الخميس، 19 مايو 2022

حكم قراءة الفاتحة في استفتاح الدعاء أو اختتامه أو في قضاء الحوائج أو في بداية مجالس الصلح أو مجالس الفواتح او الزواج والخطبة او الرقية والتداوي وغير ذلك؟!

 قراءة الفاتحة في استفتاح الدعاء أو اختتامه أو في قضاء الحوائج أو في بداية مجالس الصلح أو مجالس الفواتح او الزواج والخطبة او الرقية والتداوي وغير ذلك من مهمات الناس هو أمر مشروع بعموم الأدلة الدالة على استحباب قراءة القرآن من جهة، وبالأدلة الشرعية المتكاثرة التي تدل على خصوصية الفاتحة في إنجاح المقاصد وقضاء الحوائج وتيسير الأمور من جهة أخرى.

فأما الأدلة العامة: فكقوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ﴾
وكقوله صلى الله عليه وآله وسلم: «اقرؤوا القرآن فإنه يأتي يوم القيامة شفيعا لأصحابه» رواه مسلم من حديث أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه... إلى غير ذلك من النصوص المطلقة،
ومن المقرر في علم الأصول أن الأمر المطلق يقتضي العموم البدلي في الأشخاص والأحوال والأزمنة والأمكنة، وإذا شرع الله تعالى أمرا على جهة العموم أو الإطلاق فإنه يؤخذ على عمومه وسعته ولا يصح تخصيصه ولا تقييده بوجه دون وجه إلا بدليل، وإلا كان ذلك بابا من أبواب الابتداع في الدين بتضييق ما وسعه الله ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم.
كما أن فعل النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- لبعض أفراد العموم الشمولي أو البدلي ليس مخصصا للعموم ولا مقيدا للإطلاق طالما أنه -صلى الله عليه وآله وسلم- لم ينه عما عداه، وهذا هو الذي يعبر عنه الأصوليون بقولهم: "الترك ليس بحجة"؛ أي أن ترك النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- لأمر ما لا يدل على عدم جواز فعله، وهو أمر متفق عليه بين علماء المسلمين سلفا وخلفا،
حتى إن العلامة ابن تيمية الحنبلي رحمه الله -مع توسعه في مفهوم البدعة المذمومة- قد فهم هذا المعنى في تعبده؛ فكان يجعل الفاتحة وردا له، فقد نقل عنه تلميذه أبو حفص البزار في كتابه "الأعلام العلية في مناقب ابن تيمية" (ص: 38، المكتب الإسلامي) أنه كان يقرأ الفاتحة ويكررها من بعد الفجر إلى ارتفاع الشمس، ولو كان الترك حجة لعد بفعله هذا مبتدعا مخالفا للسنة، ولكن لما كان أمر الذكر والقراءة على السعة، وكانت العبرة فيه حيث يجد المسلم قلبه، كان هذا الفعل جائزا شرعا.
هذا من جهة عموم كون الفاتحة قرآنا وذكرا مشروعا تلاوته على كل حال ما لم يرد نهي عن ذلك بخصوصه، كالنهي عن تلاوة القرآن حال الجنابة مثلا.
وأما من جهة خصوصها في إنجاح المقاصد وقضاء الحوائج وتيسير الأمور وإجابة الدعاء: فقد دلت الأدلة الشرعية على أن فيها من الخصوصية ما ليس في غيرها: فالله تعالى يقول: ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ
والنبي -صلى الله عليه وآله وسلم- يقول: «﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ هي السبع المثاني والقرآن العظيم الذي أوتيته» رواه البخاري
ويقول لجابر بن عبد الله رضي الله عنهما: «يا جابر، أخبرك بخير سورة نزلت في القرآن؟» قال: بلى يا رسول الله، قال: «فاتحة الكتاب»، قال راوي الحديث: وأحسبه قال: «فيها شفاء من كل داء» رواه البيهقي في شعب الإيمان.
ويقول عليه الصلاة والسلام: «أم القرآن عوض من غيرها، وليس غيرها منها عوض» رواه الدارقطني والحاكم
وقد جاء الشرع الشريف بمشروعية قراءة الفاتحة في كل ركعة من الصلاة المفروضة والمسنونة، وهي ركن للصلاة عند جماهير أهل العلم، كما جاء الشرع بمشروعية قراءتها في الصلاة على الجنازة دون غيرها من سائر القرآن.
وهذه الخصوصية للفاتحة هي التي حملت سيدنا أبا سعيد الخدري -رضي الله عنه- على الرقية بها دون أن يبتدئه النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- بالإذن أو يعهد إليه بشيء في خصوص الرقية بها وقراءتها على المرضى، فلما أخبر النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- بما فعل لم ينكر عليه ولم يجعل ما فعله من قبيل البدعة، بل استحسنه وصوبه وقال له: «وما يدريك أنها رقية» متفق عليه، وفي البخاري أن النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- قال لهم: «قد أصبتم».
وجاء عن الصحابة الحث على قراءة الفاتحة في بعض المواضع مع عدم ورود نص بخصوصه في ذلك؛ فروى ابن أبي شيبة في المصنف (7/ 98، ط. دار الفكر) عن أسماء بنت أبي بكر الصديق -رضي الله عنهما- قالت: "من قرأ بعد الجمعة فاتحة الكتاب وقل هو الله أحد وقل أعوذ برب الفلق وقل أعوذ برب الناس حفظ ما بينه وبين الجمعة".
كما أن في خصوص الاستفتاح بها تأسيا بالكتاب العزيز؛ فإنها ما سميت فاتحة إلا لأن القرآن فتح بها، وفاتحة الشيء أوله، وقراءتها في استفتاح الأمور طلب للهداية والمعونة من الله تعالى فيها.
وفي ذلك يقول العلامة ابن القيم الحنبلي -رحمه الله تعالى- في "زاد المعاد" (4/ 347- 348، مؤسسة الرسالة): "فاتحة الكتاب، وأم القرآن، والسبع المثاني، والشفاء التام، والدواء النافع، والرقية التامة، ومفتاح الغنى والفلاح، وحافظة القوة، ودافعة الهم والغم والخوف والحزن؛ لمن عرف مقدارها وأعطاها حقها وأحسن تنزيلها على دائه وعرف وجه الاستشفاء والتداوي بها والسر الذي لأجله كانت كذلك.
ولما وقع بعض الصحابة على ذلك رقى بها اللديغ فبرأ لوقته، فقال له النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «وما أدراك أنها رقية».
وقد استدل العلماء على قراءة الفاتحة لقضاء الحوائج بحديث أبي هريرة -رضي الله عنه- الذي رواه الإمام مسلم وغيره عن النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- قال: «قال الله تعالى: قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين، ولعبدي ما سأل؛ فإذا قال العبد: ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ]﴾،قال الله تعالى: حمدني عبدي، وإذا قال: ﴿الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ قال الله تعالى: أثنى علي عبدي، وإذا قال: ﴿مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ قال: مجدني عبدي -وقال مرة: فوض إلي عبدي-، فإذا قال: ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ قال: هذا بيني وبين عبدي، ولعبدي ما سأل، فإذا قال: ﴿اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ:قال: هذا لعبدي ولعبدي ما سأل».
وعلى ذلك جرى فعل السلف الصالح من غير نكير: فأخرج أبو الشيخ في "الثواب" عن عطاء -رحمه الله تعالى- أنه قال: "إذا أردت حاجة فاقرأ بفاتحة الكتاب حتى تختمها تقضى إن شاء الله".
قال العلامة ملا علي القاري في "الأسرار المرفوعة" (ص: 253،: "وهذا أصل لما تعارف الناس عليه من قراءة الفاتحة لقضاء الحاجات وحصول المهمات".
وهذا هو المعتمد عند أصحاب المذاهب المتبوعة: فنص الحنفية مثلا على استحسان قراءة الفاتحة على الطعام: قال العلامة الخادمي الحنفي في "بريقة محمودية" وهو يتحدث عن آداب الطعام (4/ 111،: "أما قراءة الفاتحة: فعن بعض العلماء عن شرح مختصر الإحياء لعلي القاري: وقول قراءة سورة الفاتحة المشتملة على التحميد والدعاء بالاستقامة كما هو المتعارف بين العامة مستحسن خلافا لمن منعه.
والمعتمد عندهم جواز قراءة الفاتحة في أدبار الصلوات المكتوبة: قال العلامة الخادمي في "بريقة محمودية" (1/ 98): "وأما قراءة الفاتحة أدبار المكتوبات فكثير فيها أقاويل الفقهاء: فعن "معراج الدراية" أنها بدعة، لكنها مستحسنة للعادة، ولا يجوز المنع، …..وفي "التتارخانية" و"القنية" و"الأشباه": الاشتغال بقراءة الفاتحة أولى من الأدعية المأثورة في أوقاتها، ومن الأوقات المأثورة: أدبار الصلوات؛ إذ ورد أدعية كثيرة أعقاب الصلوات عن سيد السادات عليه أفضل الصلوات وأكمل التحيات، وفي "فصول الأسروشني": وقراءة الفاتحة أولى من الأدعية المأثورة في أوقاتها.
والذي تحرر من هذه النقول: ترجيح جانب الجواز؛ لكثرة قائله،
ونص المالكية على جواز قراءتها عند الوداع في السفر: قال العلامة الصاوي في "حاشيته على الشرح الصغير" (1/ 487،: "وما يقع من قراءة الفاتحة عند الوداع فأنكره الشيخ عبد الرحمن التاجوري، وقال: إنه لم يرد في السنة، وقال الأجهوري: بل ورد فيها ما يدل لجوازه، وهو غير منكر".
وعند الشافعية: جاء في فتاوى العلامة الشهاب الرملي الشافعي (1/ 160- 161،: "(سئل) عن قراءة الفاتحة عقب الدعاء بعد الصلوات؛ هل لها أصل في السنة أم هي محدثة لم تعهد في الصدر الأول؟ وإذا قلتم محدثة: فهل هي حسنة أو قبيحة؟ وعلى تقدير الكراهة: هل يثاب قائلها أم لا؟ (فأجاب) بأن لقراءة الفاتحة عقب الدعاء بعد الصلوات أصلا في السنة، والمعنى فيه ظاهر، لكثرة فضائلها، وقد قال صلى الله عليه وآله وسلم: «فاتحة الكتاب معلقة في العرش ليس بينها وبين الله حجاب».
وفيها من الصفات ما ليس في غيرها، حتى قالوا: إن جميع القرآن فيها، وهي خمس وعشرون كلمة تضمنت علوم القرآن؛ لاشتمالها على الثناء على الله عز وجل بأوصاف كماله وجماله، وعلى الأمر بالعبادات، والإخلاص فيها، والاعتراف بالعجز عن القيام بشيء منها إلا بإعانته تعالى، وعلى الابتهال إليه في الهداية إلى الصراط المستقيم، وعلى بيان عاقبة الجاحدين، ومن شرفها: أن الله تعالى قسمها بينه وبين عبده، ولا تصح القراءة في الصلاة إلا بها، ولا يلحق عمل بثوابها؛ وبهذا المعنى صارت أم القرآن العظيم، وأيضا فلكثرة أسمائها، وكثرة الأسماء تدل على شرف المسمى، ولأن من أسمائها: أنها سورة الدعاء، وسورة المناجاة، وسورة التفويض، وأنها الراقية، وأنها الشفاء، والشافية؛ لقوله صلى الله عليه وآله وسلم: «إنها لكل داء»، وقالوا: إذا عللت أو شكيت فعليك بالفاتحة؛ فإنها تشفي".
وذكر العلامة ابن حجر الهيتمي الشافعي في "الفتاوى الفقهية الكبرى" (4/ 29، ط. المكتبة الإسلامية) أنه يستحب قراءة الفاتحة عند وقوع الطاعون؛ لأنها شفاء من كل داء.
وكذلك عند الحنابلة: فقد كان الإمام أحمد بن حنبل يستعمل كتابة الفاتحة في التمائم الشرعية، قال العلامة ابن مفلح الحنبلي في "الآداب الشرعية" (2/ 455،: "قال المروذي: شكت امرأة إلى أبي عبد الله أنها مستوحشة في بيت وحدها، فكتب لها رقعة بخطه: بسم الله، وفاتحة الكتاب، والمعوذتين، وآية الكرسي".
وهذا العلامة ابن القيم الحنبلي يستحسن قراءة الفاتحة للمفتي عند الإفتاء، وينقل ذلك عن بعض السلف، مع عدم ورود شيء من ذلك بخصوصه في السنة، فيقول في كتابه "إعلام الموقعين عن رب العالمين" (4/ 198،: "حقيق بالمفتي أن يكثر الدعاء بالحديث الصحيح «اللهم رب جبرائيل وميكائيل وإسرافيل، فاطر السموات والأرض، عالم الغيب والشهادة، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك، إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم»، وكان بعض السلف يقول عند الإفتاء: سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا؛ إنك أنت العليم الحكيم، وكان بعضهم يقرأ الفاتحة، وجربنا نحن ذلك فرأيناه أقوى أسباب الإصابة".
وعلى ذلك جرى عمل السلف والخلف حتى صنف الشيخ العلامة يوسف بن عبد الهادي الحنبلي الشهير بابن المبرد رسالة في ذلك سماها "الاستعانة بالفاتحة على نجاح الأمور" نقل فيها كلام العلامة ابن القيم السابق إيراده من كتابه "زاد المعاد"، ثم يقول معقبا عليه: "وهو كلام عظيم، ولكنه من فضلها كغمسة عصفور منقره في البحر أو قطرة شربها منه، وقد كان شيخنا أبو الفرج بن الحبال في كثرة استعمالها لقضاء الحوائج ونجاح أمرها على أمر عظيم؛ بحيث إنه إذا كتب لأحد حرزا كتبها أولا، ثم قرأ عليه، ثم قرأها عند طيه، وكان إذا كتب لأحد رسالة قرأها عليها.
وقد شاهدت أنا من نجاح الأمور بها أمرا عظيما؛ فقل حاجة من الحوائج تعرض لي -من الحوائج الدنيوية والأخروية- فأقرؤها عليها إلا قضيت ونجح أمرها، وكم من حاجة تعسرت، واستدت طرقها، وحال دونها الموانع، فقرأتها لنجاحها فقضيت وعادت أتم ما كانت، وكم من أمر تعسر فقرأتها له فتقشعت غيومه، وزالت سحبه، وأنارت شموسه، وهي سورة عظيمة؛ فعليك -رحمك الله- بالإكثار منها على أمورك وحوائجك وأدوائك ومهماتك وكل ما عرض لك، وتأمل ذلك تجد منه ما يظهر لك.
وأما الآراء المخالفة لما عليه عمل الأمة سلفا وخلفا والتي تظهر بين الناس بين الفينة والفينة لتضيق عليهم المجال في ذكر الله تعالى في بيوتهم ومجالسهم ومنتدياتهم وتجمعاتهم فما هي في الحقيقة إلا مشارب بدعة، ومسالك ضلالة -بغض النظر عن نوايا منتحليها-؛ لأن الدعوة إلى القضاء على أعراف المسلمين التي بنتها الحضارة الإسلامية على مر الزمان وشكلتها في سلوكياتهم وعاداتهم وتقاليدهم -انطلاقا من كون الشرع الشريف هو محور حياتهم- هو أمر خطير، غفل الداعون إليه أو تغافلوا عن أنه سيؤدي بهم في النهاية إلى فقد المظاهر الدينية من المحافل العامة، واستبعاد ذكر الله تعالى من الحياة الاجتماعية ومنظومة الحضارة، وهو عين ما يدعو إليه الملاحدة والماديون من البشر.
فليتق الله أولئك الذين يهرفون بما لا يعرفون، وليتركوا الفتوى لأهلها الذين يدركون مرارة الواقع، ويعقلون مآلات الأحكام.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق