رد قضيّة التكفير عند سيد قطب
قضية المفاصلة عند قطب هي المفاصل الشعورية التي لابد أن تنشأ تلقائياً في حس المسلم الملتزم تجاه من لا يلتزمون بأوامر الإسلام ولكنها ليست المفاصلة الحسية المادية
قطب وصف الأمة اليوم بالأمة الإسلامية رغم أنه يراها أمة تعيسة ولم تطبق أحكام الإسلام في واقعها فلم ينفِ عنها إسلامها
يرى أن مهمتنا ليست إصدار الأحكام على الناس ولكن تعريفهم بحقيقة: «لا إله إلا الله» لأن الناس لا يعرفون مقتضاها الحقيقي وهو التحاكم إلى شريعة الله
تطرقتُ في أكثر من مرة لقضية التكفير عند سيد قطب رحمه الله تعالى، وهذا الموضوع أُشبع نقاشاً في مؤلفات ومقالات كثيرة، وفي الإعادة إفادة، فقد اتفق الكثيرون من الأقرباء لسيد قطب وحتى بعض مخالفيه بأنه صاحب أسلوب أدبي رفيع، وموهم أحياناً بعباراته، وكذلك مصطلحات مجملة تحتاج إلى بيان.
سيد قطب بالاتفاق لم يقم بالتكفير عيناً لأشخاص أو مجتمعات أو دول، وهذا يحرر موطن النزاع أكثر بأن الخلاف لفظي وناتج عن فهم السياق والمواضع، الفهم الخاطئ للكلام المنزل أو البشري لا يستلزم حمل النصوص لجانب معين وينطبق هذا على سيد قطب؛ ففهم كلامه لنتيجة معينة لا يستلزم صحة الفهم، الآيات والأحاديث وأقوال السلف قد تفهم بطريقة خاطئة؛ فكيف بأقوال سيد قطب؟ حيث يتم استنتاج المعاني بالتحقيق والبحث العلمي الشامل، وأذكر أن الشيخ محمد أحمد الراشد قال لنا: إنهم تدارسوا كتب سيد قطب بالعراق مثلاً ولم يفهموا معاني تكفيرية، فلا يقاس فهم البعض على الحقيقة، وهنا أضع بعض الأقوال لعبارات أكثر وضوحاً لموقف سيد قطب من التكفير:
1- نقل المستشار عبدالله العقيل عن سيد قطب قوله: «إن مهمتنا ليست إصدار الأحكام على الناس، ولكن مهمتنا تعريفهم بحقيقة لا إله إلا الله؛ لأن الناس لا يعرفون مقتضاها الحقيقي وهو التحاكم إلى شريعة الله» (من كتاب «أعلام الحركة الإسلامية» لعبدالله العقيل، ص 652).
2- هنا يبين مبدأ استخدام القوة لفرض النظام الإسلامي في المكان الذي لا يطبقه، وها هو الشهيد يصف المجموعة التي تولى تربيتها عام 1965م، عندما تم اعتقاله تمهيداً لإعدامه: «لقد اتفقنا على مبدأ عدم استخدام القوة لقلب نظام الحكم وفرض النظام الإسلامي من أعلى؛ لأن المطالبة بإقامة النظام الإسلامي وتحكيم شريعة الإسلام ليست هي نقطة البدء، وإنما هي نقل المجتمعات ذاتها إلى المفهومات الإسلامية الصحيحة، وتكوين قاعدة إن لم تشمل المجتمع كله، فعلى الأقل تشمل عناصر وقطاعات تملك التوجيه والتأثير في اتجاه المجتمع كله إلى الرغبة والعمل في إقامة النظام الإسلامي» (كتاب «شبهات حول الفكر الإسلامي المعاصر» للمستشار سالم البهنساوي، ص 237، وكتاب «العبقري العملاق سيد قطب» ص 83 للأستاذ إبراهيم منير).
3- يكمل سيد قطب موضوع فرض النظام الإسلامي فيقول رحمه الله: «ولا بد إذاً أن تبدأ الحركات الإسلامية من القاعدة، وهي إحياء مدلول العقيدة الإسلامية في القلوب والعقول، وتربية مَن يقبل هذه الدعوة وهذه المفهومات الصحيحة تربية إسلامية صحيحة.. وعدم محاولة فرض النظام الإسلامي عن طريق الاستيلاء على الحكم قبل أن تكون القاعدة المسلمة في المجتمعات هي التي تطلب النظام الإسلامي؛ لأنها عرفته على حقيقته وتريد أن تحكم به...» (جريدة «المسلمون»، من مقالة بعنوان «لماذا أعدموني؟» ذكرت كلمات وكتابات له).
4- محمد قطب يتحدث عن أخيه ومفهومه للتكفير: «إن كتابات سيد قطب قد تركزت حول موضوع معين، هو: بيان المعنى الحقيقي لـ لا إله إلا الله، شعوراً منه بأن كثيراً من الناس لا يدركون هذا المعنى على حقيقته، وبيان المواصفات الحقيقية للإيمان، كما وردت في الكتاب والسُّنة، شعوراً منه بأن كثيراً من هذه المواصفات قد أُهمل، أو غفل الناس عنه! ولكنه مع ذلك حرص حرصاً شديداً على أن يبين أن كلامه هذا ليس مقصوداً إصدار أحكام على الناس، وإنما المقصود به تعريفهم بما غفلوا عنه من هذه الحقيقة، ليتبنوا هم لأنفسهم: إن كانوا مستقيمين على طريق الله كما ينبغي، أم أنهم بعيدون عن هذا الطريق، فينبغي إليهم أن يعودوا إليه».
ويضيف: ولقد سمعته بنفسي أكثر من مرة يقول: «نحن دعاة ولسنا قضاة»، إن مهمتنا ليست إصدار الأحكام على الناس، ولكن مهمتنا تعريفهم بحقيقة «لا إله إلا الله» لأن الناس لا يعرفون مقتضاها الحقيقي، وهو التحاكم إلى شريعة الله! كما سمعته أكثر من مرة يقول: «إن الحكم على الناس يستلزم وجود قرينة قاطعة لا تقبل الشك! وهذا أمر ليس في أيدينا، ولذلك نحن لا نتعرض لقضية الحكم على الناس، فضلاً عن كوننا دعوة ولسنا دولة، دعوة مهمتنا بيان الحقائق للناس، لا إصدار الأحكام عليهم.
أما بالنسبة لقضية المفاصلة، فقد بيَّن في كلامه أنها المفاصلة الشعورية، التي لا بد أن تنشأ تلقائياً في حس المسلم الملتزم، تجاه من لا يلتزمون بأوامر الإسلام، ولكنها ليست المفاصلة الحسية المادية؛ فنحن نعيش في هذا المجتمع، وندعوه إلى حقيقة الإسلام، ولا نعتزله! وإلا فكيف ندعوه؟
5- هنا يفرق سيد قطب بين العالم الإسلامي بشكل عام والمجتمع المطبق للشريعة ويقول: «وإن يوم الخلاص لقريب، وإن الفجر ليبعث خيوطه، وإن النور يتشقق به الأفق، ولن ينام هذا العالم الإسلامي بعد صحوته، ولن يموت هذا العالم الإسلامي بعد بعثه، ولن تموت العقيدة الحية التي قادته في كفاحه» («في ظلال القرآن» ج 2، ص 940)، فهل هذا كلام مَن يكفر الشعوب أم من يحرص عليها ويضع أمله فيها، ويعرف مواطن الضعف والقوة؟
6- سيد قطب يفرق بين الأمة المسلمة كديانة والأمة المطبقة للشريعة أيضاً: «وقد بهتت صورة الزكاة في حسِّنا وحسِّ الأجيال التعيسة من الأمة الإسلامية التي لم تشهد نظام الإسلام مطبقاً في عالم الواقع ولم تشهد هذا النظام يقوم على أساس التصور الإيماني والتربية الإيمانية» (الظلال في تفسير الآية 177 من سورة البقرة).
فالأستاذ سيد وصف الأمة اليوم بالأمة الإسلامية رغم أنه يراها أمة تعيسة ولم تطبق أحكام الإسلام في واقعها، فلم ينفِ عنها إسلامها.
7- هنا يبين سيد قطب بالتحقيق معه الفرق بين المسلم المنتمي للجماعة والمسلم العادي، ويؤكد أنه لا يكفِّر أحداً:
- س: فلم التمييز بين أفراد هذه الجماعة والمسلمين قاطبةً وهم جميعاً أصحاب عقيدة وأهداف وبرنامج؟
- أجاب: التمييز - في رأيي - ليس تمييز شخص على شخص، ولكن فقط باعتبار أن الجماعة ذات برنامج، وأن كل فردٍ مرتبط بهذا البرنامج لتحقيق الإسلام عملياً، وهذا هو وجه التمييز في رأيي (لماذا أعدموني؟).
8- الشيخ فيصل مولوي رحمه الله يذكر نصاً لسيد قطب يفرق بين الأمة والفرد وتطبيق الشريعة في تفسير قوله تعالى في سورة «الأنفال»: "وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يُهَاجِرُواْ مَا لَكُم مِّن وَلاَيَتِهِم مِّن شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُواْ وَإِنِ اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلاَّ عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مِّيثَاقٌ" (الأنفال:72)، يقول سيد قطب: «فهؤلاء الأفراد ليسوا أعضاء في المجتمع المسلم، ومن ثم لا تكون بينهم وبينه ولاية، ولكن هناك رابطة العقيدة»؛ فسيد قطب لم يحكم على هؤلاء المسلمين بالردة مع أنهم يعيشون خارج المجتمع المسلم، واحتفظ لهم بصحة العقيدة، وذلك هو الموقف الصحيح لأن الله تعالى وصفهم بالإيمان.
9- هنا يبين سيد قطب أن الأصل بالمسلم الإسلام بظاهره وهذا الكلام بسورة «النساء» وآخر سور فسرها قبل الإعدام رضي الله عنه في تفسير قوله تعالى: "وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلاَمَ لَسْتَ مُؤْمِناً" (النساء:94)، يقول السيد رحمه الله: «يأمر الله المسلمين إذا خرجوا غزاة، ألا يبدؤوا بقتال أحد أو قتله حتى يتبينوا، وأن يكتفوا بظاهر الإسلام في كلمة اللسان، إذ لا دليل يناقض كلمة اللسان»؛ فيقول الشيخ فيصل مولوي: السيد يكتفي هنا بظاهر الإسلام في كلمة اللسان، ويعتبر الإنسان بذلك مسلماً معصوم الدمّ، ولو قلنا: إنّ سيد قطب يعتبر المؤذن مرتداً بمعنى الكفر واستباحة الدم، لكان هذا متناقضاً مع ما ورد في تفسير هذه الآية عند السيد قطب نفسه يرحمه الله.
كان فكر سيد قطب -رحمه الله- نقلة نوعية في المسار الفكري للصحوة الإسلامية عموما وللإخوان المسلمين خصوصا، وكان على الحركة (الأم) كما أسموها أن تحدد موقفها من هذه الأطروحات.. ووقفت القيادة التقليدية للإخوان في مصر من سيد وأفكاره موقفا رافضا مناوئا.. فقد كانت نظرياته في الحاكمية والولاء والبراء، والمفاصلة مع الجاهلية والتمايز في الهوية والمنهج.. مفرقا هاما كان على الإخوان أن يقرروا السير معه أو الافتراق عنه في ردة فعل تحيد بهم حتى عن ثوابت أساسية كان عليها المنهج عندهم. واختار الإخوان الطريق الثاني تجنبا للصدام مع السلطة وبدت آثار السجن والقمع والسياط جلية في ملامحهم الفكرية الجديدة، فقد كتب المرشد العام حسن الهضيبي كتابه الشهير (دعاة لا قضاة) ردا على كتاب (معالم في الطريق) وما حمله (في ظلال القرآن) من أفكار المواجهة والصدام مع الجاهلية التي يجسدها النظام السياسي القائم، وما يفرض على المجتمعات من تحول.. وهنا افترقت حركة الإخوان المسلمين والصحوة السياسية المعاصرة إلى مدرستين متمايزتين متناقضتين.. فجسد كتاب (المعالم) وفكر سيد عموما، فكر الحــاكمية والتمايز والمفاصلة، وبالتالي الحكم بالكفــر والـردة على أنظمة الحكم القائمة والدعوة الصريحة لجهــ ـادها ورسم معالم طريق هذا الجهـ ـاد.. وشكل كتاب (دعاة لا قضاة) كما يدل عنوانه المعبر، منهج الإخوان الجديد وبداية مسار التراجع الذي ابتدؤوه من حينها، وكانت خلاصة نظريته أن رواد الصحوة الإسلامية عبارة عن دعاة إلى الإسلام والإصلاح، وليسوا قضاة على الحكــام والناس وما هم فيه من أحوال، حتى يحكموا بانتمائهم للإسلام أو خروجهم عنه. وشكل هذا الكتاب أحد أهم مرتكزات الإرجاء السياسي المعاصر في الحركة الإسلامية الناهضة، حيث شملت شهادته بالإسلام للسلطات المـرتدة وأركانها في مصر وغيرها.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق