ونحن نسمع كثيراً من القصص عن المآسي التي تنجم عن الطلاق ، من تشريد للزوجة والأطفال ، ومنازعات في المحاكم لا تكاد تنتهي حتى تبدأ من جديد .
تكون المرأة في بيتها هادئة مستقرة ، بل مكدودة ناصبة ، ترضع طفلاً وتنظر في طلبات طفل آخر ، وتعمل مع هذا وذاك على تهيئة راحة الزوج ، فإذا هي تفاجأ دون إنذار سابق بوثيقة الطلاق على يد المأذون . لماذا ؟ لأن نزوة طارئة خطرت في نفس الزوج : رأى امرأة أخرى ظنها أجمل ، أو مل " الروتين " الزوجي فرغب في التغيير ، أو لأنه طلب من زوجته أن " تسقيه " فرفضت أو تكاسلت لأنها متعبة .. !
أما من طريق لتحطيم هذا السلاح الخطر الذي يلهو به الرجل في لحطة غادرة بكيان امرأة صابرة وعش هادئ ومستقبل سعيد كان ينتظر أفراخه الصغار ؟
ولا شك في وجود هذه المآسي الكثيرة التي يتحدث بها الناس . ولكن ما السبيل ؟
هل نلغي الطلاق ؟ وكيف نصنع في المآسي الأخرى التي تنجم من تحريم الطلاق ؟ تلك المآسي التي تعرفها جيداً الدول الكاثوليكية التي لم تأخذ بمبدأ الإباحة ؟ وهل يصير البيت بيتاً وأحد الطرفين أو كلاهما يكره الآخر ولا يطيق عشرته ، ومع ذلك فالقيد مؤبد والخلاص مستحيل ؟ أَوَ ليس هذا يؤدي إلى الجريمة ؟ يتخذ الزوج عشيقة يلبي معها دوافع الجنس ، والزوجة المنبوذة تتخذ نفس الطريق ؟ وهل ينفع الأطفال أن ينشأوا في مثل هذا الجو الكابي الملبد بالغيوم ؟ ليس المهم هو مجرد حياتهم في كنف الوالدين . ولكن المهم هو الجو الذي يعيشون فيه . وإلا فما أكثر المنحرفين والمنحرفات الذين جاء انحرافهم من حياتهم مع أبوين متخاصمين لا ينتهي لهما خصام .
يقولون : نقيد حق الرجل في الطلاق .
يعني ماذا ؟ يعني أنه لا يقع الطلاق بمجرد إلقاء الرجل لكلمة الطلاق ، وإنما يقع في المحكمة . والمحكمة ترسل في طلب حكم من أهله وحكم من أهلها ، ويبحثون الموضوع ، ويراجعون الزوج ، ويعظونه ويحاولون الصلح ، فلعل ذلك كله أن يرد الرجل عن غيه ويبقي على الأسرة وروابط الزوجية ، فإذا لم تجد المحاولة فعند ذلك فقط ينفذ الطلاق على يد القاضي لا على يد الزوج .
ولست أجد على أي حال مانعاً من هذا الإجراء الذي ينفذ في جزء منه وصية الشرع في مراجعة الأهل ومحاولة التوفيق ، وإن كنت لا أومن بجدواه في كثير ، فالاحتياطات التي يريدها هؤلاء المصلحون موجودة بالفعل دون حاجة إلى محكمة . ولنفرض أنه طلقها ووقع الطلاق بنص الشرع فهل يمنع ذلك أن يقوم أهله وأهلها بالتوفيق فترد إليه في الحال بدون إجراء جديد ؟ فإذا كانت المرة الثانية ووقع الطلاق أيضاً فهل يتعذر التوفيق إذا كانت هناك رغبة فيه أو فائدة في إتمامه ؟ مع تأديب الزوج بعمل إجراءات جديدة ومهر جديد ؟
إن الرغبة في التوفيق - حين توجد - لا تتوقف على تدخل المحكمة ، وحين تكون عقيمة فماذا يملك القاضي أكثر مما يملك الأهل والأصدقاء ؟
وهناك أمم " متحضرة ! " لا تعيش على التشريع الإسلامي ، ولا يتم الطلاق فيها إلا في المحكمة ، وبعد تقديم المواعظ والإرشادات ومحاولة التوفيق ، فكم بلغت نسبة الطلاق هناك ؟ لقد وصلت في أمريكا إلى 40% وهي أعلى نسبة في العالم كله ، بما فيه مصر التي يتهم أهلها بأنهم من هواة الزواج والطلاق !
أما المتطرفون والمتطرفات ، الذين يريدون ألا يحكم القاضي للرجل بالطلاق إلا إذا ثبت ثبوتاً قاطعاً أن الزوجة هي المخطئة ، وأن الحياة معها - في نظر القاضي- مستحيلة .. فأية كرامة يريدونها للمرأة من هذا السبيل ؟ أية كرامة لها في أن تبقى في بيت رجل يكرهها ولا يريدها في بيته ؟ ويذكرها صباح ومساء بأنه لا يرغب فيها ولا محل لها في قلبه ، وينبذها ويتصل بغيرها وهي تعلم ؟
أتبقى هناك للمكايدة ؟ وهل هذا هدف يطلب من التشريع أن يقره ؟ أو هل سبيل المكايدة الوحيد أن تبقى معه وهو راغم ، وهي مسلوبة الكرامة والسلطان ؟
أم تبقى لتربية الأولاد ؟ أكرم للأولاد وأقوم لتربيتهم أن يكونوا منفصلين مع أمهم ، من أن يكونوا ليل نهار في هذا الجو المظلم الكريه .
كلا ! ليس هؤلاء المتطرفون على شيء من التوفيق .
وإن المشكلة لا تحل بتغيير التشريع ، الذي وضع للضرورة ، ووجدت البشرية - في غير الإسلام - أنه لا معدى لها عنه ولا فكاك .
إنما تحل بالتربية ، برفع المستوى الثقافي والنفسي والروحي لمجموع الشعب . بتهذيب المشاعر حتى يكون الخير هو الغالب ، وتكون المودة هي الأصل في الحياة . بتعويد الرجل أن ينظر إلى علاقته الزوجية على أنها رباط مقدس لا ينبغي الإخلال بأمنه لأتفه النزوات .
والتربية طريق طويل وبطيء يحتاج إلى مجتمع يعيش بالإسلام ويحكم شريعة الله في أمره كله ، ويحتاج إلى جهد دائم في البيت والمدرسة والسينما والإذاعة والصحافة والكتب والمسجد والطريق .. ولكنها مع ذلك هي الطريق الوحيد المضمون .
أما التشريع فحسبه عدالة أن يعطي الحق للطرفين ، فيعطي المرأة كذلك حق الانفصال حين ترى حياتها مع الرجل لا تؤدي إلى الوفاق المنشود .
والطلاق - بعد - هو أبغض الحلال إلى الله .
* * *
أما تعدد الزوجات فتشريع للطوارئ ، وليس هو الأصل في الإسلام . " فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع ، فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة ([21]) " .
المطلوب إذن هو القسط والعدل ، وهو غير مضمون التحقيق . وعلى ذلك يكون الأصل في الإسلام هو وحدانية الزوج . ولكن هناك حالات تكون فيها الوحدانية ظلماً لا عدالة فيه . وعند ذلك يلجأ إلى تشريع الضرورة ، مع علمه أنّ العدالة المطلقة فيه غير مضمونة ، ليتقي ضرراً أكبر بضرر أخف .
وأهم الحالات التي يحتاج المجتمع فيها إلى هذا التشريع هي حالات الحروب التي تفني عدداً كبيراً من الشباب ، فيختل الميزان ويزيد عدد النساء على عدد الرجال . وعند ذلك يكون تعدد الزوجات ضرورة لاتقاء الفساد الخلقي والفوضى الاجتماعية التي تنشأ لا محالة عن وجود نساء بلا رجل . وقد تعمل المرأة لتعول نفسها وأهلها ، نعم ، ولكن حاجتها الطبيعية إلى الجنس كيف تقضيها ؟ وما لم تكن هذه المرأة قديسة أو ملاكاً فهل أمامها سبيل إلا الارتماء في أحضان الرجال لحظات خاطفة في ليل أو نهار ؟ ثم حاجتها إلى الأولاد .. كيف تشبعها ؟ والنسل شهوة بشرية لا ينجو منها أحد ، ولكنها لدى المرأة أعمق بكثير منها عند الرجل .
إنها كيانها الأصيل الذي لا تشعر دونه بطعم الحياة .
فهل من سبيل إلى قضاء تلك الحاجات كلها بالنسبة للمرأة ذاتها - بصرف النظر عن حاجة المجتمع إلى أخلاق نظيفة تحفظه من التحلل الذي أصاب دولاً كثيرة فأزالها من قائمة الدول التي لها دور في التاريخ - هل من سبيل إلى ذلك بغير اشتراك أكثر من امرأة في رجل واحد ، علانية وبتصريح من القانون ، على أن تكون كل منهن أصيلة ذات حقوق متساوية في كل شيء ( إلا عواطف القلب المضمرة فهذه ليس لأحد عليها سلطان ) ؟
ذلك بعض هدف الإسلام من هذا التشريع . وما يقول أحد إن اشتراك امرأة في رجل مع امرأة أخرى فضلاً عن اثنتين أو ثلاث ، يريح نفسها ويمنحها السعادة التي تهفو إليها . ولكنها ضرورة . ولولا أنها تجد في هذا الاشتراك ضرراً أخف من بقائها عاطلة بلا رجل ما قبلت الإقدام على ما فيه من منغصات .
وشبيه بحالة الحرب كل حالة يختل فيها التوازن لسبب من الأسباب . فالرجال أكثر تعرضاً لحوادث العمل وحوادث الطريق ، وللموت في الأوبئة لأنهم أقل مناعة بالطبيعة من النساء . أما حين يتساوى العدد فلا يمكن – حسابياً - أن يقوم تعدد الزوجات . ولم يحدث في أي وقت أن أراد شاب أن يتزوج فلم يجد ، لأن غيره من الرجال قد استولى على نصيبه في النساء !
وهناك حالات فردية معروفة لدى الفقهاء يكون تعدد الزوجات فيها ضرورة ، منها الطاقة الجنسية الحادّة التي لا تكتفي بواحدة ولا يمكن لصاحبها الصبر عليها . فهذه إما أن تأخذ طريقها المشروع إلى زوجة ثانية ، وإما أن تتخذ الخليلات في السر ، وهو وضع لا يسمح المجتمع النظيف بوجوده .
ومنها حالات عقم الزوجة . والنسل كما قلنا رغبة بشرية عميقة ، وهي رغبة رفيعة لا حطة فيها ولا عيب في اشتهائها . وصحيح أنه لا ذنب للزوجة العقيم في عقمها ، ولكن من يقول إنه من العدالة حرمان الزوج - كرهاً عنه - من حقه المشروع في إنجاب الأطفال ؟ فإذا رضيت الزوجة الأولى الاشتراك مع غيرها كان بها ، وإلا فأمامها طريق الانفصال إذا كانت لا تطيق .
أو حالات المرض الدائم الذي يمنع الاتصال . ولا يقولن أحد إن الرغبة الجنسية دنيئة في ذاتها ([22]) ولا يجوز أن تكون سبباً في هدم سعادة امرأة . ليست المسألة مسألة دناءة أو ارتفاع . إنها ضرورة لا حيلة لأحد فيها . فإذا ارتفع الرجل عليها تطوعاً ، ومراعاة لخاطر الزوجة ، فذلك نبل مشكور ، ولكن الله لا يكلف نفساً إلا وسعها ، والاعتراف بالأمر الواقع خير من التظاهر بالنبل مع الخيانة في الظلام ، كما يحدث في الدول التي لا تبيح تعدد الزوجات .
أو حالات النفور التي لا يملك الإنسان دفعها ولا السيطرة عليها .
ويلاحظ في جميع هذه الحالات أن الزوج يبقى على زوجته الأولى كراهة منه أن يطلقها ، ووفاء لعشرته الطويلة معها أن تنتهي بالطلاق ، وهو شعور كريم وإن كان لا يؤدي إلى سعادة الزوجة . أما إذا كان يمسك بها ضرراً ومكايدة ، فذلك حرام عليه عند الله ، وسبب موجب للطلاق حين تطلبه الزوجة .
* * *
ونستمر في استعراض الشبهات ، فنتحدث عن حق العمل .
وهو حق لا شبهة فيه ، وكانت النساء في صدر الإسلام يعملن حيث تقتضي الظروف منهن العمل . ولكن المسألة ليست مسألة تقرير الحق في ذاته ، فالواقع أن الإسلام لا يستريح لخروج المرأة تعمل في غير الأعمال الضرورية التي تقتضيها حاجة المجتمع من ناحية أو حاجة امرأة بعينها من ناحية أخرى . فتعليم البنات ، والتمريض ، وتطبيب النساء ، وما إلى ذلك أمور ينبغي أن تقوم بها المرأة . فهي إذن وظائف يحتم المجتمع أن يشتغل بها النساء ، ويملك أن يجندهن لها ، كما يجند الرجال للحرب سواء بسواء . وحاجة المرأة إلى العمل لعدم وجود عائل لها ، أو عدم كفاية ما يعولها به عائلها ، حاجة تقرر حق المرأة في العمل لأن ذلك أصون لها من الابتذال في سبيل العيش .
ولكن هذه وتلك ضرورة . والإسلام يبيحها على هذا الوضع . أما أن يكون الأصل في المجتمع أن تخرج المرأة لتعمل - كما ترى دول الغرب والدول الشيوعية سواء - فهي حماقة لا يقرها الإسلام ، لأنها تخرج بالمرأة عن وظيفتها الأولى ، وتنشئ من المفاسد النفسية والاجتماعية والخلقية أكبر مما تنتج من الخير .
ولا يستطيع أحد في الدنيا كلها أن يزعم أن المرأة بتكوينها الجسدي والفكري والوجداني ليست مهيأة لوظيفة معينة هي الأمومة . فإذا لم تقم بها فذلك إهدار لطاقة حيوية مرصودة لغرض معين ، وتحويل لها عن سبيلها الأصيل . وحين تقتضي الضرورة ذلك فلا اعتراض . أما اللجوء إليه بغير ضرورة ملحة ، ومجرد استجابة لنزوة حمقاء أصيب بها جيل من البشرية ، يريد أن يستمتع بغير حد ، وليأت من بعده الطوفان ، فأمر لا يطلب من الإسلام قبوله ، ولو استجاب له لتخلى عن مزيته العظمى ، وهي النظر إلى الإنسانية كلها على أنها كيان متصل لا ينقطع عند جيل من الأجيال .
ويقال إن المرأة تستطيع أن تكون أماً وتكون عاملة ، والبركة في المحاضن تحل مشكلة الأطفال .
كلام فارغ لا يثبت عند التمحيص .
تستطيع المحاضن أن تمد الطفل بكل رعاية جسدية ، وبكل توجيه عقلي ونفسي علمي ، ولكنها لا تستطيع أن تمده بالعنصر الواحد الذي لا تقوم الحياة بدونه ولا تستقيم بغيره الأوضاع . ذلك هو الحب . رعاية الأم . والأم بالذات دون غيرها من النساء .
وليس في طوق المدينة المجنونة أو الشيوعية الحمقاء أن تغير طبائع البشر . فالطفل يحتاج إلى أم كاملة لا يشركه فيها أحد - في السنتين الأوليين على الأقل - ولو كان أخاه الشقيق . أمٌّ يشغلها تشغيلاً كاملاً في إجابة مطالبه ، ومناغاته ، وإحاطته بالرعاية والأمن في حضنها وبين ذراعيها ، وبغير ذلك تملأ نفسه العقد والاضطرابات . فأين له الأم في المحضن ، وعشرة أطفال أو عشرون يشتركون في " أم " صناعية واحدة ، يتصارعون فيما بينهم على تملكها ، فينشأون وقد غلبت على عواطفهم شهوة الصراع ، وتتحجر قلوبهم فلا تنبت فيها المودة والإخاء .. ؟
المحاضن للأطفال - كالعمل للمرأة - ضرورة تقضي بها الحاجة . أما أن تكون هي الأصل بغير ضرورة ملجئة فهو جنون لا يلجأ إليه العقلاء .
وأي جدوى للبشرية من أن تزيد إنتاجها المادي وهي تعرض الإنتاج البشري للتلف والبوار ؟
وقد يكون للغرب المجنون عذره من ظروفه التاريخية والجغرافية والسياسية والاقتصادية . أما نحن في منطقة الشرق الإسلامي فما عذرنا ؟ هل استنفدنا كل الأيدي العاملة من الرجال فوجدنا العمل ما زال في حاجة إلى مزيد ؟ هل نكل الرجل المسلم ، أباً كان أو أخاً أو زوجاً أو قريباً ، عن إعالة المرأة وتركها تعمل لكي تعيش ؟
يقولون إن العمل يعطي المرأة كياناً اقتصادياً مستقلاً فتحصل على كرامتها . فهل الإسلام حرم المرأة من الكيان الاقتصادي المستقل ؟ إن المشكلة في الشرق الإسلامي ليست مشكلة النظام ، وإنما هي مشكلة الفقر الشامل الذي لا يجعل للمرأة – ولا للرجل - موارد كريمة للعيش . وعلاج ذلك زيادة طاقة الإنتاج حتى يغني الشعب كله برجاله ونسائه ، فلا يكون فيه فقراء ، وليس علاجه أن تزاحم المرأة الرجل على وسائل الحياة !
ويقولون إن اشتراك إيرادين في إقامة أسرة أكفل لها من إيراد واحد .
وقد يكون هذا حقاً في أحوال فردية . ولكن إذا كانت كل امرأة تعمل في غير الوظائف النسوية تعطل رجلاً عن العمل ، فتعطل إقامة أسرة جديدة ، وتزيد من فترة التعطل الجنسي الذي يؤدي إلى الجريمة ، فأي عقل اقتصادي أو اجتماعي أو خلقي يؤيد هذا الاضطرابات ؟
لقد كان الإسلام يلحظ الفطرة البشرية وحاجات المجتمع معاً ، حين خصص المرأة لوظيفتها الأولى التي خلقت من أجلها ، ووهبت العبقرية فيها ، وجعل كفالتها واجباً على الرجل لا يملك النكول عنه ، ليفرغ بالها من القلق على العيش ، وتتجه بكل جهدها وطاقتها لرعاية الإنتاج البشري الثمين . كما أحاطها - في هذه الوظيفة - بالرعاية الكاملة والاحترام الشامل ، حتى إن أحد الناس ليسأل الرسول صلى الله عليه وسلم : من أولى الناس بحسن صحابتي ؟ فيقول : " أُمك " قال : ثم من ؟ قال : " ثم أُمك " قال : ثم من ؟ قال : " ثم أُمك " قال : ثم من ؟ قال : " ثم أبوك " ([23])
وبعد فأين هي " القضية " التي تشتغل بها المرأة المسلمة ؟ وأي هدف بقي لها في الحياة لم يحققه الإسلام ، لتسعى إلى استخلاصه عن طريق حق الانتخاب وحق التمثيل في البرلمان؟
تريد المساواة الإنسانية مع الرجل ؟ نعم . ويعطيها الإسلام هذه المساواة نظرياً وعملياً أمام القانون .
تريد الاستقلال الاقتصادي وحرية التعامل المباشر مع المجتمع ؟ نعم ، وكان الإسلام أول من قرر لها هذه الحقوق .
تريد حق العليم ؟ نعم ، وقد منحها الإسلام هذا الحق ، بل جعله فريضة عليها .
تريد ألا تتزوج بغير إذنها بل أن تخطب لنفسها ؟
وأن تعامل معاملة كريمة ما دامت تقوم بدورها الزوجي كما ينبغي ؟
وأن يكون لها حق الانفصال حين لا تجد المعاملة بالمعروف ؟
نعم .. ويعطيها الإسلام كل ذلك حقاً مفروضاً على الرجال .
تريد حق العمل ؟ نعم ، ولها ذلك في الإسلام .
أم تريد حرية التهتك والابتذال ؟ تلك هي الحرية الوحيدة التي حرمها إياها الإسلام ، ولكنه كذلك حرم الرجل منها على قدم المساواة . وحتى تقرير هذه الحرية لا يحتاج إلى دخول البرلمان ، وإنما يحتاج فقط إلى حل روابط المجتمع وتقاليده ، وحينئذ يتبذل من يريد ويطلق له العنان !
إن دخول البرلمان ليس هدفاً في ذاته كما يفهم المغفلون ، وكما تفهم الشاردات الفارغات من نساء المؤتمرات . ولكنه وسيلة لهدف آخر . فإذا تحققت الأهداف فما الحاجة إلى هذه الوسيلة إلا التقليد الأعمى للغرب المفتون ، وظروفنا غير ظروفه ، وقيم الحياة في نظرنا غيرها هناك ؟
* * *
ولكن قوماً سيقولون : ما لنا وما للظروف المختلفة والقيم المتباينة ؟ إن وضع المرأة في الشرق وضع سيّىء لا يمكن السكوت عليه . وقد تحررت المرأة في الغرب ونالت مكانتها ، فعلى المرأة الشرقية أن تسلك سبيلها وتقلدها للحصول على حقوقها المسلوبة .
وهذا كلام فيه حق : فالمرأة في البلاد الإسلامية عامة جاهلة متأخرة مهينة لا كرامة لها ، تعيش كما يعيش الحيوان ، مغلفة بالقذارة الحسية والمعنوية ، تشقى أكثر مما تسعد ، وتعطي أكثر مما تأخذ ، لا ترتفع كثيراً عن عالم الغريزة ولا يتاح لها الارتفاع .
هذه حقيقة . ولكن من المسئول عن هذه الحقيقة ؟ أهو الإسلام وتعاليم الإسلام ؟
إن الوضع السيىء الذي تعانيه المرأة الشرقية يرجع إلى ظروف اقتصادية واجتماعية وسياسية ونفسية ينبغي أن نلم بها ، لنعلم من أين تأتينا هذه المفاسد ، ونكون على هدى ونحن نحاول الإصلاح .
هذا الفقر البشع الذي يعانيه الشرق منذ أجيال عدة . هذا الظلم الإجتماعي الذي يجعل قوماً يغرقون في الترف الفاجر والمتاع الغليظ ، وغيرهم لا يجد لقمة الخبز والثوب الذي يكسو به العورات . هذا الكبت السياسي الذي يجعل من الحكام طبقة غير طبقة المحكومين - طبقة لها كل الحقوق وليس عليها واجبات ، والمحكومون يدفعون جميع التكاليف بلا مقابل . وهذا الظلام التعس والإرهاق العصبي الذي يعيش فيه سواد الشعب نتيجة هذه الظروف .. هذا كله هو المسئول عما تعيش فيه المرأة من الذل والاضطهاد .
إن ما تحتاج إليه المرأة هو " عواطف " الاحترام والمودة بينها وبين الرجل . وأين تنبت هذه العواطف في الفقر المدقع والكبت المرهق للجميع ؟
ليست المرأة وحدها هي الضحية ولكنه الرجل كذلك ، وإن بدا أنه في وضع خير منها.
الرجل يعامل امرأته بالعسف والاضطهاد لأنه يريد أن يحقق كيانه المسلوب في الخارج : كيانه الذي يهينه الخفير والعمدة وصاحب الأرض . أو يهينه عسكري البوليس و " الأفندي " وصاحب المصنع . أو يهينه الرئيس في المصلحة . كيانه الذي يهدده الذل والحاجة ، والأوضاع الظالمة التي لا يملك مواجهتها ولا التغلب عليها ، " فيسقط " غضبه المكظوم على زوجته وأولاده ومن يلوذ به من الأهلين .
وهذا الفقر الكافر الذي يشمل المجتمع ، والذي يشغل جهد الرجل ويستنفد طاقته النفسية والعصبية ، فلا يعود في نفسه تلك السعة التي تنشأ فيها عواطف المحبة والمعاملة الكريمة للآخرين ، ولا في أعصابه تلك الطاقة التي تحتمل أخطاء الناس التافهة وتصبر عليها أو تصفح عنها .
هذا الفقر ذاته هو الذي يستعبد المرأة للرجل ، ويجعلها تحتمل ظلمه وعسفه لأنه خير من الحياة بلا عائل . هو الذي يغل يدها عن استخدام حقوقها الشرعية المخولة لها ، والتي كان يمكن أن توقف الرجل عند حده لو لجأت إليها . فهي في خوف دائم من أن يطلقها زوجها ، وعندئذ ماذا تصنع ؟ الأولاد قد يكفلهم أبوهم . أما هي ؟ من يكفلها ؟ أهلها الفقراء المرهقون ؟ إنهم لضيقهم بتكاليف الحياة لا يرحبون بانفصالها عن زوجها لئلا تزيد في أعبائهم ، فينصحونها باحتمال الذل المهين .
هذه واحدة …
وفي المجتمع المتأخر - والشرق اليوم متأخر ولا شك ، لأنه فقد أهدافه وفقد نفسه وأغرق في الظلمات – في المجتمع المتأخر تهبط القيم الإنسانية كلها ، وتصبح الفضيلة الوحيدة هي القوة في جميع صورها وأشكالها . ويصبح الضعف مبرراً للمهانة والتحقير .
وإذ كان الرجل أقوى من المرأة فهو يحتقرها ، لأنه هو هابط لا يستطيع الارتفاع إلى المستوى الإنساني الذي يُحترم فيه الإنسان لأنه إنسان . إلا أن يكون لها ملك ! فحينئذ تحترم لأنها تملك وسيلة من وسائل القوة والسلطان !
وفي المجتمع المتأخر كذلك يهبط الناس إلى غرائزهم أو قريباً منها . وتستولي على الناس شهوة الجنس خاصة فيرون الحياة من خلالها وفي حدود دائرتها . عندئذ تصبح المرأة في حس الرجل متاعاً ليس غير ([24]) ، ولا يجد فضلة نفسية أو عقلية أو روحية يضفي بها عليها معاني الإنسانية الكريمة التي تولد الاحترام . وإذ كان الاتصال الجنسي في عالم البهائم يمثل لوناً من سيطرة الذكر على الأنثى ، فهنا يجتمع مزيج من شعورين هابطين : شعور السيطرة وقت العمل ، والإهمال بعد الانتهاء .
وفي البيئة المتأخرة تهمل التربية ، لأنها تبدو - في وسط الجهل والمسغبة – ترفاً لا تتطلع إليه العيون . والتربية هي الوسيلة الوحيدة التي تجعل من الإنسان إنساناً ، وترفعه عن مستوى الحيوان . وحين لا توجد التربية ، أو توجد في صورة فاسدة ، فالناس على غرائزهم من عبادة القوة وقياس الحياة بمقياس الشهوات .
وفي هذه البيئة تعمل الأم - بغير وعي منها - على إفساد مشاعر الرجل نحو المرأة وصبغها بالدكتاتورية والتحكم المستبد . ذلك أن الأم التي تدلل طفلها ، ولا توقفه عند حد معقول ، تعوده أن تكون كلمته هي الأمر المطاع سواء كان على خطأ أو صواب ، وتعوده كذلك ألا يضبط شهواته ونزعاته ، فإذا أوامره التي يريد أن يفرضها على الآخرين هي وحي هذه الشهوات والنزعات ، فإن وقف المجتمع الخارجي بما فيه من اضطراب وكبت وحرمان دون تحقيق الكيان السوي ، بله المنحرف ، عاد الرجل يصب سوءاته كلها على من دونه من رجال ونساء وأطفال .
* * *
تلك أبرز عوامل الفساد في المجتمع الشرقي . وهي التي تنشيء مشكلة المرأة ، وتضعها في وضعها المشين . فأي تلك العوامل قد نشأ من الإسلام وأيها يتمشى مع روح الإسلام ؟
آلفقر ؟ !
أليس الإسلام هو الذي رفع المجتمع إلى الدرجة التي لا يوجد فيها فقير يطلب الزكاة أو يقبلها في عهد عمر بن عبد العزيز ؟ هذا هو الإسلام الذي طبق في واقع الأرض ، والذي نطلب تطبيقه اليوم . إنه النظام الذي يوزع المال توزيعاً عادلاً بين طوائف الأمة " كيلا يكون دولة بين الأغنياء منكم " ويقرب بين مستويات الناس لأنه يكره الترف ويحرمه ، ويكره الفقر ويعمل على إزالته .
والفقر هو العامل الأول في مشكلة المرأة الشرقية ، فإذا زال فقد انحلت العقدة الكبرى ووجدت المرأة كرامتها . وليس من الضروري أن تعمل المرأة لتكسب - وإن كان ذلك حقاً مباحاً لها - ولكن ارتفاع مستوى الثروة لمجموع الشعب يجعل نصيب المرأة من الميراث - وهو نصيب لا تعول منه أحداً إلا نفسها - كفيلاً باحترام الرجل لها ، ومشجعاً لها على التمسك بحقوقها التي تتخلى عنها خوفاً من مواجهة الفقر .
آلظلم السياسي الذي يكبت الرجل فينفس عن حقده الحبيس في المنزل ؟ !
وهل كان الإسلام إلا ثورة على الظلم ودعوة إلى مقاومة الظالمين ؟ أليس هو الذي وصل في تربيته للبشر حكاماً ومحكومين أن يقول عمر : " اسمعوا وأطيعوا " فيقول له رجل من المسلمين : لا سمع لك علينا ولا طاعة حتى تخبرنا من أين لك هذا البرد الذي ائتزرت به! فلا يغضب عمر ، بل يقر السائل على سؤاله ويشرح له حقيقة الأمر حتى يقتنع ويقول : " الآن مر ، نسمع ونطع " ! هذا هو الإسلام الذي عرفته الأرض مرة ، والذي نطلبه اليوم مرة أخرى . وحين يطبق لن يجد الناس الكبت الذي يقع عليهم من أعلى فيضطرهم إلى التنفيس المقلوب . وستكون معاملة الحاكم للمحكوم نبراساً يحتذيه كل شخص في معاملة كل شخص ، ويحتذيه الرجل في معاملته لزوجته وأطفاله بالعدل والحسنى ، والمودة والإخاء .
آلقيم الإنسانية الهابطة ؟ !
وهل جاء الإسلام إلا ليرفع الناس عن الهبوط ، ويضع لهم القيم الحقيقة التي يصبحون بها آدميين ؟ " إن أكرمكم عند الله أتقاكم " لا أغناكم ولا أقواكم ولا أكثركم سلطاناً . وحين ترتفع القيم البشرية إلى هذا المستوى لا يكون هناك مجال لازدراء المرأة لضعفها ، بل يكون مقياس الإنسانية هو حسن معاملة الرجل للمرأة وهو المقياس الذي وضعه الرسول صراحة حين قال : " خيركم خيركم لأهله وأنا خيركم لأهلي " ([25]) يقصد زوجته بتعبير العرب . وكان بهذه الكلمات ، صلى الله عليه وسلم ، عميق الإدراك لحقائق النفوس ، فما يعامل أحد إنساناً تحت كفالته بالسوء إلا وفي نفسه عقد واضطربات تهبط به في مقياس الآدميين .
آلهبوط إلى عالم الغرائز ؟ !
ومتى أباح الإسلام للناس أن يعيشوا على غرائزهم بغير تهذيب ؟ إنه يعترف بها اعترافاً صريحاً . نعم . ولكنه لا يسايرها في هبوطها ولا يقبل أن تستبد بالناس حتى تصبح هي الكوة التي ينظرون منها إلى الحياة .
وليس إلزامه للمرأة والرجل أن يقوم كل منهما بقضاء حاجة الآخر هبوطاً بالإنسان إلى مستوى الغريزة . وإنما يقصد الإسلام من ذلك إلى إطلاق الناس من ضروراتهم ، فلا تشغل هذه الضرورات بالهم وأعصابهم ، فتمنعهم من توجيه طاقتهم إلى ميادين الإنتاج العليا ، سواء في عمل أو فن أو عبادة ، أو تلجئهم إلى الجريمة حين يتعذر إشباعها بالطريق المشروع . ولكنه لم يدع الناس قط إلى أن تستغرقهم شهواتهم ويشغلهم الاستمتاع بها عن الحياة الإنسانية الرفيعة ، فشغل الرجل بالجهاد في سبيل الله ، جهاداً دائماً لا ينقطع ، وشغل المرأة بالجهاد في تربية أطفالها ورعاية منزلها ، حتى تصبح لكليهما أهداف لا تقف عند حدود الضرورات والشهوات .
أم سوء التربية ؟ !
لعل أحداً لا يجرؤ أن يقول ذلك عن الإسلام ، والقرآن كله والأحاديث كلها دعوة لتهذيب النفوس وتربيتها على ضبط النفس والتزام العدل واحترام الآخرين وحبّهم كما يحب الإنسان نفسه .
أما التقاليد التي يزعم كتاب اليوم أنها هي التي تؤخر المرأة وتغلفها بغلاف الحيوانية والجمود وضيق الأفق والجهالة فما هي في حقيقتها ؟
التقاليد التي لا تمنع العلم ، ولا تمنع العمل ، ولا تمنع التعامل النظيف مع المجتمع ما عيبها وما الضرر منها ؟ ([26])
إنها تمنع التبذل الخلقي والرقاعة والتفاهة والخروج إلى الشارع لنشر الفتنة والانحلال . فهل بهذه الوسائل وحدها تتقدم المرأة وتنال كرامتها ؟
من ذا الذي يقول إن الطريق الوحيد لصقل شخصية المرأة وتزويدها بالخبرة والتجربة هو أن تخرج إلى مهاوي الفتنة ، فتبذل نفسها لأحد الشبان ثم تكتشف بعد أن تبذل نفسها ، أنه شاب وضيع لا يريدها إلا للمتاع الجسدي ، ولا يحترم كيانها كامرأة ، فتنصرف عنه إلى شاب جديد . كما تصنع فتيات الغرب المتحضرات المصقولات ؟ !
من يقول ذلك إلا الذين يودون أن تشيع الفاحشة في المجتمع ليحصلوا على رغباتهم الهابطة من أيسر طريق ، دون أن تحول دونهم " التقاليد " ؟ !
والتعليم ما وظيفته ؟ أو ليس يعطي الخبرة النظرية على الأقل بشئون الحياة ؟
والزواج ؟ أليس هو تجربة عملية نظيفة تنضج النفوس وتزود العقول بالتجارب ؟
وفي مصر كاتب غير مسلم كان يكتب كل أسبوع في صحيفة أسبوعية ليتناول الإسلام بالغمز والتجريح بالتلميح أو التصريح ، ولا يفتأ يقول للنساء : انبذن تقاليدكن " البالية " واخرجن واختلطن بالرجال في جرأة ، واقتحمن المصانع والمتاجر للعمل ، لا دفعاً للضرورة ، ولكن فقط تحدياً للتقاليد التي تحتجزكن للأمومة ورعاية الإنتاج البشري !
وكان هذا الكاتب يقول إن المرأة تسير في الشارع خافضة البصر لأنها لا تثق بكيانها ، ويغمرها الخوف من الرجل ومن المجتمع ! ولكنها حين " تصقلها التجربة " ترفع رأسها متحدية ، وتنظر إلى الرجال بعينين ثابتتين([27])
ويقول التاريخ إن عائشة ، التي اشتركت في السياسة العامة في صدر الإسلام وقادت الجيوش ، وخاضت المعارك ، كانت تكلم الناس من وراء حجاب !
ولم يكن غض البصر خلقاً يختص بالنساء فقط ، فإن التاريخ يروي كذلك أن محمداً ، صلى الله عليه وسلم ، كان أشد حياء من العذراء . ألعله لم يكن يثق بكيانه ، ولا يعرف حقيقة رسالته للبشرية ؟ !
ألا متى يرتفع الكتاب التافهون عن مثل هذه التفاهات ؟ !
* * *
إن المرأة في وضع سيىء دون شك ، ولكن طريقها لتصحيح وضعها ليس طريق المرأة الغربية التي لها ظروفها الخاصة وانحرافاتها الخاصة .
إن طريقنا لإصلاح الخطأ في حياة المرأة والرجل على السواء هو العودة إلى نظام الإسلام . طريقنا أن ندعو جميعاً رجالاً ونساء وشباناً وفتيات إلى حكم الإسلام وشريعة الإسلام ، وأن نؤمن بهذه القضية ، ونمنحها جهدنا وتفكيرنا وعواطفنا . وحينئذ .. حين نؤمن ونعمل لتنفيذ ما نؤمن به ، يحكم الإسلام ، ويرد كل شيء إلى مكان الصحيح بلا ظلم ولا طغيان .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق