رسالة في تكفير من يحرمون الأغاني والمعازف - للشيخ أبي الفتوح الطوسي
بوارق الإلماع في تكفير من يحرّم السماع
تأليف الشيخ الإمام العالم العلامة العمدة الفهامة ، شيخ الحقيقة والطريقة ، الشيخ شهاب الدين أبي الفتوح أحمد بن محمد بن محمد الطوسي الغزالي
نفع الله به
آمين
والمنشور هنا هو تفريغ حرفي للمخطوط المتوفر على هذا الرابط
http://www.feqhup.com/uploads/1383975201533.pdf
ترجمة المؤلف
قال الإمام اليافعي في تاريخ (مرآة الجنان) ما حاصله : (أبو الفتوح أحمد بن محمد بن محمد الطوسي الغزالي الواعظ أخو الإمام حجة الإسلام أبي حامد ، شيخ مشهور فصيح مفوّه ، صاحب قبول تام لبلاغته وحُسن إيراده وعذوبة لسانه ، كان مليح الوعظ صاحب كرامات وإشارات ، وكان من الفقهاء غير أنه مال إلى الوعظ والتصوف فغلب عليه ، ودرّس بالنظامية نيابة عن أخيه أبي حامد لما ترك التدريس زهادة فيه ، واختصر كتاب أخيه المسمى بإحياء علوم الدين في مجلد واحد ، وسماه لباب الإحياء ، وله كتاب آخر سمّاه الذخيرة في علم البصيرة ، وطاف البلاد وخدم الصوفية بنفسه وخدموه ، وصحبهم وصحبوه ، وكان مائلا إلى الانقطاع والعزلة ، وذكره الحافظ ابن النجار في تاريخ بغداد وأثنى عليه هو وغيره من العلماء والأولياء ، مات بقزوين في سنة ٥٢٠هـ رحمه الله تعالى) .
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم
المقدمة
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي أسمَع العباد في الميثاق الأول خطاب (ألست بربكم) لإكمال رتبة المعارف ، وكمّل عقول الطلاب لإدراك فوائد الأعمال واللطائف ، وأزال حجب أرواحهم المانعة عن الترقي في الجناب الأحدي دفعا للمصارف والصوارف ، وأرقّ أفئدتهم بنور اليقين ، وجلى مرآة نفوسهم بقوى التمكين ، حتى وجدوا آثار التجليات ، وخلصوا من رق الشهوات ، وجالت أجسادهم في السماع طلبا لخلاص الروح ، وحرصا على إنالة جلائل الفتوح ، فإنها من أكمل صفات الرجل الخائف ، وأصلي على نبيه خاتم الرسل صلاة ترفع قائلها إلى نوامي البركات والشرائف .
يقول العبد الفقير إلى الله تعالى ، المحتاج إلى إنالة فيض فضل الله ، الملتجي إلى جناب الله أحمد بن محمد بن محمد الطوسي ألحقه الله بعباده الأبرار في دار القرار : سألني بعض الصلحاء المتوجهين إلى الله في السراء والضراء أن أكتب له رسالة في السماع وقواعده ، وشروطا في فعله لظهور فوائده ، مستشهدا عليه بالقرآن العظيم والحديث الشريف وأفعال الصحابة ، والرد على منكريه وما يلزمهم من المذكورات شرعا ، وأسْتدلُ بالكتاب والسنة والمعقول والمنقول على أن من قال أن السماح حرام كفر بالإجماع ، وسد عليه طرق المنائح والإلماع ، ولما رأيت صدق رغبته أجبت سؤاله وحصّلت نواله بتحصيل هذا الكتاب بعد الاستخارة في حضرة الملك الوهاب ، وسميته (بوارق الإلماع في تكفير من يحرّم السماع وتعيّن شرفه بالإجماع) ، أسألالله العظيم أن ينفع به إنه قريب مجيب .
معنى السماع وفائدته
اعلم زين الله قلبك بنور الطاعة ، وأدرجك في حقيقة الشهادة والشفاعة ، أن سماع هذه الطائفة عبارة عن ملاحظة الأسرار الغريبة من الأشعار الرقيقة التي ينشدها القوّال مقرونا بذكر الواحد القهار في الاطلاع على الدقائق والأسرار ، وإنما اختاروا هذه لرفع حجج السماع دون غيرها من الأفعال لأمرين :
أحدهما : أن السماع في مقابلة رتبة الصلاة ، فلا تصح الصلاة إلا بعد السماع ، إذ لولا استماع المصلي أركانها وسننها وشروطها من غيره بالتعلم وإلا لما صحت صلاته ، وأيضا أن الصلاة ظاهرها جمع ، وباطنها : إما تفرقة معنوية وذلك ينافي الحضور مع الله تعالى ، أو تفرقة صورية مذمومة كطريان الخواطر الفاسدة في قلبه حالة قيامه في الصلاة ، والسماع ظاهره تفرقه وباطنه جمع ، لأنه باستيلاء حكم السماع عليه تغيب عن أفكاره العوارض الفاسدة حتى بما لا تخطر نفسه بباله .
وثانيها : أنه لما خلق الله الموجودات رتّبها على رتبتين ، أحدهما : مسماة بعالم الغيب وعالم الملكوت ، وهو أوسع العوالم وأكملها ، والتصرف في هذا العالم بالروح والسر ، وآلة وجدان هذا العالم وتجلياتها وإدراك معينها النورانية هو الذوق وصفاء القلب والبصيرة ، وأهل هذا العالم الملائكة والأرواح ، وهذه الرتبة لا يحويها الحس والعقل ، ولا يدركها التقليد والنقل ، قال الله تعالى (وكذلك نري إبراهيم ملكوت السماوات والأرض) ، وقال عليه الصلاةوالسلام : (ألا وإن علامات العقل التجافي عن دار الغرور ، والإنابة إلى دار الخلود) ، وثانيها : يسمى بعالم الشهادة وعالم الظاهر ، وهذا أضيق من عالم الغيب وأحضر ، وآلة إدراك ما في هذا العالم من الحكم والعجائب بالعقل والحواس الواقعة في بعض الأحيان في الشك والريب والالتباس ، وأهل هذا العالم الأعيان الظلمانية الحيوانية ، ثم اقتضت الحكمة الإلهية إظهار مظهر جامع الأنوار والظلمات لتبين حقائق الآيات ، وفهم معاني التنزلات والتجليات ، وذلك المظهر هو حقيقة النوع الإنساني مقابلة للنور الإيماني والسر الإيقاني .
ولما كان عالم الغيب أوسع وأكمل ، وعطاء الروح والعقل والكشوفات المتعلقة بهذا العالم كان التصرف في هذا العالم بالروح والسر ، ولما كان عالم الشهادة أضيق بالنسبة إلى عالم الغيب واحتاج فيه إلى أشياء متعددة مختلفة الصور والطباع لاصطلاح صورته أعطاه الله بعناية الأزلية الحواس والنفس والتمييز ليحصّل بواسطتها كمال المعرفة والفهم ، ويدرك ما قدر له من السعادة بأكمل نصيب وأوفر سهم ، ولما كان وجوده محصورا محدودا لم يمكنه تمكين فهم جميع المحظورات في حالة واحدة ، والاحتواء على مظاهر تجليات الحق ، حينئذ فوض الله تعالى كمال رتبته إلى قوم جعلهم في تلك الرتبة كمالا وقوة ونفوذا لغيرهم بالنسبة إلى تلك الرتبة .
وأيضا لما كان الإنسان الجزئي في الصورة ضعيف الاستعداد في الرتبة ، ما أمكنه القيام بمصالحه في عالم الظاهر والباطن ، إذا الجزء لا إحاطة له في الرتب الكلية ، فأحال البعض على البعض ، وجعل معاونة البعض إلى البعض يحتاج كل واحد في استدعاء منافعه ودفع المضار عنه نفسه من غيره إلى واسطة ، فلو كانت تلك الواسطة إشارة أو كناية ما كانت تقي بكمال المقصود ، فجعل الله بلطفه الواسطة الكلام المصوّت ليكون سهل الانحدار سريع الإمحاء معينا لكل أحد في طلب منافعه من غيره ، فأحبّت الطبيعة الإنسانية الصوت لأنها كمالاته الصورية والمعنوية ، واختاره على ما سواه .
وكما أن الطبيعة الجسدية يحتاج في بقائها إلى الغذاء من حيث هو غذاء حتى يختار الغذاء حالة الاحتياج إليه على جميع محبوباته جاها ومالا ، فلما حصل في الصوت زيادات وترتيبات ومنشايات ذوقية روحية وهو علم الموسيقى مالت الطبيعة إليه أقوى من ميلها إلى ما سواه من اللذات الجزئية ، وقد منح الله داود عليه السلام الصوت الحسن فكان إذا قرأ الزبور بالصوت يموت بعض من سمع ذلك في مجلسه ، وورد أيضا في القرآن : (يزيد في الخلق ما يشاء) ، ذكر المفسرون أنه الصوت الحسن ، وقال عليه السلام : (من لم يتغنّ بالقرآن فليس منا) ، وقال عليه السلام : (زينوا القرآن بأصواتكم) ، وفيما ذكرنا دليل على أن رفع الصوت بالأنغام الموسيقية مطلوب الإنسان مطلقا .
سماع أهل التصوف
أما السماع المتعارف بين الفقراء وأصحاب الأحوال لرقة باطنهم وصفاء قلوبهم ، فمبني على ثلاثة أشياء : الزمان والمكان والإخوان .
أما الزمان ففي أوقات صفاء قلوبهم ومحاولتهم الاجتماع طلبا لرضا محبوبهم ، وتجريد ظاهرهم عن الحظوظ النفسانية ، وتفريد بواطنهم عن التعلق بالعادات الشهوانية ، والتفرغ لحضور القلب للقيام مع الله تعالى لا تحصيل المراتب الإنسانية ، إذ العبادة والتوجه إلى الله تعالى ينبغي أن تكون لله لا لعلة ، فإذا اجتمعوا في مثل هذا الزمان انعكست أنوار قلوب البعض إلى آخرين ، فيزداد بذلك الاجتماع نورا وظهورا ووضوحا وسرورا ، وهذا من وصف أهل الجنة ، قال الله تعالى : (ونزعنا ما في صدورهم من غل) الآية . أشار به إلى أهل المعرفة ، (ونزعنا) أي محونا ما في صدور أهل المعرفة والشهود والأذواق الرقيقة (من غل) أي من طلب الحظوظ الدنيوية واستيفاء الشهوات الإنسانية (إخوانا) أي مشتركون في أخذ الأنوار والمعارف والطاعات ، إذ الأخوة مصدرهم واحد (على سرر) الأحوال والمقامات الاسمائية (متقابلين) أي من غلب عليه حكم عقله في مقابلة من غلب عليه حكم قلبه ، ومن غلب عليه حكم روحه في مقابلة من غلب عليه حكم سره ، (لا يمسهم فيها) أي لا يلحقهم في جهة العلم بالله والعلم بأمر الله والعلم بتدابير الله (نصب) أي حجاب ورجوع إلى عالم النفس (وما هم منها بمخرجين) أي من جنة المعارف والكشوف والطاعات ، يعني أن الحق تعالى إذا أعطى العباد رتبة الكمال والعلم بمراتب الوجود لا ينزعها منهم أصلا ، إذ هو الجواد الكريم ، إذا أعطى زاد ولم يسترد .
وأما المكان ، فالزوايا والخوانق والمساجد أولى ، فالمسجد بني لعبادة الجسد ، والقلب محل مخلوق للمعرفة وظهور الله تعالى ، وهو مهبط الأنوار الإلهية ، فإذا تحرك صاحبُ القلب في المسجد لازدياد نور القلب وصفاء النفس كان أولى من تحرّكِ جسدِ غيره في الصلاة من غير حضور ، ولا خلاف أن من دخل المسجد واشتغل بالصلاة الصورية وكان قلبه مشحونا من الوسواس والتخيلات والأمور التي نهى الشارع عنها كان ساعيا في إزالة الموانع عن قلبه لا يُمنع دخولَ المسجد أصلا ، بل أبلغ من ذلك تحقّق دخول ظالم فاجر آكل للحرام المسجد وعُلِم بالقرائن أن قلبه مشتغل بالفكر في مظالم الناس وأخذ أموالهم ، واشتغل بالصلاة صورة ، لا يُمنَع دخوله ، فكيف يُمنَع من يروم طهارة نفسه وجلاء قلبه ، فلا يجوز منعه أصلا ، فإنه ساع في رقة نفسه وصفاء روحه بسماع غرائب الكلام وإدراك لطائف الأشعار الموجبة ثبوت نسبته مع الملائكة وقطع نسبته من الشياطين والأباليس ، فإذا اجتمع أهل الصفاء في مقام العبادة وأرادوا أيضا صفاء قلوب البعض إلى البعض وازدياد أنوار أسرارهم وتكثير صفاء نفوسهم وأبدانهم بنور ذلك المكان ازدادت أحوالهم وتكملت ذواتهم ، إذ كل مكان بني للعبادة تعلق به روح ونور من عالم الغيب ، فيزداد حرمة وإجلالا ، كالإسطبل فإنه إذا جُعِل مسجدا تعلق به التعظيم والإجلال بعد أن كان محل النجاسة والشياصر ، فالقعود فيه وهو مسجد يورث تنور الباطن كما قال عليه السلام : (المسجد بيت كل تقي) .
وأما الإخوان فهم على ثلاثة أقسام ، الإخوان مطلقا المشتركون في اسم الإيمان كما قال تعالى : (إنما المؤمنون إخوة) فهؤلاء لا تجوز صحبتهم دائما ، بل يصحبون لمحة لإفادتهم ما ينتفعون به ، وإخوان الإرادة والمحبة كالعوام والمحبين للفقراء المعينين لهم بمالهم ونفوسهم على تحصيل طرق الصفاء ، فهؤلاء وإن لم يكونوا متصفين بأوصافهم جازت مصاحبتهم لقوة محبتهم في أهل الذوق والكمال ، فإنهم بقوة الإرادة والصدق يكتسبون من أنوار قلوب أهل الصفاء كما يكتسب السمع المين من حر الشمس ، فإذا رجعوا إلى العوام انتفع غيرهم بهم ، وإخوان الصفاء والمواجيد والتفاريد والذوق والشوق والكمال والصفاء والوصال تجب مصاحبتهم كما يجب لبس السلاح لمحاولة القتال ، واستحب في حق المريدين ونُدِب في حق المحبين تشبها بأهل الكمال في حركاتهم وسكناتهم ، قال عليه السلام : (من تشبه بقوم فهو منهم ، ومن أحب قوما حشر معهم) ، وقال تعالى : (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين) ، أي إذا لم تكونوا من الصادقين فكونوا معهم .
الأدلة على جواز السماع وكفر منكره
وقال تعالى : (ولو علم الله فيهم خيرا لأسمعهم) أي : الحق والحكمة والموعظة والزواجر ، وقوله : (أسمعهم) أعم من أن يكون قرآنا أو حديثا أو أشعارا أو غير ذلك ، وقال عليه السلام : (إن من الشعر لحكمة) ، فمن لم يعلم الله به خيرا لم يسمعه الحكمة والمعرفة والمواعظ والزواجر مطلقا ، فلا يسمعه حينئذ الخير والحق من الأشعار في السماع ، فمن لا يجد شيئا من الحق والحكمة والفوائد أنكره ، فحينئذ يكون إنكاره على نفسه .
وإنكاره سماع الغناء وسماع ضرب الدف والأصوات الحسنة مخالفة السنة ، ومخالفة السنة اعتقادا أو تحريما كُفْر ، والإعراض عنه والانتهاء فسق ، وورد في مسلم والبخاري عن الربيع بنت معوذ بن عفراء قالت : (جاء النبي صلى الله عليه وسلم وجلس على فراشي وعندي جويريتان يضربان بالدف ويندبن من قتل من آبائهن يوم بدر ، فقالت إحداهما : وفينا نبي يعلم ما في غد ، فقال صلى الله عليه وسلم : دعي هذا وقولي ما كنت تقولين ، وكان الشعر : نحارب أقواما ببرقة ثهمد - بضرب وطعن والسيوف المهند ، فعدلت إحداهما إلى قولها : وفينا نبي يعلم ما في غد) ، فهذا الحديث دال على أنه صلى الله عليه وسلم سمع صوت الدف والغناء والشعر من الجويريتين اللتين لهن حالة يحرم فيها سماع أصواتهن من غير حاجة ، وهو صلى الله عليه وسلم حاضر يصغي إليهن ، فسماع الغناء والأصوات من الرجل بطريق الأولى ، كيف وقد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم الجويريتين بالغناء والشعر وضرب الدف حيث قال : (قولي ما كنت تقولين) ، والأمر للوجوب إذا تجرد عن القرائن ، كقوله تعالى : (وأقيموا الصلاة) ، وللندب بالقرينة كقوله تعالى : (فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيرا) ، وللإباحة بالقرينة أيضا كقوله : (وإذا حللتم فاصطادوا) ، وهاهنا يحتمل الوجوب لأنه صلى الله عليه وسلم أمرهما مشافهة ، فلا تجوز مخالفته لأنه صلى الله عليه وسلم أمرها بإعادة ما كانت تقوله أولا ، وهو عليه السلام يصغي إلى معانيه ، وإذا طلب صلى الله عليه وسلم شيئا من غيره وهو صلى الله عليه وسلم مصغ إليه وجب عليه ذكره لقوله تعالى : (يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم) .
وروى أيضا البخاري ومسلم عن عائشة رضي الله تعالى عنها أنها قالت : (دخل عليها أبو بكر وعندها جويريتان يضربان بالدف بما تقاولت به الأنصار يوم بعاث ، والنبي صلى الله عليه وسلم مغشّى عليه بثوبه ، فانتهرهما أبو بكر ، فكشف النبي صلى الله عليه وسلم عن وجهه وقال : دعهما يا أبا بكر فإنها أيام عيد) ، وهذا الحديث بصراحته دال على جواز سماع الدف والغناء وحضورهما والرد على منكريهما ، وفيه دليل على جواز زجر المُنكِر ودفعه عن الإنكار لأنه عليه السلام نهى المنكِرَ عليه ، فقال تعالى : (لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة) ، فمن قال أن سماع الغناء حرام أو ضرب الدف حرام ، أو حضورهما حرام ، كأنما قال إن النبي صلى الله عليه وسلم سمع حراما ومنع النهي عن الحرام ، ومن اعتقد ذلك كفر بالاتفاق .
فإن قيل : يجوز هذا في يوم العيد لا في غيره لأنه قيد في جوازه في يوم عيد ، قلنا : الاتفاق على أن خصوص السبب لا يمنع عموم الحكم ، وأكثر ما ورد في القرآن كذلك ، كقوله تعالى : (إن الذين كفروا سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون) نزلت في حق أبي جهل وأبي لهب وعتبة وشيبة وعبدالله بن أبي بن سلول ، والحكم عام في الكفار ، وكذلك قوله : (إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما) إلى قوله : (واخفض لهما جناح الذل من الرحمة) ، الخطاب مع النبي صلى الله عليه وسلم والحكم عام ، وفي هذا الحديث إشارة إلى أن كل حالة يوجد فيها فرح القلوب وطيبة البواطن في أيام العيد أو غيرها جائز فيها السماع بالدف والغناء والأشعار ، وفي مسند أحمد : (أن الحبشة كانوا يدفون بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم ويرقصون ، ويقولون : محمد عبد صالح ، فقال صلى الله عليه وسلم : ما يقولون ؟ قال : يقولون : محمد عبد صالح) ، وهذا يدل على جواز حضورالرقص وجواز سماع صوت الدف والغناء ، فمن قال إن الرقص حرام وصوت الدف والغناء حرام كان ذلك افتراء منه أن النبي صلى الله عليه وسلم حضر الحرام وأقر غيره على الحرام ، ومن اختلج ذلك في باطنه كَفُر بالاتفاق .
الرد على اعتراضات المنكرين
وإن قال هذا المنكر : هذا جائز في حق النبي صلى الله عليه وسلم فلم قلتم إنه جائز في حقنا ؟ قلنا : لأنه إذا كان صلى الله عليه وسلم شارعا فلا يجوز للشارع أن يكتم حكما فيه أمر بحكم شرعي ، لقوله تعالى : (إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى من بعد ما بيناه للناس في الكتاب أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون) ، ولقوله تعالى : (وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس ولا تكتمونه) ، فلو كان فعل الرقص وحضور السماع والغناء والضرب بالدف حراما كان واجبا عليه بحكم هذه الآية تبيينه لغيره ، ولو جاز ذلك له دون غيره وجب عليه بيانه ، كما ورد في الخبر أن النبي صلى الله عليه وسلم نهاهم عن الوصال ثم فعل ، فلما سألوه قال : (لست كأحدكم ، إني أبيت عند ربي يطعمني ويسقيني) ، فلما حضر الرقص وسماع الدف والغناء ولم ينه أحدا عن ذلك دل على جوازه مطلقا .
فإن قال المنكر : إن الرقص لعب ، واللعب حرام لأنه صلى الله عليه وسلم قال : (لا الدد مني ولا أنا من الدد) والدد : اللعب ، قلنا : هذا الحديث مخصوص باللعب المحرم كالنرد والقمار وغير ذلك ، لأنه ورد في البخاري عن عائشة رضي الله عنها : (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان واقفا على باب بيتي والحبشة يلعبون بحرابهم في المسجد ، وأنا أنظر إلى لعبهم) ، فإذا جاز اللعب في المسجد في حضرة الشارع ، ففي غيره بطريق أولى ، ومن قال إن اللعب مطلقا حرام كان ذلك اعترافا منه أن النبي صلى الله عليه وسلم نظر إلى الحرام وأمر بالحرام على حاله ، ومن اختلج ذلك في باطنه كفر بالاتفاق .
وإن قال المنكر : ورد في الخبر : (لا لعب إلا في ثلاث : الرمي والفرس وملاعبة الرجل أهله) ، قلنا : هنا حصر الحاصر للاهتمام ، وذلك لا يدل على تحريم ما سواه كما قال تعالى : (إنما أنت منذر) ، وكلمة (إنما) للحصر ، فقد حصر حاله عليه السلام في الإنذار ، وفي هذا إشارة إلى أن الإنذار مختص به فقط لأنه خاتم النبيين ، وذلك لا يفيد الحصر ، إذ هو عليه السلام مبشر ومبلغ وغير ذلك ، وكذلك هاهنا فقد ذكر هذه الثلاثة بالحصر ، إما لأنها من حيث كمال الدين في الرمي والتوادد والتحابب لأصل ثبوت المودة بين الزوج والزوجة ، والولد الذي بين المتحابين يكون رضيَّ الأخلاق والذي بين المتنافرين يكون سيء الأخلاق ، وقال الله تعالى : (الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه أولئك الذين هداهم الله وأولئك هم أولوا الألباب) ، والقول أعم من أن يكون قرآنا أو حديثا أو حكاية الصالحين أو سماع الأشعار ، ثم مدح الله تعالى مستمع القول ومتبع أحسنه بالهداية والعقل ، فلزم من هذا أن من لم يستمع قول المغني المفهوم من مطلق قوله (يستمعون القول) المشتمل على الحكمة بالصوت الحسن ، لم يكن الله هداهم ولا وهبهم العقل ، ومن كان عاريا عن الهداية ضال ، والضال من أهل النار ، ولأنه تعالى جعل الضلالة صفة للنصارى حيث قال تعالى : (قد ضلوا من قبل وأضلوا كثيرا) ، ثم جعل وصف النصارى الكفر حيث قال : (لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة) فلزم من هذا أن من لم يستمع قول المغني المفهوم من مطلق قوله (يستمعون القول) الباقي على عمومه ، وعدم وجدان ما خصه من الغناء بالصوت الحسن ، أو قول الغناء بالصوت والدف بما رويناه من أحاديث البخاري ومسلم وأحمد من سماع ضرب الدف والغناء من الحبشة ، وحضور الرقص منهم والجويريتان ؛ يكون ضالا كافرا ، كيف وقد اجتمعت الثلاثة في حضرة رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث قالت له صلى الله عليه وسلم أنصارية : (يا رسول الله ، إني نذرت أن أضرب بين يديك بالدف ، فقال لها صلى الله عليه وسلم : إن كنت نذرت فاضربي . فضربت بين يديه وغنت وقالت : طلع البدر علينا ، من ثنيات الوداع ، وجب الشكر علينا ، ما دعا لله داع) ، فقد سمع النبي صلى الله عليه وسلم قول المرأة بالصوت والغناء وضرب الدف ، فمن قال إن حضور السماع وحضور ضرب الدف وحضور الرقص حرام قال إن النبي صلى الله عليه وسلم فعل الحرام وأمر بالحرام ، ومن اختلج ذلك في باطنه كفر بالاتفاق ، ولا خلاف أن النذر لا ينعقد بالحرام ، فحينئذ دل ما ذكرنا من الأحاديث والآيات على إباحة السماع بالغناء وضرب الدف والرقص ، ومما يؤيد جواز الرقص ما رويناه في مسند أحمد بن حنبل عن علي كرم الله وجهه قال : (أتيت النبي صلى الله عليه وسلم أنا وجعفر وزيد ، قال ، فقال لزيد : أنت مولاي ، فحجل ، ثم قال لجعفر : أنت أشبهت خلقي وخلقي ، فحجل ، ثم قال لي : أنت مني ، فحجلت) ، والحجل رقص خاص ، والعام يجرد الخاص ، فإذا جاز نوع من الرقص جاز مطلقا .
فإن قال المنكر : سلمنا جواز الحجل ، فلم قلتم بجواز التكثير منه ؟ قلنا : وذلك أن الشيء المطلق إذا جاز بعضه ولم يرد النهي عن الباقي دل على جوازه ، إذ لو كان البعض الآخر على الحرمة لوجب على النبي صلى الله عليه وسلم بيانه ، لقوله تعالى : (وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس) فلو كان التكثر منه حراما لوجب عليه بيانه ، ولما لم يتعرض لذلك دل على إباحته ، فهذه الأمور التي ذكرناها تتعلق بالكتاب والسنة .
فأما الذي يتعلق بالمنقول فما روى أبو طالب المكي ، وهو ثقة عند أهل الإسلام : أن بعض الصحابة مثل معاوية وغيره أشار إلى وقت خلوة تطيب فيها نفسه ، ولم تزل العلماء مواظبين لأهل ملة السماع إلى زماننا هذا ، كعبدالله بن جعفر ، وقد ذكر الماوردي في الحاوي الكبير كلاما معناه أن معاوية بلغه أن عبدالله بن جعفر مكث على السماع مستغرقا أوقاته فيه ، فقال لعمرو بن العاص : قم بنا إليه فإنه غلب هواه على شرفه ، فأتيا إليه فطرقا عليه ، فأمر جواريه بالسكوت وأذن لهما بالدخول ، فلما استقر معاوية قال : يا عبدالله ، مُرْهن أن يرجعن إلى ما كنّ فيه ، فجعلن يغنّين ومعاوية يحرك رأسه ويهز رجله من فوق السرير ، فقال عمرو بن العاص : جئت تنهاه فهو أحسن حالا منك ، فقال : صه يا عمرو ، إن الكريم لطروب ، ومعاوية من كبار الصحابة وكاتب وحي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخو زوجته أم حبيبة ، ومتابعة الصحابة رضي الله عنهم توجب الاهتداء ، حيث قال صلى الله عليه وسلم : (أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم) فمن امتنع من الاقتداء بهم انتفى في حقه الاهتداء .
وإن قال المنكر : على تقدير صحة هذا القول المنقول عن الصحابة في جميع الصور إلا في السماع ، قلنا : هذا لا يجدي نفعا ، لأنه حينئذ يكون حاله مع الصحابة كحال أبي لهب مع النبي صلى الله عليه وسلم لما قال له : (تقول أنّا نؤمن بقولك يا محمد ، ومن جملة قولك أني لا أؤمن ، فأنا أصدقك في هذا) . فقال له : (هذا لا ينفعك) ، لأن الإيمان المعتبر هو الإيمان بجميع ما أتى به رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يبعّضه ، فكذلك حال متابعة الصحابة في بعض الأحوال إلا في السماع ، فإنه لا ينفعهم ولا يحصل له الاهتداء .
فإن قال المنكر : إن الإمام أبا حنيفة والشيخ أبا البيان حرّما السماع فأنا أتابعه في ذلك . قلنا : يلزمه أولا قول أبي حنيفة على سماع الملاهي المحرمة وسماع الغناء المفصل الملهي ، لا على الغناء المطلق ، وإلا لزمه محذورات .
أحدها : إما الكفر أو الفسق قطعا ، وذلك أن الأحاديث باعتبار وصولها إلينا ثلاثة أنواع ، أحدها : متواتر الأصل ومتواتر الفرع كحديث الصلاة والزكاة فجاحده كافر ، والثاني : حديث آحاد الأصل مشهور الفرع كأحاديث مسلم ، وجاحده فاسق ، والثالث : حديث آحاد الأصل آحاد الفرع كحديث : (أنا من الله والمؤمنون مني) وغير ذلك ، ولا شيء على جاحده ، وما ذكرنا من الأحاديث على إباحة السماع لصوت الدف والغناء والأشعار آحاد الأصل مشهور الفرع ، فإن أنكر هذه الأحاديث وجحدها فسق ، وإن رجّح قول أبي حنيفة ترجيحا له على فعل النبي صلى الله عليه وسلم كفر بالاتفاق .
ثانيها : يلزمه ترك ما اشترط في صحة العدالة واختيار ما لا يشترط فيه ذلك ، وذلك لأن أخذ الفقه من كتب الفقه لا يشترط في كتب الفقه عدالة الكاتب ولا عدالة الراوي ، فجاز أن الكاتب في النسخة الأولى أو الثانية زاد شيئا أو نقص ، فإذا لا يعتمد على ذلك جزما بخلاف الأحاديث النبوية ، فإنه يشترط في صحة الرواية العدالة ، ومن اختار قولا لم يشترط في صحته العدالة كان سفيها ، إذ السفيه هو من لا يختار الأصلح لدينه ودنياه ، فالسفيه في وصف المنافقين حيث قال تعالى في حقهم : (ألا إنهم هم السفهاء) ، والمنافق في الدرك الأسفل من النار ، فيلزم من هذا أن من اختار قولا منقولا عن غير النبي ولم يشترط في نقله العدالة واعتقد فيه وترك قولا منقولا عن النبي صلى الله عليه وسلم وأعرض عنه كان مأواه الدرك الأسفل من النار ، فإذا يلزم أن من حرم السماع بقول غير النبي صلى الله عليه وسلم وترك فعل النبي صلى الله عليه وسلم وقوله كان مثواه النار .
الرد على استدلالات المنكرين
واستدلوا بقوله تعالى : (وما كان صلاتهم عند البيت إلا مكاء وتصدية) ، فالمكاء : الصفير ، والتصدية : هو ضرب الراحة بالأخرى فيخرج منهما صوت ، قلنا : هذا الاستدلال فاسد ، فإنه منعهم من المكاء والتصدية عند البيت ، ولا يلزم من منع شيء في حالة محرمة منعه في مقاماتٍ تباين ذلك المحل ، ولهذا يجوز للمرأة في الصلاة ضرب الراحة على ظهر كفها إذا نابها شيء ولا يجوز في غيرها ، ولما كان البيت معظما والطواف حوله محل صلاة منعهم عن ذلك ، وأيضا قال : (وما كان صلاتهم عند البيت) ، وما قال : (وما كان سماعهم عند البيت) ، فإذا لا يلزم من منع التصدية حول البيت منعه في سائر المواضع .
واستدلوا أيضا بقوله تعالى : (ومن الناس من يشتري لهو الحديث) ، ولهو الحديث هو الغناء ، قلنا : يفهم من قوله : (لهو الحديث) اللهو ، ويجوز سماع حق الحديث سواء كان قرآنا أو شعرا أو غير ذلك ، فقد ذكرنا أحاديث صحيحة دالة على جواز سماع الدف والغناء ، فقد ورد إنه من الشعر لحكمة ، فدل هذا النص على أن لهو الحديث مختص بالسماع المضل الملهي عن الحق والعبادة ، وما يبعد العبد عن الحق ، وما لم يكن كذلك فهو باق على الإباحة ، وايضا إذا ورد نص يقبل العموم وجب أولا طلب المخصص ، فإن وجدنا فذاك ، وإلا يحمل على العموم كما ورد في الخبر : (احثوا في وجوه المداحين التراب) ثم ورد أنه مدح النبي صلى الله عليه وسلم فأثاب وأثنى عليه ، قال كعب بن زهير : بانت سعاد فقلبي اليوم متبول ، فألقى إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم بردته ، فوجب حمل قوله : (احثوا في وجوه المداحين التراب) على مدح الكذب والفسق للفساق ، فهكذا هنا وجب حمل لهو الحديث على الكذب والملاهي ، وما لم يكن كذلك فهو جائز قطعا .
فإن قال المنكر : سماع الفقراء مباح ، قلنا : لا يحل لأحد أن يحلل أو يحرم في الشرع ما لم ينص الشارع عليه ، لما ورد في الخبر : (الحلال بين والحرام بين ، وبينهما أمور مشتبهات) ، وقال الله تعالى : (ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام لتفتروا على الله الكذب) ، فمن قال إن السماع حرام فقد حرم في الشرع ما لم يرد النص به ، إذ لم يرد في كتاب الله ولا في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم نص بتحريم السماع والرقص ، ومن حرم في الشرع ما ليس بمحرم فيه افترى على الله كذبا ، ومن افترى على الله شيئا كفر بالإجماع ، وأيضا أن سماع العوام ورقصهم يشبه سماع الحبشة ورقصهم بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولا خلاف في إباحة ذلك للعوام ، وأيضا أن حركاتهم يشبه تفرجاتهم في البساتين ، ولا خلاف في إباحة ذلك ، وكذلك أيضا حركاتهم في السماع ، وورد في الخبر : (من تشبه بقوم فهو منهم) ، وأصحاب الحق المحض كبعض الصحابة وأولياء الله تعالى كالجنيد وغيره تحركوا في السماع كما هو منقول عنهم في كتب الرقائق ، فإن تحرك عامي في السماع متشبها بهم طالبا من بركاتهم كان منهم ، وقد ورد في الخبر : (هم القوم لا يشقى بهم جليسهم) .
فإن قال المنكر : إذا تواجد شخص على محبة إنسان أو صورة إنسان كان حراما ، قلنا : قد ورد في الخبر : (والذي نفسي بيده لن تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا ولن تؤمنوا حتى تحابوا ، ألا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم ؟ أفشوا السلام بينكم) ، وفي رواية : (تهادوا) ، وفي الخبر أيضا : (ينادي الله قوما يوم القيامة : أين المتحابون لجلالي ؟ فتُنصب لهم منابر من نور يغبطهم النبيون والشهداء) ، فإذا تحابب شخصان لله تعالى وتحرك أحدهما على محبة الآخر لله تعالى كان ذلك مباحا إذا لم يعرف بالباطل .
فإن قال المنكر : لا يتحرك العامي إلا باللعب والباطل ، ومثل هذا اللعب حرام . قلنا : ورد في الخبر : (إذا برز من أخيك كلام فلا تحمله على محمل السوء وأنت تجد له محملا حسنا) ، فإذا رأينا مؤمنا موحدا ، عاميا كان أو غيره ، متحركا في السماع ، ولم يعرف بالباطل ، وجب حمل فعله على الحق ، فإن كان المظنون به كما قلنا فذاك وإلا فأمر اعتقاده إلى الله تعالى لا إلى الناظر إليه .
فإن قال : سلمنا جواز ضرب الدف من غير صنوج ، فإن دف العرب كان كذلك ، ولكن لا نسلم جواز ضرب الدف بالصنوج ، قلنا : لم يرد شيء لا بالتحريم ولا بالكراهة ، فبقي على الإباحة ، فإنْ ضُمَّ كلام الاستماع إلى مباح سُمع صار الكل مباحا إلا أن تدل قرينة على المنع من الجمع بينهما بالتحريم كزواج الأختين ، فإن زواج كل واحدة على انفرادها مباح والجمع بينهما حرام ، وأما القصب الفارسي فلم يرد فيه شيء ، فهو باق على إباحته ، وأما المزمار فحرام لأنه ورد في الخبر أنه سمع صوت المزمار فَسَدَّ أذنيه .
وأيضا يلزم المنكر للرقص والسماع وضرب الدف والغناء حرب الله ، ومحاربة الله تعالى كفر بالاتفاق ، وذلك أنه ورد في الخبر الصحيح : (من عادى لي وليا فقد بارزني بالمحاربة) ، ولا خلاف بين الأمة المحمدية في وجدان الأولياء في المحمديين ، واتفق أهل جميع الأقطار على صحة ولاية الجنيد والشبلي ومعروف الكرخي وعبدالله بن خفيف وغيرهم ممن هم مذكورون في رسالة القشيري عند ذكره الأولياء وغير ذلك ، وقد صح عندهم في سيرهم أنهم تواجدوا في السماع ورقصوا لرفض ما سوى الله عن قلوبهم ، فمن حرم السماع مطلقا فكأنه قال : إن هؤلاء فعلوا حراما ، ومن نسبهم إلى حرام ومباشرة الفعل الحرام عاداهم قولا واعتقادا ، ومن عاداهم بارز الحق تعالى ، ومن بارز الحق تعالى كفر بالاتفاق ، (فقد باء بغضب من الله ومأواهم جهنم وبئس المصير) .
المعاني المصاحبة للسماع وبعض أسراره
فإذا ثبت بما ذكرناه من التقريرات والدلائل والأحاديث أن السماع مباح مطلقا ، وأن منكره إما كافر أو فاسق ، وهو مستحب للمريدين واجب لأولياء الله تعالى بالنسبة إلى مقاماتهم ، إذ هم المجردون عما سوى الله إلى الله ، كما قال الله تعالى : (يريدون وجهه) ، وكلما وجدوا شيئا من الصور حملوه على المعاني الغيبية ، كما قال عليه السلام في أسيد بن حضير ، قال : (يا رسول الله ، كنت أقرأ البارحة سورة البقرة ، فإذا فوق رأسي سحابة فيها مصابيح) ، قال عليه السلام : (تلك السكينة) ، فكذلك أولياء الله تعالى يحملون الصور على المعاني لترتيبهم مراتب الصور ، وسيرهم في مراتب المعاني .
فالدف عندهم إشارة إلى دائرة الأكوان ، والجلدة الراكبة عليه إشارة إلى الوجود المطلق ، والضرب الوارد على الدف إشارة إلى ورود الواردات الإلهية من باطن البطون إلى الوجود المطلق لتحويل الأشياء من الباطن إلى الظاهر ، والجلاجل الخمسة إشارة إلى المراتب النبوية والمراتب الولائية والمراتب الرسالية والمراتب الخلافية والمراتب الإمامية ، وصوتها إشارة إلى ظهور التجليات الإلهية والعلم الإلهي بواسطة هذه المراتب في قلوب الأولياء وأهل الكمال ، ونَفَسَ المغني إشارة إلى هبات الحق تعالى كما هو محرك الأشياء وموجدها ومغنيها ، وصوت المغني إشارة إلى الحق الوارد منه في باطن البطون ، وإشارة إلى مراتب الأرواح والقلوب والأسرار ، والقصب إشارة إلى الذات الإنسانية ، والأثقاب التسعة إشارة إلى منافذه في الظاهر وهي تسعة: العينان والأذنان والمنخران والفم والقبل والدبر ، وتسعة أثقاب أخرى مقلوبة وهي : القلب والعقل والروح والنفس والسر والجوهر الإنساني واللطيفة الزاكية والفؤاد والشغاف ، والنفس النافذ في القصب إشارة إلى نفاذ نور الله تعالى في قصب ذات الإنسان ، فتحركهم للسماع إشارة إلى تذكر طور الحقيقة الإنسانية في مقام الخطاب الأزلي في وقت (ألست بربكم) ، واضطروا إلى نزوع السر عن قفص الجسم ورجومه إلى الوطن الحقيقي حيث قال : (حب الوطن من الإيمان) ، أي وطن الأرواح الذي أوجد الروح منه كما قال تعالى : (ونفخت فيه من روحي) ، والرقص إشارة إلى جولان الروح حول دائرة الموجودات لقبول التجليات والتنزلات ، وهذا حال العارف ، والحجل إشارة إلى وقوف الروح وسره ووجوده وجولان نظره وفكره ونفوذه في مراتب الموجودات ، وهذا حال المحقق ، فطَفْرُهُ إلى فوق : إشارة إلى انجذابه من المقام الإنساني إلى المقام الأحدي ، واكتسابه بواسطة الكائنات آثارا روحانية وأمداد نور الله تعالى ، فإذا خرج روحه عن الحجاب فوصل إلى مراتب الصواب كشف رأسه ، فإذا تجرد عما سوى الله واتصل إلى الله خلع ثيابه ، فإذا كان المغني صاحب حال ومقام ألقى إليه ثوبه ، وإن لم يكن كذلك فإلقاؤه إليه ظلم ، لأن ثوب صاحب الحال صورة حاله ، ولا يستحق قبول حاله إلا من هو في رتبته ، فإن ارتقى إلى مقام علوي والمغني يتكلم في مقام سفلي ألقى إليه بيتا مناسبا لحاله ، فإن أشكل عليه المغني ووقف عليه حاله أخذ غيره وحال معه ليجمع حاله بحاله وينحل عقدته ، فإذا عطش وطلب شرب الماء دل على أنه انقهر ، لأن مقام الروح مقام الصفاء وغذاؤه من الأنوار ، فإذا عطش دل على أنه رجع إلى مقام الجسد ، ومقام الروح وحال الروح التغذي بالغيب ولا يحتاج إلى الظاهر ، ومقام الجسد التغذي بالصورة ، فعند رجوعه من الغيب إلى الشهادة يطلب الماء وذلك دليله على النقص .
الدلالة على شرف السماع
وأما المعنى المعقول الدال على شرف السماع فوجوه ذلك تدل على أن الأحوال اللاحقه قسمان : حركة وسكون ، فالحركة صفة الأرواح والأسرار ، والسكون صفة الأجساد ، والصورة الكثيفة والحرارة والتلطف من لوازم الحركة ، والجمود والتغيير من لوازم السكون ، ولهذا إذا بقي الماء في حوضه -ولو كان كثيرا - يتغير بمرور الزمان ، وإن كان جاريا قليلا لم يتغير ، فكذلك إذا أثّر الصوت الموجود في الباطن حرك الروح إلى طلب الارتقاء ، فيتحرك بحركة الروح فتحصل في وجوده الحرارة ، فتنحل فضلات وجوده وتظهر في قلبه آثار مشهودة .
وثانيها : الغذاء الحسي يقوي الجسد ، وحصول ذلك بمباشرة الغذاء ، وغذاء الروح يقوي القلب والسر وذلك بمباشرة آلات استنزال النور والحياة من العالم الغيبي ، وهو تحريك الروح وسماع المعاني الغريبة من الأشعار الرقيقة ، وترك التعلقات الكونية والانجذاب إلى المنازل الروحانية ، وآلة حضور هذه الأمور اجتماع الإخوان وطلب المدد من الرحمن .
وثالثها أن السماع يجرد الشخص عن الأمور الظاهرة ويهيئه إلى قبول الأنوار والأسرار الباطنة ، فكلما زاد وجده في السماع زاد سيره وطيره في عالم الأرواح ، وعند كثرة ازدياده يرق قلبه ويصل من آثار فيض الله تعالى وتجلياته ، فيحصل له مقام الوصول من غير رياضة وجذبة .
ورابعها : أن الصوت نافذ من الظاهر إلى الباطن ، ويتصل إلى القلب فينتقل القلب والروح بواسطة اختلاف النغمات وتعدد المعاني الواردة على الروح من مرآة الوجود ، والقلب يُتبِع الجسدَ الروحَ في الحركة ، فيتجرد عن التوهمات ، فينفِذ في القوى الجسدية المعانيَ المنفصلةَ في الروح ، فينجذب الجسد إلى مقام الروح ويترفع الحجاب فيشاهد تلك المعاني والحقائق دفعة ، وهذا مقام الكمال العياني الذي لا يحصل بكثير من أنواع الرياضات .
وخامسها : أن السماع سكون في الباطن وحركة في الظاهر ، وما سواه من العبادات غير الصوم حركة في الظاهر، والحركة الظاهرة تناسب الكثرة ، فكلما كثرت الحركة في السماع قوي السكون في القلب ، فتجرد عما سوى الله وظهر فيه الوجد ، وانجذب إلى المقام الأحدي ، فيشاهد بنظر الشوق من العوالم الإلهية ما لا يحيط به العقول والأفهام ، وأما الأركان الثلاثة : الصلاة والحج والشهادة فإنها وإن كانت حركة في الظاهر ولكن قد يظهر بين الحركتين سكون روحي وجهي يؤدي صاحبه إلى [ ………. ] ، وأما الصوم فإنه سكون الظاهر والباطن ، ويخرج من بين السكونين حركة من الله وبالله ولله ، وذلك الإطلاق التام والحكم العام ، فإذا انتشر هذا السماع ومراتبه المشتملة على حقائق الأركان كالصلاة والحج والشهادتين من مراتب ظاهرة ، والصوم والزكاة من جهة باطنه ؛ حصل للإنسان في السماع من الكمالات ما لا يحصل من المواظبة على ما سواه من العبادات .
وسادسها : أن السماع يشتمل على الأحوال الكمالية التي هي نهايات المقامات فيه ، وسينه تشير إلى السم يعني أن سر السماع كالسم يموت الشخص به عن التعلقات الغريبة ، ويوصله إلى المقامات الغيبية ، وميمه وعينه تشير إلى المعية الذاتية الإلهية كما قال عليه السلام : (لي مع الله وقت) ، وسينه وميمه وألفه تشعر أن صاحب السماع يصير علويا ويخرج من المراتب السفلية ، وألفه وميمه تشير إلى أم ليعلم من ذلك أن صاحب السماع أم كل من سواه ، فيأخذ المدد من الغيب بروحانيته ، ويفيض على ما سواه من مراتب الموجودات الحياةَ بها ، والعلم المشير إليه كلمة (ما) ، وعينه وميمه تشير إلى (عَمّ) ، أي : عم صاحب السماع بروحانيته العلويات ، وبحياة قلبه السفليات ، وغير ذلك من المراتب الغيبية ، فإن صاحب السماع يرتقي إلى المقامات الإلهية التي لا يصل إليها بألف اجتهاد وأكمل رياضات ، وكذلك فوائد السماع تبلغ إلى نهايةِ فائدةٍ يجدُها صاحب الذوق والشهود ، ونختم الكتاب بحمد الله تعالى ، وبلغنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : (إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم) ، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليما ، والحمد لله رب العالمين ، يا الله يا رحمن يا رحيم ، يا حي يا قيوم .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق