بين الاسفنجة والزجاجة
من جميل ما سطَّره ابن قيم الجوزية قوله :
قال لي شيخ الإسلام وقد جعلت أورد عليه إيراد بعد إيراد: "لا تجعل قلبك للإيرادات والشبهات مثل الاسفنجة*، فيتشربها؛ فلا ينضح إلا بها ولكن اجعله *كالزجاجة المصمتة، تمر الشبهات بظاهرها ولا تستقر فيها؛ فيراها بصفائه ويدفعها بصلابته، وإلا فإذا أَشربت قلبك كل شبهة تمر عليها صار مقراً للشبهات" أو كما قال) ((مفتاح دار السعادة)) (1/ 443).
هذا في زمانه، فكيف في زماننا وقد تنوعت الشبهات وتزينت بعرضٍ مغري وأسلوب بديع يأخذ بلُب الإنسان ويذهب بعقله أحياناً.
لسنا من يَصُّم آذانه عن الشبهات، ولا ممن يتهرب عن مناقشتها، بل إن *عرض الشبهات وردها منهجٌ قرآني فريد*، لكننا نعرض لنموذجين في التعامل القلبي مع الشبهات:
1/ القلب الاسفنجي: وهو الذي يمتص الشبهات مع قلة علم وضعف يقين، ومن سمات هذا النموذج
التشرب : تشرب كل شبه تعرض له دون تمييز ولا تمحيص، فهو يعطي قلبه لها ويتشربها فتتغلغل في أعماقه، ونتيجة لذلك تأتي السمة الثانية
النزح: وهو خروج بعض السائل من الإسفنجة بعد تشربها له، وبمعنى أن المتشرب يتحدث أحياناً -ولو بدون قصد- عن تلك الشبهة ، ومع مرور الوقت ينتقل إلى السمة الثالثة:
التلبس: وهي مرحلة الدفاع عن تلك الشبهة واعتبارها حقاً يمكن أن يتشبث به وربما يُقاتل من أجله.
وهذا النموذج هو الذي يُحذَّر منه ويُخشى عليه، ولعل السبب في تلك الظاهرة الاسفنجية هو صعوبة الظاهرة الزجاجية، وذلك هو النموذج الثاني :
2/ القلب الزجاجي : وهي التي تمر الشبهات عليها بظاهرها ولا تستقر فيها (لا يتشربها)، ثم ينكشف له حقائقها ويدافعها ويدفعها من خلا ثلاث سمات:
الصفاء: وهو صفاء القلب وقوة ارتباطه بخالقه الذي يُنير له الطريق ويكشف له الحقائق .
الرسوخ: وهو التجذر في العلم الحقيقي قبل الشبهات ثم معرفة ملابسات الشبهة من أصلها، وردها بالمنطلق النقلي والعقلي، وهذا يتأتى بطول نَفَس وحفر الصخر في العلم، ومنه تأتي السمة الثالثة
الإدارة: وهو القدرة على حسن التعامل مع الشبهات من حيث نوعها وقوتها وانتشارها ، ومن ثم رسم طريقة التعامل معها ، فليس كل الشبهات يُتعامل معها بالطريقة نفسها، فكل شبهة أسلوب.
والموفق هو مَن يُلهِمه ربه -بعد بذله الأسباب- ويحفظه ويرشده إلى الصواب، فقلبهُ متعلقٌ بربه يكرر دوماً " اهدنا الصراط المستقيم ، صراط الذين أنعمتَ عليهم، غير المغضوبِ عليهم ولا الضالين" ويردد في أثناء خلوته وفي الأسحار " اللَّهمَّ ربَّ جبريلَ وميكائيلَ وإسرافيلَ فاطرَ السَّمواتِ والأرضِ عالِمَ الغيبِ والشَّهادةِ أنتَ تحكُمُ بينَ عبادِكَ فيما كانوا فيهِ يختلِفونَ اهدِني لما اختُلِفَ فيهِ منَ الحقِّ بإذنِكَ إنَّكَ تهدي من تشاءُ إلى صِراطٍ مستقيمٍ" ويلهث لسانه " اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه"
ويقبى هذا السؤال المهم :
قلبك اسفنجي أم زجاجي؟
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق