الإسلام … وَالرجعَّية
وتريدون أن نحجز
أفكارنا ومشاعرنا فنقف عند أوضاع لم تعد اليوم مقبولة ولا منطقية مع الحياة
الجديدة ، وتقاليد وضعت لأجيال غير هذه الأجيال ، واستنفدت
أغراضها ، وأصبحت اليوم رجعية تعوق التقدم
وقيداً يعوق الانطلاق ؟
أما تزالون تصرُّون على تحريم الربا ، وهو ضرورة اقتصادية لا غنى عنها في
العالم الحديث ؟
وتصرون على جمع
الزكاة وتوزيعها في محل جبايتها ؛
وهي بدائية لا تتفق مع مع نظام الدولة الحديثة ،
فضلاً عن أنها تشعر الفقراء من أهل القرية أو المدينة أن فلاناً من الأثرياء هو
الذي يحسن إليهم ، فيظلون أذلاء له
خاضعين لسلطانه ؟
وتصرون على تحريم
الخمر والميسر والاختلاط بين الجنسين والرقص المشترك واتخاذ الخليلات والخلان ، وذلك كله ضرورة اجتماعية في العصر
الحديث لا يمكن الاستغناء عنها ولا وقفها لأنها " تطور " لا بدّ أن يأخذ طريقه ؟
أف لكم ! أية رجعية تنادون بها أيها المسلمون !
* *
*
وهذا الذي يقولونه
صحيح من جانب ، وخطأ ومغالطة من جانب آخر .
صحيح أن الإسلام يحرم
الربا . ولكن ليس صحيحاً أن الربا ضرورة
اقتصادية . وفي العالم اليوم نظريتان اقتصاديتان
لا تقومان على الربا : هما النظرية
الإسلامية والنظرية الشيوعية على اختلاف ما بينهما في الأصل والاتجاه . كل المسألة أن الشيوعية قد وجدت القوة
التي تنفذ بها نظامها واقتصادياتها ،
والإسلام لم يجمع قوته بعد؛ ولكنه في طريقه إلى القوة .
وهو صائر إليها بحكم طبائع الأشياء ،
وبحكم جميع الدلالات الكامنة في الصراع القائم اليوم في مختلف بلاد العالم ، وهي دلالات توحي كلها ببعث إسلامي
جديد .
وحين يحكم الإسلام
فسوف يقيم اقتصادياته على غير الربا ،
فلا تعجزه ضرورة اقتصادية . كما أقامت الشيوعية نظامها على غير
الربا فلم تعجزها هذه الضرورة الوهمية .
ليس الربا إذن ضرورة
لا مناص منها للعالم الحديث .
وإنما هو ضرورة فقط في العالم الرأسمالي ، لأن الرأسمالية لا يمكن أن تقوم بدونه . ومع ذلك فكبار الاقتصاديين في الغرب
الرأسمالي من أمثال الدكتور شاخت ينددون بنظام الربا ويقولون إن نتيجته الحتمية
على مر الأجيال هي تركيز الثروة في أيدي فئة قليلة من الناس ، وحرمان المجموع منها رويداً رويداً ، ووقوع الملايين – تبعاً لذلك – في
العبودية لهذه الفئة الصغيرة المالكة للثروة .
ونحن نرى مصداق ذلك في الرأسمالية الحالية بغير حاجة إلى تعمق في دراسة الاقتصاد . وقد كان من معجزات النظام الإسلامي
أنه حرم الربا والاحتكار – وهما دعامتا الرأسمالية – قبل ظهور الرأسمالية بما يقرب
من ألف عام ، لأن الله الذي نزّل هذا الدين يرى الأجيال
كلها في وقت واحد ، ويعلم - وهو العليم
الخبير – ما يؤدي إليه الربا من كوارث في عالم الاقتصاد ،
فضلاً عما يثيره بين طوائف الأمة من الإحن والأحقاد .
وإن من أعجب العجب أن
كاتباً " مكافحاً ! "
في إحدى الصحف الأسبوعية يندد بالإسلام لإصراره على تحريم الربا ، في الوقت الذي يعتنق هذا الكاتب مبادئ
الاشتراكية التي تقوم على غير أساس الربا ،
وفي الوقت الذي بدأت الرأسمالية ذاتها تتنصل من عواقب الربا وتتحول رويداً رويداً
إلى الاشتراكية ! فليست المسألة إذن مبادئ يعتنقها
صاحبها عن فهم وإيمان . وإنما هي مجرد شهوة
في التهجم على الإسلام !
ومن العجب كذلك أن
وزيراً " مسلماً " قضى شبابه منتمياً إلى هيئة دينية ، يحاول – إرضاء لرؤوس
الأموال الأجنبية - أن يتطوع فينفي عن الإسلام تهمة الجمود ( ! )
فيقول إنه آن الأوان لمراجعة تشريع الربا في
الإسلام ، " لنتطور "
به تبعاً للظروف القائمة اليوم !
فيشتري رضاء السادة أصحاب رؤوس الأموال بغضب الله ،
ويتمسح بالتطور الاقتصادي وهو أجهل الناس به إن كان يقصد حقاً ما يقول ! وكذلك فعل شيخ للأزهر يحرف الكلم عن
مواضعه ، بعدما كان له رأي سابق – قبل المشيخة
– يحرم فيه الربا بتاتاً ،
ويقول الحق فيه!
إن الربا ضرورة مذلة
بالنسبة إلينا اليوم ، لأن اقتصادياتنا ما
زالت معتمدة على العون الخارجي .
ولكن الخضوع لهذه الضرورة حتى تنتهي شيء، والتطور المزعوم شيء آخر . وفي اليوم الذي تستقل فيه اقتصادياتنا
في العالم الإسلامي بأجمعه وتستطيع الوقوف على قدميها ،
وتكون علاقتنا مع العالم على أساس التبادل الحر لا على أساس الخضوع .. في ذلك اليوم نقيم اقتصادياتنا على
قواعد الإسلام ، ونحرم الربا ،
فنكون بالنسبة للعالم كله تقدميين متطورين !
* *
*
أما الزكاة فقد
تحدثنا عنها قي فصل سابق بما لا يدع مجالاً للشك في صفتها ،
وهل هي إحسان ممنوح للفقراء ،
أم حق تؤديه الدولة بتكليف من الله منزّل التشريع .
ولكن الشبهة هنا هي
محلية الزكاة . أي توزيعها في مكان جبايتها .
ويضحك الإنسان من
بلاهة " المثقفين " حين يرون النظام الواحد يأتي من الغرب " المتحضر " فيفتحون أفواههم عجباً وإعجاباً بآخر " تطورات " الحضارة ،
والنظام ذاته يأتي من طريق الإسلام فيكون رمز التأخر
والانحطاط والجمود !
آخر تطورات النظام
الإداري في أمريكا هو اللامركزية الكاملة .
فالقرية وحدة اقتصادية وسياسية
واجتماعية مستقلة ، في حدود ترابطها
بالمدينة وبالولاية ، ثم بالحكومة المركزية
للولايات المتحدة . وفي هذه الوحدة
المستقلة تجبى الضرائب التي يفرضها المجلس القروي بنسب معينة . ثم تنفق في ذات القرية ، في شئون تعليمها وصحتها ووسائل
مواصلاتها وخدماتها الاجتماعية ..
الخ . فإذا فضلت منها فضلة أرسلتها " الحكومة "
المدينة أو الولاية .
أما إذا احتاجت فهي تستمد من هناك .
وهو نظام جميل في ذاته لأنه يوزع العمل ولا يثقل به كاهل الحكومة المركزية التي لا
يمكن أن تعرف حاجات الوحدات الصغيرة أو تقوم بها ،
كما يعرفها ويقوم بها أهلها المحليون .
والمثقفون هنا يهللون
لهذا النظام ويكبرون ..
والإسلام المتأخر قد
اهتدى إلى هذا النظام قبل ألف وثلثمائة عام .
فجعل جباية الضرائب
محلية ، وجعل صرفها محلياً كذلك ،
فإذا فضلت منها فضلة أرسلت إلى بيت المال العام ،
وإذا قصرت أخذ لها من بيت المال .
هذا هو المبدأ الذي
قرره الإسلام لحسن توزيع العمل وإقامة اللامركزية في نظام الحكم. وهو الذي يندد
المثقفون لأنه تأخر وانحطاط !
أما طريقة توزيع
الزكاة فقد أسلفنا الحديث عنها .
وقلنا إنه ليس في الإسلام ما يحتم صرفها نقداً وعيناً فحسب ، وليس ما يمنع من توزيعها في صورة
مدارس ومستشفيات وخدمات اجتماعية ،
بالإضافة إلى الإنفاق المباشر على العاجزين عن العمل بسبب الضعف والشيخوخة
والطفولة .. إلخ .
فإذا طبقنا الإسلام
في المجتمع الحاضر ، فلن نصنع أكثر من
إقامة وحدات صغيرة تقوم بشئون نفسها في حدود ارتباطها بمراكزها الإقليمية ، وبالدولة ،
وبالعالم الإسلامي ، وبالعالم الواسع كله في نهاية المطاف . ونكون
بذلك تقدميين سابقين في التطور لكل أمم الأرض التي تعجب المثقفين .
* *
*
أما الخمر والميسر
والاختلاط بين الجنسين فحقيقة يحرمها الإسلام ،
ويصر على تحريمها مهما ندد به التقدميون والتقدميات !
والجدل في أمرها قد
يطول . ولكنا نأخذ المسألة من أقرب طريق . ويكفي
من أمر الخمر أن تقوم في فرنسا الداعراة
التي لا تفيق .. امرأة – نائبة في البرلمان – تطالب
بتحريم الخمر ! !
يكفي ذلك للرد على المخمورين والمخمورات في عصر المدنية الحديثة !
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق