الجمعة، 19 فبراير 2021

حكم العمل الجماعي وانتماء الى الاحزاب الاسلامية ؟

 

بسم الله الرحمن الرحيم

 العمل في جماعة

تأليف الشيخ/ عبد الله عزام (رحمه الله)

 

 

 

 

 

ونحن كنا بهذا الكون ألويةً , ونحن كنا لمجد الشمس ننتسب ,

ومهما دجا الليل , فالتاريخ أنبأني , أن النهار بأحشاء الدجا يثب

     إني لأسمع وقع الخيط في أذني , وأبصر الزمن المؤود يقترب ,

       وفتية في رياض الذكر مرتعهم , لله ما جمعوا لله ما وهبوا ,

جاءوا على قدم والله يحرصهم , و ِشرعة الله نعم القاسم والقسم   .

 

 

 

حكم العمل في جماعة

 

     من الأدلة على وجوب العمل في جماعة , ليتسنى للمرء القيام بفريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر قول الله عزوجل :

1- ()وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً) (آل عمران:103) .

    وحبل الله هنا : هو القرآن , ورواه علي , وأبو سعيد الخدري عن النبي (ص) , وعن مجاهد وقتاده (1) مثل ذلك والمعنى الحق الذي عليه رسول الله ص, وروي عن ابن مسعود أنه قال: هو الجماعة.

* قال القرطبى(2) :- والمعنى متقارب متداخل فإن الله تعالى يأمر بالألفة , وينهى عن الفرقة , فإن الفرقة هلكة , والجماعة نجاة ,ورحم الله ابن المبارك حيث قال :

إن الجماعة حبل الله فاعتصموا منه بعروته الوثقى لمن دانا

* قال الجصاص(3) :- هو أمر بالاجتماع , ونهي عن الفرقة الذي أمروا جميعا  بلزومه والإجتماع عليه.

2- ومن الأدلة كذلك:  قول الله عزوجل  (وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الْأِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ) ... (المائدة:2)  

* قال ابن كثير(4) :- يأمر تعالى عباده المؤمنين بالمعاونة على فعل الخيرات وهو البر, وترك المنكرات, وهو التقوى, وينهاهم عن التناصر على الباطل , والتعاون على المآثم والمحارم.

* وقال ابن جرير(5) :- وليعن بعضكم بعضا  أيها المؤمنون على البر, وهو العمل بما أمر الله وهو التقوى وهى اتقاء ما أمر الله به باتقائه واجتنابه من معاصيه , وعلى هذا فقد أمر الله بالتعاون على أمر دينه, والأمر للوجوب.

وأي بر وأي خير أعظم من إعادة المجتمع المسلم الذي يقيم شريعة الله جميعها ويحيا من أجلها, وأي شر, وأي إثم أعظم من أن يتر ك دين الله نهبة للناهبين , وحمى مستباحا لكل ظالم وطاغية , ولكل ضعيف مستضعف. 

  إن ترك التعاون لإعادة دين الله إلى الوجود هو أكبر جريمة يرتكبها الناكصون على أعقابهم , المتقاعسون عن النفير لبناء هذا الدين من جديد , لأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من أعظم الفرائض التي يتقرب  بها إلى الله.

 يقول الشوكاني(6):- ( إن مَن أخل بواجب النهي عن المنكر فقد عصى الله سبحانه , وتعدى حدوده , والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من أهم القواعد الإسلامية , وأجل الفرائض الشرعية , ولهذا كان تاركه شريكا  لفاعل المعصية, ومستحقا لغضب الله وانتقامه, كما وقع لأهل السبت, فإن الله سبحانه مسخ من لم يشاركهم في الفعل , ولكن ترك الإنكار عليهم , كما مسخ المعتدين فصاروا قردة وخنازير), والشوكاني يشير إلى الآيات القرآنية في (الأعراف :164-166) .

 (وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَاباً شَدِيداً قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ)*)فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ)*)فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ مَا نُهُوا عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ) ... (الأعراف:164-166) .

عن عكرمة(7):- أن ابن عباس قال له : قد أعياني أن أعلم ما فعل الله بمن أمسك عن الوعظ من أصحاب السبت فقلت له: أنا أعرفك ذلك اقرأ الآية الثانية قوله تعالى (أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ) ... (لأعراف:165) قال: فقال لي أصبت وكساني حلة.

قال الجصاص(8):- فاستدل ابن عباس  بذلك على أن الله أهلك من عمل السوء, ومن لم ينه عنه, فجعل الممسكين عن إنكار المنكر بمنزلة فاعليه من العذاب.

الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فريضة بإجماع المسلمين

 

أجمع السلف والخلف أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فريضة يجب أن يقوم بها قسم من الأمة -في حالة وجود الدولة الإسلامية, والأمة المسلمة التي تعيش في إطار المجتمع المسلم الخاضع لشرع الله ومنهاجه- وإلا كانت الأمة كلها آثمة.

هذا في حالة قيام المجتمع المسلم , أما عند غيابه فيصبح الأمر بالمعروف فرض عين على كل مسلم ومسلمة .

 ولقد اتفق الفقهاء أنه إذ اغتصب شبر من أراضي المسلمين أصبح الجهاد فرض عين على كل مسلم حتى تخرج المرأة بغير إذن زوجها . وإذا سبيت امرأة في المشرق وجب على أهل المغرب افتداؤها , ولو أتى على أموالهم جميعا . هذا في حالة اغتصاب شبر أو سبي امرأة فكيف إذا اغتصب دين الله وأزيل من الوجود والشهود .

قال الجصاص(9): (إن الله تعالى فرض الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في مواضع من كتابه, وبينه رسول الله (ص) في أخبار متواترة عنه فيه, وأجمع السلف وفقهاء الأمصار على وجوبه).

وقال ابن العربي(10):- (الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أصل في الدين , وعمدة من عمد المسلمين وخلافة رب العالمين , والمقصود الأكبر من فائدة بعث الرسل , وهو فرض على جميع الناس مثنى وفرادى بشرط القدرة عليه), والقدرة المشترطة هنا: في حالة الأمر بالمعروف, وتغيير المنكر باليد أو باللسان, ولكن هذا لا يعفي إنكار المنكر بالقلب مع المقاطعة وعدم الخلطة).

قال ابن عطية(11):-(والإجماع منعقد على أن النهي عن المنكر فرض لمن أطاقه , وأمن الضرر على نفسه, وعلى المسلمين , فإن خاف فينكر بقلبه ويهجر هذا المنكر ولا يخالطه).                      

ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يوجب اللعنة من الله يقول الله عزوجل:

)لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ)*)كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ) ... (المائدة:78-79)

وهاتان الآيتان فيمن ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بلسانه وقلبه, أو أنكر بلسانه مع المخالطة , والمعايشة , والمؤاكلة . فلقد استحقوا اللعنة بالعصيان والإعتداء , وهو ترك النهي عن المنكر, وهذا الذي فسره قوله (ص) فيما رواه عنه ابن مسعود قال: قال (ص):  لما وقعت بنو إسرائيل في المعاصي نهتهم علماؤهم فلم ينتهوا فجالسوهم في مجالسهم , وواكلوهم , وشاربوهم وضرب الله قلوب بعضهم ببعض , ولعنهم على لسان داود, وعيسى بن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون قال : فجلس رسول الله (ص) وكان متكئا فقال: والذي نفسي بيده حتى تأطروهم على الحق أطرا ..  قال الترمذي(12):- حديث حسن غريب وقد رأينا في قصة أصحاب السبت أن الله عز وجل مسخ الساكتين عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مع الذين اعتدوا في السبت.

وفي صحيح مسلم(13):- عن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه أن رسول الله (ص) قال: ( ما من نبي بعثه الله في أمة قبلي إلا كان له من أمته حواريون وأصحاب , يأخذون بسنته, ويقتدون بأمره, ثم إنها تخلف من بعدهم خلوف يقولون ما لايفعلون , ويفعلون ما لايؤمرون, فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن , ومن جاهدهم  بلسانه فهو مؤمن, ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن , وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل ).

وإذن فالأمر جد فلا بد من الجهاد باليد , أو باللسان , أو بالقلب , والجهاد بالقلب عملية إيجابية لها أثرها في واقع الحياة بالمقاطعة , والإعراض , وعدم التعاون , وهذه أدنى مرتبة الجهاد ولا يبقى بعدها من الإيمان حبة خردل .

وأقل درجات الإيمان الإنكار القلبي , الذي إن اتفقت عليه الأمة لا يظهر فيها فساد , ولا يطغى فيها غشوم , ولا يعلو فيها متجبر , وهذا  المسمى بالعصيان المدني وفي صحيح مسلم(14):- عن أم سلمة رضي الله عنها زوج النبي (ص) أنه قال :  إنه يستعمل عليكم أمراء فتعرفون وتنكرون , فمن كره فقد برئ ومن أنكر فقد سلم , ولكن من رضي وتابع .

لا بد من الكراهية القلبية, والإنكار بأية وسيلة من وسائل الإحتجاج, وإن ترك الإنكار القلبي يخرج صاحبه من دائرة الإيمان .

وأبو حنيفة يرى ضرورة العمل الجماعي والإلتقاء على رجل صالح

 قال ابن المبارك : لما بلغ أبا حنيفة قتل  إبراهيم الصائغ بكى حتى ظننا أنه سيموت, فخلوت به فقال: كان والله رجلا عاقلا, ولقد كنت أخاف عليه هذا الأمر.

قلت: وكيف كان سببه ? قال: كان يقدم ويسألني وكان شديد البذل لنفسه في طاعة ال له, وكان شديد الورع , وكنت ربما قدمت إليه الشيء فيسألني عنه ولا يرضاه ولا يذوقه, وربما رضيه فأكله , فسألني عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر, إلى أن اتفقنا أنه فريضة من الله تعالى فقال لي: مد يدك حتى أبايعك فأظلمت الدنيا بيني وبينه, فقلت: ولم? قال: دعاني إلى حق من حقوق الله فامتنعت عليه وقلت له:إن قام به رجل وحده قتل, ولم يصلح للناس أمر, ولكن إن وجد عليه أعوانا  صالحين ورجلا  يرأس عليهم مأمونا على دين الله لا يحول . وكان يقتضي ذلك كلما قدم علي  تقاضي العزيمة الملح , كلما قدم علي  تقاضاني, فأقول له هذا أمر لا يصلح بواحد, ما أطاقته الأنبياء حتى عقدت عليه من السماء, وهذه فريضة ليست كسائر الفرائض, لأن سائر الفرائض يقوم بها الرجل وحده , وهذا متى أمر به الرجل وحده أشاط بدمه, وعرض نفسه للقتل , فأخاف عليه أن يعين على قتل نفسه, وإذا قتل الرجل لم يجترئ غيره أن يعرض نفسه , ولكنه ينتظر, وقد قالت الملائكة:

              (أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ) ... (البقرة:30)

ثم خرج إلى مرو حيث كان أبو مسلم فكلمه بكلام غليظ , فأخذه , فاجتمع عليه فقهاء أهل خراسان وعبادهم حتى أطلقوه, ثم عاوده فزجره, ثم عاوده ثم قال: ما أجد شيئا أقوم به لله تعالى أفضل من جهادك , ولأجاهدنك بلساني , ليس لي قوة بيدي, ولكن أراني الله وأنا أبغضك فيه فقتله.

هذا قول أبي حنيفة وهو يؤكد على ضرورة العمل الجماعي من أجل القيام بفريضة الأمر بالمعروف.

أرأيت قوله(15):- (ولكن إن وجد عليه أعوانا  صالحين ورجلا  يرأس عليهم مأمونا  على دينه فلا يحول) أي يجب العمل معهم, فلا بد من قيادة صالحة مأمونة على دين الله وجند صالحين صادقين)(16) - (هذا أمر لايصلح بواحد,ما أطاقته الأنبياء حتى عقدت عليه من السماء وهذه فريضة ليست كسائر الفرائض لأن سائر الفرائض يقوم بها الرجل وحده) .

يقول ابن تيمية(17): (والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يكون تارة بالقلب , وتارة باللسان وتارة باليد , فأما القلب فيجب بكل حال, إذ لا ضرر في فعله, ومن لم يفعله فليس هو بمؤمن , كما قال النبي (ص):  وذلك أدنى -أو- أضعف الإيمان , وقال : ليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل , وقيل لابن مسعود: من ميت الأحياء? فقال: (الذي لا يعرف معروفا ولا ينكر منكرا ).

وأصل هذا أن تكون محبة الإنسان للمعروف وبغضه للمنكر, وإرادته لهذا, وكراهته لهذا موافقة  لحب الله وبغضه, وإرادته وكراهته الشرعيين, وأن يكون فعله للمحبوب, ودفعه للمكروه  بحسب قوته وقدرته, فإن الله لا يكلف نفسا إلا وسعها , وقد قال: (فاتقوا الله ما ستطعتم).

فأما حب القلب وبغضه, وإرادته وكراهيته فينبغي أن تكون كاملة جازمة, لا يوجب نقص ذلك إلا نقص الإيمان, وأما فعل البدن فهو بحسب قدرته, ومتى كانت إرادة القلب كاملة وكراهته كاملة تامة, وفعل العبد معها بحسب قدرته, فإنه يعطى ثواب الفاعل الكامل.

 

 

فهم الصحابة والتابعين لفريضة الأمر بالمعروفوالنهي عن المنكر

 

 جاء رجل إلى عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- فقال: إني أعمل بأعمال الخير كلها إلا خصلتين , قال: وما هما? قال: لا آمر بالمعروف ولا أنهى عن المنكر, قال عمر(18):- (لقد طمست سهمين من سهام الإسلام إن شاء غفر لك, وإن شاء عذبك ).

وقال الضحاك(19):- الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فريضتان من فرائض الله تعالى كتبهما الله عزوجل .

آيات حكيمة أ خر تدل على وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر:

 

1- قول الله عزوجل :

)وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً) ... (البقرة:143)

      ومعنى الوسط هنا العدول والخيار والأفضلون , فهي أمة فاضلة , روى الترمذي بسنده عن أبي سعيد الخدري  عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى: (وكذلك جعلناكم أمة وسطا ) قال: (عدلا ) حديث حسن صحيح(20).

وفي التنزيل: (قال أوسطهم) أي: أعدلهم وخيرهم. وقد جعلها الله  فاضلة لكي تشهد على الناس لأن اللام هنا للتعليل.

إن هذه الأمة لها منزلة القيادة والريادة على البشرية.

 

وقد ألقى في يدها زمام قياد الإنسانية فهم حفظة دينه , وحراس شريعته التي نزلت رحمة للعالمين إلى يوم الدين, ولذا فهي مسئولة عن البشرية يوم القيامة في المحكمة الإلهية أنها بلغتها الرسالة الخاتمة , بل لقد وردت الأحاديث الصحيحة أنها شاهدة على أمم الأنبياء السابقين , أيضا روى البخاري في صحيحه عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله (ص):  يدعى نوح يوم القيامه فيقول: لبيك وسعديك يا رب, فيقول: هل بلغت? فيقول: نعم, فيقال لأمته: هل بلغكم  فيقولون: ما أتانا من نذير, فيقول: من يشهد لك ? فيقول: محمد وأمته, فيشهدون أنه قد بلغ -ويكون الرسول عليكم شهيدا- فذلك قوله عزوجل:  (وكذلك جعلناكم أمة وسطا ...).

فعلى الأمة أن تعي منزلتها, وتتبصر الواجب الذي ألقاه الله على كاهلها, إنها واقفة أمام الله وقفة الأنبياء, ومسئولة عن هداية البشرية, ومحاسبة عما قدمت تجاه الناس, إنها شهيدة, مستحفظه , مستأمنة على دين الله.

قال ابن زيد(21):- الأشهاد أربعة :

1- الملائكة:-  (وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ) ... (قّ:21)

2- الأنبياء :-  (فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيداً) ... (النساء:41)

3- أمة محمد (ص) :-  (وجئ بالنبيين والشهداء) .... (ويوم يقوم الأشهاد).

4- الجوارح :-  (يوم تشهد علىهم ألسنتهم وأيديهم ) ... (22)

  - لقد عدل الله هذه الأمة وجعلهم حجة على الناس في قبول أقوالهم , كما الرسول ص حجة  علينا في قبول قوله علينا, فقول الأمة حجة على الناس في  الدنيا, وهم شاهدون عليهم يوم القيامة.

 وعدالة الأمة ثابتة في كل عصر, وهذا دليل على حجية الإجماع.

2- وهناك فئة أخرى من الناس تقول بصدق: أريد أن أعتزل الجماعة حتى أربي نفسي ثم أعمل مع الجماعة , ونحن نقول لهم:

أ- إن التربية لا تتم إلا في وسط الجماعة.

ب- إن التربية لا تتم إلا من خلال الحركة بهذا الدين , فالقرآن لا يفتح كنوزه ولا يعطي أسراره للقاعدين, فهذا الدين دين عملي لايفهم من خلال الكتب والخلوات أو الإعتزال.

جـ-إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فريضة على كل مسلم, وتقصيره في حق نفسه لا يسوغ له تقصيره في هذه الفريضة, فأي منطق هذا أن يقال للمصلي الذي لا تلتزم زوجته اللباس الشرعي, أترك صلاتك حتى تلتزم زوجتك اللباس الشرعي.

قال ابن العربي(23): (إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فرض يقوم به المسلم وإن لم يكن عدلا  خلافا  للمبتدعه الذين يشترطون في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر العدالة).

(وكل مسلم عليه فرض في نفسه أن يطيع, وعليه فرض في دينه أن ينبه غيره على ما يجهله من طاعة أو معصية).

وقال حذاق أهل العالم (24):- ليس من شرط الناهي أن يكون سليما عن معصية بل ينهى العصاة بعضهم بعضا , وقال بعض الأصوليين : فرض على الذين يتعاطون الكؤوس أن ينهي بعضهم بعضا , واستدلوا بالآية )كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ) .... (المائدة:79)        يقتضي اشتراكهم في الفعل , وذمهم على ترك التناهي .

وقال الجصاص(25):- (فرض النبي (ص) الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر, مجرى سائر الفروض في لزوم القيام به مع التقصير في بعض الواجبات , ولم يدفع أحد من علماء الأمة وفقهائها سلفهم وخلفهم وجوب ذلك إلا قوم من الحشو وجهال أصحاب الحديث).

3- وهناك فئة ثالثة تحتج بالآية:

)      يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ)  ..... (المائدة:105)

ولقد خشي أبو بكر على الناس أن يفهموا أنهم ليس عليهم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إذا صلحوا (فقام فحمد الله , وأثنى عليه , ثم قال: يا أيها الناس إنكم تقرأون هذه الآية:(يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم) إلى آخر الآية, وأنكم تضعونها على غير موضعها, وإني سمعت رسول الله (ص) يقول: إن الناس إذا رأوا المنكر فلم يغيروه, أوشك أن يعمهم الله بعقابه)(26). 

ورواية الترمذي: إن الناس إذا رأوا ظالما فلم يأخذوا على يديه أوشك أن يعمهم الله بعقاب (27).  وقال: حسن.

   عن أبي أمية الشعباني قال:  أتيت أبا ثعلبة الخشني فقلت له: كيف تصنع بهذه الآية, قال: أية آية? قلت:  قوله: (يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم).

قال: أما والله لقد سألت عنها خبيرا , سألت عنها رسول الله (ص) فقال:  بل أئتمروا بالمعروف, وتناهوا عن المنكر حتى إذا رأيت شحا مطاعا  وهوى متبعا , ودنيا مؤثرة, وإعجاب كل ذي رأي برأيه فعليك بخاصة نفسك, ودع العوام فإن من ورائكم أياما الصبر فيهن مثل القبض على الجمر للعامل فيهن مثل أجر خمسين رجلا  يعملون مثل عملكم .

قال عبدالله  بن المبارك وزادني غير عتبه, قيل يا رسول الله: أجر خمسين منا أو منهم? قال: بل أجر خمسين منكم.

يقول ابن العربي(28):-(هذه الآية من أصول الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الذي هو أصل الدين وخلافة المسلمين).

قال الجصاص(29):-(ثبت بما قدمنا ذكره من القرآن والآثار الواردة عن النبي (ص) وجوب فرض الأمر بالمعروف, والنهي عن المنكر, وبينا أنه فرض على الكفاية -إذا قام به البعض سقط عن الباقين- وجب أن لا يختلف في لزوم فرضه البر والفاجر, لأن ترك الإنسان لبعض الفروض لا يسقط عنه فروضا غيره, ألا ترى أن تركه للصلاة لا يسقط عنه فرض الصوم وسائر العبادات, فكذلك من لم يفعل سائر المعروف, ولم ينته عن سائر المناكير, فإن فرض الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر غير ساقط عنه.

وقول الجصاص: فرض على الكفاية هذا في زمنه حيث يظلهم شرع الله, ويقوم فيهم خليفة بحكم الله مع بعض المخالفات الشخصية من الأمراء, أما اليوم فقد ضاع دين الله وانتهكت حرماته وتعديت  حدوده, فأصبح العمل لرفع راية لا إله إلا الله فوق المجتمع فريضة عين على كل مسلم ومسلمة.

 

فتاوى السلف في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

 

إن المؤمن ليقف واجما إزاء فتاوى الفقهاء التي تضع هذا الركن في مكانه الصحيح من الإسلام, وإن القلب ليرتاح إلى هذه الفتاوى لأنه إن ضاع هذا الركن فقد ضاع الإسلام كله, لإنه الحارس الأمين لحصن هذا الدين, وعندما يغيب الحرس تدك الثغور, ويهلك العباد , وتضيع البلاد , ويعم الفساد في الأرض , وصدق الله العظيم : ) وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ) .... (البقرة:251)

 أي إن من فضل الله ذلك  الناموس الإلهي بإبقاء المدافعة بين الأبرار والفجار, وقيام الحرب بينهم بدون ذلك فإن الباطل يعم الأرض وتفسد البشرية, وكذلك فإن الإنسان يتضاءل وهو يرى تقاعسه إزاء هذا الواجب العظيم, ويدرك القلب من أعماقه التقصير الكبير حيال هذا الأمر.

وإنني أغمض عيني ليتراءى لي شخوص الذي حموا هذا الدين في حقبات التاريخ المتطاولة, ويرى رخص الحياة لديهم ترى من بعيد إبراهيم عليه السلام, وكذلك الأنبياء من بعده عليهم الصلاة والسلام , وأصحاب الأخدود , والسحرة, وأصحاب رسول الله (ص) من وراء قائدهم , ثم مرورا  بابن حنبل, وابن تيمية, وسيد قطب, ومروان حديد وعبد العزيز البدري لقد رتب الرسول (ص) مراتب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بالحديث(30) .. (من رأى منكم منكرا  فليغيره بيده, فإن لم يستطع فبلسانه, فإن لم يستطيع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان).

فلا يجوز استعمال اللسان حيث أمكن السنان لإزالة المنكر, ولا يجوز الإنكار القلبي حيث أمكن الزجر والتوبيخ والتذكير بالله, قال الحنفية(31):- إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لهما حالان:

حال يمكن فيها تغيير المنكر وإزالته ففرض على من أمكنه ذلك بيده أن يزيله. وإزالته باليد تكون على وجوه منها: أن لايمكن إزالته إلا بالسيف , وأن يأتي على نفس فاعل المنكر فعليه أن يفعل ذلك , كمن رأى رجلا قصده أو قصد غيره بقتله, أو بأخذ ماله أو قصد الزنى بامرأة أو نحو ذلك, وعلم أنه لا ينتهي إن أنكره بالقول , أو قاتله بما دون السلاح فعليه أن يقتله لقوله (ص):  (من رأى منكم منكرا فليغيره بيده). فإذا لم يمكنه تغييره بيده إلا بقتل المقيم على هذا المنكر فعليه أن يقتله فرضا عليه وإن غلب في ظنه أنه إن أنكره بيده ودفعه عنه بغير سلاح انتهى عنه لم يجزله الإقدام على قتله, وإن لم يمكن إزالة هذا المنكر إلا بأن يقدم عليه بالقتل من غير إنذار منه له فعليه أن يقتله, ذكر ابن رستم عن محمد بن الحسن: في رجل غصب متاع رجل وسعك قتله حتى تستنقذ المتاع وترده إلى صاحبه.

قال أبو حنيفة: في السارق إذا أخذ المتاع وسعك أن تتبعه حتى تقتله إن لم يرد المتاع, وقال: في اللص الذي ينقب البيوت يسعك قتله.

وقال أبو حنيفة(32).. في رجل يريد قلع سنك قال فلك أن تقتله إذا كنت في موضع لا يعينك عليه الناس, وهذا الذي ذكرناه يدل عليه قوله تعالى ()فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ) .... (الحجرات:9)

   وكذلك قلنا في أصحاب الضرائب والمكوس التي يأخذونها من أمتعة الناس أن دماءهم مباحة, وواجب على المسلمين قتلهم, ولكل واحد من الناس أن يقتل من قدر عليه منهم من غير إنذار منه له ولا التقدم إليه بالقول.

قال الجصاص(33).. وكذلك حكم سائر من كان مقيما على شيء من المعاصي الموبقات مصرا عليها مجاهرا بها فحكمه حكم من ذكرنا في وجوب النكير عليهم بما أمكن, وتغير ما هم عليه بيده, فإن لم يستطع فينكر بلسانه, وعلى هذا فليس خرق النظام في المجتمع المسلم عمل سهل يقترفه مرتكبه فيجد الأيادي التي تربت عليها.

 إن انتهاك الحرمات, وتعدي حدود الله أمر يهدد الحياة الإجتماعية, ويقطع حبل الأمن فيها, ومن هنا فإن لم تعالج بدواء ناجع فإن الأمور تتميع وتضيع القيم, ويسود الطغاة, ولقد صور رسول الله (ص) المجتمع تصويرا دقيقا  بحيث لو سمح لواحد أن يعيث فيه فسادا  فإن المجتمع كله يتعرض للإنهيار والدمار.

 

   عن النعمان بن بشير رضي الله عنهما عن النبي (ص) قال:  مثل القائم في حدود الله والواقع فيها كمثل قوم استهموا على سفينة فصار بعضهم أعلاها, وبعضهم أسفلها, وكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مروا على من فوقهم فقالوا: لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقا , ولم نؤذ من فوقنا, فإن تركوهم وما أرادوا هلكوا جميعا  وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعا   (34). ومعنى القائم في حدود الله : الذب عن المحارم الواقع فيها: مرتكبها حدود الله ما نهي الله عنه,  استهموا: اقترعوا, رواه البخاري.

- قول الله عزوجل :- )إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) ... (البقرة:174)

 هذه الآية نزلت في اليهود, وأهل الكتاب الذين  كتموا صفة النبي ص في التوراة, وحرفوها حتى يصدوا الناس عن دين الله.

إلا أن القاعدة الأصولية: (العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب) فلفظ الآية عام في كل من كتم دين الله, وكتابه, وشرعته.    

وقد قال ابن عباس رضي الله عنه(35) :- كلمة الفصل في مثل هذه الآيات, وتعتبر القاعدة الأساسية في مثل هذا الموضوع (كل ما ذم الله أهل الكتاب عليه فالمسلمون محذرون من مثله) .

يقول الفخر الرازي(36):-  (دلت الآية على تحريم الكتمان لكل علم في باب الدين يجب إظهاره).

يقول القرطبي(37):-  (هذه الآية وإن كانت في الأحبار فإنها تتناول من المسلمين من كتم الحق مختارا  لذلك بسبب دنيا يصيبها).

فعلى الذين يقعدون عن العمل لدين الله , لايحركون ساكنا , ولا يأمرون بالمعروف, ولا ينهون عن منكر أن يعلموا مصيرهم الذي ينتظرهم عند خالقهم الذي لا يكلمهم ولا يزكيهم وأعدلهم عذابا  أليما .

3- قوله عزوجل:....... )وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ) ...... (آل عمران:187)

هذه الآية كسابقتها تتكلم عن أهل الكتاب , إلا أن المفسرين يرون أنها عامة لهم ولغيرهم, والقرآن أشرف الكتب, قال الحسن وقتاده(38):- هي في كل من أوتي علم شيء من الكتاب, فمن علم شيئا فليعلمه, وإياكم وكتمان العلم فإنه هلكة, وقال علي بن أبي طالب(39):- ما أخذ الله على الجاهلين أن يتعلموا حتى أخذ على العلماء أن يعلموا.

وقال أبو هريرة(40):-  لو لا ما أخذ الله على أهل الكتاب ما حدثتكم بشيء ثم تلا هذه الآية السابقة.

وقال محمد بن كعب(41):- لا يحل لعالم أن يسكت على علمه, ولا لجاهل أن يسكت على جهله , حكي أن الحجاج(42)أرسل إلى الحسن وقال: ما الذي بلغني عنك? فقال: ما كل الذي بلغك عني قلته ولا كل ما قلته بلغك.

قال: أنت الذي قلت إن النفاق كان مقموعا  فأصبح قد تعمم وتقلد سيفا , فقال: نعم, فقال: وما الذي حملك على هذا ونحن نكرهه? قال: لأن الله أخذ مثياق الذين أوتوا الكتاب ليبيننه للناس ولايكتمونه, وعلى هذا فهذه الآية وما قبلها موجبة لإظهار علوم الدين وتبينه للناس سواء من جهة النص أو جهة المدلول (المعنى), وما يستنبط من النصوص من أحكام, ولا تقبل توبة كاتم العلم إلا بالتبيين بدليل قول الله عزوجل:-

   )إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ)*)إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) (البقرة:159-160)

    فبينت الآية أن توبة كاتم العلم تقبل بشرط واحد إذا بين ما علمه الله إياه من الهدى, ولفظ الهدى شامل لكل العقيدة والشريعة سواء جاءت في القرآن أو السنة.

وبيان الحق اليوم يحتاج إلى جهود ضخمة ينوء لحملها الفرد الواحد, ومن هنا لا بد من التعاون على إظهاره بأن تتكاتف جهود المخلصين, وتنظم طاقتهم, وينسق بين أعمالهم حتى تؤتي ثمارها.

فعلى القاعدين عن العمل لدين الله أن يحذروا, ويشفقوا على أنفسهم من أن تمسهم لعنة الله, والملائكة ودواب الأرض وهوامها, عليهم أن يبادروا بمحاولة إظهار الخير, وأن يستبقوا الخيرات, ويأمروا بالمعروف وينهوا عن المنكر حتى ينالوا ثواب الصادقين المجاهدين -إن شاء الله-.

 

 

 

طريقك أيها الداعية

 

    وأما العزلة فإنما تكون في المجتمع الجاهلي عزلة شعورية فقط ولا يمكن أن تتم العزلة العملية بادئ ذي بدء بالنسبة للدعوة, وأما العزلة العملية فإنها لا تتم إلا بعد قيام المجتمع المسلم الذي تهيمن عليه شريعة الله, وينفذ فيه حكمه وسلطانه, وهنا تكون المفاصلة العملية, ولو فكرت الدعوة في مراحلها الأولى أن تعتزل المجتمع الجاهلي , وتعيش في الصحاري والكهوف فإن هذا يؤدي إلى تجمد الدعوة , وبعدها عن الناس الذين يمثلون المادة الخام للدعوة الإسلامية, ولهذا فإن رسول الله (ص)  بقي في مكة ولم يسكن في كهف من الكهوف في جبال مكة, ولم يترك مكة لطواغيت الكفر, بل بقي يبلغ الدعوة ويصلي صلاته في فناء الكعبة التي يحيط بها وبداخلها (360) صنما .

لكن على الداعية وهو يخوض معركته مع الجاهلية أن يستصحب في أعماقه معرفة عظمة الله وقدرته, ويشعر تجاه الناس الذي يؤذونه بالشفقة والرحمة, وما أصدقه من تعبير: (اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون).

إن الخروج من المجتمع الجاهلي, والفرار منه أمر أسهل على الداعية من القضاء بين عتاة الكفر الذين قدت قلوبهم من صخر, روى الإمام أحمد عن ربيعة بن عباد: رأيت النبي (ص) في الجاهلية في سوق ذي المجاز وهو يقول:  يا أيها الناس قولوا لا إله إلآ الله  تفلحوا , والناس يجتمعون عليه, ووراءه رجل أحول ذو غديرتين -جديلتين- يقول: إنه صابيء كاذب, يتبعه حيث ذهب فسألت عنه فقالوا: هذا عمه أبو  لهب)(43).

 وفي الصحيحين عن ابن مسعود قال: (بينما رسول الله (ص) يصلي عند البيت, وأبو جهل وأصحاب له جلوس وقد نحرت جزور بالأمس, فقال أبو جهل: أيكم يقوم إلى سلا جزور بني فلان فيأخذه فيضعه في كتفي محمد إذا سجد) فانبعث أشقى القوم فأخذه, فلما سجد النبي (ص) وضعه بين كتفيه, قال: فاستضحكوا وجعل بعضهم يميل على بعض, وأنا قائم أنظر, لو كانت لي منعة طرحته عن ظهر رسول الله (ص), والنبي (ص) ساجد لا يرفع رأسه, حتى انطلق إنسان إلى فاطمة, فجاءت وهي جويرية  فطرحته عنه ثم أقبلت عليهم تسبهم, فلما قضى النبي (ص) صلاته رفع صوته ثم دعا عليهم, وكان إذا دعا دعا ثلاثا وإذا سأل سأل ثلاثا ثم قال: اللهم عليك بقريش  ثلاث مرات , فلما سمعوا صوته ذهب عنهم الضحك , وخافوا دعوته ثم قال:  اللهم عليك بأبي جهل بن هشام, وعتبه بن ربيعة , وشيبة بن ربيعة , والوليد بن عقبة وأميه بن خلف , وعقبة بن أبي معيط (44). 

  وذكر السابع لم أحفظه, فو الذي بعث محمدا بالحق لقد رأيت الذي سمى صرعى يوم بدر , ثم سحبوا إلى القليب  -قليب بدر- وعلى هذا فلم يخرج رسول الله (ص) من مكة بل بقي صامدا أمام الجاهلية يحطم عقائدها بالقرآن ويدمر كيانها بالتنظيم الذي يأخذ أفراده من هذا الوسط الجاهلي الصاخب.

يقول الأستاذ سيد قطب في مقدمة سورة الرعد (5/16): (إن الجيل يعيش في جاهلية  كالتي نزل القرآن ليواجهها, بينما هم لا يتحركون بهذا القرآن في مواجهة الجاهلية كما كان الذين تنزل عليهم القرآن أول مرة يتحركون..., وبدون هذه الحركة لم يعد الناس يدركون من أسرار هذا القرآن شيئا , فهذا القرآن لا يدرك أسراره قاعد, ولا يعلم مدلولاته إلا إنسان يؤمن به, ويتحرك به في وجه الجاهلية لتحقيق مدلوله ووجهته), ولذا فقد (إنماعت) وذبلت في حس الجيل, وتصوره مدلولات القرآن وأبعاده الحقيقية, وانحرفت في حسه مصطلحاته عن معانيها.

 

دعائم الداعية

لا بد للداعية من دعائم ثلاثة:

1- العلم.

2- الرفق.

3- الصبر.

 

أولا : أما العلم فهو ضروري للداعية لأنه ينقل دين الله, فلا يجوز له أن ينقل  كلمة ما لم يتأكد من صحتها: )وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً) .... (الاسراء:36)

    لأن العابد الجاهل كالعالم الفاجر سواء بسواء كلاهما ضرره  أكثر من نفعه, وقد نهى رب العزة عن إتباع الظن وذم الظن في مواطن كثيره من كتابه العزيز:- )وَمَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً) .... (لنجم:28)

وفي صحيح مسلم عن المغيرة بن شعبة قال: سمعت رسول الله (ص) يقول: إن كذبا علي ليس ككذب على أحد , فمن كذب علي متعمدا  فليتبوأ مقعده من النار (45).

وعن مسلم عن المغيرة مرفوعا : من حدث عني بحديث يرى أنه كذب فهو أحد الكاذبين (46). قال عمر بن عبد العزيز(47) :- من عبد الله بغير علم كان ما يفسد أكثر مما يصلح , وعن معاذ : العلم إمام العمل , والعمل تابعه لأن الله عزو جل لا يقبل عملا إلا بشرطين : أن يكون خالصا وصوابا , والخالص: أن يكون صادقا لوجه الله لا يخالطه رياء ولا شرك , وصوابا : موافقا  للسنة, وهذا معنى قوله تعالى: (ليبلوكم أيكم أحسن عملا)  كما قال الفضيل بن عياض : وهو كذلك معنى الآية :-   )وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً) ... (النساء:125)

      فإسلام الوجه: هو الإخلاص , والإحسان : أن تعمل العمل موافقا للشرع, وهو معنى دعاء عمر بن الخطاب (48) :- رضي الله عنه : (اللهم اجعل عملي كله صالحا , واجعله لوجهك خالصا , ولا تجعل لأحد منه شيئا ).

وعن سعيد بن جبير(49):- لا يقبل قول وعمل إلا بنيه , ولا يقبل قول وعمل ونية إلا بموافقة السنة.

وعن الحسن البصري : لا يصلح قول وعمل إلا بنية, ولا يصلح قول وعمل إلا بموافقة السنة.

 

ثانيا : أما الرفق فقد وردت أحاديث كثيرة صحيحة فيه: ففي صحيح مسلم عن جرير رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله (ص) يقول:  من يحرم الرفق  يحرم الخير (50).

وروى مسلم بإسناده عن عائشة رضي الله عنها مرفوعا :-  إن الرفق لا يكون في شيء إلا زانه, ولا ينزع من شيء إلا شانه , يا عائشة إن الله رفيق يحب الرفق , ويعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف (51).

 

 وهذا معنى قوله تعالى:   )ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ) .... (النحل:125)

وقلوب البشر كالزجاج رقيقة قد تكسرها الكلمة الفظة الغليظة, فتنفر من الداعية, ولا تعود إلى الإنجبار والإلتئام , وكم من كلمة رقيقة دخلت إلى القلوب فهزتها , وحركتها وأيقظتها من سباتها, وصدق الله العظيم :

)فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ) (آل عمران:159)

ثالثا : الصبر, لأن الداعية لا بد أن يتعرض للأذى , وهو يقابل الناس بما يخالف معتقداتهم , وآرائهم, وينقص مبادئهم, ويسفه أحلامهم, ولذا فقد ورد في النظم الكريم على لسان لقمان لابنه وهو يعظه:

 )    يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ) ..... (لقمان:17)

وكأن النص المبين يشي أن الإيذاء ملازم للأمر بالمعروف فلا بد من العمل , والصبر وصية الله إلى الرسل أجمعين عليهم الصلاة والسلام: (ولربك فاصبر).

)فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ) ..... (الاحقاف:35)

لا بد من هذه الأمور الثلاثة للأمر والنهي

العلم قبل الأمر والنهي , الرفق مع الأمر والنهي , الصبر بعد الأمر والنهي.

وقد جاء في الأثر عن بعض السلف ورووه مرفوعا , ذكره القاضي أبي يعلى في المعتمد (52):- (لا يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر إلا من كان فقيها فيما يأمر به فقيها فيما ينهى عنه, رفيقا في ما يأمر به رفيقا  فيما ينهى عنه, حليما فيما يأمر به حليما فيما ينهى عنه).

أجر العاملين :

طوبى للدعاة:- (وطوبى: الجنة, وقيل هي شجرة فيها)(53). 1

ففي صحيح مسلم:  بدأ الإسلام غريبا وسيعود غريبا كما بدأ فطوبى للغرباء , وزاد أحمد  قالوا يا رسول الله ومن الغرباء? قال: النزاع من القبائل , وفي رواية الترمذي:  الذين يصلحون ما أفسد الناس من سنتي , وفي رواية أحمد والطبراني: قوم قليل في قوم سوء كثير من يعصيهم أكثر ممن يطيعهم .

 

 

 

الهوامش

1-أحكام القرآن لابن العربي (1/291).

2- تفسير القرطبي (4/159).

3-أحكام الجصاص (2/314). 

4-تيسير العلي القدير لاختصار ابن كثير لنسيب الرفاعي (1/484) , وزاد المسير لابن الجوزي (2/276).

5- تفسير الطبري (6/66).

6-تفسير الشوكاني (فتح القدير 2/66).

(7-8)-أحكام القرآن للجصاص (2/319).

9-في أحكام القرآن (4/154).

10-في عارضة الأحوذي (9/13)

11-تفسير القرطبي (6/253).

12-عارضة الأحوذي (11/175)

13-مختصر صحيح مسلم (1/16) رقم(3).

14-مختصر صحيح مسلم (2/93) حديث رقم (1229).

15-الجامع الصحيح الترمذي (11/83) .

16-فتح الباري  (9/238), وصحيح الترمذي (11/83).

17-في الفتاوى(28/127)

18-أنظر فتح الباري  (9/238), وصحيح الترمذي (11/83).

19-تفسير الرازي مفاتيح الغيب (4/113). 

20-الجامع الصحيح الترمذي (11/83).

21-تفسير الرازي مفاتيح الغيب (4/113).

22-أنظر الإحكام في أصول  الأحكام للآمدي (1/158),  وأحكام الجصاص (1/10). 

23-في أحكام ابن العربي (1/292)

24-تفسير القرطبي (6/254), أنظر تفسير ابن الجوزي (زاد المسير 2/242). 

25-أحكام الجصاص (2/320).

26-رواه أحمد في المسند (1/2) وأصحاب السنن الأربعة, وابن حبان في صحيحه.

27-جامع الترمذي (11/181) قال الترمذي: حديث حسن غريب, أنظر  الجامع الصحيح (11/180).

28-أحكام القرآن لابن العربي (2/207).

29- أحكام الجصاص (2/230).

30- رواه مسلم, أنظر رياض الصالحين(103).

31- هذه الفتاوى أحكام القرآن للجصاص (2/317, 318).

33,32-  أحكام القرآن الجصاص (2/318). 

34- رواه البخاري أنظر: رياض الصالحين باب في الأمر بالمعروف, والنهي عن المنكر ص(104)

35- تفسير التحرير والتنوير لمحمد طاهر عاشور (2/65).

36- تفسير الرازي (5/30) طبعة (32) مجلدا .

37- تفسير القرطبي (2/216).

(38-39-40)- أنظر تفسير القرطبي (2/216), وتفسير الرازي (9/130), والدر المنثور في التفسير المأثور للسيوطي, وأحكام الجصاص (1/124). 

41- تفسير القرطبي (2/304). 

42- تفسير الرازي (9/130).

43- مختصر ابن كثير للصابوني (3/687).

44- الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح لابن تيمية ص (216), أنظر مختصر مسلم (2/37) رقم الحديث (1167).

(45-46)- مختصر مسلم (2/252) الحديثان (1862, 1863).

47- فتاوي ابن تيمية  (82/136, 82/177). 

48- مجموع الفتاوى لابن تيمية (82/176). 

49- مجموع فتاوى ابن تيمية (82/136, 82/177). 

50- مختصر صحيح مسلم (2/234).

51- مختصر صحيح مسلم (2/234).

52- مجموع الفتاوى لابن تيمية (82/137)

53- النهاية في غريب الحديث (3/140).

 

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق