كان كلام العلماء في القديم في هذه المسألة أقل حدة مما نراه الآن، وخلاصة القول في هذه المسألة أذكره على هذا النحو:
القول الأول: حرمة التهنئة:
وقد طالعت عددا من الفتاوى والمقالات التي ذهب أصحابها (جلهم من التيار السلفي) إلى البدعية والحرمة، وكان مجمل أدلة التحريم ما يأتي:
- أنه تشبه بالآخر ونحن منهيون عن التشبه، روى أبو داود عَنِ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ تَشَبَّهَ بِقَوْمٍ فَهُوَ مِنْهُمْ[1]».
ويجاب عن ذلك: بأن التشبه المنهي عنه الذي يوافق فيه الظاهر الباطن، قال المناوي تشبه بقوم: أي تزيا في ظاهره بزيهم، وفي تعرفه بفعلهم، وفي تخلقه بخلقهم، وسار بسيرتهم وهديهم في ملبسهم وبعض أفعالهم، أي وكان التشبه بحق قد طابق فيه الظاهر الباطن[2].
- أنه بدعة لم يفعلها النبي ولا الصحابة عليهم رضوان الله تعالى، كما في حديث العرباض بن سارية رضي الله عنه:"وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الْأُمُورِ، فَإِنَّ كُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَإِنَّ كُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ[3]".
ويجاب عن ذلك: بأن البدعة المنهي عنها ما كان في العقائد والعبادات، وهذه التهنئة من العادات التي يجوز فيها ما لا يجوز في غيرها من العقائد والعبادات.
- أن التهنئة إنما تكون عند حدوث نعمة أو دفع نقمة، وأي نعمة أتت أو نقمة دفعت في مجيء شهر أو عام جديد؟
ويجاب عن ذلك: بأن كل يوم ينشق فجره، وكل شهر يبزغ هلاله، وكل عام تتجدد ساعاته، هو نعمة من نعم الله أمد الله للعبد فيها عمره، فإن كان العبد محسنا زاد من إحسانه، وإن كان مسيئا فتح له من أبواب التوبة ما لا يكون لغيره من الأموات، وفي البخاري "وَلاَ يَتَمَنَّيَنَّ أَحَدُكُمُ المَوْتَ: إِمَّا مُحْسِنًا فَلَعَلَّهُ أَنْ يَزْدَادَ خَيْرًا، وَإِمَّا مُسِيئًا فَلَعَلَّهُ أَنْ يَسْتَعْتِبَ[4]".
- تكرار التهنئة في كل شهر وكل عام يجعلها عيدا ونحن ليس لنا سوى عيدين.
ويجاب عن ذلك: بأن تكرار التهنئة في كل شهر وفي كل عام لا يجعل ذلك المناسبة عيدا، لأن العيد ما جاء به الشرع والدين، وكان فيه ما فيه من العبادات والطاعات، كل ما في الأمر أن مناسبة طيبة حلّت، وأيام نفحات طلت فاغتنم الناس الفرصة لتهنئة أنفسهم وذويهم.
- تكرار التهنئة يفتح الباب على مصراعيه للتهنئة بيوم الاستقلال واليوم الوطني، وهذا أيضا لم يكن معروفا من قبل.
ويجاب عن ذلك[5]: بأن التهنئة بيوم الاستقلال واليوم الوطني لأي بلد لم يأت دليل على منعه، لأنه كما سبق من العادات لا العبادات، كما أن استقلال البلاد أمر يستوجب الفرح والتهنئة.
القول الثاني: عدم البدء وجواز ردّ التهنئة:
ويرى أصحاب هذا الرأي عدم البدء بالتهنئة، لكنهم يرون جواز الردّ، واستدلوا بما ساقه المانعون من أدلة، لكنهم لا يرون في الرد على من هنأ حرمة ولا بدعة، وقد نقل ذلك ابن تيمية عن أحمد فقال: قال أحمد: أنا لا أبتدئ أحدا، فإن ابتدأني أحد أجبته، وذلك لأن جواب التحية واجب، وأما الابتداء بالتهنئة فليس سنة مأمورا بها، ولا هو أيضا مما نهي عنه، فمن فعله فله قدوة، ومن تركه فله قدوة. والله أعلم[6].
القول الثالث (الراجح): جواز الابتداء بالتهنئة والرد على من هنأ:
وهناك قول ثالث؛ وهو لا يمنع من التهنئة بالعام الهجري، لا ابتداء ولا ردّا، وهذا ما أراه راجحا، سواء كان ذلك تهنئة بالأيام أو الشهور أو الأعوام (الهجرية) وبأي مناسبة إسلامية؛ ما قصد بذلك التواصل بين الناس، وإبداء حسن الخلق، والتودد إلى الناس، وإظهار الود والإخاء في المجتمع، وذلك للأدلة التالية:
عدم مجيء نهي عن التهنئة لا بالشهور ولا بالأعوام، وما لم يرد نهي يبقى في الأمر متسع.
أن هذه التهنئة بــ (الشهور والأعوام والأعياد) لا يدخل في أمور العبادات؛ بل هو من العادات، والأمر فيها واسع.
التهنئة دعاء لا بأس به في الأعياد وفي غيرها، وإذا قصد بها إظهار السرور والبشر وحسن الخلق، والتذكير بنعم الله تعالى، فهذا لا بأس به.
ما رواه أحمد :"قَدْ جَاءَكُمْ رَمَضَانُ شَهْرٌ مُبَارَكٌ… فِيهِ لَيْلَةٌ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ، مَنْ حُرِمَ خَيْرَهَا فَقَدْ حُرِمَ[7]"، قال الحافظ ابن رجب: قال بعض العلماء: هذا الحديث أصل في تهنئة الناس بعضهم بعضا بشهر رمضان، كيف لا يبشر المؤمن بفتح أبواب الجنان كيف لا يبشر المذنب بغلق أبواب النيران؟ كيف لا يبشر العاقل بوقت يغل فيه الشياطين؟ من أين يشبه هذا الزمان زمان[8]؟ وإذا جازت التهنئة برمضان فيجوز بكل مناسبة فيها من عطايا الله ونفحاته ما يفرح به المسلم.
نقل صاحب "أسنى المطالب في شرح روض الطالب" كلاما رائعا لابن حجر جاء فيه: (فائدة) قال القمولي: لم أر لأحد من أصحابنا كلاما في التهنئة بالعيد والأعوام والأشهر كما يفعله الناس لكن، نقل الحافظ المنذري عن الحافظ المقدسي أنه أجاب عن ذلك بأن الناس لم يزالوا مختلفين فيه، والذي أراه أنه مباح لا سنة فيه ولا بدعة، وأجاب عنه شيخنا حافظ عصره الشهاب ابن حجر بعد اطلاعه على ذلك بأنها مشروعة، واحتج له بأن البيهقي عقد لذلك بابا فقال: باب: "ما روي في قول الناس بعضهم لبعض في يوم العيد: تقبل الله منا ومنك"؛ وساق ما ذكره من أخبار وآثار ضعيفة لكن مجموعها يحتج به في مثل ذلك، ثم قال: ويحتج لعموم التهنئة لما يحدث من نعمة أو يندفع من نقمة بمشروعية سجود الشكر والتعزية.
وبما في الصحيحين عن كعب بن مالك في قصة توبته لما تخلف عن غزوة تبوك أنه لما بشر بقبول توبته ومضى إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- قام إليه طلحة بن عبيد الله فهنأه[9].
قياس ذلك على التهنئة بالعيد، ومن ذلك أن بن تيمية سئل عن التهنئة بالعيد فقال: أما التهنئة يوم العيد يقول بعضهم لبعض إذا لقيه بعد صلاة العيد: تقبل الله منا ومنكم، وأحاله الله عليك، ونحو ذلك؛ فهذا قد روي عن طائفة من الصحابة أنهم كانوا يفعلونه، ورخص فيه الأئمة…..[10].
ولعبد الرحمن السعدي كلام أصولي جاء فيه: هذه المسائل وما أشبهها مبنية على أصل عظيم نافع، وهو أن الأصل في جميع العادات القولية والفعلية الإباحة والجواز، فلا يحرّم منها ولا يكره إلا ما نهى عنه الشارع، أو تضمن مفسدة شرعية، وهذا الأصل الكبير قد دل عليه الكتاب والسنة في مواضع، وذكره شيخ الإسلام ابن تيمية وغيره. فهذه الصور المسؤول عنها وما أشبهها من هذا القبيل، فإن الناس لم يقصدوا التعبد بها، وإنما هي عوائد وخطابات وجوابات جرت بينهم في مناسبات لا محذور فيها، بل فيها مصلحة دعاء المؤمنين بعضهم لبعض بدعاء مناسب، وتآلف القلوب كما هو مشاهد .
أما الإجابة في هذه الأمور لمن ابتدأ بشيء من ذلك، فالذي نرى أنه يجب عليه أن يجيبه بالجواب المناسب مثل الأجوبة بينهم، لأنها من العدل، ولأن ترك الإجابة يوغر الصدور ويشوش الخواطر.
ثم اعلم أن ها هنا قاعدة حسنة، وهي أن العادات والمباحات قد يقترن بها من المصالح والمنافع ما يُلحقها بالأمور المحبوبة لله، بحسب ما ينتج عنها وما تثمره، كما أنه قد يقترن ببعض العادات من المفاسد والمضارّ ما يُلحقها بالأمور الممنوعة، وأمثلة هذه القاعدة كثيرة جدا[11]. ..
وأخيرا، فكل عام وأنتم بخير، وأعاد الله علينا وعليكم الأعوام بالخير والبركات.
[1] رواه أبو داود في اللباس (4031) وصححه الألباني في صحيح الجامع (6148).
[2] فيض القدير (6/ 104).
[3] رواه أحمد (17144) وقال محققو المسند: حديث صحيح.
[4] رواه البخاري في المرضى (5673).
[5] لا مانع من الاحتفال باليوم الوطني.
[6] مجموع الفتاوى (24/ 253).
[7] رواه أحمد (7148) وقال محققو المسند: صحيح، وهذا إسناد رجاله رجال الشيخين.
[8] لطائف المعارف فيما لمواسم العام من الوظائف/ ابن رجب/ ط دار ابن حزم/ ط أولى ط 2004م/ ص148.
[9] أسنى المطالب في شرح روض الطالب/ زكريا بن محمد الأنصاري/ ط دار الكتاب الإسلامي/ بدون (1/ 283).
[10] مجموع الفتاوى (24/ 253).
[11] المجموعة الكاملة لمؤلفات الشيخ عبد الرحمن السعدي (الفتاوى السعدية) ص 348.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق