الخميس، 12 سبتمبر 2024

التدليس في قولهم: إن أول من احتفل بالمولد النبوي الشريف؛ هم العُبيديون الفاطميون الشيعة!

 التدليس في قولهم: إن أول من احتفل بالمولد النبوي الشريف؛ هم العُبيديون الفاطميون الشيعة!


من جملة التدليس الذي ابتلي به هؤلاء النابتة، لتنفير الناس من الاحتفال بالمولد النبوي الشريف؛ زعمهم أن أول من أحدث الاحتفال به الدولة العُبيدية الفاطمية الشيعية، وللرد على هذا الزعم نقول:
أولا: هذا رأي من جملة آراء ثلاثة للعلماء والمؤرخين، وقد ذكره المقريزي في [الخطط] والقلقشندي في [صبح الأعشى]، في احتفالات الشيعة، ولم يذكرا أنهم أول من أحدثوه، وإنما استنبط ذلك من كلامهما بعض المعاصرين، والإنصاف العلمي يقتضي ذكر جميع الآراء، والموازنة بينها.
ثانيا: أما الرأي الثاني فهو ما ذكره العلامة المؤرخ أبو شامة في كتابه [الباعث على إنكار البدع والحوادث] من قوله: "إن من أحسن ما ابتُدع في زمانه؛ ما كان يُفعل في مدينة إِرْبِل من الاحتفال بالمولد النبوي، وكان أول من فعل ذلك بالموصل؛ الشيخ عمر بن محمد المَلَّا، أحد الصالحين المشهورين، وبه اقتدى في ذلك صاحب إربل".
والشيخ عمر بن محمد الملا؛ إمام من أئمة أهل السنة والجماعة، وهو مُعين الدين أبو حفص عمر بن محمد بن خضر الإربلي (أو الأردبيلي) الموصلي، المعروف بالمَلاَّء المتوفى سنة 570 هـ.
قال سبط ابن الجوزي: "سمي الملَّاء؛ لأنه كان يملأ تنانير الآجُرّ، ويأخذ الأجرة فيتقوَّت بها، ولا يملك من الدنيا شيئاً".
وهو شيخ الموصل في عهده، ويوصف في الكثير من المصادر التاريخية بالزاهد العابد الصالح!
وله أخبار مع الملك الصالح العادل نور الدين محمود بن زنكي، وقد كان زنكي يحسن الظن بالملَّاء، حتى إنه أوصى أن لا يبرم أحد في الموصل شيئا حتى يُعلموا به الملَّاء!
وكان نور الدين إذا وصل إلى الموصل؛ لا يأكل إلا من الملَّاء، وفي رمضان كان يعد الشيخ الإفطار لنور الدين وهو لا يخرج عن الثريد والرقاق، ويفطر معه كل يوم!
صنف الملَّاء كتابا اسمه "وسيلة المتعبدين في سيرة سيد المرسلين" أو "وسيلة المتعبدين إلى متابعة سيد المرسلين".
فيرى أبو شامة أن المَلَّاء هو أوّل من أحدث الاحتفال بالمولد النبوي، وكان يحتفل به سنويا بحضور الشعراء والأمراء في زاويته!
وهو - كما ترى - من الصالحين العابدين الزاهدين، من أهل السنة، ونور الدين بن زنكي الذي كان يحبه ويقربه من أعظم ملوك الإسلام!
وذكر ياسين العمري في [منية الأدباء] أن مرقده "خارج سور الموصل عند المقابر، على طريق الواردين إلى دجلة، ويزار"، كما يوجد في الموصل محلة تدعى محلة (الشيخ عمر) نسبة إلى جامع الشيخ عمر الملا، وقد نُقل رفاته إلى (الجامع النوري) في محرم 1394 هـ / شباط 1974 م على إِثْر إضافة المسجد إلى الطريق!
وأما الرأي الثالث في أول من أحدث الاحتفال بالمولد النبوي الشريف؛ فهو - فيما ذكر الإمام السيوطي وهو مؤرخ - أن أول من احتفل بالمولد - بشكل كبير ومنظم - هو حاكم إِرْبِل (في شمال العراق حاليًا)؛ الملك المظفَّر أبو سعيد كُوْكَبْرِي بن زين الدين علي بن بُكْتْكِين، من كبار أهل السنة الصلحاء، وأحد الملوك الأمجاد، والكبراء الأجواد، وكانت له آثار حسنة.
قال ابن خَلِّكان في ترجمة الحافظ أبي الخطاب ابن دِحية، من تاريخه المسمى [وَفَيَات الأعيان]: "كان من أعيان العلماء، ومشاهير الفضلاء، قدم من المغرب، فدخل الشام والعراق، واجتاز بإربل سنة أربع وستمائة، فوجد ملكها المعظَّم، مظفَّر الدين بن زين الدين؛ يعتني بالمولد النبوي، فعمل له كتاب (التنوير في مولد البشير النذير)، وقرأه عليه بنفسه، فأجازه بألف دينار".
فانظر: كيف أن أحد أعيان العلماء ومشاهير الفضلاء - وهو أبو الخطاب بن دحية؛ أقره على عمله، بل وألَّف له مولدا، وقرأه عليه بنفسه، وأجازه به!
وقال الحافظ الذهبي في ترجمته، في [سِيَر أعلام النبلاء]: "وكان محبا للصدقة، له كل يوم قناطير خبز يفرِّقها، ويكسو في العام خَلْقًا، ويعطيهم دينارا ودينارين، وبنى أربع خَوَانِك للزَّمْنَى والأَضِرَّاء، وكان يأتيهم كل اثنين وخميس، ويسأل كل واحد عن حاله، ويتفقده، ويباسطه، ويمزح معه، وبنى دارا للنساء، ودارا للأيتام، ودارا لِلُّقَطَاء، ورتَّب بها المراضع، وكان يدور على مرضى البيمارستان، وله دار مُضيف ينزلها كل وارد، ويعطى كل ما ينبغي له، وبنى مدرسة للشافعية والحنفية، وكان يمد بها السماط - المائدة - ويحضر السماع كثيرا، لم يكن له لذة في شيء غيره!

وكان يمنع من دخول مُنْكرٍ بلده، وبنى للصوفية رباطين، وكان ينزل إليهم لأجل السماعات، وكان في السنة يَفْتَكُّ أسرى بجملة، ويُخرج سبيلا للحج؛ ويبعث للمجاورين بخمسة آلاف دينار، وأجرى الماء إلى عرفات!
وأما احتفاله بالمولد؛ فيقصر التعبير عنه، كان الخلق يقصدونه من العراق والجزيرة، وتُنصب قِباب خشب له ولأمرائه، وتُزيَّن، وفيها جوق المغاني واللعب، وينزل كل يوم العصر، فيقف على كل قبة ويتفرج، ويعمل ذلك أياما، ويُخرج من البقر والإبل والغنم شيئا كثيرا، فتُنحر، وتُطبخ الألوان، ويَعمل عِدَّة خِلَع للصوفية، ويتكلم الوعاظ في الميدان، فينفق أموالا جزيلة، وقد جمع له ابن دحية [كتاب المولد]، فأعطاه ألف دينار.
وكان متواضعا، خَيِّرًا، سُنِّيًّا، يحب الفقهاء والمحدِّثين، وربما أعطى الشعراء، وما نُقل أنه انهزم في حرب، وقد ذكر هذا وأمثاله ابن خَلِّكاَن، واعتذر من التقصير!". انتهى النقل عن الحافظ الذهبي.

وقال الحافظ ابن كثير في تاريخه المسمى [البداية والنهاية]: "أما صاحب إربل فهو الملك المظفر أبو سعيد كُوْكَبْري بن زين الدين علي بن بُكْتُكِين، أحد الأجواد، والسادات الكبراء، والملوك الأمجاد، له آثار حسنة، وقد عَمَّر الجامع المُظَفَّري بسفح قاسيون .. وكان يعمل المولد الشريف في ربيع الأول، ويحتفل به احتفالا هائلا.
وكان - مع ذلك - شهما، شجاعا، فاتكا، بطلا، عاقلا، عالما، عادلا، رحمه الله، وأكرم مثواه.
وقد صنَّف الشيخ أبو الخطاب ابن دحية له مجلدا في المولد النبوي سماه: (التنوير في مولد البشير النذير)، فأجازه على ذلك بألف دينار!
وقد طالت مدته في المُلْك، في زمان الدولة الصلَاحية، وقد مات وهو محاصر عكا محمود السيرة والسريرة!
قال السبط - يعني: سبط ابن الجوزي -: "حكى بعض من حضر سِمَاط - مائدة - المظفر، في بعض الموالد، كان يمد في ذلك السماط خمسة آلاف رأس مشوي، وعشرة آلاف دجاجة، ومائة ألف زبدية، وثلاثين ألف صحن حلوى!
قال: "وكان يحضر عنده في المولد أعيان العلماء والصوفية، فيخلع عليهم - يعني: الهدايا - ويُطْلق لهم، ويعمل للصوفية سماعا - يعني: الأناشيد والمدائح النبوية - من الظهر إلى الفجر، ويرقص بنفسه معهم - يعني: يظهر التواجد عند السماع - وكانت له دار ضيافة للوافدين من أي جهة على أي صفة، وكانت صدقاته في جميع القُرَب والطاعات على الحرمين وغيرهما، ويَفْتَكُّ من الفرنج في كل سنة خلقًا من الأسارى!
حتى قيل: إن جملة من استفكَّه من أيديهم ستون ألف أسير!
قالت زوجته ربيعة خاتون بنت أيوب - وكان قد زوَّجه إياها أخوها صلاح الدين، لمَّا كان معه على عَكَّا -: كان قميصه لا يساوي خمسة دراهم، فعاتبته بذلك، فقال: لبسي ثوبا بخمسة، وأتصدق بالباقي؛ خير من أن ألبس ثوبا مثمنا، وأدع الفقير المسكين!
وكان يصرف على المولد في كل سنة ثلاثمائة ألف دينار، وعلى دار الضيافة في كل سنة مائة ألف دينار، وعلى الحرمين والمياه بدرب الحجاز ثلاثين ألف دينار، سوى صدقات السر، رحمه الله تعالى، وكانت وفاته بقلعة إربل، وأوصى أن يحمل إلى مكة، فلم يتفق، فدفن بمشهد علي". انتهى النقل عن الحافظ ابن كثير.
فانظر إلى هذا الملك، الصالح، الخيِّر، المجاهد، الساعي في مصالح المسلمين، وكيف اتفق على صلاحه والثناء عليه جماعة المؤرخين، وهو من أهل السنة باتفاق، ومن توفيق الله أنه مات وهو مجاهد في سبيل الله، فرضي الله عنه جزاء تعظيمه لمولد المصطفى صلى الله عليه وسلم!

وبهذا يتبين لك حجم التدليس في زعمهم أن أول من احتفل بالمولد النبوي الشريف هم العبيديون الفاطميون الشيعة!
وقد حاول العلامة الشيخ محمد بخيت المطيعي، مفتي مصر الأسبق؛ أن يجمع بين القولين في كتابه [أحسن الكلام فيما يتعلق بالسنة والبدعة من الأحكام]، فقال: "نعم، قال السيوطي وغيره إن الأمير كوكبري هو أول من أحدثه، لكن ذلك مردود بما تقدم، ويمكن الجمع بين القولين بأن الأمير كوكبري هو أول من أقامه من أهل السنة، أو أول من أقامه بتلك الصفة التي ذكرها المؤرخون .. ومن ذلك تعلم أن مظفر الدين إنما أحدث المولد النبوي في مدينة إربل؛ فلا ينافي ما ذكرناه من أن أول من أحدثه بالقاهرة الخلفاء الفاطميون من قبل ذلك؛ فإن دولة الفاطميين انقرضت بموت العاضد بالله أبي محمد عبدالله بن الحافظ بن المستنصر، في يوم الاثنين، عاشر محرم سنة سبع وستين وخمسمائة، وما كانت الموالد تُعرَف في دولة الإسلام من قبل الفاطميين".
فقد أشار الشيخ المطيعي إلى عدة احتمالات يزول بها الإشكال في أول من أحدث الاحتفال، وهي أن الملك المظفر صاحب إربل هو أول من أحدثه من أهل السنة، أو على تلك الصفة العظيمة، أو في العراق.

وكذلك يقال: إن أول من أحدثه من أهل السنة مطلقا الشيخ الصالح عمر المَلَّا في الموصل، ثم نقله عنه الملك المظفر صاحب إربل في شمالي العراق، لكن على صفة عظيمة، واهتمام بالغ!
والحاصل: أن الأولية هنا ليست مطلقة، بل نسبية، وعلى كل حال؛ فهذه المسألة التشغيبية؛ لا قيمة لها، وليست ذات بال، مع قيام أدلة أخرى على مشروعية الاحتفال، وتواتر علماء الإسلام من أهل السنة عليه، في كل عصر ومصر، في مصر والشام والعراق وفلسطين والمغرب والأندلس، وغيرها من أقطار الإسلام وعواصمه الكبرى، ومعلوم أن الأمة لا تجتمع على ضلالة، وأن الفعل إذا أقره العلماء، وأفتى به الفقهاء، وعملوا به؛ خرج من دائرة البدعة إلى دائرة السنة، ومن دائرة الحرمة إلى دائرة الحل، وبالله التوفيق.

بقلم : محمد إبراهيم العشماوي
أستاذ الحديث الشريف وعلومه في جامعة الأزهر الشريف.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق