الأصل التاسع
قيمة الوقت في القول السديد والعمل السليم
"وكل مسألة لا ينبنى عليها عمل فالخوض فيها من التكلف الذي نهينا
عنه شرعاً، ومن ذلك كثرة التفريعات للأحكام التي لم تقع والخوض في معانى الآيات
القرآنية التي لم يصل إليها العلم بعد، والكلام في المفاضلة بين الأصحاب y وما شجر
بينهم من خلاف، ولكل منهم فضل صحبته وجزاء نيته وفى التأول مندوحة" .
هذا الأصل يعالج :
1-عدم الخوض في المسائل التي لا
ينبنى عليها عمل.
2-قيمة الوقت بالنسبة للمسلم.
3-آفات اللسان وإمساكه.
4-عدم الخوض والكلام في المفاضلة بين الأصحاب .
هذا أصل في التربية عظيم يعتمد أساساً على جانب من جوانب تربية الإنسان
المسلم ويبرزه ذلك لأن الإسلام عنى عناية فائقة بالفرد المسلم تربيةً لأن أداة
التغيير، هي الإنسان الصالح ولذلك رأينا في الفترة المكية عناية القرآن المكي كله بتعميق معاني العقيدة وتغيير السلوك
وربط الإنسان برباط قوي بالله I ولا شك أن شخصية المسلم الذي كلفه المولى I بحمل الرسالة شخصية سوية متوازنة ومتكاملة في كل شيء ، في خلقها
وعبادتها وسلوكها وحركتها وتعاليمها ولكى تكتمل هذه الشخصية كان لابد أن تصطبغ
توجيهاتها وسلوكها بصبغة كتاب الله الذي (لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ
يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ) هذا الكتاب الذي تعهد بالفرد تربية وبالأسرة
ترابطاً والأمة بناءً، والحضارة إبداعًا وذلك لأن المسلم صاحب رسالة من أجلها خلق
(وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) فهو شخصية
عابدة عاملة جادة تعمر الكون بمنهاج الله I له رسالة مجيدة ودور عظيم في هذا الوجود الذي يعيشه فهو لا يعرف
لهواً ولا لغواً ولا عبثاً ولا هراءً ولا جدلاً ولا مراء ينشغل بعظائم الأمور
ويترك سفاسفها فجميع سلوكه وتكاليفه من توجيهات الله I وأوامره وذلك من المهد إلى اللحد وهو مطالب بأن تكون حركاته
وسكناته لله رب العالمين لا شريك له ولذلك فهو يخضع له جوارحه للمحاسبة فيحاسب
العين على ما ترى والأذن على ما تسمع واليد على ما امتدت والرجل على ما سعت والبطن
على ما حوت والعقل فيما يفكر حتى يطرد منه الخواطر السيئة ليكون عبداً خالصاً لله I في كل أمراً
من أموره، ومن أجلها اكتمال هذه الشخصية أنزل الله على رسوله r كتاباً
عرفنا جميعاً أموراً أربعة.
1-عرفنا بربنا لنعبده.
2-وعرفنا بأنفسنا حتى لا نغتر وحدد لنا العلاقة التي يجب أن تكون بين العبد وربه واضحة وضوح الشمس في
رابعة النهار لكي يقوم بالدور المنوط به فها هي الملائكة حين قال لها ربها (إِنِّي
جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا
وَيَسْفِكُ الدِّمَاء وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ
إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ، وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاء كُلَّهَا)
فبين لنا المولى من خلال هذا الموقف القرآني أنه سبحانه علم آدم الأسماء كي يتعامل
مع ذاته، ومع بنى جنسه، ومع الطبيعة والكون الذي يعيش فيه.
3-وعرفنا بالكون الذي نتعامل معه لنسخره.
4-وعرفنا بالمصير الذي سنصير إليه، إما إلى جنة إن هو أجاد هذا الدور وأدى الرسالة على وجهها الصحيح بفعل
المأمور وترك المحظور والصبر على المقدور وأطاع الله I في سره وعلانيته في كل أمر من أمور حياته حتى يقول (إِنَّ صَلاَتِي
وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، لاَ شَرِيكَ لَهُ
وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ)، أو إلى نار –أعاذنا الله منها-إن عصى الإنسان الله
تعالى وأطاع شيطانه وهواه.
والإنسان في هذه الدنيا يكد ويتعب ويجتهد ويجاهد ليجد ثمرة عمله هناك في
يوم لا ينفع فيه مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم (يَا أَيُّهَا
الْإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ) والكدح هذا
مرتبط بعمره ومدة أجله.
ومن هنا فإن الوقت عنده له قيمة وهو عند المسلم هو الحياة " ما إن
ينبثق فجر يوم جديد إلا وينادى مناد يا ابن آدم أنا خلق جديد وعلى عملك شهيد
فاغتنمني فإني لا أعود إليك أبداً إلى يوم القيامة " ولذلك لكي يحقق هذه
الغنيمة فإنه لا يقوم بعمل ولا يقول قولاً إلا وهو يحاسب نفسه قبل أن يحاسب (مَا
يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ) .
الوقت ليس من ذهب : إن الوقت
بالنسبة للمسلم ليس من ذهب كما يقول الذين يقيسون الوجود من الناحية المادية ولكنه
الحياة لأن حياة الإنسان في هذا الوجود هي الوقت الذي يمضى بين الوفاة والميلاد
فقد يذهب الذهب وينفد ولكنك تستطيع الحصول عليه بعد ذلك بل وأن يكون معك منه أضعاف
ما فقدت ولكن الوقت الذاهب والزمن الفائت لا تستطيع له إعادة أو إرجاعاً.
ولذلك كان أعظم تعرضاً للخسارة والإخفاق أولئك المضيعون لوقتهم الغافلون عن
رسالتهم (وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِّنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ
لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا
وَلَهُمْ آذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ
أَضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ) ، فالغافل معطل هذه الجوارح ضاع منه
وقته ضاع منه يومه ضاع منه نهاره وضاع منه ليله وبالتالي ضاعت منه حياته وسيأتى في
هذا اليوم نادماً على الغفلة التي أصابته أما المسلم اليقظ فدائماًً في طاعة لله Iآناء الليل وأطراف النهار ولذلك كان من دعاء الصديق t "اللهم لا تدعنا في غمرة ولا تأخذنا على غرة ولا تجعلنا من
الغافلين" ومن هنا سأل ربه (اللهم إنى أسألك
البركة في الأوقات وإصلاح الساعات) ذلك بأن اللحظات والثوانى والدقائق والساعات والأيام
إما أن تكون لك أو عليك فإن كانت لك فهى الصديق الودود وإن كانت عليك فهى العدو
اللدود.
ولذلك كان على المسلم أن يبتعد عن
الأمور الآتية.
الأمر الأول: الثرثرة وعدم
إمساك اللسان؛ وذلك لأن المسلم واجباته أكثر من أوقاته فلا ينبغي عليه أن يضيع
شيئاً منه ليؤدي رسالته وهو يبلغها للناس فما أحوجه إلى وقت لتعلم البيان بالإضافة
إلى حاجته للتعلم كيفية عرض هذا التبيان الذي يقدمه للناس مقتد برسول الله r الذي قال له
ربه (وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ
إِلَيْهِمْ) فالمسلم بالتبعية له دوره في تبيان هذه الرسالة، ونشر الدعوة،
وشرح مفاهيمها، وشرح عقيدتها وعبادتها وضوابط حركتها ففي كل أمر من الأمور هو
مطالب بالتبليغ والتوضيح ولذلك فإننا كأصحاب دعوة نبتعد عن الثرثرة والكلام الذي
لا طائل تحته بأى شكل من الأشكال نلتزم بقول ربنا I
(لاَّ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ
أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاَحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَن يَفْعَلْ
ذَلِكَ ابْتَغَاء مَرْضَاتِ اللّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا) والمسلم الجاد الذي يرغب في الاستفادة بوقته دائماً يسأل نفسه قبل أن
يتكلم : هل هناك داعٍ لهذا لكلام ؟ وما فائدة هذا القول ؟ وما هو مردوده التعبدي
والدعوي ؟ فيمسك لسانه عن الثرثرة.
ويقول ابن مسعود t "والذي لا إله غيره ما على ظهر الأرض شيء أحوج إلى طول سجن من لسان" ويقول عبد الله
بن عباس y :" خمس
أحسن من الدُهم الموقذة -يعنى الجيد منها-، "لا تتكلم فيما لا يعنيك فإنه فضل
ولا آمن عليك الوزر، ولا تتكلم فيما يعنيك حتى تجد له موضعاً فرب متكلم في أمر
يعنيه قد وضعه في غير موضعه فَعِيب"
ويقول " ولا تمارى حليماً ولا سفيهاً فإن الحليم يغريك وإن السفيه
يؤذيك واذكر أخاك إذا تغيب عنك بما تحب أن يذكرك به وأعفه عمن تحب أن يعفيك منه
واعمل عمل رجل يرى أنه مجازٍ بالإحسان مأخوذاً بالإجرام".
استمع إلى نصيحة الرسول r لأبي ذر يقول :"عليك بطول الصمت فإنه مطردة للشيطان وعون
لك على أمر دينك" لأن الثرثرة حبل في يد الشيطان يقود به الإنسان إلى كل
شر، فيقوده إلى الغيبة والنميمة، وإلى الهمز واللمز ولذلك يقول الرسول r :"لا
يستقيم إيمان عبد حتى يستقيم قلبه، ولا يستقيم قلبه حتى يستقيم لسانه".
الأمر الثانى: الإعراض عن
اللغو فأولى مراحل الاستقامة الإعراض عن اللغو لأن الإنسان لا يكون مستقيماً إلا
أن ينفض يديه مما لا شأن له به هذه أولى الاستقامة وألا يقحم نفسه فيما لا يُسأل
عنه، لأن "من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه" فالبعد عن اللغو من
أركان الفلاح.
وتدبر الآية التي تكلمت عن اللغو تجدها بين فريضتين ، بين الصلاة والزكاة
يقول ربنا (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ، الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ
خَاشِعُونَ، وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ، وَالَّذِينَ هُمْ
لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ) فأتى باللغو بين فريضتين ليبين أن الأمر جد خطير
والمسلم الذي يصبو إلى الفلاح لاشك عليه
أن ينأى بنفسه عن اللغو؛ لأن الإنسان إذا شغل نفسه بعظائم الأمور لغى في
سفسافها يقولr "إن
العبد ليقول الكلمة لا يقولها إلا ليضحك بها الناس أو المجلس يهوى بها أبعد ما بين
السماء والأرض" ويقول r
:"يهوى بها أبعد ما بين السماء والأرض وإن المرء ليزل عن لسانه أشد مما يزل عن قدمه" فإذا تكلم
المرء لا يتكلم إلا بما يرضى الرب وإذا قال للناس قال حسنا يقول ربنا (وَقُولُواْ
لِلنَّاسِ حُسْناً) لأن القول الحسن هو الذي يحفظ المودة ويديم الصداقة ويمنع
كيد الشيطان كما قال ربنا (وَقُل لِّعِبَادِي يَقُولُواْ الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ
إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ) ولا شك أن اللغو يوصلنا بالتبيعة إلى
الجدل وهو لون من ألوان اللغو الذي لا طائل من تحته ولا من فوقه ولا شك أن الرسول r كما بين لنا
أن المسلم يعرض عن اللغو كذلك يمسك عن
الجدل الذي لا يستفيد منه المسلم لأن ليس كل الجدل محرم أو مكروه بل هناك جدل
محمود (وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) (وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ
الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ)
لما نزلت آية تحريم الميتة وكان المشركون يأكلون الميتة فجادلوا المسلمين
في هذا التحريم وقالوا لهم "والله إننا نعجب من أمركم تأكلون ما تذبحون
بأيديكم وتتركون ما قتله الله " فأنزل I (وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَآئِهِمْ
لِيُجَادِلُوكُمْ) وها هي ذا امرأة تجادل رسول الله r وسمعه المولى من فوق سبع سماوات (قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ
الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا) ومن هنا فليس
كل الجدل مكروهاً أو ممنوعًا لأنه إذا كان يعود بالفائدة أو الوصول به إلى الحق أو
تبيان بينة وتأكيد حجة فلا شك أنه في هذا الحال مرغوب ومطلوب، يقول رسول الله r :"أنا
زعيم ببيت في ربض الجنة –أعلاها- لمن ترك المراء وهو محق" أو كما قال r فالمسلم
يمسك لسانه ولا يحركه إلا بما ينفع إلا في حالة مداراة السفيه بشروط منها:
أولاً- أننا لا نعطى الدنية أبداً في
حديثنا معه في ديننا بأى شكل من الأشكال فلنضبط النفس أمام عوامل استقرارها.
ثانياً: أن المولى I أجازه في القول الذي تعافه نفس المسلم حين يسمع الجهر بالسوء من
القول (لاَّ يُحِبُّ اللّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوَءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلاَّ مَن
ظُلِمَ) فإذا أراد أنه يقتص لنفسه ويرد على من أهانه فله الحق ولكن (وَلَمَن
صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ).
اللدد في الخصومة لا يجوز للمسلم
أن يوصف بهذا الوصف لأنه يخشى من قول رسول الله r :"إن أبغض الرجال إلى الله الألد الخصم العنيد في الخصام
"إذا خاصم فجر" كل هذا الذي ذكرناه من مداخل الشيطان ليقتل وقته
ولذلك وجب على المسلم المحافظة على وقته واقتناص الفرص وانتهاز الساعات عبادة لله I ولذلك كان
لابد له من تحصيلاً للعلم النافع الذي يملأ به وقته ولذا كان من دعاء
الرسول r "اللهم
إنا نسألك علماً نافعاً وقلباً خاشعاً ولساناً ذاكراً وعملاً متقبلاً وأعوذ بك من
علم لا ينفع" ولما كان الوقت هو الحياة فإنه إذا لم يقض في طاعة
الله قضي في معصيته وخير استفادة بالوقت هو تحصيل العلم النافع نقول العلم النافع لأن
هناك علوم لا تنفع بل وتضر.
ولذلك قسم العلماء العلوم إلى :
1-علوم حث الإسلام على تعليمها وأمر بها وأوجب بذل الجهد والوقت في تحصيلها
، وهى علوم نافعة تفيده في تأدية رسالته واستخلافه في الأرض كعلم القراءة والكتابة
والقراءات والتجويد والنحو الصرف والبلاغة واللغة والعلوم الكونية والكيمياء وعلم
النبات وعلم الأحياء والهندسة والحساب والجغرافيا والتاريخ والصناعات المختلفة
التي عليها قوام المجتمع وعمارته لأن المسلم مأمور بعمارة الكون أساساً يقول الشيخ
الغزالى رحمه الله:" أننا لو حصرنا الآيات التي تتكلم عن العبادة والعقيدة لن
تصل إلى ثلث القرآن بينما عمارة الكون وتنظيمه والنظر فيه والسعي فيه نجد أن معظم
آيات القرآن شملت هذه النواحي لكي تعين المسلم على عمارة الكون وهو بتحصيلها عابد
لله لأن معنى العبادة أشمل وأعم من أن تحصر العلوم في العلوم الشرعية والدينية.
2-علوم اختلفوا في جوازها كعلم المنطق فقد ذهب البعض إلى المنع المطلق
والبعض الآخر إلى الجواز المطلق يقول الشيخ عبد الرحمن الأخضر في منظومته عن الحكم
في علم المنطق:
فابن الصلاح والنووي حرما وقال
يوم ينبغي أن يعلما
والقولة المشهورة الصحيحة جوازه لكامل القريحة.
ممارس السنة والكتاب ليهتدي به إلى الصواب
وعلى هذا فالسؤال لتحصيل هذه العلوم التي حث الإسلام على تعليمها وأمر بها
أو التي اختلف في جوازها عند الذين يجوزون لا يعتبر خوضاً في باطل ولا مراءً ولا
جدلاً طالما أن النية هي تحصيل العلم للاستفادة به.
3-العلوم التي لم يختلفوا في تحريمها قطعياً وذلك لضررها وخلوها من أي
منفعة تعود على الإنسان كالسحر والرمل والكهانة والودع والتنجيم والشعوذة وكل ما
كان سبباً لإثارة الشكوك أو تعلم ما ينشط إلى الشر أو يخدمه وما يثبط عن الخير أو
ما يستعان به على الشر فالخوض فيها ليس من التكلف الذي نهينا عنه بل هو إثم عظيم
وذنب كبير لا يحطه المولى عنه إلا بالتوبة وعدم الاشتغال فيها .
يقول الإمام الغزالى: العلم ثلاثة:
1-قسم محمود قليله وكثيره وهو العلم بالله صفاته وأفعاله وسننه في خلقه إلخ
2- قسم مذموم قليله وكثيره كالسحر والكهانة والنجوم والودع إلخ
3-قسم لا يحمد منه إلا بمقدار مخصوص مثل فروض الكفايات .
فعن عبد الله بن عمر رضى الله عنهما قال: قال رسول الله r :"العلم
ثلاثة آية محكمة أو سنة قائمة أو فريضة عادلة وما سوى ذلك فهو فضل" .
ولذلك كان من منهج القرآن في التربية : أن نمسك اللسان فيما لا يعنينا وألا نتكلم إلا فيما يفيدنا وأن تكون
مناقشاتنا وأسئلتنا ومجادلاتنا بالتى هي أحسن في كل ما يخدم دعوتنا ويحقق رسالتنا
(وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ
حَتَّى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ) ذلك لأن وقتك ثمين ومشاركتك في ضياعه
إثم مبين.
أمة مجادلة:
لقد ضرب الله لنا المثل بأمة مجادلة هي أمة بنى إسرائيل لينبه المسلمين إلى
أن اليهود قد احترفوا اللجاجة والجدل العقيم من قديم وهذا داء أصابهم وأراد القرآن
أن ينفر المؤمنين من هذا الداء الوبيل حتى لا يكونوا مثلهم في المماراة واللجاج
الباطل خاصة فيما يتعلق بشريعة الله تعالى حتى تتلقى بالقبول الحسن لا بالمماراة
والجدل العقيم .
واسمع إلى القرآن وهو يقول (يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَن تُنَزِّلَ
عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِّنَ السَّمَاء فَقَدْ سَأَلُواْ مُوسَى أَكْبَرَ مِن ذَلِكَ
فَقَالُواْ أَرِنَا اللّهِ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ)
الآية ... وما قصة البقرة منا ببعيد حين قال لهم موسى (إِنَّ اللّهَ
يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُواْ بَقَرَةً) فكان الجدال والمراء واللجاجة (أَتَتَّخِذُنَا
هُزُواً) ثم قالوا (إِنَّ البَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا) وفى قصة تحويل
القبلة قالوا (مَا وَلاَّهُمْ عَن قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُواْ عَلَيْهَا)قال
لهم الله (قُل لِّلّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَن يَشَاء إِلَى
صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ) وحين علموا أن جبريل هو الذي ينزل بالوحى قالوا ليته
ميكائيل الذي ينزل بالنماء والخير.
وهذه دروس لأمة محمد r الذي قال لهم :"لتركبن سنن من كان قبلكم شبراً بشبر
وذراعاً بذراع حتى إذا دخلوا جحر ضب دخلتموه " حتى لا يتركوا ما ارتكبه
أهل الكتاب من أخطاء بجدلهم ومماراتهم.
وانظر إلى لفت أنظارهم حين سألوا عن الأهلة . يقول المفسرون في قوله تعالى
(يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأهِلَّةِ) سألوا رسول الله r فقالوا : يا رسول الله إن الهلال يبدو ضعيفاً ضئيلاً ثم يكبر إلى
أن يصير بدراً ثم يأخذ في النقص.
-فلما كان السؤال لا ينبنى عليه عمل- أنزل الله I (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ
لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ) فعدل بهم I عن الانشغال بالسؤال عن جرم الهلال إلى الإخبار بما يترتب عليه
خلق الهلال من المصالح والأحكام إذ هي المقصود الأعظم من خلق الهلال يقول الله I : (هُوَ
الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاء وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ
لِتَعْلَمُواْ عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللّهُ ذَلِكَ إِلاَّ
بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ)
إذ ما يفيد لو سألنا كما يسأل البعض عن أمور لا يبنى عليها عمل وأمور لا
يجب السؤال عنها والتى سألها بعض الناس ودخلوا في منزلق خطير جداً كأصحاب الفرق
الإسلامية والتى ضل بعضها بكلامها وأصبحت خارج الملة حين كفرت بالله I وحين تكلمت
كلاماً عظيماً أخرجها من الملة، يقول العلماء ما فائدة أن تسأل عن الفرق بين
الجوهر والعرض ؟ وما فائدة أن تسأل هل الصفات زائدة عن الذات أم لا؟ وما عدد أصحاب
الكهف بالتحديد ؟ وكيف كلم الله موسى تكليماً، أكان الكلام باللفظ والصوت أم ماذا؟
كيف اتخذ الله إبراهيم خليلاً؟ وكيف انعقدت المودة بين الله وبينه؟ ما هي الشجرة
التي أكل منها آدم على التحديد؟ كيف تكلم
الهدهد وماذا قال ؟ وبأي لغة؟ وهل نملة سليمان ذكر أم أنثى؟ كيف شق صدر رسول الله r وهل كان
الإسراء بالجسد والروح أم بالروح فقط؟ أين والدا رسول الله r في الجنة أم في النار؟من هذا الذي أتى بعرش بلقيس ؟وما اسمه؟ من
أمثال هذه الأسئلة التي لا تعد ولا تحصى وتثير جدلاً ولا ينبنى عليها عمل فهي لا
ينبني عليها : حفظ العقيدة أو بيان أداء الفريضة أو تجنبنا الكبائر وتجعلنا نتسامى
عن الصغائر أو تتصل بفعل المأمور وترك المحظور ...لا شك أنها من باب (وخضتم
كالذى خاضوا) ومن هنا كان لابد للمسلم أن ينشغل بما يفيد. يقول الإمام مالك :
أدركت هذا البلد –يقصد المدينة- وما عندهم علم غير الكتاب والسنة فإذا نزلت نازلة
جمع الأمير لها من حضر من العلماء فما اتفقوا عليه أنفذوه وأما أنتم تكثرون
المسائل - الأمور التي لم تقع بعد -وقد كرهها رسول الله r ..ولذلك وجدنا بعض العلماء -لا أقول ينهون عن الخوض في مثل هذه
المسائل فهذا أمر متفق عليه - ولكن يكرهون المناظرات العلمية ويجعلون لها آداباً
يجب على المسلم إن شارك فيها أن يلتزمها.
آداب المناظرة : كره بعض
العلماء المناظرة والجدال في العلم واحتجوا بقول الله تعالى (مَا ضَرَبُوهُ
لَكَ إِلَّا جَدَلًا) وقوله (وَكَانَ الْإِنسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا)
فلامهم على المجادلة وذمهم عليها.
وروت عائشة رضى الله عنها عن النبى r أنه قال "أبغض الناس إلى الله الألد الخَصِم"
كما روى أبو أمامة الباهلى عن النبى r " ما ضل قوم بعد هدى كانوا عليه إلا أوتوا الجدل"
وقال r :"دع
المراء ولو كنت محقاً"
وقال بعض أهل العلم لا بأس بها إذا قصد بها ظهور الحق (وجادلهم بالتى هي
أحسن) وقوله (فلا تمار فيهم إلا مراء ظاهراً) وقال تعالى (أَلَمْ تَرَ
إِلَى الَّذِي حَآجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رِبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللّهُ الْمُلْكَ)
...الآيات.
ولكنهم شرطوا شروطاً منها:
1-أن ينوى بالتعليم الخروج من الجهل.
2-أن ينوى به إحياء العلم لأن الناس لو تركوا التعلم لذهب العلم كما روى عن
الرسول r قال :"تعلموا
العلم قبل أن يرفع ورفعه ذهاب العلماء" .
3-أن ينوى منفعة الخلق لأن النبى r قال "خير الناس أنفعهم للناس" .
4-أن ينوى أن يعمل به لا بخلافه فالعلم بلا عمل وبال والعمل بلا علم ضلال.
5-أن يقصد وجه الله ولا يعجب بذاته فإن العجب كالرياء يقول الإمام الشافعى
"وددت أن الخلق تعلموا هذا العلم حتى أن لا ينسب إلىّ حرف منه ويقول : ما
ناظرت أحداً قط على الغلبة ووددت إذا ناظرت أحداً أن يظهر الحق على يديه".
6-أن يأخذ بوصية لقمان الحكيم لابنه ويلزم نفسه بما دلت عليه ولا يتجاوزها
يقول :" لا تجادل العلماء فتهون عليهم ويرفضوك ولا تجادل السفهاء فيجهلوا
عليك ويشتموك ولكن اصبر نفسك لمن هو فوقك في العلم ولمن هو دونك فإنما يلحق
بالعلماء من صبر لهم ولزمهم واقتبس من علمهم في رفق"
فضول الكلام:
يقول الرسول r :"ألا هلك المتنطعون" "ثلاثاً"
والمتنطعون المتكلفون ، يقول ربنا لرسوله r (قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ
الْمُتَكَلِّفِينَ) .
لقد تربى الصحابة رضوان الله عليهم على عدم التكلف والتنطع يقول أنس t كنا عند عمر
t فسمعته
يقول: نهينا عن التكلف حتى أنه رضى الله عنه كان يمر يوماً فسقط عليه شيء من
الميزاب ومعه صاحب له فقال يا صاحب الميزاب ماؤك طاهر أم نجس ؟ فقال عمر لا تخبره
ومضى.
وصدق رسول الله r إذ يقول :"يحمل هذا العلم من كل خلف عدول ينفون عنه تحريف
الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين"
ويقول الإمام النووى:"واعلم أنه ينبغى لكل مكلف أن يحفظ لسانه عن جميع
الكلام إلا كلام ظهرت فيه المصلحة وحتى
الكلام وتركه في المصلحة فالسنة الإمساك عنه لأنه الكلام المباح قد يجر إلى حرام
أو مكروه ولذلك قال r "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت".
وهذا صريح في أنه ينبغى أن لا يتكلم إلا إذا كان الكلام خيراً وهو الذي
ظهرت فيه المصلحة ومتى يشك في ظهور المصلحة فلا يتكلم، فعن أبى هريرة t قال: قال
رسول الله r "إن
العبد ليتكلم بالكلمة من رضوان الله تعالى لا يلقى لها بالاً يرفعه الله بها درجات
وإن العبد ليتكلم بالكلمة من سخط الله تعالى لا يلقى لها بالاً يهوى بها في
جهنم" وعن سهل بن سعد قال: قال رسول الله r :"من يضمن لى ما بين لحييه وما بين رجليه أضمن له
الجنة".
يقول المولى U
(قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ، الَّذِينَ هُمْ فِي
صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ، وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ،وَالَّذِينَ
هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ، وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ) إلى آخر هذه الآيات التي تجعلنا نتساءل : من هؤلاء الذين كتب الله لهم
هذه الوثيقة ووعدهم هذا الوعد وأعلن هذا الإعلان عنهم؟ من هؤلاء (الْوَارِثُونَ،
الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) هذه صفاتهم وهذه
السمات التي يتميزون بها ومنها إمساك اللسان عن لغو الكلام ولغو الفعل بل ولغو
الشعور والاهتمام ذلك لأن قلب المؤمن مشغول بأشياء كثيرة لا يجب عليه أن يميد بأمر
غير هذه الأمور التي منها مثلاً الانشغال بذكر الله I وتدبر ما في الأنفس وما في الكون (إِنَّ فِي خَلْقِ
السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لِّأُوْلِي
الألْبَابِ) ومنها أيضًا ما يشغله من هموم المسلمين وحالهم الذي نعيشه فمن هذا
الذي ينشغل بسفاسف الأمور وهو يرى ما يحدث في بلاد المسلمين؟ إنه ينشغل بالأمور
الجسام ويضع يده في يد إخوانه كى ينقذ المسلمين من حالهم الذي تردوا فيه فيستخدم
اللب ويشغل الفكر في أمر المسلمين ومعاصيهم فيأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ويصبر
على البلاء الذي يصيبه فيبعد عن الجدل والمراء والغضب واللغو واللهو وينشغل
بالبناء والتعمير والإصلاح ولا يضيع وقته أبداً فيما لا طائل من تحته وليس معنى
ذلك أن المسلم لا يروح نفسه ساعة ولكنه حتى الترويح لا يكون إلا لتجديد النشاط ثم
مواصلة العمل وهو بذلك يضع أمام ناظريه قول الرسول r :"لن تزولا قدم عبد يوم القيامة حتى يُسأل عن أربع : عن
عمره فيم أفناه وعن شبابه فيم أبلاه وعن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه ، وعن علمه
ماذا عمل به " لو تأملنا هذا الحديث لوجدنا أن الرسول r يوجهنا فيه
لاقتناص الوقت في كل ثانية ودقيقة لأن المولى I سيسألنا عنه في (يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ، إِلَّا
مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ)، واسمع إلى ما يقوله غير المسلمين حول
هذا الموضوع:
يقول كسرى "إذا قلت ندمت وإذا لم أقل لم أندم " ، ويقول
قيصر "أنا على رد ما لم أقل أقدر منى على رد ما قلت"، ويقول ملك
الصين :"إن تكلمت بالكلمة ملكتنى وإن لم أتكلم بها ملكتها ".
ويقول أبو سعيد:" إذا
أصبح ابن آدم قالت الأعضاء كلها للسان اتق الله فينا فإنما نحن بك فإن استقمت
استقمنا وإن اعوججت اعوججنا" أتى عمر بن الخطاب t على أبى بكر الصديق t فوجده يمسك لسانه ويشده شداً فقال عمر : مه غفر الله لك ، فقال
أبو بكر إن هذا أوردنى الموارد.
ولذلك قالوا أحسن الكلام ما كان قليله يغنى عن كثيره وما دار معناه في رمزه
فليست البلاغة بكثرة الكلام ولا بخفة اللسان ولا بكثرة الهذيان ولكنه إصالة المعنى
والقصد إلى الحجة، يقول الإمام الشافعى رضوان الله عليه وأرضاه : ما ناظرت أهل
الكلام إلا مرة وأنا أستغفر الله من ذلك ، يستغفر الله من الوقت الذي قضاه وهو
يجادل أهل الكلام وهذا يذكرنا بحديث الرسول r الذي رواه أبو داود قال : كان رسول الله r إذا ذهب إلى الخلاء وخرج منه قال "غفرانك" ويعلق
أبو داود على هذا القول "غفرانك" ، يعنى أطلب منك المغفرة لأنه وهو
يقضى حاجته يمسك لسانه عن ذكر الله فالرسول r يطلب المغفرة من الله عن وقت قضاه في قضاء حاجته لم يذكر الله فيه
I وفي
الصحيحين عن المغيرة بن شعبة أن الرسول r نهى عن قيل وقال وإضاعة المال وكثرة السؤال.
أصالة المنهج الإسلامى :
إن أصالة المنهج الإسلامى وواقعيته جعلت من كل مسألة لا ينبنى عليها عمل
نافع – فالخوض فيها – مضيعة لوقت لا طائل من ورائه لأن كل فكرة لا تتحول إلى واقع
يتمثل في عمل صالح يعتبر لهواً أو لغواً في نظر الإسلام ومن أجل ذلك وجدنا القرآن
الكريم يمنع صراحة الخوض النظرى في مسائل العقيدة ويدعو إلى تجنب جعل المباحث
الدينية ألعوبة للاستدلالات والمناقشات المجردة قال تعالى (وَإِذَا رَأَيْتَ
الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُواْ فِي
حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلاَ تَقْعُدْ بَعْدَ
الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) وإنا نجد في إعراض الرسول r عن سؤال
الأعرابي عن زمن الساعة وإجابته الحازمة له : ما أعددت لها؟ فهو ينقله من
الجدل والنقاش إلى الجانب العملي التطبيقي الذي سيعود عليه بالنفع وفي هذا دلالة
تربوية هامة فهي تدعم المسلك القرآنى الدافع إلى ميادين العمل والبناء.
ولقد أراد الرسول r أن يلقن السائل ومن ورائه كل الأمة أن البحث في قضايا الساعة
وموعدها خروج عن المنهج الإيجابى الذي زكاه الإسلام والذى ينزع إلى ملء حياة
المسلمين بما يصلح أحوالهم ويؤهلهم للفوز بنعيم الآخرة.
الخوض في القدر وبعض معاني القرآن:
حين يكثر الجدل والمراء ولا يمسك الإنسان لسانه عن الخوض فيما لا يفيد فإنه
يتكلم الكلمة من سخط الله تعالى لا يلقى لها بالاً يهوى بها في جهنم فهذا أحدهم
يقول : كيف يكتب الرب علينا الشقاء ويعذبنا بالنار ويقول آخر يخلق الله إبليس
ويسلطه على الناس ثم يعذب من أطاعه بالنار والذنب ذنب الذي خلق إبليس –كبرت كلمة
تخرج من أفواههم إن يقولون إلا كذبا- وهؤلاء مجوس هذه الأمة.
لهذا كله فالخوض في قضايا القدر منهي عنه وربنا I
(لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ) وهذا رسول الله r يوجه العقل لكي يفكر التفكير السليم فيقول :"تفكروا في
آلاء الله ولا تفكروا في ذات الله " في رواية "فتهلكوا"
، وفى رواية "فإنكم لن تقدروا قدره"، وعن طارق بن شهاب قال : جاء
يهودي إلى عمر بن الخطاب t وقال له : أرأيت قوله تعالى (وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا
السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ) فأين النار ؟ فقال عمر لأصحاب محمد r أجيبوه فلم
يكن عندهم فيها شيء ، فقال عمر : أرأيت إذا جاء الليل يملأ الأرض فأين الآخر ؟
فقال له: حيث شاء الله ، فقال عمر: والنار حيث شاء الله ، فقال اليهودي والذي نفسي بيده يا أمير المؤمنين
إنها لفي كتاب الله المنزل كما قلت .
من أجل لذلك كان الصحابة لا يخوضون في القدر ولا في المسائل الجدلية
العقيمة ولا التفريعات الكثيرة حتى أنه يحكى أن عمر بن الخطاب t حين أتاه
رجل قد سرق فقال له : ما حملك على السرقة؟ قال : حملنى عليها قضاء الله وقدره قال:
وأنا أقطع يدك بقضاء الله وقدره، ولم يخض معه في مقولته ولم يجادله فيما قال.
عدم الكلام في المفاضلة بين الصحابة ولا فيما شجر بينهم:
ومن هذا الباب أيضًا عدم الخوض في الخلاف بين الصحابة فلا طائل تحته ولا
ينبغي الخوض في هذه الخلافات .
ولقد سئل بعض العلماء عما وقع من خلاف بين الصحابة فقال: تلك دماء قد طهر
الله منها أيدينا فلا نلوث بها ألسنتنا وسبيل ما جرى بينهم كسبيل ما جرى بين يوسف
وإخوته، وسئل الحسن البصري عن قتالهم فقال: قتال شهده أصحاب محمد r وغبنا عنه
وعلموا وجهلنا اجتمعوا فاتبعنا واختلفوا فوقفنا.
قال المحاسبى فنحن نقول كما قال الحسن ولا نبتدع رأيأ منا ونعلم أنهم
اجتهدوا وأرادوا وجه الله U.
وصدق الله إذ يقول (لاَّ خَيْرَ فِي
كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ
إِصْلاَحٍ بَيْنَ النَّاسِ) وصدق الرسول r إذ يقول
لمعاذ "وأخزن لسانك إلا من خير فإنك بذلك تغلب الشيطان" فإن
الإنسان لا يغلب الشيطان إلا بالسكوت.
يقول الإمام النخعى: يهلك الناس من فضول الكلام والمال وهذا معنى ما قاله
الرسول r إذ يقول
:" طوبى لمن أنفق الفضل من ماله وأمسك الفضل من لسانه" ذلك أن
نطق اللسان يدخل فيه الشرك وهو أعظم الذنوب ويدخل فيه القول على الله بغير علم
ولذلك قال r :"إن
من حسن إسلام المرء قلة الكلام فيما لا يعنيه" ولقد دخلوا على صحابي في
مرضه ووجهه متهللاً فسألوه عن سبب ذلك فقال ما من عمل أوثق عندى من خصلتين : كنت
لا أتكلم فيما لا يعنينى وكان قلبى سليماً للمسلمين.
ويقول الحافظ ابن رجب إن كف اللسان وضبطه وحبسه هو أصل الخير وأن من ملك
لسانه فقد ملك أمره وأحكمه وضبطه.
واللسان له عبوديات:
عبودية واجبة : لابد أن يؤديها
لأن هذا واجب اللسان، النطق بالشهادتين، تلاوة ما يلزم تلاوته من القرآن، التلفظ
بالأذكار الواجبة في الصلاة التي أمر بها رسوله r في الركوع والسجود والتشهد رد السلام، الأمر بالمعروف والنهى عن
المنكر، تعليم الجاهل وإرشاد الضال، أداء الشهادة متعينة على الشخص نفسه، هذه كلها
أمور يسمونها عبودية اللسان وهي أن ينطق بهذه
الأشياء جميعاً .
أما العبودية المستحبة : كتلاوة
القرآن، دوام ذكر الله، المذاكرة في العلم النافع، وتوابع ذلك كله.
أما العبودية المحرمة على اللسان: النطق بكل ما يبغض الله تعالى ورسوله r كالنطق بالبدعة والدعوة إليها وتحسينها والقذف وسب المسلم وكل ما
هو يغضب المولى I كالكذب
وشهادة الزور والقول بغير العلم ومنها أيضًا التكلم بأمور تركها خير من التكلم بها
مع عدم العقوبة عليها، وفضول الكلام اختلف العلماء في المباح منه قالوا أنه ليس
هناك كلام متساوي الطرفين يقول رسول الله r :"كل كلام ابن آدم عليه لا له إلا ما كان ذكر الله أو من
والاه "أكثر ما يكب الناس على مناخيرهم في النار حصائد ألسنتهم أو كما
قال r .
منهج الإمام البنا رضوان الله عليه في هذا الموضوع :
بعد هذا العرض كله نود أن نركز على منهج الإمام البنا في هذه الأمور نفسها
فللإمام البنا منهج متميز معروف فهو يعلمنا كيف نستغل الوقت استغلالاً فيما يفيد
وكيف نبين دعوتنا دونما إضاعة للوقت في أمور لا طائل من تحتها فكان من منهجه في
الدعوة الاعتماد على طريقة القرآن وسبيل الرسول r في بناء الرجال لذا كان يهتم بأثر العقيدة في بناء الرجال وينفق
في ذلك جل وقته أما علم العقيدة فربما نجده في رسالة مثل رسالة العقائد معدودة
الصفحات مركزة المعنى وكان يبتعد عن التعمق في الألفاظ أو التشعب في البحوث وإيراد
الآراء المذهبية الكثيرة وكان لا يخوض في مصطلحات الفلاسفة والمناطقة والكلاميين
والجدليين وهذه هي طريقة السلف الصالح رضوان الله عليهم وأرضاهم التي كان يتبعها
الإمام البنا رضوان الله عليه وأرضاه لأن بيان آثار هذه العقائد في النفوس تعلم
الإنسان أين هو من درجة استيلاء هذه العقيدة والإسلام عليه وعلى نفسه وكيف تأثر
بها ولذلك حين أراد أن يكتب في مجلة المسلمون بيَّن هذا المنهج الطيب الذي كل كلمة
فيه ينبنى عليها عمل ويبعد عن الأمور الجدلية التي لا تفيد حتى أنه سجل هو بخط يده
في منهجه ما يجب الابتعاد عنه ومنها:
أولاً - البعد عن التفريعات والفروض.
ثانياً - عدم استعمال الألفاظ الاصطلاحية
الغامضة ما أمكن.
ثالثاً- سهولة العبارة وبساطتها.
رابعاً - مزج الأحكام الفقهية بما يذهب جفافها
من الفوائد والأسرار وحكم التشريع ،لأن هذا الجانب –حقيقة- هو الذي يؤثر على العقل
علماً وعلى الروح مشاعراً وهذا هو منهج القرآن فليس من آداب الإسلام أن تجلس مع
الذين يخوضون في آيات الله ويضيعوا الوقت في السؤال عن أمور لا ينبني عليها عمل –كما
قلنا- ويخوضون في هذه الأمور التي حذرنا منها فقال (وَخُضْتُمْ كَالَّذِي
خَاضُواْ) فالمسلم بدل أن يجلس مع هؤلاء الذين نهى المولى عن مجالستهم في قوله
(وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ
حَتَّى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ) فإنه يجلس ويصبر مع الطائعين كما
أمرنا ربنا (وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم
بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ
تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ
عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا) فمسألة الوقت والحرص عليه أمر قال فيه
العلماء الكثير حتى شبهوه كالسيف البتار وقالوا الوقت سيف بتار حاد تأخذه بحقه أو
يقطعك ويقول ابن الجوزي :"كن في الدجى نادماً، وقف على الباب تائباً، واستدرك
من العمر ذاهباً ودع اللهو والهوى جانباً وإذا لاح الغروب رأى راهباً فطلق الدنيا
إن كنت للأخرى طالباً" وقال حكيم :"من لم يمض يوماً من عمره في حق قضاه
أو فرض أداه أو مجد أثله –يعنى ورثه- أو حمد حصله أو خير أسسه أو علم اقتبسه فقد
عق يومه وظلم نفسه".
هكذا المسلم ينشغل دائماً بوقته ويقضى الوقت فيما يفيد نفسه وأهله وبني
وطنه بل الإنسانية جمعاء ولقد أدرك البعض أهمية
الوقت حتى أنهم نحتوا علماً سموه "إدارة الوقت" أُلف فيه
المؤلفات وكتبت فيه الكتب وعملت فيه الدورات وإن كان هذا العلم قصد به خدمة
التجارة والصناعة والأعمال المعيشية واستغلاله فيما يجلب عليهم المنافع المادية
ونحن المسلمون أولى الناس بتعلم كيفية إدارة الوقت وكيف أن الله I علمنا
تنظيمه من خلال الأوقات الخمس موزعة على اليوم والليلة والحج الذي له أيام معدودة
والصيام الذي له أشهر معلومات وكذلك كل أمر من الأمور في حياة المسلم منظم دقيق
لتحقيق رسالته على الأرض يقول الجاحظ محذراً المتحدث وناصحاً له : وأنا أحذرك من
اللجاج والتتابع في الأمر - يعنى السير فيه على خلاف الناس- وأرغب إلى الله لك في
السلامة من التلون والتزين والاستطراف والتكلف فإن اللجاج لا يكون إلا من خلل
القوة وإلا من نقصان قد دخل على التمكين.
يقول رسول اللهr :"نعمتان مغبونٌ فيهما كثير من الناس:
الصحة والفراغ" ويعلق ابن بطان الفقيه على الحديث وعلى قول رسول الله r كثير من
الناس أى أن الذي يوفق لذلك قليل فمن استعمل فراغه وصحته في طاعة الله فهو المغبوط
ومن استعملهما في معصية الله فهو المغبون لأن الفراغ دائماً يعقبه الشغل والصحة
يعقبها السقم فإما أن تكون الصحة والفراغ في صالحك أنت وإما أن تكون عليك والحسن
البصرى يقول أدركت أقواماً كان أحدهم أشح على عمره كما أن ابن القيم يشير إلى
إضاعة القلب وإضاعة الوقت فيقول :"سبب كل بلية إضاعة القلب من إيثار الدنيا
على الآخرة وإضاعة الوقت من طول الأمل فاجتمع الفساد كله باتباع الهوى وطول الأمل
والصلاح كله في اتباع الهدى والاستعداد للقاء الله.
فالمسلم يعقل لسانه إلا عن : باطل يدفعه أو حكمة ينشرها أو نعمة يذكرها قال
العلماء رأس مال العبد أوقاته فالمفروض ألا يصرفها فيما لا يعنيه فإما أن يصرفها
فيما يفيد أو يدخرها لوقتها.
وصدق رسول الله r إذ يقول :"ما ضل قوم بعد هدى كانوا عليه إلا أوتوا الجدل "
ثم قرأ (مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ) وقول
ربنا (فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ...)
قالوا هم أهل الجدل الذين عناهم الله .
الأمور التي تساعد المسلم في استغلال وقته:
1-معرفة أهمية الوقت:
لأن فهم القضية جزء من العلاج وفهم
الأمر دافع ومثير للإنسان أن يضعه موضع التنفيذ كما يقول ابن عباسt :"يا
ابن آدم إنما أنت أيام كلما ذهب يوم ذهب بعضك" فكيف تضيعه؟
2- الزهد في الدنيا:
وما الدنيا ؟ قال الرسول r: "إن الله لا يحب كل جعزري جواظ صخاب بالأسواق جيفة
بالليل حمار بالنهار عالم بأمور الدنيا جاهل بأمور الآخرة " ونحن لا ندعو
إلى ترك عمارة الدنيا كيف والرسول r يطلب منا استغلال آخر دقيقة في حياتنا فيقول :"إذا قامت
الساعة وفى يد أحدكم فسيلة فليغرسها" وفي نفس الوقت لا تكن الدنيا أكبر
همنا ولا مبلغ علمنا ولكن تشغلنا الآخرة ومن شغلته الآخرة عمر دنياه.
3- الخوف من الله:
الخوف من الله سيدفعك إلى الطاعة وطاعة الله تأمرك بعمارة الكون وعمارة
الكون تقتضى العمل لا الجدل.
4- تنوع أنشطتك:
ولكي ينجح المسلم في ذلك عليه أن يتدبر قول رسول الله r :"إن
لربك عليك حقاً وإن لنفسك عليك حقاً وإن لأهلك عليك حقاً فأعط كل ذي حق
حقه" ساعة وساعة وهذا التنوع يدفع
الإنسان إلى استغلال الوقت استغلالاً مفيداً.
5- ترتيب الأوليات:
فترتيب الأولويات بالنسبة للمسلم أمر واجب؛ حتى لا يضيع وقته في أمر مهم
ويترك الأهم.
6- تنمية الهمة العالية:
يقول ربنا (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا
وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ).
7- معرفة قيمة شبابك:
استفراغ وقت الشباب في طاعة الله، فلم لا تنتهز هذه الصحة وهذه القوة وهذه
الفتوة فتوجه الطاقات وتحافظ على الأوقات وتعمل بتوجه رسول الله r.
8- وأخيراً الدعاء لله I أن يبارك في الأوقات:
قال بعض السلف : يكون آخر
الزمان قوم يغلق عليهم باب العمل ويفتح عليهم باب الجدل ويقول r :"لا
تتعلموا العلم لتباهوا به العلماء ولتماروا به السفهاء ولتصرفوا وجوه الناس إليكم
فمن فعل ذلك فهو في النار"
نلزم الجماعة ففيها النجاة من هذه الأمراض جميعاً واسمع إلى قول رسول الله r :"من
أراد بحبوحة الجنة فليزم الجماعة فإن الشيطان مع الواحد وهو مع الاثنين أبعد"
ويقول على t "كدر
الجماعة خير من صفو الفرد" ويقول المُزني رحمة الله عليه سمعت الشافعي t يقول ليس
لأحد إلا وله محب ومبغض فإذا كان لابد من ذلك فليكن المرء مع أهل طاعة الله I.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق