إخراج زكاة الفطر طعاما وإخراجها قيمة قولان متقاربان
قد تستغرب عندما تسمع أن من قال تخرج زكاة الفطر طعاما من غالب قوت البلد ومن قال بجواز إخراجها قيمة هما قولان متقاربان في المأخذ ، فكلاهما تصرفا في نصوص زكاة الفطر ، وأما الذي لم يتصرف في نصوصها والتزم بحرفيتها فهو ابن حزم الظاهري وهو ظاهر مذهب الحنابلة ، وبيان ذالك :
أولا : نصوص زكاة الفطر :
طبعا ليس غرضنا في هذا البحث استقصاء جميع نصوص زكاة الفطر ، فالغرض ليس دراسة المسألة دراسة تفصيلية ، بل الغرض توضيح أصول كل مذهب في المسألة ، ولذا سنقتصر على أصح ما في الباب من نصوص وهما حديثان حديث ابن عمر وحديث أبي سعيد .
· عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: «فَرَضَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - زَكَاةَ الْفِطْرِ مِنْ رَمَضَانَ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ أَوْ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ عَلَى الْعَبْدِ وَالْحُرِّ، وَالذَّكَرِ وَالْأُنْثَى، وَالصَّغِيرِ وَالْكَبِيرِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ» . متفق عليه .
· عَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ: «كُنَّا نُخْرِجُ زَكَاةَ الْفِطْرِ صَاعًا مِنْ طَعَامٍ ، أَوْ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ، أَوْ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ، أَوْ صَاعًا مِنْ أَقِطٍ ، أَوْ صَاعًا مِنْ زَبِيبٍ » متفق عليه
في معنى الطعام رأيين الأول : الطعام في الحديث هو الحنطة والثاني الطعام هنا مجمل فسره ما بعده اعتمادا على الرواية الأخرى لأبي سعيد حيث قال (( كُنَّا نُخْرِجُ فِي عَهْدِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَوْمَ الْفِطْرِ صَاعًا مِنْ طَعَامٍ " قَالَ أَبُو سَعِيدٍ : وَكَانَ طَعَامُنَا الشَّعِيرَ وَالزَّبِيبَ وَالْأَقِطَ وَالتَّمْرَ )) ، فعلى الرأيين فلفظ الطعام هنا لا يدخل فيه كل طعام بل بعضه فقط .
ثانيا : مسلك الحنابلة وابن حزم اتباع المنصوص دون اجتهاد أو تصرف فيه :
مذهب ابن حزم أن زكاة الفطر لا تجزئ إلا من التمر والشعير لحديث ابن عمر الذي مر معنا ، وأما باقي النصوص عنده فهي ضعيفة بما فهي حديث أبي سعيد ، قال ابن حزم (( وَأَمَّا نَحْنُ فَوَاَللَّهِ لَوْ انْسَنَدَ صَحِيحًا شَيْءٌ مِنْ كُلِّ مَا ذَكَرْنَا مِنْ الْأَخْبَارِ لَبَادَرَنَا إلَى الْأَخْذِ بِهِ، وَمَا تَوَقَّفْنَا عِنْدَ ذَلِكَ، لَكِنَّهُ لَيْسَ مِنْهَا مُسْنَدٌ صَحِيحٌ وَلَا وَاحِدٌ، فَلَا يَحِلُّ الْأَخْذُ بِهَا فِي دِينِ اللَّهِ تَعَالَى )) ج4 ص 247 .
وأما الحنابلة فظاهر مذهبهم أنها تخرج من الأطعمة المنصوص عليها فقط وهي التمر والشعير والزبيب والبر والأقط , ومن أخرج من غير هذه الأصناف ولو كانت طعاما فقد خالف النص .
فطريقة هؤلاء الوقوف مع النص دون اجتهاد أو تصرف فيه ، فإن من أجاز إخراج زكاة الفطر من غير ما ذُكر في النصوص فقد خالف قول رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال ابن حزم في الرد على من أجاز إخراج الطعام من غير ما ذكر في الحديث (( وَيُقَالُ لَهُ : مِنْ أَيْنَ لَكَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَرَادَ أَنْ يَذْكُرَ الْقَمْحَ ، وَالزَّبِيبَ ؛ فَسَكَتَ عَنْهُمَا وَقَصَدَ إلَى التَّمْرِ، وَالشَّعِيرِ؛ أَنَّهُمَا قُوتُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ ، وَهَذَا لَا يَعْلَمْنَهُ إلَّا مَنْ أَخْبَرَهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بِذَلِكَ عَنْ نَفْسِهِ، أَوْ مَنْ نَزَلَ عَلَيْهِ وَحَيٌّ بِذَلِكَ )) ج4 ص 239 ، 240
وقد اعتبر ابن قدامة الحنبلي أن من قال تُخرج طعاما من قوت البلد ولو لم تذكر في النصوص كالعدس واللوبياء وغيرها ، قد خالف النص وحاله كحال من قال تخرج مالا في مخالفتهما للنص ، قال ابن قدامة (( فَتَكُونُ هَذِهِ الْأَجْنَاسُ – المذكورة في النص - مَفْرُوضَةً فَيَتَعَيَّنُ الْإِخْرَاجُ مِنْهَا ، وَلِأَنَّهُ إذَا أَخْرَجَ غَيْرَهَا عَدَلَ عَنْ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ ، فَلَمْ يُجْزِ، كَإِخْرَاجِ الْقِيمَةِ )) المغني ج 3 ص 85 ، فابن قدامة يسوي بين إخراج زكاة الفطر وبين إخراجها طعاما من غالب قوت البلد ، فكلاهما قد خالف النص عنده .
ثالثا : مسلك الجمهور النظر والإجتهاد والتصرف في النص :
وهذا مذهب جمهور فقهاء المذاهب ، إذ لم يقتصروا على النص فأدخلوا أصنافا لم تذكرها النصوص ، ولذا اشتد نكير ابن حزم عليهم فقال (( وَكُلُّهُمْ يُجِيزُ إخْرَاجَ مَا مَنَعَتْ هَذِهِ الْأَخْبَارُ مِنْ إخْرَاجِهِ ، فَمَنْ أَضَلَّ مِمَّنْ يَحْتَجُّ بِمَا هُوَ أَوَّلُ مُخَالِفٍ لَهُ ))
وجهة نظر الجمهور : قالوا ذِكر هذه الأصناف في النصوص ليس مقصودا لذاتها ، بل لمعنى ( وصف ) تضمنته ، ثم اجتهدوا في استخراج هذا المعنى ( المناط ) ، فالشافعية والمالكية وقولٌ عند الحنابلة أن الوصف كونها طعاما ، ثم اختلفوا في صفة هذا الطعام فالمالكية قالوا تُخرج من غالب قوت البلد الذي تجب فيه زكاة العشر ، وللشافعية أقوال فمنهم من قال تخرج من غالب قوت البلد وبعضهم قال تخرج من الأقوات التي تجب فيها العشر كالمالكية ، وبعضهم قال بل تخرج من قوت المزكي ، وبذالك تعلم أن كل من خرج عن الأطعمة المذكورة في النص قد اجتهد مع وجود النص .
وأما الحنفية فقالوا ذِكر هذه الأصناف في الحديث لكونها مالا متقوِّمًا ، وقد كانوا يتبايعون بها على عهد رسول الله فكانت وظيفتها كوظيفة المال اليوم , والمقصود منها سد حاجة الفقير والمال يسد حاجة الفقير فجاز إخراجها قيمة .
فالجمهور القائلين أنها تخرج طعاما من غالب قوت البلد ، والحنفية القائلين أنه يجوز إخراجها قيمة ، كلاهما قد تصرف في النص واجتهد مع وجوده ولم يلتزما بحرفيته ، فالمذهبان قد اتفقا أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما ذكر تلك الأصناف ( التمر والزبيب ... ) لشيئ يريد التنبيه عليه ولذا وجب التصرف في النص بالزيادة فيه تارة وبالنقص منه تارة أخرى ، ثم اختلفوا في تحديد المعنى فالجمهور قالوا لأنها غالب طعام أهل البلد والحنفية قالوا بل لأنها تسد حاجة الفقير والمال يسد حاجته ، ثم اجتهد كل مذهب في إثبات صحة المعنى الذي استنبطه من الشرع من أدلة أخرى خارج النص كفعل الصحابة .
وقد ذكر الإمام أبي حامد الغزالي الشافعي المذهب أن أصل الحنفية الذي اعتمدوه صحيح , وهو استنباط معنى من النص ثم تفسير النص وفق ذالك المعنى إلا أنه لا يوفقهم على صحة ذالك المعنى ، قال في شفاء الغليل (( فإن قيل : قد أفضى مساق كلامكم إلى تجويز التصرف في النصوص ، بتغيير ظاهرها لمعان مفهومة منها، ومعلوم أن سد الخلة ودفع الحاجة ، معنى يسبق إلى الفهم من الزكوات ؛ فهلا ساعدتم أبا حنيفة على مصيره إلى تسليط هذا المعنى على الظاهر، بالتغيير في مسألة أخذ القيم في الزكوات ، ..
قلنا : لم نساعده، لا لامتناع هذا التصرف ؛ ولكن : لأن معنى سد الخلة لم يتمحض اعتباره في الزكاة )) .
رابعا : خلاصة القول :
1 . الذي جاء في النصوص أن زكاة الفطر تُخرج من أصناف محددة ( التمر ، الشعير ، الزبيب ، الأقط ، البر ) ، فمن اقتصر عليها فقد أخذ بحرفية النص ولم يجتهد فيه .
2 . لم يأت في أي نص تقييد للطعام بكونه من غالب قوت البلد أو من قوت المزكي أو غيرها من القيود التي ذكرها فقهاء المذاهب، إنما هذه القيود هي اجتهادات من أصحابها .
3 . لم يأت في النصوص ذكرٌ للقيمة ومن أجاز إخراج زكاة الفطر قيمة ، فقد اجتهد أيضا في النص كما اجتهد الفريق الآخر أعني الجمهور .
4 . كلا المذهبين اعتمدا في اجتهادهما في فهم النص على استنباط معنى منه ، ثم تفسير النص وفق ما يقتضيه ذالك النص ، وبذالك تصرفوا في النص بتوسيع دلالته وإخراج بعض ما ذُكر فيه أو إدخال بعض ما لم يذكر فيه .
خامسا : تأثير علة النص على دلالته
مر أن الحنفية والجمهور اعتمدوا في فهم آحاديث زكاة الفطر على قاعدة استنباط معنى من النص ثم تأويله وفق ذالك المعنى ، ولكنهم اختلفوا في تحديد ذالك المعنى ، وهذه الطريقة في تفسير النصوص وفق معان مستنبطة منها أو من أدلة اخرى هي طريقة الأئمة الأربعة وعمن أخذوا من الصحابة والسلف الصالح ، وسنذكر أمثلة لهذه القاعدة .
قبل ذالك نمثل بمثال ، قال النبي صلى الله عليه وسلم « لا يقض القاضي وهو غضبان » قال الغزالي (( ويتجه فيه أن يقال: أن الغضب ليس سبباً للتحريم، ولكن سبب التحريم ما يتضمنه الغضب : من اختباط العقل، وما يعتريه: من الدهشة المانعة من استيفاء الفكر، والاهتداء إلى وجه الصواب. حتى أن الغضب اليسير المنفك عن هذا الأثر لا يحرم؛ وحتى يلحق به الحاقن والجائع والذي توالي عليه ألم مبرح مدهش، وغير ذلك من الأحوال المشوشة لنظر العاقل. وفي ذلك إلغاء الغضب بالكلية ))
سادسا : أمثلة عن مخالفة الصحابة لظواهر النصوص واجتهادهم في فهمها .
عَنِ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَنَا لَمَّا رَجَعَ مِنَ الأَحْزَابِ: « لاَ يُصَلِّيَنَّ أَحَدٌ العَصْرَ إِلَّا فِي بَنِي قُرَيْظَةَ » فَأَدْرَكَ بَعْضَهُمُ العَصْرُ فِي الطَّرِيقِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ : لاَ نُصَلِّي حَتَّى نَأْتِيَهَا، وَقَالَ بَعْضُهُمْ : بَلْ نُصَلِّي، لَمْ يُرَدْ مِنَّا ذَلِكَ، فَذُكِرَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَمْ يُعَنِّفْ وَاحِدًا مِنْهُمْ )) اخرجه البخاري
حرفية هذا النص تقتضي أن العصر لا يصلى إلا عند الوصول لبني قريظة ولو خرج وقته ، وهو الذي فهمته الطائفة الأولى من النص ، فقد امتثلوا ظاهر النص ولم يجتهدوا فيه ، فهؤلاء مثلهم كمثل ابن حزم والحنابلة في آحاديث زكاة الفطر .
وأما الطائفة الثانية من الصحابة ، فقد اجتهدوا في النص وتصرفوا في دلالته فخالفوا ظاهره ، ووجه اجتهادهم أنهم نظروا في النص فاستنبطوا منه معنى وهو الإسراع في الخروج لبني قريظة ، فلما دخل وقت العصر وهم في الطريق ، قالوا ما أراد منا رسول الله تأخير الصلاة إنما أراد منا الإسراع في الخروج ، وعليه فالحديث أصبح عندهم بهذا المعنى (( لا يصلين أحد العصر إلا في بني قريظة إلا أن يخشى فوات الوقت فيصليه في الطريق )) ، وهو تماما نفس المنهج الذي استعمله الحنفية والجمهور مع آحاديث زكاة الفطر في استنباط معنى ثم تفسير النص به ، قال ابن حجر في فتح الباري (( فِي هَذَا الْحَدِيثِ مِنَ الْفِقْهِ أَنَّهُ لَا يُعَابُ عَلَى مِنْ أَخَذَ بِظَاهِرِ حَدِيثٍ أَوْ آيَةٍ وَلَا عَلَى مَنِ اسْتَنْبَطَ مِنَ النَّصِّ مَعْنًى يُخَصِّصُهُ وَفِيهِ أَنَّ كُلَّ مُخْتَلِفَيْنِ فِي الْفُرُوعِ مِنَ الْمُجْتَهِدِينَ مُصِيبٌ )) ج 7 ص 409
كتبه الأستاذ : طايبي عمار
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق