الخميس، 30 أكتوبر 2025

هل الموسيقى حرام؟

 هل الموسيقى حرام؟ قراءة شرعية في حديث المعازف المعلّق عند البخاري



بقلم / محمد نجيب نبهان
كاتب وباحث وناقد فني وتاريخي
من بين النصوص التي طال حولها الجدل في تاريخ الفقه الإسلامي حديث البخاري المشهور: «ليكونن من أمتي أقوام يستحلون الحِرّ والحرير والخمر والمعازف»، وهو الحديث الذي صار ركناً عند من حرّموا المعازف واتخذوه دليلًا قطعيًا في تحريم الموسيقى. غير أن المنهج العلمي والقراءة النقدية للنصوص تقتضي التفريق بين ما يُبنى عليه الحكم، وما يُستأنس به في الفهم والتصوير، وبين دلالة اللفظ في ذاته، وموقعه في سياق الخطاب النبوي الشامل.
هذا البحث ليس جدالًا في الهوى، بل محاولة لفهم كيف يَتشكّل النص في ضوء الرواية والنقد والواقع، وكيف تنعكس المفاهيم الأخلاقية والاجتماعية في تفاعل الناس مع الفن والموسيقى، بين من يراها صوت الشيطان، ومن يراها تنفّس الروح في فضاء الجمال الإلهي.
أولًا: بين الرواية والتحقيق — عطية بن قيس في ميزان الشرعي
لم يكن إعلال الحديث من جهة الانقطاع فقط، كما فعل ابن حزم، هو العلة الوحيدة التي تمس متنه وسنده. فهناك علةٌ خفية أدق وأعمق، غفل عنها كثير من المتأخرين، وهي حال الراوي عطية بن قيس.
عطية من القراء الصالحين، عرف بالزهد والعبادة، لكن علم الرجال لا يقف عند العدالة وحدها، بل يشترط إلى جانبها الضبط، لأن الصدق في النفس لا يعصم اللسان من الوهم في النقل. فكم من صالحٍ ضعيف الحفظ، وكم من زاهدٍ ليس متقنًا للرواية.
عند مراجعة أقوال الأئمة، نرى أن عطية لم يبلغ مرتبة الاحتجاج. فأبو حاتم الرازي قال فيه: «صالح الحديث»، وهذه العبارة عنده ليست توثيقًا بل تليينًا. وقد شرح الألباني ذلك في السلسلة الضعيفة قائلًا إن أبا حاتم جعل «صالح الحديث» في منزلة من يُكتب حديثه للاعتبار لا للاحتجاج، فهي بمنزلة قوله «لين الحديث».
وقال ابن سعد: «كان معروفًا وله أحاديث»، وليس في هذا توثيق لضبطه، بل إشارة إلى شهرته فقط. أما ابن حبان فقد ذكره في الثقات، لكنه يوثّق المجاهيل، وهذا منهجه المعروف الذي نبه عليه غير واحدٍ من العلماء، منهم المعلمي والوادعي. وكذلك البزار قال: «لا بأس به»، وهي عبارة لا تدل على التوثيق المطلق، بل على قبول حديثه في المتابعات والشواهد.
إن هذه الأقوال، مجتمعة، تُخرج عطية بن قيس من دائرة الثقات، وتجعله في مرتبة من يُعتبر به لا من يُحتج به. ولهذا قال ابن حزم إنه مجهول، ووصفه الأرناؤوط وبشار عواد بأنه «صدوق حسن الحديث» دون أن ينسبا إليه توثيقًا معتبرًا.
وابن حجر حين وصفه في التقريب بأنه «ثقة مقريء» فاعتماده على فهمٍ غير دقيق لكلام أبي حاتم. فالظاهر أنه ظنّ أن كلمة «صالح الحديث» توثيق، بينما مراد أبي حاتم عكس ذلك. ومن هنا جاء الخلط في أحكام المتأخرين الذين نقلوا توثيق ابن حجر دون مراجعةٍ للمصدر الأصلي في نقد الرجال.
ثانياً: موضع الحديث في الصحيح — بين الاستشهاد والاحتجاج
من المهم إدراك أن عطية بن قيس ليس من رجال البخاري الذين احتج بهم في صحيحه، وإنما ورد حديثه على سبيل التعليق والاستشهاد. وقد نص المزي في تهذيب الكمال على ذلك فقال: «استشهد له البخاري بحديث واحد»، وبيّن ابن حجر أن المعلقات عند البخاري ليست داخلة في شرط الصحيح، بل يسوقها استئناسًا وتفسيرًا لبعض المعاني.
وقد أورد البخاري الحديث في باب «من يستحل الخمر ويسميها بغير اسمها»، مما يدل بوضوح على أنه لم يورده ليحتج بتحريم المعازف، بل ليستأنس به في وصف حال قومٍ من أهل اللهو الذين يغرقون في الفساد حتى يستحلوا ما حرّم الله. فلو كان البخاري يراه نصًا في التحريم، لأفرد له بابًا بعنوان «تحريم المعازف»، كما فعل في سائر الأبواب التي تضمنّت أحاديث الأحكام.
وهذا من فقهه الدقيق في التبويب الذي اشتهر بين المحدثين بقولهم: «فقه البخاري في تراجمه». فغياب الترجمة الخاصة بالمعازف مع وجود الحديث بين يديه أقوى شاهد على أنه لم يعتبره نصًا تشريعيًا يُبنى عليه التحريم.
ثالثًا: الرواية الموازية — حديث مالك بن أبي مريم
لقد جمع البخاري بين حديث عطية بن قيس، وحديث آخر رواه في التاريخ الكبير عن مالك بن أبي مريم، وفيه: «ليشربن أناس من أمتي الخمر يسمونها بغير اسمها، يُضرب على رؤوسهم بالمعازف والقينات، يخسف الله بهم الأرض ويجعل منهم القردة والخنازير».
هذه الرواية، وإن كانت تقوّي المعنى العام، فهي أيضًا ضعيفة الإسناد لجهالة مالك بن أبي مريم، لكنها تخلو من لفظة «يستحلون المعازف» التي انفرد بها عطية. فالمعازف في هذا السياق وصفٌ لحالهم أثناء استحلالهم الخمر، لا علةٌ للعقوبة.
قال ابن حزم في المحلى: «ليس في الحديث أن الوعيد إنما هو على المعازف، كما أنه ليس على اتخاذ القينات، والظاهر أنه على استحلالهم الخمر بغير اسمها، والديانة لا تؤخذ بالظن».
ومن هنا يتضح أن اللفظة المختلف عليها — «يستحلون المعازف» — شاذة انفرد بها راوٍ ضعيف، وأن الأصل في الحديث إنما هو بيان غفلة القوم وانغماسهم في الخمر والملاهي، لا تشريع حكمٍ في ذات المعازف.
رابعًا: لماذا لم يخرّجه مسلم؟
لو كان الحديث صحيحًا على شرط البخاري، لأخرجه مسلم، وهو الذي قال عنه الدارقطني: «لولا البخاري لما ذهب مسلم ولا جاء». بل وصفه بأنه اقتفى أثر البخاري وجعل كتابه مستخرجًا عليه. فإعراض مسلم عن إخراجه قرينة قوية على أنه لا يراه مستوفيًا لشروط الصحة، سواء من حيث الإسناد أو من حيث المتن.
خامسًا: بين الرواية والدلالة — التمايز بين النص والتأويل
حتى لو افترضنا صحة الحديث سندًا، فإن دلالته لا تنهض على التحريم القطعي. إذ جمع النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث بين الحرير والخمر والفرج والمعازف، وهذه المفردات تختلف في أحكامها اختلافًا بيّنًا. فالحرير حلال للنساء محرم على الرجال، والخمر محرمة مطلقًا لا يباح منها قليل ولا كثير، والفرج حلال بالزواج وملك اليمين، حرام في غيرهما، أما المعازف فلم يأت نصٌّ قطعي بتحريمها في الكتاب ولا في السنة الصحيحة.
ولو كانت محرّمة لذاتها كتحريم الخمر، لبيّن الرسول حدّها وعقوبتها كما بيّن حدود الزنا وشرب الخمر والسرقة. وإنما ورد ذكرها هنا على سبيل التوصيف لحال أولئك القوم الذين غرقوا في اللهو والترف حتى صارت حواسهم كلها مشغولة باللذة، فكانت المعازف رمزًا لحالة الانغماس الكلي في الغفلة لا نصًا تشريعيًا في ذاته.
سادسًا: في البعد الفلسفي والاجتماعي — من تحريم الصوت إلى قمع الجمال
إن إصرار بعض المتشددين على قراءة هذا الحديث قراءةً تحريمية صارمة يتجاوز الجانب السندي إلى بناء رؤية فكرية تُجرّم الجمال والفن. فالموسيقى — في حقيقتها — ليست آلة للهو بقدر ما هي لغة الروح، وإذا كان بعض الناس يوظفها في الباطل، فإن آخرين يجعلونها وسيلة للسمو والوجدان والتأمل.
إن التحريم المطلق للموسيقى كان في جوهره انعكاسًا لثقافة الخوف من الجمال، تلك الثقافة التي خافت من الفرح لأنه يقوّض سلطة الكآبة. أما الإسلام في جوهره، فهو دين الجمال والإتقان والتوازن، لا دين القمع والحرمان.
ولعلّ الخطورة هنا ليست في تحريم آلةٍ أو صوت، بل في تحوّل النصوص الظنية إلى أدوات قمعٍ اجتماعي وثقافي، باسم الدين. فكل نصٍّ يحتمل التأويل ينبغي أن يُقرأ في ضوء المقاصد الكبرى: الرحمة، والتيسير، وإحياء القلب.
إن الفقيه حين يتعامل مع النص، لا ينبغي أن يعزله عن سياقه الإنساني، لأن النص بلا وعيٍ بالإنسان يصبح أداة قتلٍ لا هداية. والموسيقى، بوصفها تعبيرًا عن الوجدان، قد تكون طريقًا إلى الصفاء بقدر ما تكون طريقًا إلى اللهو، كما أن الكلمة نفسها قد تكون ذكرًا وقد تكون لغوًا، والعبرة بالمقاصد لا بالآلات.
سابعًا: البعد المنطقي في الاستدلال
المنطق لا يقبل التعميم من الخاص، ولا التسوية بين المختلفات. فإذا كانت الخمر حرامًا لأنها تُذهب العقل وتفسد الفطرة، والحرير محرمًا على الرجال فقط دون النساء لحكمةٍ تتعلق بالتمييز والزينة، فكيف تُسوّى المعازف بهما في الحكم وهي لا تُذهب عقلًا ولا تمس عرضًا؟
بل إن جعلها في مستوى الخمر والحرير والفرج في الحديث نفسه قرينة على أن المقصود تصوير حال الغارقين في اللذة، لا بيان حكمٍ فقهي. ولو أراد النبي التحريم، لجاء النص صريحًا لا يحتمل التأويل، كما في قوله: «كل مسكر حرام».
نحو قراءة مقاصدية للنص
من خلال هذه المراجعة الشاملة يتضح أن حديث المعازف المعلّق في صحيح البخاري لا ينهض دليلاً على التحريم. فإسناده مضطرب لضعف عطية بن قيس وتفرّده باللفظ المختلف فيه، والبخاري لم يحتج به بل أورده استشهادًا، والروايات الموازية لا تخلو من ضعف، ومع ذلك تخلو من اللفظ المثير للجدل.
أما من جهة المتن، فالحديث لا يدل على التحريم، وإنما يصوّر حالة قومٍ غرقوا في اللهو واستحلوا الخمر والفواحش، فجاء ذكر المعازف عرضًا لا قصدًا. وأما من جهة الفكر، فإن ربط الدين بمحاربة الجمال والفن يناقض روح الإسلام التي تحتفي بالذوق والجمال والاعتدال.
فالدين ليس عداءً للحياة، بل ميزانٌ يضبطها. والموسيقى، إن لم تفسد القلب، فهي رَوحٌ له، وإن لم تجر إلى المعصية، فهي من مظاهر التذوق الإنساني الذي كرّم الله به الإنسان. والحديث، في ضوء نقده السندي ودلالته المنطقية، لا يصح أن يُتّخذ سيفًا على رقاب الناس في تكميم الجمال وتحريم الفن.
فالإيمان لا يناقض الجمال، بل الجمال مظهرٌ من مظاهر الإيمان، ومن ضيّق على النفس في غير ما نصٍ قاطعٍ من الله، فقد جعل من الدين سجنًا لا حياة فيه، والله تعالى ما خلق القلوب إلا لتفيض بالعشق والنور، لا بالتحريم والخوف. 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق