الاثنين، 30 أكتوبر 2023

حكم العمل الجماعي في الاسلام؟!

 الجَمَاعة الجَمَاعة!

بقلم: محمد عادل فارس

في الحديث عن التزام الجماعة وجدوى العمل الجماعي ومشروعيته وما يتعلق به، أَقسم الحديث إلى ثلاث فقرات:

الأولى: في جدواه ومسوّغاته شرعاً وعقلاً.

والثانية: في عوامل نجاحه، شكلاً ومضموناً.

والثالثة: في أمور تتعلق به، كواجب الدعوة الفردية، وموضوع السرية والجهرية ونحو ذلك.

والآن إلى الفقرة الأولى:

لقد كان خطاب القرآن الكريم للمؤمنين بصيغة الجمع: (وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة)(كُتب عليكم الصيام)(وأتمّوا الحج والعمرة لله)… ونحو ذلك.

فإذا قال قائل: إنه خطاب للمؤمنين نعم وإنما يراد به التكليف الفردي، فلنذكر آيات أخرى وأحاديث نبوية تنُصّ على “الجماعية”:

قال تعالى: (وتعاونوا على البر والتقوى). {سورة المائدة: 2}.

ولا ريب أن الدعوة إلى الله وإقامة شرعه من أفضل البر: (ومَن أحسن قولاً ممن دعا إلى الله وعمل صالحاً وقال: إنني من المسلمين). {سورة فصلت: 33}.

وقال تعالى: (واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرّقوا). {سورة آل عمران: 103}. وهي دعوة إلى التجمع حول كتاب الله ودينه.

وقال سبحانه: (ولتكن منكم أمّة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون). {سورة آل عمران: 104}. وفي تفسير هذه الآية يقول الإمام ابن كثير، وهو من كبار أئمة التفسير: “والمقصود من هذه الآية أن تكون فرقة من هذه الأمة متصدّية لهذا الشأن، وإن كان ذلك واجباً على كل فرد بحسبه“.

ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: “يد الله مع الجماعة“. رواه الترمذي.

ويقول: “فعليك بالجماعة فإنما يأكل الذئب القاصية“. رواه أحمد وأبو داود.

قال العيني في شرح أبي داود: “القاصية” أي الشاة المنفردة عن القطيع، البعيدة عنه.

وإنَّ خبرات الناس وواقعهم يدل على أهمية التعاون والتكتل لا سيما في هذا العصر الذي استحوذت فيه الشركات العابرة للقارات على الاقتصاد، وتمكنت من التحكم في لقمة العيش لمئات الملايين، كما استحوذت المؤسسات الإعلامية الكبرى على التحكم في الرأي العام وتشكيله على مستوى العالم كله.

وطالما ردّدنا الحكمة التي تروى عن معن بن زائدة يخاطب بها أولاده:

 

كونوا جميـعـاً يا بَنِيّ إذا اعتــرى     خَـطْب ولا تتفـــرّقوا آحــادا

تأبى الرماح إذا اجتمعن تكسُّراً     وإذا افترقنَ تكسرتْ أفرادا

 

وإذا تأملنا في النفس البشرية نجد أن فيها خطوطاً متقابلة، منها حب الاستقلال والتفرد، مع حب الاجتماع والاندماج. ففي الوقت الذي يرغب فيه الإنسان أن يفكّر ويتصرف باستقلالية كاملة من غير أي ضغط، ومن غير أي مجاملة للآخرين… نجده يرغب أن يُشبع دافعه الاجتماعي فيكون مقبولاً من المجتمع حوله، فيشاركهم ويشاركونه في الأفراح والأتراح والنشاط السياسي والاقتصادي، ويكون عضواً في نقابةٍ أو نادٍ أو جمعية أو حزب… وهذا يؤدي إلى تشكّل هذه الوحدات الاجتماعية، ثم إلى تأثير هذه الوحدات في سير المجتمع والدولة وتغطيتها على تأثير الأفراد الذين يرغبون عن المشاركة وتغلب عليهم روح الانفراد والاستقلال.

 

 

 

·      والآن ما العوامل التي تؤدي إلى نجاح العمل الجماعي؟

للعمل الجماعي شكل ومضمون، لا بد من مراعاتهما تجنُّباً للخطأ والضعف والزيغ، وتلمّساً للنجاح وتحقيق الثمرة.

فأما الشكل فيتحقق بوجود مجموعة من الأمور:

1- وجود نظام ولوائح، تحدد الواجبات والصلاحيات وطرائق اتخاذ القرار ونحو ذلك من الأمور التي تعني أن يصدر كل قرار في الجماعة عن أهله، وأن تكون المحاسبة والمراجعة مُمْكنتين وسائغتين.

2- الشورى، وذلك حتى لا يستأثر الفرد، أيّاً كانت وظيفته في الجماعة، برأيه. بل يمكنه أن يعرض رأيه، ويقدّم اقتراحه، وينتقد ويصوّب… ثم يجري التشاور ويتّخذ القرار وفق ما ينص عليه النظام واللوائح.

3- تقديم كل فرد وكل وحدة تنظيمية، ما عندهم من جهد وعطاء، بما ينسجم مع قرارات الجماعة وتوجهاتها، وهذا يفتح الباب للمبادرات المبدعة.

4- البيعة والانضباط والسمع والطاعة. وقد يُظنّ أن هذه الأمور خاصة بالتنظيمات الإسلامية، وذلك لورود مفردات: البيعة والسمع والطاعة، في نصوص الكتاب والسنّة، وفي الحقيقة: إنه ما من تنظيم إسلامي أو علماني إلا ويلزم أفراده بهذه الأمور، وإن اختلفت التسميات. ولعل ما يريد العلمانيون أن يأخذوه على المسلمين في ذلك، هو أن يظنوا أن السمع والطاعة تعني أن ينفرد القائد المسلم بتوجيه الأوامر، ويكون الآخرون جنوداً مطيعين. ويؤيّد ظنهم هذا أن يجدوا بعض الحكام وقد رفعوا شعارات إسلامية، ثم استبدوا بآرائهم، واستحوذوا على أموال الشعب ومقدّراته. والإسلام ليس كذلك، فإن السيادة العليا فيه هي لله تعالى، أي لكتاب الله وسنّة رسوله، ثم للشورى وهي مما سنّه الله ورسوله.

 

 

 

مضمون العمل الجماعي:

بتوافر الأمور الأربعة السابقة يتحقق الشكل الصحيح للعمل الجماعي. ولكن ما فائدة ذلك كله إذا لم يتوافر مضمون سليم؟. إن هذا المضمون يدور حول حقيقة أن قوام العمل الجماعي لَبِناتٌ صالحة، وروابط قوية بين هذه اللبنات.

وما دمنا نتكلم عن عمل جماعي إسلامي فسنورد هذه النقاط:

اللبنة الصالحة هي الفرد الذي عَمَرَ الإيمان قلبه، وأورثَه ولاءً واستقامة والتزاماً، وشَفَع ذلك بعلم شرعي يعرف به ما يحل وما يحرُم، وما هو شبهة أو خلاف… وينشأ عن ذلك روح مبادرة كالتي كانت من الهدهد الذي كان سبباً لإيمان بلقيس وقومها.

وأما الرابط القوي بين اللبنات فهو الحب في الله، والشعور بروح الفريق، فينسب الأخُ كلَّ نجاح إلى الجماعة ويفرح له، ويقدّم النصح لإخوانه الذين هم فوقه في المرتبة التنظيمية أو الذين هم دونه، ويتحرر من حب الرئاسة، ويكون على استعداد لتنفيذ ما يُكلَّفُ به، وقد يبدي عذره إذا لم يجد نفسه أهلاً لذلك التكليف، فإن لم يُقبل عذرُه بَذَلَ ما يستطيع، ويكون على استعداد دائم لأن يتنازل عن اجتهاده وقناعته، لما ترتضيه الجماعة، ما دام ذلك في طاعة الله، ثم فيما تواثقت عليه الجماعة من نظام.

وإنه بغير هذا الرابط القوي يكون أفراد التنظيم كالذين وصفهم الله تعالى بأنهم: (تحسبهم جميعاً وقلوبهم شتّى). {سورة الحشر: 14}.

 

 

 

·      والآن نتناول بعض متعلقات هذا العمل.

1- من معزّزات العمل الجماعي الإسلامي أن يعمُرَ الحب في الله قلوبَ العاملين، وأن يعملوا على ما يعمّق هذا الحب، كالتزاور فيما بينهم والتهادي: “تهادَوا تحابُّوا“، من حديث رواه البخاري في الأدب المفرد، وبسطِ العلاقة بين الإخوان بعيداً عن الكلفة والتكلف، وقد أخرج البخاري عن أنس أن عمر بن الخطاب قال: “نُهينا عن التكلف”.

2- الدعوة الفردية بأن يعمل كل أخ على نشر الدعوة وقيمها وغاياتها فيمن حوله من أهلٍ وأصحاب ورواد المسجد… فهذا دليل على ولائه وانتمائه وعمق إيمانه بها.

3- تكوين المجال الحيوي للدعوة، وما ذكرناه من الدعوة الفردية هو أحد دعائم هذا التكوين، ويتبعه ويلازمه تقديم الأسوة الحسنة والسلوك القويم والإحسان إلى المجتمع، ويقويه إلقاء المحاضرات والدروس الخاصة والعامة، ما استطاع إلى ذلك سبيلاً.

4- التزام ما يناسب من سرية وعلنية. والعلنية هي الأصل، وإنما يجنح العاملون إلى السرية بقدر ما يلْقَون من تضييق وعَنَت.

5- الحماسة، وهي  ثمرة طبيعية للإيمان العميق بالفكرة. والحماسة تناسب سن الشباب الذين هم عماد كل جماعة، وإذا خَبَت النفوس من الحماسة فقد ذبلت الدعوة، لكن حكمة الشيوخ مهمة في ضبط الحماسة حتى لا تتحول إلى تهوّر وتصرفات لا تحمد عقباها.

6- التعصب الحزبي الذي ينشئ الخصومة مع الفئات الأخرى لمجرد أن لها تنظيمات مغايرة واجتهادات مغايرة، وكذلك التعصب الفئوي والفصائلي والإقليمي… هذه كلها مقائل للعمل الجماعي الإسلامي.

7- الفُرقة والانشقاق، وهذا يكون ثمرة مُرّة للتمحور حول شخصية من التنظيم ذات كارزمية، ولها رؤى خاصة تريد أن تفرضها على كامل الجماعة وتجمّع حولها الأنصار، وتفسّر الأنظمة بما يخدم هواها… ولا يخفى أن ذلك مقْتَل من مقاتل العمل الجماعي.

8- تحقيق المصالح الشخصية أو الفئوية، على حساب المصلحة العامة للجماعة، أو على حساب القيم التي قامت عليها. وهذا يُضعف كيان الجماعة وقد يودي بها.

9- وإن الجماعة هي في خدمة الحق الذي نزل به كتاب الله تعالى، وحيثما وُجد انحراف عن الحق فليست هي الجماعة التي أمر الشارع بالعمل معها. والانحراف الذي نعنيه ليس هو مجرد أن تتبنّى الجماعة رأياً أو اجتهاداً يغاير اجتهاداً إسلامياً آخر، إنما يعني أن يغاير حكماً إسلامياً مجمَعاً عليه أو تغاير ما عليه جمهور علماء الأمة.

عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: “الجماعة ما وافق الحق وإن كنتَ وحدك”. رواه الترمذي، وصححه الألباني.

وعن الفضيل بن عياض رحمه الله قال: “عليك بطريق الهدى وإنْ قلّ السالكون، واجتنب طريق الردى وإن كثُر الهالكون”. ذكره الشاطبي في الاعتصام، والنووي في المجموع.

10- وأما الجماعة التي ينبغي اتباعها فهذا يعود إلى اجتهاد الفرد المسلم، فما وجده من الجماعات أنه الأقرب إلى الحق والصواب والرشاد فليتّبعه، ثم لا يتعصب له بحيث يسيء الظن بالجماعات الإسلامية الأخرى، أو يعاديها، أو ينقم عليها، أو ينظر إليها نظرة استعلاء… بل يأخذ بالحكمة التي تُنسب إلى الشيخ محمد رشيد رضا: “نتعاون فيما اتفقنا عليه، ويعذُر بعضُنا بعضاً فيما اختلفنا فيه”.

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق