القرآن وحده لا يكفي
يقول الله عزّ وجلّ في كتابه: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ} (النحل: 89). أفلا نكتفي إذن بالقرآن لنعرف أمور ديننا ونترك ما سواه من "تراث" خلّفه لنا التاريخ، بما في ذلك السنة النبوية؟ أليس هذا هو الحلّ للتخلّص من الخلافات الكثيرة؟ فالقرآن كما وصفه الله عزّ وجلّ: {لَّا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ ۖ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} (فصلت: 42). فلم يدخله التحريف ولا النقص، ومن ثم يمكننا الاكتفاء به ولسنا بحاجة إلى مرويّات السنة الكثيرة كي نفهم دين الله ونعمل به. هكذا يقولون.
سأجيب في هذه التدوينة الموجزة عن هذا السؤال: لماذا يستحيل الاكتفاء بالقرآن الكريم؟ حيث سأبيّن استحالة ذلك علميّا استنادا إلى ثلاثة مستويات من النقاش تكفي العقلاء في كشف تهافت هذه الدعوى.
المستوى الأول: كونهم عالة على التراث
إنّ هؤلاء الذين يدّعون الاكتفاء بالقرآن، هم في الواقع لا يكتفون به، ولا يمكنهم فهم ما فيه من دون استخدام أدوات أخرى نقلها لنا سلفنا من علماء الأمة عبر العصور، وهم يستخدمونها فعلا في كل خطاب يسطرونه. وأول هذه الأدوات علوم اللغة العربية؛ فمن أين لهم أن يعرفوا معاني المفردات بل والتراكيب النحوية وأثرها على الدلالة والمعاني البلاغية لولا ذلك التراث الضخم الذي نقله لنا علماء الأمة عبر التاريخ؟
ثم كيف سيعرفون دلالة الكثير من الآيات من دون أن يعرفوا أسباب نزولها؟ وهذه الأسباب موجودة في روايات السنة التي نقلها لنا علماء الأمة فيما يسمّونه هم بـ"التراث"! بل إنّ النصّ القرآنيّ نفسه مخدوم عبر العصور من علماء الأمة، ولولا هذه الخدمة "التراثية" لأصبح نصّا مستغلقا على الفهم؛ فكل علوم القراءات وكيفية تلاوة الكتاب وتفسيره وشكْلِ الأحرف وغير ذلك.. كلّ ذلك ممّا خلّفه لنا علماء الأمة في تراثنا الإسلامي الغنيّ.
تُعتبر دعوى الاكتفاء بالقرآن أيضا دعوى غير منطقية ولا يمكن تطبيقها؛ ذلك أنّ النصّ القرآنيّ المجرّد لا يُسعفنا في معرفة الكثير من أحكام هذا الدين وأسسه، فهو يأمرنا بإقامة عبادات وشرائع لم يبيّن لنا كيفية أدائها. |
ولو سلبْنا هؤلاء المطالبين بالاكتفاء بالقرآن كلَّ ما ذكرناه من مرويّات السنة، ومن ضمنها أسباب النزول، مع القواميس والمعاجم وكتب النحو واللغة والبلاغة والحديث والتفسير وسائر علوم القرآن، وأزلنا النقاط والحركات عن المصاحف، وغير ذلك ممّا خلّفه علماء الأمة من تراثٍ لخدمة كتاب الله؛ لبقيَ القرآن أمامهم نصّا مستغلقا على الفهم، لا يمكنهم إعراب ألفاظه وفهمها فضلا عن التعامل معه كرسالة وخطاب يصوغ حياتهم. فهُم في الواقع عالةٌ على التراث الذي يطالبون بالاستغناء عنه، ولا يمكنهم فهم القرآن من دونه!
المستوى الثاني: القرآن يأمرنا بما لم يفصّل كيفيّة أدائه
تُعتبر دعوى الاكتفاء بالقرآن أيضا دعوى غير منطقية ولا يمكن تطبيقها؛ ذلك أنّ النصّ القرآنيّ المجرّد لا يُسعفنا في معرفة الكثير من أحكام هذا الدين وأسسه، فهو يأمرنا بإقامة عبادات وشرائع لم يبيّن لنا كيفية أدائها.
فقد قال لنا الله في كتابه: {وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة واركعوا مع الراكعين}. فما هي الصلاة التي أمر بها الله في القرآن؟ وما هذه الصلوات الخمس التي نصلّيها كل يوم وشروطُها وأركانُها غير موجودة في القرآن؟ وما هي الزكاة المأمور بها في القرآن؟ ومن أين أتت كل تلك الأحكام التفصيلية في الزكاة إلى أن أصبحت نظاما اجتماعيا يستخلص إعجازَه كبارُ المتخصّصين في الاقتصاد؟
وقال لنا سبحانه في كتابه: {كُتب عليكم الصيام}. فكيف سنطبّق هذا الأمر الإلهي وأحكامُه ليست مفصّلة في القرآن؟ وقال لنا عزّ وجلّ {ولله على الناس حجّ البيت من استطاع إليه سبيلا}. فكيف سنطبّق الأمر بالحج وأحكامُه ليست مفصّلة كلّها في القرآن؟ هذا في أركان الإسلام، فكيف إذا علمنا أنّ الكثير من الأحكام الأخرى التي يمارسها المسلمون يوميا في حياتهم ومعاملاتهم، والتي لا يمكنهم القيام بدينهم من دون معرفتها والعمل بها؛ غير مفصّلة في القرآن وبيانُها في السنة؟
بهذا يتّضح أنّ هناك الكثير من أسس الدين التي أمر بها كتابُ الله بينما لا نجد تفصيلها فيه، فكيف يمكننا الاكتفاء به كما يدّعي هؤلاء؟ وكيف يأمرنا الله بشيء دون أن يفصّل لنا كيفية أدائه؟! لا مناص إذن من الإقرار بضرورة التزام السنة.
المستوى الثالث: القرآن يخبرنا بضرورة التزام السنّة
بالإضافة إلى ما ذكرنا سابقا، فإنّ من يقرأ كتاب الله يعلم تمامًا أنّ فيه آيات واضحة بيّنة ترشدنا إلى ضرورة اتّباع السنة، وإلى أنّ نصوص القرآن لا يمكن فهمها والعمل بها من دون السنة. يقول الله تعالى: {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ ٱلذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} (النحل: 44). والخطاب للرسول صلى الله عليه وسلّم، يقول الإمام البغوي رحمه الله: "أراد بالذكر الوحيَ، وكان النبي صلى الله عليه وسلم مبيِّنًا للوحي، وبيان الكتاب يُطلب من السُنَّة".
"القرآن أحوجُ إلى السنّة من السنّة إلى القرآن". فهي جملة مختصرة قالها التابعي الشهر "مكحول الشامي"؛ تعبّر عن فهم أولئك السلف الأوائل الراسخ والعميق لكتاب الله، وللعلاقة الصحّية الدقيقة بينه وبين السنّة النبوية. |
ماذا يعني إلغاء هذا البيان (السنّة) والقول بأننا لسنا بحاجة إليه؟ يعني ببساطة تكذيب كتاب الله والزعم بأنّ الرسول صلى الله عليه وسلّم لم يبيّن ما أنزل الله إليه للناس! ويعني من جهة أخرى تكذيب الله عزّ وجلّ الذي قال في كتابه {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} (الحجر: 9). فكيف يكون هذا الكتاب محفوظًا إذا ضاع بيانُه الذي بضياعه تندرس معالم هذا الدين؟! ويقول تعالى: {كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِّنكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُم مَّا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ} (البقرة: 151). والآية واضحة في أنّ وظيفة الرسول صلى الله عليه وسلّم ليست مجرّد بلاغ آيات الكتاب وتلاوتها، بل بالإضافة إلى ذلك: التزكية، تعليم الكتاب والحكمة. ولو اقتصرت الآية على قوله تعالى: {ويعلّمكم الكتاب} لكانت حاسمة في أنّه لا يمكن الاكتفاء بالقرآن من دون تعاليم الرسول صلّى الله عليه وسلّم، فهي بيان القرآن. ولكنّ الآية لا تترك لصاحب شبهة مجالا لإنكار وجوب التزام السنة، فقد قال سبحانه: {ويعلّمكم الكتاب والحكمة}، ومهما تأوّلنا المقصود بـ"الحكمة" فالمعنى الواضح أنّها شيء زائد عن مجرّد إبلاغ آيات الكتاب، أي إنّها تعاليم زائدة على ما في كتاب الله، وهو ما اصطلح العلماء على تسميته بالسنّة.
وهذه الآيات واضحة في وجوب اتّباع سنّة الرسول صلى الله عليه وسلّم، ومن هنا يظهر تهافت استدلالهم بقوله تعالى: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ} (النحل: 89) على عدم الحاجة إلى السنة، فالقرآن نفسه يخبرنا ويبيّن لنا أنّكم أيها المسلمون لن تتمكّنوا من فهم كتاب الله كاملا والعمل بما أمر الله فيه إلا باتّباع السنّة التي جاء بها النبيّ صلى الله عليه وسلم، ويكون هذا داخلا في معنى قوله سبحانه {تبيانًا لكلّ شيء}؛ فقد أمرنا بالصلاة والزكاة والصيام والحج وغيرها، وجاءت كيفية القيام بها في سنّة الرسول صلى الله عليه وسلّم، التي أخبرنا عزّ وجلّ في كتابه بضرورة اتّباعها، أي أنّ الكتاب بيّن لنا من أين نعرف تفاصيل أحكام الدين وكيفية أدائها.
والآيات في ضرورة اتّباع سنّة الرسول صلى الله عليه وسلّم كثيرة، كقوله سبحانه: {مَّن يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّـهَ ۖ وَمَن تَوَلَّىٰ فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا} (النساء: 80). وكقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّـهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنكُمْ ۖ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّـهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّـهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ۚ ذَٰلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} (النساء: 59). ولكن ما ذكرته في السابق يكفي لإبراز تهافت دعوى الاكتفاء بالنصّ القرآني.
من هنا نفهم معنى ما رُويَ عن التابعي الشهير مكحول الشامي أنّه قال: "القرآن أحوجُ إلى السنّة من السنّة إلى القرآن". فهي جملة مختصرة تعبّر عن فهم أولئك السلف الأوائل الراسخ والعميق لكتاب الله، وللعلاقة الصحّية الدقيقة بينه وبين السنّة النبوية. فلو أنّ إنسانًا جلس أمام النبيّ صلى الله عليه وسلّم وهو يصلّي ليوثّق كيفية صلاته، وصلاتُه عليه الصلاة والسلام سنّة واجبة الاتباع، فهو القائل: "وصلّوا كما رأيتموني أصلّي" (صحيح البخاري). هل سيحتاج إلى قول الله عزّ وجلّ {وأقيموا الصلاة}؟ بينما لو قرأ مسلم قوله سبحانه {وأقيموا الصلاة}، لاحتاج بالضرورة إلى معرفة كيفية إقامتها من سنّة الرسول صلى الله عليه وسلّم.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق