الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء وسيد المرسلين ، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .. أما بعد :
أحاول اليوم دراسة مسألة حكم الاحتفال الدنيوي بيوم أو عيدٍ معين بشكل مختصر ، وهي الصورة التي يندرج تحتها الاحتفالات العامة عند كل الناس :
مثل تخصيص يوم للاحتفال بالوطن ، أو نحوه ..
كما يندرج تحتها من باب الأولى :
الاحتفالات والأعياد الدنيوية الخاصة بفرد معين أو أشخاص محددين ، وهي ليست عامة في المجتمع ..
مثل : أعياد الميلاد الشخصية ، وأعياد الزواج ، ونحوها ..
وأستطيع بدايةً أن ألخص أقوال المعترضين على جواز الاحتفال بمثل هذه الاحتفالات عموماً ، وباليوم الوطني خصوصاً أنها تدور حول (( 5 )) أوجه :
1 / التشبه المحرم بالكفار ..
2 / الابتداع في الدين ..
3 / زيادة عيد للمسلمين ..
4 / مزاحمة الأعياد الشرعية والشرائع الدينية بالأعياد الدنيوية ..
55 / الأخطاء التي تحصل فيه وبسببه ..
وسأناقش كل واحدة من هذه المآخذ باختصار ، مستعيناً بالله :
1 / التشبه المحرم بالكفار /
وقال أصحاب هذا المأخذ بأن هذا الاحتفالات والأعياد الدنيوية لم تكن موجودةً عند المسلمين السابقين ، وأنها مما انتقل إلينا من عادات الكفار ، ولهذا فهم يحرمونها لأنها من التشبه المحرم بهم .
وفي الحقيقة أن هذا المأخذ في نظري ضعيف ..
ذلك أنه من المتقرر في الشريعة أنه ليس (( كل )) تشبه دنيوي بالكفار محرم ، بل منه ما هو جائز ..
فالتشبه الدنيوي المحرم بالكفار هو ما يكون مشابهة لشيء من خصائص هؤلاء الكفار ، بحيث يكون علامةً عليهم ..
أما مجرد التشابه الدنيوي بحد ذاته فليس مقتضياً للتحريم ..
ومن المعلوم ان الاحتفالات الدنيوية مثل اليوم الوطني او عيد الوطن الذي يقام في دول العالم المختلفة بذكرى الاستقلال او توحيد البلاد او نحوها أنها ليس من خصائص الكفار ، فكل دول العالم – الإسلامية وغير الإسلامية – تقيمه تقريباً ، ولم يعد مرتبطاً بالدين عند أحد ، وبذلك تسقط علة التشبه المحرم ..
ولو اعترض معترض على ذلك بأنه حتى وإن كان قد أصبح الاحتفال بهذا اليوم معموﻻً به في دول العالم كلها ، لكنه قد (( بدأ )) عند الكفار ، فيبقى الحكم على أصله وهو التحريم ..
فالجواب على هذا أنه قد نص العلماء في المسائل الدنيوية التي تحرم لعلة (( مشابهة الكفار )) أنه اذا تغير فيها الحال ، ولم تعد من خصائصهم فإنها ترجع إلى حكم الجواز ، ولذلك أمثلة كثيرة …
فمن الأمثلة الواضحة له ما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم في الصحيح من النهي عن ركوب المَياثِر الحمر ، وهي قماش لين يوضع على الرحل للرجال ، ليكون جلوسهم ألين على الراحلة ، وكان كثيراً ما يصنع من الحرير ، وهو من مراكب العجم ..
قال أبو عبيد : (( الميثرة كَانَت من مراكب الْعَجم، أحسبها من حَرِير أَو ديباج، فجَاء النَّهْي عَنْهَا لذَلِك ))
ففيها سببان للنهي : الحرير ، والتشبه ..
فإذا لم تكن من حرير ، هل يجوز ركوبها وفيها تشبه بالكفار ؟؟
قال الحافظ العراقي في شرحه للحديث بعد أن ذكر عدة أقوال في سبب النهي : (( وقد يكون – يعني النهي – لمصلحة دينية، وهي ترك التشبه بعظماء الفرس ، لأنه كان شعارهم ذلك الوقت ، فلما لم يصر شعارا لهم ، وزال ذلك المعنى : زالت الكراهة ))
وتشبهها من المسائل القديمة مسألة حكم لبس
(( البُرْنُس )) وهو كل ثوب رأسه منه ، ملتصقٌ به ..
وكان هذا من لباس الرهبان – ولا يزال إلى اليوم يلبسه بعضهم –
قال ابن حجر : (( وقد كره بعض السلف لبس البرنس ، لأنه كان من لباس الرهبان ، وقد سئل مالك عنه فقال : لا بأس به .
قيل : فإنه من لبوس النصارى !
قال : كان يُلبس هاهنا ))
واستشكال هذا السائل يوضح لنا أصل المسألة بشكل واضح ، فالسائل لما أجابه الإمام مالك بأنه لا بأس به ، كأنه استحضر مسألة التشبه ، وأن هذا اللباس من لباس النصارى ، فكيف نشابههم والتشبه بالكفار محرم ؟؟
فأجابه الإمام :
إن مثل هذه المشابهة ليست محرمة ، لأن هذا اللباس – وإن كان يلبسه النصارى – فقد كان يلبسه العرب أيضاً ..
وبالتالي فهو ليس خاصاً بهم ، ولا إشكال في مشابهتهم فيه ..
ومما يؤكد قول مالك أن العرب والمسلمين قد لبسوه ، أنه صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه عد البرانس من منهيات الإحرام للمحرم .
هذان المثالان يوضحان أن فقه باب التشبه بالكفار يرجع إلى كونه علامةً عليهم ، فإذا زال ذلك ولم يكن علامةً وشعاراً لهم رجع حكمه إلى الجواز ..
ولهذا فهذا المأخذ غير صحيح في هذه المسألة ، ولا سبيل إلى القول بتحريم الاحتفالات والأعياد الدنيوية كاليوم الوطني لعلة مشابهة الكفار ..
2 / الابتداع في الدين /
وقال أصحاب هذا المأخذ أن النبي صلى الله عليه وسلم ، وصحابته من بعده لم يحتفلوا بفتوحاتهم وانتصاراتهم وما حققته دولتهم ، ولا احتفلوا بأمور دنياهم – على الرغم من كونها أعظم مما يحتفل به الناس اليوم – وهذا يدل على أن هذا الاحتفال خطأ وبدعة ، فطالما لم يفعله النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته فليس في فعله خير ، وهو بدعة منكرة يجب اجتنابها ، فهو مما لم يكن عليه أمر القرون المفضلة ..
وفي نظري أن هذا أضعف المآخذ في هذه المسألة ..
ذلك أن الاحتفال الدنيوي – أياً كانت فكرته وسببه – ليس مما يدخل في البدعة أساساً ، إذ البدعة مختصةٌ بالعبادات ، ولا تدخل في أمور الدنيا – بكل تفاصيلها – طالما لم نقصد بها التقرب إلى الله ..
ويتفق الجميعُ – مؤيداً ومعارضاً – على أن هذا الاحتفال ليس عبادةً يُتقرب بها إلى الله ، وإنما هي من أبواب العادات الدنيوية لا أكثر ..
ومن يقول ببدعية مثل هذا الأمر الدنيوي سيضطر إلى تبديع وتحريم كل أمور الدنيا التي اعتادها الناس مما لم ترد به السنة ، وهذا خطأ كبير ..
وبالتالي فلا مجال هنا لتحريم هذا الاحتفال من خلال هذا المأخذ ..
3 / زيادة عيد للمسلمين :
وقال أصحاب هذا المأخذ أن العيد ((اسم لما يعود من الاجتماع العام على وجه معتاد )) ، وهو يشمل الأعياد الدينية والدنيوية ..
قالوا : وكلاهما – العيد الديني والدنيوي – محرم غير العيدين التي شرعها الإسلام ، ولا يجوز أن يتخذ المسلمون عيداً ، فهو مناقض لحديث : (( أبدلكم الله )) الذي قالوا إنه ينص على ترك المبدل به ..
وحديث الرجل الذي نذر في الجاهلية نذراً ، فسأل النبي صلى الله عليه وسلم هل يوفي بنذره ، فأمره أن يوفي به إن لم يكن فيه وثن من أوثان الجاهلية أو عيد من أعيادهم ..
قالوا : وأعياد الجاهلية تلك كانت أعياداً دنيوية ، ورغم ذلك نهى الشارع عنها ..
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : ((مع أن ذلك العيد إنما كان يكون – والله أعلم – سوقا يتبايعون فيها ويلعبون، كما قالت له الأنصار: ” يومان كنا نلعب فيهما في الجاهلية ” لم تكن أعياد الجاهلية عبادة لهم ))
فاستدلوا بذلك على أن كل الأعياد – حتى الدنيوية منها – ما عدا عيدي المسلمين لا تجوز ..
وهذا المأخذ ينبغي تفكيكه إلى نقاط رئيسية ، حتى تتم مناقشته بشكل جيد :
( أ ) ما هو العيد الذي كان عند الأنصار في الجاهلية ؟؟
وما العيد الذي خشي النبي صلى الله عليه وسلم أن يُذبح النذر عنده ؟؟
( ب ) هل في هذه الأحاديث نص قاطع يمنع الاحتفال بالأعياد الدنيوية ؟؟؟
( ج ) هل منع الإسلام حقاً كل عيد دنيوي جاهلي ؟؟
( أ ) فأما حديث (( قد ابدلكم الله خيرا منهما )) فالظاهر منه أنه كان يتكلم عن أعياد دينية ، ﻻ عن مجرد أيام دنيوية يحتفلون فيها ..
ولذلك ذكر عدد كبير من شراح الحديث كابن حجر وغيره ان هذين العيدين هما النيروز والمهرجان (( وهما من أعياد المجوس )) ..
ولما شرح العلماء حديث (( إن لكل قوم عيدا )) نصوا على أن المقصود به لكل أصحاب (( دين وطائفة دينية )) ، وبالتالي فأحاديث العيدين أحاديثٌ تتكلم عن أعياد دينية عبادية تميّز المسلمين عن غيرهم من أصحاب الديانات الأخرى ، ولهذا أبدلهم الله بها أعياداً خيراً من أعياد الجاهلية التي كانوا يلعبون فيها ..
واذا عدنا بعد ذلك لحديث الرجل الذي سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن نذره في الجاهلية أن يذبح إبلاً في بوانة ، فسأله صلى الله عليه وسلم (( هل كان فيها وثن من اوثان الجاهلية أو عيد من أعيادهم ؟؟ )) فلما قال له : ﻻ ، امره ان يوفي بنذره ..
لو عدنا إلى هذا الحديث لوجدناه صريحاً بمنع النذر عند هذا المكان في حال ما لو كان فيه ما يشتبه أن يقدح في الدين والإيمان ..
كأن يكون فيه وثن سابق يُعبد ، أو مكان يعظمه المشركون ، ويخصصونه لاحتفالاتهم في الجاهلية وأعيادهم الدينية ..
وإلا فلن يكون هناك معنى لخشيته عليه الصلاة والسلام من أن يكون في بوانة عيدٌ دنيوي للمشركين لا شبهة لما يقدح في الدين والإيمان ، ولم يرد في نص من النصوص أن مجرد لعب المشركين في مكان ما سبب كافٍ لمنع الذبح فيه لله تعالى .. !
ولهذا فقد حمل العلماء حديث النذر على هذا المعنى ، فقال ابن قدامة رحمه الله في تعليقه على الحديث : (( فإن كان بها شيء مما ذكرنا ، لم يجز النذر ؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم : { هل كان بها وثن ، أو عيد من أعياد الجاهلية ؟ } .
وهذا يدل على أنه لو كان بها ذلك ، لمنعه من الوفاء بنذره
ولأن في هذا تعظيما لغير ما عظم الله ، يشبه تعظيم الكفار للأصنام ، فحرم ، كتعظيم الأصنام ))
وأشار ملا علي قاري إلى أن المعنى قد يرجع إلى منع التشبه المحرم بالكفار في مكان عيدهم الذي اختصوا به ..
وعلى المعنيين – التعظيم أو التشبه المحرم – لم يقل أحدٌ أن مجرد لعب أهل الجاهلية مانعٌ لأن يلعب المسلمون فيه ، لأن مجرد المشابهة في أمور الدنيا – دون محظور – جائزة ..
ولهذا المعنى صح أن امرأة أتت النبى -صلى الله عليه وسلم- فقالت : يا رسول الله إنى نذرت أن أذبح بمكان كذا وكذا (( مكان كان يذبح فيه أهل الجاهلية )) . قال : « لصنم ؟؟ ». قالت : لا. قال : « لوثن ؟؟ ». قالت : لا. قال : « أوفي بنذرك ».
فالمرأة هنا أخبرت أن هذا المكان الذي نذرت أن تذبح فيه هو مكان كان يذبح فيه أهل الجاهلية ، ورغم ذلك لما خلا المكان من المحذور أجاز لها النبي صلى الله عليه وسلم أن تذبح فيه ..
ولو كانت مجرد المشابهة الدنيوية للمشركين في المكان أو الزمان سبباً للتحريم – كما يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله – لما جاز لها ذلك ، ولمنعها النبي صلى الله عليه وسلم من الذبح فيه ..
( ب ) وإذا افترضنا أن أعياد الجاهلية في تلك الأحاديث كانت كما ذكر شيخ الإسلام مجرد لعب (( فقط )) لا عبادة فيها – وهو ما لا دليل عليه – فهل أدلة الباب تنص على تحريمها ؟؟
في الواقع : لا نص صريحاً بهذا ..
فإنه لا يصح الاستدلال بمجرد استبدال العيدين على تحريم كل ما كان لعباً مثلها ، إذ ليس كل استبدال يتضمن ترك المبدل منه (( منعاً وتحريماً ))
فقد يتم الاستبدال بترك المستبدل به ، لكن تركه من باب التفضيل لا التحريم ..
ومن ذلك قوله تعالى (( .. أتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير .. )) ، فإن بني إسرائيل استبدلوا البقول بالمن والسلوى ، وإنما قصدوا بذلك الاستبدال تفضيلها عليها ، لا أنهم يمنعون الرجوع إليها .. !
وكذلك حديث العيدين ، غاية ما في (( لفظه )) أن الله أبدلهم عيدين أفضل من عيديهم السابقين ،
وليس في لفظه ولا معناه منعُ المسلمين من هذين العيدين الجاهليين ولا النهي عنهما ..
وحديث النذر غاية ما فيه أنه نهى أن يذبح في مكان عيدٍ اعتادوا الذبح فيه لصنم ، أو اعتاد أهل الجاهلية تعظيمه ..
وكل هذه المعاني – كما هو ظاهر – ليست دليلاً كافياً لمنع كل احتفال دنيوي معتاد ..
( ج ) وإذا كان تقعيد شيخ الإسلام رحمه الله صحيحاً في أن هذه الأعياد الجاهلية المتروكة كانت مجرد (( سوق يتبايعون فيها ويلعبون )) ..
فهل لم يكن هناك فعلاً أعياد جاهلية (( بهذا المعنى )) أبقاها الإسلام وأقر النبي صلى الله عليه وسلم المسلمين عليها ؟؟
الجواب : لا .. بل كانت هناك أعيادٌ جاهلية بهذا المعنى ، وأقرها النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته من بعده ..
فقد أقر النبي صلى الله عليه وسلم العرب على أسواق الجاهلية العظمى التي كانوا يقيمونها كل عام ..
فأسواق عكاظ ، ومجنة ، وذي المجاز أمرها منتشر عند العرب في الجاهلية ، ومشاركتهم فيها ، وحرصهم عليها متيقنة فيهم ..
وعلى الرغم من كونها عيدا يعتاده الناس – مكاناً وزماناً – كل عام
(( شبهة العيد ))
وكونها من أعياد وأيام الكفار
(( شبهة التشبه ))
وعلى الرغم من وجود الشرك والعبادات المحرمة فيها في الجاهلية
(( شبهة ما فيها من منكرات ))
رغم كل ذلك فقد أقر الإسلام العرب على هذه الأسواق واﻻحتفاﻻت ، مع تطهيرها من الشرك وبقايا الجاهلية …
وبقيت هذه الأسواق لأكثر من مائة عام بعد النبي صلى الله عليه وسلم ، قبل ان يهجرها الناس في القرن الثاني الهجري ..
وقد ثبت في الصحيحين عن ابن عباس رضي الله عنهما ان عكاظ ومجنة وذا المجاز كانت أسواقا في الجاهلية فلما كان الإسلام كرهوا التجارة مع النسك فيها فأنزل الله (( ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلاً من ربكم .. ))
قرأ ابن عباس (( في مواسم الحج )) ، وكذا كانت في مصحفه ، وهي قراءة شاذة تفسيرية ..
وبوّب البخاري رحمه الله على هذا الأثر فقال :
(( باب الأسواق التي كانت في الجاهلية فتبايع الناس بها في الإسلام ))
وعلق عليه ابن بطال رحمه الله فقال :
(( وفيه أن مواضع المعاصي وأفعال الجاهلية ﻻ يمنع من فعل الطاعة فيها ))
وثبت أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه لما أرسله النبي صلى الله عليه وسلم ليعلم الناس حجهم في عام 9 للهجرة ، قصد الى سوق ذي المجاز – وهو سوق قريب من المشاعر يقصده الحجاج منذ الجاهلية – ليخبر الناس بمناسكهم ويبلغهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ..
كما اشترى عمر الفاروق موﻻه ( أسلم ) من سوق ذي المجاز عام 111 للهجرة لما حج بالناس في خلافة أبي بكر الصديق رضي الله عنهما وصح أن سائلاً سأل ابن عمر رضي الله عنهما في آخر عمره عن سوق ذي المجاز :
هل يقصرون الصلاة فيه أم ﻻ ؟؟
وهم يمكثون فيه 15 او 200 ليلة ..الخ ..
واستمر الناس في الإسلام يقصدون هذه الأسواق للبيع والشراء وإنشاد الأشعار ، والآثار في بقاء هذه الأسواق في زمن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه والتابعين وهم خير القرون كثيرة ..
وإذا كان الإسلام لم يمنع الصحابة من إقامة هذه المناسبات والأعياد السنوية – رغم كل ما كان فيها في الجاهلية –
فغيرها يجوز من باب أولى ..
ولو كانت أعياد أهل المدينة في الجاهلية (( سوقاً ولعباً )) مثل هذه وتركها المسلمون ..
فلماذا أبقى النبي صلى الله عليه وسلم مثل هذه الأعياد والأسواق الجاهلية ،
وهي أعظم وأشد انتشارا وتأثيرا ؟؟!!!
وإذا لم يثبت النهي عن الأعياد الدنيوية ، ولم يصح أن أعياد الصحابة المتروكة كانت دنيوية صرفة ، وثبت عندنا بقاء ما يشبه هذه الأعياد الدنيوية في زمن النبوة وإقرارها ..
فلا شك حينئذٍ أن الحكم بتخطئتها بناء على هذه القواعد التي لم تثبت في الأعياد خطأ يحتاج إلى إعادة النظر ..
4 / مزاحمة الأعياد الشرعية والشرائع الدينية بالأعياد الدنيوية /
قال أصحاب هذا المأخذ (( إن مزاحمة أعياد الإسلام – يعني بأعياد دنيوية أخرى – ينتج عنها من التهاون بالعيد المشروع ، واللامبالاة به ، ما يعني تضييع وخفوت شعائر الدين ))
وهذا المأخذ قائم على فكرة مزاحمة هذه الأعياد لشعائر الإسلام الثابتة فيه كالعيدين وغيرهما ، والتضييق على فكرة الأخوة الإسلامية والرابطة الإيمانية بمعاني الوطنية ونحوها ..
قالوا : وهذا ينتج عنه تهاون بهذه الشعائر المشروعة ، وتضييع لها ..
ويكفي في رد هذا المأخذ أن ننظر إلى الدول الإسلامية التي تحتفل بأعياد دنيوية مختلفة منذ سنين طويلة – وهي دول كثيرة – وما زال أهلها يعظمون الإسلام وشرائعه وأعياده ، وهي أعظم أعيادهم وأكثرها فرحاً وتفاعلاً عند عامة الناس فضلاً عن خاصتهم ..
والوطنية وما يشبهها شعور بالانتماء لبلد أو وطن معين ، وليس بالضرورة أن كل من كان عنده هذا الشعور ، أنه سيلغي عند الإنسان روابطه الإيمانية .. !
بل من الممكن أن يحتفظ بها جميعهاً سويةً ، إذ كل واحدة منها ترجع إلى جانب مختلف ..
وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال للصحابة : (( خياركم في الجاهلية ، خياركم في الإسلام إذا فقهوا ))
فهو هنا حافظ على سيادة الجاهلية وخيريتها التي كانت عند العرب ، لكنه استثمرها في مجال الخير (( إذا فقهوا )) ..
ولم تكن تنميته لهذا الجانب (( خيرية الجاهلية )) على حساب خيرية الإيمان والعمل الصالح في الإسلام ، إذ هي في الحقيقة تنمّي بعضها وتقوي بعضها ..
وكذلك كل المشاعر الدنيوية المختلفة كالوطنية وغيرها ، هي – من حيث الأصل – لا تنافي المعاني الإيمانية والدينية ..
ولهذا فالحفاظ عليها وتنميتها في الخير ليس خطأً ..
وهي مما يدعم الروابط الإيمانية والدينية بشكل كبير ، إذا ما تم استثمارها بطريقة صحيحة ..
وبالتالي فليس صحيحاً أن (( كل )) احتفال دنيوي سيزاحم ويضايق الشرائع الدينية والشعائر الإسلامية ، بل إن هناك من لا تحصل عنده هذه الأضرار ..
فتعليق الحكم بحصول هذه الأضرار أولى من تعليقه بالفعل نفسه ،
كما سأوضحه في النقطة التالية ..
5 / الأخطاء التي تحصل فيه وبسببه /
قال أًصحاب هذا المأخذ : إن هذه الاحتفالات والأعياد الدنيوية كثيراً ما تؤدي إلى اعتداءات على الناس والممتلكات ، مع تصرفات غير مسؤولة ، وأخطاء وذنوب كبيرة ..
وقد يصاحبها أحياناً نفاق اجتماعي أو سياسي ..
وكل هذ الأمور السيئة توجب منع هذه الاحتفالات ..
وهذا الاعتراض ببعض ما فيها من أخطاء أو منكرات أو تعظيم يلزم من يقول به أن يبيح هذه الاحتفالات في حال عدم وجودها ، لأنها ليست ﻻزمة فيها ، ويمكن ان تحصل من دونها كما هو واقع في كثير من الدول الإسلامية وغير الإسلامية …
وإذا كان كذلك :
فالواجب على المعترض أن يدعو إلى الفعل الصحيح دون الخطأ الذي يراه ..
ﻻ أن يحرم الفعل كله .. !!
ومعظم دول العالم التي تحتفل بهذه الأعياد الدنيوية اليوم ليس لديها التعظيم المبالغ فيه الذي نشاهده عند العرب ، وليس لديها الهمجية في الاحتفال ، ولا الأخطاء التي نشاهدها أيضاً ..
لذا :
فمن الخطأ أن يحكم الإنسان حكماً شرعياً قاطعاً من خلال صورة واحدة ، وتصور واحد فقط .. !
ومن خلال هذه المناقشة لمآخذ منع الاحتفال بالأعياد الدنيوية يتضح :
أن الأصل في حكم مثل هذه الاحتفالات والأعياد الدنيوية بكل صورها
– ومن ضمنها اليوم الوطني – الجواز ، وأنه لم يقم دليل صريح صحيح على منعها مطلقاً ..
فتبقى على أصل إباحتها ..
والله تعالى أعلم
وصلى الله وسلم على نبينا محمد ، وعلى آله وصحبه
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق