التمذهب بالسلفية.. ابتداع لشيء لم يأذن به الله ورسوله
كلمة "السلف" تقرع أسماعنا صداها كثيرا في هذه الأيام، لها معنى لغوي واصطلاحي، لكن معناها اللغوي لا يهمّنا في هذا البحث، فما معناها الاصطلاحي...؟ هو القرون الثلاثة الأولى من عمر هذه الأمة، ودليلنا عليه قوله صلى الله عليه وسلم فيما رواه الشيخان من رواية عبد الله بن مسعود: "خير الناس قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم ثم يجيء أقوام تسبق شهادة أحدهم يمينه ويمينه شهادته". ولكن هنا سؤال يبقى، ما المراد بالقرون الثلاثة التي نطق رسول الله بخيريتهم على الترتيب؟ أهو مجموع للمسلمين الذين عاشوا في تلك القرون..؟ فالحكم بالخيرية يكون في حق مجموعهم بقطع النظر عن حال بعضهم، أم هو أفراد أولئك المسلمين جميعا...؟ فيدخل في هذه الخيرية كل واحد منهم...
أما الجمهور فيذهبون إلى أن الخيرية ثابتة لأفراد هذه القرون الثلاثة جميعا على اختلاف درجاتهم وتفاوتهم في الصلاح والاستقامة، ويرى العالم الكبير ابن عبد البر أنها ثابتة لمجموع المسلمين في تلك العصور الثلاثة، أما الأفراد فقد لا تنطبق الخيرية على بعض منهم بل قد يأتي فيمن بعدهم من هو أفضل منهم، ومما لا مجال للشك فيه أن هذه الخيرية لأهل تلك القرون الثلاثة من المسلمين تعود إلى أنهم يمثلون الحلقات القريبة الأولى المرتوية من ينبوع النبوة وتعاليم الرسالة..
العصور الثلاثة المباركة الأولى في صدر الإسلام لم تشهد ظهور مذهب في قلب الأمة الإسلامية اسمه المذهب السلفي أو مذهب السلف، له مقوماته ومميزاته التي تفصله وتميزه عن سائر المسلمين |
فالحلقة الأولى منها مظهر لذلك الرعيل الأول الذي تعلم أفراده عقائد الإسلام ومبادئه من خاتم الرسول عن كثب، وغرست أحكامه وآدابه الربانية في عقولهم وأفئدتهم صافية عن شوائب الابتداع وكدورات المحدثات السيئة، والحلقة الثانية منها تمثل التابعين الذين تشرفوا بنور النبوة من أجل اتباعهم لأصحاب رسول الله والاهتداء بهديهم والنيل من إشراقاتهم التي اكتسبوها من رؤيته ومجالسته والتأثر بوصاياه ونصائحه، أما الحلقة الثالثة وهي التي تتضمن تابعي التابعين فقد كانت شاهدة على نهاية مرحلة الصفاء الفكري وخلوص الفطرة الإسلامية من الشوائب الدخيلة، حيث ظهرت في هذا الوقت البدع القبيحة ظهورا فاشيا وتتباعت الفرق الضالة التي تنحرف عن صراط تلك العصور الثلاثة، كل فرقة تشق لنفسها عن ذلك الصراط العريض سبيلا متعرجا مخالفة بذلك قول الله تعالى: "وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ" (الأنعام 153)، وظلت رياح الأهواء والبدع والضلالات تهب وتتناوح بعد ذلك من عصر إلى عصر إلى يومنا هذا مصداقا لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما رواه الشيخان عن أنس بن مالك رضي الله عنه: "لا يأتي عليكم زمان إلا الذي بعده شر منه".
فجملة.. يبدو لنا أن السلف هم أفضل الناس علما وشرفا وفضلا، فاتباعهم في فهم كل من القرآن والسنة والعمل بهما واجب على كل مسلم إن كان ملتزما بكتاب الله وهدى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن الله أمر عباده بإطاعة رسوله فقال: "وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا" (الحشر 8) بينما أمر رسول الله الناس باتباع سنته وسنة خلفائه الرشدين المهديين، واقتفاء سيرة الصالحين من أصحاب القرون الثلاثة من بعده، فقال: و"إياكم ومحدثات الأمور فإنها ضلالة فمن أدرك ذلك منكم فعليه بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين عضوا عليها بالنواجذ" وقال أيضا "خير الناس قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم" ولا معنى لتصريح هذه الخيرية إلا الأمر باتباعهم والاقتداء بهم..
ولكن كثيرا ما نشاهد في هذه الأيام نزعة جديدة ذميمة، هي التمذهب بمذهب جديد اسمه "السلفية"، وهو شيء آخر لا يمت بصلة إلى الاتباع المطلوب، ولكن هل من فرق بين التمذهب بمذهب يسمى اليوم (السلفية) واتباع السلف..؟ وما هو هذا الفرق إن كان موجودا...؟ وأنا متأكد بأن الفرق بينهما يشبه الفرق تراه بين قولنا (محمديين) وقولنا (مسلمين)... ومن المعلوم أن إطلاق كلمة (محمديين) على المسلمين أحبولة نصبتها طائفة كبيرة من الباحثين والمستشرقين الأجانب، ومن المعلوم أيضا أنها تسمية غير مقبول في ميزان الرؤية الإسلامية، إذن إن كلمة (محمديين) تعبير عن انتماء المسلمين إلى محمد عليه صلاة والسلام والتفافهم حول ذاته وتعصبهم لأفكاره الخاصة به، أما كلمة (مسلمين) فتعبير عن الدينونة لسلطان الله وحكمه، وقبولهم لكل ما جاءهم منه عن طريق رسوله، فهذا الفرق الذي نراه جليا بين كلمتي (محمديين) و(مسلمين) هو بعينه الفرق الذي نراه واضحا بين التمذهب بالسلفية واتباع السلف..
التمذهب بالسلفية يعني أن للسلف مذهبا خاصا بهم يعبر عن شخصيتهم وكينونتهم الجماعية ثم إنه يعني أن هؤلاء الذين دخلوا في هذا المذهب هم من دون سائر المسلمين الذين يمثلون حقيقة الإسلام وينهضون به، أما اتباع السلف فإنما يعني تكريم أولئك الذين أمر رسول الله صلى الله عليه وسيم بتبجيلهم من أصحاب تلك القرون الثلاثة الأولى والذين أخلصوا دينهم لله واعتصموا -صادقين- بحبل الله، كما يعني اتباعهم في فهم الإسلام والاقتداء بهم في المنهج الذي ترسموه في فهم نصوص كل من القرآن والسنة واستنباط المبادئ والأحكام، فالإسلام -في الحقيقة- هو المتبع، ومنهجه في الدراية والفهم هو المحور والأساس، وإنما السلف الصالح الذين أخلصوا دينهم لله هم الأدلاء والهداة في الطريق إلى ذلك الموئل والأساس، وإنما ارتفعت قيمة من ارتفعت قيمته منهم، وهبطت درجة من هبطت درجته منهم، فخرجوا من دائرة السلف الصالح وإن عاشوا في عصورهم، بمقتضى ميزان هذا الدين ومنهجه، وهو الذي رفع منهم أناسا ووضع آخرين كما قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه، هذا هو الفرق بين التمذهب بمذهب يسمى السلفية واتباع السلف الصالح تحقيقا لوصية رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن الواضح أن أن الثاني من جوهر الدين ولبه وأساس من أسس السنة المطهرة التي دعى إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن الأول ابتداع لشيء لم يأذن به الله وتخيل لأمر لم يكن له أي وجود في التاريخ..
إن العصور الثلاثة المباركة الأولى في صدر الإسلام لم تشهد ظهور مذهب في قلب الأمة الإسلامية اسمه المذهب السلفي أو مذهب السلف، له مقوماته ومميزاته التي تفصله وتميزه عن سائر المسلمين، وتجعل لهم مرتبة يمتازون بها في العلو والشرف من دون سائر الذين لم يكن لهم شرف الانتساب إلى هذا المذهب.. وقد علمنا أن عصر السلف ضمّ إليه السلف فرقا وجماعات شتى انحرفوا عن الميزان المحكم والمنهج المتبع، فلم تغنهم سلفيتهم من الله شيئا وكانوا شرا من كثير من المبتدعة الذين ظهروا في العصور المتأخرة من بعد، إذن... فإن من السهل على كل ذي بصيرة أن يعلم أن الإطار الذي يحدد دائرة المجموعة الإسلامية المستقيمة على صراط الله عز وجل، هو الانضباط بالقواعد والأصول المتفق عليها في فهم النصوص العربية عامة ونصوص القرآن والسنة خاصة بعد التقيد بمنج المعرفة في التفريق بين العقائد والأفكار الباطلة الزائفة والعقيدة السليمة الصحيحة المشيدة على دعائم المنطق والعلم، فمن التزم بتلك القواعد التي تم الاتفاق عليها فهو واحد ممن دخلوا بحمد الله في دائرة المجموعة الإسلامية، أيا كان عصره الذي عاش فيه، وإنما للسلف الصالح عليهم ميزة واحدة هي ما كانوا يستمتعون به بسبب قربهم من رسول الله صلى الله عليه وسلم من صفاء الرؤية إلى مبادئ الإسلام ونصوص القرآن والسنة..
ولا أبالغ إذا قلت لو صح لهؤلاء الذين ابتدعوا هذا المذهب ثم نسبوا أنفسهم إليه فإنه يصح من باب أولى أن يؤسسوا مذهبا إسلاميا جديدا من الواقع الذي كان يمر به عصر الخلفاء الراشدين، ثم ينسبوا أنفسهم إليه فيقولوا عن أنفسهم (راشديين)..!! وربما امتلكوا الحجة الحاسمة التي بوسعهم أن يغالبوا بها من يسمون أنفسهم (سلفيين)، ذلك لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما قال: "عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الرشدين المهديين"، لم يقل السلفيين!
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق