الخميس، 23 أغسطس 2018

الإسلام … وَالرجعَّية


الإسلام … وَالرجعَّية


وتريدون أن نحجز أفكارنا ومشاعرنا فنقف عند أوضاع لم تعد اليوم مقبولة ولا منطقية مع الحياة الجديدة ، وتقاليد وضعت لأجيال غير هذه الأجيال ، واستنفدت أغراضها ، وأصبحت اليوم رجعية تعوق التقدم وقيداً يعوق الانطلاق ؟
أما تزالون تصرُّون على تحريم الربا ، وهو ضرورة اقتصادية لا غنى عنها في العالم الحديث ؟
وتصرون على جمع الزكاة وتوزيعها في محل جبايتها ؛ وهي بدائية لا تتفق مع مع نظام الدولة الحديثة ، فضلاً عن أنها تشعر الفقراء من أهل القرية أو المدينة أن فلاناً من الأثرياء هو الذي يحسن إليهم ، فيظلون أذلاء له خاضعين لسلطانه ؟
وتصرون على تحريم الخمر والميسر والاختلاط بين الجنسين والرقص المشترك واتخاذ الخليلات والخلان ، وذلك كله ضرورة اجتماعية في العصر الحديث لا يمكن الاستغناء عنها ولا وقفها لأنها " تطور " لا بدّ أن يأخذ طريقه ؟
أف لكم ! أية رجعية تنادون بها أيها المسلمون !
*     *     *
وهذا الذي يقولونه صحيح من جانب ، وخطأ ومغالطة من جانب آخر .
صحيح أن الإسلام يحرم الربا . ولكن ليس صحيحاً أن الربا ضرورة اقتصادية . وفي العالم اليوم نظريتان اقتصاديتان لا تقومان على الربا : هما النظرية الإسلامية والنظرية الشيوعية على اختلاف ما بينهما في الأصل والاتجاه . كل المسألة أن الشيوعية قد وجدت القوة التي تنفذ بها نظامها واقتصادياتها ، والإسلام لم يجمع قوته بعد؛ ولكنه في طريقه إلى القوة . وهو صائر إليها بحكم طبائع الأشياء ، وبحكم جميع الدلالات الكامنة في الصراع القائم اليوم في مختلف بلاد العالم ، وهي دلالات توحي كلها ببعث إسلامي جديد .
وحين يحكم الإسلام فسوف يقيم اقتصادياته على غير الربا ، فلا تعجزه ضرورة اقتصادية . كما أقامت الشيوعية نظامها على غير الربا فلم تعجزها هذه الضرورة الوهمية .
ليس الربا إذن ضرورة لا مناص منها للعالم الحديث . وإنما هو ضرورة فقط في العالم الرأسمالي ، لأن الرأسمالية لا يمكن أن تقوم بدونه . ومع ذلك فكبار الاقتصاديين في الغرب الرأسمالي من أمثال الدكتور شاخت ينددون بنظام الربا ويقولون إن نتيجته الحتمية على مر الأجيال هي تركيز الثروة في أيدي فئة قليلة من الناس ، وحرمان المجموع منها رويداً رويداً ، ووقوع الملايين – تبعاً لذلك – في العبودية لهذه الفئة الصغيرة المالكة للثروة . ونحن نرى مصداق ذلك في الرأسمالية الحالية بغير حاجة إلى تعمق في دراسة الاقتصاد . وقد كان من معجزات النظام الإسلامي أنه حرم الربا والاحتكار – وهما دعامتا الرأسمالية – قبل ظهور الرأسمالية بما يقرب من ألف عام ، لأن الله الذي نزّل هذا الدين يرى الأجيال كلها في وقت واحد ، ويعلم - وهو العليم الخبير – ما يؤدي إليه الربا من كوارث في عالم الاقتصاد ، فضلاً عما يثيره بين طوائف الأمة من الإحن والأحقاد .
وإن من أعجب العجب أن كاتباً " مكافحاً ! " في إحدى الصحف الأسبوعية يندد بالإسلام لإصراره على تحريم الربا ، في الوقت الذي يعتنق هذا الكاتب مبادئ الاشتراكية التي تقوم على غير أساس الربا ، وفي الوقت الذي بدأت الرأسمالية ذاتها تتنصل من عواقب الربا وتتحول رويداً رويداً إلى الاشتراكية ! فليست المسألة إذن مبادئ يعتنقها صاحبها عن فهم وإيمان . وإنما هي مجرد شهوة في التهجم على الإسلام !
ومن العجب كذلك أن وزيراً " مسلماً " قضى شبابه منتمياً إلى هيئة دينية ، يحاول – إرضاء لرؤوس الأموال الأجنبية - أن يتطوع فينفي عن الإسلام تهمة الجمود ( ! ) فيقول إنه آن الأوان لمراجعة تشريع الربا في الإسلام ، " لنتطور " به تبعاً للظروف القائمة اليوم ! فيشتري رضاء السادة أصحاب رؤوس الأموال بغضب الله ، ويتمسح بالتطور الاقتصادي وهو أجهل الناس به إن كان يقصد حقاً ما يقول ! وكذلك فعل شيخ للأزهر يحرف الكلم عن مواضعه ، بعدما كان له رأي سابق – قبل المشيخة – يحرم فيه الربا بتاتاً ، ويقول الحق فيه!
إن الربا ضرورة مذلة بالنسبة إلينا اليوم ، لأن اقتصادياتنا ما زالت معتمدة على العون الخارجي . ولكن الخضوع لهذه الضرورة حتى تنتهي شيء، والتطور المزعوم شيء آخر . وفي اليوم الذي تستقل فيه اقتصادياتنا في العالم الإسلامي بأجمعه وتستطيع الوقوف على قدميها ، وتكون علاقتنا مع العالم على أساس التبادل الحر لا على أساس الخضوع .. في ذلك اليوم نقيم اقتصادياتنا على قواعد الإسلام ، ونحرم الربا ، فنكون بالنسبة للعالم كله تقدميين متطورين !
*     *     *
أما الزكاة فقد تحدثنا عنها قي فصل سابق بما لا يدع مجالاً للشك في صفتها ، وهل هي إحسان ممنوح للفقراء ، أم حق تؤديه الدولة بتكليف من الله منزّل التشريع .
ولكن الشبهة هنا هي محلية الزكاة . أي توزيعها في مكان جبايتها .
ويضحك الإنسان من بلاهة " المثقفين " حين يرون النظام الواحد يأتي من الغرب " المتحضر " فيفتحون أفواههم عجباً وإعجاباً بآخر " تطورات " الحضارة ، والنظام ذاته يأتي من طريق الإسلام فيكون رمز التأخر والانحطاط والجمود !
آخر تطورات النظام الإداري في أمريكا هو اللامركزية الكاملة . فالقرية وحدة اقتصادية وسياسية واجتماعية مستقلة ، في حدود ترابطها بالمدينة وبالولاية ، ثم بالحكومة المركزية للولايات المتحدة . وفي هذه الوحدة المستقلة تجبى الضرائب التي يفرضها المجلس القروي بنسب معينة . ثم تنفق في ذات القرية ، في شئون تعليمها وصحتها ووسائل مواصلاتها وخدماتها الاجتماعية .. الخ . فإذا فضلت منها فضلة أرسلتها " الحكومة " المدينة أو الولاية . أما إذا احتاجت فهي تستمد من هناك . وهو نظام جميل في ذاته لأنه يوزع العمل ولا يثقل به كاهل الحكومة المركزية التي لا يمكن أن تعرف حاجات الوحدات الصغيرة أو تقوم بها ، كما يعرفها ويقوم بها أهلها المحليون .
والمثقفون هنا يهللون لهذا النظام ويكبرون ..
والإسلام المتأخر قد اهتدى إلى هذا النظام قبل ألف وثلثمائة عام .
فجعل جباية الضرائب محلية ، وجعل صرفها محلياً كذلك ، فإذا فضلت منها فضلة أرسلت إلى بيت المال العام ، وإذا قصرت أخذ لها من بيت المال .
هذا هو المبدأ الذي قرره الإسلام لحسن توزيع العمل وإقامة اللامركزية في نظام الحكم. وهو الذي يندد المثقفون لأنه تأخر وانحطاط !
أما طريقة توزيع الزكاة فقد أسلفنا الحديث عنها . وقلنا إنه ليس في الإسلام ما يحتم صرفها نقداً وعيناً فحسب ، وليس ما يمنع من توزيعها في صورة مدارس ومستشفيات وخدمات اجتماعية ، بالإضافة إلى الإنفاق المباشر على العاجزين عن العمل بسبب الضعف والشيخوخة والطفولة .. إلخ .
فإذا طبقنا الإسلام في المجتمع الحاضر ، فلن نصنع أكثر من إقامة وحدات صغيرة تقوم بشئون نفسها في حدود ارتباطها بمراكزها الإقليمية ، وبالدولة ، وبالعالم الإسلامي ، وبالعالم الواسع كله في نهاية المطاف . ونكون بذلك تقدميين سابقين في التطور لكل أمم الأرض التي تعجب المثقفين .
*     *     *
أما الخمر والميسر والاختلاط بين الجنسين فحقيقة يحرمها الإسلام ، ويصر على تحريمها مهما ندد به التقدميون والتقدميات !
والجدل في أمرها قد يطول . ولكنا نأخذ المسألة من أقرب طريق . ويكفي من أمر الخمر أن تقوم في فرنسا الداعراة التي لا تفيق .. امرأة – نائبة في البرلمان – تطالب بتحريم الخمر ! ! يكفي ذلك للرد على المخمورين والمخمورات في عصر المدنية الحديثة !

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق