السبت، 29 فبراير 2020

تغيير المنكر وأحكامه

تغيير المنكر
رجع الشاب من مغتربه بعد غياب سنة كاملة ، كان فيها مكدا مجدا ، رجع بمبلغ من المال يرفع عن أسرته نير الديون ، ويعطيها دفعة إلى الأمام نحو الاستقرار والعيش الكريم ، رجع إذن بغنى مادي نسبي . ولكن الغنى الأكبر في حياته ، كان في لفهم الذي بدأ يتغلغل في عقله عن طبيعة هذا الدين ، وفي الحب الجارف الذي سيطر على كيانه لنصر الإسلام والدعوة إليه ، وحمل القاضي والداني من الأقارب والأحباب والأصحاب على الالتزام به ، والسير على نهجه .
وللغنى غوائله ، ولجريان المال في اليد فعله الساحر الذي يزلزل كيان الإنسان ، ويهز قواعد الثبات عنده ـــ إلا من حرم الله ـــ وصف الله هذه الحالة بقوله : ( كلا إن الإنسان ليطغى ، أن راه استغنى )
[ العلق : 6ـ7 ].
فهو طغيان بأي شكل من الأشكال كان .
والناس مع الغني يتنازلون عن الشيء الكثير ، وأقرب تنازلاتهم التسليم له بما يقول أو يفعل ، وأضعف الإيمان السكوت عن رضى أو مداراة .
وللحماس أيضا غوائله ، من الاعتزاز بالنفس ، والاغترار بالبضاعة القليلة من الفهم أو العلم ، وما يتبع ذلك من استعلاء على الآخرين ، وتطاول على المتقدمين ، وحمل الناس بالحق أو بالباطل على موافقة صاحبه على رأيه أو موقفه ، واتهام المخالفين بالمروق من الدين ، أو الفهم السقيم .
عاد الشاب المغترب بغنى مادي نسبي ضمن له السكوت من الآخرين ، وبحماس ملتهب جعله كالسيل لا يقف ، ولا يلتفت إلى جانبي الوادي ، يجرف في طريقه كل معترض أو مخالف .
الفرحة نعم البيت بالأخ الأكبر والابن البكر الذي عاد بعد غياب سنة كاملة ، لأول مرة في حياته وحياتهم ، وجد أخيه العروس التي لم يمض على زواجها ستة أشهر في البيت تنتظره مع بقية العائلة ، وبعد أن سلم وجلس ، وتبادل الفرحة معهم ، لاحظ التغير على أخيه في ملبسها وزينتها ، فقد أصبحت زوجة ، وهي الآن في شهور العسل ...
امتعض لهذه الملابس القصيرة ، التي تكشف عن الساقين ، والشعر المكشوف ، والزينة الواضحة ، التي لا تختفي عن قريب أو بعيد ، فغضب غضبة مضرية ، وأمر أخته بتبديل هذه الثياب ، وعدم الخروج بها إلى الشارع ، مهما كانت الظروف ، ولو كانت رغبة الزوج نفسه ، لأنها مخالفة لأمر الله ، و((لا طاعة المخلوق في معصية الخالق )) .
فاشتد النقاش ، وعلا الصوت ، فحسم الأب القضية بإرجاء الحوار والحديث في هذا الموضوع إلى ما بعد .
شعر الشاب المتحمس أنها مناورة ، وأنهم لن يستجيبوا لدعوة الله التي يحملها لهم من مغتربه ، وهم المسلمون !! ولكن فتنة المدينة الحديثة ، وحب التقليد ومسايرة العصر طغت عليهم ، وهو يريد إرجاعهم إلى حظيرة الإسلام ، إلى التدين الصحيح .
مضت الأيام وهم لا يستجيبون لدعوته ، يملؤهم الاستخفاف بصغر سنه ، والأخت ما زالت على عنادها ، فقام إلى ملابس العرس جميعها ، فأخذها وكومها كومة في منتصف الحديقة ، وسكب عليها ((الكاز)) وأشعل فيها النار ، بين صباح واعتراض ورجاءات وتوسلات ، ولكن السيل الجارف من الحماس داس على كل هذه المعوقات وتخطاها ، ونقذ الشاب ما يريد ، وهو بذلك مسرور لأنه غير المنكر بيده ، كما قال النبي (ص) اقتنعوا أو لم يقتنعوا ، المهم أنه استراح لمقدرته على تغيير المنكر ، وبأعلى درجات التغيير .
الإسلام دين متكامل ، تتجمع أجزاؤه لتكمل بعضها بعضا ، فهي كالحلقات المتصلة في سلسلة ، فالحلقة الواحدة تتصل مع هذه بطرف ، ومع تلك بطرف ، وإذا قطعت واحدة نقض التسلسل والتماسك .
ورغم قوة التماسك والتكامل هذه ، إلا أن المشرع وضع داخل بناء الإسلام نفسه ، وفي منهجه أسس المناعة الداخلية ضد الانحراف والتميع والتفكك ، حتى يبقى الاسلام قويا .
وطالما أن أفراد المسلمين أخذوا بمبدأ المناعة الداخلية فالإسلام في نفوسهم وحياتهم بخير ، أما إن تركوا قضية المناعة جانبا ، وانشغل كل واحد بنفسه ؛ دارت الدائرة عليهم ، بعد أن تصيب غيرهم ، فهم ليسوا بمنأى عن الشر .
والمناعة التي نقصدها هي الموضوع : الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وهي قضية الاسلام الهامة التي تبقيه حيا في نفوس المسلمين ما تمسكوا بها .
والأمر بالمعروف ـــ وهو الشق الأول لهذا المبدأ العظيم ـــ أيسر على النفوس من تغير المنكر ، ولذا يجد الداعي إلى تعيير المنكر الكثير من العنت والعداوات ، حتى ولو كان حصينا ماهرا .
ونحن لسنا في حاجة للتدليل على أهمية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في حياة المسلمين ، فالنصوص كثيرة من الكتاب يعرفها الجميع ، وما أظن أن هناك أحدا من المسلمين البالغين إلا وطرق
سمعه شيء من هذه النصوص ، حتى بات الجهل بها ليس عذرا ، كما هي المقولة العليمة المعروفة : (( لا يعذر في دار الإسلام الجهل بالأحكام )).
ولمن الأمر في قضيتنا هذه ، هو الفهم التطبيقي لبعض جوانب هذا المبدأ الحيوي ، الذي لا بد أن يعم المسلمين ، ويرفرف على حياتهم .
ولعل أقرب هذه النصوص مأخذا ، قول النبي : ((من رأى منكم منكرا فليغيره بيده ، فإن لم يستطيع فبلسانه ، فإن لم يستطيع فبقلبه وذلك أضعف الأيمان )) (1) . والنبي (ص) في هذا النص حدد درجات تغيير المنكر ، وأناط المسؤولية بآحاد المسلمين (أفرادا) ـــ وفي نصوص أخرى أناطها بالجماعة ـــ وبذلك لا يعذر أحد بترك الجهاد في تغيير المنكر ، بدعوى أن لا جماعة تساعده ، وجعل هذه الدرجات في مكنة كل فرد على اختلاف مقدراتهم . فسقط الاعتذار ، وردت الحجج على المتخاذلين.
ولكن القضية التي التبست على كثير من الناس ، هي قضية تحديد الدرجة التي يكون عليها الفرد عند تغيير المنكر في حادة معينة ، فوقع الخلط ، وهذا بدوره أدى إلى كثير من المصادمات والمشاكل في حياة الناس ، أفرادا وجماعات .
ولكي نبسط القضية نقول : أن تغيير المنكر بالقلب ـــ وهي أضعف الإيمان ـــ درجة تعم الجميع ، ولم تترك عذرا لأحد . فكل مسلم ـــ مهما كان ضعيفا ـــ يملك تغيير المنكر بالقلب ، وحدوده (( كراهية المنكر ، وعدم مودة فاعلية مهما كانوا )) . يوضح هذا الموقف قول سيدنا أبراهيم (عليه السلام) بعد أن نصح قومه ، وأمر بالمعروف ونهى عن المنكر ، فلم يستجيبوا له : ( وأعتز لكم وما تدعون من دون الله ، وأدعوا ربي عسى ألا أكون بدعاء ربي شقيا ) [الشعراء:168ـ169] وهذه درجة يملكها كل فرد من المسلمين ، فإن قال قائل : قد يجبر فرد على
(1) رواه المسلم . رياض الصالحين ص 100
المشاركة تحت ضغط الوظيفة أو العائلة أو سلطان جائر !! قلنا : قد !! ولكن القلب وكراهيته لا يملكها أحد من البشر ، ولا سلطان على القلب إلا لله رب العالمين ، فلتكن الكراهية المركوزة في القلب ، والتي لا تترك صاحبها يستمتع بشيء خالطه المنكر ، تماما كما هي درجة المضطر الذي أبيح له أكل الجيفة !! هل يستلذ بها أو يقوم عليها ؟!!
أما الدرجة الثانية ، وهي تغيير المنكر باللسان ، فهي لفئة مخصوصة ، أكثر قدرة من الفئة السابقة ، وهي طبقة الوعاظ ، والعلماء ، والمعلمين ، وكل فرد مسلم يملك هذه المقدرة ، سواء أكانت علما أو جرأة أو فصاحة ، وكلما خص إنسان بنعمة من هذه النعم أكثر من غيره ؛ لزمته الحجة ، وكان أكثر مسؤولية أمام الله عز وجل عن تقصيره ، قال النبي الله موسى (عليه السلام) عندما أمره الله أن يذهب إلى فرعون لينصحه ويأمره بالمعروف وينهاه عن المنكر : (وأخي هارون هو أفصح مني لسانا ، فأرسله معي ردءا يصدقني ، إني أخاف أن يكذبون)[القصص:34].
وأما الدرجة الثالثة ، وهي تغيير المنكر باليد ، فهي مسؤولية فئة من الناس قد خصهم الله بالسلطان ، فهم مسؤولون عن تغييره بأيديهم داخل سلطانهم ولا يعذرون بتركه .
ومجال السلطان يختلف من واحد إلى آخر ، فالحاكم في دولته أكبر سلطانا من الوزير في وزارته ، والوزير في وزارته أكبر سلطانا من المدير في دائرة داخل الوزارة الواحدة ، ورئيس القسم أقل مسؤولية من المدير ، والأب في أسرته يملك سلطانا على أهله وأولاده ، والمدرس في تلاميذه له هذا السلطان ... الخ . ولكن العكس ليش صحيحا ، ومن هنا جاء الخلط . فالمدرس يملك سلطانا على تلاميذه ، ولكن ليس له سلطان على المدرسة كلها بما فيها المدير مثلا ، في حين أن المدير له سلطان على هذا المدرس وغيره من المدرسين وكذلك على تلاميذ المدرسة جميعا ، والأب له سلطان على أبنائه وزوجته ، ولكن ليس له سلطان على الحكومة أو الدولة بأسرها ... وهكذا.
فصاحب السلطان ـــ المقدر بقدره ، كل حسب ما وهبه الله من سعة السلطة أو ضيقها ـــ مسؤول أمام الله عن تغيير المنكر بيده داخل سلطانه وفي حدوده .
وهنا تنشأ تساؤلات : هل للمسلم أن يترك درجة هو فيها إلى درجة أضعف ؟ كأن يملك التغيير باليد ، فيتركها إلى اللسان ، أو باللسان ، فيتركها إلى القلب بغير عذر ؟ وما هو العذر المسوغ لهذا التحول من درجة إلى أخرى أقل ؟
وقبل أن يجيب عن هذه الأسئلة ، نحب أن نوضح أن كلمة أو درجة ((بيده)) لا تعني حرفية الكلمة ، بل قد تكون اليد القوة والسلطان القاهر ، فأمره هنا ـــ وإن كان باللسان ـــ في قوة التغيير باليد . أرأيت لو أن حاكما مر في شارع فرأى خمارة أقيمت ، فهل عليه أن يأخذ فاسا بيده ويحطمها أو يزيلها ، أم يكفي فيها الأمر بإزالتها ؟ وهذا الأمر من الحاكم له قوة التغيير باليد . أرأيت لو أن أبا رأى قد ترك شعره حتى أصبح خنفوسا ، متشبها بالكفار والفاسقين ، فهل عليه أن يمسك بالمقص ويزيل الشعر ، أم يكفيه الأمر باللسان ، وهو بالنسبة له في قوة التغيير باليد ؟
إذن اليد هنا تعني ـــ في معناها الواسع ـــ السلطان القاهر أو الأمر الذي لا يرد أو يكسر .
وأما بالنسبة للأسئلة السابقة ، وإن كان ظاهر الحديث يوحي بالتدرج من اليد إلى اللسان إلى القلب ، ولكني أعتقد أنه لا يُقصد هذا الترتيب لذاته ، بل الأمر فيه متروك لتقدير الداعية نفسه للموفق الذي أمامه ،ودليل هذا أن الله عز وجل قال:( ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن ) (النحل:125) ويلمح عكس هذا الترتيب تماماً في تغير المنكر في الحياة الزوجية مثلاً ، فالمرأة التي تنشز عن طاعة زوجها ، أو يتوقع منها هذا ــ وهو منكر بلا شك ــ وضع الله لزوجها أسس تأديبها ، فبدأ بأخف الأمور ، منتهياً بأصعبها فقال تعالى :(واللاتي تخافون نشوزهن فعظوهن ، واهجروهن في المضاجع ، واضربوهن ، فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلاً) (النساء : 34).
والترتيب في تغير المنكر بين الدرجات ليس بلازم ، وإنما يترك الأمر لتقدير الداعية لنفسه ، ولموفقه ، وللمنكر المراد تغييره ، وأصلح الطرق وأقومها في الوصول إلى الغاية المرجوة.
أما الأعذار التي تبيح للمسلم الانتقال من درجة إلى درجة اخرى ، أو الأخذ بدرجة دون غيرها فكثيرة ، أهمها في تقديري : الخوف على النفس أو المال ، دون تحقيق الغاية المرجوة من الانكار. هذه واحدة ، والثانية : أن يؤدي تغير المنكر إلى نتائج عكسية فتحدث فتنة أو منكر أشد.
أما دعوى ترك التغيير كلياً ـــ أي إنكار المنكر ـــ خوف عدم النجاح، فهذه خدعة الشيطان، يخوف بها أولياءه، لأن المسلم عليه أن يدعو بتعقل وروية، بلغ النجاح أولم يبلغ ، فقد وقع أجره على الله .
وهناك نقطة تحتاج إلى توضيح في قضية تغيير المنكر، وهي شروط تغيير المنكر . ورغم ما قال العلماء في بيانها وتعدادها ، إلا أنني أرى أن أهم شرطين هما :
1- أن يكون المنكر منكراً في الشرع ، مجمعاً عليه من العلماء ، أما ما كان في مذهب واحد من مذاهب العلماء ، فلا يجوز الإنكار فيه. قال سفيان الثوري ( رحمة الله): ((إذا رأيت الرجل يعمل العمل الذي قد اختلف فيه، وأنت ترى غيره فلا تنه)) (1) لأن هذا الموفق مدعاة للبلبلة والشوشرة بلا مبرر قوي ، ولا فائدة ترجى من ورائه.
2- أن يأمن الداعي من وقوع فتنة لا يدري إلا الله تعالى ما تكون عاقبتها (2) بمعنى أن يتولد عن تغيير المنكر منكر أشد ، ولعل من أبرز الصور في هذا الجانب ، ما حدث مع شيخ الاسلام ابن تيمية ـــ رحمه الله ـــ عند احتلال دمشق ، فعاث الجنود فيها فساداً ، ومن
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) سفيان الثوري . الدكتور محمد البيانوني ص98.
(2) مقدمة كتاب المنهج الأحمد في تراجم أصحاب الإمام أحمد ص 26.
قسادهم شرب الخمر ، وما يتبعه من سكر وعربدة ، فلما قيل له في تغيير المنكر عليهم قال : دعوهم . لأنهم لو فاقوا قتلوا المسلمين . فهو قد ترك تغيير هذا المنكر ، خوفاً من منكر أشد و بلاء أعظم .
ومن القضايا التي تلتبس على كثير من الناس ، قضية تغيير المنكر من الأصغر على الأكبر ، بمعنى هل للابن تغيير منكر عليه أبوه ؟ وهل للتلميذ إنكار المنكر على أستاذه؟... وهكذا . والجواب : نعم ، للأصغر تغيير المنكر الذي يقيم عليه الأكبر ، ولسنا بصدد التوسع في هذه النقطة فمجالها بطون الكتب ، أو دراسة أوسع ، ولكننا نبسط القول فيها فنقول : له أن يغير المنكر باللسان (( الموعظة الحسنة)) مع الأدب والأحترام والتوقير، فإن أصر الأكبر على موقفه ، فللأصغر تغييره باليد ، مع الأخذ في الأعتبار عدم فتنة أو مشكلة أكبر من المنكر ذاته (1)
ومن القضايا التي يجب الالتفات إليها في تغيير المنكر ـــ لاسيما باليد ـــ أن اتلاف المنكر لا بد يقتصر على المحرم نفسه ، ولا يتجاوزه إلى الحلال أو المباح ، أو الحلال الذي لابسه حرام ، فلو تبدل الوضع لأصبح حلالا صرفا ، هنا لا يجوز التعدي بالا تلاف . ولكي نوضح هذه النقطة وتبسطها نقول : لو أن زجاجة فيها خمر . الخمر حرام ، لكن الزجاجة لا خمر لها استخدامات مفيدة ، فيقتصر الأمر على إراقة الخمر ولا يتعداها إلى كسر زجاجة ، وفي قصتنا ، إن الملابس في حد ذاتها مباحة ، وحلال لها ، ولكن الذي جعلها محرمة
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) راجع إحياء علوم الدين ج2ص315 ـ319 فقد بسط الغزالي القول فيها
كونها تخرج بها ليراها غير المحارم ، فأصبحت حراما ، فلو تغير الوضع ، ولم تخرج بها ليراها الأجانب ، واقتصرت في لبسها على البيت وأمام محارمها المنصوص عليهم في سورة النور (الآية :31) لأصبحت الملابس حلالا ولبسها مباحا ولا حرج فيه ، هنا لا يجوز التعدي بإتلاف الملابس كما حدث مع صاحب الحادثة .
وأريد بعد كل هذا أن أهمس في آذان الدعاة ، همسات تنفذ كن الأذن فتصل إلى القلب ، فتخالطه وتلامس شغافه ، وتبلل جفافه .
يا دعاة الإسلام ، يا من اتخذتم طريق الدعوة إلى الله مسلكا صبغ حياتكم ، وقالبا شكل أمانيكم وطموحاتكم ، يا من اخترتم أعلى درجات الحسن في الحياة الدنيا والآخرة بشهادة رب العالمين : (ومن أحسن قولا ممن دعا الى الله وهمل صالحا وقال إنني من المسلمين ) [ فصلت :33] .
تعالوا نسأل أنفسنا أسئلة ،نتعرف من خلالها على حقيقتنا وحقيقة من يحيط بنا ، حقيقة البيئة التي نتحرك فيها . من نحن ؟ ومن الناس الذين نعيش معهم ونتوجه إليهم بالدعوة ؟ ما البيئة التي نعيش فيها نحن وهم ؟ نحن مسلمون ، والناس الذين نعيش معهم مسلمون ، فهم أهلنا وإخوتنا وأقاربنا ، يشعدون أن لا إله إلا الله ، وأن محمدا رسول الله ، ويصلون صلاتنا ، ويأكلون دبيحتنا ، لهم ما لنا ، وعليهم ما علينا آمالنا وطموحاتنا وآلامنا واحدة ، لا فرق .. لا فرق ..
الفراق الوحيد بيننا وبينهم ، أن الإسلام في قلوبنا متحرك ، وفي قلوبهم نائم مخدر . الإسلام في قلوبنا متحرك عن الحياة كلها ، ونفذ إلى كل خلية في الكون وفي أجسادنا ، وعندهم اقتصر على صلوات بلا روح ، وعبادات فوعت من هدفها ، وقيم جمدت في خزانة تاريخ الإسلام .
نحن من عهد قريب كنا مثلهم ، فأنعم الله علينا بالفهم والهداية ، ففهمنا واهتدينا ، وصدق الله عظيم : ( كذلك كنتم من قبل فمن الله عليكم فتبينوا إن الله كان بما تعلمون خبيرا ) [ النساء:94] ، ولو عاد الواحد منا إلى الوراء ، لتذكر أنه كان واحدا من هؤلاء ، فمن الله عليه بانسان داعية ـــ رجل أو امرأة ـــ فتح عينيه على حقيقة الإسلام فكأنه يوم رآها كأنما ولد من جديد ، وهو يحمل لهذا الإنسان كل حب ومودة ومنة في رقبته إلى يوم القيامة ، يشهد له بالأستاذية وبالفضل ، الذي خرج به من الظلام إلى النور ، ومنالضلال إلى الهدى ، ومن الضياع إلى الوضوح والاستقرار الرؤية الصائبة .
ولو عدنا إلى الوراء ، لتذكرنا أن هذا الذي فتح عيوننا على حقيقة الإسلام ، أخذنا إليها برفق ولين ، ولم يأتنا بالضغط والقسوة والشدة ، لأن الذي يوافقك على رأيك مكرها ، وافقك خوفا لا زال عند رأيه الأول )) ، وأن تقدم لإنسان جرعة عسل يستسيغها أحب إليه من برميل علقم .
وندرك أهمية الرفق في الدعوة إلى الله ، من هذا التركيز والاهتمام اللذين أولاهما الاسلام للرفق واللين ، ففي القرآن الكريم والسنة المطهر فيض من النصوص التي تطالب بهذا الرفق ، فالله تعالى يقول : ( أدع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن إن ربك هو أعلم يمن ضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين ) [ النحل : 125ٍ] وفي الصحيحين من جديث عائشة (رضي الله عنها) قال رسول الله (ص) : (( إن الله رفيق يحب الرفق في الأمر كله )) (1) وفي صحيح مسلم من حديث عائشة (رضي الله عنها) : (( إ، الرفق لا يكون في شيء إلا زانه ، ولا ينزع من شيء إلا شانه)) (2) ذبك أن التوفيق والنجاح مقرون بالرفق ، لأن القضية أساسا تتعامل مع القلوب الآخرين دونه , ولذلك يقول الله عز وجل لنبيه (ص) : ( فما رحمة من الله لنت لهم ، ولو كنت فظا غليظ القلب لا نفضوا من حولك ) [ آل عمران : 159] ولهذا كانت توجيهات الرسول (ص) ــ المجرب الأساليب ، وأستاذ الدعوة النجاح والفلاح ، ففي حديث جرير بن عبدلله (رضي الله عنه) قال : سمعت الرسول الله (ص) يقول : (( من يحرم الرفق يحرم الخير كله )) (3) وفي حديث عائشة ( رضي الله عنها) أن النبي (ص) قال (( إن الله رفيق )
متفق عليه. رياض الصالحين ص 275.(1)
(2)المصدر السابق.
(3) رواه مسلم . رياض الصالحين ص 275.
يحب الرفق ، ويعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف ،وما لا يعطي على ما سواه))(1).
ولعلكم سمعتم أو قرأتم القصة الرمزية (الأسطورة) التي تتحدث عن المنافسة بين الشمس والريح في مقدرة كل منهما على إجبار بدوي في الصحراء على خلع ردائه ، فقالت الريح : أنا أقدر منك،

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق