الجمعة، 16 فبراير 2024

حوار مع صوفي سلفي

 حوار مع صوفي سلفي

يتوهم الكثير أن السلفية لقب يطلق على طائفة محدودة من الناس، والتي تتميز بأفكارها، ومظهرها، وأساليبها الخاصة في التعامل مع الآخر.

وهذا صحيح من جهة التسمية، فلقب السلفية مخصوص بتلك الطائفة، فهي التي رضيته لنفسها، وهكذا عرفها الناس.. لكن ذلك غير صحيح من حيث الواقع.. ذلك أن السلفية كظاهرة نفسية واجتماعية نراها في الواقع أعظم من أن تنحصر في طائفة دون طائفة أو مذهب دون مذهب.. فيمكن أن يكون أكثر الناس حربا للسلفية سلفي ولا يدري، بل قد يكون أشد عنادا منهم، وأكثر عصبية وحدة.. ونحن نرى ذلك في الواقع بوضوح لا يحتاج معه إلى دليل.

فالصوفي الذي يتوهم أنه متحرر من رق السلفية، لا يكون كذلك إلا إذا تحرر عقله من شيوخه وأئمته وسلفه ومن يسميهم أهل الله.. فلا يسلمهم عقله بالمجان، بل ينتظر منهم الحجة والبرهان، وقد قال الإمام الجنيد، وهو من يسمونه [سيد الطائفة]: (إن النكتة لتقع في قلبي من جهة الكشف فلا أقبلها إلا بشاهدى عدل من الكتاب والسنة)، وقال الشيخ عبد القادر الجيلاني مؤسس الطريقة القادرية: (كل حقيقة لا تشهد لها الشريعة فهي زندقة.. طِرْ إِلى الحق عز وجل بجناحي الكتاب والسنة، ادخل عليه ويدك في يد الرسول)

ولذلك فإن كل أولئك الذين يتلقون عقائدهم ومعارفهم الإلهية من ابن عربي أو الجيلي أو القونوي أو الدباغ أو غيرهم من غير تمريرها على محك الكتاب والسنة الموافقة للكتاب، ومن غير تمريره على العقل المقدس الذي أنزله الله على كل إنسان ليعرفه به، لا يختلف عن السلفية إلا في شيء واحد.. وهو أن شيخ السلفية هو ابن تيمية.. وشيخه هو ابن عربي أو غيره من المشايخ.

وقد عجبت لبعض أصدقائي من الصوفية حين ذكر لي أنه لا عذاب في الآخرة، وأن كل أولئك العتاة المتجرين الظلمة الذين قضوا حياتهم في حرب أولياء الله، لن يعيشوا في الآخرة إلا السعادة، مثلهم مثل المؤمنين، ولا فارق بينهم سوى المحل الذين يكونون فيه، فالمؤمنون في الجنة، وغيرهم من العتاة في النار.. وكأن الآخرة مجموعة فنادق راقية: للتقاة فنادقهم، وللفجرة فنادقهم.

لم أستعجل في الرد عليه حتى لا أقع في شباك السلفية المتسرعة، بل رحت أطلب منه أن يدلي بحجته، وأثبت له براءة صدري، وأني مستعد لو أقنعني بالعقل والمنطق أو بالكتاب والسنة الموافقة للكتاب أن أتبنى رؤيته، وأبشر بها في كل محل.

التفت إلي بصلف وكبرياء، وقال: إن بقيت تتبع عقلك، فسيحجبك عن الله..

قلت: لا بأس قد رميت عقلي.. فهلم بالدليل من الكتاب؟

قال: الكتاب أعظم من أن يتنزل فهمه على صدرك الممتلئ بالأغيار، والمشحون بالحجب التي تبعده عن الواحد القهار.

قلت: إن لم أرجع للكتاب.. ولا السنة.. ولا العقل.. فلمن أرجع؟

قال: لأهل الله… العارفين بالله.. أولئك الذين كشفت لهم الأسرار، وزالت عنهم الأغيار.. فشاهدوا الحقائق أوضح من نور النهار.

قلت: لا بأس.. فأسمعني كلامهم.. فلعل فيه من الحجة ما يجعلني أنقاد له.

قال: كلهم متفقون على ذلك.. لقد قال شيخنا عبد الغني النابلسي في شرحه على الفصوص، وفي [الفص الإسماعيلي]: (إذا دخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار انقضى يوم القيامة، وجاء يوم الخلود كما قال تعالى: {ادْخُلُوهَا بِسَلاَمٍ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُلُود} [ق:34]، فإذا زال الحجاب بالتجلي على أهل النار، المكنى عنه في الحديث بوضع القدم، والمشار إليه في قوله تعالى: { فَضُرِبَ بَيْنَهُم بِسُورٍ لَّهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِن قِبَلِهِ الْعَذَاب} [الحديد:13] الآية، فالباطن الذي فيه الرحمة هو التجلي، والعذاب في الظاهر، فعند ذلك ينقلب العذاب عذوبة لهم مع بقائه كما كان على الأبد، ولهذا قال: (يسمى) أي ذلك العذاب عذاب أهل النار (عذابا) مشتقا (من)العذوبة وهي الحلاوة لأجل (عذوبة طعمه) في أذواقهم وإن بقيت عينه في الظاهر معاقبة وإيجاعا (وذاك) أي ما هو في الظاهر من صورة المعاقبة (له) أي لما في الباطن من اللذة والعذوبة (كالقشر) الذي يكون للبوب والحبوب (والقشر صائن)، أي حافظ ساتر لما في داخله من اللب، وذلك بعد استيفاء مدة ما هم فيه من استيلاء الأوهام على خيالاتهم الفاسدة حتى يتحققوا بالواحد الحق في كل ما التبس عليهم فيه، ويشهدونه في الظواهر والبواطن، ويرجهون إلى ما كانوا فيه من البواطن) ([1])

قلت له: هذا كلام خطير، وهو يتنافى تماما مع ما ورد في القرآن الكريم وفي السنة المطهرة من وصف العذاب والألم والشدة التي يعانيها أهل جهنم، فقد قال تعالى في وصف عذاب أهل النار، وعظم ما هم فيه: {إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكَافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيرًا خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لّا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا} [الأحزاب:64-65]، فهل هذه اللعنة التي أخبر الله عن تنزلها عليهم رحمة؟

وقال تعالى في وصف حالهم وألمهم: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْ أَنَّ لَهُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُواْ بِهِ مِنْ عَذَابِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ يرِيدُونَ أَن يَخْرُجُواْ مِنَ النَّارِ وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّقِيمٌ} [المائدة:36-37]، فهل يمكن لمن ينزل فندقا ممتلئا بالعذوبة أن يطلب مغادرته؟

وقال تعالى في وصف طعامهم: {لَّيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلاَّ مِن ضَرِيعٍ لا يُسْمِنُ وَلا يُغْنِي مِن جُوعٍ} [الغاشية:6-7]، وقال: {ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ لآكِلُونَ مِن شَجَرٍ مِّن زَقُّومٍ فَمَالِؤُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ فَشَارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ فَشَارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ هَذَا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ} [الواقعة:51-56]، وقال: {إِنَّ لَدَيْنَا أَنكَالًا وَجَحِيمًا وَطَعَامًا ذَا غُصَّةٍ وَعَذَابًا أَلِيمًا} [المزمل:12-13]، فهل هذا وصف لعذاب أم لنعمة؟ وهل هو وصف لسجن ممتلئ بزنزانات التعذيب، أم هو وصف لفنادق ممتلئة باللذة والعذوبة؟

وقال تعالى في وصف آلامهم وصياحهم وعذابهم: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُم مِّنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُم مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِن نَّصِيرٍ} [فاطر:36-37]، وقال: { إِنا أَعْتَدْنَا لِلظالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِن يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاء كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءتْ مُرْتَفَقًا} [الكهف:29]، فهل يمكن لمن نزل الفنادق الممتلئة بالعذوبة أن يندم أو يطلب الخروج منها؟

بعد أن ذكرت له هذا وغيره، قال لي: أنت تقرأ القرآن بعقلك، وفي منزلتك.. لكن عندما ترقى إلى المنازل العليا، وتكشف لك الحقائق.. فستفهم من هذه الآيات التي كنت تقرؤها خلاف ما تفهم الآن.

قلت: لا بأس.. فهل وصلت أنت إلى تلك المحال، واكتشفت بنفسك تلك الحقائق؟

قال: أنا لا أحتاج لكل ذلك، فحبي لأهل الله وأوليائه، وتصديقي المطلق لهم، يجعلني أرى الحقائق بعيونهم، وأسمعها بآذانهم.. لقد قال الإمام الجنيد: (لو علمتُ أن لله عِلماً تحت أديم السَّماء أشرف من هذا العلم الذي نتكلم فيه مع أصحابنا وإخواننا، لَسَعيتُ إليه وأخذته)، وقال: (التصديق بعلمنا هذا: ولايَةٌ)، وقال الإمام أبو عبد الرحمن السُّلمي: (إن الصوفية: أمان الله في أرضه، وأخدانُ أسراره وعِلمِه، وصفوته من خلقِه، وهم ممدوحون بلسان النبوة.. فمن أنكر هذا المذهب فلقلة معرفته، وقِلة الاهتداء لحقائقه.. قال تعالى: { وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هَذَا إِفْكٌ قَدِيم} [الأحقاف:11])

قلت له: لا بأس.. أليس الإمام علي من أهل الله، ومن العارفين به؟

غضب، وقال: ومن قال خلاف ذلك.. إننا معشر الصوفية نحب أهل البيت، ونعظمهم، بل إنه لا يوجد في الدنيا من يعظمهم مثلنا، وكل أسانيدنا لمشايخنا ترجع للإمام علي.

قلت: أعرف ذلك منكم، ولكن ليس الشأن في أن تحبه بقلبك، ثم تخالفه بفعلك حتى لا تصير كمن قال فيهم الفرزدق: (قلوبهم معك، وسيوفهم مع بني أمية)

قال: أولئك هم الروافض الكذبة أدعياء محبة أهل البيت.. أما نحن فنحبهم بصدق.

قلت: فقد قال الإمام علي خلاف ما قال أهل الله الذين نسبت لهم تلك الأقوال.. لقد قال مخاطبا أصحابه: (اعلموا أنه ليس لهذا الجلد الرقيق صبر على النار فارحموا نفوسكم، فإنكم قد جربتموها في مصائب الدنيا، أفرأيتم جزع أحدكم من الشوكة تصيبه، والعثرة تدميه، والرمضاء تحرقه؟ ! فكيف إذا كان بين طابقين من نار، ضجيع حجر، وقرين شيطان؟ !) ([2])

وقال مخاطبا الأحنف بن قيس: (فلو رأيتهم يا أحنف ! ينحدرون في أوديتها ويصعدون جبالها، وقد ألبسوا المقطعات من القطران، واقرنوا مع فجارها وشياطينها، فإذا استغاثوا بأسوأ أخذ من حريق شدت عليهم عقاربها وحياتها)

قال صاحبي الصوفي: ما ذكرته صحيح..وكلام الإمام علي كان مع العوام، لا مع الخواص.. فهذه العلوم أسرار.. ولا تباح لكل الناس.

قلت: فكيف أباحها هؤلاء ونشروها، ولم يستنوا فيها بسنة إمامهم الذي يزعمون انتسابهم إليه؟

نظر إلي نظرة طويلة تصورت أنه قد رجع فيها للحق، وأعمل فيها عقله وكلام ربه وكلام أهل الله الذي لا يقدم بين يدي الله.. لكني فوجئت به يصيح في وجهي صيحة شديدة، ويقول: لن أجادلك أكثر من هذا.. فأنت محجوب بعقلك.. وأنت أبعد الناس عن معاني أهل الله.. وأنت.. وأنت..

وبقي يردد ذلك، والزبد يتطاير من فمه كما يتطاير من أفواه من نراهم يطلقون على أنفسهم لقب السلفية.

([1]) الفصوص (1/333)

([2]) نهج البلاغة: الخطبة 183.


د. نور الدين أبو لحية

كاتب، وأستاذ جامعي، له أكثر من مائة كتاب في المجالات الفكرية المختلفة، وهو مهتم خصوصا بمواجهة الفكر المتطرف والعنف والإرهاب، بالإضافة لدعوته لتنقيح التراث، والتقارب بين المذاهب الإسلامية.. وهو من دعاة التواصل الإنساني والحضاري بين الأمم والشعوب.. وقد صاغ كتاباته بطرق مختلفة تنوعت بين العلمية والأكاديمية والأدبية.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق