيي السنة ونميت البدعة ؟

وسائل الوقاية من البدع:

1-نشر السنة وإحياؤها والتعريف بها.

2-تطبيق السنة في سلوك الفرد والمجتمع وإنزالها على الواقع ليحيي بها الناس.

3-عدم قبول الاجتهاد ممن لا يتأهل لذلك ويجب التأكد وتحري مصدر التلقي.

4-نبذ التعصب للرأى ورد الأمر للكتاب والسنة والنزول عليهما.

5-الرد على ما يوجه إلى الدين من حملات ظاهرة أو خفية على أساس من العلم وصد التيارات الفكرية والعقائدية الباطلة.

6-تحذير العامة من القول في الدين بغير علم وذلك بالتوعية والدعوة الرشيدة.

7-الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر بالطرق المشروعة وبأحسن الأساليب الدعوية.

 


الأصل الثالث عشر

محبة الصالحين واحترامهم والثناء عليهم

"ومحبة الصالحين واحترامهم والثناء عليهم بما عرف من طيب أعمالهم قربة إلى الله تبارك وتعالى والأولياء هم المذكورون في قوله تعالى (الَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ) والكرامة ثابتة لهم بشرائطها الشرعية مع اعتقاد أنهم رضوان الله عليهم لا يملكون لأنفسهم نفعاً ولا ضراً في حياتهم أو بعد مماتهم فضلاً عن أن يهبوا شيئاً من ذلك لغيرهم"

هذا الأصل يعالج :

1-حب الصالحين من الحب في الله.

2-احترام الصالحين والثناء عليهم.

3-من هم أولياء الله؟

4- ما هي الكرامة وشرائطها الشرعية؟

5-الاعتقاد بأن الذي يملك الضر والنفع هو الله وحده.

ركائز دعوتنا:

تقوم دعوتنا على دعامتين أساسيتين:

1-قوة الإيمان .

2-قوة الحب.

نعلم جميعاً أن الله I خلق الإنسان وأودع فيه نفس تطيع وتعصى، تحب وتكره، هذا أمر مركوز فى فطرة الإنسان وأشار المولى فى كتابه لهذا المعنى حين قال : (وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا، فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا، قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا، وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا) فمن التزكية أن تحمل نفس الإنسان الحب وأن يصرِّف هذا الحب ويوجهه فيما يحبه الله I كما يصرِّف البغض في كل ما يبغضه الله I ولا يحل لمسلم أبداً أن يصرف عاطفة الحب فيما يغضب الله ولا يصرف عاطفة البغض فيما يحب الله I إتباعاً لتوجيه الرسول r حيث يقول r :"من أحب لله وأبغض لله وأعطى لله ومنع لله فقد استكمل الإيمان" فهذه العاطفة يجب على المسلم أن يتحكم فيها تبعاً لما جاء به الشرع الحكيم فحينئذ يؤلف بين المحبين فيحب بعضهم بعضًا (وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مَّا أَلَّفَتْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ) وهذه الألفة لها أسباب لا تتحقق إلا بها وهو الإيمان والعمل الصالح اللذان هما سبب هذا الحب مصداقاً لقول الله I (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا) ومن أجل ذلك ذكر ربنا I ذكَّر الصحابة بهذه النعمة التى نقلتهم من الجاهلية بظلمتها إلى الإسلام بنوره فقال لهم : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ، وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا) ولكي تحقق هذا الحب فى الله I كان لابد أن تتحقق من حب الله لك أولاً وتسعى لتحقيق ذلك فإن حققت حب الله لك كان حب الصالحين لك أمراً محتوماً لا شك فيه لأن المولى لا يصطفي إلا من أحبه ليجري النصر على أيديهم سبحانه مبيناً ذلك (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لآئِمٍ) ثم يقول ربنا (ذَلِكَ فَضْلُ اللّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ) .

وهاتان الدعامتان يقوى عود كل منهما ويشتد ساعدهما، وتعمق جذورهما ويؤتى أُكُلهما كل حين بإذن الله حيث يقوى الإيمان ذاته، وقوة الإيمان تتحقق بصحة الاعتقاد ، وإسلام الوجه لله، أما قوة الحب فتتحقق بصدق الاتباع (قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ)

وحب الله تعالى يعنى فعل المأمور وترك المحظور والصبر على المقدور فإذا أنعم عليك شكرت وإذا ابتلاك صبرت وإن أذنبت استغفرت فترضى بقضائه وتقنع بعطائه فإذا تحقق ذلك فيك نادلى المولى : يا جبريل إنى أحب فلاناً فأحبه ثم ينادى جبريل ملائكة الله ، يا ملائكة الله إن الله يحب فلاناً فأحبوه ثم ينزل لك المولى I القبول في الأرض مصداقاً لقوله تعالى (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا) حينئذ تدخل في عداد الصاحين (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ)

فالصالحون هم صناعة الله وعطاء الله وهم الذين أحبهم الله (يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لآئِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ) فمن هذا الذي لا يحب من أحب الله؟ والله يحب المحسنين ، والمتقين، والصابرين، والمؤمنين، وعباد الله الصالحين.

يقول ابن تيمية t :"العبودبة هي كمال الحب وكمال الذل لله" أمران لا يجتمعا أبداً إلا لله لأن الإنسان الذي يذل إنساناً آخر لا يحبه أبداً فضلاً عن أن يتبادلا الحب ولكن العبودية لله لا تتحقق إلا بكمال الحب وكمال الذل لله I فمن لا يحب الله فلا محبة له، لأنه لا حب إلا بإسلام، لأن المحبة هي الإسلام ولا محبة لمن لا إسلام له.

 يقول ابن القيم t : المحبة حقيقة العبودية وهل تتمكن الإنابة بدون محبة وكذلك الرضا الحمد والشكر والخوف والرجاء بل وهل الصبر إلا صبر المحبين. والصبر في البلاء لا يتحقق إلا به ولولا الحب لله I ما كان الصبر، فالصبر أصلاً على المصائب صبر المحبين لله I وما قصة سيدنا إبراهيم مع ابنه إسماعيل منا ببعيد حين قال (يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِن شَاء اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ) لكي يكون خليلاً للرحمن I لم يرد المولى I أن يتعلق بابنه محبة له فوضعه في هذا البلاء الشديد لكي يكون القلب خالصاً في محبته لله وحده.

ولكي تتحقق هذه المحبة لابد من إتباع الرسول r يقول ربنا : (قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ) فجعل إتباع رسوله مشروطًا بمحبتهم  لله وشرطًا لمحبة الله لهم ، ولذلك يستحيل ثبوت محبتهم لله ومحبة الله لهم بدون متابعة الرسول r، كما يستحيل أن يزعم الإنسان أنه يحب الله ويعص الرسول r وكما قالوا لكي تتحقق المحبة لابد أن تهب كلك لمن أحببت فلا يبقى لك منك شيء، سُئل الجُنيد وهو في مكة عن المحبة: ما المحبة يا جُنيد؟ فأطرق رأسه ودمعت عيناه ثم قال :"عبد ذاهب عن نفسه متصل بذكر ربه قائم بأداء حقوقه واضع إليه بقلبه فإن تكلم فبالله وإن نطق فعن الله وإن تحرك فبأمر الله وإن سكن فمع الله، فهو بالله ولله ومع الله" فبكى من سمعه وقالوا ما على هذا نزيد ، يقول ابن القيم رضوان الله عليه وأرضاه:"إن الأسباب الجالبة لمحبة الله والموجبة لها عشرة:

1-قراءة القرآن للتدبر والتفكر بمعانيه وما أريد منها.

2-التقرب إلى الله بالفرائض والنوافل.

3-دوام ذكره في كل حال باللسان والقلب.

4-إيثار محابه على محابك عند غلبات الهوى .

5-مطالعة القلب لأسمائه I وصفاته ومشاهدتها ومعرفتها.

6-مشاهد بره وإحسانه وآلاءه ونعمه الظاهرة والباطنة.

7-انكسار القلب بكليته بين يدى الله تعالى.

8-الخلوة لمناجاته والتأدب بأدب العبودية بين يديه والاستغفار، بل وكثرته.

9-مجالسة المحبين والصالحين الصادقين ولا نتكلم إلا إذا ترجحت مصلحة الكلام.

10-مباعدة كل سبب يحول بين القلب وبين الله U.

ولا يتحقق ذلك كله إلا باليقظة، أولى مراحل العبودية اليقظة، واليقظة هي انتباه القلب من رقدة الغافلين ولذلك كان دعاء داود :"اللهم إنى أسألك حبك وحب من يحبك وحب عمل يقربني لحبك، اللهم اجعل حبى لك أحب من الولد والوالد والماء البارد" ولقد ذكر لنا القرآن من يحبهم الله فقال: )اللّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ(، (إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ)، (إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا)، (وإِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ)، كما ذكر من لا يحبهم فقال: (وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الفَسَادَ)، (إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ) إذا فقهنا هذا عرفنا أن التفاوت في الطاعة سببه التفاوت في المحبة وانصت لرسول الله r وهو يقول :"لا يؤمن  أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين" ويقول:" ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله وأن يكره أن يعود في الكفر كما يكره أن يقذف في النار" أو كما قال r ويحكى لنا عبد الله بن هشام فيقول كنا مع النبى r وهو آخذ بيد عمر بن الخطاب فقال له عمر:"يا رسول الله لأنت أحب إلىَّ من كل شيء إلا من نفسي" فقال r :"لا والذي نفسي بيده حتى أكون أحب إليك من نفسك" فقال له عمر فإنه الآن والله لأنت أحب إلىَّ من نفسي فقال له r :"الآن يا عمر". وما أفقه وأدق ما قاله العلماء يقولون:" ليس الشأن في أن تحب الله ولكن الشأن في أن يحبك الله"؛ لأن ما أكثر الذين يدعون حب الله ومن الطبيعي أن محبتك لرسول الله r يتبعها محبتك لآل بيته وعشيرته المؤمنة، ثم الصحابة من بعده، ثم التابعين ثم من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين يقول أنس أن أعرابياً سأل الرسول r فقال يا رسول الله متى الساعة؟ قال:"وما أعددت لها قال ما أعددت لها إلا إنى أحب الله ورسوله، قال :"فإنك مع من أحببت"، قال أنس فما رأيت المسلمين فرحوا بشيء بعد الإسلام أشد من فرحهم بقوله r.

لقد عرفنا كيف تتحقق محبة الله لنا بالعشر التي أشرنا إليها آنفًا ولكي نحافظ على ذلك كان لابد من معرفة الأسباب التي تؤدي إلى ضعف هذا الحب فما هي هذه الأسباب؟

1-ضعف النية لعمل الآخرة.

2- حين تصير الأبدان مهيأة للشهوات (زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاء وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا)

3- أن يدخل على المرء طول الأمل مع قصر الأجل.

4-تقديم إرضاء المخلوقين على رضا الله.

5-إتباع الأهواء ونبذ السنة وتركها.

6- أن تجعل ذلَّات السلف حجة لنفسك وتكتم مناقبهم.

يقول عيسى u :"تحببوا إلى الله ببغض أهل المعاصى وتقربوا إلى الله بالتباعد عنهم والتمسوا رضا الله بسخطهم" قالوا يا روح الله فمن نجالس؟ قال جالسوا من تذكركم اللهَ رؤيته ومن يزيد في إيمانكم كلامه ومن يرغبكم في الآخرة علمه". وتأمل قول الله تعالى (وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ)، ولذلك يقول الرسول r:"لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا ولا تؤمنوا حتى تحابوا ألا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم؟ أفشوا السلام بينكم" السلام تلازمه المحبة والترابط والأخوة والإيثار وكل المعاني الطيبة وليس كلام اللسان الذي يقول غير ما يفعل يحمل في طياته الأذى كما قال ربنا: (وَمِنَ النَّاسِ مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ، وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيِهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الفَسَادَ، وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ).

يقول الرسول r "إذا أحببت أخاك فأخبره بأنك تحبه" إنه شيء يدعو إلى السرور، حين تقابل أخاك فتقول له: والله إنى أحبك في الله، فكأن هذه شهادة بأن هذا الذي أحبه هو الذي يغشى المجالس الطيبة ويكثر الخطى إلى المساجد، قائم لله I مجاهداً في سبيله فإذا بالرد الطيب: أحبك الله الذي أحببتنى من أجله فيكون الحب كله لله I ورحمة الله على إمامنا الشهيد حسن البنا الذي علمنا هذا الدعاء الذي نردده بعد الدعاء المأثور والذي نقول فيه "اللهم إنك تعلم أن هذه القلوب قد اجتمعت على محبتك والتقت على طاعتك وتوحدت على دعوتك وتعاهدت على نصرة شريعتك فوثق اللهم رابطتها وأدم ودها واهدها سبلها واملأها بنورك الذي لا يخبو واشرح صدورها بفيض الإيمان بك وجميل التوكل عليك وأحيها بمعرفتك وأمتها على الشهادة في سبيلك إنك نعم المولى ونعم النصير"، وصدق الإمام حين قال : "سنقاتل الناس بالحب"، وتأمل قول الله (وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِّلَّذِينَ آمَنُوا) فإذا زال الحب انفرط العقد وتفرق الجمع وأكله الذئب ولذلك فإن المولى يحذر المؤمنين قائلاً : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَّكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ) يقول ابن القيم هذه عداوة المحبة من شدة تعلق الوالد بولده يعوقه عن  الجهاد في سبيل الله فكأن هذا الولد أصبح عدواً وأنت بسبب هذا الحب لا تؤدى ما عليك من واجب فأصبح هذا الحب عدواً لك لأنه يمنعك من فعل الخيرات وتأمل قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَّكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ) (وَاعْلَمُواْ أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلاَدُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللّهَ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ).

أن يبني مجتمعه على الحب والإيمان ألم تر كيف بدأ رسول الله r في بناء المجتمع المسلم في المدينة فأقام المسجد لغرس الإيمان وآخى بين المسلمين لتقوى العلائق بالحب (يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ) وبهذا الحب الذي يسود مجتمع المؤمنين الصالحين تتكون الجماعة المسلمة المتآلفة المتحابة (وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ) وتتوثق عرى المحبة التي لا تنفصم لأنها من الله (وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مَّا أَلَّفَتْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ) فإذا بهم صفاً واحداً تنعدم فيه الانشقاقات وتقل فيه الخلافات لأنهم يقولون (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) فاهدنا يا رب صراط الصالحين (صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ) فهم معاً في الدنيا في صلاح وتقوى ومحبة وهم في الآخرة مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً.

فمن هم الصالحون ؟

يقول ربنا U (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ) فتدبر هذه الآية الكريمة تجد الصالحين هم صناعة الله وهم الذين عناهم المولى I في قوله (يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ) وبهذا الحب تتكون جماعة المسلمين المتحابة وهم الذين أحبوا لله وأبغضوا لله وأخذوا لله وتركوا لله قلوبهم صافية وعيونهم باكية وأيديهم حانية وأرجلهم ساعية وأعمالهم خالصة يبيت أحدهم وليس في صدره شيء لأحد وبهذه الصفات أقاموا بناء الدولة ووطدوا أركان الدعوة ومن أجل ذلك كانت أولى خطوات الرسول r في مدينته بعد الهجرة بناء المسجد ليحقق قوة الإيمان والمؤاخاة ليحقق قوة الحب ذلك الرباط المتين وهذا الحصن الحصين الذي لا يستطيع عدو أن يخترقه فقد يخترق أعداء الإسلام الصفوف فيحتلوا البلاد بقوتهم الغاشمة ولكنهم لا يستطيعوا أن يخترقوا قلوب العباد مهما أوتوا من قوة.

من هنا كانت محبة الصالحين واحترامهم والثناء عليهم من العبادة التي يتقرب بها العبد لربه ومن الإيمان الذي وقر في القلب "فليس منا من لم يوقر كبيرنا ويرحم صغيرنا ويعرف لعالمنا حقه"

وهنا لابد لنا من وقفة ألا وهي: لماذا قال الإمام البنا "ومحبة الصالحين واحترامهم"؟ ولم يقل "ومحبة المصلحين" ذلك لأن الصالحين أعم وأشمل من المصلحين فهناك فرق بين الصالح وبين المصلح، فالصالح هو الذي يكون صلاحه في نفسه ولا يتعدى إلى غيره، أما المصلح فصلاحه يتعدى غيره ويتحرك به بين الناس ويدعوهم إليه ويتحمل الإيذاء في سبيل هذه الدعوة التي يوقن وينشر هذا الصلاح فلو قال الإمام البنا :"محبة المصلحين" لقصرها على المصلح وخرج منها الصالحون، لكن عندما يقول محبة الصالحين فيدخل الصالحون ومعهم المصلحون من باب أولى لأنك إذا أحببت الصالح يكون من الأولى أن تحب المصلح، وتأمل قول الله تعالى وتدبره وهو يقول (وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ) لأنه إذا تولى الصالحين فهو يتولى المصلحين كذلك لأن المصلحين عُمّار الأرض والقائمين على الحق الحارسين له ولذلك قال ربنا: (وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ) فلا تُهلك القرى وأهلها مصلحون؛ لأنهم لا يسكتون على باطل ولا يتركون الفساد يستشري بل يتصدون له وينكرونه مهما يصيبهم من أذى من حاكم جائر.

ولذلك سألت السيدة عائشة رسول الله r : أنهلك وفينا الصالحون ؟ قال : "إذا علا الخبث"، فلم تقل وفينا المصلحون ولكن قالت : وفينا الصالحون لأنه القائل (وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ) ومن هنا يبين لنا المولى I أن المنافقين يدعون الإصلاح فهم الذين قال عنهم القرآن (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ قَالُواْ إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ، أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِن لاَّ يَشْعُرُونَ) فوصفهم القرآن بأنهم "مفسدون" وليسوا فاسدين فحسب لأن الفاسد فساده في نفسه لا يتعدى غيره أما المفسد ففساده يصيب الغير وينتشر في الأرض ، ولذلك قال ربنا (وَاللّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ) ولم يقل والله يعلم الفاسد من الصالح ولذلك نهانا القرآن أن نجلس مع هؤلاء الذين قال فيهم (وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلاَ تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ).

والقرآن يثنى على الصالحين ويعلمنا ربنا الثناء على الصالحين لأنه سبحانه أثنى عليهم ونوه بأخلاقهم ومسالكهم فقال (وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَّبِيًّا) وقال (وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولًا نَّبِيًّا ، وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ) .

وكذلك رأينا الأنصار يثنون على المهاجرين (يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ) ويستمر هذا الموكب المتحاب يورث بعضه بعضاً هذا الحب (يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ) .

المحبة منطلق كل خير:

إن المحبة منطلق كل خير وفلاح لأنها تجمع المسلمين على وجهة واحدة وغاية واحدة وقدوة واحدة فهى الحياة ودونها الموت والهلاك ويقول عمر بن الخطاب t : لولا ثلاثة ما أحببت البقاء : لولا أن أحمل على جياد في سبيل الله، ومكابدة الليل ومجالسة أقوام ينتقون أطايب الكلام كما ينتقى أطايب التمر. ويقول ابنه عبد الله: والله لو صمت النهار لا أفطره وقمت الليل لا أنامه وأنفقت مالى غلقاً غلقاً في سبيل الله أموت يوم أموت وليس في قلبى حب لأهل طاعته ولا بغض لأهل معصيته ما نفعنى ذلك شيئاً .

كيف نقدر الصالحين ونثنى عليهم ونتبرك بهم:

محبة الصالحين من الحب في الله لأن الله يحبهم ويحبونه فنقدرهم ونثني عليهم إلا أن بعض العلماء كره تقبيل يد الصالحين تعظيماً له والتمسح به وفي مسألة التقبيل بالذات خلاف. كرهها الإمام مالك وآخرون من الفقهاء.

قال سليمان بن حرب:"قبلة اليد هي السجدة الصغرى" ، وقال ابن عبد البر :"تقبيل اليد إحدى السجدتين" ولقد قبض هشام بن عبد الملك يده من رجل أراد أن يقبلها وقال: مَه فإنه لا يفعل هذا إلا هلوعاً ومن العجم إلا خضوعاً "

ورخص أكثر العلماء كالشافعى وأحمد بن حنبل رحمهما الله، يقول إن كان للدين لا للدنيا فلا يكره تقبيل اليد لزهد وعلم وكبر سن بل يستحب.

قال الشعبى: صلى زيد بن ثابت على جنازة فقُرّبت إليه بغلة ليركبها فجاءه ابن عباس فأخذ بركابه فقال زيد خلى عنى يا ابن عم رسول الله r فقال بن عباس هكذا أمرنا أن نفعل بالعلماء والكبراء فقبل زيد بن ثابت يده وقال هكذا أمرنا أن نفعل بأهل  بيت نبينا محمد r.

ويكره لدنياه وثروته وشوكته ووجاهته كراهة شديدة.

ومن طريف ما قيل لبعض الفقهاء في تقبيل اليد أنه باعتبار موقعه  على أنواع:

-تقبيل المودة للولد ويكون على الخد.

-وتقبيل الرحمة للوالدين ويكون على الرأس.

-وتقبيل الشفقة للأخ ويكون على الجبهة .

-وتقبيل الشهوة للزوجة ويكون على الفم .

-وتقبيل التحية للعلماء العاملين والحكام العادلين ويكون على اليد

واتفق العلماء على كراهة مد اليد للناس ابتداءً ليقبلوها فهذا منهى عنه بلا نزاع كائناً من كان هذا الإنسان ولكن النزاع فيما إذا كان المقبل هو المبتدئ بذلك هذا كله يخص تقبيل اليد والذي يظهر فيه الخلاف المعتبر شرعاً الذي لا إنكار فيه.

التبرك بالصالحين :التبرك هو التيمن بالشيء والبركة هي النماء في الخير والزيادة فيه ولقد قال المولى أنه بارك في أرض الشام فقال : (وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ) وعيسى u قال : (وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنتُ) بل إن القرآن نفسه كله مبارك (كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ) .

ومن الأدعية المأثورة "وبارك لى فيما أعطيتنى" فطلب البركة والتماسها أمر مستحسن شرعاً لأنه من طلب الخير والتماسه ولكن بما يكون التبرك وكيف يكون؟

بمَ يكون التبرك؟

التبرك يكون  بما عُلم شرعاً أن فيه بركة وأذن الشارع في طلبها منها والتماسها فيه، وذلك كبيت الله الحرام ، وزمزم والمساجد الثلاثة وكالأرض المقدسة ،وكمجالس العلم والذكر وقراءة القرآن ومجالسة الصالحين، وطلب دعائهم ومرافقتهم، ويقول الإمام الشاطبى "فى الاعتصام" : التبرك بغير آثار النبى r بدعة إضافية، لأن الصحابة كانوا يتبركون بآثار النبى r فقد ثبت أن الصحابة كانوا يتمسحون بفضل وضوءه r بل ويدلكون وجوههم بنخامته r بل وشربوا دم حجامته وشربت خادمة بوله عليه السلام وتبركوا بشعره وثوبه وغيرهما .

فعن أبى جحيفة قال خرج علينا رسول الله r بالهاجرة فأتى بوضوء فتوضأ فجعل الناس يأخذون من فضل وضوءه ويتمسحون به.

 وعن السائب بن يزيد قال ذهبت بى خالتى إلى النبى r فقالت يا رسول الله إن ابن أختى وجع فمسح رأسى ودعا لى بالبركة ثم توضأ فشربت من وضوءه.

وحكى القاضى عياض أن مالك بن سنان مص دم النبى r يوم أحد فقال r "لن تصيبه النار". وأن عبد الله بن الزبير شرب دم حجامته r فلم ينكر ذلك منه وأن امرأة شربت بوله r فقال لها :"لا تشتكى وجع بطنك أبداً"

قالوا إن الصحابة تبركوا بآثار الرسول r ولكنهم لم يتبركوا بآثار غيره وتركهم لذلك لسببين:  

1-أن يعتقدوا في التبرك بالرسول الله r خصوصية له ومرتبة النبوة تتسع لذلك كله فكما اختص بأشياء دون غيره اختص بالتبرك بآثاره r ولا يشاركه في ذلك أحد.

2-ألا يعتقدوا الاختصاص ولكنهم تركوا ذلك من باب سد الذرائع خوفاً من أن يجعل ذلك سنة أو لأن العامة لا تقتصر في ذلك على حد بل تتجاوز فيه الحدود وقد قطع عمر t الشجرة التي بويع تحتها النبى r فقد يبالغ قوم في التبرك بالصالحين إلى حد الاعتقاد الفاسد بأنهم ينفعون ويضرون كما يحدث في زيارة أضرحة بعض الصالحين ولقد بالغ أصحاب الحلاج في التبرك به حتى ادعوا فيه الألوهية.

هذا من ناحية ومن ناحية أخرى فالولاية وإن ظهر لها في الظاهر آثار قد يخفى أمرها فإنها في الحقيقة راجعة إلى أمر باطن لا يعلمه إلا الله فربما ادعيت الولاية لمن ليس بولى أو ادعاها لنفسه أو أظهر خارقة بطريق السحر أو الشعوذة ونحو ذلك فبهر من ذلك الجاهلون وخدعوا وظنوا في ذلك الظنون واعتقدوا فيهن اعتقاد يوشك أن يهلكهم وكل هذا لا يمنع من التبرك بالصالحين.

ولقد رد العلماء على خصوصية التبرك فقالوا:"لا دليل عليها" أما قولهم لسد الذريعة فإن اعتبار سد الذرائع في بعض الأمور لا يدل على اعتبارها في كل أمر فالشارع لم يعتبر سد الذرائع في المنع من زراعة العنب خشية استخراج الخمر منه ونحو ذلك وكذلك لم يعتبر سد الذريعة في وأد البنات وقتل الأولاد خشية الإملاق أو خشية العار.

ولو أن الشارع اعتبر مثل هذا سداً للذريعة لمنع منه بالنسبة إلى التبرك بالنبى r بالأولى لأن الأمر الذي يخشى من ترتبه على مثل هذا التبرك أقرب منه حينئذ بالنسبة إلى من عداه.

وخلص أصحاب هذا الرأى إلى أنه لا بأس بهذا التبرك في حدود الشريعة لأنه من باب حب الصالحين وهو الحب في الله وقد أمرنا بهذا الحب وورد ما يدل عليه من آثار فلا يتبرك بدم أو بول مثلاً للحكم بأنه غير طاهر ولا يمكن تسليم الخروج عن طريق هذا التبرك إلى ما يخالف الشرع كما حدث مع اتباع الحلاج فهذه عبادة وليست بالتبرك وقد ورد في الحديث الشريف ما يفيد التبرك بالأرض وريق المؤمن في قوله r "تربت أرضنا بريق بعضنا يشفى سقمنا" حديث لرسول الله r وفى الأثر "سؤر المؤمن شفاء".

وأما التمسك بما وقع من عمر t من قطع الشجرة فلا يدل على الإطلاق لأنه واقعة حال – أي حالة معينة- وعلى هذا إذا كان التبرك في حدود الشرع فلا مانع يمنع منه ولا دليل من الشرع على خصوصيته للرسول r ولم يرو عن الرسول r ما يمنع من مثل هذا التبرك وقد صح عن الربيع بن سلمان أن الإمام الشافعى t كان يتبرك بغسالة ثوب الإمام أحمد t كما ذكره صاحب الطبقات الكبرى في قصة طويلة.


الحكم على الظواهر:

وهذا التبرك نفعله على أساس ما نراه من ظاهر سلوك الصالحين لأن التعامل في نظر الشارع إنما يقوم على أساس ما نراه من الظواهر ولسنا مطالبين بالكشف عن السرائر أو التنقيب عما في القلوب فظهور الصلاح كاف في استحقاق صاحبه ما يترتب عليه من المحبة والرعاية والتوقير والمؤمن كيِس فطن (وَمَا شَهِدْنَا إِلاَّ بِمَا عَلِمْنَا وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حَافِظِينَ) ولما رواه البخارى ومسلم من قوله r "إنى لم أومر أن أنقب عن قلوب الناس ولا أشق عن بطونهم" ولما رواه البخارى عن عمر قال : إن أناساً كانوا يؤخذون بالوحى في عهد رسول الله r "وإن الوحى قد انقطع وإنما نأخذكم بما ظهر من أعمالكم" فليس لنا أن نحكم بعد انقطاع الوحى إلا بما ظهر لنا من أعمال صالحة تدل على الإيمان والتقوى فيصبح ذلك في عداد الصالحين وهذا بحكمنا البشرى ولا شأن لنا بحكم الله فيه.

فمن هو الولى؟ الأولياء هم أهل الإيمان والتقوى (الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا) في دنياهم وهم الذين تبشرهم الملائكة عند موتهم (أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ، نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ) فهم لا يخافون ولا هم يحزنون (أَلا إِنَّ أَوْلِيَاء اللّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ) من هم ؟ (الَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَياةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ) .

يقول أبو هريرة: قال r "من عادى لى ولياً فقد آذنته بالحرب"، "وما تقرب إلىّ عبدى بشيء أحب إلى مما افترضته عليه وما زال عبدى يتقرب إلى بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجلاه التي يمشى بها، وإن سألنى لأعطينه وإن استعاذنى لأعيذنه وما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن نفس عبدى المؤمن يكره الموت وأكره إساءته" هؤلاء أولياء الله الذين يحافظون على الفرائض في أوقاتها والذين لا يقصرون في السنن الراتبة ثم يكثرون من النوافل صوماً وقياماً وإنفاقاً وعطاءاً من أموالهم هؤلاء هم أولياء الله الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون فكل من آمن واتقى فهو ولي.

معنى الولاية : هي كلمة تجمع بين الخير والشر معاً (اللّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُواْ يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّوُرِ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ أَوْلِيَآؤُهُمُ الطَّاغُوتُ) ولقد استعملها رسول الله r في الغالب الأعم في جانب أولياء الله كما في الحديث "من آذى لى ولياً " وقد فهمها الصحابة بهذا المعنى وهى في اللغة تعنى المحبة أو القرب أو الحماية والنصرة فالولى هو النصير.

ولقد خصصتها الصوفية والشيعة لأشخاص معينين إما من آل البيت وإما من شيعة آل البيت وإما من المتصوفة وأصبحت في الغالب والأعم عند الناس تطلق على رجل من المتصوفة أو الشريف المنتسب إلى آل البيت الذي يدعى ذلك ربما ليتكسب من وراء هذا الادعاء .

إلا أن البعض أوقفهما على الصحابة بنص القرآن لأنه وصف لمن نال محبة الله وهى غاية يسعى إليها كل مؤمن ولكن ولا ندرى من وصل إليها إلى أن يأتى اليوم التي تجادل فيه كل نفس عن نفسها وتوفى كل نفس ما عملت وهم لا يظلمون ويدلنا عليها حديث رسول الله r الذي رواه عمر بن الخطاب t قال : قال رسول الله r "إن من عباد الله لأناساً ما هم بأنبياء ولا شهداء يغبطهم الأنبياء والشهداء يوم القيامة بمكانهم من الله قالوا : يا رسول الله أخبرنا من هم وما أعمالهم فإنا نحبهم لذلك؟ قال : هم قوم تحابوا في الله بروح الله على غير أرحام بينهم ولا أموال يتعاطونها فو الله إن وجوههم لنور وإنهم لعلى نور لا يخافون إذا خاف الناس ولا يحزنون إذا حزن الناس وقرأ هذه الآية (أَلا إِنَّ أَوْلِيَاء اللّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ) والذي نريد أن نؤكد عليه أن للولاية شروطًا كي تتحقق في العبد الصالح.

شروط الولاية :

1-التمسك بكتاب الله والسنة .

2-الاقتداء بأقوال رسول الله r وأفعاله .

3-أن تزن الأفعال والأقوال بميزان الكتاب والسنة.

أما العلم اللدنى، الوصاية من الشيخ عند الشيعة، والعصمة والفناء وخوارق الأمور كل هذه ليست من الولاية في شيء، وصدق من قال:" إذا رأيت الرجل يمشى على الماء ويطير في الهواء ويترك ما أمر الله ورسوله فاعلم أنه ساحر أو شيطان" .

فبعض المشعوذين يترك الفرائض ويقول " وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ "ولقد آتانىاليقين فسقطت عنى الفرائض بينما اليقين هنا هو الموت يقول ربنا (وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ) أي الموت واسمع إلى أبى هريرة t يقول قال رسول الله r قال الله تعالى "من عادى لى ولياً فقد آذنته بالحرب وما تقرب إلى عبدى بشيء أحب إلى مما افترضته عليه وما يزال عبدى يتقرب إلى بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ولئن سألنى لأعطينه ولئن استعاذنى لأعيذنه وما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددى عن نفس عبدى المؤمن يكره الموت وأكره إساءته "

هؤلاء هم الأولياء الذين يحافظون على النوافل حفاظهم على الفرائض ويتقربون إلى الله بالطاعات فيرزقون الفراسة والإلهام فلقد قال رسول الله "لقد كان فيما قبلكم محدثون فإن يكن في أمتى فهو عمر" والمحدث هو الملهم.

الكرامات: الكرامة الاسم من كَرم والجمع كرامات وهى ما يكرم الرب تبارك وتعالى به عباده من أنواع الإفضالات وهى عامة لبني آدم وتتمثل فيما كرم الله به بنى آدم كلهم (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ) وتتمثل فيما يكرم الله تعالى به بعض عباده من هدايتهم إلى الإيمان وتوفيقهم إلى طاعته فهذه الاستقامة على الإيمان والطاعة من أعظم الكرامات وأهلها من أصحاب اليمين .

والكرامة نفاها المعتزلة وأثبتها أهل السنة وقالوا إن القرآن أثبتها فهؤلاء هم أهل الكهف مكثوا في كهفهم (ثَلَاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا)، وهذه مريم يأتيها رزقها رغداً من كل مكان فتقول (هُوَ مِنْ عِندِ اللّهِ ) وقصة الخضر مع موسى عليه السلام وإن كان يرجح أنه نبى وليس ولياً ويرجح ذلك قوله تعالى (وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي) فهي منّة من الله ومنحة للذين آمنوا وكانوا يتقون.

سقوط الكرامة:

وتسقط المنزلة والكرامة عند الله وعند خلقه بالذنوب والمعاصى لأن المولى يقول (إن أكرمكم عند الله أتقاكم) فعلى قدر طاعة العبد تكون منزلته عنده فإذا عصاه وخالف أمره سقط من عينيه فأسقطه من قلوب العباد فأصبح ساقط القدر وسقوط القدر والجاه جالب كل غم وهم وحزن لأن (الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ ، وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ، ذَلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْبَاطِلَ وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِن رَّبِّهِمْ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثَالَهُمْ) [سورة محمد]

ذلك لأن من أعظم نعم الله على العبد أن يرفع له بين العالمين ذكره ويعلى قدره ولهذا خص أنبياءه ورسله بما ليس لغيرهم فقال تعالى (وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إبْرَاهِيمَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ أُوْلِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ إِنَّا أَخْلَصْنَاهُم بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ) أى خصصناهم بخصيصة وهى الذكر الجميل الذي يذكرونه في هذه الدار وهى لسان الصدق الذي سأل إبراهيم عليه السلام (وَاجْعَل لِّي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ) ولقد قال لنبينا (r) (وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ) فأتباع الرسل لهم نصيب من ذلك بحسب ميراثهم من طاعتهم ومتابعتهم وكل من خالفهم فإنه بعيد من ذلك بحسب مخالفتهم ومعصيتهم.

ولقد قرر الإمام ابن تيمية أن لبعض الناس كرامات وأن بعضهم يجرى الله على يديه خوارق العادات ولكنهم غير معصومين من الخطأ ويقول إن الكرامة ليست أفضل من الاستقامة ولذلك كان بعض الصالحين يطلب من الله تعالى أن يهبه الاستقامة ولا يهبه الكرامة يقول أبو على الجرجانى : كن طالباً للاستقامة لا طالباً للكرامة، فإن نفسك منجبلة على الكرامة وذلك يتطلب منك الاستقامة.

كرامات للصحابة والتابعين : وكم للصحابة والتابعين من كرامات

* فهذا عمر على منبره ينادى سارية يقول : "يا سارية الجبل" والقصة معروفة لدرجة أن سارية سمع صوت عمر رضي الله عن الجميع.

* وهذا أسيد بن حضير روى البخارى عن أنس قال: كان أسيد بن حضير وعباد بن بشر عند رسول الله r في ليلة ظلماء فتحدثا عنده حتى إذا خرجا أضاءت لهما عصا أحدهما فمشيا في ضوءها فلما تفرق بهما الطريق أضاءت لكل منهما عصاه فمشيا في ضوئها.

* وهو نفسه -أُسيد بن حضير - الذي كان يقرأ سورة الكهف فنزلت عليه السكينة من السماء مثل الظلة فيها أمثال السَرَج وهى الملائكة فأخبر بذلك النبى r فقال:"لو استمر على تلاوته لاستمرت تلك السكينة واقفة عليه باقية عنده".

* وكانت الملائكة تسلم على عمران بن حصين، وكان أبو الدرداء يأكل من صحفة فسبحت وسبح ما فيها وكان الصديق رضى الله عنه يأكل هو وأضيافه من القصعة فلا يأكلون لقمة إلا ربا من أسفلها أكثر منها فشبعوا وهى أكثر مما كان فيها قبل أن يأكلوا.

* وأما خُبيب بن عدى رضى الله عنه لما أسره المشركون كان يؤتى إليه بقطف من العنب في غير وقته فيأكل منه.

* أما سُفَيّنة فكان في سفينة فكسرت فنزل الشاطئ على خشبة فأخذته الريح إلى غابة فوجد أسداً أمامه فخاطبه قائلاً له: أُقسم عليك أنا مولى رسول الله r فلا تقترب منى، فماذا حدث؟ فمشى معه الأسد حتى أوصله إلى مقصده ولم يصبه بأي أذى.

* وهذه امرأة من الصحابيات عُذبت حتى ذهب بصرها فقال المشركون ما أصابها هذا العمى إلا من اللات والعزى فقالت كلا والله كذبتم فعاد بصرها إليها.

 وأما التابعون فكان لبعضهم كرامات مشهودة منهم أبو مسلم الخراسانى أُلقى في النار فوجد قائماً يصلى فقال عمر بن الخطاب الحمد لله الذي لم يُمتنى حتى أرى في أمة محمد r من فُعل به كما فُعل بإبراهيم u، .

وهذا عامر بن قيس وضع رجله على رقبة الأسد فاستسلم له حتى مرت القافلة ولم يصب أحد من القافلة بسوء.

وأما مطرف بن الشِخّير كان إذا دخل بيته سبحت معه آنيته.

والكرامات التي أثبتها التاريخ الصحيح كثيرة واسألوا المجاهدين الأفغان في زماننا هذا في جهادهم الإسلامى مع الملاحدة وما رآه المجاهدون من كرامات سجلت في كتب ببركة الجهاد.

لا يملكون نفعاً ولا ضراً:

ومع هذا كله فنحن لسنا مطالبين بأن نصدق بهذه الكرامات لفرد بعينه ولا يخدش إيماننا إن سمعنا عن كرامة لفلان فلم نصدقها أو نؤمن بها فنحن نؤمن بالكرامات وإن كنا غير مطالبين بالإيمان بإسنادها لفرد بعينه.

فكم من مشعوذ دجال يستطيع أن يسحرنا بلعبه ودجله فهذا أحدهم كان يركب مركباً فسرقت لؤلؤة واتهم فيها فقال : يا حيتان البحر أقسمت عليكم أن يأتى الحوت باللؤلؤة فهذا دجل وشعوذة!!

ويحكى الإمام الغزالى عن أحدهم وكان لا يُعرف عليه صلاح ولا عبادة وكان لديه ضيف فتعرض له أسد فقال له لا تتعرض لضيفاى فهز الأسد رأسه فقال الرجل الدجال اشتغلتم بتقويم الظاهر فخفتم الأسد ولكننا انشغلنا بتقويم الباطن فخافنا الأسد.

مثل هذا  الدجل تسمعه ممن يقولون أن للدنيا أقطاباً أربعة السيد البدوى والسيد الرفاعى والسيد الجيلانى والسيد الدسوقى كل واحد منهم له ربع الدنيا ولا يعتدى على ربع صاحبه.فهل مثل هذا الرجل يصدقه عاقل؟

أما الكرامة فتثبت بشرائطها الشرعية كما ذكرنا.

والجدير بالذكر أنه ليس معنى الكرامة أن نعتقد أنهم يملكون الضر والنفع ذلك لأنهم لا يملكون لأنفسهم – فضلاً لغيرهم – لا نفعاً ولا ضراً ولا موتاً ولا حياة ولا نشوراً ولا يعلمون غيباً فأفضل الخلائق عند الله عز وجل يقول له ربه (قُل لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلاَ ضَرًّا إِلاَّ مَا شَاء اللّهُ وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاَسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ)

وهكذا تبنى العلاقات بين الأفراد على الفهم الدقيق والإيمان العميق والحب الوثيق فتجتمع القلوب وتتوحد الصفوف ويدعو المسلم لأخيه الصالح بظهر الغيب في كل ليلة وعند الغروب فيردد قول الله تعالى (قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَاء وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَاء وَتُعِزُّ مَن تَشَاء وَتُذِلُّ مَن تَشَاء بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، تُولِجُ اللَّيْلَ فِي الْنَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الَمَيَّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَن تَشَاء بِغَيْرِ حِسَابٍ) اللهم إن هذا إقبال ليلك وإدبار نهارك وأصوات دعاتك فاغفر لنا ، ثم يدعو بمثل هذا الدعاء لإخوانه الصالحين "اللهم إنك تعلم أن هذه القلوب قد اجتمعت على محبتك والتقت على طاعتك وتوحدت على دعوتك وتعاهدت على نصرة شريعتك فوثق اللهم رابطتها وأدم ودها واهدها سبلها واملأها بنورك الذي لا يخبو واشرح صدورها بفيض الإيمان بك وجميل التوكل عليك وأحيها بمعرفتك وأمتها على الشهادة في سبيلك إنك نعم المولى ونعم النصير .

 


الأصل الرابع عشر

زيارة القبور آدابها وحكمها وكيفيتها

"وزيارة القبور أياً كانت سنة مشروعة بالكيفية المأثورة ولكن الاستعانة بالمقبورين أياً كانوا ونداءهم لذلك وطلب قضاء الحاجات منهم عن قرب أو بعد والنذر لهم وتشييد القبور وسترها وإضاءتها والتمسح بها والحلف بغير الله وما يلحق بذلك من المبتدعات كبائر تجب محاربتها ولا نتأول لهذه الأعمال سداً للذريعة".

هذا الأصل له صلة وثيقة بالأصل الذي سبق لأن المغالاة في حب الصالحين إلى حد الانحراف عن الشرع هذا أمر غير مقبول بل منهي عنه، والوقوف على قبر الصالحين وسؤالهم النفع أو دفع الضر لون من ألوان الشرك الذي نستعيذ بالله منه لا يجب أبداً على المسلم أن يقع فيه بل لابد من التحرز منه لأنهم لا يملكون لأنفسهم ضراً ولا نفعاً ففي حديث رسول الله r "وإذا مات العبد انقطع عمله إلا من ثلاث " فهو العمل الصالح الذي يلقى به العبد المؤمن ربه (يَوْمَ يَنظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ)

ولذلك فإن هذا الأصل يعالج :

1-المغالاة في حب الصالحين.

2-زيارة القبور السنة المشروعة .

3-الكيفية المأثورة للزيارة.

4-عدم الاستعانة بالمقبورين .

5-الحلف بغير الله.

زيارة القبور :

قبل أن نتكلم عن المقابر التي هي إما روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النار أعاذنا الله منها فإننا نعرّج على الموت الذي أمرنا رسول الله r أن نكثر من ذكره فالموت سنة ماضية وكل نفس ذائقة الموت وعش ما شئت فإنك ميت وأحبب من شئت فإنك مفارقه واعمل ما شئت فإنك مجزى به فالموت حق لا ينكره جاحد فلقد أنكر الكفار البعث ولم يستطيعوا أن ينكروا الموت لأنهم يرونه رأى العين فهو حقيقة واقعة لا شك في ذلك وكل إنسان له أجل معلوم كما قال ربنا (إِذَا جَاء أَجَلُهُمْ فَلاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ) وهذه الحقيقة من عقيدتنا -نحن المسلمين فإذا مات العبد قامت قيامته وانتهى أمره وأصبح في القبر إما روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النار (فَلِأَنفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ)، ولذلك فإن من المستحب لكل مسلم أن يكثر من ذكر الموت ليرق قلبه ويخشى ربه، روى عن عبد الله بن مسعود رضى الله عنه أن رسول الله r قال لأصحابه "استحيوا من الله حق الحياء" قالوا إنا نستحى يا نبى الله والحمد لله قال:"ليس كذلك ولكن من استحى من الله حق الحياء فليحفظ الرأس وما وعى وليحفظ البطن وما حوى وليذكر الموت والبلى ومن أراد الآخرة ترك زينة الدنيا ومن فعل ذلك فقد استحيا من الله حق الحياء"

ولقد روى البراء بن عازب رضى الله عنهما أن النبى r أرسل جماعة يحفرون قبراً فبكى حتى بل الثرى بدموعه وقال "إخوانى لمثل هذا فأعدوا"

وعن أبى هريرة رضى  الله عنه أن رسول الله r قال "أكثروا من ذكر هازم اللذات الموت" ويقول عبد الله بن عمر: "إذا أمسيت فلا تنتظر الصباح وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء وخذ من صحتك لمرضك ومن حياتك لموتك" ولقد أكد القرآن أن هذه الحقيقة وأنها تسري على جميع الخلائق بما فيهم أنبياء الله ورسله فقال (إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم مَّيِّتُونَ) فهي سنة الله التي تجرى على جميع الأحياء (كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ ، وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ)  ويوم موت رسول الله r قال عمر بن الخطاب t : من قال إن محمداً قد مات قطعت رقبته بسيفي هذا ، فأمسك به أبو بكر t وجذبه إليه وقال : من كان يعبد محمداً فإن محمداً قد مات ومن كان يعبد الله  فإن الله حي لا يموت ثم قرأ (وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىَ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللّهُ الشَّاكِرِينَ) قال عمر : كأني أسمعها لأول مرة.

فالناس جميعاً غنيهم وفقيرهم سيدهم ومولاهم حاكمهم ومحكومهم أنبياؤهم ورسلهم أتقياؤهم وأشقياؤهم لا نفرق بين أحد منهم يذوقون الموت ولكن كثير من الناس كأن الموت على غيرهم قد كتب وكأن الذين يشيعون إلى الأجداث سُفر عما قليل إليهم راجعون يبوؤنهم أجداثهم ويأكلون من تراثهم وكأنهم مخلدون بعدهم.

والحقيقة التي يجب أن يتنبه إليها المربون أن دعوة الرسول r للمؤمنين بأن يكثروا من ذكر الموت منهج تربوى عظيم فحين يقول r "أكثروا ذكر هازم اللذات" أكثروا منه لأن الإنسان إذا أكثر من ذكر الموت فسوف يستقيم سلوكه فيحذر ضمة القبر، يخاف من نزوله وحده لأنه إذا مات العبد صحبه ثلاث ماله، وأهله، وعمله فإذا تم دفنه رجع المال والولد وبقى العمل ولما كان الموت يأتي بغتة كان توجيه رسول الله r بالإكثار من ذكر الموت دافعاً لمواصلة العمل (وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ) وتأمل قوله (فَلاَ تَمُوتُنَّ إَلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ)، من أجل ذلك يقول ابن عمر "إذا أمسيت فلا تنتظر الصباح وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء وخذ من صحتك لمرضك ومن حياتك لموتك" فالناس جميعاً مساقون إلى ربهم موتا (إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم مَّيِّتُونَ).

من أجل ذلك سن رسول الله r لنا زيارة المقابر للعظة والاعتبار وترقيق القلوب والتذكير بالقبر وما بعده (يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ ، إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ) .

حكم زيارتها:

ينبغى أن يعلم أن زيارة المقابر كانت في أول الإسلام محرمة على الرجال والنساء وحين استقرت العقيدة في القلوب وعرفت أحكامه وأهدافه أبيحت الزيارة وجاءت فيها جملة من الأحاديث الصحيحة تضمنت مشروعيتها وكيفيتها فعن على t أنه r قال :"إنى كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها فإنها تزهد في الدنيا وتذكر بالآخرة " ومنها أن عائشة أقبلت ذات يوم من المقابر فقال عبد الله بن أبى مليكة من أين أقبلت يا أم المؤمنين؟ قالت من قبر أخى عبد الرحمن، فقال لها أليس كان نهى رسول الله r عن زيارة القبور؟ قالت: نعم كان نهى عن زيارة القبور ثم أمر بزيارتها..

والذى يدل على أن زيارة النساء للقبور ليست بحرام حديث أنس رضى الله عنه أن النبى r مر بامرأة عند قبر تبكى على صبى فقال لها :"اتق الله واصبرى" فقالت ما تبالى بمصيبتى، -وكأنها لم تعرفه- فلما ذهب قيل لها إنه رسول الله r فأتت إليه وقالت لم أعرفك يا رسول الله فقال لها :"إنما الصبر عند الصدمة الأولى".

وموضع الدلالة أنه r وعظها بالصبر ولم ينكر زيارة القبر وعن عائشة رضى الله عنها قالت: كيف أقول يا رسول الله ؟ يعنى إذا زرت المقابر - قال قولى "السلام على أهل الديار من المؤمنين والمسلمين يرحم الله المستقدمين منا والمستأخرين وإنا إن شاء الله بكم للاحقون" .

إلا أن الحافظ المنذرى يقول قد كان الرسول r نهى عن زيارة القبور نهياً عاماً للرجال والنساء ثم أذن للرجال في زيارتها واستمر النهى في حق النساء، فالمسألة كما ترى فيها خلاف فقهى فمن العلماء من حرمها مطلقاً ومنهم من كره الزيارة كراهة تنزيهية ومنهم من فصل بين الشابة وغيرها ومنهم من جوزها أو اعتبرها سنة بإطلاق فقد روى مسلم "زوروا القبور فإنها تذكر بالموت" وبالمناسبة فإن الإمام ابن تيمية منع زيارة قبور الصالحين والأنبياء للتيمن كما منع زيارة قبر الرسول r بقصد التبرك أو التيمن أو التقرب إلى الله فقال لا يجوز وإن كان القصد العظة والاعتبار فهو جائز بل مندوب إليه.

يقول الشيخ أبو زهرة في كتابه "المذاهب الإسلامية" "ولقد خالف ابن تيمية بقوله جمهور المسلمين، تحداهم في عنف بالنسبة لزيارة قبر النبى r ونحن قد نوافق إلى حد ما على قولهم بزيارة قبور الصالحين والنذر لها ، ولكن نخالفه مخالفة تامة في زيارة الروضة الشريفة وذلك لأن الأساس الذي بنى عليه منع زيارة الروضة بقصد التبرك والتيمن هو خشية الوثنية وأنه إذا كان في ذلك تقديس لمحمد r فهو تقديس لنبى الوحدانية، وتقديس نبى الوحدانية إحياء لها إذ هو تقديس للمعانى التي بُعث بها ولأن الروضة بها تذكير بمواقف النبى r في الصبر والجهاد والنضال والعمل على شأن التوحيد .

ولقد قال نافع مولى عبد الله بن عمر: كان ابن عمر يسلم على القبر رأيته مائة مرة أو أكثر يجيئ إلى القبر ورؤى واضعاً يده على مقعد النبى r من المنبر ثم وضعها على وجهه ولقد كان الأئمة الأربعة كلما قدموا إلى المدينة زاروا قبر النبى r، يقول والغريب أن ابن تيمية نفسه يروى أن الأئمة الأعلام كانوا يسلمون على النبى r كلما مروا بقبره الشريف وكانوا يذهبون إليه كلما هموا بسفر أو أقبلوا من سفر" ثم يقرر الشيخ أبو زهرة على ذلك أن التبرك بزيارة قبر النبى r مستحسن لأن فيه التذكرة والاعتبار والاستبصار.

وسنحاول أن نوجز حكم زيارة قبر الرسول r وما قاله العلماء فيها .

أورد الشوكانى في نيل الأوطار نبذة صالحة فيما قاله العلماء في زيارة قبر الرسول وحكمها معززاً كل قول بدليله وما قاله المحققون فيه – فليرجع إليه من أراد زيادة بيان.

قال رحمه الله اختلف أقوال العلماء في زيارة قبر النبى r، إلى :

مذهب الجمهور : أنها مندوبة .

بعض المالكية وبعض الظاهرية : ذهبوا إلى أن الزيارة واجبة .

قال ابن تيمية وبعض الحنابلة :إنها غير مشروعة وروى ذلك عن مالك والقاضى عياض ولقد رد الجمهور على هذا الرأى فليرجع إليه في نيل الأوطار.

وقال الإمام النووى : في شرح المهذب "اعلم أن زيارة قبر رسول الله r من أهم القربات وأنجح المساعى فإذا انصرف الحجاج والمعتمرون من مكة استُحب لهم استحباباً متأكداً أن يتوجهوا إلى المدينة لزيارته r ".

وينوى الزائر مع الزيارة التقرب بزيارة مسجده وشد الرحال إليه والصلاة فيه فإذا توجه فليكثر من الصلاة والتسليم عليه r في طريقه ثم شرح آداب الزيارة وما يفعل من يريدها.

أما الإمام مالك: فقد روى عنه القول بكراهة الزيارة وأجيب بأنه قال بكراهة زيارة قبره r قطعاًً للذريعة. وقيل إنما كره إطلاق لفظ الزيارة لأن الزيارة من شاء فعلها ومن شاء تركها وزيارة قبره r من السنن الواجبة كذلك قال عبد الحق.

يقول الشوكانى واحتج كذلك من قال بمشروعيتها بأنه لم يزل دأب المسلمين القاصدين للحج في جميع الأزمان على تباين الديار واختلاف المذاهب الوصول إلى المدينة المشرفة بقصد زيارته r ويعدون ذلك من أفضل الأعمال ولم يُنقل أن أحداً أنكر ذلك عليهم فكان إجماعاً. هكذا نقله الشوكانى رحمه الله.

القصد من زيارة المقابر: أباح الرسول r لأصحابه وعلمهم زيارة القبور ولقد زارها r وزاروها رجالاً ونساءً ودرج المسلمون الأولون على ذلك للتذكر والتسليم والدعاء.

فالقصد من الزيارة الإحسان إلى الميت بالسلام عليه والدعاء له بالرحمة والمغفرة وسؤال العافية وحينئذ تسن الزيارة ففى الحديث الصحيح عن بريدة رضى الله عنه أنه r كان يعلمهم إذا خرجوا إلى المقابر أن يقولوا : "السلام عليكم يا أهل الديار من المسلمين والمؤمنين وإنا إن شاء الله بكم لاحقون أنتم لنا سلف ونحن لكم تبع نسأل الله لنا ولكم العافية".

ويقصد بالزيارة أيضًا الإحسان إلى نفسه فيتذكر الموت والآخرة والزهد فيها والاتعاظ بحال الميت ويتذكر قول الرسول :"يتبع الميت ثلاث : أهله وماله وعمله فيرجع اثنان ويبقى واحد ، يرجع أهله وماله ويبقى عمله" ولقد كان الربيع بن خيثم إذا وجد غفلة خرج إلى القبور ويبكى ويقول : كنا وكنتم ثم يحيى الليل كله فيصبح كأنه نشر من قبره فيتذكر انقضاء اللذات ويتفكر فيما يصير إليه من ضيق اللحود وصولة الدود ويستشعر ما سيؤول إليه حاله من شدة الحساب وصعوبة الجواب.

والجدير بالذكر أنه يراعى عند زيارة القبور ألا يجلس على المقابر أو يطأها أحد فهذا أمر منهى عنه يقول أبو هريرة قال رسول الله r "لئن يجلس أحدكم على جمرة فتحرق ثيابه فتخلص إلى جلده خير له من أن يجلس على القبر " وكذلك الاستناد إليه فعن عمرو بن حزام قال رآنى النبى r متكئاً على قبر فقال:" لا تؤذى صاحب هذا القبر".

وبالمناسبة فإنه لا يكره المشى في المقابر بالنعلين والخفين ونحوهما كما يقول البعض بالكراهة بل لا كراهة إن مشى بهما وهذا مذهب أكثر العلماء إلا أن الإمام أحمد يكره ذلك فأصبح بذلك خلاف فقهي معتبر شرعاً لا إنكار فيه.

أمور خلافية تتعلق بالجنائز:

1-النعي للميت: وهو أن يبعث منادياً ينادي في الناس إن فلاناً قد مات ليشهدوا جنازته ، روى حذيفة t قال :"سمعت الني r ينهى عن النعي" رواه الترمذي وقال حديث حسن . قال ابن قدامة الحنبلي في المغني : استحب جماعة من أهل العلم ألا يعلم الناس بجنائزهم ، قال : وقال كثير من أهل العلم لا بأس أن يعلم الرجل إخوانه ومعارفه وذوو الفضل من غير نداء، قال إبراهيم النخعي: لا بأس إذا مات الرجل أن يؤذن صديقه وأصحابه وإنما كانوا يكرهون أن يطاف في المجالس: أنعي فلاناً كفعل الجاهلية . وممن رخص في هذا : أبو هريرة وابن عمرو وابن سيرين . وروى عن ابن عمر أنه نعى إليه رافع بن خديج قال: كيف تريدون أن تصنعوا به ؟ قالوا نحبسه حتى نرسل إلى قباء وإلى من بات حول المدينة ليشهدوا جنازته . قال : نعم ما رأيت.

وقال النبي r في الذي دفن ليلاً "ألا أذنتموني؟" وقد صح عن أبي هريرة أن رسول الله r نعى للناس النجاشى في اليوم الذى مات فيه وخرج بهم إلى المصلى فصف بهم وكبر أربع تكبيرات" رواه البخاري ومسلم. ولأن في كثرة المصلين عليه أجراً لهم ونفعاً للميت فإنه يحصل لكل مصل منهم قيراط من الأجر. وقال الإمام النووى في المجموع: والصحيح الذى تقتضيه الأحاديث الصحيحة وغيرها أن الإعلام بموته لمن لم يعلم ليس بمكروه ، بل إن قصد به الإخبار لكثرة المصلين فهو مستحب وإنما يكره ذكر المآثر والمفاخر والتطواف بين الناس بذكره بهذه الأشياء ، وهذا نعي الجاهلية المنهي عنه، فقد صحت الأحاديث بالإعلام فلا يجوز إلغاؤها، وبهذا الجواب أجاب بعض الأئمة فى الفقه والحديث المحققين.

2-وأما الندب: فهو تعداد محاسن الميت وما يلقون بفقده بلفظ النداء، مثل قولهم : وارجلاه واجبلاه وانقطاع ظهراه ، وأشباه ذلك. وأما النياحة وخمش الوجوه وشق الجيوب وضرب الخدود والدعاء والويل والثبور .

قال ابن قدامة في المغني : قال بعض أصحابنا : هو مكروه، ونقل حرب عن أحمد كلاماً فيه احتمال إباحة النوح والندب اختاره الخلال وصاحبه لأن واثلة بن الأسقع وأبا وائل رضي الله عنهما كانا يستمعان النوح ويبكيان وقال أحمد بن حنبل : إذا ذكرت المرأة مثل ما حكى عن فاطمة رضي الله عنها في مثل الدعاء لا يكون مثل النوح ، يعنى لا بأس به روى عن فاطمة رضي الله عنها أنها قالت :"يا أبتاه ، من ربه أدناه، يا أبتاه إلى جبريل أنعاه، يا أبتاه أجاب ربًا دعاه" قال ابن قدامة : وظاهر الأخبار تدل على تحريم النوح، قالت أم عطية :"أخذ علينا رسول الله r عند البيعة أن لا ننوح" متفق عليه، وعن أبي موسى t قال : قال رسول الله r :"ليس منا من ضرب الخدود وشق الجيوب ودعا بدعوى الجاهلية" متفق عليه. وقد صح عن النبي r أنه قال :"إن الميت يعذب في قبره بما يناح عليه" انتهى.

3-وأما تلقين الميت عند دفنه : قال ابن تيمية في الفتاوى (مجلد 24 صفحة 296 وما بعدها) تلقين الميت في قبره بعد الفراغ من دفنه نُقل عن طائفة من الصحابة أنهم أمروا به كأبي أمامة الباهلي وغيره، وروى فيه حديثاً عن النبي r مما لا يحكم بصحته، ولم يكن كثيراً من الصحابة يفعل ذلك، فلهذا قال الإمام أحمد وغيره من العلماء : إن هذا التلقين لا بأس به ، فرخصوا فيه ولم يأمروا به واستحبه طائفة من أصحاب الشافعي وأحمد وكرهه طائفة من العلماء من أصحاب مالك وغيرهم.

وقد ثبت أن المقبور يسأل ويمتحن وأنه يؤمر بالدعاء له، فلهذا قيل أن التلقين ينفعه فإن الميت يسمع النداء كما ثبت في الصحيح عن النبي r أنه قال:" إنه ليسمع قرع نعالهم" وأنه أمرنا بالسلام على الموتى فقال :"ما من رجل يمر بقبر الرجل الذي يعرفه في الدنيا فيسلم عليه إلا رد الله روحه حتى يرد عليه السلام" انتهى.

وقال ابن قيم الجوزية الحنبلي في كتابه الروح (صفحة 14) ويدل على أن الميت يعلم من حال الأحياء وزيارتهم له وسلامهم عليه ما جرى عليه عمل الناس قديماً وإلى الآن : من تلقين الميت في قبره ، وقد سئل الإمام أحمد رحمه الله تعالى فاستحسنه واحتج عليه بالعمل . ويروى فيه حديث ضعيف ذكره الطبراني في معجمه من حديث أبى أمامة قال: قال رسول الله r :"إذا مات أحدكم فسويتم عليه التراب فليقم أحدكم على رأس قبره ثم يقول : يا فلان بن فلانة، فإنه يسمع ولا يجيب ، ثم ليقل : يا فلان بن فلانة الثانية فإنه يستوي قاعداً ثم ليقل : يا فلان بن فلانة، يقول أرشدنا رحمك الله ولكنكم لا تسمعون، فيقول اذكر ما خرجت عليه من الدنيا شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله وأنك رضيت بالله رباً وبالإسلام ديناً وبمحمد نبيًا وبالقرآن إماماً ، فإن منكراً ونكيراً يتأخر كل واحد منهما ويقول: انطلق بنا، ما يقعدنا عند هذا وقد لقن حجته؟ ويكون لله ورسوله حجيجه دونهما" فقال رجل: يا رسول الله فإن لم يعرف أمه؟ قال: ينسبه إلى أمه حواء: يا فلان ابن حواء" قال ابن القيم : فهذا الحديث وإن لم يثبت فاتصال العمل به في سائر الأمصار والأعصار من غير إنكار: كاف في العمل به.  انتهى ، وأقول وعلى هذا القول فإن ترك التلقين هذا يعتبر بدعة تركية.

4-الوقوف على القبر بعدما يدفن ويدعى للميت: قال ابن قدامة الحنبلي في المغني 2/505 : سئل عن ذلك أحمد فقال : لا بأس به، قد وقف علىّ والأحنف وروى أبو داود عن عثمان قال :"كان النبي r إذا دفن الرجل وقف عليه وقال : استغفروا لأخيكم واسألوا له التثبيت فإنه الآن يُسأل" وروى السرِّي قال "لما حضرت عمرو بن العاص الوفاة قال اجلسوا عند قبري قدر ما ينحر جزور ويقسم فإني أستأنس بكم"رواه البخاري ومسلم قال  ابن تيمية في الفتاوى (24/298) القراءة على القبر كرهها أبو حنيفة، ومالك وأحمد في إحدى الروايتين ولم يكن يكرهها في الأخرى، وإنما رخص فيها لأنه بلغه أن ابن عمر أوصى أن يقرأ عند قبره بفواتح البقرة وخواتيمها. وروى عن بعض الصحابة قراءة سورة البقرة فالقراءة عند الدفن مأثورة في الجملة ، وأما بعد الدفن فلم ينقل فيه أثر، وأما المستحب الذي أمر به وحضَّ عليه النبي r فهو الدعاء للميت.

5-العزاء والتعزية: وهما الصبر على ما به من مكروه وعزاه أى صبره وحثه على الصبر، وأصلها التصبير لمن أصيب بمن يعز عليه. عن ابن مسعود t قال : قال رسول الله r :"من عزى مصاباً فله مثل أجره" رواه الترمذي وعن أبي برزة t قال : قال رسول الله r :"من عزى ثكلى كُسي برداً في الجنة" رواه الترمذي. وعن عبد الله ابن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم عن أبيه عن جده t عن النبي r أنه قال :" ما من مؤمن يعزي أخاه بمصيبة إلا كساه الله من حلل الكرامة يوم القيامة " رواه ابن ماجة. قال ابن قدامة في المغني : والمقصود بالتعزية تسلية أهل المصيبة وقضاء حقوقهم والتقرب إليهم، والحاجة إليها بعد الدفن كالحاجة إليها قبله، ويستحب تعزية أهل المصيبة كبارهم وصغارهم ويُخص خيارهم والمنظور إليه من بينهم. قال : ولا نعلم في التعزية شيئًا محدوداً إلا أنه يروى أن النبي r عزى رجلاً فقال "رحمك الله وآجرك" رواه أحمد. وعزى أحمد أبا طالب فوقف على باب المسجد فقال: أعظم الله أجرك وأحسن عزاءك. وأن الرد من المعزى فيقول : استجاب الله دعاك ورحمنا وإياك. قال ابن قدامة أيضًا : وتوقف أحمد بن حنبل عن تعزية أهل الذمة وهي تخرج على عيادتهم وفيها روايتان : إحداهما لا نعودهم فكذلك لا نعزيهم، لقول النبي r "لا تبدؤهم بالسلام" وهذا في معناه والرواية الثانية : نعودهم لأن النبي r :"أتى غلاماً من اليهود كان مرض يعوده فقعد عند رأسه فقال له أسلم ، فنظر إلى أبيه وهو عند رأسه فقال له : أطع أبا القاسم، فأسلم فقام النبي r وهو يقول: الحمد لله الذي أنقذه بي من النار" رواه البخاري، فعلى هذا نعزيهم، وقال ابن بطة يقول : أعطاك الله على مصيبتك أفضل ما أعطى أحد من أهل دينك، وقال النووي في المجموع: يعزى الكافر فيقول : أخلف الله عليك. قال النووي وتجوز التعزية قبل الدفن وبعده، ولكن بعد الدفن أحسن وأفضل لأن أهله قبل الدفن مشغولون بتجهيزه، ولأن وحشتهم بعد دفنه لفراقه أكثر، فكان ذلك الوقت أولى.

ويكره الجلوس للتعزية فإن ذلك يجدد الحزن ويكلف المؤنة، ولكن ثبت في البخارى ومسلم عن عائشة رضى الله عنها قالت: "لما جاء النبي r قتل زيد بن حارثة وجعفر وابن رواحة رضى الله عنهم جلس يعرف الحزن وأنا أنظر من شق الباب" أقول : وذلك جاء فى فقه المالكية (المجلد الأول من بلغة السالك للصاوي وشرحه للدردير) : يجوز أن يجلس الرجل للتعزية ما فعل النبي r حين جاء خبر جعفر وزيد بن حارثة وعبد الله بن رواحة ومن قتل معهم يوم مؤتة، والأولى عند رجوع الولى إلى بيته من الدفن. انتهى

6-قال في المغنى : يستحب إصلاح طعام لأهل الميت يبعث به إليهم إعانة لهم وجبراً لقلوبهم، فإنهم ربما اشتغلوا بمصيبتهم وبمن يأتي إليهم عن إصلاح طعام لأنفسهم.وروى أبو داود عن عبد الله بن جعفر قال " لما جاء نعي جعفر قال رسول الله r : اصنعوا لآل جعفر طعاماً فإنه قد أتاهم أمر شغلهم" قال وهل يجتمعون عند أهل الميت ويجعلون طعاماً ؟ قال إذا دعت الحاجة إلى ذلك جاز، فإنه ربما جاءهم من يحضر ميتهم من القرى والأماكن البعيدة ويبيت عندهم ولا يمكنهم إلا أن يضيفوه.انتهى . وأقول وهذا ما عليه الناس في القرى الآن من صنع الطعام وتقديمه لمن حضر للعزاء. وقال الشافعي في المختصر: وأحب لقرابة الميت وجيرانه أن يعملوا لأهل الميت في يومهم وليلتهم طعاماً فإنه سنة.

7-إقامة السرادقات: لأخذ العزاء من العادات وليست من العبادات، والحكم عليها من قِبَل المصالح أي النفع والضرر ، والحسن والقبيح ، فإن احتيج إليها للإيواء من الشمس والبرد وللجلوس لعدم وجود مكان يتسع لمن يجئ للعزاء، فهى من المصالح المرسلة يفعلها الناس عادة ولا يتقربون بها إلى الله يفعلها البر والفاجر، والمسلم وغير المسلم وقد ثبت في البخارى ومسلم أن النبي r جلس لأخذ العزاء في قتلى مؤتة. قال الإمام ابن القيم في إعلام الموقعين : فصل في  تغير الفتوى واختلافها بحسب تغير الأزمنة والأمكنة والأحوال والنيات والعوائد قال: هذا فصل عظيم النفع جداً وقع بسبب الجهل به غلط عظيم على الشريعة ، أوجب من الحرج والمشقة وتكليف مالا سبيل إليه ما يعلم أن الشريعة الباهرة التي في أعلى رتب المصالح لا تأتي به، فإن الشريعة مبناها على الحكم ومصالح العباد في المعاش والمعاد وهى كلها عدل ورحمة ومصالح وحكمة ، فكل مسألة خرجت عن الرحمة إلى ضدها وعن المصلحة إلى المفسدة ، وعن الحكمة إلى العبث فليست من الشريعة وإن دخلت فيها بالتأويل .انتهى.

ويقول الإمام الشاطبي في الموافقات: إن مثل هذا النوع ينظر فيه على ضوء الشريعة ويجري الحكم فيه على ما تقرر في كلياتها ، ومن أمثلة ذلك ما أحدثه السلف الصالح من تدوين العلم وتضمين الصناع وما أشبه ذلك مما لم يجر له ذكراً في زمن الرسول r ولم تكن من نوازل زمانه ولا عرض للعمل بها موجب يقتضيها وأن القصد الشرعي في مثل هذه الأمور معروف من الجهات التى ثبت لها الحكم بالنص، وعلى ذلك فمثل هذا القسم يشرع له أمر زائد يلائم تصرفات الشرع في مثله وهو المصالح المرسلة. انتهى.

المغالاة في قبور الصالحين: من المغالاة اتخاذ الناس المقابر والأضرحة موسماً من مواسمهم وعيداً من أعيادهم  يشدون إليها الرحال كما تُشد لزيارة بيت الله الحرام ويبيتون عندها الليال ذوات العدد وهناك تصنع ألوان الأطعمة وتذبح الذبائح وتنصب ملاعب الصبية وتقام أسواق الباعة وفي زماننا هذا سكنوا القبور وأقاموا فيها الأفراح والليالي الملاح يأكلون ويشربون ويشاهدون التلفاز فقست القلوب ودست النفوس، وأما بعض الصوفية فأحيوا أعياد المقابر الأسبوعية ويسمونها الحضرة فمثلاً ليلة الثلاثاء ويومه للإمام الحسين ، وليلة السبت ويومه للإمام الشافعى وهكذا وبالرغم من أنه ورد النهى عن ذلك فعن أبى هريرة رضى الله عنه قال قال رسول الله "لا تجعلوا بيوتكم مقابر ولا تجعلوا قبرى عيداً وصلوا علىّ أينما كنتم فإن صلاتكم تبلغنى حيث كنتم".

والغريب أنك ترى في هذه الأعياد والاجتماعات مفاسد لايرضاها الله ورسوله فترى النساء يتبرجن تبرج الجاهلية الأولى ويختلطن بالرجال وترى الهزل والعبث والغناء والمداعبة وكثرة الضحك بل والقمار والميسر بأنواعه وكل الموبقات في موضع الخشية والاعتبار ويذهب الحياء ويتأذى بذلك الأموات أنفسهم في قبورهم.

ومن المفاسد أيضًا المبيت في المقابر وإيقاد السرج والشمع ونحوه على القبور فعن ابن عباس رضى الله عنهما إنه r لعن زائرات القبور والمتخذين عليها المساجد والسرج.

ومن المفاسد أيضًا تقبيل واستلام قبور الأولياء والأنبياء والعلماء والطواف حول الأضرحة فإنه لم يعهد عبادة إلا بالبيت وكذا لم يشرع التقبيل والاستلام إلا للحجر الأسود فكيف بمن يرفعون أكف الضراعة للضريح ويناجون صاحبه ويقبلون جوانبه ويتمسحون بحديده أو خشبه ويشرحون له القضايا والمهام وتقدم له العرائض وطلب الفصل فيها فهل هذا عمل مشروع يرضاه الله والرسول؟ لا والله إن أصحاب الأضرحة أنفسهم يغضبون لذلك إن كانوا من أولياء الله حقاً ولو بعثوا لنهوا عنه وأنكروا ذلك بكل وسائل الإنكار.

وأضف إلى ذلك وضع الستور على القبور وتجصيصها والبناء عليها في حريم القبر أو خارجه فيتناول البناء على نفس القبر أو بناء تحويطه وقبة عليه أو مقصورة فعن جابر رضى الله عنه أن النبى r نهى عن تجصيص القبر وأن يبنى عليه إلا إذا دعت ضرورة للبناء كأن يخشى نبش القبر من نحو آدمى أو سبع قال الإمام الشافعى في "الأم" وأحب أن لا يزاد في القبر تراب من غيره وإنما أحب أن يشخص على وجه الأرض شبراً أو نحوه وأحب أن لا يبنى ولا يجصص فإن ذلك يشبه الزينة والخيلاء وليس الموت موضع واحد منهما ولم أر قبور المهاجرين والأنصار مجصصة "فأين نحن اليوم من تزيين القبور حتى تستطيع أن تفرق بين الغنى والفقير والخفير والوزير حتى أن بعضهم يكتب على القبر صفة صاحبه في الدنيا فهو الرئيس والباشا واللواء إلى غير ذلك من الألقاب والصفات، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلى العظيم.

النذور للموتى : قال العلماء لا يجوز النذر للقبور لا شمع ولا زيت ولا غير ذلك فإنه نذر معصية لا يجوز الوفاء به بالاتفاق. جاء في الدر المختار وحواشيه من كتب الحنفية ما ملخصه : "اعلم أن النذر الذي يقع  للأموات من أكثر العوام وما يؤخذ من الدراهم والشمع والزيت ونحوها إلى ضرائح الأولياء الكرام تقرباً إليها كأن يقول يا سيدى فلان إن رُد غائبى أو عُوفى مريضى أو قُضيت حاجتى فلك من النقد أو الطعام أو الشمع أو الزيت كذا فهو بالإجماع باطل حرام لوجوه منها:

1-أنه نذر لمخلوق والنذر للمخلوق لا يجوز لأنه عبادة وهى لا تكون إلا لله .

2- أن المنذور له ميت -والميت لا يملك .

3-إن ظن أن الميت يتصرف في الأمور دون الله تعالى فاعتقاده ذلك كفر والعياذ بالله.

 بناء المساجد على القبور : عن عائشة رضى الله عنها أن أم سلمة ذكرت لرسول الله r كنيسة رأتها بأرض الحبشة يقال لها مارية فذكرت ما رأته فيها فقال رسول r :"أولئك قوم إذا مات فيهم العبد الصالح أو الرجل الصالح  بنوا على قبره مسجداً وصوروا فيه تلك الصور أولئك شرار الخلق عند الله" .

يقول ابن القيم : اعلم أن الشيطان أول ما كاد للناس وهم على الهدى ودين الحق عبادة الأصنام والأوثان فتارة أدخلها عليهم من جهة تعظيم الموتى وتصويرهم الصور التي ينصبونها كما قص الله تعالى عنهم في كتابه في قوله (لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا) قال ابن عباس: هذه أسماء رجال صالحين من قوم نوح فلما هلكوا أوحى الشيطان إلى قومهم أن انصبوا على مجالسهم التي كانوا يجلسون عليها أنصاباً وسموها بأسمائهم ففعلوا ولم تعبد حتى هلك هؤلاء القوم ونُسخ العلم فُعبدت من دون الله تعالى فأرسل الله لهم نوحاً لعبادة الله وحده فكذبوه فأهلكهم الله بالطوفان.

وهذا الذي أدى بهم إلى الشرك بالله وأنت ترى في أيامنا هذه من يقف على باب هذه المساجد التي أقيمت على القبور بخشوع وتذلل كأنه يستأذن ثم يدخل وهذا مسلك الشيعة فهم عند زيارتهم للأئمة ينادى أحدهم أدخل يا أمير المؤمنين ؟ ويقولون إن علامة الإذن رقة القلب ودمع العين.

ولذلك قال ابن حجر في الزواجر :"ويجب المبادرة لهدم المساجد والقباب التي على القبور المشرفة وتجب إزالتها وإزالة كل قنديل أو سراج على قبر ولا يصح وقفه ونذره" ولا شك أنه يقصد الإزالة بالطرق الشرعية التي لا يترتب عليها مفسدة وإلا قام بها الإمام ولى أمر المسلمين فيأمر أصحابها بذلك.

الصلاة في المساجد ذات القبور : شرعت الصلاة لتكون رباطاً بين العبد وربه ليستشعر عظمته مستحضراً جلاله فتخشع له جوارحه ويخلص له قلبه ويستعين به في أمره كله (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ)

ولذلك لا يجوز للمسلم أن يكون في نفسه شيء من تعظيم غير الله ولهذا كان من أحكام الإسلام فيما يختص بأماكن العبادة تطهيرها من هذه المشاهد يقول ربنا (وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَن طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ) ويقول (وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَن لَّا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ) ويقول (وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا) .

ولسد ذرائع الفساد قال r "إن من قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد ألا فلا تتخذوا القبور مساجد إنى أنهاكم عن ذلك"، فشدد رسول الله r النهى عن اتخاذ قبور الأنبياء والصالحين مساجد لأن هذا سبب انحراف الأمم السابقة عن إخلاص العبادة لله وحده.

قال العلماء: إنه لما كثر المسلمون وفكر أصحاب رسول الله r في توسيع مسجده وامتدت الزيادة إلى أن أدخلت في بيوت أمهات المؤمنين وفيها حجرة عائشة مدفن الرسول r وصاحبيه أبى بكر وعمر فبنوا على القبر حيطاناً مرتفعة تدور حوله مخافة أن تظهر القبور في المسجد فيصلى إليها الناس ويقعوا في الفتنة والمحظور.

ولذلك وجب إخفاء الأضرحة من المساجد وألا تتخذ لها أبواب ونوافذ فيها خاصة إذا كانت جهة القبلة فيجب أن تفصل عنها فصلاً تاماً بحيث لا تقع أبصار المصلين عليها ولا يتمكنون من استقبالها وهم بين يدى الله ومن باب أولى يجب منع الصلاة في نفس الضريح وقاية لعقائد المسلمين .

ولذلك رأى العلماء أن الصلاة إلى القبر أياً كان محرمة ومنهى عنها واستظهر بعضهم بحكم النهى بطلانها.

وفى  المسألة كلام للعلماء إن كان القبر خلف القبلة – أى خلف المصلين – أو أمامها ومعزول عن مكان الصلاة كل ذلك له أحكامه ليس هنا مجال التفصيل فيها.

وأخيراً فإن بعض العامة يحلفون بسيدى فلان أو الولى فلان ولقد نهى عن ذلك كله فعن عمر رضى الله عنه عن النبى قال :"إن الله تعالى ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم، فمن كان حالفاً فليحلف بالله أو ليصمت"

والسر في النهى عن الحلف بغير الله أن الحلف بالشيء يقتضى تعظيمه والعظمة في الحقيقة إنما هي لله وحده ولذلك يروى لنا ابن عمر رضى الله عنهما أنه سمع رجلاً يقول: لا والكعبة فقال ابن عمر لا تحلف بغير الله فإنى سمعت رسول الله r يقول:" من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك" وفسر ذلك بعض العلماء قوله "كفر أو أشرك" على التغليظ كما روى أن النبى قال الرياء شرك.

كبائر يجب محاربتها: هذه كلها كبائر لا يشك في ذلك مسلم ولكن يجب أن نبين بالتى هي أحسن لنجمع ولا نفرق ونؤلف ولا ننفر فلا نقسو باسم الدين ولا نلقى الناس بالطين ونتطرف في الحكم ونغالى فيه باسم الدعوة إلى الله ويحكم بالشرك وعبادة الأصنام على الزائرين لهذه الأضرحة كيف ونحن نعلم أن هؤلاء الزائرين – كما تنطق به أحوالهم – مؤمنون بعقائد الدين كله وبفرائضه كلها ، ومؤمنون بأن النبى والولى من عباد الله خلقهما كما خلق العباد وأمدهما بأسباب الحياة وأماتهما كما يميت العباد وأنه سيبعثهم وتلك عقيدة الإيمان الحق التي لم يكن يؤمن بها عُباد الأصنام فالواجب علينا ألا نصف أصحاب القبور بالأصنام وقد يكونون من عباد الله الصالحين وما ذنبهم؟

علينا أن نبذل الجهد في تعليم من لا يعلم لا تكفيره ولا الإساءة إلى تلك الأرواح الطاهرة ثم نحى فريضة الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر بقواعدها الشرعية.

 

 

 

 

 


الأصل الخامس عشر

التوسل إلى الله بأحد من خلقه

"والدعاء إذا قرن بالتوسل إلى الله بأحد من خلقه خلاف فرعى في كيفية الدعاء وليس من مسائل العقيدة".

هذا الأصل يعالج:

1-الدعاء مخ العبادة.

2-التوسل والوسيلة المجمع عليها والمختلف فيها.

3-رأي العلماء في الدعاء إذا قرن بالتوسل بأحد من خلقه

نتكلم في هذا الأصل عن الدعاء ثم نتكلم عن التوسل، وإذا تكلمنا عن التوسل لابد أن نعرج على الاستغاثة؛ لكي نفرق بين التوسل والاستغاثة ثم نتكلم عن أنواع التوسل ما هو متفق عليه، وما هو مختلف فيه وهل هو من مسائل الاجتهاد التي فيها الصواب والخطأ أم من مسائل العقائد التي فيها الكفر والإيمان.

وقبل أن نجيب على هذه الأمور حرى بنا أن نؤكد على أمور ربما ذكرناها في بعض الأصول من قبل ولكن في هذا الأصل نحب أن نؤكد عليها مرة أخرى.

الأمر الأول: أن الخلاف في فروع الدين أمر طبيعي ولا يمكن أن يجتمع الناس في الفرعيات على رأى واحد وهذه سنة الله I وهناك فرق بين الأصول الثابتة القطعية التى يجتمع عليها جميع العلماء بل ويجتمع عليها المسلمون وفيها كفر وإيمان والمسائل الفرعية المجتهد فيها والتي يدلي فيها كل إمام برأيه حسب المدارس الفقهية وحسب ما عنده من دليل وإن دل هذا على شيء فإنما يدل على سعة الدين ومرونته، فقد يكون الدليل النقلي واحد ويختلف العلماء في استنباط الحكم فيه بعيد عن الهوى المتبع؛ لأن هذا الخلاف في استنباط الحكم قد يكون راجعًا حسب فهم وإدراك كل منهم وبأدلته فمثلاً آية الوضوء (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَينِ) يقول العلماء استخرج منها الإمام الشافعي مائة مسألة كلها حسب اجتهاده.

الأمر الثاني: بعد أن أكدنا على وحدة الأصول ووحدة العقائد وهذا أمر قطعي لا خلاف فيه فإن وجد الخلاف المعتبر فإن العيب ليس في الخلاف ولكن العيب والإثم في التعصب للخلاف نفسه، والذي يأتي من تبني رأيٍ من الآراء ثم يكون التعصب له وعدم قبول الرأي الآخر أو الاعتراف به باعتباره رأياً فقهياً وطالما أن الأمر فيه سعة فلماذا لا يُقبل الرأى وضده طالما أنه استنباط عالم من العلماء وفقيه من الفقهاء اجتهد فيه هذا العالم أو ذاك.

وما قضية القنوت في الصلاة منا ببعيد، حيث يأخذ أحدهم رأيًّا واحدًا يتعصب له ويرفض بقية الآراء وينكر على الناس الأخذ بغيره، بينما يوجد ما يقرب من سبعة آراء في حكم القنوت في الصلاة كلها صحيحة.

الأمر الثالث: أن الجدل في المسائل الدينية- أي المسائل المختلف فيها- سبب كثيراً من النكبات للمسلمين وتمزيق الصف ولذلك كرَّهه الرسول r كراهة شديدة ونهى عنه نهياً مؤكداً.

عن أبى الدرداء وأبي أمامة ووائلة بن الأسقع وأنس بن مالك قالوا :"خرج علينا رسول الله r ونحن نتمارى في شيء من أمر الدين فغضب غضباً شديداً لم يغضب مثله ثم انتهرنا فقال "مهلاً يا أمة محمد إنما هلك من كان قبلكم بهذا، ذروا المراء لقلة خيره، ذروا المراء فإن المؤمن لا يمارى، ذروا المراء فإن المماري قد تمت خسارته، ذروا المراء فكفى إثماً أن لا تزال ممارياً، ذروا المراء فإن المماري لا أشفع له يوم القيامة، ذروا المراء فأنا زعيم بثلاثة أبيات في الجنة في رياضها ووسطها وأعلاها لمن ترك المراء وهو صادق ذروا المراء فإن أول ما نهاني عنه ربى بعد عبادة الأوثان المراء ".

فلو أن إنسان يماري ويجادل في المسائل الخلافية المطلوب منا أننا لا نجاريه نصمت لأننا سنصل للجدل الذي يوصل الإنسان إلى التعصب الذي نهى عنه الرسول r.

ومن هنا كان عدم الجري وراء مثل هذه الأمور والخوض فيها وهي التي يحرم علينا أن نضيع وقتًا في المراء فيها ولكن نتمسك بالثوابت والأصول وهي أمور واضحة عندنا وضوح الشمس في رابعة النهار لا شبهة فيها لا تهزها الريح يمينًا أو شمالاً عندما يتحدث إلينا إنسان بكلمة من هنا أو كلمة من هناك لا يهتز الفهم عندنا فليس أضر على الإنسان من أمراض ثلاثة: الجهل والتعصب والهوى، وهذه الثلاثة هي منبت الغلو الممجوج سواء كان قصوراً أو تقصيراً ليس عند الفرد فحسب بل بالنسبة للأمة فمن المصيبة أن تفترق الأمة وتتضارب وتفسد الصلات ويتقطع ذات البين بمثل هذه المسائل الخلافية، ولأن نجتمع على خلاف بين العلماء قالوه أيضًا كل يأخذ بر أي منهم أفضل بكثير من أن نفترق على أمور يتصور صاحبها أنها من أصول الاعتقاد التي لا خلاف فيها ويفاصل الناس عليها وهي ليست كذلك.

ولذا فإن علماءنا يقولون : لابد من رد أمور الخلاف إلى الفقهاء والعلماء (وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ)، وبذلك ينتفي الغلو في الدين وهو مجاوزة الحد المشروع في أي أمر من الأمور بأن يزاد فيه أو ينقص عن الحالة التى شرع لها، و لا يدخل في الغلو طلب الكمال في العبادة إذا لم يتجاوز الحد فإنه يعتبر من الأمور المحمودة. ونحن لا نستطيع أبداً أن نجاري من يغلو في دينه لأن الله تعالى يقول: (لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ) وما قصة الثلاثة الذين جاءوا يسألون عن عبادته r فلما شُرحت لهم كأنهم تقالّوها فقال أحدهم أما أنا فأصوم الدهر كله وقال الثاني أما أنا فأقوم الليل كله وقال الثالث أما أنا فلا أتزوج النساء، ولما علم الرسول r أراد أن يعلمهم أنه لا غلو في الدين فقال لهم:"أما أنا فأصوم وأفطر وأقوم وأنام وأتزوج النساء وهذه سنتي، فمن رغب عن سنتي فليس منى".

وهذا غير الاجتهاد في العبادة –كما قلنا- فالإنسان عندما يأخذ نفسه بالعزيمة فإنه لا يأمر الناس بالأخذ بها ولكن يرحمهم ويعذرهم إن ترخصوا وأما هو فيجتهد في عبادته كما شاء "خير الصيام صيام داود كان يصوم يوماً ويفطر يوماً " هذا شأنه إن اقتدى بذلك وليس فيه مغالاة، إنما المغالاة أن يطلب من الناس أن يصوموا مثله وإلا أثموا فهذا عين المغالاة.

ولذلك فمن التطرف عدم الاعتداد بأقوال المخالفين طالما أنهم يستندون في اجتهاداتهم إلى دليل وطالما أنهم أهل للاجتهاد وأهل للفتيا،واسمع إلى مقولتهم فكان الواحد منهم يقول رأيىّ صواب يحتمل الخطأ ورأي غيري خطأ يحتمل الصواب، هذا في المسائل الخلافية ولا يمكن أبداً أن يتصور عقلاً أن الصواب في هذه الأمور هو الذي يقوله هو وأن الخطأ هو الذي يقوله غيره، يقولr :"هلك المتنطعون، هلك المتنطعون، هلك المتنطعون" والتنطع هو التجاوز في الحد والغلو في التعمق في الدين فيجب أن نزن الأعمال بميزان الشرع (أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ، وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلَا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ).

ومن هنا فبعد هذه المقدمة السريعة وهذه النقاط الحاكمة في هذا الموضوع نجد الذين رموا الإمام البنا حين قال "الدعاء إذا قرن بالتوسل إلى الله بأحد من خلقه خلاف فرعى في كيفية الدعاء وليس من مسائل العقيدة". وخطَّئوه فيما قال هم المخطئون، فليس هذا القول قول الإمام البنا وحده بل سبقه كثير من العلماء فإذا جاء من يقول هذا مخالف لإجماع العلماء، نقول له: هذا لون من ألوان الافتراء على العلماء أو جهل بأقوالهم؛ لأن العلماء لم يجمعوا في هذه المسألة مطلقاً بل هي الأمور المختلف فيها : أما اللجوء إلى الله فليس فيه مجال للاختلاف.

اللجوء إلى الله: اللجوء إلى الله أمر فطري في النفس ـ فالفطرة تستصرخ خالقها وبارئها توقن وتشعر بوحدانيته (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتَ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى شَهِدْنَا أَن تَقُولُواْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ)، فلا عجب إذًا أن يقول المسلم: الغوث الغوث، النجاء النجاء حين يحس بأي خطر من الأخطار أو ضرر من الأضرار لا يماري في ذلك أحداً (وَإِذَا مَسَّ الإِنسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَآئِمًا فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَن لَّمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَّسَّهُ كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ) فطرة الله I التي فطر الناس عليها لأنه هو I الذي أشهدهم على أنفسهم (أَلَسْتَ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى شَهِدْنَا) فكان من الطبيعي أن يلجئوا إلى الله I.

ولذلك فإن المسلم دائماً يستشعر ضعفه الإنساني في مواقف الشدة ومن الطبيعي أن يبحث عمن يلجأ إليه ويرفع أكف الضراعة إليه كلما وقف بين يدي الله سبحانه وتعالى ويعترف بالإله القوي وهو يقول (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ) فيستعينه ويستهديه فيحقق بذلك أسمى أنواع العبودية باستشعاره كمال الذل وكمال الحب وهما لا يجتمعا إلا لله رب العالمين فكأن الدعاء بذلك مخ العبادة بحق.

الاستعانة بالله لا تمنع الاستعانة بالمخلوق:

والاستعانة بالله I والدعاء له والابتهال إليه لا تمنع من الاستغاثة بالمخلوق الحي تناديه وتطلب غوثه وتحتمي به فالاستعانة –فيما يقدر عليه البشر- أمر طبيعي لأنه من الأمور التي في استطاعتهم ولا يجوز شرعًا اللجوء إلى الإنسان في الأمور المستحيلة التي يعجز عن الإتيان بها أو التي ليست في مقدورهم، هذه بديهية لا تحتاج إلى دليل أو برهان.

فقد تنشب النار أو يشتعل الحريق في بيت من البيوت فيستغيث صاحبه بالشرطة أو الجيران طلباً للإنقاذ أو يعتدي عليك لص آثم فتستنصر الناس ليخلصوك منه ويحمونك من اعتدائه فهذا أمر معتاد يحدث بين كل الناس لذلك فإن القرآن الكريم بين لنا أن هذا النوع من الاستنصار والاستعانة مألوف بين البشر ولقد حكى لنا القرآن طرفًا منه فتراه مثلاً في قصة موسى u حين استغاثه الذي من شيعته على الذي من عدوه (فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ) وكما قال سبحانه وتعالى (وَإِنِ اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ...).

وأما الأمور التي لا يقدر عليها إلا الخالق القادر I فلا يصح أن يستغاث لها بالبشر ولكن يستغاث بمن بيده ملكوت كل شيء وهو يجير ولا يجار عليه ككشف الضر، وتفريج الهم، والشفاء من السقم، ودفع الفقر، وغفران الذنب، والهداية إلى سواء السبيل، وغير ذلك من الأمور والأحوال التي يداولها المولى بين الناس فلا يلجأ فيها إلا إليه وحده (أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاء الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَّا تَذَكَّرُونَ) فإن استغاث الإنسان بمخلوق في مثل هذه الأمور فقد ضل ضلالاً مبيناً، وافترى إثماً عظيماً، وقال منكراً من القول وزورا، ووقع في المحظور وخالف الشرع الحكيم، واتبع الهوى المشين، وصاحب الشيطان الرجيم.

وفي هذه الحالة يجب علينا أن نوضح له هذا المنزلق إن كان جاهلاً ونحذره من الهاوية حتى لا تتخطفه الطير أو تهوي به الريح في مكان سحيق ذلك لأن مولاه هو القاهر فوق عباده وهو الحكيم الخبير وهو وحده المسئول والمأمول وإليه وحده يرجع الأمر كله (وَلِلّهِ الأَسْمَاء الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا، وَذَرُواْ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَآئِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ) [الأعراف-18] (فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ) [غافر:14] .

الدعاء مخ العبادة: من هنا كان الدعاء مخ العبادة وسمة المؤمنين والأنبياء والصالحين والرسل الكرام المبعوثين رحمة للعالمين ، فهم يلجئون إلى الله في صغير الأمر وكبيره فهذا آدم عليه السلام يقول (رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ) وهذا إبراهيم وإسماعيل وهما يرفعان القواعد من البيت يقولان: (رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) وهذا نوح يقول (أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانتَصِرْ) وهذا أيوب يقول (أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ) وهذا يونس (فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَن لَّا إِلَهَ إِلَّا أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ) وانتهى هذا الموكب الكريم بمحمد r وهو يتضرع إلى ربه "إليك أشكو ضعف قوتي وقلة حيلتي وهواني على الناس يا أرحم الراحمين" وكان حال المؤمنين به ودعاؤهم (إِلاَّ أَن قَالُواْ ربَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ) .

وهنا تظهر لنا قضية التوسل والوسيلة فما هي حقيقتها.

حري بنا أن نبين أولاً الفرق بين الاستغاثة والتوسل:

فما هو الفرق بين التوسل والاستغاثة؟

الاستغاثة: معناها اللغوي هي طلب العون وتفريج الكروب وتستغيث أي تطلب العون وهي يعتريها أحكام، فبعض العلماء جعل فيها الإباحة أو المندوب أو الممنوع.

فالاستغاثة المباحة: هي في طلب الحوائج من الأحياء فيما يقدرون عليه كما حدثنا القرآن في قصة سيدنا موسى u حينما اعتدى على صاحبه رجل من غير شيعته (فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِن شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ) فهذه استغاثة ولذلك أغاثه موسى (فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ) فهي استغاثة بإنسان يقدر على دفع الأذى بأمر يقدر عليه وهذا أمر مباح.

الاستغاثة المندوبة: هي الاستغاثة بالله I فهي أمر مطلوب (إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُم بِأَلْفٍ مِّنَ الْمَلآئِكَةِ مُرْدِفِينَ) (أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ).

الاستغاثة الواجبة: هي الاستغاثة التي يترتب على تركها هلاك إنسان.

أما الاستغاثة الممنوعة: فهي التى تكون في الأمور المعنوية مثل تفريج الكروب وطلب الرزق هذا كله ممنوع ومنهي عنه بإجماع العلماء.

فما معنى التوسل والوسيلة؟ 

معنى التوسل: هي ما يُتقرب به إلى الرب I ، وفرق كبير بين الوسيلة التي نتقرب بها إلى الله I والاستغاثة التي هي طلب العون من الإنسان، فالفرق واضح بين النوعين وإذا اختلف النوع اختلف الحكم، فهذه وسيلة أتقرب بها إلى الله وأما الثانية فهي طلب العون الذي في قدرة الإنسان.

الوسيلة: هي المنزلة عند الملك، والدرجة القربى، ووسل فلان إلى الله وسيلة إذا عمل عملاً تقرب به إليه والواسل الراغب إلى الله وتوسل إليه وسيلة قرب إليه بعمل هكذا جاء في لسان العرب وقوله تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَابْتَغُواْ إِلَيهِ الْوَسِيلَةَ) أي يا أيها الذين صدقوا الله ورسوله فيما أخبرهم ووعدهم من الثواب وأعد للمخالفين من العقاب (اتَّقُواْ اللّهَ) فيما أمركم ونهاكم من الطاعة له في ذلك، وحققوا إيمانكم وتصديقكم ربكم ونبيكم بالصالح من الأعمال (وَابْتَغُواْ إِلَيهِ الْوَسِيلَةَ) أي اطلبوا القربة إليه بما يرضيه[17]، والوسيلة كل ما يتقرب به إلى الله I من فعل الطاعات وترك المنهيات أو بطلب الدعاء من الغير أو الدعاء المُتقرب به إلى الله I بأسمائه وصفاته أو بأحد من خلقه كنبي أو رجل صالح وهذا الخلط يأتي لعدم اطلاع البعض على أقوال العلماء في الفرق بين الاستغاثة والتوسل فخلطوا بينهما ونقلوا الحكم من الصواب والخطأ إلى الكفر والإيمان لخلطهم بين الاستغاثة والوسيلة.

وعن قتادة: تقربوا إليه بطاعته (أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ) أى القربة، وكما قال الإمام النسفي: الوسيلة هي كل ما يتوسل به أي يتقرب من قرابة أو صنيعة أو غير ذلك واستعيرت لما يتوسل به إلى الله من فعل الطاعات وترك السيئات.

ولقد اتفق المعنى اللغوي مع المعنى الشرعي للوسيلة وإن كان الرسول r قد جعل لها معنى آخر هي منزلة الرسول r في الجنة وذلك في الحديث الذي رواه عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله r :"إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول ثم صلوا علىَّ ثم سلوا الله لي الوسيلة فإنها منزلة في الجنة لا تنبغي إلا لعبد من عباد الله، وأرجو أن أكون هو، فمن سأل الله لي الوسيلة حلت عليه شفاعتي".

والوسائل للقربى إلى الله لا تعد ولا تحصى لأن كل طاعة وسيلة ابتداء من إماطة الأذى عن الطريق إلى الجهاد في سبيل الله فهذا ميدان فسيح أبوابه متعددة يلجه المؤمن من أي باب شاء، وهذا هو التوسل إلى الله بأعمال الخير مالاً ووقتاً ونفساً فكل هذه الطاعات وسيلة تقربنا إلى الله.

وهذه القضية: لم تأخذ شكل المشكلة إلا بعد أن تحولت الآراء الاجتهادية إلى تعصبات حزبية تفرق المسلمين وتحول العلماء إلى كسب الأنصار كل يحاول تدعيم آرائه التي يدعو إليها ورد كل ما يعارضها ولو كان الأصوب وأصبح لكل رأيه الذي يتعصب له ولا يرى صواباً في غيره ولا أدَلّ على ذلك من أن فريقاً من العلماء جعلها شركاً أو طريقاً إلى الشرك بالرغم من أنها من القضايا الخلافية التي تنازع فيها العلماء بين صواب وخطأ وليس بين كفر وإيمان ولذا نشبت المعارك العلمية بين من يجيز وبين من يمنع وزادت الفرقة والتعصب والشقاق ونود أن ننبه إلى أن التوسل الذي أشار إليه الإمام البنا في هذا الأصل لا دخل له بما يفعله عوام الناس والجهال من دعاء الموتى والتوجه إليهم بالسؤال وطلب قضاء الحاجات منهم والاستعانة بهم –وهذا ما بينه الإمام البنا في الأصل الرابع عشر – أنها كبائر يجب محاربتها.

أما هذا الأصل –الذي نحن بصدده - فهو يشير إلى من توجه إلى الله وحده بالدعاء سائلاً إياه وحده بجاه فلان أو ذاته الحي لا متوجهاً إلى فلان الميت يطلب منه ويسأله فهذا ليس توسلاً بل هي كبائر -كما قلنا- يجب التصدي لها بالطرق المشروعة وبحكمة الداعي على الله.

ولقد كثر الكلام –في هذا الأصل الذي نحن بصدده- وطال النزاع بين أئمة كرام كالإمام السبكي وشيخ الإسلام ابن تيمية –رحمهما الله – فلقد أتى كل منهما بأدلة أيد فيها رأيه ورد أدلة الآخر، فالأول يجيز والثاني يمنع بشدة ولكل من الشيخين الفقيهين أشياع وأنصار تتلاحى وتتشاتم حتى سارت باباً من أبواب الفتنة والتفريق بين جماعة المسلمين وما أحوجنا اليوم إلى الوفاق والوئام خاصة أن المسألة خلاف فرعي –كما سنوضح بمشيئة الله – وكما ذكر الإمام البنا ومن سبقه من علماء السلف الصالح.

موقف العلماء من القضية:

ما اتفق عليه العلماء: اتفق العلماء دون أدنى خلاف على أن  التوسل المشروع هو:

أولاً-التوسل باسم من أسماء الله تعالى الحسنى أو بصفة من صفاته العليا وهذا مجمع عليه عند العلماء لا يختلف فيه عالم، قال تعالى (وَلِلّهِ الأَسْمَاء الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا، وَذَرُواْ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَآئِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ) فالآية صريحة في أمر العباد بأن يدعوه I بأسمائه الحسنى لأن الدعاء بأسمائه وصفاته هذا أول نوع من أنواع الوسيلة وأقرب إلى الإجابة وقد ورد عن أبي هريرة قال: قال رسول الله r:"إن لله تسعاً وتسعين اسماً مائة إلا واحداً من أحصاها دخل الجنة، وهو وتر يحب الوتر".

وفي الحديث الصحيح "اللهم إني أسألك بكل اسم  هو لك سميت به نفسك أو أنزلته في كتابك أو علمته أحداً من خلقك أو استأثرت به في علم الغيب عندك أن تجعل القرآن العظيم ربيع قلوبنا...." إلى آخر الدعاء الماثور.

ثانياً- التوسل بالعمل الصالح كأن يكون قد قدم عملاً صالحاً موافقاً للكتاب والسنة، فإذا دعا يقول في دعائه: اللهم إني أسألك بعملي الفلاني أو يقول اللهم إني أسألك بحبي لنبيك أو بإيماني أو بتوحيدي ونحو ذلك، ويكون العمل خالصاً لله I وصالحاً (فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا) أي أن العمل لابد أن يكون موافقاً للكتاب والسنة، إذاً فالأول أسماء الله وصفاته، أما الثاني فهو عمل صالح يتقرب به، فالمؤمنون قالوا (رَّبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلإِيمَانِ أَنْ آمِنُواْ بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الأبْرَارِ) فقدموا التوسل وهو الإيمان على الدعاء رجاء الإجابة وكذلك قول ربنا (إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ) فقدموا التوسل بالإيمان على طلب المغفرة والرحمة.

وكذلك توسل أصحاب الغار بأعمالهم الصالحة فتوسل أحدهم بعفته من الزنا، وتوسل الثاني ببره لوالديه، وتوسل الثالث بتنمية أجر أجيره وإعطائه الأجرة كاملة بعد مضي فترة طويلة من الشهور والسنين.

وعلى هذا يستحب للإنسان أن يدعو في حال كربه وفي دعاء الاستسقاء وغيره بصالح عمله ويتوسل إلى الله تعالى به لأن هؤلاء الثلاثة فعلوه فاستجيب لهم وفرج الله كربهم ورفع الصخرة التي أطبقت عليهم وذكره النبي r في معرض الثناء عليهم بجميل فضائلهم[18].

ثالثاً- التوسل بدعاء الرجل الصالح فإذا نابت المسلم نائبة أو وقع في قحط وجدب فمن المندوب أن يذهب إلى رجل صالح يدعو له لكي يفرج الله الشدة ويقول له ادع لي، وهذا لون من ألوان (وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى) والرسول r  يقول :" الله في عون العبد ما دام العون في عون أخيه".

وفي الحديث الصحيح عن أنس بن مالك t أن رجلاً دخل يوم الجمعة من باب كان وِجاه المنبر ورسول الله r قائم يخطب فاستقبل رسول الله قائماً فقال : يا رسول الله هلكت المواشي وانقطعت السبل فادع الله أن يغيثنا قال فرفع رسول الله r يديه وقال "اللهم اسقنا" قال أنس ولا والله ما نرى في السماء من سحابة ولا قزعة[19] ولا شيئاً وما بيننا وبين سلع[20] من بيت ولا دار قال: فطلعت من وراءه سحابة مثل الترس فلما توسطت السماء انتشرت ثم أُمطرت قال والله ما رأينا الشمس ستاً[21] ثم دخل رجل من ذاك الباب في الجمعة المقبلة ورسول الله r قائم يخطب فاستقبله قائماً فقال يا رسول الله هلكت الأموال وانقطعت السبل فادع الله يمسكها فقال فرفع رسول الله r يديه ثم قال :" اللهم حوالينا ولا علينا اللهم على الآكام والجبال والآجام والظراب والأودية ومنابت الشجر" قال فانقطعت وخرجنا نمشى في الشمس فقد أقر رسول الله r هذا الأعرابي على التوسل به وسعى في تحقيق من توسل إليه –ولم يصدر عنه ما يشير – مجرد إشارة إلى أن الدعاء الصادر من الشخص لنفسه أولى من دعاء غيره له بناء على طلبه بل لقد دل بإقراره r واستجابته على أن طلب الدعاء من الغير أرجى للإجابة إذا كان المطلوب منه الدعاء من أهل التقوى والصلاح.

وإذا كان هذا عن التوسل بدعاء النبي r فإن التوسل بدعاء غيره r قد سنه لنا حينما استأذنه عمر t في العمرة فأذن له وقال: "لا تنسنا يا أخي من دعائك" وسنه لعمر بن الخطاب t ولغيره تبعاً له فيما رواه مسلم في صحيحه عن عمر بن الخطاب t قال إني سمعت رسول الله r يقول :"إن خير التابعين رجل يقال له أويس وله وَلِدَة وكان به بياضاً فمروه فليستغفر لكم" وفى رواية "وله والدة هو بها بر لو أقسم على الله لأبره، فإن استطعتم أن يستغفر لكم فافعلوا"، وقد طلب عمر أن يستغفر له، فدل ذلك على جواز التوسل بدعاء المسلمين حتى ولو كان الداعي أقل درجة من المدعو له.

ومما يدل على ذلك أيضًا حثه r لنا على سؤال الله له الوسيلة والفضيلة والمقام المحمود وسؤالنا الله أن يصلي عليه وما إلى ذلك.

وقول الله تعالى (وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُواْ أَنفُسَهُمْ جَآؤُوكَ فَاسْتَغْفَرُواْ اللّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُواْ اللّهَ تَوَّابًا رَّحِيمًا) يدل على مشروعية التوسل لما فيه من حث الأمة على المجيئ إليه r والاستغفار عنده واستغفاره لهم وليس ذلك خاصاً به  rلعدم دليل الخصوص.

وقد ورد الحث على دعاء المرء لأخيه عن ظهر غيب طلب منه أو لم يطلب ولا يتوقف على أفضليته من الطالب بل قد يطلب الفاضل من المفضول.

يقول ابن تيمية: ولفظ التوسل يراد به معنيان صحيحان باتفاق المسلمين:

أحدهما: هو أصل الإيمان والإسلام وهو التوسل إلى الله بالإيمان بالرسول r.

الثاني: التوسل بدعاء الرسول r وشفاعته فهذان جائزان بإجماع المسلمين.

التوسل المختلف فيه بين العلماء: ومنه المسألة التي أشار إليها الإمام البنا في هذا الأصل.

1-هو التوسل إلى الله I بأحد من خلقه في مطلب العبد من ربه أجازه بضعهم إذا كان بمعنى الشفاعة كما في صحيح البخاري: أن عمر بن الخطاب t استسقى العباس وقال "اللهم إنا كنا إذا أجدبنا نتوسل إليك بنبينا فتسقنا وإنَّا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا" فيُسقون..

فلا يخفى أن توسلهم به هو استسقاؤهم بحيث يدعو ويدعون معه فهو شفيع لهم وسائل لا مسئول...,هذا رأي من لم يجز التوسل بذات المتوسل به وقال يتوسل بدعائه لا بذاته، والذي يقول بهذا الرأي هو الإمام ابن تيمية الذي يقول "ودعاء عمر في  الاستسقاء المشهور بين المهاجرين والأنصار وقوله كنا نتوسل إليك بنبينا وإنا نتوسل إليك بعم نبينا يدل على أن التوسل المشروع عندهم هو التوسل بدعائه وشفاعته لا السؤال بذاته إذ لو كان هذا مشروعًا لم يعدل عمر والمهاجرون والأنصار عن السؤال بالرسول r إلى السؤال بالعباس.

2-وأجازه بعض العلماء وإن لم يكن بمعنى الشفاعة بل بمعنى التوسل بجاه الوسيلة نحو القسم على الله بنبيه r.

إلا أن الشيخ عز الدين بن عبد السلام خصه به r، للحديث :"أن أعرابياً أتى النبى r فقال: يا رسول الله إنى أُصبت في بصري فادع الله لي فقال النبي :"توضأ وصل ركعتين ثم قل اللهم إني أسألك وأتوجه إليك بنبيك محمد r إني أستشفع به في رد بصري اللهم شفعه فيّ، وقال فإن كان لك حاجة فمثل ذلك فرد الله بصره " فعلم أن النبي r شفع له فسأل الله أن يشفعه فيه، من أجل هذا الحديث استثنى الشيخ العز بن عبد السلام التوسل بذاته r من المنع الذي أفتى به حيث قال ينبغي أن يكون مقصوراً على النبي r لأنه سيد ولد آدم وأن لا يقسم على الله غيره من الأنبياء والملائكة والأولياء لأنهم ليسوا في درجته وأن يكون هذا مما خص به لعلو درجته ومرتبته r[22].

3-وأجازه بعض العلماء على إطلاقه كالإمام السبكى وغيره وقالوا إن ما قاله الشيخ عز الدين بن عبد السلام بأنه خاص برسول الله r فيه نظر لأن الخصائص لا تثبت إلا بدليل ولا يكفي فيها الاحتمال لأنه خلاف الأصل، ويتضح لك بعد ذلك التثبث إلا بدليل ولا يكفى فيها الاحتمال مثل ما قلنا. فالذين يقولون أن هذا خصوصية للرسول r عليهم أن يأتونا بالدليل الذي يثبت الخصوصية؛ لأن الأصل أن الأمر يكون على الإطلاق فإذا قلنا أن الأمر فيه خصوصية فلابد أن يأتي بدليل يدل على التخصيص.

مثال: إن زوجات النبي r لا يتزوجن من بعده، بالرغم من أن العموم أن الزوجة إذا توفى عنها زوجها تتزوج بعد انقضاء العدة وهذا على إطلاقه لكل الزوجات إلا أننا بالنسبة لزوجات النبي r نجد دليلاً فيه خصوصية لهن (لستن كأحد من النساء)، هذه واحدة أما الثانية فالنص أن لا ينكح أحد أزواج النبي r من بعده أبداً فهذا هو الدليل بالخصوصية .

فأصبحت المسألة كما رأينا مسألة خلافية وليست مسألة مجمع عليها.فما الخطأ إذا اختار الإمام البنا وجهاً من الوجوه المختلف فيها واستحسنه وهو الفقيه.

كما يتضح لك أيضًا أن المستغيث بإنسان طالب منه سائل له بخلاف المتوسل به فليس مطلوباً منه و لا بمسئول وإنما يطلب به وأي إنسان يستطيع أن يفرق بين المدعو والمدعو به.

والجدير بالذكر أن الذين أجازوا هذا النوع من التوسل ردوا على الإمام ابن تيمية فقالوا: إن المتأمل في قول ابن تيمية يجده ينفي وقوع التوسل أو سؤال الله تعالى بمخلوق مطلقاً ولكنه لا يقدم لنا دليلاً على ذلك، بل إن الأدلة قد قامت على خلافه فقد روى ابن أبي شيبة بإسناد صحيح من رواية أبي صالح السمان عن مالك الدار وكان خازن عمر قال : أصاب الناس قحط في زمان عمر فجاء إلى قبر النبي r فقال: يا رسول الله استسق الله لأمتك فإنهم قد هلكوا فأتى الرجل في المنام فقال له: أءت عمر فقل له: أنكم مستسقون فعليك الكفين، قال فبكى عمر وقال : يا رب ما ألو إلا ما عجزت عنه.

وروى الدارمي أن أهل المدينة لما قحطوا أشارت عليهم عائشة رضى الله عنها أن يحملوا من قبر النبي r كوا إلى السماء حتى لا يكون بينه وبينها سقف ففعلوا فمطروا حتى نبت العشب وسقت الإبل حتى تفتقت فسمى عام الفتق.

ويرى الشيخ زاهد الكوثري أن هذا الحديث –حديث عمر – نص على عمل الصحابة في الاستسقاء به r بعد وفاته حيث لم ينكر عليه أحد مع بلوغ الخبر إليهم وما يرفع إلى أمير المؤمنين يذيع ويشيع.

ثم إنه لا يلزم عن عدم شيوع هذا الحديث وانتشاره عدم الاستدلال به لأن أمير المؤمنين عمرt ما كان يقر على باطل أو يسكت على ضلال ...يقول ابن حجر يحتمل أن يكونوا طلبوا السقيا من الله مستسقين به r، ولم لا يكون التوسل بعم النبي r العباس أراد به عمر t أن يبين جواز التوسل بالمفضول مع وجود الفاضل .

ولما كان هذا الحديث – حديث الاستسقاء – لم يكن نصاً صريحاً في جواز التوسل بغيره من الصالحين فإن الأرجح في فهمه وما يوافق ظاهر لفظه هو دلالته على الجواز ذلك لأن بعضهم قال لكي يؤيد رأي عدم الجواز أن هناك مضافًا محذوفاً في قول عمر (وإنا نتوسل إليك بعم نبينا) أي بدعاء عم نبينا، فلا ندري لم لا يجرى على ظاهره.

حديث الأعمى: ولقد روى الطبرانى بسنده عن عثمان بن حُنيف أن رجلاً كان يختلف إلى عثمان بن عفان في حاجة له فكان عثمان لا يلتفت إليه ولا ينظر في حاجته فلقى عثمان بن حُنيف فشكى ذلك إليه، فقال له عثمان أءت الميضأة فتوضأ ثم أءت المسجد فصل فيه ركعتين ثم قل (اللهم إنى أسألك وأتوجه إليك بنبينا محمد r نبى الرحمة يا محمد إني أتوجه بك إلى ربى فيقضي لي حاجتي وتذكر حاجتك) فانطلق الرجل فصنع ما قال له ثم أتى باب عثمان فجاء البواب حتى أخذ بيده فأدخله على عثمان بن عفان، فأجلسه معه على الطنفسة وقال: ما حاجتك؟ فذكر حاجته فقضاها له ثم قال له: ما ذكرت حاجتك حتى كانت هذه الساعة، وقال : ما كانت لك من حاجة فأتنا ثم إن الرجل خرج من عنده فلقي عثمان بن حُنيف فقال له: جزاك الله خيراً ما كان ينظر في حاجتي ولا يقضيها لي حتى كلمته في فقال عثمان بن حُنيف والله ما كلمته، ولكن شهدت رسول الله أتاه رجلاً ضريراً فشكا إليه ذهاب بصره فقال له النبي أوتصبر؟ فقال له يا رسول الله ليس لي قائداً وقد شق عليّ ، فقال له النبي أءت الميضأة فتوضأ ثم صل ركعتين ثم أدع بهذه الكلمات. قال عثمان بن حنيف : فوالله ما تفرقنا وطال بنا الحديث حتى دخل عليه الرجل كأنه لم يكن به ضر قط.

والنص واضح في التوسل بالرسول r بعد وفاته ولذلك صرفه بعضهم ومنهم الشيخ الكوثري والشيخ حسنين مخلوف على الجواز بالتوسل بغيره إذ أن دلالة الحديث على التوسل صراحة بذات الرسول r وليس بغيره فالتوسل بغيره الاختلاف فيه مجال والذي نرجحه هو الجواز حيث لم يرد دليل على المنع والله أعلم.

يقول الشيخ محمد حسنين مخلوف:"التوسل بذوات الأنبياء والصالحين بمعنى الاستشفاع بذواتهم وسيلة عند الله تعالى لنيل مآرب المتوسلين لما لهم عند الله تعالى من الزلفى والكرامة كأنه يقول اللهم إني أتوسل إليك بنبيك r أو بفلان الصالح أن تقضي حاجتي أو ترزقني أو تشفي مريضي بهذا ونحوه لا شيء فيه ولا وجه لمنعه"

ولقد قال معاوية : إنا نستسقي بخيرنا وأفضلنا إنا نستسقي بزيد بن الأسود فاستسقى معاوية بها الرجل الصالح، ومن أنواع التوسل الخلافية التوسل بجاه النبي r وحقه وحرمته فقد وافق العلامة الألوسي على جواز التوسل بجاهه وحرمته حياً أو ميتاً وصرف الجاه والحرمة إلى صفة من صفات الله تعالى أي أجعل محبتك له وسيلة في قضاء حاجتي وقال: نعم لم يعهد التوسل بالجاه والحرمة عن أحد من الصحابة رضي الله عنهم ولعل ذلك كان تحاشياً منهم عما يخشى أن يعلق منه شيء في أذهان الناس إذ ذاك وهم قريبوا عهد بالتوسل بالأصنام ثم اقتدى بهم من خلفهم من الأئمة الظاهرين وقد ترك رسول الله هدم الكعبة وتأسيسها على قواعد إبراهيم لكون القوم حديثي عهد بكفر كما ثبت ذلك في الصحيح.

فالمسألة بعد هذا التبيان نزاعية خلافية كما قال العلماء وليست من أمور العقيدة في شيء، وصدق الإمام البنا حين قال: "والدعاء إذا قرن بالتوسل إلى الله بأحد من خلقه خلاف فرعي في كيفية الدعاء وليس من مسائل العقيدة" فهي مقولة لا إنكار فيها.

فأنت تلاحظ أن الإمام البنا في هذه المقولة لم يرجح رأياً على رأي ولم يظهر أن رأيه هو الصواب وإنما قال وجهًا  فقهيًّا عند علماء السلف ليوضح أن المسألة تتعلق بالصواب والخطأ وليست متعلقة بكفر وإيمان.

يقول الإمام ابن تيمية: " نقل عن أحمد بن حنبل في مسند المرودي التوسل بالنبي ونهى عنه آخرون فإن كان مقصودهم التوسل بذاته فهو محل النزاع ، وما تنازعوا فيه يرد إلى الله والرسولr[23] " ويقول أيضًا بل غايته أن يكون ذلك مما يسوغ فيه الاجتهاد، ومما تنازعت فيه الأمة فيجب رده إلى الله والرسول" ويقول "وإن كان في العلماء من سوغه فقد ثبت عن غير واحد من العلماء أنه نهى عنه –فتكون مسألة نزاعية – وليس هذا من مسائل العقوبات بإجماع المسلمين بل المعاقب على ذلك معتد جاهل ظالم، فإن القائل بهذا قد قال ما قالت العلماء والمنكر عليه ليس معه نقل يجب اتباعه لا عن النبي r ولا عن الصحابة[24].

ويقول الشيخ ناصر الدين الألباني: بعد أن أشار إلى التوسل المشروع الذي أشرنا إليه – وغير المختلف فيه – قال وأما ما عدا هذه الأنواع من التوسلات ففيه خلاف والذي نعتقده وندين الله به غير جائز ولا مشروع لأنه لم يرد فيه دليل يقوم به الحجة وقد أنكره العلماء المحققون في العصور الإسلامية المتعاقبة مع أنه قال ببعضه بعض الأئمة فأجاز الإمام أحمد التوسل بالرسول r وأجاز غيره كالإمام الشوكاني التوسل به وبغيره من الأنبياء والصالحين[25].

ولقد أجاب فضيلة الشيخ ابن باز –رحمه الله - حين سئل عن هذا النوع من التوسل بأن من العلماء من أجازه ومنهم من منعه وليس بشرك.

ويقول فضيلة الشيخ محمد نجيب المطيعي – رحمه الله – أن هذه الأمور – الدعاء والتوسل- ليست من صميم العقائد عند السلف، و إنما هي أمور وُزعت وصُنفت عندهم في أبواب ليست من أبواب التوحيد، فالقبور وتجصيصها وما يتصل بها صُنفت في كتاب الجنائز أما الأدعية فتجدها في كتاب الأذكار ولا تجد شيئاً منها عند السلف في كتاب التوحيد ونحن نشير إليها هنا بعد أن احتدم الخلاف وأصبح هذا الأمر يُنظر إليه على أنه يخل بشيء من العقائد ولذلك يجب عرضها بطريقة لا تخرج مسلماً عن ملته فهم ذلك السلف الصالح رضوان الله عليهم أجمعين"[26].

لقد تأكدنا أن التوسل بذات النبي وبغيره مسألة خلافية فإن الإمام أحمد بن حنبل وابن حجر العسقلاني صاحب فتح الباري في صحيح البخاري يجوز بالنسبة للنبي r كما أجازه العز بن عبد السلام وأما الإمام السبكي والشوكاني فيجوزه بالنسبة للنبي r وبغيره وكذلك العلامة الألوسي كما أجازه الشيخ زاهد الكوثري كما رأيت بالنسبة للأحياء والأموات بينما منع ذلك الإمام ابن تيمية والشيخ ناصر الدين الألباني وغيرهم فهل ينازع أحد بعد ذلك أنها مسألة خلافية.

فهي خلاف فقهي كما بين الإمام البنا –في كيفية الدعاء وليست من أمور العقيدة فلا تتصل بكفر وإيمان إنما تتصل بصواب وخطأ مما يسوغ فيه الاجتهاد– لا يجوز الخصام بسببها أو الهجر أو التدابر والتقاطع فضلاً عن العقوبة كما ذكر الإمام ابن تيمية رحمه الله .

فأصبح هناك نوع من التوسل لا خلاف فيه وهو:

أولاً - التوسل إلى الله بأسمائه وصفاته.

ثانيًا-التوسل إلى الله بدعاء الرسول r حال حياته.

ثالثاً-التوسل بالأعمال الصالحة.

رابعاً-التوسل إلى الله بدعاء من تُرجى إجابته من أهل الصلاح والتُقى وأهل العلم بالكتاب والسنة .

أما خامساً- فهو التوسل بالنبى r بعد مماته.

فقد اختلف العلماء في مشروعية التوسل بالنبى r  بعد وفاته كقول القائل اللهم إني أسألك بنبيك أو بجاه نبيك أو بحق نبيك فإذا كان بمعنى بإيماني وحبي له فهو متفق عليه بعد مماته أما المختلف فيه بعد مماته هو قولهم بجاه النبي r وفيها ثلاثة أقوال:

الرأي الأول: لجمهور العلماء المالكية والشافعية والمتأخرة من الحنفية وعند الحنابلة هؤلاء قالوا بجواز هذا النوع من التوسل سواء في حياة النبي r أو بعد وفاته فقالوا جائز أن تقول بحق النبي أو بجاه النبيr، قال القسطلاني وقد روى أن مالكاً لما سأله أبو جعفر المنصور -ثاني خلفاء بني العباس- يا أبا عبد الله أأستقبل رسول الله r وأدعو أم أستقبل القبلة وأدعو عند زيارة قبر الرسول r؟

فقال له مالك ولِمَ تصرف وجهك عنه وهو وسيلتك ووسيلة أبيك آدم عليه السلام إلى الله U يوم القيامة، بل استقبله واستشفع به فيشفع الله لك.

الرأي الثاني: قال الإمام النووي في بيان آداب زيارة قبر النبى r :"ثم يرجع الزائر إلى موقف قبالة وجه رسول الله r فيتوسل به ويستشفع به إلى ربه ومن أحسن ما يقول الزائر ما حكاه الماوردى والقاضى وأبو الطيب وسائر أصحابنا عن العظمى مستحسنين له قال كنت جالساً عند قبر النبي r فجاءه أعرابي فقال السلام عليك يا رسول الله سمعت الله تعالى يقول (وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُواْ أَنفُسَهُمْ جَآؤُوكَ فَاسْتَغْفَرُواْ اللّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُواْ اللّهَ تَوَّابًا رَّحِيمًا) وقد جئتك مستغفراً من ذنبى ومستشفعاً بك إلى ربى ثم أنشأ يقول شعراً.

وقال الإمام السبكي ويحسن التوسل والاستغاثة والتشفع بالنبي r إلى ربه وفي إعانة طالبيه وقد جئتك مستغفراً من ذنبي مستشفعاً بك إلى ربي وهذه أيضًا من أقوال الشافعية وأيضًا المالكية أما الحنابلة فقال ابن قدامة في المغني بعد أن نقل قصة العظمى هذه مع الأعرابي وقال ويستحب لمن دخل المسجد أن يقدم رجله اليمنى ...إلى أن قال ثم تأتى القبر فتقول وقد جئتك مستغفراً من ذنبي ومستشفعاً بك إلى ربي وأما الحنفية فقد صرح متأخروهم أيضًا بجواز التوسل بالنبي r فقال الكمال ابن الهمام في فتح القدير ثم يقول في موقفه السلام عليك يا رسول الله ويسأل الله تعالى حاجته متوسلاً إلى الله بحضرة نبيه عليه الصلاة والسلام.

قال الشوكاني ويتوسل إلى الله بأنبيائه والصالحين وقد استدلوا لما ذهبوا إليه بما يأتي وساق الأدلة التي تؤكد ما قلناه.

واسمع إلى هذه القصة التي حدثت مع الإمام البنا نفسه فقد سأله أحد الإخوان عن التوسل بالنبي r والصالحين والاستغاثة فأجاب رضي الله عنه إجابة الفقيه العالم فقال: "بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، السلام عليكم ورحمة الله فأحب أن ألفتكم قبل الجواب على هذه الأسئلة إلى أمور مهمة أولها أرجو أن تلاحظوا أن الخلاف في أمور الدين أمر طبيعي ولا يمكن أن يجتمع الناس في الفرعيات والإخوان يعلمون ذلك تمام العلم بل إن الإخوان يعلمون أن الأئمة رضوان الله عليهم متعددون ولكلٍ رأيه في الدين مع وحدة الأصول ووحدة الاعتقاد، ثانياً أن الجدل في المسائل الدينية جاء على الأمة بنكبات كثيرة وكرهه النبي r -ثم انتقل إلى المسألة وقال- ونحن حين نفتى في هذه الشئون نبين ما هدانا الله إليه في هذه المسائل واعتقادنا فيها بحسب ما وضح لنا من الأدلة ولا نلزم أحداً اعتقاد عقيدتنا ولا نزكى أنفسنا بل ربما كنا مخطئين ونحن لا نشعر، فمرحباً بمن يدلنا على مكان النقص أو يرشدنا إلى مواطن الخطأ نقرر رأينا ونحترم رأى غيرنا ولا نجرح من خالفنا وتجمعنا دائرة الأخوة الإسلامية العامة ثم بين هذا الأمر كما ذكرنا.

والخلاصة:

وخلاصة ما نريد أن نقوله إن الشريعة الغراء جاءت فاصلة بين حدود الإيمان والشرك مبينة ما يجب اتباعه من آداب الألسن والجوارح والقلوب، وغاية من يؤخذ على بعض العوام من الناس الذين نعذرهم بجهلهم صدور بعض الألفاظ الموهمة التي يقولونها والحقيقة أنهم لم يريدوا منها أن النبي أو الولي ينفع ويضر بمعنى يخلق الضر والنفع فدعوه بها إذ هم يعتقدون أنه لا خالق إلا الله (لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ) ولا يستحق العبادة إلا هو (أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ) فيجب أن نعلمهم أن يجتنبوا كل ما فيه إيهام مشابهة للمشركين ويجب أن نسد هذا الباب سداً منيعاً - إن هم أتوا بأمور تنافي الشرع – وننهى كل من يدعو بمثل هذا الذي يوقع في الشرك والضلال – مما نراه في الأضرحة والقبور – علماً بأن الشرك الأكبر لا يقع من مسلم خالط قلبه شعب الإيمان، ولكن الشرك الخفي أنواعه كثيرة وكلها وإن كانت لا تخرج المؤمن عن ملة الإسلام فقد تجر إليه كما قيل إن المعاصي بريد الكفر، وقول بعض الناس إن هذا كفر صراح وشرك جلي – دون تبيان ذلك للجاهل وتعريفه بالإسلام – من الغلو في الدين - والله يقول (يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ وَلاَ تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ إِلاَّ الْحَقِّ) ، وصدق الله القائل (وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُم مَّا يَتَّقُونَ إِنَّ اللّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ).

ومن ذلك يتضح :

1-أن التوسل بالأنبياء والصالحين بمعنى الإقسام بهم أو السؤال بهم خلاف فقهي يسوغ فيه الاجتهاد.

2-أنها تخضع للصواب والخطأ لا الكفر والإيمان لأن الكفر إنما يكون بإنكار ما علم من الدين بالضرورة أو إنكار الأحكام المتواترة والمجمع عليها ونحو ذلك.

3-ليس هناك دليل قاطع في الجواز أو المنع وعلى ذلك فالاختلاف فيها لا يترتب عليه فساد اعتقاد بل هو خلاف مشروع.

4-أجمع علماء المسلمين على أن المسألة لا يعاقب عليها.

5-الذي يُعَاقِب مخالفه – في مثل هذه المسألة – معتد ظالم جاهل كما قال ابن تيمية – أو كما قال العز بن عبد السلام – المكفر بمثل هذه الأمور يستحق من غليظ العقوبة والتعزير ما يستحقه أمثاله من المفترين على الدين .

فلنا بعد هذا الإيضاح أن نؤكد ما قاله الإمام البنا:

"والدعاء إذا قرن بالتوسل إلى الله بأحد من خلقه خلاف فرعى في كيفية الدعاء وليس من مسائل العقيدة".

 


الأصل السادس عشر

العرف الخاطئ لا يغير حقائق الألفاظ الشرعية

"والعرف الخاطئ لا يغير من حقائق الألفاظ الشرعية بل يجب التأكد من حدود المعاني المقصود بها والوقوف عندها كما يجب الاحتراز من الخداع اللفظي في كل نواحي الدنيا والدين فالعبرة بالمسميات لا بالأسماء".

هذا الأصل يعالج:

1-العرف الخاطئ.

2-والخداع اللفظي.

3-ومنع التحيُّل، وأيضًا الحيلة في إصدار أو استنباط الحكم.

4- العبرة بالمسميات لا بالأسماء. 

قبل أن نتكلم عن هذا الأصل نود أن نقول إن المولى I ما خلق الإنسان عبثاً وما تركه سداً ولكن خلقه لرسالة في هذا الوجود الذي نعيش فيه قال تعالى: (إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً) وعندما سألت الملائكة ربها I (قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ) ولكي يعمر هذا المخلوق الكون أمدّه المولي I بإمكانات يستطيع بها أن يتلمس طريقه الذي يسير فيه فمنذ اليوم الذي خلق المولى I فيه آدم وخلق له أبناءه حدد له الطريق الذي يسير فيه وقال: (فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى، وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى، قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا، قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى) ووهب المولى لهذا الإنسان الذي سيقوم برسالته عقلاً يفكر به ومنحه نداءين، نداء داخلي ونداء خارجي يستشعر به الحل من الحرمة وما يرضي المولى I وما يغضبه، هذا النداء الداخلي هو الفطرة (فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا) فلو تركنا الناس لفطرهم لألهمهم الله I السداد والرشاد والصواب ولكن الإنسان كثيراً ما يلوث هذه الفطرة ويلحق بها ما ليس منها. ويصحبه الشيطان ويجري منه مجرى الدم ويزين له ويغويه ويوسوس له ولذلك عندما قال الشيطان لآدم (هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَّا يَبْلَى) اغتر آدم عليه السلام بهذا الكلام وبدأت الفطرة يصيبها شيء يجعلها تنزع بعيداً عن الصواب (فَأَكَلَا مِنْهَا) فابتعدت عن هذا الإحساس الرباني وأمر الله I بالرغم من تحذير المولى له وأمره بأن لا يقرب الشجرة بعينها وقال (وَكُلاَ مِنْهَا رَغَداً حَيْثُ شِئْتُمَا وَلاَ تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ) ولما شعر آدم u بخطئه قال: (رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ) وهذه القصة بينت لنا طبيعة النفس الإنسانية التى قال عنها ربنا: (وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا، فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا، قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا، وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا) فالفلاح دائماً في تزكية هذه النفس لأنها كالبذرة تحتاج إلى رعاية وعناية وإلا فسدت وطغت وأهلكت صاحبها.

أما النداء الثاني نداء الشريعة وهي أوامر الله I التي تتنزل على الرسل ويبلغونها لأقوامهم وهم في نفس الوقت نماذج في طاعة الله I طاعة مطلقة والجدير بالذكر أن الرسالات السماوية في بدايتها كانت تشريعات محددة وكان الناس ينزعون بفطرهم إلى صواب الأعمال لأن هذه الفطر لم تكن قد لُوثت من قبل ومن هنا انتشرت الأعراف بين الناس وفى هذه الفترة لم يكتمل الأمر بعد فكان الناس يتحاكمون إلى القدر المنزل وفى نفس الوقت يرجعون في أحكامهم إلى العادات والتقاليد والأعراف التى تحكم سيرهم.

الفرق بين الشرائع الوضعية والسماوية:

 قبل أن نتعرف على المعنى الفقهي والشرعي للعرف يجدر بنا أن نذكر أهم الفروق الأساسية بين الشرائع الوضعية والسماوية فهناك شرائع وضعية وضعها البشر تحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه وفيما ينظم حياتهم كما أن هناك شرائع سماوية نزلت من عند الله وحياً وهي الحاسمة في سلوك الناس ويجب الرجوع إليها والاحتكام بها ولذا يجدر بنا أن نشير أولاً إلى هذه الشرائع الأرضية ومما تتكون:

الشرائع الوضعية –القوانين- في المجتمعات البشرية التي يسمونها المجتمعات البدائية كانت تتكون تدريجياً من صور العادات والأعراف في هذا المجتمع، ولما ارتفعت حياة الأمة وزادت مداركها بدأت بعض هذه الأعراف تقنن وتصير قانونًا يحكم المجتمع فانتقلت من شيوع العرف إلى تقنينه ليصبح قانون له السلطة الحاكمة على هذا المجتمع نفسه بتقنين العادات والتقاليد كنظام آمر يحكم هذا المجتمع البدائي.

ثم ارتقى التشريع نفسه في المجتمع فكلما نضج هذا المجتمع وازداد علماً وضعت له الأسس القانونية التي تحكمه وتحكم سلوكه في هذا المجتمع نفسه حتى أصبح العرف قانونًا حاكمًا يحكم وبذا أصبحت الأعراف نفسها قوانين ثابتة في داخل المجتمع نفسه، فإذا سُن قانون وضعي وضع هذه الأعراف في اعتباره بشرط أن تكون هذه أعرافًا حسنة ومعتبرة، أعرافًا جيدة يقرها الجميع لأنه يستبعد العادات والأعراف الفاسدة.

    فالشرع بوجه عام في أمة من الأمم ليس إلا صورة صحيحة لحياة المجتمع، للحياة الاجتماعية، فهدف هذا القانون إقامة العدل، وحفظ التوازن بين الحقوق والواجبات، وصيانة حقوق الناس بوجه عام، حتى لا يعتدي أحد على أحد وهذه القواعد إما أن تكون وقتية غير صالحة للخلود إذا كانت تعبر عن أوضاع خاصة، أو أن تكون صالحة للخلود لها صفة الاستمرار والدوام والسمو.

   وليس اختلاف الشرائع بين الأمم إلا تعبيراً عن الاختلاف في الحياة الاجتماعية والاقتصادية وفى الأهداف التي تتجه إليها أو نحوها هذه الحياة والمُثُل العليا التي تستنتجها الأمة من عقيدتها وهذه كلها أمورٌ تتصل بالقوانين الوضعية، فضلاً عن الأعراف التي يقرها القانون؛ لأنها لا تصطدم بخلق أو قيمة من القيم أو حتى بدين من الأديان، ويستبعد دائماً من القوانين ما يصطدم بعادات وأعراف الناس في هذا المجتمع نفسه ومن هنا كان التشريع  الوضعي بوجه عام له ثلاث وظائف: وظيفة علاجية، ووظيفة وقائية، ووظيفة توجيهية وفى الأمر تفصيل يرجع  إليه في مكانه.

أما الشرائع السماوية فنجدها ثلاث أنوع:

-النوع الأول: يأتي للتقويم الأخلاقي وتصفية النفوس ودعم الفضيلة ويركز على الجانب الأخلاقي والسلوكي وليس له نظام قانوني، وهذا الذي اشتهرت به الديانة المسيحية.

-النوع الثاني: يتضمن نظاماً قانونياً خاصاً ببيئة أو قوم معينين كالشريعة اليهودية الخاصة باليهود وكانت هذه الشرائع تتناسب مع الظرف الزماني والمكاني الذي كانوا فيه.

-النوع الثالث: يتضمن نظامًا قانونيًا مؤسساً على الشمول والعموم والدوام والسمو والكمال وهو نظام "يُصلِح الزمان والمكان" وهى الشريعة التي جاء بها محمد r فقد جاءت إصلاحية لأهداف ثلاثة:

1-تحرير العقل من رق التقليد والخرافات.

2-إصلاح الفرد نفسياً وخلقياً وتوجيهه للخير.

3-إصلاح المجتمع أي الحياة الاجتماعية الذي يسود فيها العدل والأمن والحرية والكرامة.

ومصادر التشريع للنوع الثالث هي: الكتاب والسنة والإجماع والقياس، وهي المصادر الأساسية التي اتفق عليها الفقهاء وإن اختلفوا في القياس كمصدر أساسي، وهناك مصادر أخرى فرعية منها الاستحسان والمصالح المرسلة ورأى الصحابي والعرف الذي نحن بصدده وبذلك أصبح العرف مصدرًا من مصادر التشريع.

ما هو العرف؟

العرف لغة: بمعنى الشيء المعروف المألوف المستحسن الذي تتلقاه العقول السليمة بالقبول وعليه قول ربنا (خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ).

والأعراف منها الحسن ومنها القبيح إذ ليس كل ما يعتاد الناس ويتعارفونه ناشئاً عن حاجة صادقة ومصلحة حكيمة يكون الأمر المعتاد وسيلة ميسرة لها.

فقد يعتاد الناس عادات تقوم على جهالات وضلالات موروثة يشقى بها المجتمع وليس فيها ما ينفع كاسترقاق المدين المعسر عند الرومان، وفى جاهلية العرب كوأد البنات وكدفن الزوجة حية مع زوجها إذا مات عند الهنود الوثنيين، وكدفن نفائس الأموال مع أصحابها الموتى عند قدماء المصريين، فكل هذا وأمثاله عادات وأعراف قبيحة يجب أن تكافح بالتعليم والتشريع وما أكثر الأعراف القبيحة في زماننا هذا فهي لا تعد ولا تحصى مثل عدم توريث المرأة وتوزيع الميراث على الرجال، وهذه الأمور كلها لم يعترف بها الإسلام كأعراف وحين جاء الرسول r أصبحت هذه كلها أعراف غير معتبرة تماماً، وقد نقل الإسلام الأعراف إلى معاني ترتبط بالقيم والمبادئ ونحن نعلم أن هناك قولاً كان يردده الناس في الجاهلية وهو: "انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً" وكانوا يطبقون هذا الكلام بلفظه ينصر أخاه ظالماً أو مظلوماً، وهذا الأمر مازال موجوداً حتى الآن في بعض القبائل والعائلات، وعندما قال الرسول r: "انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً " قال الصحابي يا رسول الله ننصره مظلوماً فكيف ننصره ظالماً؟ قال "تكفه عن ظلمه" فصحح r العرف الجاهلي الخاطئ إلى سلوك محمود ذو قيمة أخلاقية كما يقص علينا التاريخ والسيرة أنهم كانوا إذا سرق الغني تركوه وإذا سرق الفقير أقاموا عليه الحد وهذا عرفٌ جائر ظالم ولما جاء الإسلام وسطع نوره وبدد ظلمات الجاهلية منع هذه الأعراف ولم يعتد بها بالكلية.

العرف اصطلاحاً: أما في الاصطلاح الفقهي فهو عادة جمهور قوم في قول أو عمل.

ويفهم من هذا التعريف أنه لا يتحقق هذا العرف في أمر من الأمور إلا إذا كان مطرداً بين الناس في المكان الجاري فيه أو غالباً بحيث يكون معظم أهل هذا العرف كل منهم يرعاه ويجري على وفقه كتعارف الناس مثلاً في الشام أن المهر الذي يسمى للمرأة في عقد النكاح يكون ثلثاه معجلاً وثلثه مؤجلاً.

ولذا يجب أن يتحقق في تكوين العرف اعتياداً مشتركًا بين الجمهور وهذا لا يكون إلا في حالة الاطراد أو الغلبة على الأقل وإلا كان تصرفاً فردياً لا عرفاً بين الناس .

شأن العرف بين مصادر الأحكام: في الحياة الاجتماعية التي لدى الأفراد الذين لا شريعة عندهم تكون الأعراف والعادات هي الشريعة التي يحتكم إليها ولما كانت بعض الأعراف قد تكون في ذاتها حسنة عادلة أو قبيحة جائرة كان من الطبيعي أن تأتي الشرائع لتقر العرف الحسن وتنهى عن القبيح.

والجدير بالذكر أن علماء القانون الوضعي يعتبرون مصادرهم خمسة: العرف والدين وآراء الفقهاء وشراح القوانين  واجتهاد القضاء أي أحكام المحاكم وقواعد العدل والإنصاف.

ولذلك فإن العرف والعادات كانا مصدراً من أهم المصادر للقوانين الوضعية فيستمد منها واضعوها كثيراً من الأحكام المتعارفة ويبرزونها في صورة نصوص قانونية، ونلاحظ أن للأحكام التي تستمد من قواعد العرف ميزتين:

الأولى: أن الناس يكونون على علم سابق بها في معاملاتهم فيقل اختلافهم لأن جهل الناس بالأحكام يولد المشكلات بينهم أما حين يكون مستمدًا من العرف يتقبلوه بسهولة.

الثانية: أن تلك الأحكام تكون مألوفة مستساغة ومقبولة لأنهم اعتادوها قبل أن تصبح قانوناً.

ولقد جاءت الشريعة الإسلامية فأقرت كثيراً من التصرفات والحقوق المتعارفة بين العرب والإسلام وهذبت كثيراً من الأعراف ونهت عن كثير فكانوا يقولون:"انصر أخاك ظالمًا أو مظلومًا" فجاء الإسلام وصحح هذا المفهوم كما أتت بأحكام جديدة استوعبت بها تنظيم الحقوق والالتزامات بين الناس في حياتهم الاجتماعية على أساس وفاء الحاجة والمصلحة والتوجيه إلى أفضل الحلول والنظم، لأن الشرائع الإلهية إنما تبغي بأحكامها المدنية تنظيم مصالح البشر وحقوقهم فتقر من متعارف الناس ما تراه لغايتها ملائمًا لأسسها وأساليبها.

أهم القواعد الفقهية في العرف هي:

1-العادة محكمة : أى أن العرف يصبح حاكماً في إثبات الأحكام الشرعية والالتزامات بين الناس على وفقه ويلزمهم بها قضاء.

2-الحقيقة تترك بدلالة العادة ، والحقيقة هنا يراد بها المعنى الأصلي للفظ فى مقابل المعنى المجازي أى أن ألفاظ الناس في أقوالهم وتصرفاتهم تحمل على معانيها المتعارفة بينهم لا على معانيها الحقيقية في أصل اللغة.

3-المعروف عرفاً كالمشروط شرطاً.

4-لا ينكر تغير الأحكام بتغير الأزمان.

5-استعمال الناس حجة يجب العمل بها

العرف في الفقه الإسلامي: وللعرف في الفقه الإسلامي اعتبار شرعي والاجتهادات الفقهية في الإسلام متفقة على هذا الاعتبار للعرف وإن كان بينها شيء من التفاوت في حدوده ومداه.

وهو–أي العرف– في نظر بعض الفقهاء دليل شرعي كاف في ثبوت بعض الأحكام الإلزامية والالتزامات التفصيلية بين الناس حيثما لا دليل سواه أما إذا عارض العرف نصاً تشريعياً آمراً بخلاف الأمر المتعارف ففي اعتبار العرف وعدمه وفي محل الاعتبار ودرجته تفصيل لا يتسع له المقام.

وغني عن البيان أن ما بُني من الأحكام على العرف يتبدل بتبدل العرف ولذا وضعت القاعدة "لا ينكر تغير الأحكام بتغير الزمان" ولكن متى يكون للعرف هذا السلطان؟

شرائط اعتبار العرف: لكي يكون للعرف سلطانًا يجب أن تتوافر فيه شرائط:

1-أن يكون العرف مطرداً غالباً –كما ذكرنا.

2-ألا يعارض العرف نصًا شرعيًا أو أصلاً قطعيًا في الشريعة يكون العمل بالعرف تعطيلاً له.

فالنصوص التشريعية يجب أن تفهم بحسب مدلولاتها اللغوية والعرفية في عصر صدور النص لأنها هي مراد الشارع ولا عبرة لتبديل الألفاظ في الأعراف الزمنية المتأخرة وإلا لم يستقر للنص التشريعي معنى.

فمثلاً لفظ (في سبيل الله ) في آية مصارف الزكاة (إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاء وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ) له معنى عرفي إذ ذاك وهو مصالح الجهاد الشرعي، أو سبل الخيرات مطلقاً على اختلاف بين العلماء في ذلك، ولفظ (ابن السبيل) معناه العرفي هو من ينقطع من الناس في السفر فإذا تبدل عرف الناس، فأصبح مثلاً يعني (في سبيل الله ) طلب العلم خاصة (وابن السبيل) الطفل اللقيط الذي لا يُعرف له أهل فإن النص التشريعي يظل محمولاً على المعنى العرفي الأول عند صدوره ومعمولاً به في حدود ذلك المعنى لأنه هو مراد الشارح ولا عبرة للمعاني العرفية أو الاصطلاحات الحادثة بعد ورود النص.

هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى فإن العرف إذا كان مخالفًا لبعض الأدلة الشرعية من نصوص الشريعة أو من قواعدها وأحوالها فالمبدأ العام الذي يستخلص من أقوال الفقهاء الباحثين إجمالاً هو أنه إذا ترتب على العمل بالعرف تعطيل لنص شرعي أو أصل قطعي في الشريعة لم يكن عندئذ للعرف اعتبار لأن نص الشارع مقدم على العرف.

وأما إذا لم يترتب على العرف هذا التعطيل بل كان مما يمكن تنزيل النص الشرعي عليه أو التوفيق بينهما فالعرف عندئذ معتبر وله سلطان محترم فمثلاً عرف التبني في الجاهلية لا اعتبار له لاصطدامه بنص قرآني (ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِندَ اللَّهِ...) وكذلك الخمر والربا، وزواج الشغار[27] وكل ما كان عرفًا سائدًا عند العرب وجاء القرآن بمنعه.

تقسيم العرف: العرف إما أن يتعلق باستعمال بعض الألفاظ في معان بتعارف الناس على استعمالها فيها، وإما أن يتعلق باعتياد أنواع من الأعمال أو المعاملات.

ومن هنا انقسم العرف من حيث موضوعه ومتعلقه إلى نوعين:

1-عرف لفظي.

2-عرف عملي.

ومن جهة أخرى فقد يكون العرف موضوعه عامًا فاشيًا في جميع البلدان بين جميع الناس من أرباب الأعمال أو الصنائع أو العلوم دون سواهم وهو من هذه الناحية ينقسم إلى نوعين أيضًا:

1-عرف عام.

2-عرف خاص.

والذي يهمنا هو العرف اللفظى الذي أشار إليه الإمام البنا.

العرف اللفظي: النظر الفقهي في حكم هذا العرف ومدى سلطانه إن كل متكلم يحمل كلامه على لغته وعُرفُه فينصرف إلى المعاني المقصودة بالعرف حين التكلم وإن خالفت المعاني الحقيقية التي وضع لها اللفظ في أصل اللغة ذلك لأن العرف الطارئ قد نقل تلك الألفاظ إلى معان أخرى صارت هي الحقيقة العرفية المقصودة باللفظ في مقابل الحقيقة اللغوية.

ولذلك أعيد على مسامعك ما قاله الإمام البنا ليتضح لك المقصود، يقول رحمه الله : "والعرف الخاطئ لا يغير من حقائق الألفاظ الشرعية بل يجب التأكد من حدود المعاني المقصود بها والوقوف عندها كما يجب الاحتراز من الخداع اللفظي في كل نواحي الدنيا والدين فالعبرة بالمسميات لا بالأسماء"

العبرة بالمسميات لا بالأسماء: ولذلك وجب الاحتراز من الخداع اللفظي في كل نواحي الدنيا والدين -كما قال الإمام البنا – ذلك لأن من الخطورة بمكان أن تعوَّد أعداء الإسلام أن يستخدموا مصطلحات يزرعونها ويشيعونها بين الناس حتى تصبح أعرافًا بينهم وهي مصطلحات خادعة براقة مهلكة يخدعون بها المسلمين باستخدام ألفاظ غير مقبولة بل منهي عنها –في اللغة- معنى حسن، بينما معناها في الشرع مرفوض غير مقبول بل منهي عنه وإليك أمثله على ذلك.

المشروبات الروحية معناها اللغوي غير معناها المقصود لديهم وهي الخمور بأنواعها، أو ما يطلقون عليه الفن الرفيع وهو فن رخيص مبتذل يثير الغرائز في الإنسان ويبعده عن الله تعالى، فماذا لو سميت الأقرع "أبو شعر" فهل هذا الاسم يغير من حقيقته أنه أقرع وكذلك لو سميت الأعمى "أبو العيون" والمكسَّح "أبو سريع" لا يغير ذلك من المسميات شيئًا.

وقس على ذلك الكثير:

الفائدة ويقصدون الربا، واليانصيب الخيري ويقصد به الميسر، القيم الروحية ويقصدون وحدة الأديان سواء كانت سماوية أو وضعية ليتميع الإسلام، الروح الجامعية ويقصد بها اختلاط الرجال بالنساء، العمولة ويقصد بها الرشوة في الغالب الأعم. التطرف ويقصد به التمسك بالإسلام، التقدم والحضارة ويقصد بهما أهل الغرب والشرق اللا ديني والعلمانية وترك منهج الله، وفي هذه الأيام كثرت المصطلحات الخبيثة والمنحرفة بقصد تضليل المسلمين بل الناس أجمعين فمثلاً يُطلقون مصطلح زواج المثلية ويُقصد به فعل قوم لوط وانتشار الفاحشة، وهكذا ولذلك قال العلماء لو صرف كلام المتكلم إلى حقيقته اللغوية دون العرفية التي هي معناه في عرف المتكلم لترتب عليه إلزام المتكلم في عقوده وإقراره وحلفه وسائر تصرفاته القولية بما لا يعنيه هو ولا يفهمه الناس من كلامه.

وقد استمد العلماء القواعد الفقهية في الأعراف والتي أشرنا إليها من قبل كالعادة محكَّمة، والمعروف عرفاً كالمشروط شرطاً، ولا ينكر تغير الأحكام بتغير الأزمان، وغير ذلك من القواعد التي ذكرناها وهناك بعض الأمور التي تفرعت من هذه القواعد منها على سبيل المثال تقسيم المهر إلى معجَّل ومؤجَّل إذا لم يبين في العقد يُرجع للعرف، فهذا أمر راجع للأعراف نفسها فالأصل أن المهر يدفع كله مقدماً وجرت العادات على تقسيمه وهذا لا يصطدم بنص ولا يخالف الشرع فهذا التقسيم يرجع للأعراف فلا بأس به ولا شيء فيه وتكون العادة هنا محكَّمة.

أيضًا تقسيم ثمن البيع إذا لم يصرح به في التعاقد لا شيء فيه إذا كان راجعًا إلى العادات والتقاليد والأعراف في المجتمع، وأيضًا العيوب التي وجدت في السلعة نفسها هل تفسخ العقد أم لا؟ هذا يرجع أيضًا للأعراف نفسها، وكيفية حفظ الوديعة والاتفاق على حفظها هذا أمرٌ حكم التقصير فيه يرجع إلى الأعراف الموجودة بين الناس إن كان مقصراً أو غير مقصر، كل هذه الأمور تعود إلى الأعراف ولهذا المعنى الذي قال فيه ابن مسعود "ما رآه المسلمون حسناً فهو عند الله حسن".

أيضًا وضع الفقهاء المبدأ العام القائل " يحمل كلام الحالف والناذر والموصي والواقف وكل عاقد على لغته وعرفه وإن خالف لغة العرب ولغة الشارع" يُحمل الكلام على نفس المعنى الذي عنده هو.

مثلاً: لو حلف الإنسان أن لا يضع قدمه في دار فلان، انصرفت اليمين إلى معنى دخول الدار لأنه المعنى العرفي لا إلى مجرد وضع القدم الذي هو الحقيقة اللغوية فلو دخلها راكبًا دون أن تمس قدمه أرضها يحنث في يمينه شرعًا وتجب عليه الكفارة، ولو مد رجله من خارجها فوضعها فيها دون أن يدخل لا يحنث.

مثال آخر: إذا تعارف الناس على إيقاع الطلاق بلفظ "أنت طالق "، أو الظهار " أنت عليَّ كظهر أمي" بألفاظ وتعابير جديدة فشى استعمالها بينهم فإنها يقع بها الطلاق، ولو كانت في أصل اللغة لا تقتضي الوقوع كلفظ "عليّ الطلاق" الذي يستعمله الرجال في هذا الزمان عند إرادة التطليق مع أن الطلاق وصف يقع على المرأة التي هي محله شرعًا لا الرجل.

ويتضح من ذلك أن العرف اللفظي بوجه عام تنشأ به لغة جديدة تكون هي المعتبرة في تنزيل كلام الناس عليها، وتحديد ما يترتب على تصرفاتهم القولية من حقوق وواجبات بحسب المعاني العرفية، وبالنسبة للغة العامية يحمل كلام الناس فيها على معناه المتعارف عليه بينهم – فالعبرة بالمسميات لا الأسماء- وقد يختلف المعنى من بلد عن آخر، فمثلاً في اليمن المال يسمى "زلط" فإذا أقسم إنسان وقال "والله لابد أن تأخذ الزلط" أو يحكم بين اثنين ويقول من حقك :" أن تأخذ الزلط"، فالزلط عندنا هو الزلط المعروف –نوع من الحجارة- أما عندهم فيعني المال فيحمل الكلام على معناه العرفي عند الحالف أو الناذر أو الذي يحكم بحكم وهذه كلها واضحة جداً لدى بعض القبائل التي لها ألفاظ وكلمات تختلف اختلاف كلي وجزئي عما نفهمه نحن ولذا يُصرف على مفهوم اللفظ عند القوم، ولكل مكان عرفه الخاص في التخاطب فيجب أن تنضبط الأعراف بضوابط الشرع الحكيم.

منع التحيُّل: بعض الناس تشيع بينهم أعراف ظاهرها يبدو وكأنه عمل مشروع ولكن في الحقيقة يقصد به إسقاط واجب أو ارتكاب الحرام ليكون حلالاً في الظاهر أمام الناس أو المستمع إليه.

وإليك بعض الأمثلة أيضًا ليزداد الأمر وضوحًا بها:

1-البيع مثلاً له مقاصد ومصالح هي حاجة المشتري إلى السلعة وحاجة البائع إلى الثمن فإذا باع شخص سلعة بعشرة قروش إلى أجل ثم اشتراها نفس البائع قبل الأجل بخمسة نقدًا، هذا البيع يحقق مفسدة وقد استخدم الخداع اللفظي فيه بكلمة البيع بينما الحقيقة هي الإقراض بالربا بينما يراد من هذا البيع التحايل وهو عين الحرام

2-الهبة مشروعة لما لها من مقاصد كريمة، ولكن إذا وهب شخص ماله في آخر الحول هربًا من الزكاة فإن الهبة في هذه الحالة لا تحمل إلا اسمها لأنها لم تحقق الغرض منها ولكن مآل هذه الهبة المنع من الزكاة وهي مفسدة إن قصد بها ذلك.

3-عقد الزواج ينعقد بالألفاظ –الإيجاب والقبول – وهي الصيغة، والألفاظ وهي المعبرة عن الرضا، ولكن إذا قصد بالألفاظ غير ما وضعت له فإن الرضا بالعقد يكون منعدمًا، وعلى ذلك فإن المحلل يقول نفس الألفاظ بعينها ولكن الألفاظ في هذه الحالة لا تكون سببًا لترتب الآثار إلا إذا كان القصد منها معناها وموجبها فلفظ النكاح لم يوضع ليحلل مطلقة وإنما هو لدوام العشرة وحفظ النسل وغير ذلك من المقاصد الكريمة.

وعلى ذلك إذا كان ظاهر الفعل موافقاً للشرع والمصلحة مخالفة له فالفعل غير صحيح وغير مشروع، لأن الأعمال الشرعية ليست لذاتها وإنما قصد بها أمور هي المعاني والمقاصد التي شرعت لها فالألفاظ لا عبرة بها إذا لم توافق المعاني الشرعية التي قصدها الشارع.

وهكذا يطهر باطنه وتصحح نيته ويتقبل الله قوله حتى ولو خالف المعنى الذي يقصده –دون قصد – كالذي كاد أن يهلك في الصحراء بعد أن فقد راحلته فلما وجدها فإذا به من شدة فرحه يقول :"اللهم أنت عبدي وأنا ربك" – من سعادته الغامرة- وهو يقصد أن يقول "اللهم أنت ربي وأنا عبدك" فالعبرة بالمقاصد وعلى المسلم أن يطهر قوله كما يطهر فعله حتى يصبح ظاهره كباطنه ويستشعر قول الله (مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ).

 

             

 

 

 

 

 

 

 


خاتمة

لم كانت هذه الأصول؟

إن من يتدبر هذه الأصول العشرين التي حددها الإمام البنا –رحمه الله- للفهم يجد أمامه منهجاً متكاملاً في المعرفة فهو يحدد لك مصادر التلقي ويستبعد أموراً لا تعتبر أدلة للأحكام ولا يتجاهل دور العقل في الحوار ويعتبره جزءاً من أجزاء المعرفة إن استخدم في مجاله وفكر بأسلوب علمي منهجي مع التأمل في خلق السماوات والأرض وما خلق الله فيهما لأن المعارف ما لا سبيل للحصول عليه إلا بالتعرف على أسرار المخلوقات واكتشاف قوانينها وسننها والتي ارتضتها حكمة الله (قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ).

وليس التعرف على السنن وقوانين الخلق هي السبيل الوحيد للحصول على المعرفة الشاملة دون سواها بل هناك الإيمان الصادق، والعبادة الصحيحة والمجاهدة لها نور يقذفه الله في قلب من يحب من عباده فيزداد علماً ويقيناً (وَاتَّقُواْ اللّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللّهُ).

ثم ينتقل بك الإمام من فنن إلى فنن ومن غصن إلى غصن في شجرة وارفة الظلال عطرية النسيم وشهية الثمر أصلها ثابت وفرعها في السماء تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها فيبين لك دور الإمام فيما لا نص فيه وأن كل أحد يؤخذ من كلامه ويرد إلا المعصوم r ويحثك على تحصيل العلم للوصول إلى درجة النظر بشروطه وقواعده.

ويؤكد لك أن العقيدة أساس العمل وعمل القلب أهم من عمل الجارحة، ويضبط لك موازين الأمور ليحدد لك الحد الفاصل بين الكفر والإيمان إلى غير ذلك من الموضوعات الدقيقة التي إن وعاها المسلم وسار على هداها كان على بصيرة من دعوته تعريفاً وتكويناً وتنفيذاً.

ذلك لأن طبيعة الإسلام أنه في معركة مستمرة ذات جوانب متعددة معركة مع الانحراف عن التوحيد لتحرير العقول من الشك والشرك والخرافة والوهم والجمود وموروثات الباطل وتقليد الآباء في الضلال ومعركة مع النفوس والضمائر ترمي إلى إقامتها على منهج الفطرة السوي في صفائه ونقائه ونوره حتى لا يستبد بها الأهواء ومعركة مع الأوضاع الفاسدة في علاقات البشر وشئون الحكم والتربية ونظم الاجتماع والاقتصاد وسائر دروب الحياة الإنسانية ولا يمكن أن يميز المسلم الخبيث من الطيب إلا بالفهم السليم للإسلام فكانت هذه الأصول.

تحديد الشخصية المسلمة: كانت هذه الأصول لتحدد للشخصية الإسلامية طريقها حتى لا تضل الطريق إلى الهدف المنشود توجهها عقائد الإسلام تحكمها شرائع الإسلام وتقودها مفاهيم الإسلام وتسودها أخلاق الإسلام وتسيطر عليها تقاليد الإسلام وتسري في جنباتها روح الإسلام فتصطبغ بصبغة الإسلام (صِبْغَةَ اللّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ صِبْغَةً).

وذلك أنه قبل قيام المجتمع المسلم لابد أن يسبقه إسلام الفكر وإسلام النفس وإسلام السلوك حتى يتأسس بنيانه على تقوى من الله ورضوان ويقوم تشريعه وتوجيهه كله على قواعد الإسلام وتشيع القيم الإسلامية في نواحيه وتسري في كيانه كله كالدم في العروق يبعث الحياة.

وهنا يبرز معدن المسلم المتميز ذي الشخصية الأخلاقية التي افتقدناها في زماننا هذا صاحب الأيدي المتوضئة والقلب العامر والنفس الأبية وهو مع إخوانه يمثل الفتية الذين آمنوا بربهم وزادهم هدى فإذا بهم جماعة تتحلى بقوة إيمانية ونفسية عالية تتمثل في إرادة قوية لا يتطرق إليها ضعف ووفاء ثابت لا يعدو عليه تلون ولا غدر وتضحية عزيزة لا يحول دونها طمع ولا بخل ومعرفة بالمبدأ وإيمان به، وتقدير له يعصم من الخطأ فيه والانحراف عنه والمساومة عليه والخديعة بغيره.

هذه الأصول ليفهم الشباب أن أولى الخطوات لإقامة الدولة هذه اللبنات التي أسست على هذا الفهم الدقيق منغرس للمبادئ وتغذية للروح، ولباس التقوى وزاده فإن المسلم كالمصباح إذا نفذ زيته انطفئ.

لسنا طلاب سلطة:

وهنا يظهر أهمية الفهم الدقيق أننا لسنا طلاب سلطة ولا نعمل على الاستيلاء على السلطة وإقامة شرع الله على الأرض فالأولى فيها إكراه للناس عليها فتحل سلطة تكره الناس على الحق (لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ) مكان سلطة كانت تكره  الناس على الباطل والمولى يقول (أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ)

إن القرآن يلفت النظر إلى هذه الحقيقة فيعبر تعبيراً دقيقاً يقول (شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ) وقف طويلاً أمام قوله (أَقِيمُوا الدِّينَ) لتعلم أن الإقامة للدين غير الاستيلاء على السلطة فالإقامة للدين تطلب مجاهدة للنفس وإنكاراً للذات والتصدي للشهوات وذلك كله يتحقق بفعل المأمور وترك المحظور والصبر على المقدور فإذا أنعم الله عليك شكرت وإذا ابتليت صبرت وإذا أذنبت استغفرت هنا يتحقق فيك القلب السليم فيرضى الله عنا وعنك (لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا) .

إن الضعيف لا ينتصر على القوي والقليل على الكثير والأعزل على المسلح إلا إذا تحققت معية الله فيتم  النصر ولن يتنزل النصر إلا إذا كان الله معك ولن يكون الله معك إلا إذا حققت ما أراد، وقال الله (إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاَةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآمَنتُم بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللّهَ قَرْضًا حَسَنًا) [المائدة:12] فكان لابد من بناء الشخصية قبل بناء الدولة ولن يكون ذلك إلا بالفهم الدقيق ولذلك طالت مرحلة البناء في مكة ليربي رجالاً يقيمون بناء يجمعهم صحة الاعتقاد وصدق الإتباع بفهم سليم ولذلك كانت هذه الأصول.

مسلم اليوم:

إن مسلم اليوم تتجاذبه تيارات ضخمة تعكس في أعماقه صراعاً داخلياً عميقاً فهو بفطرته يحن إلى إسلامه وماضيه وهو بواقعه خاضع لمؤثرات فكرية غربية وشرقية، وإذا نظرنا إليه وجدناه يعيش في كل جانب من جوانب حياته نكسة خطرة لعل أبرزها وأوضحها أنه بعُد عن الفهم السليم للإسلام فتلاشت دولته التي أرادها له المولى وهذه سنة من سنن الله (وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا).

وإنسان هكذا يعيش انتكاسة في روحه ووجوده مضطرباً تائهاً تتجاذبه المذاهب والفلسفات مقطوع الصلة بالله لا يعرف دوره في الحياة ولا يدرك غاية وجوده لابد له من أن تصحح له المفاهيم ويوضح له التصور وتحدد له معالم الطريق حتى ينتصر في معركة الحياة والوجود فكانت هذه الأصول.

إن أول الخطى على الطريق أن نعلم أن الحكم الإسلامي فريضة والطريق إليه واجب، والتخلف عنه إثم عظيم فهو مآل الرجاء وغاية الاطمئنان ولذا لابد أن يقرر المسلم أنه خليفة الله في الأرض ليقيم حضارة لا إله إلا الله محمد رسول الله r ولا يتحقق ذلك إلا بالفهم الدقيق والإيمان العميق والحب الوثيق والوعي الكامل والعمل المتواصل فكانت رسائل الإمام البنا رضوان الله عليه وفى مقدمتها رسالة التعاليم التي منها هذه الأصول العشرين فجزى الله عنا الإمام الشهيد خير ما يجزي به عباده الصالحين وجمعنا وإياه في مستقر رحمته مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً.

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.


المراجع

أولاً-القرآن الكريم.

ثانياً-التفاسير:

1-تفسير القرآن العظيم – لابن كثير.

2-جامع البيان عن تأويل آي القرآن – الإمام المفسر أبي جعفر بن محمد بن جرير الطبري.

3-جامع الأحكام – للقرطبي .

4-أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن – محمد الأمين الشنقيطي.

5-صفوة التفاسير – الشيخ محمد على الصابوني.

6-في ظلال القرآن – سيد قطب.

ثالثاً- السنة المطهرة والحديث:

1-صحيح البخاري- الإمام البخاري.

2-صحيح مسلم – الإمام مسلم.

3-الترغيب والترهيب – المنذري.

4-سنن الدارمي- للدارمي.

5-رياض الصالحين – للنووي.

6-سلسلة الأحاديث الصحيحة – الشيخ ناصر الدين الألباني.

7-السنة ومكانتها في التشريع الإسلامي – للدكتور مصطفي السباعي.

رابعاً-السيرة وفقهها:

1-السيرة النبوية – لابن هشام.

2-فقه السيرة – للبوطي.

3-فقه السيرة – الشيخ محمد الغزالي.

4-حياة الصحابة – محمد يوسف الكاندهلوي.

5-من روائع البيان النبوي – مصطفى عبد الواحد.

6-الشفا – للقاضي عياض.

خامساً- الفقه وأصوله وما يتصل به:

1-الفتاوى الكبرى – لابن تيمية.

2-الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر- لابن تيمية.

3-إعلام الموقعين – لابن القيم.

4-القواعد – العز بن عبد السلام.

5-المدخل الفقهي العام – مصطفى أحمد الزرقا.

6-أصول الفقه – الشيخ عبد الوهاب خلاف.

7-أصول الفقه – الشيخ محمد أبو زهرة.

8-فقه السنة – الشيخ سيد سابق.

9-بيان النصوص التشريعية – الشيخ بدران أبو العينين .

10-التسهيل لعلوم لتنزيل – ابن جزي.

11-التشريع الجنائي في الإسلام – عبد القادر عودة.

12-التشريع والفقه في الإسلام – الشيخ مناع القطان.

13-الإتقان في علوم القرآن – جلال الدين السيوطي.

14-البرهان – للزركشي.

15-الموافقات – للشاطبي.

16-فتاوى ابن  الصلاح – لابن الصلاح.

17-الفتاوى – للشيخ محمود شلتوت.

18-الحلال والحرام – للدكتور يوسف القرضاوي.

19-روائع البيان – للشيخ محمد على الصابوني.

20-الأحكام – للآمدي.

21-المدخل للفقه الإسلامي – للأستاذ محمد سلام مدكور.

22- المدخل للفقه الإسلامي – للأستاذ عيسوي أحمد.

23- تاريخ الفقه الإسلامي – محمد السايس.

24-سبل السلام – للصنعاني.

25- الرسالة – للإمام الشافعي.

26-الأحكام في أصول الأحكام – لابن حزم الظاهري.

27-التنبيه على أسباب الاختلاف – للفقيه البطليموسي تحقيق الدكتور أحمد حسن خليل وحمزة عبد الله النشرقي

28-ما لا يجوز الاختلاف فيه بين المسلمين – للدكتور عبد الجليل عيسى .

29-الإنصاف في الأسباب الداعية للخلاف – لابن السيد.

30-الفقه المقارن – حسن الخطيب.

31-كتاب الشهاوي – إبراهيم الشهاوي.

32-المجموع للنووي – تكملة الشيخ محمد نجيب المطيعي.

33-التحف في مذهب السلف – للشوكاني .

34-الموطأ – للإمام مالك .

35-المدخل – لابن الحاج.

36- مجموعة رسائل ابن عابدين – ابن عابدين.

37-فتاوى العلامة قاسم – للعلامة قاسم.

38-نظرية المصلحة في الفقه الإسلامي – للدكتور حسين حامد.

39-الاجتهاد في الشريعة الإسلامية وبحوث أخرى – بحث الدكتور عبد الرحمن عميرة.

40- الفروق – للإمام القرافي.

41-تحفة البديع – للبراد.

42-المذهبية أخطر بدعة – محمد سعيد البوطي.

43- التمهيد في تخريج الفروع على الأصول – للشيخ عبد الرحمن الأسنوي.

44- تخريج الفروع على الأصول- للشيخ محمود الزنجاني.

45-الإنصاف في بيان أسباب الاختلاف – للشيخ ولى الله الدهلوي.

46-أسباب اختلاف الفقهاء – للشيخ على الخفيف.

47- أسباب اختلاف الفقهاء – الدكتور عبد الله بن عبد المحسن التركي.

48-القواعد والفوائد الأصولية – لابن اللحام.

49-نظرة عامة في تاريخ الفقه – على حسن عبد القادر.

50-محاضرات في المدخل لعلم الفقه – عبد الرحمن الصابوني.

51-تاريخ التشريع الإسلامي – عبد الوهاب خلاف.

52-معاً على طريق الدعوة – شيخ الإسلام ابن تيمية – والإمام حسن البنا – محمد عبد الحليم حامد.

سادساً-كتب أخرى متنوعة لها اتصال بالأصول العشرين:

1-الإصابة في تمييز الصحابة – ابن حجر العسقلاني.

2-إحياء علوم الدين – للإمام الغزالي .

3-مدارج السالكين – لابن القيم .

4-جمع الفوائد – لابن القيم.

5-أمراض القلوب - لابن القيم.

6-إغاثة اللهفان - لابن القيم.

7-مفتاح دار السعادة - لابن القيم.

8- الجواب الكافي - لابن القيم.

9-قاعدة جليلة في التوسل – ابن تيمية.

10-اقتضاء الصراط المستقيم – ابن تيمية.

11-الآداب الشرعية والمنح المرعية – للإمام شمس الدين بن عبد السلام الحنبلي.

12-الحلية – لأبي نعيم .

13-تنبيه الغافلين – للسمرقندي.

14-معترك الأقران في إعجاز القرآن – للسيوطي.

15-جامع بيان  العلم وفضله – لابن عبد البر.

16-الاعتصام – للشاطبي.

17-تحذير المسلمين من الابتداع والبدع في الدين – لابن حجر.

18-عقيدة المؤمن – الشيخ أبو بكر الجزائري.

19-الإنصاف فيما قيل في المولد من الغلو والإجحاف- الشيخ أبو بكر الجزائري.

20-العلم والعلماء- الشيخ أبو بكر الجزائري.

21-تبسيط العقائد- الشيخ حسن أيوب.

22-تاريخ الاحتفال بالمولد النبوي – الشيخ حسن السندوني.

23- البدعة وموقف الإسلام منها – الدكتور عزت عطية.

24-الإبداع في مضار الابتداع- للشيخ على محفوظ.

25-حكم الإسلام في التوسل – الشيخ محمد حسنين مخلوف.

26-التوسل وأنواعه وأحكامه – الشيخ ناصر الدين الألباني.

27-المذاهب السياسية – الشيخ محمد أبو زهرة.

28-البدعة والمصالح المرسلة – الدكتور توفيق يوسف الواعي.

سابعاً- كتب أخرى فكرية ودعوية:

1-مجموعة رسائل الإمام البنا – للإمام حسن البنا.

2- دروس الثلاثاء - للإمام حسن البنا.

3-دعاة لا قضاة – للإمام حسن الهضيبي.

4-العقيدة  الإسلامية في المرآة – للأستاذ عبد العزيز عطية.

5-الإسلام فكرة وحركة – فتحي يكن .

6-الدولة في الإسلام- خالد محمد خالد.

7-الإخوان المسلمون أحداث صنعت التاريخ – محمود عبد الحليم.

8-فقه التدين فهماً وتنزيلاً- الدكتور عبد المجيد النجار.

9-الحكم وتكفير المسلم – سالم البهنساوي.

10-الحد الفاصل بين الكفر والإيمان – عبد الرحمن عبد الخالق.

11-دستور الوحدة الثقافية – الشيخ محمد الغزالي.

12-واقعية المنهج القرآني – الشيخ توفيق محمد سبع.

13-منهج القرآن في التربية – محمد شديد.

14-فقه الدعوة ملامح وآفاق – مجموعة أبحاث – بحث الدكتور يوسف القرضاوي.

15-المذاهب السياسية – الشيخ محمد أبو زهرة.

16-منهج القرآن في عرض عقيدة الإسلام- جمعة أمين عبد العزيز.

17-الدعوة قواعد وأصول - جمعة أمين عبد العزيز.

18-دائرة معارف القرن التاسع عشر – (الإسلام دين خالد).

19-لمحات من الثقافة الإسلامية – عمر عودة الخطيب.


الفهرس

الموضوع                                                                                      رقم الصفحة.

إهداء

المقدمة

تعالوا إلى كلمة سواء

الأصل الأول- أصل الشمول:

الأهداف

السبيل إلى ذلك

منهج العقدية

منهج العبادة

منهج الحركة

الأصل الثاني- مصدر التلقي:

القرآن - المصدر الأول

أحكام القرآن على نوعين

أحكام القرآن وحدة واحدة

ما اشتمل عليه القرآن

علوم يحتاجها المفسر

السنة – المصدر الثاني

السنة القولية

السنة الفعلية

السنة التقريرية

أحكام السنة

الصحابي والتابعي

السنة المتواترة

السنة المشهورة

سنة الآحاد

السند والمتن

ترتيب كتب الصحاح

خلاصة هامة

الأصل الثالث – مصادر ليست من أدلة  الأحكام الشرعية

الإيمان والعبادة والمجاهدة

السكينة والأمن والأمان

كيف يحبنا الله؟

لا نعبد أشخاصاً

شطحات ننكرها

ما هي الصوفية؟

أهل الصفة

هل يجوز استخدام مصطلح الصوفية؟

انطباع خاطئ

رأي علماء أهل السنة في الصوفية

ولنا وقفة

الحقيقة التي ندين بها

الأصل الرابع- المنكر التي يجب محاربته

حب الإنسان لمعرفة الغيب

موقف الإسلام من التشاؤم

الغيب

التمائم والودع

الرقى

كيفية إنكار المنكر

الشروط الواجب توافرها في الأمر بالمعروف

والنهي عن المنكر

وسائل تغيير المنكر

النصح والوعظ

استخدام اليد

التهديد بالضرب والقتل

تغيير المنكر وابن القيم

الأصل الخامس- مصالح العباد والأصل في الأشياء

ما هو الرأى؟

من هو الإمام؟

ما هو النص؟

مصلحة العباد

المصالح المعتبرة

المصالح المهدرة

المصالح  المرسلة

الأصل في الأشياء الإباحة

قول الدكتور القرضاوي فيها

قول ابن تيمية

قول الإمام أحمد وفقهاء الحديث

قول ابن القيم

الأصل السادس- الميل القلبي والتعصب للأشخاص

فضل العلم

فضل العلماء

آداب رد العلماء

العصمة

السلف والسلفية

فضل الصحابة

عدم التعرض لخلافهم

الأصل السابع- المذهبية ودرجة النظر – أو الاجتهاد والتقليد

درجات الصحابة من حيث الرواية

غياب بعض المعاني عن الصحابة

التقليد

ما قاله العلماء في التقليد

ما هو المذهب؟

الأئمة على حق

الاجتهاد

شروطه

فقهاء الصحابة والتابعين

فقهاء الأمصار

الأصل الثامن- ما يجوز الخلاف فيه وما لا يجوز

هذه الدعوة تحتاج منا

الخلاف المعتبر شرعاً

أنواع الاختلاف الذي ذكره القرآن

أحكام القرآن

الفرق بين ما فيه اجتهاد وغيره

لماذا لم تكن كل الأدلة قطعية

الفرق بين الفرق والمذاهب الإسلامية

أقوال العلماء عن الخلاف

أسباب اختلاف الصحابة

أمثلة على اختلاف الصحابة

اختلاف التنوع

اختلاف التضاد.

من الخلاف ما هو قريب وما هو بعيد

الواجب علينا

الأصل التاسع - قيمة الوقت في  القول السديد والعمل السليم:

الوقت ليس من ذهب

تقسيم العلماء العلوم

من منهج القرآن في التربية

أمور لا ينبني عليها عمل

آداب المناظرة

شروط المناظرة

فضول الكلام

أصالة المنهج الإسلامي

الخوض في القدر وبعض معاني القرآن

عدم الكلام في المفاضلة بين الصحابة وما شجر بينهم

ما قاله بعض السلف

الأصل العاشر – أسمى عقائد الإسلام:

مسلك الأنبياء في تقديم العقيدة

منهج القرآن في عرض الإيمان

ابن القيم والعقيدة

علم القلب وعمل القلب

ظهور الفرق الإسلامية

القدرية

الجبرية

أمر يجب التنبيه عليه

رأي العلماء في علم الكلام

توحيد في المعرفة والإثبات (توحيد الربوبية)

توحيد في العبادة والقصد (توحيد الألوهية)

أسماء الله الحسنى

الأشاعرة

الماتريدية

ما قاله ابن تيمية في طرائق العلماء في فهم العقائد الإسلامية

المسلك القويم

ما قاله الإمام البنا

ترجيح مذهب السلف

السلف يقول

الخلف يقول

ما هو التفويض؟

للعقيدة أصول وفروع

الأصل الحادي عشر- البدعة الضلالة التي يجب محاربتها

حقيقة الدين

قاعدة نفسية

ما هى البدعة؟

التحذير من البدع

بغض الصحابة للبدع

شروط البدعة

ابتداع في الدين

فهم يجب أن يسود

اتفاق لا خلاف معه

نشأة البدع في عهد الصحابة

الأصل الثاني عشر- البدع المختلف في الحكم عليها:

البدعة الإضافية

الالتزام في العبادات المطلقة

البدعة التركية

الخلاصة

تقسيم العلماء للبدعة

الاحتفال بمولد الرسول r

أسباب انتشار البدع

وسائل الوقاية من البدع

الأصل الثالث عشر- محبة الصالحين واحترامهم والثناء عليهم

ركائز دعوتنا

قوة الإيمان وقوة الحب

من هم الصالحون؟

القرآن يثني على الصالحين

المحبة منطلق كل خير

كيف نحترم الصالحين ونثني عليهم

التبرك بالصالحين

بما يكون التبرك؟

من هو الولي؟

معنى الولاية

شروط الولاية

الكرامات

كرامات الصحابة والتابعين

لا يملكون نفعاً ولا ضراً

الأصل الرابع عشر- زيارة القبور وآدابها وحكمها وكيفيتها

زيارة المقابر

حكم زيارتها

القصد من الزيارة

المغالاة فى قبور الصالحين

النذور للموتى

بناء المساجد على القبور

الصلاة فى المساجد ذات القبور

قال العلماء

كبائر يجب محاربتها

الأصل الخامس عشر- التوسل إلى الله بأحد من خلقه:

اللجوء إلى الله

الاستعانة بالله لا تمنع الاستغاثة بالمخلوق

الدعاء مخ العبادة

الوسيلة

هذه القضية

موقف العلماء من القضية

ما قاله ابن تيمية فى التوسل

التوسل المختلف فيه

قول العلماء فيه

الخلاصة

الأصل السادس عشر- العرف الخاطئ لا يغير من حقائق الألفاظ الشرعية

ما هو العرف؟

العرف اصطلاحاً

شأن العرف بين مصادر الأحكام

العرف فى الفقه الإسلامي

شرائط اعتبار العرف

تقسيم العرف

العرف اللفظي

منع التحيّل

الأصل السابع عشر-عمل القلب وعمل الجارحة:

ما هي العقيدة؟

العقيدة والرجال

العقيدة أساس العمل

عقيدة بلا عمل

قيمة العقيدة

تفاوت الناس فى الأعمال الصالحة

عمل القلب

القلب السليم

الخلاصة

الأصل الثامن عشر- استخدام العقل فى التفكر والتدبر فى الآفاق واحترام العلماء:

ما هو العقل؟

الإسلام والعقل

العقائد الأخرى والعقل

العقل ثورة على الهوى والتقليد

دور العقل

مجال العقل

دعوة إلى النظر فى الكون

اهتمام القرآن بالعلم والعلماء

الحكمة ضالة المؤمن.

الأصل التاسع عشر-النظر الشرعي والنظر العقلي:

النظر العقلي

مجال آخر للدليل العقلي

القرآن والحقائق العلمية

الحقيقة العلمية والنظرية العلمية

لا تصادم بين الدين والعلم

الأصل العشرون-الحد الفاصل بين الكفر والإيمان:

مفاهيم يجب أن توضح

ما هو الإيمان؟

ما هو الكفر؟

حكم الناطق بالشهادتين

العذر بالجهل

الواجب فى أمر العقيدة

الإيمان والعمل

الخوارج

من غريب أقوالهم

سيدنا على يناقشهم

بدعة التكفير اليوم هي التي كانت بالأمس

الردة

المرجئة

رأي أهل السنة والجماعة

أنواع الكفر

دعوة إلى العمل

نقض الشهادة

هل الجماعة شرط الإيمان

وجوب الإمامة

جماعة المسلمين

ومن لم يحكم بما أنزل الله

خاتمة

المراجع

 

 



[1] الذكر الجماعي –الشيخ نصر عبد الفتاح-بتصرف.

[2] تفسير ابن كثير ج3-ص80-81، ط دار المعرفة : بيروت

[3] يعني أنهم زائدون على الحفظة وغيرهم من الملائكة المربين مع الخلائق.

[4] أى : تفرق الذاكرون بعد انتهاء المجلس.

[5] الأذكار للنووي: ص6 ط دار الفكر

[6] الوابل الصيب : 68 ط: المختار الإسلامي

[7] القاموس المحيط (م ل أ) ، والمعجم الوسيط، 2/882.

[8] والشبهة هنا والتي يرد عليها المؤلف هى ما يثيره البعض بغير دليل من بدعة الذكر الجماعي

[9] كالإمام مسلم في صحيحه وكالإمام النووي في رياض الصالحين وقد رواه البخارى في كتاب التوحيد من صحيحه "كما ورد فيه غيره من أحاديث الأذكار والدعوات" وذلك لاشتماله واشتمالها على الكثير من أسماء الله تعالى وصفاته وأفعاله.

[10] الأذكار للنووي – ص88:87، ط دارالفكر.

[11] أي وما عطف في العبارة السابقة .

[12] أي وما عطف عليهما.

[13] أي والأرجح والأقوى عند الحافظ ابن حجر.

[14] هذه الصور استنباطات واستنتاجات من المؤلف وليست كل الصور محصورة فيها، والباب مفتوح لأي صورة أخرى ما دامت آداب الذكر تُراعى فيها.

[15] رسالة المأثورات : للإمام الشهيد حسن البنا.

[16] عيد يحتفل به الشيعة الاثنى عشرية احتفالاً دينياً وليس له أصل في الدين بل هو موضوع.

[17] -الطب ج 10: ص 29

[18] الحديث رواه البخاري ومسلم.

[19] السحاب المتجمع الذي لم يمطر بعد.

[20] سلع (جبل بالمدينة)

 

[21] ستة أيام

[22] الإبداع في مضار الابتداع 210.

[23] حكم الإسلام في التوسل للشيخ محمد حسين مخلوف ص 36.

[24] الفتاوى ج1 ، ص 285

[25] التوسل وأنواعه وأحكامه للشيخ الألباني .

[26] منهج القرآن في عرض عقيدة الإسلام ص 45 للمؤلف.

[27] هو أن يتفق شخصان فيزوّج كل منهما الآخر قرينته فتكون كمهر للأخرى، وبعضهم إذا ماتت إحدى المرأتين يستعيد زوجها قرينته من عند الآخر حتى يزوجه امرأة أخرى بدلاً من التي ماتت فكأنه ضامن لحياتها.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق