موقف الشريعة الإسلامية من الرِّق
مقال كتبه الدكتور عبدالكريم زيدان قبل اكثر من اربعين عاما وتناول فيه موضوع الرق وموقف الشريعة الاسلامية منه محاولا تصحيح الاوهام التي علقت بهذا الموضوع.
المقال نُشر في مجلة التربية الاسلامية العراقية بعددها الحادي عشر من سنتها الثامنة عشر والصادر في جمادى الاخرة 1396 هـ الموافق لـ 30 مايس 1976م
بقلم الدكتور عبدالكريم زيدان
تمهيد
1) يسأل البعض: ما موقف الشريعة الاسلامية من الرِّق؟ وهل تجيزه او تمنعه؟ والواقع اني سُألت هذا السؤال اكثر من مرة وفي فترات مختلفة ومن طلابي في الجامعة وغيرهم, وقد رأيت من المفيد أن اكتب شيئا في هذا الموضوع عسى ان يساعد هذا المكتوب على محو وازالة الاوهام التي علقت بموضوع الرق بسبب كتابات بعض الكتاب المعاصرين الذين كتبوا في موضوع الرق. واذا كانت الكتابة في هذا الموضوع مفيدة – ان شاء الله تعالى – كما قلت, فاني لا ارى فائدة في الاسهاب والتفصيل والاحاطة بالجزيئيات لأن المسلمين اليوم, على ما اعتقد, ليسوا بحاجة ملحة الى معرفة تفاصيل وجزيئيات هذا الموضوع وانما هم بحاجة ملحة الى معرفة تفاصيل معاني الايمان وترسيخها في نفوسهم وشدهم اليها حتى تظهر آثارها على اقوالهم وافعالهم وسلوكهم. ولهذا فاني سأوجز القول في الرق ايجازا شديداً.
2) وقبل البدء بالكلام ارى من المفيد أن اعرض للقراء الكرام القواعد التالية:
القاعدة الاولى: ان الكلام في الشريعة الاسلامية دِين يحاسب عليه المسلم لأنه اخبار عن شرع الله تعالى لا يحتمل القول الجزاف بلا دليل ولا برهان.
القاعدة الثانية: ان اصول البحث العلمي تقتضي ان يكون الباحث بعيدا عن الهوى والعاطفة وميول الناس حتى يستطيع ان يعرض نتائج بحثه بأمانة وصدق, واذا كان هذا ضروريا في كل بحث وبالنسبة لكل باحث فانه اشد ضرورة بالنسبة لأولئك الذين يبحثون في الشريعة الاسلامية ويعرضون معانيها واحكامها للناس.
القاعدة الثالثة: ان الادعاء بوجود او عدم وجود شيء في الشريعة, أي ان الادعاء بجواز شيء او منعه في الشريعة الاسلامية يفتقر الى دليل شرعي ليقبل او يرفض هذا الادعاء. والادلة الشرعية هي كتاب الله وسنة نبيه ﷺ واجماع علماء المسلمين واجتهادهم السائغ المقبول بجميع انواعه.
وبعد هذا التمهيد ابدأ بالجواب على السؤال المتقدم.
3) نجد في كتاب الله تعالى آيات كثيرة تقر ملكية الرقيق مثل قوله تعالى في مواضع عديدة (أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ) وتجعل عتق الرقيق في كفارات الايمان والظهار وقتل الخطأ. وهذه الآيات ونحوها تدل صراحة بان الشريعة الاسلامية تقر الرق.
4) وفي السنة النبوية آثار كثيرة وصريحة في جواز الاِستِرقَاق واقراره من قبل النبي ﷺ ومباشرة النبي ﷺ له, فقد قسم النبي ﷺ سبايا – أي اسرى – هوازن وبني المصطلق بعد ان انتصر المسلمون عليهم, قسمهم على المسلمين الذين اشتركوا في قتالهم, وان كان النبي ﷺ قد اشار بعتق سبايا بني المصطلق لما رأوا ان النبي ﷺ تزوج امرأة منهم بعد ان تسبب في عتقها.
وقد جاء في زاد المعاد للإمام ابن القيم رحمه الله تعالى تحت عنوان "هديه صلى الله عليه وسلم في الأسارى"
(كان يَمُنُّ على بعضهم، ويقتُلُ بعضَهُم، ويُفادِى بعضَهم بالمال، وبعضَهم بأسرى المسلمينَ، وقد فعل ذلك كلَّه بِحَسَبِ المصلحة ... ثم قال ابن القيم: وكان هديُه أن مَن أسلم قبل الأسر، لم يُسترق، وكانَ يسترق سَبْىَ العربِ، كما يَسْتَرِقُّ غيَرَهم مِن أهل الكتاب، وكان عند عائشة –رضي الله عنها - سبِيَّةٌ منهم).
5) وقد أجمع المسلمون علماؤهم وعامتهم على جواز الاِستِرقَاق ولم يخالف في هذا أحد, ولهذا نجد في كتب الفقه في مختلف المذاهب الاسلامية ابواباً في الاِستِرقَاق والرقيق واحكامه.
6) وبناء على ما تقدم فان الشريعة الاسلامية تجيز الرق ولا تمنعه.
مدى مشروعيته
7) واذا كانت الشريعة الاسلامية تُجيز الرزق, فما درجة مشروعيته هل هو واجب او مندوب او مباح؟الجواب انه في الاصل مباح, وذلك ان مصدر الرق هو اسرى الحرب الشرعية, والامام مُخير في اسرى الحرب بجملة خيارات منها الاِستِرقَاق. فله ان يَمُنّ عليهم او يقبل الفداء منهم او يقتل بعضهم او يسترقهم وهذه الخيارات في حق الاسرى الرجال, اما بالنسبة للنساء الاسيرات فلا خيار للإمام فيهن وانما يسترقهن.
مصدره
8) مصدر الرق هو الحرب الشرعية واعني بها الحرب التي يخوضها المسلمون ضد الكفرة دفاعاً عن دينهم او تمكيناً له او دفاعا عن ديارهم او انتزاعا لهذه الديار من ايدي اعدائهم, فاذا وقع في ايدي المسلمين في هذه الحرب اسرى من اعدائهم جاز لولي الامر ان يسترقهم عن النحو الذي بيناه في الفقرة السابقة. ومن هذا يعلم ان نهب الحرار الآمنين او شرائهم ولو بالتراضي مع اهليهم وذويهم لا يصلح شيء من ذلك سببا للرق ولا يصير به الانسان رقيقا خلافا لما يظنه بعض الناس.
شبهات ودفعها
9) وقد يقال:
اولا: ان القران الكريم لم يرد فيه نص صريح بجواز الاِستِرقَاق وانما ورد فيه (الْمَنُّ و الفِدَاءُ) بالنسبة للأسرى وهذا يدل على عدم جواز الاِستِرقَاق.
والجواب: بينت دلالة القرآن على جواز الاِستِرقَاق بإقراره الملكية على الرقيق, وهذا اسلوب يعرف به جواز الشيء كما هو مقرر في اصول الاستنباط. والثاني ان السنّة النبوية بينت جواز الاِستِرقَاق, والسنّة النبوية بينت جواز الاِستِرقَاق, والسنّة دليل شرعي اصيل تستفاد منه الاحكام.
10) ثانيا: وقد يقال ان الاسلام دعا الى العُتُق وحرص عليه وشوَّقَ اليه وجعله في الكفارات وهذا يدل على رغبة الاسلام في منع الرق والتخلص منه فلا يجوز, لان عدم جوازه يلتقي مع رغبة الاسلام.
والجواب: ان الاسلام دعا الى انفاق المال في سبيل الله و شوَّقَنا اليه ولم يقل احد ان كسب المال وتحصيله ممنوع او غير جائز, فكذا الرق. فالحث على اخراج الشيء بعد الحصول عليه لا يعني حرمة الحصول على ذلك الشيء ابتداءً.
11) ثالثا: وقد يقال ان الاسلام لم يُحرم الرق لأنه كان فاشيا في العالم وتجري عليه جميع الامم لهذا ترك تحريمه للزمن. فاذا قبل بمنعه فان هذا القول يتفق ورغبة الاسلام.
والجواب: ان فَشْو الباطل أو الفاسد لا يدعوا الى عدم منعه وتحريمه, ألا يرى أن الشرك بأنواعه كان فاشيا في الارض, وكانت اول دعوة الاسلام منعه وتحريمه وذمه وذم اهله؟ فالإسلام لا يحجم عن تحريم ما يرى لفَشْو هذا المحرم, نعم يمكن ان يتدرج في التحريم والمنع كما حصل في تحريم الخمر, اما انه يترك التحريم بتاتاً ولا يفصح عنه حتى تنقضي مدة رسالة النبي ﷺ فهذا لا يجوز ولا يقع ولم يقع وهو منكر من القول.
الفكرة وراء نظام الرق
12) والفكرة وراء نظام الرق في الشريعة الاسلامية تتضح مع الحكمة من هذا النظام بيان ما يأتي:
من المعلوم ان الله تعالى خلق الخلق لعبادته, وخلق لهم الاشياء, ليستعينوا بها على عبادة ربهم, قال تعالى(وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) ومقصود العبادة صلاح الانسان وفلاحه وكمال سعادته. وقد ارسل الله تعالى نبيه محمداً ﷺ برسالة الاسلام ليعرف الناس بتفاصيل العبادة وسبلها, وهذه الرسالة هي اعظم نعمة على الاطلاق انعم الله بها على عباده, ولذلك قال تعالى (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ), والرحمة تعني ارادة الخير والمصلحة والفلاح والسعادة... فالإسلام اذن خير ومصلحة ونعمة من الله تعالى لعباده جميعاً. ومن حق الناس ان تصلهم هذه النعمة وان لا يحال بينهم وبينها. وانما تصلهم هذه النعمة بتبليغهم رسالة الاسلام, وقد قام ﷺ بهذا التبليغ على اتم الوجوه حتى توفاه الله تعالى – وحيث ان كثيراً من البشر لم تصلهم رسالة الاسلام, فقد امر الله تعالى المسلمين بتبليغها, قال تعالى (قُلْ هَٰذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ ۚ عَلَىٰ بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي) وقد قام بهذه المهمة الشريفة اصحاب النبي ﷺ ومن تبعهم بإحسان وستبقى مهمة التبليغ واجبا على المسلمين الى يوم الدين. فاذا قام المسلمون بتبليغ رسالة ربهم لإنقاذ البشر من الهلكة ثم تصدى لهم من يصدهم عن هذه المهمة الشريفة ويقاتلهم ليمنعهم من ايصال نعمة الاسلام الى الناس فان الله تعالى قد اذن للمسلمين ان يقاتلوا هؤلاء الاشرار الظالمين الذين يمنعون عن الناس نعمة الله الاسلام. فاذا وقع في هذه الحرب اسرى من الاعداء بأيدي المسلمين, فماذا عسى ان يان يعاملوا به؟ انهم اجرموا جريمة ذو شقين: الاول صدهم عن سبيل الله ومنع المسلمين من ايصال نعمة الله الى الناس وانقاذهم من الهلكة. والثاني – قتالهم للمسلمين الذين لم يريدوا الا انقاذ الناس واسعادهم بالاسلام. وازاء جريمة هؤلاء الاشرار الذين وقعوا اسرى بأيدي المسلمين "رجال الانقاذ" قرر الاسلام الخيارات التي قلناها في الاسرى: فأما الْمَنُّ واما الفِدَاءُ واما القتل واما الاِستِرقَاق وحيث ان كلامي عن الاِستِرقَاق فاكتفي ببيان وجه المصلحة فيه لأولئك الارقاء فأقول:
ان المصلحة فيه لهم ظاهرة لانهم بهذا الرق ينقلون من مجتمعهم الفاسد الآسِنٌ النتن الى مجتمع الاسلام الطاهر النقي الزكي وهذا يمكنهم من رؤية الاسلام بوضوح وتأمل وتؤدة وبدون تضليل ولا تلبيس, وهذا سيدعوهم الى الاسلام فيسلمون فاذا اسلموا سعدوا وفازوا فوزاً عظيما لا يساويه أي فوز في الدنيا, اما حريتهم فإنها ستعود اليهم لكثرة سُبلها لهم. فالرق اذن كان وسيلة لإسلامهم وفوزهم وان كانت تلك الوسيلة مكروهة لهم في الابتداء فكم من نعمة يؤتاها الانسان بطريق مكروه فاذا ظفر بالنعمة حمد ذلك الطريق واعترف بحكمة واضعه.
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق