الأحد، 22 يوليو 2018

حكم مشاركة الحركات والأحزاب الإسلامية المعاصرة في الحكم


بسم الله الرحمن الرحيم
المشاركة في الحكم
مشاركة الحركة الإسلامية المعاصرة في الحكم


* القضية فرع من الأصل *
*حكم الاحتجاج بالمصالح *
* الصور التاريخية لوصول الإسلام إلى الحكم  *
*التكييف الشرعي للاستدلال بالمصلحة إلى جواز   المشاركة* 
* طريق العمل السياسي الحزبي*              
* ضوابط المشاركة في الأنظمة التي لا تحكم بالشرع *
* المشاركة في الوزارة *
* ضابط المقصد *
* مشاركة يوسف (عليه السلام ) في الوزارة*   
*  ضابط الموازنة بين المصالح والمفاسد *
*موقف النجاشي*                                              
* الخلاصة *

*المصلحة *

تعتبر قضية مشاركة الحركة الإسلامية المعاصرة في الحكم غير الإسلامي من القضايا الملحة والتي تشغل بال الكثير من العاملين في ميدان الدعوة الإسلامية , وبالرغم من أن القضية طرحت في بعض كتابات مفكرينا المعاصرين , إلا أنها لم تأخذ حظها من العناية الحقة والدراسة الجادة الأصيلة , مما جعل كثيرا من العاملين يكثرون الجدل حولها ويتجاذبونها بالحوار والنقاش دون أن يصلوا في ذلك إلى رأي حاسم .
ولقد ثبتت هذه الدراسة المذكرة التي كتبها عدد من أساتذة كلية الشريعة في الكويت في أواخر الثمانينات أضافت إليها بعض الردود على المناقشات المخالفة لرأينا وبعض المباحث والتعليقات المتممة .
تصورنا للقضية :
القضية فرع من الأصل :
إن حكم مشاركة الحركة الإسلامية المعاصرة في الحكم غير الإسلامي الذي يحكم معظم شعوب العالم الإسلامي في العصر الحديث مسالة جزئية في تحكمها اعتبارات متعددة ولعل أهم هذه الاعتبارات , تصورنا للطريق الموصل إلى قيام الدولة الإسلامية وتحكيم شريعة الله , ومن هنا فلا يمكن البت في حكم هذه المسالة بعيدا عن هذا التصور , ولعلة من المستحسن أن نعرض الصورة التاريخية التي وصل بها الإسلام إلي الحكم.
الصورة التاريخية لوصول الإسلام إلى الحكم : 
- 1 -                                                                                                                                   - 2 -
 
لقد اختار الله الجزيرة العربية مهدا لرسالة الإسلام (اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ)(الأنعام: من الآية124)والمتأمل في هذا الاختيار يلمس جانبا كبيرا من الحكمة الإلهية حيث كانت الجزيرة في ذلك الوقت لا تقع  تحت سلطان أي من الدولتين الكبيرتين الفرس والروم , ورغم اتهم كانوا على أطرافها قريبين منها كل القرب , ومع أن الدعوة بدأت في مكة بعيدة عن سلطان الدولتين , إلا أنها حوصرت نظرا لما كان لقريش من سلطان واضح على آم القرى , ولأنها رأت في هذه الدعوة ما يهدد مصالحها ونفوذها , مما دعا الرسول (.ﷺ) أن يبحث عن قاعدة أمينة للدعوة تكون منطلقا للدولة الإسلامية , ومن هنا كان عرضه نفسه على القبائل وهجرة أصحابه إلى الحبشة وذهابه إلى الطائف , وثم وجد ما يصبوا إليه في المدينة المنورة بعد بيعة العقبة الأولى والثانية , ولم يكن في المدينة المنورة سلطة مركزية قوية تتخذ موقفا موحدا من قيام الدولة الإسلامية , حيث كانت فيها قوى شبه متوازنة بين قبيلتي الاوس والخزرج العربيتين , بين القبائل اليهودية المتعددة, ولم تمض سنتان على البيعة الأولى حتى كان الإسلام ينتشر انتشارا سريعا بين سكان المدينة , وقد رأى الرسول (.ﷺ) الطريق أمامه ممهدا , فلم يكد يصل إلى المدينة حتى فتحت له أبوابها ولم يجد قوة تقف في طريقه , وبعد أن بنى مسجده اخذ في وضع دستور الحكم للمدينة المنورة , والذي عرف تاريخيا باسم الصحيفة , والتي تضمنت تحديد العلاقات بين المسلمين في المدينة وقبائل اليهود تحديدا دقيقا , وبذلك قامت الدولة الإسلامية الأولى دون وجود سلطة مركزية تحول دونها أو تعترض سبيلها . يمكننا أن نحدد منهج الرسول (.ﷺ) في الوصول إلى الحكم بما يلي :
1- أن الرسول (.ﷺ) بدا بدعوة الناس إلى الإسلام حتى تكونت له قاعدة صلبة من المسلمين هم الذين أطلق عليهم بعد ذلك (المهاجرون ) . أن الرسول  (.ﷺ) لم يقبل الملك حينما عرض عليه من قبل الجاهلية , لانه سيكون واليا من قبل الجاهلية , ولن يكون له أي نفوذ عليهم لعدم وجود قاعدة مؤمنة يعتمد عليها في تنفيذ شريعة الله , ولن يسمحوا له بذلك بدليل انهم رفضوا أن يقولوا(لا اله إلا الله ) لأنهم وجدوا فيها إسقاطا لكل نفوذهم .
2- لم يخض الرسول (.ﷺ) مع الجاهلية حربا عسكرية لقيام الدولة .
3- اختار الله للرسول (.ﷺ) على الصدام المباشر مع الجاهلية , المدينة المنورة قاعدة يأوي إليها مع أصحابه معتمدا مبدأ الهجرة لإنشاء قوة حقيقية تكون قادرة على الصدام مع الجاهلية .
4- تم للرسول (.ﷺ) ما أراد بهجرته إلى المدينة ووصل الإسلام إلى الحكم بهذه الطريقة .           
- 3 -                                                                                                                                   - 4 -
 
هذه هي الصورة  التاريخية التي وصل بها الإسلام إلى الحكم , واستمر هذا الحكم بصور مثالية أو بأخرى غير مثالية , حتى كانت المؤامرة الدولية الكبرى على الإسلام بإسقاط الخلافة وتمزيق شعوبها , وإقامة كيانات إقليمية ود ويلات قومية وتيارات وأحزاب معادية للإسلام وعاملة على تقويض ما تبقى من دعائمه ومراكز القوة فيه , وعقب إلغاء الخلافة قامت حركات الإسلامية المعاصرة بالدعوة إلى العودة للإسلام وتحكيم شريعته , واستطاعت الحركة أن تعيد إلى المسلمين ثقتهم بإسلامهم , وان ترد الغزو الفكري المعادي إلى جحوره , بما طرحت من المؤلفات الإسلامية , وبما أنشأت من الصحف والمجلات وبما أقامت من المشروعات النافعة , وكان ابرز ما قامت به إن أوجدت تيارا شعبيا وحركة مطالبة بعودة الإسلام إلى الحكم , ولكنها حتى الآن ما زالت تعانى في طريق إيصال الإسلام إلى الحكم , ذلك أن أعداء الإسلام في الداخل والخارج القوا بكل ثقلهم وكل جهودهم وطاقاتهم للحيلولة دون وصول الحركة الإسلامية إلى الحكم , بما أنشئوا من الأحزاب العلمانية المناهضة للإسلام , وبما أقاموا من أنظمة الحكم العسكرية المستبدة التي تحد من نشاط الحركة وحريتها في العمل , وكان من نتيجة ذلك كله إن تعرضت الحركة الإسلامية المعاصرة للاضطهاد فترة طويلة من الزمن وعزلت عن المشاركة في النشاط الذي كانت قد بدأته عنفوان شبابها .
أمام هذا الواقع الذي انتهت إليه تطورات الأحداث كان لا بد للحركة من أن تعيد النظر في خطواتها , وان تصوغ أهدافها السياسية ضمن برنامج زمني محدد, يأخذ في الاعتبار المتغيرات الكثيرة التي طرأت على ساحة العمل السياسي في العالم الإسلامي , كما يأخذ في الاعتبار الخيارات الممكنة للوصول إلى الحكم في ظل الظروف الصعبة التي تحيط بالعمل الإسلامي في كل مكان .
إن الصورة التاريخية لوصول الإسلام إلى الحكم والتي أشرنا إليها فيما تقدم تبدو الآن غير ممكنة التحقيق , لان أقطار العالم الإسلامي جميعا تخضع لسلطات مركزية قوية , تساندها قوى دولية متعددة , بما تملك من قوى مادية ومعنوية رهيبة , وهي ترصد تحركات العاملين للإسلام في كل مكان وتحاول محاصرتهم والحيلولة دون نجاح جهودهم , فالقياس أذن على الصورة التاريخية في الظروف الراهنة يبدو انه غير ممكن على الأقل في المستقبل المنظور , هذا بالإضافة إلى الفروق الكثيرة القائمة بين واقع الحركة الإسلامية المعاصرة وواقع الدعوة الإسلامية الأولى من جانب , وبين الواقع التاريخي الجاهلي والواقع الجاهلي المعاصر من جهة أخرى , حيث كانت الدعوة الإسلامية الأولى تنظيما يضم كل المسلمين والمعاصرة جماعة من المسلمين , وهذا يجعل الدعوة الإسلامية الأولى أن تتحرك في مواجهة الجاهلية وحدها , بينما يجعل الحركة الإسلامية المعاصرة في موقف حرج , فهي بالإضافة إلى حركتها في مواجهة الجاهلية المعاصرة في موقف حرج , فهي بالإضافة إلى حركتها في مواجهة الجاهلية المعاصرة مضطرة أن يكون لها مواقف محرجة مع القاعدة العريضة للشعوب الإسلامية التي تخضع لقيادتها , ومثل هذا الوضع تستفيد منه الأنظمة الجاهلية فوائد كثيرة متعددة . إن عملية إدخال المسلمين جميعا أو أغلبيتهم ضمن الحركة الإسلامية المعاصرة يبدو آمرا بعيد المنال . وقد استبعدته الحركة الإسلامية من مجالها حين قبلت لنفسها مضطرة أن تكون جماعة من المسلمين , وهي بهذا الوضع أصبحت أشبه بالأحزاب السياسية المعاصرة منها بالدعوة الإسلامية الأولى التي كانت تضم المسلمين , ومنهاج الأحزاب السياسية المعاصرة يقوم على أساس أساليب معينة تصل الأحزاب من خلالها إلى السلطة السياسية ,
وهذه الأساليب أما أن تكون عن طريق اللعبة الديمقراطية , أو أن تكون عن طريق الانقلاب العسكري , أو عن طريق الثورة الشعبية المسلحة .
الحركة الإسلامية المعاصرة من حيث أرادت أو لم ترد , باعتبارها جماعة من المسلمين , قد وضعت نفسها في الطريق الحزبي الذي تسلكه الأحزاب المعاصرة إذا ما أرادت لنفسها الوصول إلى الحكم .
- 5 -                                                                                                                                   - 6 -
 
قطعا لطريق الانقلاب العسكري أمام الحركة الإسلامية المعاصرة , فقد سدت الأبواب أمام الإسلاميين بحيث لا يتمكنون من الحصول على قوة عسكرية داخل جيوش دولهم تمكنهم من القيام بانقلاب عسكري .
الثورة الشعبية المسلحة مستبعدة في ظل مثل أنظمة الحكم المستبدة القائمة في معظم أنحاء العالم الإسلامي , لأنها تحتاج إلى أعداد طويل ودقيق وتدريب يصعب القيام به تحت ظل هذه الأنظمة , وكثيرا ما ينكشف  ويكون انكشافه كارثة على المسلمين . 
فلم يبق أمام الحركة الإسلامية إلا الطريق الثالث  وهو طريق العمل السياسي الحزبي والذي يؤدي إلى المشاركة في الحكم الغير الإسلامي . وقد لاحظ أعداء الإسلام في الداخل والخارج ,إن البلاد الإسلامية التي تحكم بالديمقراطية البرلمانية ينتعش فيها الإسلام , وتقوي الحركة الإسلامية , وتفرض وجودها على الساحة كمنافس قوي للأحزاب المناوئة للإسلام , ومن هنا حرص أعداء الإسلام الدوليون أن يحكم العالم الإسلامي بالحديد والنار بدلا من الديمقراطية النيابية , فقامت الانقلابات العسكرية في معظم بلدان العالم الإسلامي لتخضع البلاد لحكم عسكري مباشر يستوي في ذلك أن يكون الحاكم ديكتاتورا فردا , أو ملكا متوجا , أو حزبا قائدا , طالما إن هدف الجميع الحيلولة دون وصول الإسلام إلى الحكم , وأصبحت بلدان العالم الإسلامي من جاكرتا إلى طنجة تحكم بالحديد والنار , وعلى تفاوت في درجة حرارة النار وقوة الطرق بالحديد , مع وجود واحات ديمقراطية صغيرة في صحراء الدكتاتوريات العسكرية العالمية الشاملة .
أمام  هذا الواقع البائس الذي يعيشه المسلمون المعاصرون , تقف الحركة الإسلامية ومفكروها , فمنهم من ينظر إلى الصورة التاريخية للدولة الإسلامية الأولى ويعتبرها المقياس الذي ينبغي أن تسير عليه الحركة الإسلامية المعاصرة , وهو بذلك يسقط كل الفروق التي أشرنا إليها بين واقع الحركة الإسلامية المعاصرة , وواقع الدعوة الإسلامية الأولى من جانب , كما يسقط كل الفروق بين واقع الجاهلية التاريخية ذات السلطات المحدودة وواقع الجاهلية المعاصرة والتي يغطي نفوذها كل مكان , كما يسقط كل المتغيرات التي أحدثتها الثورة العلمية والتي تشكل قوة هائلة بيد الجاهلية المعاصرة ,ويدعو إلى السير في نفس الخطوات , ثم لا يبين كيف يمكن أن تتم هذه الخطوات مع هذه الفروق والمتغيرات . ولا شك بان هذه الصورة التاريخية لو كانت ممكنة لا يمكن أن يعدل بها صورة أخرى , لأنها المثالية التي يمكن بها انتقال الإسلام إلى الحكم من اقرب الطرق ودون سلبيات كثيرة , ولكن الأمنية شيء والواقع شيء آخر .
 الذي يقف عند هذه الصورة لا يتعدها , قد لا يجيز الصور الأخرى نظرا لما يترتب عليها من سلبيات كثيرة , ورغم ما يمكن أن تحقق من منافع جزئية أو أهداف مرحلية , ومن هنا نكون الفتوى بعدم جواز المشاركة في الحكم غير الإسلامي .
- 7 -                                                                                                                                   - 8 -
 
- 3 -                                                                                                                                         - 4 -
 
يرى الآخرون : أن الصورة المثالية التاريخية ليس لها فرصة التحقق في الواقع المعاصر , ومن ثم فليس أمامهم إلا محاولة الوصول عن طريق الممكن من الصور الأخرى , أو اتخاذ موقف سلبي من الصراع يخرجهم من دائرة التأثير في الواقع وتغيير مليمكن تغييره , ومن هنا يميلون إلى جواز المشاركة في الحكم الغير الإسلامي بحجة إنقاذ ما يمكن إنقاذه , وتغيير ما يمكن تغييره , ودفع اكبر الشرين بارتكاب أخفهما . أن اكبر ضربة وجهت إلى الإسلام خلال تاريخه الطويل كانت أقصاه عن مجال الحكم و الدولة بإلغاء الخلافة الإسلامية , وان كل ما يعانيه المسلمون من مشكلات في شتى شؤونهم يعود إلى هذه الكارثة الكبرى , فإذا استطاع المسلمون التغلب على هذه المصيبة الكبرى بإعادة الإسلام إلى الحكم والدولة , استطاعوا أن يحلوا كل مشكلاتهم وان يوجهوا سير التاريخ مرة أخرى وجهته الإسلامية الصحيحة . وأمام هذا الهدف الكبير الذي قامت الحركة الإسلامية لتحقيقه , لا يمكن الاحتجاج عليه بأمور جزئية تتعارض معه , لأنه في حالة تعارض الجزئي مع الكلي يكون الترجيح بجانب الكلي , والأمثلة على ذلك في الفقه الإسلامي اكثر من أن نحصى . وان اكثر الأدلة التي يعترض بها من لا يجيز المشاركة في أصالحكم الغير الإسلامي باعتبارها الصورة المتاحة للوصول إلى الحكم في المرحلة الراهنة , إنما هي من هذا القبيل .
أن مرونة الشريعة الإسلامية وواقعيتها لا يمكن أن تحول دون تحقيق الأهداف الكبيرة بسبب معارضات جزئية , كما لا يمكن أن توقع المسلمين في الحرج وتقصرهم على صورة واحدة من صور الوصول إلى الحكم رغم استحالتها في بعض الظروف والأوضاع , وذلك لأنها جاءت لكل زمان ومكان ولكل الظروف والأحوال , ومن ثم نرى أن الأحكام التي جاءت في هذا المجال ليست على إطلاقها , وإنما هي مرهونة بظروف إمكانية تطبيقها , وبمقدار ما تحققه من فوائد وما تدفعه من مضار , وانه إذا تعذر تطبيق الصورة الأولى يمكن الانتقال إلى الثانية والثالثة والرابعة , وان ذلك قد يختلف باختلاف الزمان والمكان , وباختلاف ظروف الحركة الإسلامية في كل قطر , وبل قد يكون من المصلحة في بعض الأحيان السير في هذه الطرق الأربعة بخطوط متوازية في مرحلة من المراحل حتى تترجح واحدة منها في النهاية .
المشاركة في الوزارة : 
 لا شك في أن الأصل عدم جواز المشاركة في الوزارة التي تحكم بشريعة غير شريعة الله تعالى , وذلك لعموم النصوص الواردة في وصف من يحكم بغير ما انزل الله بالكفر والظلم والفسق () وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ)(المائدة: من الآية47) وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ)(المائدة: من الآية44(وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ)(المائدة: من الآية45), لان ألحا كمية يجب أن تكون لله وحده (إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ)(يوسف: من الآية4.). وكذلك نهى الله المؤمنين أن يحتكموا إلى شريعة غير شريعة الله وجعل ذلك منافيا للأيمان حينما قال(فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً) (النساء:65) , كما نعى على المنافقين موقفهم من الاحتكام إلى غير ما انزل الله فقال (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيداً) (النساء:6.) .
هذه النصوص وأمثالها تدل على جواز المشاركة في نظام يحكم بغير ما انزل الله , إن ذلك هو الأصل لأنه لا يجوز ترك حكم الله إلى حكم غيره , وان من يفعل ذلك يكون مؤثرا لحكم الجاهلية على حكم الله تعالى )أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ) (المائدة:5.).
تجوز المشاركة استثناء من الأصل استدلالا بالأدلة التالية :
أ‌-     مشاركة يوسف عليه السلام في الوزارة.
ب‌- موقف النجاشي .
ت‌-  المصلحة .
- 9 -                                                                                                                                   - 10 -
 
فيما يلي تفصيل القول في هذه الأدلة : 
أ - مشاركة يوسف عليه السلام في الوزارة :
لا شك أن المجتمع الذي عاش فيه يوسف عليه السلام كان مجتمعا جاهليا لم يعرف الإسلام ولم يخضع لقيمه . وان عقيدة الشرك كانت هي المسيطرة عليه , ويظهر لنا ذلك جليا من كلام يوسف عليه السلام مخاطبا الفتيين الذين دخلا معه السجن (قَالَ لا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُمَا ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ*  وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ ذَلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ *   يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ  *   مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) (يوسف آية 37-4.)هذه عقيدة المجتمع كما تبدو من خلال كلام يوسف عليه السلام , مجتمع مشرك غير موحد لا يعرف شيئا من الإسلام وتعاليمه , ومن الطبيعي في مثل هذا المجتمع أن ينتشر الفساد الخلقي وان يتعرض يوسف عليه السلام للغواية من اكبر البيوت في ذلك المجتمع من امرأة العزيز ,

 وان يقف العزيز من هذه المسألة موقف اللامبالاة )يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ) (يوسف:29) , ويبدو _ والله اعلم - إن اعتبار العزيز زوجته مذنبة لأنها تراود فتاها لا لأنه يستنكر اصل الفعل , فالجريمة بنظره أن تتطلع زوجته إلى عبدها الذي هو من آدني طبقات المجتمع , وهو نفس المأخذ الذي أخذته النسوة على امرأة العزيز (وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَنْ نَفْسِهِ قَدْ شَغَفَهَا حُبّاً إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) (يوسف:3.) . أدركت امرأة العزيز وجه الاعتراض وانه ليس على الفعل من الناحية الخلقية , وانما هو لأنها (تراود فتاها) وفد عرفت كيف ترد اعتراضهن حينما دعتهن لزيارتها(فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّيناً وَقَالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا هَذَا بَشَراً إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ) (يوسف:31) .
- 11 -                                                                                                                                       - 12 -
 
لا شك إن امرأة العزيز نجحت في إقناع النسوة بصواب تصرفها , وإنهن وقفن إلى جانبها يدعون يوسف عليه السلام للاستجابة لما طلبته امرأة العزيز بدلالة قول يوسف عليه السلام (قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ) (يوسف:33) , لقد أصبحت الدعوة جماعية والكيد جماعيا (يدعونني إليه ) (كيدهن ) (اصب إليهن ) , فالمجتمع النسائي أذن اقر امرأة العزيز على تصرفها , واخذ يفيض في الكلام حول هذا الموضوع وانتشرت الشائعات في كل مكان تستنكر على امرأة العزيز مراودة فتاها , ولم يكفوا عن الخوض فيها (ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا رَأَوُا الْآياتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ) (يوسف:35) . يدخل يوسف عليه السلام السجن مظلوما بعدما رأوا الآيات والدلائل التي تبرئه , ولكن كل شيء يمكن أن يحدث في المجتمع الجاهلي - وهذا ينفي قول من قال : إن فرعون يوسف كان عادلا . بقي يوسف في السجن يعاني حتى هيأ الله له فرصة الخروج _ كما هو معروف - اعجب الملك بحسن تأويليه للرؤيا وتحقق من نزاهته ودعاه ليستخلصه لنفسه وأخبره بأنه اصبح عنده أمينا , ويرى يوسف عليه السلام الفرصة مواتية لتحمل المسؤولية في تلك المرحلة المقبلة التي لا يستطيعها غيره , ويقول للملك (قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ) (يوسف:55) ويجاب إلى طلبه ويقوم بأعباء الوزارة التي أسندت إليه . بذلك يشارك يوسف عليه السلام في حكم ذلك المجتمع الذي لم يكن قائما على أساس الإسلام كما أشرنا إلى ذلك من قبل , كما يبدو من خلال القصة إن الحكم كان له نظامه وتقاليده المخالفة لما كان معروفا من شريعة بني إسرائيل , وان يوسف عليه السلام لم يغير شيئا من نظام الملك الذي كان قائما وانه بقي على ذلك حتى انتهت سنوات الخصب وجاءت سنوات القحط والتي جاء فيها اخوته يطلبون المساعدة , فلم يكن باستطاعته أن يخالف (دين الملك ) أي سلطانه وحكمه ليبقي أخاه , وانما لجأ إلى اخوته يسألهم عن الجزاء المناسب - في دينهم - فأشاروا عليه بما كان في شريعة يعقوب من استرقاق السارق , وبذلك تمكن يوسف عليه السلام من إبقاء أخيه , وهذا يشبه ما يقع اليوم حين يحصل التنازع الدولي بين القوانين الجزائية , فبعض الدول تطبق على المتهم قانون مكان وقوع الجريمة - وهو الذي لا يسمح ليوسف عليه السلام باستلام أخيه - وبغض الدول تطبق قانون المتهم الشخصي , وهو الذي طبقه يوسف عليه السلام حين استبقى أخيه . بل أن هذا المجتمع الجاهلي استمر على شركه وشكه في دعوة التوحيد التي جاءهم بها يوسف عليه السلام ولم يستجب لها , وذلك كما يشير قوله تعالى على لسان مؤمن آل فرعون (وَلَقَدْ جَاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جَاءَكُمْ بِهِ حَتَّى إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولاً كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتَابٌ) (غافر:34) . فكلمة (فما زلتم في شك ) تدل على الاستمرار , وهذا ينفي قول من قال أن يوسف عليه السلام حول ذلك المجتمع الجاهلي إلى مجتمع إسلامي بعد أن تسلم الوزارة وفوضت إليه الأمور , كما يضعف القول الذي انفرد به مجاهد من أن الملك اسلم , حيث لا يظهر لهذا القول أي اثر كما لا يوجد له أي شاهد أو دليل .
 ويرى ابن تيميه أن هذا المجتمع الجاهلي الكافر لابد أن يكون لهم عادة وسنة في قبض الأموال وصرفها على حاشية الملك أهل بيته وجنده ورعيته . ولا تكون جارية على سنة الأنبياء وعدلهم ولم يكن يوسف عليه السلام يمكنه أن يفعل كل ما يريد , وهو ما يراه من دين الله  فان لم يستجيبوا له , ولكن فعل الممكن من العدل والإحسان , ونال بالسلطان من إكرام المؤمنين من أهل بيته ما لم يمكن أن يناله بدون ذلك - وهذا كله داخل في قوله (فاتقوا الله ما استطعتم ) .  {الفتاوى لابن تيميه , 56/57}. وكلام ابن تيميه هذا يدفع من قال إن يوسف عليه السلام فوض له الأمر في كل شيء واصبح يتصرف في مصر كما يريد . بل يدفع قول من قال انه فوض له الأمر في شؤون الأموال والاقتصاد لأنه لا يستطيع الاقتراب من الأموال التي كان يتصرف فيها الملك فيما يخص حاشيته أهل بيته وجنده ورعيته , والتي لم تكن جارية على سنة الأنبياء وعدلهم . وعلى هذا أيضا يرجح ما ذهب إليه الطبري في معنى قوله تعالى (وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَنْ نَشَاءُ وَلا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ) (يوسف:56) , حيث قال قال أبو جعفر يقول تعالى فيما ذكره :  وهكذا وطأنا ليوسف في الأرض , يعني ارض مصر يبتدا منها حيث يشاء , يقول يتخذ من ارض مصر منزلا حيث يشاء بعد الحبس والضيق (نصيب برحمتنا من نشاء )  من خلقنا أصبنا يوسف بها فمكنا له في الأرض بعد العبودية والأسر وبعد
- 13 -                                                                                                                                 - 14 -
 
الإلقاء في الجب { تاريخ الطبري , 16 / 151} .ما رجحه الطبري من هذه الأقوال هو الذي اخذ به الأستاذ سيد قطب في كتابه (الظلال ) حيث قال في شرح الآية (يتبوأ منها حيث يشاء ) يتخذ منها المنزل الذي يريد والمكان الذي يريد , المكانة التي يريد في مقابل الجب وما فيه من مخاوف , والسجن وما فيه من قيود { في ظلال القرآن , 4/ 2.14} .
وأما ما قيل : من أن مشاركة يوسف عليه السلام في هذا الحكم كان شيئا خاصا به ولا يمكن الاقتداء به في ذلك , فيجاب عنه بان الخصوصية تحتاج إلى دليل , وعلى المدعي أن يثبت دعواه , لان الأصل أن كل ما يذكر من سير الأنبياء وهديهم إنما يراد به التأسي والاقتداء . قال تعالى(أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ) (الأنعام:9.) . وكذلك قول من يقول : بان هذا شريعة من قبلنا , والعمل بشريعة من قبلنا فيه خلاف بين العلماء , الجواب عن ذلك بأنه : لا خلاف بين العلماء في أن (شرع من قبلنا شرع لنا ما لم يخالف شرعنا ) ولتوضيح هذه القاعدة نقول :
1- أن الإسلام عقيدة وشريعة . فالعقيدة هي الأيمان بأركانه المعروفة . والشريعة هي كل ما شرعه الله لعباده من عمل أو امتناع . وان التزام الأحكام الشرعية هو الدليل على صحة العقيدة . إذ الأيمان ما وقر في القلب - وهو العقيدة - وصدقه العمل - وهو الشريعة كما ثبت في الحديث الصحيح .
2- فآما العقيدة فليس فيها خلاف بين جميع الأنبياء والرسل . فعقيدتنا التي تعلمناها من نبينا محمد         (.ﷺ) هي عقيدة جميع الأنبياء السابقين (شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ) (الشورى:13) , والمقصود بالدين هنا العقيدة , لان الشريعة تختلف بين الأنبياء . (لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا ) (المائدة الآية 48) .
3-  وأما الشريعة فهي التي يقع فيها الخلاف بين شرائع الأنبياء وبين شريعة سيدنا محمد (.ﷺ) لذلك قال العلماء (شرع من قبلنا شرع لنا ما لم يخالف شرعنا ) .
4-  والمشاركة في الحكم الجاهلي من قبل الإسلاميين لا تدخل في نطاق العقيدة أصلا , إذ لا يشك أحد في أن عقيدة الإسلاميين , وعقيدة كل مسلم , انه لا يجوز التحاكم إلى الطاغوت , ولا الحكم بغير ما انزل الله . وحين تنتفي هذه العقيدة , أو يدخلها أي شك تكون الردة والكفر , وهذا ما لا يرضى أي مسلم أن يقع فيه .
أما التزام الأحكام العملية التي شرعها الله لعباده فهو الذي يخضع لعوامل كثيرة منها قوة الأيمان ومنها اختلاف الأحكام , ومنها الظروف المحيطة , والضرورات النازلة , وقد يقع المسلم في مخالفة لعذر مشروع فلا يأثم , وقد يقع في مخالفة صغيرة للتخلص من مخالفة اكبر منها , وهذا ما أجازه الفقهاء بناءا على آيات وأحاديث لا ضرورة لذكرها . { يراجع فصل فقه الأولويات في كتاب أولويات الحركة الإسلامية , للدكتور يوسف القرضاوي} . كما قد يقع المسلم في مخالفة جزئية للوصول إلى تحقيق مقصد كلي من مقاصد الشريعة .
- 15 -                                                                                                                                 - 16 -
 
الذين يرون جواز المشاركة في الأنظمة الجاهلية إنما يبنون ذلك على هذه القواعد الشرعية , فيجيزون المشاركة إذا أمكن من خلالها درء بعض المفاسد وتحقيق بعض المصالح , إذا كانت المفاسد المبعدة اكبر من
مفاسد المشاركة , وإذا كانت المصالح التي يمكن تحقيقها اكبر من المفاسد الناتجة عن المشاركة .كما يجزون المشاركة إذا تعينت وسيلة للوصول إلى الحكم الإسلامي الكامل من باب {ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب } .
5- وما فعله يوسف عليه السلام من المشاركة في الحكم ضمن نظام كافر , ومع بيان عقيدته بوضوح , ومع الاضطرار للوقوع ببعض المخالفات لشرائع بني إسرائيل هو من قبيل العمل بفقه الموازنات وفقه الأولويات , وهو آمر لا يخالف شرعنا بيقين , بل إن شرعنا يأمر بذلك كما يتضح من مراجعة أقوال الفقهاء , وقد ألقينا بعضها في هذه المسألة . الخلاف في هذه النقطة ليس بين فريقين الأول يجيز الحكم بغير ما انزل الله والثاني يحرم ذلك و فالفريقان يحرمان ذلك من حيث المبدأ , وهذا هو الجانب العقيدي في هذه المسألة .
لكن نقطة الخلاف :
- 7 -                                                                                                                                         - 8 -
 
أن المجيزين يرون جواز الوقوع في الحرام في ظروف معينة , بل يرون تحول الحرام إلى مباح في ظروف خاصة , وهو أمر توافقت عليه أكثرية الفقهاء في مختلف العصور . يرى المجيزون للمشاركة أن الظروف المعاصرة للعمل الإسلامي تبرر أو توجب ذلك . بينما يرى المانعون أن هذه الظروف لا تبرر ذلك ولا تجيزه , الخلاف إذا في تصور الواقع لإنزال الحكم الشرعي عليه . فالمانعون يرون أن المشاركة قد تحقق مصالح كثيرة وتدرأ مفاسد كثيرة , ولا يجيزونها إلا إذا كانت المصالح المتوقعة منها اكبر من مفاسدها .
ويرون أنها قد تتعين وسيلة لإقامة الحكم الإسلامي لان الظروف المعاصرة يستبعد معها الوصول إلى ذلك بالانقلابات العسكرية أو الثورات الشعبية , فلم يبق إلا العمل السياسي والمشاركة جزء أساسي منه . وخلاصة الكلام ففي قضية يوسف عليه السلام :
1- إن يوسف عليه السلام شارك في الحكم في مجتمع مشرك لا يقوم الحكم فيه على قواعد الإسلام .
2- وان مشاركته كانت بطلب منه لما رأى من نفسه الأهلية الكاملة لعمل معين محدد(قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ) (يوسف:55) فهو لم يطلب الملك الكامل وإنما طلب وزارة الخزانة أو المالية نظرا لما يرجوه من دفع شر القحط الذي سيرهق العباد سنوات عدة .
3-  انه كان للملك نظام وقانون معين بدلالة قوله ( مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ)(يوسف: من الآية76).
4- وانه لابد للملك من أن يكون له نظام معين في التصرف في الأموال التي تخصه وتخص حاشيته وان يوسف عليه السلام لا يملك التدخل في تحديد صلاحيته في ذلك .
5- وان نظام الملك لم يكن قائما على أساس العدل بدلالة أن يوسف عليه السلام القي في السجن مظلوما من بعد ما رأوا الآيات الدالة على براءته .
6-
- 17 -                                                                                                                                 - 18 -
 
وان هذا المجتمع المشرك استمر على شركه بعد يوسف عليه السلام ((وَلَقَدْ جَاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جَاءَكُمْ بِهِ حَتَّى إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولاً كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتَابٌ) (غافر:34) بناء  على ذلك كله يظهر لنا جواز المشاركة في الحكم غير الإسلامي من خلال عرض قصة يوسف عليه السلام إذا كان يترتب على ذلك مصلحة كبرى أو دفع شر مستطير , ولو لم يكن بإمكان المشارك أن يغير في الأوضاع تغييرا جذريا . وما ذكر من اعتراضات على ذلك لا ينهض أمام الأدلة الواضحة الني قدمنا .

ب- موقف النجاشي :
   الاستدلال على جواز اشتراك المسلمين في الحكومات غير الإسلامية بموقف النجاشي يقوم على أمرين :
الأول : أن النجاشي كان مسلما .
الثاني : انه كان يقوم على نظام يحكم بغير شرع الله .
الأول أما إثبات الآمر الأول فلا يحتاج إلى كبير عناء , فقد دلت عليه أحاديث صحيحة كثيرة رواها أصحاب
الصحاح والسنن والمجامع والمساند , نذكر بعضا منها :
1- حديث جابر بن عبد الله الأنصاري رضي الله عنه قال : قال النبي (.ﷺ) حين مات النجاشي : ملت اليوم رجل صالح . فقوموا على أخيكم اصمعة (رواه البخاري ) .
2- وفي رواية أخرى رواها البخاري عن جابر أيضا أن النبي (.ﷺ) صلى على النجاشي فصفنا وراءه , فكنت في الصف الثاني أو الثالث .
3- وفي رواية أخرى عند البخاري عن جابر (أن النبي (.ﷺ) صلى على اصحمة النجاشي فكبر أربعة .
4- وفي البخاري أيضا عن أبي هريرة رضي الله عنه (أن رسول الله (.ﷺ) نعى لهم النجاشي صاحب الحبشة في اليوم الذي مات فيه , وقال : استغفروا لأخيكم .
5- وفي رواية أخرى للبخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله (.ﷺ) صف بهم في المصلى فصلى عليه وكبر أربعا .
6-  وفي رواية أخرى أخرجها البخاري عن أبي هريرة في كتاب الجنائز (أن رسول الله (.ﷺ) نعى النجاشي في اليوم الذي مات فيه , وخرج بهم إلى المصلى , وصف بهم وكبر عليه أربع تكبيرات .
7-  كتاب النجاشي إلى الرسول (.ﷺ) الذي يصرح بإسلامه واستعداده للمجيء إلى الرسول إذا أمره بذلك ونص الرسالة يقول :
بسم الله الرحمن الرحيم
إلى محمد رسول الله من النجاشي الاصحم بن ابجر ك سلام عليك يا نبي الله ورحمة الله وبركاته , من الله الذي لا اله إلا هو الذي هداني للإسلام , أما بعد : فقد بلغني كتابك يا رسول الله فيما ذكرت من أمر عيسى , فورب السماء والأرض أن عيسى ما يزيد على ما قلت , وقد عرفنا ما بعثت به إلينا , وقد قربنا ابن عمك وأصحابه فاشهد انك رسول الله صادقا مصدقا , وقد بايعتك وبايعت ابن عمك وأصحابه , وأسلمت على يديه الله رب العالمين  وقد بعثت إليك بابني أرها بن الأصحم بن ابجر , فأني لا املك إلا نفسي , وان شئت أن آتيك فعلت يا رسول الله , فاني اشهد أن ما تقول حق .
والسلام عليك يا رسول الله { أورد محمد حميد الله هذه الوثيقة في كتابه : الوثائق السياسية للعهد النبوي (ص72, وعزاها إلى الطبري في تاريخه ص 1569 , القلقشندي 6/466, وابن كثير 3/ 84, وزاد المعاد 3/ 6. , والزيلعي 1./2, وامتاع الأسماع (خطية ) 1.26}.
هناك رسالة ثانية كتبها إلى الرسول (صلاة الله عليه وسلم ) بعد هجرته مع العائدين من أصحاب الرسول إلى المدينة ,
- 19 -                                                                                                                                 - 20 -
 
إلى محمد (.ﷺ) من النجاشي اصحمة :
سلام عليك يا رسول الله من الله ورحمة الله وبركاته , أما بعد - فقد أرسلت إليك يا رسول الله من كان عندي من أصحابك المهاجرين من مكة إلى بلادي , وها أنا أرسلت ابني أريحا في ستين رجلا من أهل الحبشة , وان شئت أن أتيك بنفسي فعلت يا رسول الله , فإني اشهد ما تقوله حق . السلام عليك ورحمة الله وبركاته {ذكرها محمد حميد الله في كتابه : الوثائق السياسية للعهد النبوي , ص 79}.ورسالة النجاشي الأولى إجابة لرسالة أرسلها إليه الرسول (.ﷺ) ويدعوه فيها إلى الإسلام ورعاية حق أصحابه المهاجرين بعد أن علم أن أهل مكة أرسلوا إليه من يحثه على طرد المهاجرين إليه { أنظرها في المصدر السابق ص 77} .   
    الثاني : كونه لم يحكم بشريعة الله                                          
  أما كونه لم يحكم بشريعة الله فانه ظاهر من الحال التي كانت سائدة في دياره ومن العقبات التي كانت تعترض طريقه : فانه يقول في رسالته إلى الرسول (.ﷺ) : فأنى لا املك إلا نفسي , وعندما اعترف بصدق ما جاء به الرسول بعد المحاورة التي جرت بينه وبين جعفر بن أبي طالب أمام رسل
- 9 -                                                                                                                                         - 10 -
 
قريش الذين دعوا النجاشي إلى طرد المسلمين , قال الخلص من أصحابه الذين حضروا الجلسة : والله لئن سمعت الحبشة تخلعنا , وفي مجلس آخر عندما اعترف بان ما جاء به حق وقال ك ما عدا عيسى بن مريم مما قلت - والخطاب لجعفر - هذا العويد , فتناحرت بطا رقته . { البداية والنهاية لابن كثير 3/ 73 مكتبة المعارف - بيروت - الطبعة الثانية } . لما اسلم النجاشي وقعت واقعتان :
- 21 -                                                                                                                                 - 22 -
 
الأولى : خرج رجل عليه يريد أن يسلبه ملكه , ولا شك انه كان يحتج فيما يحتج به بإسلامه وتركه دين الآباء والأجداد , يدلك على هذا أن النجاشي وضع المسلمين في مكان بعيد عن ميدان القتال وأمرهم بالخروج من أرضه أن انتصر خصمه , مما يدل على أن انتصاره سيقوض مكانة المسلمين في تلك الديار فلما انتصر النجاشي فرح المسلمون وعادوا إلى الحال التي كانوا عليها من التكريم والإعزاز                              { المصدر السابق 3/ 74} .
الثانية : أن الحبشة اجتمعت إلى النجاشي فقالوا له : انك فارقت ديننا وخرجوا عليه فأرسل إلى جعفر وأصحابه مهيئا لهم سفنا . وقال اركبوا فيها وكونوا كما انتم فان هزمت فامضوا حتى تلحقوا بحيث شئتم . وان ظفرت فاثبتوا , ثم عمد إلى كتاب فكتب فيه هو يشهد أن لا اله إلا الله , وان محمدا رسول الله عبده ورسوله ويشهد أن عيسى عبد الله ورسوله وروحه وكلمته وألقاها إلى مريم , ثم جعله في قبائه عند المنكب الأيمن . وخرج إلى الحبشة وصفوا له . فقال : يا معشر الحبشة الست أحق الناس بكم ؟ فقالوا : بلى , وقال : فكيف انتم بسيرتي فيكم ؟ قالوا : خير سيرة  قال : فما بكم ؟ قالوا : فارقت ديننا . وزعمت أن عيسى عبد الله ورسوله . قال : فما تقولون انتم في عيسى ؟ قالوا : نقول هو ابن الله , فقال النجاشي ووضع يده على صدره وقبائه : وهو يشهد أن عيسى لم يزد على هذا , وإنما يعني على ما كتب , فرضوا وانصرفوا , فبلغ ذلك رسول الله (.ﷺ) , فلما مات النجاشي صلى عليه واستغفر له { انظر المصدر السابق 3/ 75}  . وقد كان هذا حال المجتمع الذي كان يحكمه النجاشي فلا يجوز أن يطالب بأكثر مما يطيق . لقد كان النجاشي صادقا في إيمانه , وقد استغل مركزه لحماية العصبة المهاجرة من أذى قريش من جانب , واستغله في الدعوة إلى الله من جانب آخر , فآمن على يده جمع كبير , يدلنا على هذا أن تعداده ستون رجلا من الحبشة وفدوا على الرسول (.ﷺ) إلى المدينة , ولكن الكثرة الكاثرة بقيت على            نصرا نيتها , وقد ثاروا على النجاشي عندما علموا بإسلامه ولكن الله ثبت ملكه .
لقد نوقش الاستدلال على جواز المشاركة بموقف النجاشي بما يلي :
1- أن النجاشي كان حاكما وملكا , ولم يكن تحت وصاية أحد .
2-  إن فترة حكمه بعد إسلامه كانت قصيرة جدا لا تعدو شهورا قليلة .
3- أن الشعب الذي كان يحكمه يدين بالنصرانية وليس فيها تشريعات فكان يحكم بالقواعد العامة في العدل والمساواة وتامين الحريات ومحاربة الظلم وهي مبادئ إسلامية , وأيامه القليلة لا تتسع من هذه المبادئ , الأحكام الشرعية لم تكن قد اكتملت بعد , ولا يمكن تطبيق الإسلام على شعب نصراني , بينما الشعوب الآن تواقة للحكم الإسلامي والأنظمة تأبى ذلك .
والجواب  :
1- أن النجاشي كان حاكما صحيح , ولكن هذا يزيد مسئوليته في تطبيق الشريعة أو ما نزل منها . ولكن الرسول لم يأمره بذلك . ولم يطلب منه التخلي عن الملك والهجرة إلى المدينة , ورضي منه بإسلامه ومساعدته للمسلمين بما يستطيع وذلك لا يصح إلا إذا أخذنا بفقه الموازنات . فالرسول (صلى الله عليه وسلم) رجح بالموازنة أن بقاءه حاكما على شعب نصراني يحقق بعض المصالح ويدرأ بعض المفاسد , ولم يطالبه بتطبيق ما نزل من الأحكام الشرعية , وقد توفي في السنة السابعة للهجرة وكان قد نزل كثير من الأحكام - ولم يعتبره كافرا ولا مخطئا لعدم تطبيق هذه الأحكام . بل عذره لأنه غير قادر (لا يكلف الله نفسا إلا وسعها ) وصلى عليه مع أصحابه يوم بلغه موته .
2- مهما كانت فترة حكمه قصيرة لعدة شهور أو أطول من ذلك فان الدليل فيه واضح الحجة وبينة , فإذا كانت المسألة تتعلق بالعقيدة فلا يمكن السكوت عنها لحظات . وإذا كانت تتعلق بالعمل فعدة شهور كافية
-9-
للدلالة على أن الظروف لها تأثيرها على العمل , وان الموازنة بين المصالح والمفاسد تبرر أحيانا الوقوع
في مفسدة لدرء اكبر منها , أو لتحقيق مصلحة راجحة .
3- ليس صحيحا أن النصرانية لم يكن فيها تشريعات بل هي تتبنى شرائع بني إسرائيل فيها الكثير الذي يخالف شراعنا . وعدم اكتمال الأحكام الشرعية ليس حجة تبيح عدم تطبيق المنزل منها . وإذا كان لا يمكن تطبيق الإسلام على شعب نصراني , فأيضا لا يمكن تطبيق الإسلام على شعب مسلم مسلوب الإرادة ومحكوم بأنظمة طاغوتية عميلة , إلا بعد انتزاع الحكم منها , وقد تساعد المشاركة على ذلك , وهذا مبرر جوازها .
دلالة المصلحة على جواز المشاركة في الحكم  
مما يستدل به جواز المشاركة في الحكم المصلحة , وقبل أن نبين طريقة الاستدلال بالمصلحة على موضوعنا , نقدم بمقدمة موجزة نعرف بها المصلحة .
تعريف المصلحة
- 23 -                                                                                                                                 - 24 -
 
المصلحة في لغة العرب الخير والصلاح , وهي خلاف الشر والفساد { المصباح المنير - الرافعي , ص345} , وعرفها الطوفي بقوله : المصلحة مفعلة من الصلاح , وهي كون الشيء على هيئة كاملة , بحسب ما يرد ذلك الشيء له كالقلم يكون على هيئة كاملة للكتابة به , والسيف على هيئته الصالحة للضرب به , وأما حدها بحسب العرف فهي السبب المؤدي إلى الصلاح والنفع , كالتجارة المؤدية إلى الربح , وبحسب الشرع هي السبب المؤدي إلى مقصود الشارع عبادة أو عادة , ثم هي تنقسم إلى ما يقصده الشارع حقه كالعبادات , والى ما يقصده لنفع المخلوقين وانتظام أحوالهم كالعادات { رسالة الطوفي في المصالح , نقل بعضها الشيخ عبد الوهاب خلاف في كتابه : مصادر التشريع بما لا نص فيه , ص12} . والذي حققه ابن عاشور أن المصلحة كاسمها شيء فيه صلاح قوي , ولذلك اشتق من صيغة مفعلة الدالة على اسم المكان الذي يكثر فيه ممكنة اشتقاقه , وهو هنا مجازي (وختم بحثه في تعريفها بقوله ) ويظهر لي أن نعرفها بأنها وصف للفعل يحصل به الصلاح , أي النفع منه دائما أو غالبا للجمهور أو للآحاد { مقاصد الشريعة لابن عاشور , ص65} , قد استقرأ العلماء الشريعة فهداهم استقراؤهم إلى أن الشريعة وضعت لمصالح العباد في المعاش والمعاد , كما يقول الشاطبي { الموافقات , ص 142} , وقد صدرت عن العلماء في مختلف العصور كلمات مضيئة تعبر عن هذه الحقيقة , يقول سلطان العلماء العز بن عبد السلام : الشريعة مصالح كلها أما تدرا مفاسد أو تجلب مصالح { قواعد الأحكام , 1/11} وقول شيخ الإسلام ابن تيميه (الشريعة جاءت بتحصيل المصالح وتكميلها وتعطيل المفاسد وتقليلها { مجموع الفتاوى , ص48} وقول تلميذه ابن القيم الشرعة مبناها في الحكم ومصالح العباد في المعاش والمعاد وهي عدل كلها , ورحمة ومصالح كلها { الطرق الحكمية , ص78} , قد انتهى البحث بعلماء الأصول إلى أن المصالح التي عليها مدار التشريع على ثلاث مراتب :
الأولى : الضروريات : وهي المصالح التي تكون الأمة بمجموعها وآحادها في ضرورة إلى تحصيلها بحيث لا يستقيم النظام بالإخلال بها , وبحيث إذا انخر مت تؤول حال الأمة إلى فساد وتلاشي { مقاصد الشريعة , ص78} , والمراد بهذا الفساد والتلاشي أن تصير أحوال الأمة شبيهة بأحوال الأنعام , بحيث لا تكون على الحالة التي أرادها الشارع منها. والمصالح الضرورية خمس : الدين والنفس والعقل والنسل والمال وزاد بعضهم سادسا هو العرض ,
الثانية : الحاجيات : ومعناها انه مفتقد إليها من حيث التوسعة ورفع الضيق المؤدي في الغالب إلى الحرج والمشقة { الموافقات , ص2/5} كتشريع البيوع والقروض والجازة والمسافات .
الثالثة : التحسينات : ومعناها الأخذ بما يليق من محاسن العادات وتجنب الأحوال المندسلة التي نالتها العقول الراجحات ويجمع ذلك كله قسم مكارم الأخلاق { الموافقات , 2/6} .
حكم الاحتجاج بالمصالح
 قسم الأصوليون المصالح من حيث اعتبار الشرع وعدم اعتبار لها إلى ثلاثة أقسام : الأول: ما شهد الشرع باعتبارها كالصغر بالنسبة إلى الولاية على المال .
- 25 -                                                                                                                                 - 26 -
 
الثاني : ما دل به دليل على إلغائها وعدم اعتبارها فقد ألغى الشارع المصالح التي في الربا والخمر وأوجب   قطع يد السارق وقتل الزاني أو رجمه ولم يلتفت إلى المفاسد التي تترتب على ذلك بل ألغاها واهدرها.
       
الثالث : ما لم يشهد الشارع باعتبارها ولا بإلغائها , وهي (المصلحة المرسلة ) .
وقد نازع بعض العلماء في وجود مثل هذا النوع من المصالح , ونازع آخرون في الاحتجاج بالمصالح المرسلة , ويرجع في تحقيق القول في حجيتها إلى كتب الأصول { الروضة لابن قدامه , ص 86-87 , المستصفى للغزالي , ص 25 , الأحكام للآمدي , 3/ 2.2} .
الاشتراك في الحكم ليس من قبيل المصالح المرسلة , لان النصوص الصريحة جاءت قاطعة في تأثيم المشارك في الحكم الجاهلي , والاستدلال هنا عائد - كما يقول شيخ الإسلام ابن تيميه - إلى ترجيح خير الخيرين , وشر الشرين , وتحصيل اعظم المصلحتين , بتفويت أدناها , ودفع اعظم المفسدتين باحتمال ادناها.
هذا مسلك الشريعة واضح المعالم فالإسلام حرم الخمر والميسر مع نصه على أن فبهما للعباد نفع ولكنه نفع قليل ترجح به المفسدة العظيمة التي في الخمر والميسر(يَسْأَلونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا)(البقرة: من الآية219) .
أوجب الشارع القتال على الرغم مما فيه من إزهاق لنفوس المؤمنين والذهاب لأموالهم , لان القتال فيه مصالح عظيمة محبوبة للرب تبارك تعالى وفيه مصالح عظيمة تحصل للعباد (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) (البقرة:216) .
في السيرة الإسلامية كان النبي (.ﷺ) والخلفاء من بعده والعلماء يراعون هذا المنهج إثناء حركتهم بالإسلام , فالرسول (.ﷺ) ترك هدم الكعبة وإعادة بنائها على قواعد إبراهيم (عليه السلام ) على الرغم مما في ذلك من المصالح الدينية , لان المفسدة التي ستترتب على ذلك اكبر من المصلحة التي ستترتب على تصحيح بناء الكعبة , وقد قال لزوجه عائشة : لولا أن قومك حديثو عهد بكفر لهدمت الكعبة وبنيتها على قواعد إبراهيم .
ترك الرسول (.ﷺ) قتل المنافقين وفي قتلهم مصالح عظيمة , ولكن المفسدة التي سترتيء على ذلك كبيرة , ومن هذه المفاسد ما نص عليه الرسول (.ﷺ) " لا تتحدث العرب أن محمدا يقتل أصحابه " ومن هذا ترك إقامة الحدود في الغزو خشية أن يلحق من سيقام عليهم الحد من الكفار , وفي ضوء هذا الفقه يمكن أن نفهم نهي عمر بن الخطاب صحابة رسول الله (.ﷺ) عن التزوج من الكتابيات , بل وأمره من فعل ذلك منهم بطلاقهن , وقد كان فشو الزواج من الكتابيات في الخلافة العثمانية واحدا من الأسباب التي أدت إلى انهيار الخلافة .
- 27 -                                                                                                                                 - 28 -
 
قد قرر كثير من الفقهاء لنه يجوز رمي جيش الكفار ولو أدى هذا إلى قتل أسرى المسلمين الذين تترس بهم ذلك الجيش , إذا خشينا من اجتياح ذلك الجيش الكافر لجيش الإسلام ولم يرض ابن تيميه إنكار من أنكر على التتار شرب الخمر , وعلل ذلك بان شرب الخمر إنما حرم لأنها تصد عن ذكر الله وعن الصلاة , وشرب التتار الخمر يصدهم عن الإفساد في الأرض بقتل النفوس ونهب الأموال , ومن تأمل فيما أباحه الإسلام من محرمات حال الضرورة فانه يجده من هذا الباب , فان في أكل الميتة والخنزير ومفاسد عظيمة , ولكن في ترك الأكل مفسدة اعظم ألا وهي قوت الحياة , وفي الحفاظ على النفوس مصلحة اعظم .
لاشك في أن للمشاركة في الحكم الجاهلي مفاسد عظيمة , فهذه الحكومات إنما تقيم حكم الطاغوت وتحاد الله في أمره وتنازعه في حكمه (إن الحكم إلا لله ) , (ولا يشرك في حكمه أحدا ) فكيف يشارك المسلم في هذا النوع من الحكم ؟
إن مشاركة المسلم هؤلاء في الحكم يوقعه في تناقض كبير , فالمسلم مطالب بان يحارب هذه الدول الطاغوتية التي تمردت على شريعة الله , فكيف يكون هو المقيم لهذا الحكم الطاغوتي , وقد قال تعالى : ()أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيداً) (النساء:6.) , أن طاعة الطواغيت فيما يشرعونه مخالفين آمر الله تعني اتخاذ المطيع لهم أربابا من دون الله , كما قال تعالى في شان أهل الكتاب :  ()اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهاً وَاحِداً لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ) (التوبة:31) وقد بين الرسول (.ﷺ) لعدي بن حاتم أن معنى هذا الاتخاذ , هو طاعتهم في تحليلهم ما حرم الله وتحر?يمهم ما احل الله , وطاعتهم في تشرع ما شرعوه مخالفين شرع الله .
قد عهدنا حكام اليوم يتخذون من يستوزرونهم من المسلمين الصالحين زينة يجملون بها حكمهم القبيح , ويدلسون بذلك على السذج والعامة فيقولون لو كنا على الباطل لما قبل فلان مشاركتنا في الحكم , ويزداد الطين بلة عندما يمررون من خلال الوزير المسلم القوانين الجائرة الظالمة , وبعد أن يحققوا من ورائه أهدافهم الخبيثة ينبذونه نبذ النواة , وفي المشاركة في الحكم ركون إلى الذين ظلموا وقد حذرنا الحق من الركون إليهم  () وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ) (هود:113).
وفي المشاركة في الحكم إطالة لأمد الحكم الجاهلي , وإمداد في عمره بعض الأحوال , كل ذلك غير خاف على رواد الحركة ودعاتها , وصراحة الآيات ودلالاتها لا تخفي على ناظر , ومع ذلك نقول :
أن الحركة قد ترى في بعض الأحوال والأوقات أن المشاركة في الحكم تحقق للإسلام والمسلمين والحركة الإسلامية نفعا كبيرا , بل قد تؤدي إلى إزاحة الطاغوت وإقرار الحق , وقد كان صلاح الدين الأيوبي عاملا في إمرة الحاكم العبيدي , وقد تمكن من خلال موقعه أن ينهي حكم العبيدين ويقضي على سلطانهم ويعيد الحق إلى نصابه , يمكننا أن نلخص المصالح التى قد تترتب على مشاركة الحركة في الحكم في النقاط التالية :
  1 - درء المفاسد والمؤامرات والمكائد عن الحركة الإسلامية إلى درجة ما , بالاطلاع على ما يجري في  الخفاء والعمل على إفشال ذلك .
 2- إعطاء النموذج الإسلامي للناس وإفهامهم أن الجماعة ليست مجموعة من الدراويش وإنما هي قادرة على قيادة الناس وإدارة نظامهم .
 3-إعادة الثقة بالإسلام والمسلمين وانه دين قادر على تنظيم شؤون الحياة الخاصة والعامة ولا يكون ذلك إلا بما يقوم به المشاركون من تحقيق للعدل وإزهاق للباطل .
4-
- 29 -                                                                                                                                       - 30 -
 
زيادة خبرة الجماعة الإسلامية في طرق إدارة الحكم وبدون ممارسة لا تحصل هذه الخبرة .
5- تعرف الحركة على النظام القائم اتقاء لشره .
6- تدريب وتعليم الكوادر الإسلامية المتخصصة وذلك عن طريق البعثات التي تنظمها الوزارات .
7- إيجاد مجموعة من أفراد الجماعة الإسلامية من أصحاب الجاه عند الناس نتيجة مراكزهم السابقة , وهؤلاء يفيدون في كثير من المواقع , ويحلون كثيرا من الإشكاليات للجماعة وأفرادها .
8- زيادة المراكز الإسلامية ومحاربة المراكز الكافرة بهيمنة السلطة القائمة .
9- تدريب الكوادر الإسلامية على السياسة ودفع ألاعيبها .
10-         الاستفادة من هيبة السلطة لمصلحة الجماعة .
11-   وقد يكون البديل للحركة الإسلامية إذا هي امتنعت عن المشاركة في الحكم أعداؤها من الشيوعيين أو الصليبين الذين إذا تسلموا مراكز الحكم فانهم يسخرون كل الإمكانيات لمحاربة الحركة الإسلامية , وبل يسخرونها في القضاء على الإسلام والمسلمين .


التكييف الشرعي للاستدلال بالمصلحة على جواز المشاركة :
   واضح مما تقدم أن المشاركة في الأنظمة غير الإسلامية ليست من المصالح المرسلة , بل هي بلا شك مفسد للنصوص الكثيرة الدالة على ذلك أو هي مصلحة ملغاة لمن يتوهم أنها مصلحة .
لكن المشاركة رغم ذلك قد تحقق بعض المصالح التي تغلب ما فيها من مفاسد ، فتكون جائزة في مثل هذا الظرف فقط ، ولم يقل أحد أنها مباحة من حيث الأصل ، والمطلق ، في جميع الظروف .
عند الموازنة بين المصالح والمفاسد في موضوع المشاركة يختلف الناس ، فما يعتبره أحدهم مصلحة قوية قد يعتبره غيره مصلحة ضعيفة أو موهومة . وما يعتبره أحدهم مفسدة قوية قد يعتبره غيره مفسدة ضعيفة ، فيكون الخلاف هنا في تقدير المصالح والمفاسد .وهذا أمر يتوقف على فقه دقيق للأحكام الشرعية ،وعلى معرفة واسعة بالواقع ، وفي هاتين المسالتين تختلف الأنظار والمفهوم ، نسأله تعالى أن يفتح علينا بنوره ، وان يسدد إفهامنا بتوفيقه .
نسارع هنا بالقول :
  أن مفسدة المشاركة هي في الحقيقة أقوى من جميع المصالح المتحققة فضلا عن الموهومة . لأنها تتعلق بمسالة عقائدية ، وبمسالة تعتبر من الكليات وليس من الجزئيات هي وجوب الحكم بما انزل الله .
  الموازنة لو كانت مجردة بين مفاسد المشاركة والمصالح التي قد تنجم عنها لقلنا بلا تردد أن المفاسد هنا  أقوى من المصالح . والمعروف عند الأصوليين انه إذا تعارض الحرام مع الحلال غلب الحلال .
لكن الموازنة الدقيقة هنا هي بين :
نتائج المشاركة :
1- بقاء الحكم بغير ما انزل الله .
2-  درء بعض المفاسد ولو بنسبة 1% .
3-  تحقيق بعض المصالح ولنقدرها بنسبة 2% .
نتائج عدم المشاركة :
- 31 -                                                                                                                                 - 32 -
 
1- بقاء الحكم بغير ما انزل الله .
2- بقاء المفاسد كاملة .
3- ضياع بعض المصالح الممكنة .
والموازنة الحقيقية إذا ليست بين حكم جاهلي وحكم إسلامي , إنما هي بين حكم جاهلي مع مشاركة الإسلاميين , وحكم جاهلي بدون مشاركتهم . بعدم المشاركة لن يحول الحكم من الجاهلية للإسلام قد تنقص من مفاسد الحكم الجاهلي وقد تحقق بعض المصالح المشروعة للمسلمين . أما إن المشاركة تموه الدعوة لإقامة حكم الله فهو قد يقع وقد لا يقع , ولا يجوز في كل حال لمن يقول بجواز المشاركة أن يسكت عن المطالبة بتطبيق الشريعة , إلا إذا كانت هذه المطالبة تعرضه لضرر أكيد كبير كما هو الحال في تركيا , وفي الحالتين تبقى المشاركة هي الأرجح لان المسالة الأهم واقعة سواء مع المشاركة أو بدونها , وهي الحكم بغير ما انزل الله . وتزيد إيجابيات المشاركة بأنها تدرا بعض المفاسد وتحقق بعض المصالح. أما الدعوة للحكم بما انزل الله فهي الواجب في جميع الأحوال قدر المستطاع . وهي مبرر وجود الحركة الإسلامية المعاصرة وهدفها الأهم , والمشاركة ليست هدفا بديلا , وإنما تعرض على الطريق يتعامل معها الناس بفقه الموازنات كما يتعاملون مع الحالات الأخرى .
الاستدلال الشرعي بالمصلحة على جواز المشاركة , لا يعني جواز الوقوع في الحرام من اجل تحقيق بعض المصالح , وإنما يقوم هذا الاستدلال على أن الحرام واقع في الحالتين , وان المسلم مخير بينهما , فهو يختار الحرام الذي يترافق مع تحقيق بعض المصالح , على الحرام الآخر الذي لا توجد فيه المصالح.
لا يقال هنا أن الحكم بغير ما انزل الله يقوم به غيري ولست مسؤولا عنه في الحكم الجاهلي , بينما أقوم به أنا وأكون مسؤولا عنه في حال المشاركة . لا يقال ذلك لان الحكم بغير ما انزل الله قضية الأمة كلها
وليست قضية الأفراد , ولان الفرد المسلم يمكنه أن يحكم بما انزل الله في شؤونه الخاصة , وهذا هو الذي يحاسب عليه , أما شؤون المجتمع فالأمة كلها محاسبة عليها . والمطلوب من المسلم هنا إنقاذ الأمة لا إنقاذ نفسه فقط , وإنقاذ الأمة يكون شاملا حين تطبق الشريعة , وإلا فيكون جزئيا بالمشاركة , وحين يتعذر التطبيق الكامل يسال الإنسان عما يستطيع , وهو بالمشاركة قد يستطيع القليل, وهو غير آثم هنا لأنه لم يشارك من اجل تطبيق حكم جاهلي , وإنما شارك ليطبق ما يستطيع من الإسلام , والأعمال بالنيات . وقديما قيل : المفتي مفتيان : مفت ينقذ نفسه من النار و ومفت ينقذ سائله من النار , والحركة الإسلامية المعاصرة تريد إنقاذ المسلمين من النار في الدنيا والآخرة . فهي تقدم لهم الفتوى التي تناسب المجتمع لا الفرد , والمجتمع الإسلامي بلا شك يرجح عند الموازنة حكما جاهليا يحقق له بعض المصالح ويدرا عنه بعض المفاسد , على حكم جاهلي آخر تقل فيه المصالح أو تنعدم , وتزيد فيه المفاسد أو تطغى .
ضوابط المشاركة في الأنظمة التي لا تحكم بالشرع:
أولا : ضابط المقصد : 
- 33 -                                                                                                                                       - 34 -
 
استفاضت النصوص على أن ولاية أمر الناس من التكاليف العظيمة , وإذ لا قيام للدين والدنيا إلا بها , كما يقول شيخ الإسلام ابن تتيميه , إذ أن بني آدم لا تتم مصلحتهن إلا بالاجتماع , ولحاجة بعضهم لبعض, ولابد لهم عند الاجتماع من راس .. إلى أن قال فالواجب اتخاذ الإمارة دينا وقربة يتقرب بها إلى الله ، فان التقرب أليه بطاعته وطاعة رسوله من افضل القربات . ثم ذكر رحمه الله أن فساد حال الناس في باب الإمارة إنما هو من الحرص على الرئاسة والمال .. وان أهل الصلاح من المسلمين هم الذين يريدون المال والإمارة ، لا من اجل العلو والفساد في الأرض ، وإنما من اجل التقرب إلى الله سبحانه وتعالى ، وجعل الدين له ، وإنفاق المال في سبيله وذلك صلاح الدين والدنيا ، وقال رحمه الله : ولما غلب على كثير من ولاة الأمور إرادة المال والشرف وصاروا بمعزل عن حقيقة الأيمان في ولايتهم ، رأى كثير من الناس أن الأمارة تنافي الإيمان وكمال الدين ..إلى قوله فالواجب على المسلم أن يجتهد في ذلك حسب وسعه فمن ولي ولاية يقصد بها طاعة الله ، وإقامة ما يمكنه من دينه ، ومصالح المسلمين ، وأقام فيها ما يمكنه من الواجبات ، واجتنب ما يمكنه من المحرمات ، لا يؤاخذ بما يعجز عنه فان تولية الأبرار خير للامة من تولية الفجار .
بهذا يتبين أن من يشارك في الولاية بقصد تخفيف الظلم ، وتقليل الفساد ، ومناصرة الحق ، ومرا غمة الباطل ، بحسب إمكانه فهو موفق صالح ، وأما من أخذها إشباعا لهواه ورغبة في العاجلة فلا شك في انه يفسد بها " وإنما الأعمال بالنيات " (والذين جاهدوا فينا لنهد ينهم سبلنا ) وفساد من فسد بتولي الوظائف العامة في الدولة الكافرة أو الظالمة ، لا يبطل مشروعية توليها ، فان عناصر من المسلمين قد يفسدون بالمال أو بالعلم الشرعي لكن ذلك لم يقم دليلا على تحريم طلب المال أو العلم الشرعي .

ثانيا : ضابط الموازنة بين المصالح والمفاسد :
  لقد اتفقت كلمة المحققين من أهل الأصول من أن مبنى الشريعة على تحسين المصالح وتكميلها ، وعلى درء المفاسد وتقليلها ، فكل مسالة خرجت من المفسدة إلى المصلحة فهي من لب الشريعة . وإذا كان ترك الولاية للظلمة والفسقة ضررا محققا ، فتولي هذه الولايات للمسلم المريد للخير الذي يستطيع أن يخفف الظلم ضرره اقل فيجب عند ذلك ارتكاب أخف الضررين .
  قال العز بن عبد السلام : ولو استولى الكفار على إقليم عظيم فولوا القضاء لمن يقوم بمصالح المسلمين العامة ، فالذي يظهر إنقاذ ذلك كله جلبا للمصالح العامة ودفعا للمفاسد الشاملة ، إذ يبعد عن رحمة الشرع ورعايته لمصالح عباده تعطيل المصالح العامة ، وتحمل المفاسد الشاملة لفوات الكمال فيمن يتعاطى توليتها لمن هو أهل لها وننقل فيما يلي مقتطفات من أقوال شيخ الإسلام ابن تيميه رحمه الله ذكرها في فتاويه هي تدل على فقه دقيق يجدر بالعاملين للإسلام أن يهتدوا به :
-14-
- 35 -                                                                                                                                 - 36 -
 
 الولايات إذا كانت من الواجبات التي يجب تحصيل مصالحها من جهاد العدو ، وقسم الفيء وإقامة الحدود وأمن السبيل كان فعلها واجبا فإذا كان ذلك مستلزما لتولية بعض من لا يستحق ولا يمكنه ذلك صار هذا من باب ما لا يتم الواجب أو المستحب إلا به فيكون واجبا أو مستحبا ، إذا كانت مفسدته دون مصلحة ذلك الواجب أو المستحب ، بل لو كانت الولاية غير واجبة وهي مشتملة على ظلم ، ومن  تولاها أقام الظلم حتى تولاها رجل قصده تخفيف الظلم فيها ودفع أكثره باحتمال ايسره كان ذلك حسنا مع هذه النية . وليس ما حرره ابن تيميه آنفا مقصورا على المشاركة في ظل دولة يقع فيها الجور ، لكنها تنفذ شريعة الله ، بل هو أوسع من ذلك فقد ضرب المثل بالنجاشي حيث قام بما أمكنه بعد إسلامه ولم يكن في استطاعته أن يقيم كثيرا من شرع الله ن وكان بذلك ناجيا عند الله ، إذ فعل ما هو مقدور له . وكذلك الشان في يوسف الصديق (عليه السلام ) حيث قال ابن تيميه ومن هذا الباب تولي يوسف الصديق على خزائن الأرض لملك مصر بل ومسألته أن يجعله على خزائن الأرض كان هو وقومه كفارا كما قال الله تعالى () وَلَقَدْ جَاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جَاءَكُمْ بِهِ حَتَّى إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولاً كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتَابٌ) (غافر:34) وقوله (يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ) (يوسف:39) .
معلوم انه مع كفرهم , لابد أن تكون لهم عادة وسنة في قبض الأموال وصرفها على حاشية الملك وأهل بيته وجنده ورعيته , ولا تكون تلك جارية على سنة الأنبياء وعدلهم ولم يكن يمكنه أن يفعل كل ما يريد , وهو ما يراه من دين الله , فان القوم لم يستجيبوا له , لكن فعل الممكن من العدل والإحسان , ونال بالسلطان من إكرام المؤمنين من أهل بيته , ما لا يمكن أن يناله بدون ذلك , وهذا كله داخل في قوله ( فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنْفِقُوا خَيْراً لِأَنْفُسِكُمْ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (التغابن:16).
ونقول : إذا ثبت أن الحسنات لها منافع , وان كانت واجبة كان في تركها مضار , السيئات فيها مضار , وفي المكروه بعض الحسنات , فالتعارض أما بين حسنتين لا يمكن الجمع بينهما , فتقدم أحسنها بتفويت المرجوح . أما بين سيئتين لا يمكن الخلو منهما يدفع أسو أهما باحتمال أدناها , وأما بين حسنة وسيئة لا يمكن التفريق بينهما , بل في الحسنة مستلزم باحتمال لوقوع السيئة , وترك السيئة مستلزم لترك الحسنة , فيرجح الأرجح من منفعة الحسنة ومضرة السيئة . تبين أن السيئة تحتمل في موضعين : دفع ما هو أسوا إذا لم تدفع إلا بها وتحصل بما هو انفع من تركها إذا لم تحصل إلا بها ,
الحسنة تترك في موضعين : إذا كانت مفوتة لما هو احسن منها ومستلزمة لسيئة تزيد مضرتها على منفعة الحسنة . هذا فيما يتعلق بالموازنات الدينية . أما سقوط الواجب المضرة في الدنيا وإباحة المحرم لحاجة في الدنيا كسقوط الصيام لأجل السفر وسقوط محظورات الإحرام وأركان الصلاة لأجل المرض فهذا باب آخر يدخل في سعة الدين ورفع الحرج الذي قد تختلف فيه الشرائع , بخلاف الباب الأول فان جنسه مما لا يمكن اختلاف الشرائع فيه وان اختلف في أعيانه , بل ذلك ثابت في العقل , كما يقال : ليس العاقل الذي يعلم الخير من الشر , وإنما العاقل الذي يعلم خير الخيرين وشر الشرين,  وينشد :
                      أن اللبيب إذا بدى من جسمه مرضان مختلفان داوى الاخطرا
- 37 -                                                                                                                                       - 38 -
 
فإذا ازدحم واجبان لا يمكن جمعهما فقدم أو كدها , لم يكن الآخر في هذه الحال واجبا , ولم يكن تاركه لأجل فعل الأوحد تارك واجب في الحقيقة . وكذلك إذا اجتمع محرمان لا يمكن ترك أعظمهما إلا بفعل أدناها لم يكن فعل الأدنى في هذه الحال محرما في الحقيقة , وان سمي ذلك ترك واجب , وسمي فعل محرم باعتبار الإطلاق لم يضر , ويقال في مثل عدا : ترك الواجب لعذر , وفعل المحرم للمصلحة الراجحة , أو للضرورة , أو لدفع ما هو احرم . هذا باب التعارض باب واسع جدا , ولا سيما في الأزمنة والأمكنة التي نقصت فيها آثار النبوة وخلافة النبوة .فاقوام قد ينظرون إلى الحسنات فيرجحون هذا الجانب وان تضمن سيئات عظيمة واقوام قد ينظرون إلى السيئات فيرجحون الجانب الآخر وان ترك حسنات عظيمة , والمتوسطون الذين ينظرون الآمرين , قد لا يتبين لهم أو لأكثرهم مقدار المنفعة والمضرة ’ أو يتبين لهم فلا يجدون من يعينهم العمل بالحسنات وترك السيئات , لكون الأهواء قارنت الآراء , ولهذا جاء الحديث (إن الله يحب البصر النافذ عند ورود الشبهات , ويحب العقل الكامل عند حلول الشهوات .
والحجة على العباد إنما تقوم بشيئين : بشرط التمكن من العلم بما انزل الله , والقدرة على العمل به . فأما العاجز عن العلم كالمجنون , أو العاجز عن العمل , فلا آمر عليه ولا نهي , وإذا انقطع العلم ببعض الدين , أو حصل العجز عن بعضه , كان ذلك في حق العاجز عن العلم أو العمل بقوله , كمن انقطع عن العلم بجميع الدين أو عجز عن جميعه كالمجنون مثلا , وهذه أوقات الفترات , فإذا حصل من يقوم بالدين من العلماء أو الأمراء أو مجموعهما كان بيانه لما جاء به الرسول شيئا فشيئا , بمنزلة بيان الرسول لما بعث به شيئا فشيئا , ومعلوم أن الرسول لا يبلغ إلا ما أمكن علمه والعمل به , ولم تأت الشريعة جملة , كما يقال :
                                إذا أردت أن تطاع فأمر بما يستطاع
فكذلك المجدد لدينه والمحيي لسنته , لا يبلغ إلا ما أمكن علمه والعمل به , وكما أن الداخل في الإسلام لا يمكن حين دخوله أن يلقن جميع شرائعه , ويؤمر بها كلها " انتهت أقوال أبن تيميه "
الخلاصة :  
إن مقصود العمل السياسي هو السعي ليكون الحكم بما انزل الله , ولتكون كلمة الله هي العليا , وقد تضافرت على ذلك فقواطع النصوص ومحكمات الشرع , الدالة على وجوب تحكيم شرع الله وإرساء قواعد البناء الاجتماعي على مقتضاه  . أما الوسائل المفضية إلى تحقيق هذه الغاية فهي متنوعة بحسب مناسباتها , ومقتضياتها المرحلية التي تتكيف مع ظروف الزمان والمكان والحال ... وعامتهايندرج تحت مقاصد الشريعة العامة وقواعدها الكلية .. والضابط العام في ذلك إنها تدور في فلك السياسة الشرعية العامة وقواعدها الكلية .. والضابط العام في ذلك إنها تدور في فلك السياسة الشرعية , ويتقرر الحكم فيها في ضوء الموازنة بين المفاسد والمصالح فما رجحت مصلحته على مفسدته أجيز , وما غلبت مفسدته على مصلحته منع , والفتوى تتغيير بتغير الزمان والمكان والعوائد والنيات . وهذا الأصل يعم سائر المواقف التي تسلكها الحركة الإسلامية من عقد التحالفات , والمشاركة في المجالس النيابية , أو تولي الوظائف العامة في الدولة التي لا تحكم بشرع الله , وهذه ليست من مسائل الاعتقاد التي يقوم عليها الولاء والبراء , بل هي من مسائل العمل التي يتراوح الاجتهاد فيها بين اجرين واجر واحد , إذا صدرت من أهل النظر المدركين لمراميها , والمستفرغين لوسعهم في تحقيق شروطها و انتفاء موانعها , والجامعين بين محكمات الشرع ومقتضيات الواقع ومؤهلات القدرة المعينة على تحقيق تلك المقاصد .
- 39 -                                                                                                                                 - 40 -
 
لقد كان إقصاء الإسلام عن الحكم بإلغاء الخلافة , وقيام أنظمة التجزئة العلمانية , التي أثمرت الدكتاتورية والفقر والفساد والتخلف وولادة المشروع الصهيوني , كان ذلك ضربة وجهت للإسلام في تاريخه , وللعرب والمسلمين بل والإنسانية قاطبة , وما لم يضع المسلمون حدا لهذا الفصام النكد بين ضمائرهم المؤمنة , وأنظمتهم المنحرفة عن نهج الإسلام , فلن تقوم لهم قائمة ولن يعرفوا طريقا إلى المجد والحضارة , فضلا عما ينالهم من غضب الله .
والاخوان المسلمون مذ انبعثوا وهم دائبين على نهجهم في الإصلاح الفردي والجماعي واعداد الأمة لحكم الإسلام وعودة الخلافة الراشدة الموعودة , ولم يزدهم ما لاقوا من صنوف البلاء في طريق الدعوة والإصلاح والجهاد لإعلاء كلمة الله إلا مزيدا من الثبات وموالاة البذل والعطاء .
- 41 -                                                                                                                                 - 42 -
 
ولان حركة الأخوان دعوة عالمية وسطية , تنبذ الغلو والتشدد من حيث أتيا , وتدعو إلى الاستمساك بشرائع الإسلام , والعض عليها بالنواجذ , والتفاعل بها في اعتزاز مع تيار الحياة المتجدد , ومع اختلاف أحوال الشعوب والبلدان الإسلامية , فان نظرها إلى مناهج الإصلاح أوسع من أن يستغرقه نهج واحد , فذلك تشدد ينافي طبيعة الرسالة , وأحوال الشعوب المختلفة , فما استمسك المؤمنون بشرائع دينهم وصح منهم العزم على إقامتها في أنفسهم وواقعهم , إنفاذا لأمر الله وتقربا إليه , ومنها ولا شك التزامهم بالشورى في كل أمرهم , فلا ضير عليهم بعد ذلك أن تتعدد طرقهم إلى الله . ويبقى احبها إلى أنفسهم سبيل التدرج في الإصلاح , ورعاية مصالح العباد وما يطيقون من تكاليف ومن ذلك انه إذا تعذر عليهم إنفاذ الواجب من أمر الله بإقامة حكمه في ظرف معين , اختلت فيه موازين القوى لصالح عدوهم , وبسبب قلة عددهم , أو بسبب فشو الجهل بين اغلب المسلمين أو بسبب تسلط عدو خارجي أو داخلي , وأفضت شورا هم إلي انه مما تدرأ به المفاسد , وتحقيقه بعض المصالح , أو مما تدرأ به المفسدة الأعظم كالدكتاتورية . ومنع حرية الدعوة أو تسلط الأجنبي على الوطن الإسلامي , أو فشو المجاعة أو تعرض الجماعة للتنكيل , أن يشاركوا في إدارة أو حتى في تأسيس حكم غير إسلامي , فليس عليهم من ذلك باس , بل هم مأجورون عند الله ما اخلصوا النية واصلحوا العمل . إذ أن حكم الإسلام قد يكون متعذرا , ولا سيما وان حوالي ثلث الأمة الإسلامية اليوم هم أقليات مقيمة في بلاد غير إسلامية معرضة للتهميش , وحتى الاستئصال , ولا يستطيعون فرض حكم الإسلام , وليس من مصلحتهم اعتزال الحياة السياسية جملة , ودعوتهم إلى هجرة أوطانهم ليس ممكنا ولا هو صالح, وأكثر المسلمين مستضعفون في بلادهم السلامية , وقد يكون طموحهم توفر قدر من العدالة والحريات العامة وحقوق الإنسان ومنها حرية الدعوة إلى الإسلام والمشاركة في تكوين الجمعيات والنقابات والأحزاب , والتنافس على إدارتها مع الجماعات العلمانية , والمشاركة في إدارة الشؤون العامة عبر الصحافة والمشاركة في الانتخابات فإذا طمحوا إلى المطاردة والإقصاء . أن ما يفهمه الإخوان من رسالة الإسلام لا يمنع , في حال تعذر قيام حكم الإسلام , ومن المشاركة في إقامة أو إدارة سلطة تتوفر على أقدار من العدالة وحقوق الإنسان , حتى أن ما تتأسس تلك القيم الإنسانية التي هي جزء من الإسلام على عقائد السلام . فان السياسة الشرعية كما عرفها ابن عقيل : فعل يكون معه الناس اقرب إلى الصلاح وابعد عن الفساد وان لم يصفه الرسول ولا نزل به وحي { ابن القيم , والطرق الحكمية في السياسة الشرعية , ص13} مع تأكيد أن ذلك هو خلاف الأصل الذي هو وجوب الاحتكام إلى شريعة الإسلام وإقامة دولته , وهو ما يجب أن يكون ديدان كل مسلم , وحلم يقظته  ومنامه , والمقصد الاسنى للحركة الإسلامية الذي ينبغي أن يبذل فيه السع , وتسترخص الأنفس والأموال , وتقدح العقول وتحرص الأمة ونجمع صفوفها , ومن اجل العمل المنظم الدائب  لتغير موازين القوى في العالم مرضاة للرب وعزة للامة وخيرا للإنسانية .                                                              
                                               

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق