لماذا الاهتمام بالتاريخ
الجزء 1#
س: لماذا تهتم بالتاريخ؟
ج: لست وحدي؛ كل العقلاء والباحثين يهتمون بالتاريخ؛ لأن له أكبر الأثر على الناتج الثقافي، ثم هذا الثقافي ينتج السلوك.
س: لا نرى هذا الأثر للتاريخ، إنما الأثر للدين والسياسة ..الخ؛ أين التاريخ؟
ج: لا أقول بأن التاريخ هو العامل الوحيد، ثم هو موجود في كل ما ذكرته.
س: تعني أن التاريخ موجود في الدين والسياسة؟
ج: نعم، فالناس يقودهم التاريخ أكثر مما يقودهم الدين؛ لكنهم يتوهمون أن الدين هو الذي يقودهم.
س: هل من أمثلة؟
ج: انظر إلى ابتسامة المسلم إذا وجد غير مسلم؛ ولو كان عدواً؛ وتقطيبه إذا وجد مسلماً مخالفاً له؛ ولو كان مسالماً؛ هذا دين أم تاريخ؟
س: أنت تريد بعض المسلمين أو كلهم!
ج: أكيد بعضهم، لكن هذا البعض له صولة وتأثير كبير؛ وهو ألأكثر مسكونية بالتاريخ المتوهم؛ يسيره التاريخ لا الدين.
س: تحكم على رؤيتهم (للتاريخ) بأنها متوهمة، لماذا لا تكون أنت؟
ج: عرفت ذلك من إعراضهم عن التاريخ الصحيح وحبهم للتاريخ المتوهم الذي يصنع سلوكهم.
س: ولماذا لا يكون عندهم (التاريخ الصحيح) وأنت عندك ( التاريخ المتوهم)؟
ج: اضرب أمثلة وسترى، ثم احكم بعد ذلك.
س: أي أمثلة تريدها؟
ج: اختر انت.
س: لا أذكر مثالاً.
ج: انظر ألى اختلافي مع هذا الفريق في التاريخ، في ماذا؟
س: في معاوية؟
ج: معاوية فرع يسير من الاختلاف؛ مختلفون في المقدمات.
س: كيف في المقدمات؟
ج: اسمح لي أسأل ، فإني أرى التاريخ مؤثر فيك أيضاً؛ لماذا تقول خلافي معهم في معاوية؟
س: هو المثال الأبرز في الخلاف بينكم.
ج: كلا؛ مختلفون في مقدمات قبل معاوية؛ مثلاً؛ القرآن ثم السنة؛ وعندهم العكس؛ ثم التفصيل في الجيل الأول؛ وعندهم كلهم عدول؛ ثم تأتي الفروع كمعاوية.
س: توقف هنا؛ هم لا يقولون : السنة ثم القرآن...؟!
ج: لا أقصد الكلام، فالكلام سهل؛ أقصد الواقع؛ مع أن بعض منظريهم يقول (السنة قاضية على الكتاب).
س: من هو؟
ج: دعنا من الأسماء الآن؛ مازلت أصحح نظرتك لي بأن اختلافي معهم في معاوية؛ وأجبتك بأن الاختلاف كبير وفي مقدمات؛ معاوية فرع بسيط.
س: تعني الخلاف في الصحابة جملة؟
ج: أيضاً هذا فرع من الاختلاف في تقديم القرآن على المرويات أو العكس؛ الخلاف الأساسي في (النظرة للقرآن الكريم).
س: فصّل، كيف أنتم مختلفون في القرآن؟
ج: مختلفون من حيث تفعيل (المعرفة القرآنية)؛ معارفهم ليست منه في الغالب؛ معارفهم من تراث بشري هو الفاعل فيهم.
س: هذا تجاوز في النقد، وهم قد يتهمونك بالشيء ذاته؟
ج: لنربط بين الموضوعين، التاريخ والقرآن؛ فأنت سألتني في البداية عن التاريخ ولماذا أنا مهتم به.
س: صحيح.
ج: أليسوا يقولون: التاريخ ما فيه فائدة، فقد مات الناس وشبعوا موتاً، وأن الماضي انتهى وخلاص ..الخ.
س: نعم؛ هذا يرددونه وأتفق معهم.
ج: تتفق معهم في ماذا؟
س: أتفق معهم بأن التاريخ أمر انتهى ومضى، ولا داعي لنبشه وإعادة الأحقاد والعداوات .. ولن يسألنا الله عنهم.
ج: حسناً؛ اسمع.
ج: هل تسمح لي أن أتحول إلى سائل وأنت إلى مجيب في هذه المسألة فقط؟
س: لا مشكلة.
ج: حسناً، هل ترى أن التاريخ كله لا فائدة منه أم بعضه؟
س: كله.
ج: ألا يتضمن القرآن لقصص الأمم وأنبيائهم وسيرة النبي في كثير من الأمور؟
س: !!!!
ج: لا مشكلة أن ترجع وتقول: بعض التاريخ مهم دون بعض؛ ما رأيك؟
س: نعم؛ ما دونه القرآن من التاريخ فهو حق، ولكن؛ قد آمنا به وانتهى، ما الفائدة اليوم؟
ج: وما الفائدة أيام النبي؟ فهي أمم سبقت وخلاص؛ ما الفرق؟
س: أنا لا أرى فائدة اليوم حتى في قصص الأمم السابقة
ج: يعني أنك لا ترى في (ثلث القرآن ) أي فائدة؟ أرأيت كيف كان الافتراق بيننا في القرآن؟
س: أنا أقر به كعبرة ودرس؛ لكن اليوم عرفنا الدرس وخلاص!
ج: تعال لنتفق، بأن رؤيتك للتاريخ هي رؤيتهم، ثم تفاجأت بأن القرآن يتحدث عن أموات قد ماتوا.
س: لكنك تتوسع.
ج: دعك من تقييمي الآن؛ قد أتوسع وأخطيء وأصيب، هذا موضوع آخر؛ لكن يهمني الآن أن نتفق أن القرآن لم يهمل التاريخ؛ رؤيته غير رؤيتكم.
س: نحن لا ننكر ما أورده القرآن من قصص الأنبياء واللأمم وما فيها من العبر والدروس ..الخ.
ج: سأثبت بأنكم لم تأخذوا من تلك القصص درساً واحداً.
س: كيف؟
ج: سيأتي بأن أمراض الأمم التي عاندت الأنبياء مازلت في كثير من المسلمين؛ واستقواء بالكثرة؛ وسخرية بالناصح؛ وإعراضاً عن الحق؛ لم تستفيدوا؛ أنتم تزعمون أن التاريخ ما فيه فائدة؛ ثم تكتشفون أن أكثر من ثلث القرآن تاريخ؛ ثم ترضخون مجبرين بالاعتراف النظري فقط مع الإعراض عن العبرة.
س: هذه اتهامات كبيرة.
ج: اعطني عيباً كان في الأمم التي أرسل إليها الأنبياء ثم نجوتم منه؟
س: سبحان الله، هم كفروا ونحن مؤمنون؟
ج: لم تفهم سؤالي.
س: فهّمني؟
ج: أنت تقول: هم كفروا ونحن آمنا؟ السؤال الأول: لماذا كفروا؟ السؤال الثاني: كيف عرفتم أنكم مؤمنون؟ مؤمنون بالكتاب كله أم بعضه؟ أم ..
س: نحن آمنا بالله ورسله واليوم الآخر وهم كفروا؛ كيف تقارننا بهم؟
ج: أخي؛ لكل إيمان حقيقة؛ هل أعرض عليك الآن آيات من القرآن وأنظر هل تؤمن بها؟
س: طبعاً، ولماذا لا أؤمن بها؟
ج: سيمنعك التاريخ المتوهم من الإيمان بها؛ وستعلم بعدها أثر التاريخ فينا، فقد يدفعنا للإيمان وقد يدفعنا لكفر.
س: تقصد أن التاريخ الذي في رأسي سيمنعني من الإيمان بعض الآيات الكريمة؟
ج: نعم؛ لكن؛ قد تتظاهر بأنك مؤمن بها وتحاول معارضتها بأحاديث وروايات.
س: لن أفعل، وإنما أظن أنك أنت لو يتم عرض بعض الآيات عليك ستردها بأحاديث ومرويات.
ج: أنا مستعد تمام الاستعداد للإيمان والتسليم التام بكل آية.
س: يعني ستقبل حتى آيات الثناء على كل الصحابة؟
ج: بدأنا في الغلط ...كلمة الصحابة ليست في القرآن؛ هي من آثار التاريخ! المتوهم.
س: المقصود المعنى لا اللفظ ..
ج: ولماذا اخترت لفظة من خارج القرآن؟ هل اختياركم للألفاظ الدالة على المعنى أصح من اختيار الله؟
س: كلا، وإنما..
ج: وإنما اللفظة (تاريخية) لا قرآنية.
س: كلمة الصحابة أتت في أحاديث.
ج: إذا وصلنا للحديث سنرى هل صحت أم لا؛ لنبقَ في القرآن والتاريخ.
س: يعني أنك تنكر الأحاديث؟
ج: قلت لك، لنبدأ بالقرآن؛ أنا عندي القرآن أولاً؛ ومن كلامك تبين لك أن الأمر عندكم (الأحاديث أولاً)؛ وهذا ما قصدته قبل.
س: عندنا لا فرق بين القرآن والحديث ، كله وحي.
ج: كلامي عن الترتيب؛ القرآن أولاً، ألفاظه ومعانيه، وعلى هذا فليست هناك كلمة (الصحابة في القرآن).
س: يعني ماذا؟
ج: يعني لا تقول بأن الله أثنى على (الصحابة) أو (عدل الصحابة)؛ انطق البدائل القرآنية (المتبعون لنبي/ المهاجرون/ الأنصار ..الخ).
س: وهل هناك فرق؟
ج: سترى فرقاً كبيراً؛ لكن يهمني الآن أن نتعلم احترام الألفاظ التي اختارها الله أولاً؛ ثم نعرف معانيها من القرآن؛ ثم نأتي للسنة.
س: ولكنك تنطق كلمة (الصحابة) كثيراً، ولك كتاب عنوانه (الصحابة والصحابة)؟
ج: هذا صحيح، أني استخدم اللفظ حسب الشائع، ليفهم الناس ولأحلله.
س: وهل يجوز لك تجنب الألفاظ القرآنية؟ لماذا لم تقل (الاتّباع والمتبعون)؟
ج: لو فعلت لما أمكنني نقد المذمومين نصاً وشرعاً؛ المتبعون هم الفضلاء.
س: تقصد بأن (المتبعين) للنبي هم غير الصحابة؟
ج: الصحابة لفظ تاريخي واسع يشمل كل الأطياف، ولذلك فنحن نستخدم ثناء الله على البعض فنعممه مذهبيةً.
س: وهل هذا تاريخ؟
ج: نعم؛ هذا فعل تاريخي لا ديني، اللفظة و التعميم معاً؛ القرآن يفصل ولا يعمم؛ التاريخ المتوهم صناعة السياسة، يرفض تفصيل القرآن.
س: هل تعني أن التاريخ أوسع مما كنت أتصوره؟
ج: نعم؛ ربما نصف عقائدك تاريخ ونصف فقهك تاريخ وأنت تظنه ديناً؛ أرأيت إلى أي حد يهمني الوعي بالتاريخ؟
س: أراك تبالغ؛ عقيدتي الإيمان بالله ورسله واليوم الآخر والملائكة والقضاء والقدر خيره وشره؛ وفقهي صلاة وصوم وزكاة وحج الخ؛ أين التاريخ في هذا؟
ج: لو فصلنا لأخبرت بما دخل في (التصور عن الله) من آثار أهل الكتاب - أصدقاء السلطة - وما في تشويه (سنن الله)؛ وما رووه من (العبثية) تعالى الله؛ ولأخبرت عن آثار السطة - وهي لب التاريخ - وما علمته من تشويه لسيرة رسول الله وشخصه؛ وتجاه أهل بيته وأتباعه؛ وكثير من التشويش في كل ما ذكرتموه.
س: ما هي؟
ج: نفس العجلة! اهداء؛ مازلنا في البداية؛ أي (التاريخ مهم أم لا؟ وهل الوعي التاريخي المتوهم ينتج معرفة متوهمة ثم سلوكاً خاطئاً أم لا).
س: عرفنا أهمية التاريخ لننطلق لآثاره.
ج: كلا. لابد من تأصيل قرآني للوعي صحيح؛ وضرر الوعي المتوهم؛ ولنرى؛ هل المتوهم هو من ينتج الأحقاد أم الصحيح؟ يعني؛ أن معرفة أثر التاريخ سيطول؟
ج: لو عرفنا التاريخ ووعينا العبر منه كما يريد الله لكنا أكثر الأمم بعداً عن التفرق والتخلف.
لماذا الاهتمام بالتاريخ؟!
-الجزء الثاني -
س: كيف يتم التأصيل لأهمية التاريخ من القرآن الكريم؟
ج: الجواب طويل؛ لكن نختصره في الأمور التالية:
1-أن الله في كتابه الكريم أعطى التاريخ مساحة كبيرة.
2- هذه المساحة لم يجعلها الله عبثاً حاشاه.
3- المفترض أن نتواضع ونتعلم جوانب هذه الأهمية.
4- أن المساحة الكبيرة للتاريخ في القرآن لا يقتصر على الأمم الماضية.
5- بل فيه مساحة كبيرة من تاريخ عصر الرسالة المحمدية وظروفها ومجتمعها.
6- لو آمنا بالتفصيل القرآني لما اختلفنا، فالتفصيل القرآني وخاصة في الموضوع الذي طرحته أنت (الصحابة) تم الالتفاف عليه بالعقيدة للأسف.
7- كل أمة إنما تضل أو تهتدي بحسب إيمانها بالتفصيل في سلفها؛ فتجتنب الخبيث ولو كان أغلبية؛ وتهتم بالطيب ولو كانوا قليلاً.. وهذا الدرس رقم 1.
8- ليس النبي بدعاً من الرسل، ولا مجتمعه بدعاً من المجتمعات، وقد ذكر لنا الله في أمر الرسل أنه ما آمن معهم إلا قليل، ولم نستفد من هذا الدرس.
9- مادام أننا نتفاخر بكل من سبق تفاخراً بالكثرة، فنحن إذاً لم نستفد من دروس القرآن؛ من دراسة العبر والدروس، وهذا هو الخطأ الذي أنتج كل شيء.
س: يعني أنك ترى أن العقيدة السائدة بأن كل المجتمع النبوي كان صالحاً يخالف القرآن خاطئة؟
ج: اقرأ وانظر بنفسك؛ هل يقول القرآن بصلاحه أم فصّل؟
س: نعم؛ ذكر القرآن في ذلك المجتمع منافقين؛ لكنهم قلة معزولة؟
ج: هذا القول استهتار بالقرآن، لأنها نتيجة عقائدية تاريخية يتم تحميلها القرآن بالقوة.
س: كيف استهتار؟
ج: يعني أنت من تقرر بأن (تفصيل القرآن) يقتصر على هذا فقط؛ وأن المنافقين قلة؛ ومعزولة؛ خلاص؛ انت حكمت؛ ولا يظهر منك أنك بحاجة للقرآن.
س: هل في القرآن غير هذا؟
ج: قبل أن أقول أو تقول؛ كان الواجب أن نترك الكبر وأن نبحث ونستقريء ما في القرآن من هذا التفصيل؛ ثم نرى الآثار الخ.
س: استقريء أنت وقل لنا النتيجة.
ج: لا يصلح أن يستقريء طرف، والآخر متكيء متكبراً ينتظر ماذا تقوله ليقبله أو يرفضه؛ الواجب أن يكون الاهتمام أصيلاً.
س: ليس تكبراً؛ إنما قل وننظر؛ وإن شاء الله لن نخالف الحق.
ج: أولاً أنت ذكرت المنافقين فقط؛ ولم تعترف بأثرهم؛ لم تذكر الفئات الأخرى؛ وهذا استهتار.
س: يا أخي لا تكرر (استهتار)؛ انا أسألك جاداً.
ج: حسناً ..اعتذر.. لكن؛ هل سمعت بآية تقول (خذوا ما آتيناكم بقوة)؛ كيف تقول ابحث ونشوف؟! ابحث معي.
س: نعم؛ قالها الله لبني إسرائيل وليس لنا؟
ج: عجيب! يعني يجب عليهم أخذ التوراة والإنجيل بقوة ويجوز لنا أن نأخذ القرآن باستخفاف؟ هذه من الدروس.
س: تعني!
ج: أعني أنه يجب علينا أخذ القرآن بقوة، نأخذ تفصيله وتحذيره وتقريره وبيانه للقلة والكثرة وأسباب الضلال وإمارات الهدى ..الخ؛ من هنا نبدأ.
س: ونحن متفقون معك هنا؛ وإنما نختلف في النتيجة.
ج: لو كنا متفقين لما اختلفنا؛ فالقرآن أتى لرفع الخلاف، وجعلناه من أسباب الافتراق؛ البلاء منا لا منه.
ج: أي؛ أتى القرآن كسائر كتب الله (لِيَحْكُمَ بين النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ}؛ وها أنت ترى أنا جعلناه من أسباب الافتراق؛ فأتهمكم وتتهمونني.
س: إذاً؛ فأنت مشترك معنا في هذا؟
ج: لا أبريء نفسي؛ لكن دعنا الآن لنتعرف على التاريخ الصحيح من القرآن الكريم؛ وهل وعينا موافق له أم لا. ثم ننظر.
س: مثل ماذا؟
ج: كثير؛ لكن دعنا نختبر قولك عن المنافقين أنهم قلة وأنهم لا أثر لهم؛ هل هذا القول نتيجة قرآن أم نتيجة عقيدة وتاريخ مزيف؟
س: هذا الذي تعلمته وفهمته، أنهم قلة ولا أثر لهم. فإذا لم يكن صحيحاً فصححه؛ ولكن من القرآن والسنة؛ واذكر لي الفائدة من هذه المعرفة.
ج: سؤالان؛ حسناً: كيف تقول لا أثر لهم والله قد قال (وفيكم سماعون لهم)؛ وقال (فمالكم في المنافقين فئتين)؟ هل ثقافتك قرآنية أو عقدية مذهبية تاريخية؟
س: أعني لا أثر لهم اليوم، أما أيام النبي فكان لهم أثر وفق الآيات التي ذكرتها؟
ج: أيكون للمنافقين أثر على صالحي (الصحابة) ولا يكون لهم أثر علينا!؟
س: كيف يكون لهم أثر على صالحي الصحابة؟
ج: ألم يقل الله (وفيكم سماعون لهم)؟! لمن الخطاب هنا؟ هل يقصد في المنافقين سماعون للمنافقين؟
س: وضح.
ج: القرآن واضح، أن المنافقين لهم خطاب مؤثر؛ وأنه قد جلب إليهم من ليس منهم (سماعون)؛ وأنه شق الصالحين نصفين؛ إذاً؛ فلهم أثرهم؛ وكان قوياً.
س: وما ضرر هذا علينا؟ وقد حفظ الله القرآن والسنة؟
ج: لا تقفز؛ ألم يكن التصور عندك أنهم قلة ولا أثر لهم؟ لماذا لا نبني على هذه المقدمة؟
س: كيف نبني عليها؟
ج: نبني عليها أن القرآن قد يكون موجوداً ولا يؤثر فينا؛ ونتصور خلاف ما في القرآن ونظنه ديناً؛ لماذا لا تستفيدون مما تكتشفون؟
ج: لماذا يكتشف أحدكم الاكتشافات الخطيرة ولا تؤثر فيه؟ توقعت منك أن تحمد الله على معرفتك هذه الآيات التي صححت معلوماتك (الوهمية التاريخية).
س: الآيات نعرفها من قبل.
ج: وهذا حجة عليك. إذ يعني أنك كنت تقول بخلاف هذه الآيات عمداً، وتصدف عنها؛ اتباعاً منك للسائد؛ هل تعرف إثم الصدوف؟
س: وما الأثر الذي حصل على الصحابة من المنافقين؟
ج: هذا موضوع آخر. وموضوع الصحابة لفظة فضفاضة؛ ولكن أذكرك وأذكر نفسي بإثم الصدوف عن آيات الله.
ج: تذكر قوله تعالى.{سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آيَاتِنَا سُوءَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يَصْدِفُونَ} [الأنعام: 157] إنه صدوف فقط.
س: وما الصدوف؟
ج: هو ما يفعله كثير من الناس الذين لا يبالون بالآيات؛ ولا يأخذونها بقوة؛ يستهترون بها؛ وكأنها شيء عادي لا تضيف لهم معرفة وعلماً.
س: وأنت ألا تصدف عن بعض الآيات؟
ج: دعك مني، قد أصدف وقد تصدف، نحن لا نزكي أنفسنا، وإذا جاءت الآيات سنرى؛ دعنا نقر بخطورة الصدوف ونراجع أنفسنا.. الصدوف ليس جحوداً؛ هو ميل عن الشيء فقط؛ والصادف عن آيات الله لعقيدة أو مذهب أو متابعة لسائد؛ فهو مستخفٌّ بها؛ للتوسع = لسان العرب (9/ 187) فالذي يجد آيات تمنحه معرفة جديدة ثم لا يأبه بها ولا يتأثر؛ فهذا من أهل الصدوف عن آيات الله؛ لابد من أخذ الكتاب بقوة = من صدق واهتمام وعناية؛ وقد فصل الله مواقف الناس من (آيات الله)؛ منها الكفر والجحود والتكذيب معروفة؛ ومنها أيضاً (الصدوف) التي لا ننتبه لها؛ وكلها تحت وعيد العذاب؛ وبسبب هذا (الصدوف) ضل أكثر المسلمين؛ لأنهم ظنوا أنهم ماداموا (لا يكذبون بالآيات ولا يجحدون) فهم في مأمن.. كلا؛ الصدوف هو الأخفى والأخطر.
لماذا الاهتمام بالتاريخ؟ - الجزء الثالث
س: وجدت آية تزهد في التاريخ (تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تُسألون عما كانوا يفعلون)؟
ج: ولكنك كنت قد أقتنعت معي بأن ثلث القرآن وسيرة النبي وعهده في القرآن؟ ومع ذلك سأجيبك إن شاء الله على هذه الآية الكريمة؛ فهي لا تفيد ما فهمتَه.
ج: القرآن كله نؤمن به؛ فالمتفاخر بالماضين المكتفي بهذا - كما كان بنو إسرائيل يفعلون - فيستحق المخاطبة بهذه الآية، دون أن نلغي ثلث القرآن.
س: ولماذا تخصصها هنا؟
ج: لأنها خطاب في حق من كانوا يقولون إن (إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط كانوا هوداً أو نصارى)؛ اقرأها مع السياق.
س: وما الفرق؟
ج: قلت لك، هناك آيات ترد على أقوام دعاواهم؛ ولو تقرأ الآيات بسياقها فستعلم ذلك، والآيات في سورة البقرة في موضعين؛ هل نستعرضهما؟
س: يعني أن الآيات لا تشلمنا؟
ج: تشمل من يزعم أن الأنبياء والصالحين على منهجه ويتفاخر بذلك؛ منا فلان ومنا فلان، وهو لا يطبق سيرتهم ولا يعرفها.
س: أوضح أكثر.
ج: اسمع السياق {أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأسْبَاطَ كَانُواْ هُوداً أَوْ نَصَارَى قُلْ أَأَنتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللّهُ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَتَمَ شَهَادَةً عِندَهُ مِنَ اللّهِ وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ(140) تِلْكَ أُمَّةٌ قدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ ولَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (141)} [سورة البقرة]
ج: فأنت تلاحظ أن أهل الكتاب صرفهم عن النبي تفاخرهم بأن منهم الأنبياء السابقون؛ مثلما نجد اليوم من يقول: كان على مذهبنا رسول الله وفلان وفلان؛ فالله يحثك على العمل وترك الفخر واجتناب الدعاوى بأن السابقين على نهجك؛ ولو كانت الآية لتعطيل التاريخ لتناقض القرآن؛ فأخبار الأمم فيه كثيفة؛ وحتى لا أطيل - فقد تحدثت عنها سابقاً -
س: أتفق معك أننا نجد تناقضاً من الذين يحتجون بهذه الآية، فيطالبون بترك تاريخ دون تاريخ
ج: أكثر من هذا؛ ألا ترى أن الاية في ترك دراسة الصالحين؟
س: ماذا تقصد؟
ج: أقصد أن الآية (تلك أمة قد خلت) أتت في الرد على المفتخرين بالصالحين وليس على من يحذر من الظالمين والمجرمين؟
س: يا رجل؟
ج: تدبر!
س: هل تقصد ترك دراسة سيرة الأنبياء والصالحين؟
ج: لم أقل هذا؛ لكن دراسة أهل السوء لتجنب سبيلهم لم يحذر منه القرآن؛ بينما حذر من التفاخر بالصالحين.
س: لحظة لحظة ... أشعر بالدوار !
ج: أزيدك آية حاسمة في الموضوع (وكذلك نفصل الآيات ولتستبين سبيل المجرمين)؛ لماذا لم يقل ولتستبين سبيل الصالحين؟
س: أوضح.
ج؛ أظن الأمر واضح، الصالحون يكفيك أن تقتدي بالقليل منهم؛ أما المجرمون؛ فيجب الحذر من سنتهم جميعاً. سبيل المجرمين أولى بالتتبع الدقيق. وعلى كل حال.. دراسة (سبيل المجرمين) لتستبين وتتوضح، هي غاية تفصيل الكتاب؛ ولذلك؛ قلت لك أنكم تهملون (تفصيل الكتاب)؛ وتعتمدون التعميم.
س: أعد كتابة الآية، فقد أتفق معك أنها أصل في منهجك.
ج: {وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ} [الأنعام: 55]
س: هل أستطيع الآن أن أفهم أن دراسة المجرمين والظالمين ونبش سيرتهم غاية قرآنية؟
ج: معرفة (سبيلهم) هو الغاية القرآنية؛ ولا تستطيع ألا بدراستهم.
س: والصالحون ماذا عنهم؟
ج: أيضاً دراسة سيرة الصالحين مكثفة في القرآن، والله قال (فبهداهم اقتده)؛ لكن تفصيل الآيات لاستبانة سبيل المجرمين.
س: لماذا؟
ج: لأن الأنبياء والصالحون منهجهم فطري /إيمان/ صدق / تقوى / بر/ إحسان.. هو سبيل واضح بين؛ أما المجرمون؛ فاكتشاف سبيلهم صعب؛ ويحتاج لتفصيل.
س: ولذلك أرى أن أمتنا تخلفت مع كثرة مدحنا للصالحين؟
ج: وربما لكثرة مدحنا للمجرمين؛ فهذه خطيرة جداً، لأنها ستدشن مروياتهم وفقههم وعقائدهم ..الخ.
س: ما أدري، أنا محتار..
ج: المهم، أن الآية التي قالت (تلك أمة قد خلت) لا تدل على ما فهمتموه؛ هي تنهى عن الفخر بالصالح لا عن الحذر من المجرم.
س: وهل المجرمون كثير؟
ج: وما فائدة السؤال؟ المهم أن نعرف الإجرام من القرآن؛ ثم نعرف سبيل المجرمين؛ قلوا أو كثروا؛ ثم نتجنب ذلك السبيل؛ هذا المهم.
س: الإجرام واضح، هو القتل والظلم والسرقة وقطع الطريق؛ مظالم مادية.
ج: هذا أقل الإجرام؛ في القرآن ما هو أعظم جرماً!
س: يا رجل؟
ج: هو ما أقول لك!
س: مثل؟
ج: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ}[السجدة: 22]
س:لحظة لحظة... هذه آية في كتاب الله؟
ج: نعم. أعظم الظلم وأبلغ الإجرام؛ هو عندما يذكرك أحد بآيات فتعرض عنها = قريب من الصدوف الذي قلناه قبل!
س: وهل يفعله المسلمون؟
ج: كثير جداً.
س: ؟
ج: (وإذا قلتم فاعدلوا)؛ (وكونوا مع الصادقين) الخ.. هل ترى الناس يعدلون أو يصدقون إذا ذُكِّروا بهذه الآيات؟
س: يعني مشكلتنا في الصميم، في مباديء الإسلام الأولى؟
ج: نعم؛ هذا صحيح، ونظن أننا أهدى خلق الله؛ كذب وظلم وإعراض عن آيات الله وإجرام ..الخ.
س: والسبب؟
ج: لم تستبن لنا سبيل المجرمين؛ ولا نعرف الإجرام؛ ونعطي كل لفظ معنى تاريخياً (مذهبياً أو روائياً) وننسى المعنى القرآني؛ فالقرآن مهجور.
لماذا الاهتمام بالتاريخ
الجزء 4#
س: هل يعقل أن التاريخ يصنع عقائد؟
ج: بل هذا تقريباً هو الأصل؛ عقائدنا تاريخية
س: هذه مبالغة، فأين التاريخ من عقائدنا الكبرى، كالإيمان بالله واليوم الآخر والنبوات ..الخ، كلها مبنية على نصوص قرآنية ونبوية.
ج: قد يبدو هذا.
س: كيف قد يبدو هذا؟ يعني ماذا؟
ج: صناعة التاريخ للعقائد على قسمين؛ يجعل كبارها ساذجاً وهشاً ومهملاً؛ ويجعل صغارها مخدوماً ومفعلاً ومحل عداوة.
س: اضرب أمثلة لكبار العقائد وصغارها.
ج: كبار العقائد؛ كالإيمان بالله - مع تحفظي على كلمة عقيدة - وصغارها كقضايا الصحابة وخلق القرآن والقدر ..الخ.
س: بعضها قد أوافقك، لكن أن تجعل (الإيمان بالله) من التاريخ؛ فهذا شيء خطير!
ج: لم أجعل الإيمان بالله من التاريخ؛ لكن مفهومنا له تاريخي لا قرآني.
س: عجيب! كيف؟
ج: مفهومنا للإيمان صاغه التاريخ لا القرآن؛ ومفهومنا لله أيضاً صياغة تاريخية لا قرآنية؛ الله والإيمان به في القرآن مختلف عما نعرف.
س: كلام خطير.
ج: لا خطير ولا شيء؛ قارن الإيمان في القرآن بما كتبه أهل الروايات عن الإيمان؛ وقارن معرفة الله في القرآن عن معرفته في كتب التراث الخ.
س: لا أعرف اختلافات جوهرية بين ما ذكره الله عن الإيمان وما في كتب التراث؛ وكذلك لا أعرف فروقات جوهرية فيما يخص معرفة الله.
ج: إذاً دعنا نجرب!
س: تفضل.
ج: لنبدأ بالإيمان بالله، لأنه أقل إثارة؛ مع أن الإيمان بالله لا يكون متحققاً إلا بمعرفة الله؛ ومعرفتنا بالله ضعيفة جداً ومشوهة للأسف. ولأن المادة (الإيمان بالله) ضخمة جداً؛ وتستوجب أكبر قدر ممكن من معرفة دلالات اللفظين (الله) و (الإيمان)؛ وعلى قدر المعرفة يكون حسن العمل.
س: كأنك تريد تهويل الموضوع؟
ج؛ الإيمان بالله - كما يريد الله - ليس سهلاً؛ يحتاج إلى علم واستشعار يؤدي لعمل؛ لكن الإيمان كما يريد التاريخ؛ ما نراه.
س: وما دخل التاريخ هنا في صياغة (الإيمان بالله)؟
ج: التاريخ صناعة السلطة؛ وهو بدوره له أثره المباشر والأوسع في صناعة العقائد والأحكام.
س: كلامك عام ، مجرد دعاوى، اقنعني بمثال واحد من العقائد تكون نتيجة تاريخية.
ج: أنت اعطني مثالاً واحداً من العقائد تكون نتيجته (قرآنية) صافية.
س: !!
ج: كل الإيمانيات التي نعرفها لا تخلو من (آثار صياغة؛ وربما وضع تاريخي)؛ والأثر يكبر ويصغر بحسب الوعي التاريخي.
س: كلها؟
ج: كلها.
س: ؟
ج: لا تستغرب.. تصورنا عن الله صنع معظمه التاريخ (بسلطاته المختلفة)؛ تصورنا عن الرسول وسيرته؛ عن اليوم الآخر؛ عن الحساب؛ عن الجنة والنار.. الخ؛ ولذلك؛ فلو سألتك عن (الله) الذي تؤمن به؛ عن ذاته؛ وصفته؛ وقوانينه؛ وأسمائه ودلالاتها؛ وعن غاياته من خلقه؛ هل تتوقع أن نجد قرآناً أم تاريخاً؟
التاريخ صنع مرويات مدخولة؛ وثبّت تصورات ساذجة عن الله؛ فأنتج هذا (معرفة لفظية جافة) كانت نتيجتها الإفساد في الأرض مع تجديد العداوة والبغضاء.
س: ؟؟
ج: نعم؛ للأسف؛ التشوه الذي زرعه التاريخ وسلطاته (عن الله) كانت نتيجته على الضد مما أراد الله من معرفة الله والعلم به واستشعاره والخوف منه؛ كان الهدف الإلهي من (معرفة الله) هو خلاف ما تراه من المسلمين تماماً؛ ولم يكن ليحدث (السلوك المضاد لما أراده الله) إلا نتيجة صناعة غيره.
س: أنت قربت الموضوع، ولكن لم تذكر أمثلة؛ بمعنى؛ أنك تعطي المقدمة الأولى والنتيجة الأخيرة دون ذكر (الأمثلة) التي بها أطمئن أننا فهمنا الله خطأ؛ وأن هذا الخطأ هو نتيجة تاريخية (سياسية - مذهبية)؛ كل هذا يحتاج لأمثلة وإثباتات، لنصحح المعرفة ونحسن السلوك.
ج: ذكر الأمثلة صعبة، لكن عليك بالمنطق العام غير المتلكلف؛ أي؛ إذا كانت النتيجة سيئة؛ فلا بد أن تكون المقدمات سيئة؛ لا يمكن أن يكون فساد المسلمين من دينهم؛ صح وإلا لا؟
س: بما أنني مسلم، أوافقك.
ج: وهناك غير مسلمين يرون أن فسادنا من الدين نفسه؛ فلماذا لا نرد عليهم؟
س: لماذا؟
ج: لأن التاريخ.. سأغير السؤال؛ من يمنعنا؟
س: كيف التاريخ؟
ج: عندما أقول (التاريخ) أرجو منك أن تطرد المعنى الذهني الذي رأسك بأني أقصد تاريخ الطبري وابن كثير... هذا نتائج متأخرة جداً! بمعنى؛ أن التاريخ هو مجموعة سلطات كتبت الحق والباطل؛ العلم والجهل؛ الصواب والخطأ.. كتبت لنا كل هذا من مفهومها هي؛ فالتاريخ أكبر مما تتخيل.
س: ما زلت أكرر .. أضرب أمثلة.
ج: من كتب كتب العقائد؟
س: علماء.
ج: من جعلهم علماء؟
س: السلطات أو العامة.
ج: ومن صنع السلطات والعامة؟
س: سلطات أقدم.
ج: أنت تقل أنه كتب هذه العقائد علماء وفقهاء؛ وأنهم نتيجة صناعة سابقة؛ فكيف نعرف تقييم هذه السلطات (سياسة أو مذهبية أو اجتماعية ..الخ)؟
أقرب لك الموضوع؛ من الذي يجعل الإيمان = مجرد اعترافات لفظية؟ من الذي جعل من قال كذا أفضل ممن عمل كذا ؟ من نطق الشهادتين أفضل ممن أحسن عملاً؟؟
س: كلامك غير صحيح على إطلاقه.
ج: طيب، خذ مثالاً؛ طبيب مسيحي يقضي إجازته في افريقيا تبرعاً
ودرباوي يفحط في الثمامة وينطق الشهادتين؛ من أفضل عندنا؟
س: ؟؟!!
ج: السؤال: من صنع لنا هذا الاعتقاد؟ أهو الله بعدله وحكمته ؟ أم التاريخ ( بسلطاته)؟ أرجوك خلينا ساكتين بس!
لماذا الاهتمام بالتاريخ؟
الجزء 5
أكثر ما يختلف فيه الناس في المحطات التاريخية الكبرى، ولو أنصفوا لتعلموا ثم اتفقوا.. سأذكر نماذج:
من أبرز المحطات التاريخية التي يحمي فيها وطيس الخلافات بين المسلمين:
1- الغدير والسقيفة.
2 - فتنة عثمان.
3- الجمل وصفين.
4 - ثورة الحسين.
5- قضية خلق القرآن.
6- سقوط بغداد وحكاية ابن العلقمي.
تقريباً هذه أبرز محطات الصراع الأبدي؛ والخلافات المعاصرة إنما هي تبع لها وفروع منها؛ ولو لم يكن المسلمون مكدسين بالهوى والعصبية وعبادة الرموز؛ لأمكنهم تجاوزها أو بحثها بعمق حتى تتقارب وجهات النظر؛ كما يحدث لسائر الأمم الحية.
هذه القضايا الكبرى أنتج فيها السنة والشيعة ألوف الكتب؛ لكن؛ لم تقرب وجهات النظر؛ بل زادت الخلاف اشتعالاً.. لماذا؟ لأن المرض في مكان آخر.
ليس المرض في الأدلة المقربة؛ فهي كثيرة؛ إنما المرض في القلوب المتباعدة؛ فهي كثيرة أيضا؛ كأن المسلمين بلا عقول.. لماذا لا يتحاورون بصدق؟ لا تقولوا لي أحد أن الحوارات قد حصلت في مراكز علمية ووسائل إعلام وقنوات، كلا؛ ليس هناك مركز بحثي منصف؛ ولا قناة موضوعية؛ ولا وسيلة محايدة؛ عدة من الحوارات شاركت فيها؛ في قنوات؛ ولكن كان أصحابها أهل رعب وجهل وهوى، يفضلون إرضاء العامة على تحكيم الكتاب؛ لا يستطيعون قول نعم أو لا..
الحوار يحتاج إلى قلوب وأبحاث وأخلاق وصدق وشهادة لله؛ أما الشهادة للمال والمذهب والعامة؛ فهذه من أسباب التدمير الذاتي للأمة من قديم؛ لا جديد.
إذاً؛ فلا تستغربوا اختلاف المسلمين؛ سواء كانوا سنة أم شيعة؛ حنابلة أم معتزلة؛ سلفية أم أشاعرة؛ إسلاميين أم علمانيين.. الأمراض في أماكن أخرى؛ أنا هنا لا أجعلهم في سلة واحدة؛ حتى المذهب الواحد ، يختلفون علماً وجهلاً؛ إنصافاً وظلماً؛ صدقاً وكذباً.. مراقبة لله أو مراقبة لخلقه؛ يختلفون؛ وبعد تجربة حوارات عامة وخاصة، أستطيع أن أشهد شهادة لله بإذن الله بأن أجبن التيارات وأظلمها في أي حوار هو تيار غلاة السلفية؛ لا معتدليهم..
وحتى لا يظن البعض أنني أعمم الغلو على السلفية، فقد ذكرت نماذج من معتدلي السلفية أمس؛ كحاتم العوني والعبيكان والمغامسي الخ؛ فلا نعمم إطلاقاً؛ ولكن مشكلة المعتدلين أن القليل منهم مستعد للحوار؛ كالدكتور حاتم العوني؛ البقية كأنهم متحفظون ولا يرون هناك من داعٍ للحوار، والله أعلم.. وهذه قنوات الدنيا أمامكم؛ من شيعة ومسيحيين وليبراليين وربما يهود... لا أظن أن ضيفاً في أحد تلك القنوات يجد مقاطعة أو تكالباً أو ظلماً.. كما أن هناك قنوات لمعتدلين سلفيين كقناة دليل والرسالة يمكنها جداً أن تقيم حوارات ناجحة في هذه القضايا الكبرى لو سمحت لها وزارة الإعلام؛ لكن وزارة الإعلام لا تسمح بالحوار إلا في قنوات الفتنة والجهل والمرض؛ كوصال وصفا ونحوهن؛ ممن لا تتوفر عندهم الحد الأدنى من آداب الحوار.
لعل أكثر القنوات غلواً في التشيع (أو الرفض حسب ما يطلقونه على أنفسهم) هي قناة فدك، وكم من مرة رأينا ضيوفاً سنة يأخذون راحتهم كاملة؛ شهادة؛ ولكن مشكلة تلك القناة أنها محل سخط كل السنة وأغلب الشيعة؛ نريد قنوات مهنية؛ ولعله من المفضل أن تكون لأناس غير مسلمين؛ نريد المهنية فقط.
أيضاً المراكز العلمية البحثية الإسلامية (التابعة للرابطة مثلاً أو الأزهر) لا تجرؤ على فتح حوار صادق ، وهي جهات سياسية أكثر منها علمية.
وحتى لا أطيل؛ القضايا التي أشرت إليها في أول هذه السلسلة، من السهل جداً الاتفاق على الخطوط العامة العريضة، والتسامح في الاجتهاد في الفروع؛ فمثلاً؛ جدلية أو محطة الغدير والسقيفة؛ يتفق المسلمون على 90% منها، ولكن يخدعنا الغلاة بأن الفرق واسع جداً؛ كلا كلا؛ وسأبين ذلك باختصار:
الحدثان (الغدير والسقيفة) حدثان متواتران في التاريخ والحديث؛ هذا الحدث حصل؛ وذاك الحدث حصل؛ وربما هنا اتفاق في أغلب الفروع؛ فأين الخلاف؟
أيضاً الخلاف في أماكن أخرى؛ كالتأويل أو العصبية بلا دليل؛ أو مجاملة العامة والتطبيل ..الخ.
كنت قديماً كالغلاة؛ أظن أن الخلاف واسع جداً.. الغلاة لهم مصلحة في توسيع شقة الخلاف؛ فالعداوة والبغضاء سوقهم المزدهرة، بل هم يكررون أنها من أصول دينهم؛ كلام فارغ مريض؛ أمرضوا به عباد الله.
الغدير حصل وبالتواتر؛ ولكن بقي الخلاف في الفهم والتأويل؛ هل هو وصية صريحة للإمام علي أو إرشاد وتوجيه أو مجرد أعلان محبة؛ وهذه يمكن حلها؛ والسقيفة حصلت؛ وإنما الخلاف في تفسير ما حدث؛ هل هو قيام بأمر الأمة أم هو انقلاب على وصية النبوة أم هو اضطرار وفلتة وقى الله شرها..
الحل سهل؛ أي أن الحل سهل لو كان الأمر متعلقاً بالأدلة والقرائن؛ أو على الأقل قبول وجهات النظر؛ وكلٌ مسؤول عن قناعته أمام الله؛ لكن المرض في مكان آخر.
لا أريد في هذه التغريدات أن أفصل في هذه القضية (الغدير والسقيفة)؛ ودلائل هذه أو تلك؛ ومن أصاب في نظري ومن أخطأ.. إنما أريد ما سبق ذكره؛ أي أن الأمر متفق على أصله؛ معظم فروعه من حيث الثبوت؛ وإنما الاختلاف في النظرات والتأويلات التفسيرية؛ وحتى هذه؛ لو صدقت النيات لظهرت الترجيحات؛ هذه المحطات كغيرها، تحتاج إلى قراءة الأدلة والأدلة المضادة؛ وأن يبقى الأمر في حدود القناعات دون تكفير ولا استباحة دماء ولا تعطيل مشتركات. كذلك فتنة عثمان؛ هناك اتفاق بين أغلب الشيعة والسنة على الخلاف بين عثمان ومن معه والثوار ومن معهم؛ كان على الولايات والأموال والحقوق .. إنما انفرد قسم يسير من الغلاة؛ كسيف بن عمر التميمي (وهو راوٍ كذاب متهم بالزندقة)؛ وتبعه ابن العربي المالكي بقصة عبد الله بن سبأ الموضوعة. كل المصادر السنية القديمة، من سيرة الزهري (ت 124 هـ) وما بعده من مؤرخي السنة؛ يؤكدون على أن الخلاف حقيقي ومتعلق بالحقوق ولا وجود لابن سبأ؛ بل كل الكتب الستة (البخاري ومسلم والترمذي وأبو داود والنسائي وابن ماجة)؛ وقبلهم الموطأ ومصنفي عبد الرزاق وابن أبي شيبة؛ تؤكد الخلاف الحقوقي؛ لم يشوش بقصة عبد الله بن سبأ (صاحب طائرة الهليكوبتر المتنقلة في البلدان)؛ إلا سيف بن عمر التميمي الكذاب الزنديق عند أهل الحديث المتقدمين..
اختراع سيف بن عمر لقصة ابن سبأ أنشأ خلافاً لم يكن موجوداً؛ وجعل الصحابة المشاركين في الثورة على عثمان مجرد أدوات في يد يهودي مجهول!
جنون.
فلو أن السنة والشيعة يبحثون فتنة عثمان، والخلاف بين أكثر كبار الصحابة مع عثمان، سيجدون أن مصادرهم تتفق على 95% على الأقل من المادة العلمية؛ نعم؛ سيف بن عمر جعل الخلاف بين السنة والشيعة في فتنة عثمان ترتفع من 5% إلى 100% تقريباً؛ وهذه تشبه آثار الزندقة الحقيقة وليس المتوهمة.
أيضاً الجمل وصفين؛ كل السنة والشيعة متفقون على الخطوط العريضة العامة فيها؛ سواء من حيث أحقية الإمام علي أو بغي الخارجين عليه.. أين الخلاف؟
نعم؛ يبقى خلاف في تقييم فعل البغاة؛ هل كان نتيجة اجتهاد أم أنه حب للدنيا والمال والسلطة؛ هذه يمكن العودة فيها للتفاصيل ودلائلها وقرائنها؛ لا تستطيع إجبار من له قناعة سلبية تجاه طلحة والزبير وعائشة؛ أو تجاه معاوية؛ أن يتخلى عنها بالغصب؛ ولا من له قناعة سلبية تجاه الإمام علي أيضا؛ إنما بالبحث والحوار والتقارب النفسي وثقة الأطراف في بعضهم والنظر بصدق الأدلة والقرائن؛ يمكن أن يقلل الخلاف إلى الحد الأدنى ويبقى وجهة نظر.
أنا مطرد؛ لا أرى إجبار من له قناعة سلبية تجاه المحق أو المبطل في هذه الحروب؛ فبعض الأخوة الإباضية لهم قناعة سلبية ضد الإمام علي؛ ولا أجبرهم؛ ولا يحق لي؛ بل؛ لعل بعض الإباضية (المنحرفين عن الإمام علي) يكونون عندي أحب من بعض غلاة السلفية المحبين للإمام علي.. لماذا؟
اسمع: لأنني أجد الإباضي (المنحرف عن الإمام علي) له قناعته وإيمانه؛ وأجده مسالماً؛ ويؤمن بالحوار؛ ولا يتعبد بالعداوة والبغضاء ضدي لأجل قناعتي؛ بينما قد أجد أحد الغلاة يحب الإمام علي وأهل البيت - على تحفظ - لكنه يبغض عباد الله ويتعبد بذلك ويفتي بسفك دمائهم ولا يؤمن بحرية ولا سلم؛ فأنا أزعم أنني مطرد... في الحرية والحقوق والسلم؛ ولي قناعتي الخاصة في تصويب الإمام علي وحبه والإعجاب به إيما إعجاب؛ هذا من حقي؛ لكنني مطردٌ؛ وهذه عند الإباضي أيضاً؛ يؤمن بالحرية وحقوق المواطنة؛ حتى لو أنك ضللت سلفهم وحكمت عليهم بكل سوء..
هم أيضاً مطردون؛ ومع الحرية والحقوق والسلم.
إذاً؛ فالذي يتوهم أنني أرى الجبر على ما أراه واقتنع به؛ فهو مخطيء؛ لأنه يرى الناس وفق رؤيته فقط، هو يظن أنك مثله؛ تستبيح دم من يخالفك.
أنا أؤمن بحرية البحث؛ حرية الاعتقاد؛ حرية الرأي والقناعة؛ والسلم الأهلي؛ وحقوق المواطنة.. أتفق أنا والإباضي على هذا؛ وهي أصول في الدين أيضاًُ.
خلافي مع الغلاة والنواصب ليس في علي ومعاوية كما يظنون؛ صحيح أنه خلاف كبير؛ لكني أتفهمه؛ قناعات؛ إنما الخلاف الأساسي -من جهتي- فيما سبق؛ المغالي والناصبي هما من تبقى في هذا العالم يرون انتهاك حقوق المخالفين في الرأي بالقتل إن أمكن؛ أو السجن أو الجلد أو الفصل؛ البقية تجاوزوا.
وأكرر مرة أخرى؛ بأن المعتدلين من السنة والسلفية - كعدنان إبراهيم وحاتم العوني والعبيكان والمغامسي ..الخ - تجاوزوا هذا الأحكام الوضعية أيضاً؛ أهل السنة القديمة - وفق المصادر الحديثية والتاريخية - شبه متفقة مع الشيعة والإباضية في فتنة عثمان وحروب علي، إنما هناك خلاف في النهروان.
أعني؛ أن الخلاف في أهل النهروان موجود، بين السنة والشيعة من جهة؛ والإباضية من جهة أخرى، فهم يرون أن أهل النهروان صالحين؛ وفيهم صحابة فضلاء؛ والسنة يتفقون مع الإباضية أن في أهل النهروان صحابة؛ كحرقوص بن زهير وزيد بن حصين الطائي، ولكن أهل السنة يتفقون مع الشيعة في تضليلهم؛ والغريب اعتذار الغلاة من السنة -لا معتدليهم- عن أهل الشام لأن فيهم (صحابة طلقاء)! ولا يدافعون عن الخوارج لأن فيهم صحابة أقدم سلماً وصحبة؟ بل أكثر من هذا؛ الثورة على عثمان قادتها بدريون ورضوانيون أجلاء؛ ومع ذلك؛ يذمهم الغلاة والنواصب ذماً شديداً، ولا يراعون هنا بدراً ولا غيرها؛ وهذا الذم للثوار على عثمان - رغم بدرية ورضوانية قادتهم - إنما أتى من سيف بن عمر الناصبي؛ الوضاع فقط، هو الذي جعلهم ألعوبة في يد ابن سبأ؛ ولأن أبا بكر بن العربي المالكي الأشعري اعتمد رواية سيف في كتابه العواصم؛ ونشرها الناصبي المشهور محب الدين الخطيب؛ فقد فشا النصب في الغلاة.
لم يكن السنة المتقدمون - كأصحاب الكتب الستة وغيرهم - يطعنون في الثوار على عثمان بهذا الشكل عند سيف، بل يقرون بأن بعضهم بدريون ورضوانيون؛ بل نجد في تصنيفات بعض أهل السنة الكبار الثقات - كعمر بن شبة في (تاريخ المدينة) - قد ذكر أبواباً خصص كل باب في معارضة صحابي من الكبار لعثمان؛ وهذا لا يعني صوابهم هنا ولا خطؤهم؛ إنما يعني أن الصحابة في الثورة على عثمان كانوا كثير جداً وكبار جداً..
راجعوا فصول كتاب عمر بن شبة وسترون.
ومن هنا قلت بأن السنة القديمة في مصادرها القديمة (كالصحاح والسنن والمسانيد والمصنفات .الخ) غير ما نراه اليوم من أتباع سيف بن عمر والخطيب؛ التاريخ في المصادر القديمة مختلف 100% عن التصورات التي في أذهان الغلاة القلة من السنة - لا الأكثرية المعتدلة المصنفة في فتنة عثمان. بل إن عمر بن شبة ذكر المعارضين لعثمان حتى قبل الثورة عليه، وذكر منهم عبد الله بن مسعود وأبا ذر وحذيفة بن اليمان وعبد الرحمن بن عوف.. وما ذكره عمر بن شبة بالأسانيد الصحيحة - ولا خلاف في ثقته وسنيته - مفرق في كتب معاصرية؛ كأصحاب الصحاح والسنن؛ أو من سبقه؛ كأحمد وابن أبي شيبة؛ فالموضوع - فتنة عثمان - يمكن الاتفاق عليه - من حيث الخطوط العامة - بين الفرق الإسلامية كلها؛ سنة وشيعة وإباضية وزيدية؛ إلا سيف بن عمر ومن تبعه! فلماذا لا يتفق المسلمون اليوم كما اتفق تراثهم؟
نفس الجواب؛ لأن الأمراض في أماكن أخرى؛ ولأن هناك عوامل مؤثرة ضاغطة حرفت الاتفاقات الأولى.
أيضاً المحطة الكربلائية (ثورة الحسين)؛ أظن الفرق كافة متفقة على أحقية الحسين وفضله ومظلوميته وفسق يزيد وظلمه ... نعم؛ يخالف الغلاة والنواصب؛ وقد أهلمنا بعض المحطات، كاستباحة المدينة وهدم الكعبة والختم على أعناق الصحابة ..الخ؛ لأن الجميع متفق أيضاً على ذم ذلك؛ إلا النواصب فقط؛ وهنا أكرر؛ حتى الغلاة من السلفية فضلاً عن معتدليهم فضلاً عن كل السنة؛ ينكرون استباحة المدينة وهدم الكعبة، ولا يشرعنها إلا النواصب الخلص.
بقي (خلق القرآن) و (سقوط بغداد)؛ وهما من المحطات الكبرى التي أججت الخلاف؛ والقضية الأولى أهم، وكان لها آثار كبيرة جداً في انشقاق أهل السنة.. وأنصح من أراد دراسة (قضية خلق القرآن) بقراءة كتاب (المحنة) لفهمي جدعان؛ ومن شاء معرفة (سقوط بغداد) فليقرأ كتاب د سعد الغامدي في القضية؛ وقد أعود لاحقاًُ للقضيتين؛ لكن د فهمي جدعان كان له رسالة دكتوراه في القضية الأولى؛ وللــ د سعد الغامدي رسالة دكتوراه في القضية الثانية.
حاولوا أن تتعلموا؛ وأن تخرجوا من الأدلجة الضيقة التي تجعلكم تعادون كل المسلمين وتبغضونهم قبل معرفة أسباب قناعاتهم وحججهم؛ ليس هذا من العدل.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق