ناقشة هادئة في مسألة الاحتفال بالمولد النبوي الترك ليس دليلا ليكون دليلا على التحريم !
عمدة ما يستدل به المانعون ما أسموه دليل الترك، ومعناه أن الصحابة تركوا الاحتفال ولم يفعلوه؛ فلا يجوز لنا فعله، وهو كلام غير مسلَّم؛ لأن الترك ليس دليلا أصلا، فضلا عن أن يكون دليلا على التحريم، وحين عرَّف اهل الحديث السُّنَّة ذكروا أنها أقوال النبي صلى الله عليه وسلم وأفعاله وتقريراته وصفاته، ولم يذكروا الترك، بل النبي صلى الله عليه وسلم نفسه قسم شريعته إلى أمر ونهي، فقال: "ما أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم، وما نهيتكم عنه فاجتنبوه"، ولم يقل: وما تركته!
وعلى هذا فما تركه النبي صلى الله عليه وسلم أو الصحابة رضي الله عنهم؛ لا يفيد أنه حرام إذا فعلناه، ما لم يصحبه دليل يفيد التحريم؛ فالترك بمجرده لا يفيد حكما؛ سوى أن الأمر المتروك يجوز تركه، لكنه لا يدل على حرمة فعله، ما لم يصحبه دليل آخر!
وقد ترك النبي صلى الله عليه وسلم أشياء ولم تكن حراما، كتركه أكل الضب؛ لأنه لم يكن من عادة قومه، ومع هذا لم يحرمه، وكتركه صلاة التراويح خشية أن تفرض على المسلمين، ولم يحرمها، بل هي سنة، وكتركه إعادة بناء الكعبة على ما بناها عليه إبراهيم؛ لأن قومه كانوا حديثي عهد بجاهلية، وهكذا في متروكات كثيرة، تدل بمجموعها على أن مجرد الترك لا يفيد تحريم الفعل؛ لأنه لا بد للحرام من دليل غير مجرد الترك، والله تعالى يقول: (وقد فصل لكم ما حرم عليكم)، فالمسكوت عنه ليس حراما، ولا واجبا، بل هو مباح، عفو من الله، فلنقبل من الله عافيته، ولا نتكلف البحث في المتروك والمسكوت عنه، قال صلى الله عليه وسلم: "إن الله فرض فرائض فلا تضيعوها، وحدَّ حدودا فلا تعتدوها، وحرم أشياء فلا تنتهكوها، وسكت عن أشياء - رحمة بكم من غير نسيان -؛ فلا تبحثوا عنها".
وعليه فمسألة الاحتفال بالمولد النبوي الشريف مما تركه الصحابة رضي الله عنهم؛ لعدم وجود الداعي إليه؛ لشدة تعلقهم بالجناب النبوي الشريف، ورؤيتهم إياه في كل حين، وهذا لا يدل على أنهم رأوا الاحتفال به حراما؛ لأن هذا الأمر لم يكن معهودا لديهم، حتى رأى المسلمون في عصور لاحقة - والعلماء متوافرون لا ينكرون - أن يجعلوا من يوم مولده صلى الله عليه وسلم احتفالا يظهرون فيه الفرح والسرور بيوم مولده الشريف، ويتقربون فيه إلى الله تعالى بأنواع الطاعات والقربات من تلاوة القرآن والحديث والسيرة ودروس العلم وقراءة المولد الشريف والمدائح النبوية والإكثار من الصلاة والسلام عليه وإطعام الطعام ومد الولائم توسعة على المسلمين، كما وسع الله عليهم ببعثة خاتم المرسلين، وتذكيرا لهم بهذه النعمة العظيمة، فاجتمع في هذا الاحتفال أنواع شتى من العبادات والقربات، كل واحدة منها مشروعة برأسها، فكيف إذا انضمت إلى غيرها؟!
ومما يدل على عناية علماء الإسلام بأمر المولد؛ أنه قلَّ عالمٌ من العلماء أو حافظٌ من الحفاظ إلا ألَّف مولدا للنبي صلى الله عليه عليه وسلم!
وقد فعل المسلمون أشياء لم تكن موجودة في زمن الصحابة، بل فعلها الصحابة أنفسهم، كجمع القرآن في المصحف، ولم يقل أحد إنهم ابتدعوا في دينهم، سواء سمي ذلك بدعة حسنة، أو مصلحة مرسلة!
فلو قلنا: إن الاحتفال بمولده صلى الله عليه وسلم من باب المصالح المرسلة - يعني المطلقة التي تتجدد بحسب حاجة الناس إليها - ولم يشهد لها الشرع باعتبار ولا بإلغاء؛ لم نبعد عن المقصود، والمصالح المرسلة دليل شرعي قال به المالكية والحنابلة، وقيده الحنفية والشافعية بشروط، منها اندراجه تحت أصل شرعي كلي، وهو هنا مندرج تحت أصول كثيرة لا أصل واحد، كما بينه شيخ الإسلام الحافظ ابن حجر مستدلا له بصيام يوم عاشوراء احتفالا بنجاة موسى وقومه من فرعون، وزاده بسطا وإيضاحا الحافظ جلال الدين السيوطي في رسالته (حسن المقصد في عمل المولد)!
ونحن في عصر المادة التي عصفت بالقلوب والأرواح، وأحالت حياة الناس إلى ما يشبه حياة الآلة؛ نحتاج إلى مثل هذه المناسبات لإنعاش القلوب والأرواح، والتذكير بمجد الإسلام، وإعادة الأمل والثقة إلى قلوب المسلمين من جديد، فيكون عمل المولد مشروعا لتحقيق هذه المقاصد المشروعة، وكذلك الاحتفال بسائر ذكريات الإسلام المجيدة كالهجرة وليلة الإسراء والمعراج وليلة النصف من شعبان!
وعلى فرض كون الاحتفال بالمولد بدعة؛ فهي بدعة حسنة، فنعمت البدعة هي!
ودونك أقوال بعض كبار الأئمة تشهد بأنه ليس كل ما أُحدث يكون بدعة مذمومة!
قال ناصر السنة، ومجدد القرن الثاني، الإمام محمد بن إدريس الشافعي رضي الله عنه - كما رواه عنه البيهقي في مناقبه -:
"المحدثات من الأمور ضربان:
أحدهما: ما أُحدث يخالف كتابا أو سنة أو أثرا أو إجماعا؛ فهذه البدعة الضلالة.
والثاني: ما أحدث من الخير، لا خلاف فيه لواحد من هذا؛ فهذه محدثة غير مذمومة".
ورواه الحافظ أبو نعيم عنه في (الحلية) بلفظ:
"البدعة بدعتان، بدعة محمودة، وبدعة مذمومة، فما وافق السنة فهو محمود، وما خالف السنة فهو مذموم، واحتج بقول عمر بن الخطاب في قيام رمضان (نعمت البدعة هي)".
وقال حجة الإسلام، ومجدد القرن الخامس، الإمام أبو حامد الغزالي في (الإحياء) تأسيسا على كلام الإمام الشافعي:
"وما يقال: إنه أُبدع بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فليس كل ما أبدع منهيا، بل المنهي بدعة تضاد سنة ثابتة، وترفع أمرا من الشرع، مع بقاء علته، بل الإبداع قد يجب في بعض الأحوال إذا تغيرت الأسباب!".
وقال مجدد القرن السابع، الإمام العز بن عبد السلام في كتابه (قواعد الأحكام):
"البدعة منقسمة إلى واجبة، ومحرّمة، ومندوبة، ومكروهة، ومباحة".
ثم قال:
"والطريق في ذلك أن تُعرض البدعة على قواعد الشريعة، فإن دخلت في قواعد الإيجاب فهي واجبة، أو في قواعد التحريم فهي محرمة، أو الندب فمندوبة، أو المكروه فمكروهة، أو المباح فمباحة".
وقال الإمام النووى فى (شرحه على صحيح مسلم):
"قوله صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ: (وَكُلُّ بِدْعَةٍ ضَلاَلَةٌ) هذا عامٌّ مخصوص، والمراد غالب البدع.
قال أهل اللُّغة: هي كلّ شيء عمل عَلَى غير مثال سابق.
قال العلماء: البدعة خمسة أقسام: واجبة، ومندوبة، ومحرَّمة، ومكروهة، ومباحة.
فمن الواجبة نظم أدلَّة المتكلّمين للرَّدّ عَلَى الملاحدة والمبتدعين وشبه ذلك.
ومن المندوبة تصنيف كتب العلم وبناء المدارس والرُّبُط وغير ذلك.
ومن المباح التّبسط في ألوان الأطعمة وغير ذلك.
والحرام والمكروه ظاهران..
فإذا عرف ما ذكرته علم أنَّ الحديث من العامّ المخصوص، وكذا ما أشبهه من الأحاديث الواردة، ويؤيّد ما قلناه قول عمر بن الخطَّاب رَضِيَ اللهُ عَنْهُ في التّـَراويح (نعمت البدعة)، ولا يمنع من كون الحديث عامًّا مخصوصًا قوله (كُلُّ بِدْعَةٍ) مؤكّدًا بـ كلّ، بل يدخله التَّخصيص مع ذلك كقوله تعالى (تُدَمّرُ كُلَّ شَىءٍ) [الأحقاف ءاية 25]".
وقال أيضا في (شرحه على صحيح مسلم):
"قوله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (مَنْ سَنَّ فِي الإِسْلاَمِ سُنَّةً حَسَنَةً، فَلَهُ أَجْرُهَا…) إلى ءاخره، فيه الحث على الابتداء بالخيرات، وسن السنن الحسنات، والتحذير من اختراع الأباطيل والمستقبحات..
وفي هذا الحديث تخصيص قوله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة)، وأن المراد به المحدثات الباطلة والبدع المذمومة".
وقال أمير المؤمنين في الحديث، الحافظ أحمد بن حجر العسقلاني في (الفتح):
"قوله: قال عمر: (نعم البدعة) في بعض الروايات (نعمت البدعة) بزيادة التاء، والبدعة أصلها ما أحدث على غير مثال سابق، وتطلق في الشرع في مقابل السنة، فتكون مذمومة، والتحقيق إن كانت مما تندرج تحت مستحسن في الشرع فهي حسنة، وإن كانت مما تندرج تحت مستقبح في الشرع فهي مستقبحة، وإلا فهي من قسم المباح، وقد تنقسم إلى الأحكام الخمسة".
وقال أيضا في (الفتح):
"وكل ما لم يكن في زمنه [صلى الله عليه وسلم] يسمى بدعة، لكن منها ما يكون حسنا، ومنها ما يكون بخلاف ذلك".
وقال الإمام بدر الدين العيني الحنفي في (عمدة القاري):
"والبدعة في الأصل إحداث أمر لم يكن في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلّم، ثم البدعة على نوعين: إن كانت مما يندرج تحت مستحسن في الشرع؛ فهي بدعة حسنة، وإن كانت مما يندرج تحت مستقبح في الشرع؛ فهي بدعة مستقبحة".
وقال الإمام القرطبي المالكي في تفسيره المسمى: (الجامع لأحكام القرآن):
"كل بدعة صدرت من مخلوق؛ فلا يخلو أن يكون لها أصل في الشرع أو لا، فإن كان لها أصل؛ كانت واقعة تحت عموم ما ندب الله إليه، وحض رسوله عليه، فهي في حيز المدح! وإن لم يكن مثاله موجودا، كنوع من الجود والسخاء وفعل المعروف، فهذا فعله من الأفعال المحمودة، وإن لم يكن الفاعل قد سبق إليه!".
هذه شذرات يسيرة مما عليه جمهور علماء الأمة من تقسيم البدعة إلى حسنة وسيئة، ومحمودة ومذمومة، خلافا لابن تيمية وتلميذه ابن القيم ومن تابعهما، ولسنا ننكر اجتهادهم، ولكننا ننكر اعتبار اجتهادهم هو الحق المطلق الذي لا شك فيه، واجتهاد جماهير علماء الأمة هو الباطل المطلق الذي لا شك فيه!
فهل بعد هذا كله يشك عاقل في مشروعية الاحتفال بمولد النبي صلى الله عليه وسلم، واعتباره من البدع المحمودة على أقل تقدير، إن لم يكن من السنن المشروعة، بل من المقاصد الشرعية الواجبة في هذا الزمان الذي اغترب فيه الإسلام!
بقلم: أد/ محمد إبراهيم العشماوي
أستاذ الحديث الشريف وعلومه في جامعة الأزهر الشريف
مسألة التَرْك (مهمة جداً) :
يستدل كثير من سلفية اليوم على عدم جواز أمور كثيرة يقوم بها المسلمون بحجة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يفعلها هو وأصحابه رضي الله عنهم،
فهل ترك النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه لأمر يدل على عدم جواز فعله؟
إن موضوع هذا السؤال ألَّفَ فيه الشيخ العلامة السيد عبد الله بن الصديق الغماري رسالة سماها: «حسن التفهم والدرك لمسألة الترك»، وقد افتتحها بأبيات جميلة حيث قال:
الترك ليس بحجة في شرعنا .:. لا يقتضي منعا ولا إيجابا
فمن ابتغى حظرًا بتـرك نبينا .:. ورآه حكمًا صادقًا وصوابا
قد ضل عن نهج الأدلـة كلها .:. بل أخطأ الحكم الصحيح وخاب
لا حظر يمكن إلا إن نهي أتى .:. متوعــدا لمخالفيه عذابا
أو ذم فعل مؤذن بعقـوبة .:. أو لفظ تحـريم يواكــب عابا
ولقد اتفق علماء المسلمين سلفًا وخلفًا شرقًا وغربًا على أن الترك ليس مسلكًا للاستدلال بمفرده، فكان مسلكهم لإثبات حكم شرعي بالوجوب أو الندب أو الإباحة أو الكراهة أو الحرمة هو:
1- ورود نص من القرآن.
2- ورود نص من السنة.
3- الإجماع على الحكم.
4- القياس.
واختلفوا في مسالك أخرى لإثبات الحكم الشرعي منها:
1- قول الصحابي.
2- سد الذريعة.
3- عمل أهل المدينة.
4- الحديث المرسل.
5- الاستحسان.
6- الحديث الضعيف، وغير ذلك من المسالك التي اعتبرها العلماء، والتي ليس بينها الترك.
فالترك لا يفيد حكمًا شرعيًّا بمفرده، وهذا محل اتفاق بين المسلمين، وهناك من الشواهد والآثار على أن الصحابة رضي الله عنهم لم يفهموا من تركه صلى الله عليه وسلم التحريم ولا حتى الكراهة، وذلك ما فهمه الفقهاء عبر العصور.
وقد رد ابن حزم في المُحلي على احتجاج المالكية والحنفية على كراهة صلاة الركعتين قبل المغرب بسبب ما ذَكَرُوا عَنْ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ أن أبا بكر وعمر وعثمان كانوا لا يصلونها، حيث قال ما نصه:
«وهذا لا شيء أول ذلك أنه منقطع لأن إبراهيم لم يدرك أحدًا ممن ذكرناه ولا ولد إلا بعد قتل عثمان بسنين، ثم لو صح لما كانت فيه حجة لأنه ليس فيه أنهم رضي الله عنهم نهوا عنهما ولا أنهم كرهوهما، ونحن لا نخالفهم في أن ترك جميع التطوع مباح» .
فلم يتوقف كثيرًا ابن حزم أمام ترك الصحابة لصلاة الركعتين ، وقال : إن تركهم تلك الصلاة لا شيء طالما أنهم لم يصرحوا بكراهتها ولم ينقلوا ذلك.
وهذا مسلكه مع ترك الصحابة لعبادة، وكان ذلك عين موقفه من ترك النبي صلى الله عليه وسلم لعبادة أصلها مشروع فما صام عليه الصلاة والسلام قط شهرًا كاملًا غير رمضان، وليس هذا بموجب كراهية صوم شهر كامل تطوعًا ،
فلقد فهم من ترك النبي صلى الله عليه وسلم صيام شهر كامل غير رمضان، ما لا يدل على حرمة ولا كراهة صيام شهر كامل غير رمضان، حتى وإن كان النبي صلى الله عليه وسلم لم يفعله.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق