ماذا عن “طاعة وليّ الأمر” عند الجاميّة المدخليّة؟!
من الطبيعيّ جدًّا أن يكون للجاميّة ما يميّزها عن غيرها وما يجعلها تحظى بهذا القرب والقبول والتبنّي على صعيد الموقف والممارسة.
وهذه المواقف والممارسات تنبثق بالضرورة من هويّة فكريّة ورؤى يتبناها هذا التيّار بشكل مختلف عن غيرها.
الجاميّة والمداخلة ينتمون إلى التيّار السّلفي، فهم عاشوا في كنف هذه المدرسة وترعرعوا في أحضانها، غير أنّه من الظّلم الكبير الاعتقاد بأنّهم هم السّلفيّة وإطلاق الحكم على التيّار كلّه من خلالهم.
فالسّلفيّة اليوم ليست جماعةً واحدة ولا تيّارًا منسجمًا تمامًا بل هي فكرة جامعةٌ تندرج تحتها جماعات مختلفةٌ فيما بينها اختلافات تصل حدّ التناقض التّام في المواقف والرؤى من الواقع والوقائع رغم أنّها تصدر عن أفكار كليّة جامعة في قضايا الاعتقاد والفقه.
والجاميّة المدخليّة تتبنّى النهج السلفي في الاعتقاد والفقه، وتعتمد في مواقفها على المرجعيّات ذاتها التي يعتمدها التيّار السّلفي عمومًا ابتداء من الإمام ابن حنبل مرورًا بشيخ الإسلام ابن تيمية وصولًا إلى الشّيخ محمّد بن عبد الوهاب.
إنَّ طاعة وليّ الأمر قضيّة فقهيّة زخرت بها كتب التراث الإسلامي، لكنها عند الجاميّة المدخليّة تحضر بطريقة وصورة مختلفة، فهي عندهم القضيّة المركزيّة والأصل الفكريّ الأعظم والمُسلّمة التي لا تقبلُ نقاشًا والبديهيّة التي لا ينبغي أن تغيب عن ذهن أبناء التيّار والفكرة التي يتوجّب أن تحضر في طيّات كلّ حديث مهما كان.
وقد عبّر ربيع بن هادي المدخلي عن هذا المعنى في قصيدة ألقاها بين يدي وزير الدّاخليّة السّعوديّ آنذاك نايف بن عبد العزيز قال فيها:
سِر يا ابنَ من كانَ للتّوحيد منتصرًا
وهازمًا كلّ طاغوتٍ وشيطانِ
عبدالعزيز الذي تُروى مآثره
بين الأعارب عدنانٍ و قحطانِ
وأصبح النّاس في خيرٍ وعافيةٍ
على صراطٍ سويٍّ مالَه ثانِ
أمّا الملوك فهم آل السعود، لهم
سمعٌ وطاعتُهم حتمٌ بقرآنِ
ولا يحلّ لشخصٍ خلعُ بيعتِهم
ومن يَخُن فعليه إثم خوّانِ
أبا سعودٍ أطال الله عمركم
في نصرة الدّين والملهوف والعاني
وهذه الطّاعة عند المدخليّة طاعةٌ مطلقةٌ، يرفض معها أيّ نوع من الخروج أو حتّى الإنكار على الحاكم منعًا لإثارة الفتن، أيًّا كان حجم الذنب الذي يفعله هذا الحاكم ومهما كانت درجة الجهر به.
وقد عبّر عن هذا المعنى بكلّ وضوحٍ فجّ الشّيخ الجاميّ عبد العزيز الريّس عندما قال في مقطع تداولته وسائل التواصل الاجتماعي ضمن درس في المسجد النبويّ في المدينة المنوّرة:
“لا يجوزُ الخروج على الحاكم تحت أيّ ظرفٍ من الظروف، حتّى لو خرج الحاكم على الهواء مباشرة يزني ويشرب الخمر لمدة نصف ساعة يوميًا فلا يجوز الخروج عليه أو الإنكار عليه في العلن”
بل وصل الأمر بهم إلى أبعد من ذلك حيث أفتى الشّيخ المدخلي المصري طلعت زهران عام 2014م بحرمة الانتخابات الرئاسيّة وأنّها غير جائزة شرعًا وعلى الرّئيس أن يستمرّ في منصبه إلى حين وفاته أو يستقيل راغبًا مختارًا.
ثمّ أطلق فتوى أشدّ عجبًا من الأولى حين أعلن وجوب تزوير الانتخابات الرئاسيّة ليبقى الرّئيس في الحكم وأنَّ الرّئيس حسني مبارك كان مثابًا على ما كان يقوم به من تزوير في الانتخابات!
فوليّ الأمر ويقصد به عن المدخليّة الجاميّة الحاكم مهما كانت رتبته سواء ملكًا أو وليًّا للعهد أو أميرًا أو وزيرًا أو مسؤولًا حكوميًّا له هالةٌ من القداسة يُمنع على كلّ أحد أن يقترب منها أو ينكر عليها أو ينتقد أيّ سلوكٍ بشكل واضح من أفعالها أو تصرّفاتها.
بعد احتلال العراق عام 2003م، ظهر الشيخ عبد المحسن العبيكان على قناة mbc في فتوى شهيرة تنصّ على أنَّ الحاكم الأمريكيّ في العراق بول بريمر هو وليّ أمر شرعيّ، واستدلّ على ذلك بأنَّ يوسف عليه الصّلاة والسّلام أقرّ بولاية العزيز على مصر وكان عزيز مصر حينها كافرًا!!
ليكون ممّا تفرّد به “الجاميّة المداخلة” عن غيرهم في قضيّة طاعة وليّ الأمر هو دعوتهم إلى طاعة وليّ الأمر الكافر، وقد نصّ على ذلك الشيخ المدخلي بندر العتيبي ـ وهو من تلاميذ العبيكان ـ في رسالة أسماها “رسالة الحكم بغير ما أنزل الله مناقشة تأصيلية علمية هادئة” حيث يقول: ” فما قرره أهل العلم مِن الكفر الأكبر، ووقع فيه الحاكم؛ فإنه لا يلزم منه جواز الخروج عليه ولو أقيمت عليه الحجّة، بل لا بد من النظر في الشروط الأخرى المبيحة للخروج”.
وهذا يقطع الطريق على كلّ من يفكّر بالاقتراب من أيّ نظام حاكمٍ سواء كان كافرًا أو فاسدًا أو ظالمًا أو غير ذلك فلا يجوز بحال الخروج عليه أو حتّى انتقاده بذريعة عدم إثارة الفتن!
” المتغلّب تجبُ طاعتُه حقنًا للدماء، فإذا تغلّب آخر وجبت طاعة المتغلّب الجديد” هكذا نصّ الشيخ ربيع بن هادي المدخلي في كتابه شرح أصول السنّة.
وهذه القاعدة في وجوب طاعة الحاكم الذي يتولّى الحكم بالقوة وحرمة الخروج عليه ثمّ الانتقال أوتوماتيكيًّا للطاعة المطلقة لمن يقوم بخلع الأول أو الانقلاب عليه أو إزاحته بالقوّة؛ هي أصلٌ لا يحيدُ عنه أحدٌ من المداخلة الجاميّة من حيث التّنظير والتّأصيل له.
لكنّهم في الواقع طالما خالفوه في مواطن عديدة بشكلٍ صارخٍ، ومن أمثلة ذلك “مع التّأكيد على أنَّ طرح الأمثلة إنّما هو من وجهة نظرهم هم ولا يقتضي ذلك أنني أتبنّى أيّ شيءٍ منها فكريًّا أو شرعيًّا”:
بعد احتلال صدّام حسين للكويت فإنَّ مقتضى فتواهم وأصلهم هذا أن يعلنوا الطاعة له بوصفه المتغلّب الجديد كما سمّاه ربيع المدخليّ، لكنّهم خالفوا أنفسهم وأفتوا بجواز استقدام القوات الأمريكيّة والاستعانة بها في قتال صدّام حسين!
وكذلك بعد قيام حركة حماس في قطاع غزّة بالحسم العسكريّ؛ فإنَّ مقتضى توصيف المداخلة لهم بالمتغلّب الجديد أن يعلنوا وجوب طاعتهم وعدم جواز الخروج عليهم، بينما نراهم أعلنوا مساندتهم المطلقة للرّئيس محمود عبّاس بوصفه وليّ الأمر وشنّعوا على حماس صنيعها وفعلها.
وكذلكَ فإنَّ من الأمثلة الصّارخة لتناقضهم مع أصلهم هذا حملهم السّلاح وقتالهم إلى جانب حفتر في ليبيا في مواجهة حكومة الوفاق التي ينبغي أن يكون توصيفها عندهم بناء على أصولهم أنّها “وليّ الأمر الشرعي” الذي تجب طاعته ويحرم الخروج عليه.
كانت هذه بعض الأمثلة التي تؤكّد أنَّ مركزيّة طاعة وليّ الأمر عند الجاميّة المدخليّة ما هي سوى ستار شرعيّ لتنفيذ القرارات التي تحاك وتطبخ في غرف المخابرات واجتماعات أجهزة الأمن مع السلطات السياسيّة الاستبداديّة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق