2019-06-14
ناقش العديد من علماء الاجتماع دور الإعلام في صياغة الواقع، ومنهم غي ديبور في أطروحته “المجتمع المشهد” والتي تتلخص في أنّ الواقع لم يعد هو الذي يشكل علاقة الأفراد بما حولهم، بل أصبح المشهد ينازع الواقع هذه المكانة، حتى أصبح المشهد هو المرجع الذي يحدد الواقع ويرسمه وليس العكس.
أما جان بودريار فقدم مفهوم “فوق الواقع” (hyper reality) وهو عدم القدرة على تمييز الواقع من محاكاة الواقع، وذلك بصنع (Simulacrum) أي نسخة مزيفة لا أصل لها. وتظهر “صناعة الواقع” جليّة في مسلسل “جن”.
جِنّ
جِنّ هو مسلسل ناطق بالعربية من إنتاج شبكة نيتفليكس (Netflix) الأمريكية، ويتكون من خمس حلقات عُرضت بتاريخ 13 حزيران/يونيو 2019. وتدور أحداث المسلسل حول مجموعة طلاب بالمرحلة الثانوية يذهبون في رحلة مدرسية إلى البتراء فيموت أحدهم ويُشتبه بأن سبب موته أمر خارق للطبيعة “الجن”.
والمسلسل لا يختلف بتاتًا عن أي مسلسل أمريكي بالشكل والمضمون، فاللغة هي الاختلاف الوحيد. فرغم أن المسلسل صوِّر في الأردن ذي الطبيعة المحافظة نسبيًا، إلا أنه كان مليئًا بأكثر الكلمات بذاءة وسوقية وانحطاطًا، عدا عن المخدرات والسُكر والقبلات والملابس القصيرة.
والحجاب لم يظهر سوى على رأس إحدى النساء من البادية، ولم ينسَ المخرج تصوير قطيع الجِمال الحاضر دائمًا عند عرض أي من مظاهر الإسلام. وأما ما يتعلق بالجن فهو “تفاهات” و”خرافات”.
لا غرابة في ذلك؛ فطاقم التمثيل هم ممن دفعوا “ضريبة هوليود” أو يتوقون لدفعها، لذا فلن يمانعوا تمثيل مسلسل ناطق بالعربية ذي رؤية أمريكية، حتى أن بعض العبارات والتعابير مترجمة للعربية بشكلٍ حرفي ركيك.
ورغم رداءة أداء الممثلين، إلا أن ضخامة الميزانية التي رُصدت لإنتاج المسلسل تظهر بشكلٍ جلي من خلال تقنيات التصوير والمؤثرات البصرية عالية الاحترافية والتي تتجاوز تلك الموجودة في المسلسلات الأمريكية، وتصل لمستوى الأفلام الهوليودية. وأيًا كان المبلغ فيبدو أن نيتفليكس لن تمانع في دفعه مقابل عرض وترويج هذه الصورة المشوهة المؤمركة للمجتمع العربي المسلم؛ كما يراد له أن يكون.
ما بين السطور
العرض الفج والتشويه الصارخ لم يمنع صناع المسلسل من بث بعض الرسائل غير المباشرة؛ فرغم أن أبطال القصة هم طلبة مدرسة، إلا الحصة الدراسية الوحيدة التي عُرضت كانت حصة الأحياء أثناء الحديث عن نظرية التطور. كما كانت بطلة المسلسل تستمع لفرقة غناء مغمورة، وما عرض من كلمات الأغنية كان: “طرق الجنة ع قد البشر” في رسالة إنسانوية (هيومانية) بأن الجميع يدخل الجنة. كما لم يخلُ المسلسل من الرموز الماسونية.
ماذا بعد؟
إن إثارة الجدل هي إحدى أنجع الطرق في الترويج وزيادة الانتشار ورفع نسب المشاهدات، لذا فرغم تدني تقييم المسلسل إلا أن الضجة التي أثارها ستعمل بالنهاية على إنجاحه، ليُنتج منه جزء ثانٍ وثالث.
وبنظرة أشمل، يبدو أن الآلة الإعلامية الأمريكية لم تكتفِ بالأثر الذي تُحدثه بشكل غير مباشر من خلال المسلسلات والأفلام الأمريكية والمحتوى العربي المتأثر بها، فللمرة الأولى نجد إشرافًا أمريكيًا مباشرًا على إنتاج محتوى “ترفيهي” عربي، والقادم أسوء!
فهذا المسلسل بما فيه من قذارة وانحطاط موجه لمن تزيد أعمارهم عن 16 سنة! وعند أخذ بالاعتبار جودة الصورة والمؤثرات البصرية، فبالتأكيد سيكون هذا المسلسل وأمثاله أشد جذبًا من غيرهم، خصوصًا بما يحتويه من مزيج من القيم الأمريكية واللغة العربية فيجذبون متابعي المحتوى العربي والأجنبي في آن معًا.
نيتفليكس في أولى تجاربها لإنتاج محتوى ناطق بالعربية جعلت من مجتمع مسلم محافظ مجتمعًا منحلًا كانت فيه “الحمد لله” عبارةً دخيلةً غريبةً على أذن السامع. لذا فلا عجب أن تحتوي التجارب القادمة على الشذوذ الجنسي أو الشبهات الطاعنة بالدين. أضف لذلك أن شيوع هذا المحتوى سيُطبِّع الأفراد مع الشكل الأمريكي للمجتمع، وسيكون على الشركات العربية تقديم محتوى مشابه كي تستطيع المنافسة، لتكون النتيجة مجتمعًا أمريكيًا ناطقًا بالعربية!
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق