سيد قطب وتكفير الناس
1 - الكذب الكبير والبهتان العظيم
، الذي يصدر من خصوم سيّد قطب ، رحمه الله ‘ قبل كل شيء ، هو اتّهامه بتكفير
المسلمين !
ولا شك أنّ السبب والأساس الرئيس لهذا التقوّل ، هو : الجهل بالإسلام ،
وتدني مستوى الفهم - من قِبَل المسلمين الذين لم يرتقوا
إلى مستوى الشهيد ، لا فكراً ولا فهماً
- وإلّا فهو مكيدة ومؤامرة خبيثة ،
من قِبَل أعداء الإسلام ، الذين يتستّرون
خلف أولئك المسلمين الجاهلين !
وهذه المكيدة والمؤامرة من خصوم الإسلام ، هي لضرب الإسلام ، وإبعاد
المسلمين عن الفهم الراقي الصحيح الحقيقي للإسلام ، والذي بيّنه الشهيد سيّد قطب
في كتاباته !
ولهذا يقومون بمحاولة تشويه صورة سيّد قطب ، رحمه الله ، واختلاق
الإفتراءات والأكاذيب والشبهات حوله ،
بغية أن لا يستيقظ المسلمون من سباتهم ، ولا يتنبهون من غفلتهم !
وحتى يعملوا ذلك بهدوء ، ولا ينكشف
أمرهم ، فهم يتسترون خلف مشايخ أصحاب ألقاب فخمة رنّانة طنّانة .
وسبب الفهم السقيم
هذا ، لأولئك الشيوخ ، هو أنّهم لم يفرّقوا بين المجتمع كنظام ، وبين الشعب كأفراد
، فظنّوا أن الإثنين سواء !
وقد فرح خصوم
الإسلام بهذا الفهم الخاطيء – ولاسيما هو صادر عن مسلمين شيوخ ، أصحاب تلك الألقاب
الفخمة في الدّين .
وارتاحوا هم في محاربة الإسلام الحقيقي – الذي
يوضّحه الشهيد سيّد قطب – طالما يقوم بها هؤلاء الشيوخ ، ويقوم بها أتباعهم –
أيضاً – من المسلمين ، من غير أن يشعروا !
المجتمع
الإسلامي والشعب المسلم
كثير مـن الناس –
ولاسيمـا خصوم سيّد قطب من المسلمين – لا يفرّقون بين المجتمع كنظام ، وبين الشعب
كأفراد ، فيظنون أنّ الإثنين سواء !
فإذا قيل : هذا
المجتمع غير إسلامي ، ظنّوا أنّ هذا الكلام هو تكفير للناس ، والحكم على الأفراد ،
وإخراجهم من الإسلام !
وهـذا خطـأ ،
وجهـلٌ كبيرمن قِبَلهم ، وهو تضليل للناس – مِن قِبَل خصوم الإسلام – وخلط للأوراق
!
فالمجتمع شيء ،
والشعب شيء آخر .
ولماذا – إذن –
هما مصطلحان متغايران ، إذا لم يكن هناك فرق بينهما ؟ !
يُقصد بالمجتمع :
النظام الذي يُطبّق على الشعب .
ويُقصد بالشعب :
أفراد المجتمع .
فكما أن هناك فرقٌ
واضح بين ذات الإنسان ، وبين أعماله !
وكذلك هناك فرقٌ
كبير بين المجتمع كنظام ، وبين أفراد الشعب .
ولتوضيح ذلك أكثر
، نضرب مثالاً :
هنـاك رجلٌ سكّير
، يلعب الميسر ، ويقتل الأبرياء ، ويظلم
الناس ، ويسرق أموالهم ، و . . . و . . .
إلخ .
ومع كلّ هذه الموبقات فهو لا يصلّي ، ولا يصوم ، ولا يزكّي أمواله ، ولا
يذكر الله تعالى ، ولا . . . ولا . . . إلخ .
ولكنّه – مع كلّ هذا – فهو يؤمن
بالله تعالى ، ويؤمن برسول الله ؛ أنّه رسول من عند الله تعالى ، ويؤمن باليوم
الآخر ؛ يوم القيامة ، ويؤمن بالقرآن ، .
. . إلخ . ولكنّه لا يستطيع السيطرة على نفسه الأمّارة بالسوء ، فاتّبع – لذلك –
هواه .
فلا نستطيع أن نحكم على هذا الرجل بالكفر ، طالما أنّه يؤمن بالله ، ورسوله
، واليوم الآخر ، والقرآن و . . . و . . . إلخ .
ولكنّنا نستطيع بكل قوّة ، ووضوح ، وصراحة ، أن نقول عن هذا الرجل : إنّ
أخلاقه ، وتصرفاته ، وتعامله ، وحياته كلّها غير إسلامي ، ولا يمتّ إلى الإسلام
بأية صلة !
فهل كلامنا هذا خطأ ، ويُعتبر تكفير لهذا الرجل ورميه بالكفر والخروج من الإسلام ؟ !
وهل يُلام ويُتّهم مَن حكم عليه هذا الحكم ؛ بأنه كفّره وأخرجه من الملة ؟
!
وهل هم – خصوم سيّد – يعتبرون أخلاق ، وتصرفات ، وحياة ذلك العربيد ، حياة
إسلامية ؛ أمر بها الكتاب والسنة ؟ !
وكذلك نستطيع أن نقول عن نظام – غير مستمدّ من الإسلام – يُراد تطبيقه على
الناس الذين يعيشون في ذلك المجتمع .
نستطيع بكل أريحية أن نقول : إنّ هذا النطام ، نظام جاهلي .
والناس الذين ارتضوا هذا النظام ، ويعيشون ، وحياتهم كلها تسير على ضوئه ،
هم في جاهلية ، ويعيشون في جاهلية .
فسيّد قطب ، رحمه الله تعالى ، يصف المجتمع ، والأفراد ، الذين يستمدّون
قِيَمهم ، وأفكارهم ، ونظام حياتهم من غير الإسلام ، يصفهم بالجاهلية .
وهذا الوصف
للأنظمة والأعمال بالجاهلية ، لا يعني أن أصحابها كفّار ، كما نرى النبيّ r
يصف بعض الأعمال بالجاهلية ، بل وبالكفر ، ويقسم r على بعض
الأعمال ، أن أصحابها لا إيمان لهم ولا دين .
ولم يفهم أحد عـن
هذه الأحاديث ؛ أنه تكفير من النبيّ r
، لأصحابها ، حاشا الخوارج !
سيد والمودودي من الدعاة المنذرين!
إن المشكلة في الموضوع تكمن في التسرّع في الحكم، فالذين حكموا على الإمام سيد قطب، والإمام أبي الأعلى المودودي بما حكموا، إنما حكموا عليهما من قبل أن يعرفوهما ! ومن قبل أن يفهموهما!
فهمالم يكونا في يوم من الأيام من أهل الإفتاء، ولامن أهل القضاء، ولم يكتبا ماكتبا بلغة الفتاوى و الأقضية، ولم يكونا كذلك باحثين أكادميين، حتى يسجلا نتائج بحثهما الميّت بأسلوب ميّت.
وإنما كان الرجلان من الدعاة المنذرين! كانا منذرين لقوم غافلين! كانا منذرين لقوم في سكرتهم يعمهون! فكان لابد أن يهزّا هم هزّا، ويقرعا هم قرعا، ويزلزلاهم زلزالا!
فالقوم كلهم كانوا في نوم عميق، أوكانوا في يأس وقنوط، أوكانوا في هزيمة روحية نفسية! ينظرون إلى الأعداء، وثقافتهم وأنظمتهم نظرة إعجاب وتقدير، وينظرون إلى دينهم وتراثهم نظرة احتقار وازدراء!
حتى العلماء قالوا آنذاك: لايقدر الإسلام على حل مشاكل البشرية في العصر الحاضر،والشيوعية أوالاشتراكية هي القادرة على حل تلك المشاكل المتجددة.
وتلك العقلية المأزومة المهزومة مازالت قائمة في مجتمعات المسلمين، فلانعدم فيهم من ينادون بكل فجور، وبكل وقاحة: لانريد القرآن في المعيشة والاقتصاد! ولانريد الإسلام في السياسة والحكم!
وتلك العقلية المأزومة، وتلك النفسية المهزومة هي التي أوقدت نار الحرب منذ فترة طويلة في فئات المسلمين في مصر، وفي سوريا، وفي غيرهما من بلاد المسلمين!
وقبل أيام اعترف إبراهيم محلب، رئيس وزراء الانقلاب، بلفظ صريح: "انقلبنا على الرئيس مرسي بسبب هويته الإسلامية!"
هذا، واتهم الأعداء دين الإسلام، كما يتهمون اليوم، بأنه دين الهمجية والوحشية، لأنه يدعو أتباعه إلى الجهاد! والعلماء اعتصموا بالسكوت، وانسحبوا من الميدان لعجزهم عن مواجهة الأعداء، أو لجؤوا إلى الاعتذار عن دينهم!
مكتبة فيها حيوية وحياة!
في مثل تلك الأوضاع الحالكة المظلمة! في أوضاعٍ يسودها اليأس والقنوط! وفي أوضاعٍ تسودها الهزيمة النفسية، والأزمة الروحية! برز المودودي بخيله ورجله، وبرز سيد قطب برصاصه وصواريخه، ثم برز أخوه الشقيق محمد قطب برماحه وسهامه، برزوا جميعا حتى يواجهوا أعداء الإسلام بكل شجاعة وشموخ، ويعيدوا المسلمين إلى دينهم، ويعيدوا الثقة والاعتزاز إلى نفوسهم!
وتناولوا شبهات الأعداء واحدة واحدة، تناولوها بكل ثقة وشجاعة، وبدّدوها تبديداً بأدلة علمية مقنعة، ونادوا المسلمين أن يرجعوا إلى دينهم، نادوهم أن يرجعوا إلى دينهم رجعة صادقة كاملة، ولايكونوا كمثل أهل الكتاب، الذين قال فيهم ربهم :
أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (سورة البقرة:85)
فكتَبَ المودودي (الجهاد في الإسلام)و كتب (الحجاب) وكتب ( الخلافة والملوكية) وكتب (الربا) وكتب (مبادئ الإسلام) وكتب (الحضارة الإسلامية- أصولها ومبادئها) وكتب كتابات كثيرة متنوعة حول الجاهلية الغربية، والشيوعية والاشتراكية.
وألف تفسيره العظيم:(تفهيم القرآن) وتناول فيه قضايا المسلمين، وقضايا الشرق والغرب، وتناول فيه الشبهات التي تثار حول دين الإسلام، تناولها بالرد والتفنيد بأدلة قوية، وحجج دامغة.
وكتب سيد قطب (العدالة الاجتماعية في الإسلام) و(الإسلام ومشكلات الحضارة) و(خصائص التصور الإسلامي ومقوماته) و(معالم في الطريق) وألف تفسيره العظيم (في ظلال القرآن) حتى يُدحض الجاهلية وأنظمتها إلى الحضيض، ويجلّي الإسلام ومبادئه وخصائصه، وقِيمَه في صورة نقية ناصعة رائعة، حتى ترفرف أعلامه في السماء.
وكتب محمد قطب (شبهات حول الإسلام) و(جاهلية القرن العشرين) و(هل نحن مسلمون؟) و(واقعنا المعاصر) و(التطوروالثبات) و(دراسات قرآنية) وكتبا أخرى كثيرة ذات أهمية بالغة.
وهكذا أنشأ هؤلاء العباقرة الثلاث مكتبة إسلامية حافلة كبيرة ضخمة! مكتبة فيها إيمان وإشراق! مكتبة فيها حيوية وحياة! مكتبة فيها شموخ وسمو! مكتبة فيها عزة واستعلاء! مكتبة فيها دعوة حارّة للأمة الغافلة عن دينها، وعن مسئوليتها، وعن مكانتها، أن تفيق من غفلتها، وتدرك مسئوليتها، وتعود إلى مكانتها!
وكتبوا كل ما كتبوا بلغة الإنذار والتنبيه، وبلغة التحريض والتنشيط، حتى يوقظوا النائمين، وينبهوا الغافلين، ويحركوا القاعدين القانطين للجهد والعمل، ويحفزوهم إلى السعي والرقي والتقدم !
لغة الإنذار في كلام رسول الله:
ومن كان يحب أن يفهم لغة الإنذار والتنبيه، ولغة التحريض والتنشيط، فلينظر فيما يلي من أحاديث رسولنا عليه الصلاة والسلام :
روى الإمام أحمد عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال :
والله لا يؤمن! والله لا يؤمن! والله لا يؤمن! قالوا وما ذاك يا رسول الله؟ قال: الجار لا يأمن جاره بوائقه. قالوا يا رسول الله وما بوائقه؟ قال شره.
تعليق شعيب الأرنؤوط : إسناده صحيح على شرط مسلم رجاله ثقات رجال الشيخين غير إسماعيل بن عمر فمن رجال مسلم. (مسند أحمد: رقم الحديث:7865)
ماذا يقول القائلون في هذا الحديث؟ فقد نفى نبينا عليه الصلاة والسلام الإيمان عمن لايأمن جاره بوائقه! ومانفى مرة واحدة وكفى، بل نفى ثلاث مرات متواليات! والنفي مصحوب باليمين! تأكيد بعد تأكيد.
وروى البخاري عن أبي هريرة، رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: فوالذي نفسي بيده! لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده.
(صحيح البخاري:باب حب الرسول من الإيمان-رقم الحديث:14)
جعل نبينا عليه الصلاة والسلام من شروط الإيمان أن يكون حبه فوق حب الوالد والولد، وحبه- كما هو معلوم- يعتبر بطاعته في جميع ما أمر به، ونهى عنه، ويعتبر بطاعته في حالات تُسخط الوالد، وتُسخط الولد! حتى يُعلم أي الحبّين أقوى وآثر عند الرجل .
وإذا قسنا إيماننا وإيمان المسلمين المنتشرين في أنحاء العالم بهذين الحديثين، فكم يقومون أمام هذا المقياس؟
علماً بأن هذا المقياس مصحوب باليمين، واليمين مع تأكيد شديد، فهو لايحتمل أي تأويل يصرفه عن ظاهر معناه.
ويشبه هذا الحديث ما رواه البخاري عن أبي عقيل زهرة بن معبد أنه سمع جده عبد الله بن هشام قال: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم وهو آخذ بيد عمر بن الخطاب. فقال له عمر: يا رسول الله! لأنت أحب إليّ من كل شيء إلا من نفسي!
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لا والذي نفسي بيده حتى أكون أحب إليك من نفسك! فقال له عمر: فإنه الآن، والله لأنت أحب إليّ من نفسي.
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: الآن يا عمر!
(صحيح البخاري- رقم الحديث: 6632)
فعمر، مع كل ما فَعلَ في الإسلام من طاعات وعبادات، ومن بطولات وتضحيات، لم يُعتبر إيمانه إلا بعد ما كان رسول الله أحب إليه من نفسه!
ومما لايخفى أن تلك الأحاديث ماجاءت بلغة الفتاوى والأقضية، وإنما جاءت بلغة الإنذار والتنبيه، و جاءت بلغة التحريض والتنشيط، التي تهزّ المرء هزاً، وتنفخ فيه روح الحياة، وتدفعه دفعاً إلى مجالات العمل والتطبيق، ومجالات الكفاح والجهاد.
ماذايؤخذ على سيد؟
فإن كتب الأستاذ الإمام سيدقطب:
"إن وجود الأمة المسلمة يعتبر قدانقطع منذ قرون كثيرة، فالأمة المسلمة ليست أرضا كان يعيش فيها الإسلام، وليست قوما كان أجدادهم في عصر من عصور التاريخ يعيشون بالنظام الإسلامي.. إنما "الأمة المسلمة" جماعة من البشر تنبثق حياتهم وتصوراتهم، وأوضاعهم وأنظمتهم، وقيمهم وموازينهم كلها من المنهج الإسلامي.. هذه الأمة -بهذه المواصفات- قد انقطع وجودها منذ انقطاع الحكم بشريعة الله من فوق ظهر الأرض جميعا.. ولذلك فالمسألة في حقيقتها هي مسألة كفر وإيمان، مسألة شرك وتوحيد، مسألة جاهلية وإسلام، وهذا ماينبغي أن يكون واضحا.. إن الناس ليسوا مسلمين- كما يدعون- وهم يحيون حياة الجاهلية.. ليس هذا إسلاما، وليس هؤلاء مسلمين، والدعوة اليوم إنما تقوم لترد هؤلاء الجاهليين إلى الإسلام، ولتجعل منهم مسلمين من جديد." (معالم في الطريق)
فماذا يؤخذ عليه- رحمه الله- في هذه العبارة، أوفيما يشبهها من العبارات ؟ وهل يمكن أن يكون الناس مسلمين، وهم يحيون حياة الجاهلية؟
إذا لم يكن مؤمنا من لايأمن جاره بوائقه، بتصريح رسول الله، فكيف يكون مؤمنا من يحيى حياة الجاهلية، وينصرف عن شريعة الله؟
إذا لم يكن مؤمنا من لايحب رسول الله أكثر مما يحب الوالد والولد، فكيف يكون مؤمنا من يرغب عن رسول الله وملته، ويميل إلى ملة الكفر، وجاهلية الغرب، ويميل إلى موالاة أعداء الله، ويميل إلى الأنظمة المستوردة من بلاد أعداء الله، المخالفة لشرع الله؟
ثم هل يمكن بقاء الأمة المسلمة بصفاتها وخصائصها بعد انقطاع الحكم بشريعة الله من فوق ظهر الأرض جميعا؟ وماذا بقي عند الأمة المسلمة إذا ابتُليت بالحكم بمايخالف شرع الله؟
فالحكم بشرع الله هو الذي يحمي الأمة الإسلامية من الضلالات والانحرافات، ومن البدع والخرافات، وإذا لم تكن لشرع الله سيادة على المجتمع المسلم، فليس هناك شيء يمنع ذلك المجتمع من التصدع، والتفكك والانشقاق، والضياع.
ليس هناك شيء يمنعه من البعد عن دين الله، ومن التخبط في الجاهلية الجهلاء.
ويؤيد كلام سيد قطب مارواه البيهقي عن علي بن أبي طالب، رضي الله عنه قال:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " يوشك أن يأتي على الناس زمان لا يبقى من الإسلام إلا اسمه، ولا يبقى من القرآن إلا رسمه، مساجدهم عامرة، وهي خراب من الهدى، علماؤهم شر من تحت أديم السماء! من عندهم تخرج الفتنة وفيهم تعود" (البيهقي- شعب الإيمان- رقم الحديث:1763)
تلك حقائق لابد أن نضعها في حسابنا، فهي في غاية الأهمية، وفي منتهى الخطورة.
تصريح من سيّد حول فكرته:
وهناك ظاهرة أخرى لاتجوز الغفلة عنها، وهي أن الإمام سيد قطب حينما كتب ما كتب، لم يكن مفتيا يفتي بكون الناس مسلمين، أو كفارا! ولم يكن قاضيا يوقّع على القضاء في عواقب الناس!
وإنما كان داعية يحترق قلبه، وتذوب نفسه حزنا وكمداً على غفلتهم عن واجباتهم ومسئولياتهم، وغفلتهم عن دينهم وكتاب ربهم، وغفلتهم عن سرّ قوتهم وكرامتهم، وغفلتهم عن سعادة دنياهم وأخراهم!
يقول د/ علي محمد جريشة عن كتابات سيّد:
" كنت أعيش مع الرجل فيمايكتب، فلم يكن يكتب بيده، لكنه كان يكتب بقلبه، بدمه، بكيانه كله.. كان يعتصر ليقدم للناس ما يحرك مواتهم، ويحترق ليقدم للناس ماينير معالم طريقهم..وكنت ممن غذي بما اعتصر، واستنار بما من أجله كان يحترق.."
(من تقديم لكتاب: منهج سيدقطب في الدعوة. تأليف: جمال الدين شبيب-ص:5-6)
وقد بين سيّد نفسه حقيقة أفكاره، وأنه لم يكفّر أحدا من المسلمين، قال:
إننا لم نكفّر الناس! وهذا نقل مشوّه! إنما نحن نقول: إنهم صاروا من ناحية الجهل بحقيقة العقيدة، وعدم تصور مدلولها الصحيح، والبعد عن الحياة الإسلامية، إلى حال تشبه حال المجتمعات في الجاهلية.. وإنه من أجل هذا لاتكون نقطة البدء في الحركة هي قضية إقامة النظام الإسلامي، ولكن تكون إعادة زرع العقيدة، والتربية الأخلاقية الإسلامية.
فالمسألة تتعلق بمنهج الحركة الإسلامية، أكثر مما تتعلق بالحكم على الناس." (لماذا أعدموني؟ 36-37)
مهمّتنا ليست إصدار أحكام على الناس!
ويقول أخوه العلامة محمد قطب: "لقد سمعته أكثر من مرة يقول: إن مهمتنا تعريف الناس بحقيقة (لاإله إلا الله)؛ لأن الناس لايعرفون مقتضاها الحقيقي، وهو التحاكم إلى شريعة الله.
كما سمعته أكثر من مرة يقول: إن الحكم على الناس يستوجب وجود قرينة قاطعة لاتقبل الشك، وهذا أمر ليس في أيدينا، و لذلك نحن لانتعرض لقضية الحكم على الناس، فضلا عن كوننا دعوة، ولسنا دولة. دعوة مهمتها بيان الحقائق للناس، لاإصدار الأحكام عليهم."
(سيدقطب- صاحب الظلال، لتوفيق الواعي: ص80)
ويقول الأستاذ الدكتور توفيق يوسف الواعي:
"لم يصدر سيد قطب أحكاما شرعية على الناس، ولم يقل بتكفير الناس، ولذلك نجده يؤكد ذلك بقوله: ( إن مهمتنا ليست إصدار الأحكام على الناس، ولكن مهمتنا تعريفهم بحقيقة "لاإله إلا الله "؛ لأن الناس لايعرفون مقتضاها الحقيقي، وهو التحاكم إلى شريعة الله.)
(موسوعة شهداء الحركة الإسلامية في العصر الحديث: 1/86)
رؤية المرشد العام لسيّد ومؤلفاته:
وقال المرشد الثالث للإخوان المسلمين، وهو الأستاذ عمر التلمساني رحمه الله، وهو يثني على سيد قطب ومؤلفاته، قال:
"أذكر أن الشهيد سيد قطب له مؤلفات عدة وجيدة، وعلى مستوى رفيع، منها: " في ظلال القرآن "و " العدالة الاجتماعية " و "معالم في الطريق".
وتمتاز هذه المؤلفات بالنقمة على الظلم في كل مظاهره، والحرص على رفع المعاناة عن كل الطبقات، وأن تسود مصر الحرية..
وليس في " معالم في الطريق " جديد في فكر سيد قطب، ولكن بما أن الشهيد كتبه في السجن، بعد أن ذاق ألوان العذاب على مختلف قسوتها ووحشيتها، فقد بدت نقمته على مخالفة الشرع أوضح وأظهر.
وما أراد الشهيد الأستاذ سيد قطب في يوم من الأيام أن يكفّر مسلما، لأنه من أعلم الناس بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في أكثر من حديث: إن من قال لاإله إلاالله، مؤمنا بها قلبه، لن يخلد في النار، ونحن نعلم أنه لن يخلد في النار إلا الكافرون.
هذه واحدة، والثانية: إن كثرة ترداده " للمجتمع الجاهلي " لم يقصد بها تكفير المجتمع، ولكن تشديد النكير على الظلمة والطغاة والمستغلين والمشككين، وهو أسلوب تعرفه اللغة العربية...
والذين يعرفون الشهيد سيد قطب، ودماثة خلقه، وجمّ أدبه، وتواضعه، ورقة مشاعره، يعرفون أنه لايكفر أحدا.
إنه داعية إسلامي، من عيون دعاة المسلمين، ظلمه من أخذ كلامه على غير مقاصده، ومن هاجموه متجنِّين، لما رأوه من عميق تأثير كلماته وكتاباته على الشباب الطاهر النظيف.
هذا موجزٌ مقتضبٌ للمبادئ التي قام عليها كتاب " معالم في الطريق "، وقد كان لي شرف الاطلاع عليه قبل طبعه، ونحن في مستشفى ليمان طره."
(ذكريات لامذكرات، للأستاذ عمرتلمساني: 280- 281)
وأما المرشد الراحل الأستاذ محمد حامد أبو النصر- رحمه الله- فيقول في معرض جوابه عن سؤال وجهته إليه صحيفة "السياسي المصري":
ما هو رأيكم في قول الشهيد سيد قطب : إن المجتمع الإسلامي مجتمع جاهلي بعيد عن الإسلام، وإننا لانعيش في دار الإسلام، ولكننا نعيش في دار الكفر؟
فأجاب فضيلته- رحمه الله- بالقول:"كتابات الشهيد سيد قطب رحمه الله أسيء فهمها بصورة تدعو للاستغراب، ولاأعتقد أنه رحمه الله قصد تلك المعاني التي أشرت إليها."
( سيدقطب- صاحب الظلال، ص: 85)
عبارة حلوة من " المعالم":
ويقول سيد رحمه الله في إحدى كتاباته في السجن، وهو يعاني مايعاني من العذاب:
"نحن لاندعو الناس إلى الإسلام لننال منهم أجرا، ولانريد علوا في الأرض ولافسادا، ولانريد شيئا خاصا لأنفسنا إطلاقا. وحسابنا وأجرنا ليس على الناس. إنما نحن ندعو الناس إلى الإسلام لأننا نحبّهم، ونريد لهم الخير... مهما آذونا... لأن هذه هي طبيعة الداعية إلى الإسلام، وهذه هي دوافعه."
(سيد قطب- معالم في الطريق- نقلة بعيدة: 214)
تلك العبارة الحلوة الرقيقة الودودة مأخوذة من كتابه:( معالم في الطريق) الذي أشيع عنه زوراً أنه كتب في حالة من التوتر النفسي في السجن، بسبب تلك المحن التي قد ابتُلي بها سيد، ولذلك تغلبه فكرة تكفير المسلمين!
لاشك أن سيد قطب كان في محنة وعذاب، ولقد أوذي في سبيل الله إيذاء لايتحمله إلا أمثاله، عذّب تعذيبا لم تكن تطيقه الفيلة !حسبما ذكره الشيخ العلامة علي الطنطاوي في مقاله. ولكن الرجل كان موهوبا، وكان مؤيّدا من الله، وكان موفّقا في كل ماكتب، حيث كتب كل ما كتب، بعيدا عن حالات الغيظ والغضب وحب الثأر من الأعداء.
مقتطفات من "أفراح الروح ":
ويقول رحمه الله في كتابه " أفراح الروح ":
" كم نمنح أنفسنا من الطمأنينة والراحة والسعادة، حين نمنح الآخرين عطفنا وحبنا وثقتنا، يوم تنمو في نفوسنا بذرة الحب والعطف والخير!"
إن العظمة الحقيقية أن نخالط هؤلاء الناس مشبعين بروح السماحة والعطف على ضعفهم ونقصهم وخطئهم، وروح الرغبة الحقيقية في تطهيرهم، وتثقيفهم، ورفعهم إلى مستوانا بقدر مانستطيع!"
بالتجربة عرفت أنه لاشيء في هذه الحياة يعدل ذلك الفرح الروحي الشفيف، الذي نجده عندما نستطيع أن ندخل العزاء أو الرضا، أوالثقة أو الأمل أو الفرح إلى نفوس الآخرين!"
تلك العواطف النبيلة، وتلك المشاعر الرقيقة أرسلها الأستاذ سيّد إلى أخته الحبيبة حميدة قطب. عبارات تفيض بالحب والمودة والشفقة والحنان! شفقة وحنان ليس لأهل بيته، بل للبشرية جمعاء!
والجدير بالذكر أنه لم يسجل تلك العواطف وتلك المشاعر، وهو في راحة ورخاء، بل سجلها وهو في جحيم الفرعون جمال عبد الناصر ! في محنة ومعاناة لايتصورها إلا من ابتلي بها!
وماسجلها حتى تنشر للناس، بل سجلها في رسالة خاصة إلى أخته! تلك والله أخلاق النبوة ! قلب واسع، وصدر رحب لايلقّاه إلا ذوحظ عظيم!
مثل هذا الرجل يتهمونه بأنه يكفّر المسلمين! كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا!
أحلى وأقوم تفسير للقرآن!
وتفسيره الذي أنشأه تحت سياط العذاب! وفي عجاجة من الفتن والمحن ! أنشأه بكل هدوء وأناة، ويتعجب القارئ كيف استطاع سيد أن يكتب مثل هذا التفسير النيّر المشرق المتّزن، وكيف استطاع أن يصوغ تلك العبارات الحلوة، الرقيقة، الرائعة، وهو في سجن العذاب ! فهو يعتبر بحق أحلى، وأقوم، وأفضل تفسير للقرآن الكريم!
يقول الشيخ علي الطنطاوي: "إن الله قدادخر لسيد قطب تفسيره للقرآن في الظلال، فلم يسبقه إلى هذا التفسير منذ أنزل القرآن أحد.
ويقول: إنه الرجل الذي كتب عشرين مؤلفا، منها ثلاثون مجلدا سماها " في ظلال القرآن"، حياءمن الله أن يسميها تفسيرا للقرآن، الرجل الذي ترك عمله مستشارا لوزارة التربية، ليكتب للمسلمين، ويعيش على الكفاف، ثم طاف القارات مبشرا بالإسلام."
ويقول الأستاذ عبد البديع صقر: " كان سيد قطب تبرا في تُرب، لايعرف قدره إلا من ارتقى مرتقاه، فهو مدرسة وحده، ويكفيه شرفا أن نبّه الأمة إلى الكنز الذي لايفنى... القرآن الكريم."
(سيدقطب- صاحب الظلال- إعداد: أ.د. توفيق الواعي، وأ. إبراهيم منير-ص:153)
والرجل كان داعية يدعو الناس إلى الإسلام، وكان يحبّهم ويريد لهم الخير، وحبّه ما كان يعرف العدوّ والصديق، ولايفرّق بين من يكرمه أويؤذيه، بل كان في عموم نصحه وحنانه مثل الغيث الهاطل، أو القمر الساطع، أو نسيم الصبح! فأخذ من أخذ منه نصيبه، ومن قلب دلوه، أوسدّ أذنه فلاذنب على سيّد!
وإذا كانت الفراعنة قد عميت أبصارهم وبصائرهم، ولم يستطيعوا أن يعرفوا تلك النفوس العالية الشامخة، وفعلوا بهم مافعلوا، فليس فيه مايدعو إلى العجب.
ولكن كيف العزاء؟ وكيف السلوى؟ إذا كان الرجل محاربا من أهله وإخوانه! وإخوانُه الذين كانوا أولى الناس به، هم الذين يشنون عليه الغارات، ويواصلون عليه الهجمات ! وكأني الآن بالأستاذ سيّد يقول:
فوالله ما قصّرت فيما أظنه ... يفيــــــــــــــــــدك، لكني مُحبّ مكفّر!
إسراف في النظر إلى الأمّة!
كتب صاحبنا الفاضل:
لو قال الأستاذ سيد قطب: "لايوجد مسلمون كاملون في إسلامهم فهما وسلوكا إلا القليل، لكان كلامه مقبولا، أما أن يقول: لايوجد مسلمون قط، وإنما يوجد أقوام من سلالات المسلمين ، وأن الوجود الإسلامي قدانتهى، أو توقف من زمن طويل، فهذا إسراف في النظر إلى الأمة، التي لم تكفر بربها، و لابقرآنها، ولابرسولها، ولاتزال تتجمع بالملايين في شهر رمضان لصلاة التراويح، وفي مواسم الحج والعمرة. فمن يقول إن هؤلاء جميعا كفار؟! "
نقول لصاحبنا الفاضل: إذا كان المسلمون يتجمعون بالملايين في شهر رمضان لصلاة التراويح، وفي مواسم الحج والعمرة، ويتركون الصلوات المكتوبات الخمس! ولايدفعون زكاة أموالهم! ولايراعون الحلال والحرام في كسبهم! ولايتورعون من عبادة القبور! ولايتحرجون من عبادة القصور ! ولايترددون في إراقة الدماء، ولايجتنبون أكل الأموال بالباطل، فمارأيك فيهم؟
وما رأيك في ناس شووا آلافا من الحرائر والأحرار في شوارع مصر وسوريا، وليس لهم ذنب إلا أن يقولوا ربنا الله؟!
ومارأيك فيمن هدم الحكم الإسلامي الراشد، وجاء مكانه بنظام ظالم غاشم، يعادي الإسلام وأهله، ويعذب من رفع صوته ضده، يعذبه أسوء العذاب، ويملأ بهم السجون والمعتقلات، ولايرحم الشيخ الفاني، ولاالطفل الصغير البريء؟
وما رأيك فيمن يدعمون اليهود والنصارى ضد المؤمنين بكل مايملكون من قوة وعتاد، و يساعدونهم من غير حياء ! فيما يريدونه من إطفاء نور الله، وإضعاف دين الله؟!
هل هؤلاء كلهم مسلمون؟
هل هؤلاء كلهم مسلمون؟ لأنهم لم يكفروا بالله، وبرسوله بلسانهم!
وهل يكون الكفر دائما باللسان؟ أم التوجهات والتصرفات أيضا لها كلام، ولها أحكام؟
ذكر الله سبحانه وتعالى من أحوال المنافقين، فقال:
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلًا (137) بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (سورة النساء:138)
فهل كان المنافقون يؤمنون بلسانهم، ثم يكفرون بلسانهم، ثم يؤمنون بلسانهم، ثم يكفرون بلسانهم، أم كان الكفر يُعرف من حركاتهم الكافرة، وتوجهاتهم المعادية للإسلام وأهله؟
ذكر تعالى في موطن آخر من أحوالهم، ولعل فيه إجابة على هذا السؤال:
إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ (1) اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (2) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ (3) وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (4
فأعمالهم وتصرفاتهم هي التي كانت تشي بكفرهم ونفاقهم، والأعمال والتصرفات هي التي تحكم دائما بمكان المرء من الكفر أوالإيمان، وإلا فالمنافق لايعترف على نفسه بالكفر أبدا.
لاإسلام بالإسلام الناقص!
وما الإسلام الكامل؟ وما الإسلام الناقص؟ وهل يكون المرء مسلما بالإسلام الناقص؟ وهل يكون الإسلام الناقص مقبولا عند الله؟
إذاً فلماذا قاتل سيدنا أبوبكر مانعي الزكاة؟ ولماذا لم يقبل منهم الإسلام الناقص؟ لماذا لم يقبل الإسلام الذي كانت تنقصه الزكاة فقط؟
أليس هذا مما ينطبق عليه قوله عليه السلام: " لايبقى من الإسلام إلا اسمه، ولايبقى من القرآن إلا رسمه" ؟ وأليس هذا ممايصدق عليه قول الله سبحانه وتعالى:( أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض)؟
وهل هذا واقع مفرح يدعو إلى الفرح والاستبشار، أم هو واقع مؤلم يدعو إلى الحزن والاكتئاب؟ وإن كان هذا واقعا مؤلما، فالواقع المؤلم لايستحق الدفاع والثناء، وإنما يدعو إلى خطوات جادّة وسريعة للتغيير!
منزلة بين الإيمان والكفر:
وأضاف شيخنا الفاضل:
"مشكلة الأستاذ سيد قطب: أنه لايعرف إلا الإيمان أو الكفر، ولكن يوجد بينهما منزلة هي الفسوق والعصيان، فقد يوجد اليوم مئات الملايين من المسلمين، ولكنهم- كلهم أو جلهم- عصاة مفرطون، في حاجة إلى أن يتوبوا، أو جهلة بدينهم في حاجة إلى أن يعلّموا."
نقول: (الفسوق) و(العصيان) إن كان منزلة بين الكفر والإيمان عند أهل الفقه وأهل الكلام، فهما في كتاب الله ليسا منزلة بين الكفر والإيمان، وإنما هما من حالات الكفر، أو من مراحل الكفر. قال تبارك وتعالى:
وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ (سورة الحجرات:7)
ففي الآية نرى الله سبحانه وتعالى ذكر الإيمان فردا، وذكر في مقابله ثلاثة أشياء معطوفة بعضها على بعض: (وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ) فالفسوق والعصيان في كتاب الله من مراحل الكفر، وليسا منزلة بين الكفر والإيمان.
وليس الأمر مقصورا على هذه الآية، فالقرآن كله يجعل الفسوق والعصيان من صفات الكفار، وأما المؤمنون، فليس من صفاتهم إلا التذكر والتزكي والتقوى والإحسان.
وإمامنا الأستاذ سيدقطب كان رجلا قرآنيا بحتا، كان يتملى القرآن،وكان يكلّم بلغة القرآن،ولم يكن من رجال الفقه، ولم يكن ينطق بلسان الفقه، وكل ما كتبه في كتاباته، أو في تفسيره إنما كتبه بلغة القرآن وأسلوب القرآن، ولم يكتبه بلغة الفقه، وأسلوب الفقهاء.
بون شاسع بين الأسلوبين:
ثم ليس من النصف أن ننسب إلى الرجل ما لم يجر على لسانه،ولم يدر في خلده. إن سيّد لايستخدم لمسلمي اليوم لفظ الكفر والتكفير أبدا، وإنما يقول دائما: "ليس هذا إسلاما، وهم ليسوا مسلمين." والفرق بين العبارتين واضح شاخص.
ولايبعد أن يكون سيدقطب قداقتبس أسلوبه من أسلوب النبي عليه الصلاة والسلام، حيث قال:
(والله لا يؤمن ! والله لا يؤمن ! والله لا يؤمن ! قالوا وما ذاك يا رسول الله ؟ قال: الجار لا يأمن جاره بوائقه.)
وقال عليه السلام: (فوالذي نفسي بيده! لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده.)
فليس لقائل أن يقول هنا: (والله لايؤمن) أو(لايؤمن أحدكم) معناه: يكون كافرا!
وروى البخاري عن أبي هريرة ، رضي الله عنه ، قال النبي صلى الله عليه وسلم : لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن ، ولا يشرب الخمر حين يشرب وهو مؤمن ، ولا يسرق حين يسرق وهو مؤمن ، ولا ينتهب نهبة يرفع الناس إليه فيها أبصارهم حين ينتهبها وهو مؤمن.
(صحيح البخاري-رقم الحديث:2475)
فهل يجوز في تفسير هذا الحديث ؟ أن يقال: (يزني الزاني حين يزني وهوكافر!) (يشرب الشارب الخمر حين يشرب، وهو كافر!) (يسرق السارق حين يسرق وهو كافر!)( ينتهب الناهب نهبة يرفع الناس إليه فيها أبصارهم حين ينتهبها وهو كافر!)
فإذا فسرت مثل هذه العبارات في كلام سيد قطب بفكرة التكفير، كان فيه حيف شديد على الرجل ! إنه ليس من التكفير في شيء، إنما هو حثّ وتحريض على العودة إلى الإيمان، وتعيير وتخجيل من موالاة الكفار، والتشبه بهم، والميل إلى عاداتهم وتقاليدهم !
أيّ مجتمع بريء من النفاق؟
وروى البخاري عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: آية المنافق ثلاث إذا حدث كذب ، وإذا وعد أخلف ، وإذا اؤتمن خان. (صحيح البخاري- باب علامات المنافق-رقم الحديث:33)
وروى أبوداودعن أبى هريرة عن النبى -صلى الله عليه وسلم- قال: « من مات ولم يغز ولم يحدث نفسه بالغزو مات على شعبة من نفاق ». (سنن أبي داود- رقم الحديث: 2504)
إذا عرضنا مجتمعاتنا على مثل هذين الحديثين، فأي مجتمع نجده بريئا خالصا من آيات النفاق، حتى نسميه المجتمع المسلم ؟ ونبينا عليه السلام حين ذكر لنا آيات النفاق، هل ذكرها إلا لنعرض أنفسنا أمام هذه المرآة، ونعرف مكاننا من الإسلام؟
إمارة السفهاء!
وروى ابن حبان عن جابر بن عبد الله ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : يا كعب بن عجرة ، أعيذك بالله من إمارة السفهاء ، إنها ستكون أمراء ، من دخل عليهم فأعانهم على ظلمهم وصدقهم بكذبهم فليس مني ، ولست منه ، ولن يرد عليّ الحوض ، ومن لم يدخل عليهم ، ولم يعنهم على ظلمهم ، ولم يصدقهم بكذبهم ، فهو مني ، وأنا منه ، وسيرد عليّ الحوض.
(صحيح ابن حبان- رقم الحديث: 1723)
ما المراد بإمارة السفهاء، التي أنذرها النبي عليه السلام كعب بن عجرة، وأعاذه بالله منها؟
ومن هم الأمراء الذين حذّر النبي عليه السلام أمته ألايعينوهم على ظلمهم، ولايصدّقوهم بكذبهم؟
هل هم غير ملوك بني أمية؟
تاريخ بني أميةمليء بالمآسي:
إن رؤية المودودي وسيدقطب للتاريخ الإسلامي ليست من وراء منظار أسود، وليست هناك أيّ قسوة ! وإنما هي رؤية واقعية في ضوء الأحاديث والأخبار الصحيحة!
وإذا كان الكلام على تاريخ بني أمية، فهو لايمسّ سيدنا عثمان بن عفان،فسيدنا عثمان بن عفان ليس من ملوك بني أمية، وإنما هو من الخلفاء الراشدين، الذين نعتزّ بهم، ويعتزّ بهم كل مسلم.
أما ملوك بني أمية، فماذا فيهم حتى نعتزّ بهم ؟ ماذا فيهم إذا نزعنا منهم رجلا واحدا، هو الخليفة الراشد عمر بن عبد العزيز رحمه الله؟!
إن تاريخ بني أمية مليء بالمآسي ! ومليء بالفوادح ! وليس لهم عمل يذكر غير أنهم حولوا الخلافة الراشدة المباركة إلى ملك عضوض بغيض!
إن مهمة العلماء والدعاة ليس الحفاظ على سمعة الأمراء والملوك، والدفاع عنها، وإنما مهمتنا هي الحفاظ على أصالة الإسلام وصفائه، والعود بالأمة إلى حظيرة الإسلام عودة صادقة.
موجز القول أن المودودي وسيد قطب ماكانا من أصحاب الفتاوى، وماكانا من أصحاب القضاء، وإنما هما من الدعاة والقادة، الذين كانوا يحملون هموم الأمة، وكانوا يذوبون همّا وكمدا بسبب شقائها وغفلتها عن دينها وعن كتاب ربها!
وما كانا ينطقان ويكتبان بلغة أهل الفتوى والقضاء، وإنما كانا ينطقان ويكتبان بأسلوب الرسل و أسلوب الأنبياء، حتى ينفخا في كيان الأمة روح الحياة، ويملآها بالقوة والحيوية والنشاط. فالواجب أن ننظر إلى كتاباتهما هذه النظرة!
كلام موجّه إلى الدعاة،لاإلى غيرهم:
وهناك شيء آخر ينبغي الانتباه له، وهو أن تلك العبارات، التي شمّ فيها شيخنا الفاضل رائحة التكفير، بل لمسها براحته، هذه العبارات ليست موجهة إلى عامة الناس، وإنما هي كلها موجهة إلى الدعاة العاملين في حقل الدعوة.
ولابد للدعاة أن يكونوا على علم بضخامة المسئولية، ومساحة مجال الدعوة، ولابد أن يدركوا آفاق الجهد والعمل، فليست مهمة الداعية في هذه الأيام أن يعلّم المسلمين فقط طريقة الوضوء والغسل، وطريقة الصوم والصلاة، ويحفظّهم الأوراد و الأذكار، ويعلّمهم مسائل الطلاق والنكاح، بل مهمته أن يطهر عقائدهم وأفكارهم، ويربّي عقولهم وأذهانهم، ويصلح سلوكهم وأعمالهم، ويغير حياتهم كلها.
فالجاهلية الحاضرة أفسدت كل شيء، أفسدت عقائد المسلمين وأفكارهم، وأفسدت أعمالهم وسلوكهم، وأفسدت عاداتهم وعباداتهم، وأفسدت قيمهم وموازينهم، حتى صار الإسلام غريبا فيهم، فلابد من تغيير جذري في حياتهم، ولابد من دعوتهم إلى الإسلام من جديد.
وإذا كانت هذه الأمة أمة مسلمة، وليست أقواما من سلالات المسلمين، فلماذا هذه الصرخة التي صرخها الشاعرالمسلم؟
وآلمني وآلم كل حــــــــــــــــــــــــــــرّ ** سؤال الدهر أين المسلمونا؟!
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق