سيولة المعايير والتطبيع الاجتماعي
/يطرق آذاننا الكثير من العبارات والأقوال التي لا نعرف مصدرها ولا مآلاتها، تتلاحق على أسماعنا من طرائق شتى حتى يتم التعامل معها على أنها مُسلَّمة لا مِراء فيها ولا يملك أحد الحق في نقضها وإلا سيتعرّض لسيل من الاتهامات، هذه العبارات التي تتردّد إما متجردة في القول أو محمولة في السلوك يجب نقضها وتوضيح ما ترنو إليه وكيف غزت هذه المصطلحات الحداثية مجتمعاتنا الإسلامية، حتى نتمكن من الوقوف الصلب أمام التيار الحداثي الجارف المُحمَّل بكم هائل من المغالطات.
من جملة الإشكاليات الشائعة التي رصدتها في هذه الحقبة الزمنية هي إشكاليّة “سيولة المعايير والتطبيع المجتمعي”، فالحال -كدأب البشر- أنه تشيع مجموعة من العادات والتقاليد في الدوائر المجتمعية بشتى أنواعها، سواء كانت أُطر هذه الدوائر قبلية أو قومية أو غيره، فتؤثر في تشكيل وصياغة هذه الصورة المجتمعية مجموعة من العوامل تختلف من دائرة لأخرى، ويبقى السمت العام للدائرة هو المُعبر عنها.
مكمن الإشكالية لا يندرج في هذه الأطر في ذاتها، وإنما في صياغتها ومن ثَمّ سطوتها بعد ذلك، وإذا أردنا في البداية تأصيل هذا المعنى لنبني المفهوم على أسس راسخة فلنعرّف ما نوع المعيارية الصحيحة في هذه الدوائر؟
يجب أولًا تحرير بعض المفاهيم بداية من إمكانية وجود معنى مُطلق ومن ثمّ الانطلاق التعريفي، بداية من الجملة الشهيرة والتي طرقت كل الأسماع إما بصيغة صريحة أو محمولة في قولٍ أو فعل حتى في كارتون الأطفال وهي “الحقيقة دائمًا نسبية” المنسوبة إلى بروتاغوراس أحد فلاسفة اليونان الذي تزعم التيار السفسطائي -تعني الشك المُطلَق- في الفترة الواقعة بين القرنين الرابع والخامس قبل الميلاد.

ديموقريطوس في المنتصف وبروتاغوراس على اليمين. اللوحة رسمها سالفاتور روزا. (المصدر: ويكيبيديا)
رغم شيوع هذه الجملة إلا أنها متناقضة في ذاتها وناقضة لبنيانها من عدة نواحٍ، فمن الناحية الفلسفية: فإنّا إن أقررنا هذا القول إذًا فيجب أن تنطبق القاعدة عليه أيضًا، وبالتالي فهذه الجملة نسبية ولا يمكن الوثوق بها واتخاذها كمسلمة أو قاعدة مطلقة، وإذا تم استثنائها من القاعدة فسننقض نص الديمومة النسبية فيها، وبالتالي ستسقط أيضًا.
أما من الناحية العلمية: فإنه يوجد الكثير جدًا من الثوابت العلمية سواء كانت بسيطة حيث الجزء أصغر من الكل، والواحد أقل من الثلاثة، أو معقدة كبعض القوانين الرياضية والفيزيائية، وأصبحت مسلمات لا ينقضها عاقل.
فوجود بعض التغيرات التي تطرأ على بعض القوانين لا تعني نسبيتها من حيث الأصل والوجود، وإنما من حيث المبلغ والإحاطة. فما توافر اليوم من أدوات العلم أفضى إلى معرفة المزيد عمّا عُلِم بالأمس، فإذًا هو اكتشاف المزيد عن موجود ثابت وليس تأصيل لمعنى جديد في ذاته.
وعلّق شيخ الإسلام ابن تيمية على هذا المُنطَلق السفسطائيّ بقوله: “حُكي عن بعض السفسطائية أنه جعل جميع العقائد هي المؤثرة في الاعتقادات، ولم يجعل للأشياء حقائق ثابتة في نفسها يوافقها الاعتقاد تارة ويخالفها أخرى، بل جعل الحق في كل شيء ما اعتقده المعتقِد، وجعل الحقائق تابعة للعقائد. وهذا القول على إطلاقه وعمومه لا يقوله عاقل سليم العقل”. [الفتاوى 19/ 135]. (١)
من صاحب الأحقية في إقرار المعايير؟
نستنتج من هذا الطرح أنه ثمّة معيار راسخ عليه تُقاس الأمور وإليه تُرد المآلات، فلو افترضنا أنك أسست شركة بجميع مقوماتها وقررت افتتاح هذه الشركة، ألست أنت الحقيق بوضع قوانينها؟
ولله المثل الأعلى، فخالق الكون هو الحقيق بوضع الأُطر التي تحدّد حياتنا، والبوابات المعرفية المقبولة لدينا، وإحاطتنا بطوق مُحكم يحمينا من بهيمية الحرية المُطلقة لنستحق التكريم الإلهي المُوجَه لنا، فمعيار الإسلام هو الأحق بالاتباع والأحرى بنا أن نتقيد به، ولكن ما طرأ على مجتمعاتنا الإسلامية من تشوه معياري حاد بسبب ثلة من العوامل المؤثرة التي تواترت عليه أدى إلى عدول العقل الجمعي عن المعيار لعللٍ حداثية انهزامية محضة، ويا ليت الأمر توقف عند هذا وإنما تعداه ليطعن في الثابت على المعيار بألوانٍ شتى من الاتهامات وليعرضه لموجة من التوجيه نحو التطبيع المجتمعي على هذا الوضع وإلا الإصابة بشعور حادٍ من الغربة والسير عكس التيار.
وصدق القائل بأن “من أصعب تحديات عصرنا الحالي هو الحفاظ على الهُوية الإسلامية دون الذوبان في المجتمع، مع عدم الانعزال عنه” ولعل هذه الجملة مما ينبغي أن يستوقفنا كثيرًا، فربما منذ فترة زمنية ليست بالبعيدة كانت هذه الجملة لا تستحق التوقف أمامها، أمّا الآن فإنه لازمٌ الوقوف عليها وإطالة النظر فيها وفي مآلاتها، وفيما يجب أن يتخذه المسلم ليحقق هذا التوازن يحتاج إلى كتب ومراجع.
كيف دخلت هذه العبارة مجتمعاتنا الإسلامية؟
في القرن السادس عشر بعد انتشار الثورات للتحرر من الاضطهاد الكنسي الأوروبي، وبعد حرب الثلاثين عامًا التي أنهكت أوروبا وقعت معاهدة وستفاليا عام ١٦٤٨م لتخرج بشكل جديد للحكم والمتمثل في الدولة القومية الحديثة.(1) ووقع تصدير هذا النموذج الغربي خارج إطاره بوصفه منتجًا نهائيًا قابلًا للتفعيل، ونمطًا يقوم على وجود إقليم ترابي محدد بالحدود التي تصبح مقدسة، مع وجود لغة أو مذهب أو إثنية مشتركة في نفس الشعب، مع الاشتراك في تاريخ ولو كان منتحلًا أو متوهَّمًا، ثم تكون للدولة السيادةُ على الإقليم ليقع تعريف الدولة الأمة.(2)

دارُ البلديّةِ في مونسترَ حيثَ جرى توقيعُ معاهدةِ سلامِ وستفالْيا. (المصدر ويكيبيديا)
لم تتركز الدولة القومية في الأمة الإسلامية بطريقة مفاجئة، بل ساهمت التغيرات المتعاقبة على فترات زمنية في تشكيلها. وكان أساس كل ذلك الغفلة عن المهمة الحضارية للأمة الإسلامية، وبالتالي استيراد مفاهيم مركزية من خارجها مكّنت من إعادة ترتيب سلم أولويات المسلمين بطريقة تتوافق مع المنظومة المستوردة، في هذا الوقت كان الانبهار بالحضارة المادية الغربية -وخاصة العسكرية- قد بلغ مداه، ولأن الاستعمار فهم في تلك المرحلة أنه لا سبيل لتغيير الدين الإسلامي الجامع للأمة، فسعى لبناء نظم اجتماعية قائمة على شبكة علاقات يعاد توزيع المهام فيها نحو تغريب الحياة وطبع العلاقات بطابع المنظومة القيمية المستوردة.(3)
يستوجب هذا النوع من الحكم التخلي عن الكثير من مظاهر الشريعة الإسلامية للتقولب في حدود العلمانية التي أقرتها الدولة القومية الحديثة، وبما أن شعائر الشريعة الإسلامية لا تقتصر على الأعمال القلبية أو على بعض العبادات المُحدَدة _ بل لو اقتصر الإيمان على الأعمال القلبية لانحرف بالمرء عن صحيح العقيدة إلى أقوال المرجئة وغيرهم من أهل الأقوال والعقائد الفاسدة _ لزم ظهور شُعَب الإيمان بشتى صورها لتعم المجتمع المسلم بأعمال تبدأ من القلب لتفيض على الجوارح، وهذا ما أداه المجتمع المسلم بكفاءة متمثلة في الجماعات الوسيطة، وهي جماعات مستقلة تقوم على مصالح الناس بعدة طرق أهمها أعمال الوقف، وتقوم بمراقبة السلطة، وتقوم السلطة أيضًا بمراقبة حسن عملها، وهذه الشبكة الاجتماعية منافية لمبادئ الدولة القومية الحديثة، فلزم إيجاد غطاء يحمل مصطلحات تم تلميعها، وساعد على إضفاء البريق على هذه المصطلحات الهيمنة التي لحقت بالمجتمع الغربي في هذه الحقبة، وكدأب البشر أن الضعيف المهزوم يقلد القويّ السائد في شتى صور حياته كما ذكر بن خلدون في مقدمته، فكان من السهل جدًا تمرير هذه المصطلحات لقولبة الهُوية الإسلامية وهضمها في حدود تلك الدولة.
“الحقيقة دائمًا نسبية” كانت من أبرز تلك المصطلحات الحداثية التي ساهمت في تقويض شُعب الإيمان، فوجدت هذه الجملة حفاوة مجتمعية سواء صريحة ممن حاولوا بثها بشتى الصور لطمس المعيارية الصحيحة، أو ضمنية حتى من بعض المسلمين الذين آثروا “السلامة” وكانت بمثابة “راحة” للجميع حيث يتم تمييع كافة الأيديولوجيات في إطار الدولة، وأصبحت أي مسألة سواء كانت خلافية أو من الحقائق الوجودية الكبرى يمكن لأى أحد ارتداء نظارة الحكمة وتشبيك اليدين على شكل كرة ليقول لك ببساطة ” إني أحترم رأيك ولكن أخالفك، فنسبية الحقيقة لا تُفسد للود قضية”
نماذج في حياتنا اليومية
تتفاوت النماذج التطبيقية لمغالطة نسبية الحقيقة ما بين نماذج وجودية كبرى إلى مواقف تصادفنا في حياتنا اليومية، فعند النظر إلى بعض القضايا في آيات القرآن الكريم تجدها أمرًا عظيمًا لا يمكن قبوله بحال كقوله سبحانه وتعالى{وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا*لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا*تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا*أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا*وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا} [مريم: 88-92] فجعل الله سبحانه وتعالى من قضية انتساب ولد إليه أمرًا جللًا، بينما تجد –في الأطر النسبية الحالية- أن قبول ذلك ميل عام حيث إن لكل شخص الحرية المُطلقة فيما يقول ولا يمكن تخطئة أي أحد أو الاعتراض على عقيدته لأن الحقيقة المطلقة لا يمتلكها أحد.
وكذلك تتردد أقوال حول “تجديد الخطاب الديني” ويكأنه لا يوجد معيار صحيح ثابت للدين ومصادره، فيحتاج إلى تمييع حدوده أيضًا “ليناسب” حدود الدولة القومية الحديثة.
وكذلك الحديث حول نشأة الكون والحياة، فتجد أرباب الملاحدة يُنَظِّرون حول نظريات وهمية لا أصل لها ولا دلالة على صحتها ولكنهم تماروا فيها وأطالوا، لادعائهم نسبية الحقيقة ولا بأس في وضع “سيناريو” ولو كان ساذجًا عن نشأة الكون.
أما عن مواقف الحياة اليومية التي تتراءى لنا في حجاب فتاة غير منضبط بضابط الشرع الذي هو “المعيار الإسلامي” ظنًّا منها أنها “حرة” بثيابها وأن الحجاب خيار شخصيٌّ يمكن الاستغناء عنه، وليس أمرًا تعبديًا لله عز وجل يضيرنا تركه ورفضه، وهنا فإننا نجد في المناسبات الاجتماعية حيث يميل أغلب الناس إلى إخراجها في الشكل المعتاد للمجتمع المتقولب في أُطرٍ غير خاضعة للمعيار الصحيح وإنما متأثرة وبشدة بروافد الحداثة الأوروبية.
أنوار النبوة
إنّ أنوار الهدى النبوي كدأبها ما تركتنا في خضم هذه الحيرة والغربة دون توهجها أمامنا، فعن عتبة بن غزوان رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (إن من ورائكم أيام الصبر للمتمسك فيهن يومئذ بما أنتم عليـه أجر خمسين منكم قالوا: يا نبي الله أو منهم؟ قال: بل منكم) [أخرجه الهيثمي في مجمع الزوائد، وصحّحه الألباني] وهناك الكثير من الأحاديث الصحيحة التي تحمل ذات المعنى، مما يجعلها جذوة ثبات في حياة المسلم المعاصر لهذه السيولة المعيارية والمُتعرِّض لشعورٍ بالغربة يدفعه دفعًا تجاه تيار العقل الجمعي ومن ثمّ التطبيع معه.
فقد أصبح تفكيك هذه المصطلحات الحداثية في هذا العصر ومعرفة ما ترنو إليه من خبث المقصد لِزامًا على كل مسلم يريد أن يصمد أمام التيار الجامح المفتقد للمعيارية الصحيحة، وأصبح دراسة العقيدة الصحيحة أمر لا بد منه، ولا يخفى على عاقل أن امتلاك الأدوات العلمية في هذا العصر من أهم ما يمكن للمسلم أن يذب به عن دينه من موضع قوة، وأن المجابهة العلمية والفكرية في كافة المجالات هي ما تحفظ صرح الإسلام من سهام الليل والنهار، فاصبروا وصابروا ورابطوا واتقوا الله لعلكم تفلحون.
مراجع للاستزادة
1- https://www.ida2at.com/what-are-the-modern-nation-state/
2- https://tipyan.com/the-modern-nation-state
3- https://www.facebook.com/116257230209810/posts/372115914623939
4- بعض الأفكار مقتبسة من دورة وعي المسلم المعاصر للمهندس أيمن عبد الرحيم.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق