لم يفعله رسول الله صل الله عليه وسلم ولا الصحابة الكرام ؟!
هل يدل الترك على التحريم ؟
السؤال: شيخنا اذا ترك رسول الله عليه الصلاة والسلام امرا معينا ولم يفعله ، هل يدل ذلك على منعه وتحريمه؟ جزاكم الله خيرا
الجواب: الحمد لله والصلاة والسلام على رسوله الامين وعلى اله وصحبه اجمعين وبعد:
فمن المقرر عند العلماء لابد من التفريق في باب التروك بين العادات والعبادات، فإن (الأصل في العادات الإباحة، بينما الأصل في العبادات التوقيف أو المنع)، فما عدا العبادات فالأصل فيها الحل، فلا يمتنع المكلف عن مطعوم أو مشروب أو ملبوس أو معاملة من المعاملات إلا أن يقوم دليل شرعي على المنع، حسب ما هو مقرر في القاعدة الفقهية المذكورة.
وعلى ذلك فكل عبادة فيها مظنة القربة تركها الرسول - صلى الله عليه وسلم- مع وجود المقتضي لها، وعدم المانع منها، فترْكُها سُنّة محمودة، وفعْلُها لا يجوز ويدخل في باب البدعة المذمومة.
والمراد بالمقتضِي: الداعي إلى الفعل والباعث عليه، فالباعث على فعل العبادات هو إرادة التقرب، والباعث على فعل العادات والمعاملات هو تحصيل المصلحة العامة الحقيقية وغير المتوهمة.
ومن القواعد التي ذكرها الشيخ بكر أبوزيد -رحمه الله تعالى- في كتابه تصحيح الدعاء قاعدة: (إذا وُجدَ المُقتضي في زمن النبي -صلى الله عليه وسلم- وفقد المانع، ولم يرتب -صلى الله عليه وسلم- تشريعاً قولاً أو فعلاً، فإن السُّنة هي الترك تأسياً).
فاذا كان المقتضي لفعله قائما على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ، لكن تركه النبيّ -صلى الله عليه وسلم- لمعارض زال بموته، فتركه لا يدل على التحريم او المنع ، فيجوز الفعل اذا زال المانع .
فمثلا صلاة التراويح جماعة فقد وُجد مقتضاها وهو قيام ليل رمضان قربة الى الله تعالى، ولكن مع وجود المانع وهو الخوف من أن تُفرض، فتركها رسول الله - صلى الله عليه وسلم- لهذا المانع .
وهذا الترك لا يدل على عدم جواز صلاتها جماعة اذا زال المانع، ولهذا عندما زال المانع بوفاته -صلى الله عليه وسلم- وهو مخافة فرضها أرجعها امير المؤمنين عمر بن الخطاب جماعة بإمامة ابي بن كعب – رضي الله عنهما- .
ومثال لما حدث مع قيام المقتضي له وهو النداء للصلاة قربة لله ، وزوال المانع منه وتركه رسول الله – صلى الله عليه وسلم- هو: الأذان في العيدين ، الذي أحدثه بعض الأمراء بزعم أن ترك النبي - صلى الله عليه وسلم - له لا يدل على التحريم ، وكذلك تقديمهم الخطبة على الصلاة ، وقد أنكر العلماء ذلك لأنه بدعة محرمة.
وعليه فإن كل ما يبديه المُحدِث لهذا من المصلحة ، أو يستدل به من الأدلة ، قد كان ثابتا على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ، ومع هذا لم يفعله رسول الله -صلى الله عليه وسلم - فهذا الترك سنة ، مقدمة على كل عموم وكل قياس.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله تعالى- في بيان هذه القاعدة أيضا في مجموع الفتاوى[ 26 / 172]: (بِخِلَافِ مَا كَانَ تَرْكُهُ لِعَدَمِ مُقْتَضٍ، أَوْ فَوَاتِ شَرْطٍ، أَوْ وُجُودِ مَانِعٍ، وَحَدَثَ بَعْدَهُ مِنَ الْمُقْتَضَيَاتِ وَالشُّرُوطِ وَزَوَالِ الْمَانِعِ، مَا دَلَّتِ الشَّرِيعَةُ عَلَى فِعْلِهِ حِينَئِذٍ، كَجَمْعِ الْقُرْآنِ فِي الْمُصْحَفِ، وَجَمْعِ النَّاسِ فِي التَّرَاوِيحِ عَلَى إِمَامٍ وَاحِدٍ، وَتَعَلُّمِ الْعَرَبِيَّةِ، وَأَسْمَاءِ النَّقْلَةِ لِلْعِلْمِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يُحْتَاجُ إِلَيْهِ فِي الدِّينِ، بِحَيْثُ لَا تَتِمُّ الْوَاجِبَاتُ أَوِ الْمُسْتَحَبَّاتُ الشَّرْعِيَّةُ إِلَّا بِهِ، وَإِنَّمَا تَرَكَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِفَوَاتِ شَرْطِهِ أَوْ وُجُودِ مَانِعٍ.
فَأَمَّا مَا تَرَكَهُ مِنْ جِنْسِ الْعِبَادَاتِ، مَعَ أَنَّهُ لَوْ كَانَ مَشْرُوعًا لَفَعَلَهُ أَوْ أَذِنَ فِيهِ وَلَفَعَلَهُ الْخُلَفَاءُ بَعْدَهُ وَالصَّحَابَةُ: فَيَجِبُ الْقَطْعُ بِأَنَّ فِعْلَهُ بِدْعَةٌ وَضَلَالَةٌ، وَيَمْتَنِعُ الْقِيَاسُ بِمِثْلِهِ، وَإِنْ جَازَ الْقِيَاسُ فِي النَّوْعِ الْأَوَّلِ، وَهُوَ مِثْلُ قِيَاسِ صَلَاةِ الْعِيدَيْنِ وَالِاسْتِسْقَاءِ وَالْكُسُوفِ عَلَى الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ فِي أَنْ يُجْعَلَ لَهَا أَذَانٌ وَإِقَامَةٌ، كَمَا فَعَلَهُ بَعْضُ الْمَرْوَانِيَّةِ فِي الْعِيدَيْنِ، وَقِيَاسُ حُجْرَتِهِ وَنَحْوِهَا مِنْ مَقَابِرِ الْأَنْبِيَاءِ عَلَى بَيْتِ اللَّهِ فِي الِاسْتِلَامِ وَالتَّقْبِيلِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنَ الْأَقْيِسَةِ الَّتِي تُشْبِهُ قِيَاسَ الَّذِينَ حَكَى اللَّهُ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ قَالُوا: {إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا} ).
وقال الامام ابو العباس ابن حجر الهيتمي الشافعي في الفتاوى الحديثية [1/200 ]: ( كل بِدعَة ضَلَالَة فَمَعْنَاه الْبِدْعَة الشَّرْعِيَّة، أَلا ترى أَن الصَّحَابَة -رَضِي الله عَنْهُم- وَالتَّابِعِينَ لَهُم بِإِحْسَان أَنْكَرُوا [ الاذان] في غير الصَّلَوَات الْخمس كالعيدين وَإِن لم يكن فِيه نهي، وكرهوا استلام الرُّكْنَيْنِ الشاميين، وَالصَّلَاة عقيب السَّعْي بَين الصَّفَا والمروة قِيَاسا على الطّواف، وَكَذَا مَا تَركه - صلى الله عليه وسلم - مَعَ قيام الْمُقْتَضى فَيكون تَركه سنة وَفعله بِدعَة مذمومة، وَخرج بقولنَا مَعَ قيام الْمُقْتَضى فِي حَيَاته تَركه إِخْرَاج الْيَهُود من جَزِيرَة الْعَرَب وَجمع الْمُصحف وَمَا تَركه لوُجُود الْمَانِع كالاجتماع للتراويح فَإِن الْمُقْتَضى التَّام يدْخل فِيهِ الْمَانِع).
الخلاصة:
فرق العلماء في باب التروك ، أي ما ترك العمل به رسول الله – صلى الله عليه وسلم- واصحابه الكرام ، بين العادات والعبادات، فحسب القاعدة الاصولية المهمة (الأصل في العادات الإباحة، والأصل في العبادات التوقيف أو المنع)، فما عدا العبادات فالأصل فيها الحِل والاباحة، فلا يمتنع المكلف عن مطعوم أو مشروب أو ملبوس أو معاملة من المعاملات إلا أن يقوم دليل شرعي على المنع.
واما العبادات التي فيها مظنة القربة لله تعالى، والتي قد تركها رسول الله - صلى الله عليه وسلم- مع وجود المقتضي لها الباعث على الفعل وهو ارادة التقرب الى الله تعالى ، ولا يوجد مانع من فعلها ، فترْكُها سُنّة محمودة، وفعْلُها لا يجوز ويدخل في باب البدعة المذمومة. والله تعالى اعلم
د. ضياء الدين عبدالله الصالح
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق