أزمتنا فقهية أم أخلاقية؟
.
من أول يوم قرأنا فيه الاختيار في الفقه الحنفي سنة 1976 عند شيخنا العالم عقلة الكبيسي رحمه الله، فتفاجأنا من كثرة مخالفة أبي يوسف ومحمد بن الحسن وزفر لإمامهم أبي حنيفة -عليهم رحمة الله جميعا-
ومن ذلك اليوم وإلى اليوم ونحن نطلع على ما لا يحصى من الخلاف العلمي والاجتهادي في أغلب كتب الفقه والتفسير وشروح الحديث بل والحكم على الحديث نفسه والعمل به، ولكثرة ما مر بنا من ذلك صار عندنا كأن هذا هو الأصل، وصرنا نستغرب حينما نجد مسألة ليس فيها قولان!
والأعجب من هذا حالة الوداد بين هؤلاء المختلفين، فالشافعي يأخذ العلم عن مالك ثم عن تلاميذ أبي حنيفة، ثم يخالف المذهبين ليؤسس مذهبا ثالثا، ثم يأتي أحمد بن حنبل ليأخذ فقهه عن الشافعي، ثم يخالفه بمذهب جديد. وكل هذا لا يعكر صفو ودادهم واحترامهم لبعضهم.
ولا يغرنكم قول من يقول إنهم اختلفوا في الفروع التفصيلية، لا، فمالك رد أحاديث رويت في الصحاح، كحديث البيعان بالخيار ما لم يتفرقا، ورد حديث صيام ست من شوال، ولكن هل سمعتم واحدا من المخالفين لمالك في اجتهاداته هذه يتهمه بأنه (عقلي) أو (عدو للسنة)؟
في تصوري أن ذلك الأدب العظيم عند فقهائنا الأوائل كان بسبب وعيهم بطبيعة هذا الدين الذي يقبل الاجتهاد العلمي حتى لو قاد إلى نتيجة خاطئة، إذا توفرت شروط الاجتهاد، أما مخالفة الآداب والقيم فهذه مرفوضة قطعا، ولا يستحق صاحبها إلا الاثم.
اليوم تنعكس الصورة في انتهاكين خطيرين لمنظومة القيم والأخلاق الإسلامية:
1- انتهاك صريح لقيم الإسلام وآدابه بحجة الدفاع عن الإسلام نفسه!! علما أن هذه الحجة نفسها هي متضمنة لهذا الانتهاك، لأنه يسيء الظن بعلماء الأمة الذين يخالفونه أو يخالفون جماعته في الرأي فيتهمهم بأنهم أعداء للإسلام والسنة ..الخ وقد رأيت من لا مانع عنده من زج كل مخالفيه ولو كانوا جمهور علماء الأمة في دائرة (الملحدين والفلاسفة الماديين والعلمانيين) وعلى الأقل دائرة (مخالفة الثوابت الشرعية ومعاداة السنة النبوية).
هذا ممكن يكون في تعليقه على مسألة دفع القيمة في صدقة الفطر، أو الأخذ بعلم الفلك في دخول الشهر!!
.
2- الجرأة في الفتوى بغير علم، وهذه ظاهرة جديدة، ولا أقصد الفتوى الفقهية فقط، بل فتاوى العقيدة والحكم على الحديث وتفسير القرآن الكريم، وكل شيء يخطر في البال، يقول؛ هذا رأيي بأخطر القضايا كما يشرب كوبا من الشاي أو أسهل.
هؤلاء لا أستطيع أن أناقشهم، لكني فقط أقول لهم: اتقوا الله في أنفسكم.
أمس كنت أقول لواحد من الإخوة يسأل كيف يجوز لعالم أو جمع من العلماء أن يخالفوا الثوابت الشرعية؟
وهو يقصد العلماء الذين أصدروا فتوى بشأن (قرض الإسكان) -مع أني حقيقة ليس لي فتوى مؤيدة أو معارضة بل إني أجيز تقليدهم وتقليد من خالفهم من أهل العلم بحسب ما يطمئن إليه قلب المستفتي وظرفه وحاجته-
المهم قلت له: أتدري من هو الذي خالف الثوابت الشرعية؟ قال من؟ قلت: أنت، حينما ظننت بمجموعة من أهل الدين والعلم أنهم يخالفون الثوابت الشرعية؟ عزيزي أتعلم ما معنى مخالفة الثوابت الشرعية وما ينبني على هذا القول؟ هذه كلمة تهتز لها الجبال لو كنت تفقه ما تقول.
هل تعلم أن الإمام ابن حزم ومعه بعض الأعلام يرون حصر الأموال الربوية في الأصناف المذكورة بالنص فقط ولا يقولون بتعديتها؟ وأن القائلين بالتعدية من المذاهب المعتبرة قد اختلفوا في (علة التعدية) فمنهم من لم ير الثمنية علة أصلا، فإذا حكمت على مشايخنا هؤلاء أنهم خالفوا الثوابت الشرعية، فما حكمك على أولئك الأعلام من سلف الأمة ومذاهبها، وخلافك معهم أكبر وأعمق؟
يا إخواني والله أتعجب لماذا يصر بعض الشباب والناشرين أن يكون له رأي وموقف من كل مسألة؟ من الذي كلفك بذلك ؟ ولماذا تورط نفسك في هذه المتاهات والمزالق والمهالك؟
.
معذرة إخواني وأخواتي فإني أتألم كثيرا حينما أرى بعض شبابنا مكان أن يحرصوا على تضييق دائرة الأزمات وأسباب التقاطع والتدابر في الظرف الذي نمر به، أرى بعضهم كأنه ينتظر أية مشكلة ليسل سيفه ويحمل سلاحه لكن ضد إخوانه وأبناء مسجده من المعروفين على الأقل بتدينهم واستقامة سيرتهم .
هذه نصيحتي لنفسي أولًا ولإخواني وأخواتي ثانيا، والله يحميكم جميعا ويأخذ بأيدينا وأيديكم لمًا يحبه ويرضاه.
.
محمد عياش الكبيسي
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق