الأحد، 18 أغسطس 2024

حكم التوصل عند الاخوان المسلمين!

 

الإخوان والتوسل

اذهب إلى التنقلاذهب إلى البحث
شبهة التوسل


مقدمة

مما أثاره المفترون حول الشيخ البنا - رضي الله عنه - قولهم :

أ - إنه -رحمه الله -يقول : ( إن الدعاء إذا قرن بالتوسل إلى الله بأحد من خلقه خلاف فرعي في كيفية الدعاء ، وليس من مسائل العقيدة ).

ب- الشيخ البنا-رحمه الله -يكون بذلك قد خالف علماء الأمة في أمرين :

أحدهما: أن العلماء لم يختلفوا حول التوسل إلى الله بأحد من الخلق وهو يقول بعكس ذلك .

الثاني: أن التوسل بأحد الخلق مخالفة عقائدية تؤدي إلى الكفر والشرك ، وهو يقول : إنها من مسائل الفقه التي تتعلق بالحلال والحرام ، وليس بالكفر والشرك . وعلى هذا فالمنكرون على الشيخ البنا-رحمه الله - ينكرون خلاف العلماء حول التوسل بأحد من خلقه ، ثم يقولون ، بعد ذلك أن هذا التوسل من أمور العقيدة التي تؤدي إلى الشرك ، ويكفر القائل بذلك .

ونحن بدورنا لابد لنا -كي يظهر الحق من الباطل ، ويستبين الهدى من الضلال ويتضح سبيل المؤمنين أن نحقق تلك المسائل بأقوال العلماء الأفاضل من سلف الأمة الصالح من أمثال شيخ الإسلام ابن تيمية ، والشيخ محمد بن عبدالوهاب - رحمهم الله تعالى- وغيرهما : فنبدأ أولا ببيان ما اختلط على القوم من عدم تفريقهم بين الاستغاثة المحرمة ، والتي هي من أمور العقيدة وبين التوسل الذي هو من أمور الفقه ألذي اختلف حوله العلماء ، وهو يدخل في أبواب الحل والحرمة ، فنجد ببيان الفرق بين الاستغاثة و التوسل . الفرق بين الاستغاثة والتوسل .


الفرق بين الإستغاثة والتوسل

يحسن بنا أولا أن نعرف الاستغاثة ونذكر من صورها ما يوضح الجائز منها والممنوع :

1-تعريف العلماء للاستغاثة :

هي طلب العون وتفريج الكروب.

ما يعتريها من أحكام : يعتري هذه الاستغاثة أربعة أحكام :

أ - الإباحة : وذلك في طلب الحوائج من الأحياء فيما يقدرون عليه كقوله تعالى( فاستغاثة الذي من شيعته على الذي من عدوه ) (القصص :15 ).

ب - الاستغاثة المندوبة ( المطلوبة ) الاستغاثة بالله : قا ل تعالى:"إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم أني ممدكم بألف من الملائكة مردفين (الأنفال : 9 ) .

( أمن يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء ) (النمل : 62) .

ج . الاستغاثة الواجبة : وذلك إذا ترتب على ترك الاستغاثة هلاك الإنسان .

د . الاستغاثة الممنوعة، وذلك إذا استغاث الإنسان في الأمور المعنوية بمن لا يملك القوة أو التأثير سواء كان المستغاث به جنا أو إنسانا أو ملكا أو نبيا كأن يستغاث بهم ولا يستغاث بالله تعالى في تفريج الكروب عنهم أو طلب الرزق ، فهذا غير جائز بإجماع العلماء وهو من الشرك ،( ولا تدع من دون الله ما لا ينفعك ولا يضرك ) وهذا يخالف تماما التوسل ، وإليك بيان حقيقة التوسل .

2 - معنى التوسل :

يطلق التوسل على : ما يتقرب به إلى الله تعالى من فعل الطاعات وترك المنهيات ، وعليه حمل المفسرون قوله تعالى: ( وابتغوا إليه الوسيلة ) ، كما يطلق التوسل أيضا على التقرب إلى الله بطلب الدعاء من الغير، وعلى الدعاء المتقرب به إلى الله تعالى باسم من أسمائه أو صفة من صفاته ، أو بأحد من خلقه كنبي أو صالح.

الفرق بين الاستغاثة والتوسل:

هذا وخلط هؤلاء لعدم علمهم وعدم اطلاعهم على أقوال العلماء بين الاستغاثة والتوسل ( وبهذا قد خلطوا بين ما هو من العقيدة وما هو من الفقه ) وهذا أمر يدعو إلى الاستغراب والعجب ، وها نحن ندع لشيخ الإسلام ابن تيمية بيان الفرق بينهما بقوله- رحمه الله تعالى-: ( لم يقل أحد أن التوسل بنبي ، هو استغاثة به ، بل العامة الذين يتوسلون في أدعيتهم بأمور ، كقول أحدهم : أتوسل إليك بحق الشيخ فلان ، أو بحرمته ، أو أتوسل إليك باللوح والقلم ، أو بالكعبة ، أو غير ذلك ، مما يقولونه في أدعيتهم ، يعلمون أنهم لا يستغيثون بهذه الأمور ؟ فإن المستغيث بالنبي صلى الله عليه وسلم طالبا منه وسائلا له ، والمتوسل به لا يدعي ولا يطلب منه ولا يسأل ، وإنما يطلب به ، وكل أحد يفرق بين المدعو والمدعو به.

و الاستغاثة : طلب الغوث ، وهو إزالة الشدة ، كالاستنصار طلب النصر ، والاستعانة طلب العون ، والمخلوق يطلب منه من هذه الأمور ما يقدر عليه منها ، كما قال تعالى: ( وإن استنصروكم في الدين فعليكم النصر) ، وكما قال تعالى: ( فاستغاثة الذي من شيعته على الذي من عدوه ) (القصص : 15 )، وكما قال سبحانه : ( وتعاونوا على البر والتقوى) (المائدة : 2 ) .

وأما ما لا يقدر عليه إلا الله ، فلا يطلب إلا من الله ، ولهذا كان المسلمون لا يستغيثون بالنبي صلى الله عليه وسلم بل يستسقون به ، ويتوسلون به ، كما في صحيح البخاري : أن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - استسقى بالعباس وقال : اللهم إنا كنا إذا أجدبنا نتوسل إليك بنبينا فتسقينا ، وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا فيسقون. ثم يقول أيضا : (وقول القائل : أن من توسل إلى الله بنبي ، فقال : أتوسل إليك برسولك فقد استغاث برسوله حقيقة ، في لغة العرب وجميع الأمم قد كذب عليهم ، فما يعرف هذا في لغة أحد من بني آدم ، بل الجميع يعلمون أن المستغاث مسئول به مدعو ، ويفرقون بين المسئول والمسئول به ، سواء استغاث بالخالق أو بالمخلوق ، فإنه يجوز أن يستغاث بالمخلوق فيما يقدر على النصر فيه ، والنبي صلى الله عليه وسلم أفضل مخلوق يستغاث به في مثل ذلك.

ولو قال قائل لمن يستغيث به : أسألك بفلان ، أو بحق فلان ، لم يقل أحد أنه استغاث بما توسل به ، بل إنما استغاث بمن دعاه ، وسأله [وعلى هذا فالاستغاثة ، تخالف التوسل تماما ، وليس بينهما صلة في الحكم ] . هذا وينبغي لنا أن نعرف التوسل ، ونذكر ما ورد فيه من آراء واختلاف للفقهاء حوله .

وقد قال العلماء : التوسل من الوسيلة ، ومعنى الوسيلة : القربة والواسطة ، وهي ما يتوصل به إلى الشيء ويتقرب به ، وكذلك التوصل إلى الشيء برغبة .


أنواع التوسل

أولاً : التوسل ( الذي لا خلاف عليه ) المتفق عليه

1- التوسل إلى الله بأسمائه وصفاته : والدليل على مشروعيته قوله تعالى: (ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها )(الأعراف : 180 ) .

2- التوسل إلى الله بدعاء الرسول حال حياته: وقد وردت أمثلة من هذا في السنة الشريفة ، فمن ذلك ما رواه أنس –رضي الله عنه - :( أن رجلا دخل يوم الجمعة على الرسول صلى الله عليه وسلم وهو قائم يخطب ، فقال يا رسول الله هلكت المواشي فادع الله يغيثنا ، قال فرفع رسول الله صلى الله عليه وسلم يديه فقال : "اسقنا اللهم اسقنا " .

قال أنس : والله ما نرى في السماء من سحاب ولا قزعة ولا شيئا، وما بيننا وبين سلع –جبل يدعن سلع –من بيت ولا دار، فقال :( فطلعت من ورائه سحابة مثل الترس ، فلما توسطت السماء انتشرت ثم أمطرت ، قال والله ما رأينا الشمس سبتا . . الحديث ).

وقد كان الصحابة يطلبون من رسول الله صلى الله عليه وسلم في حياته أن يدعو لهم ، كما في حديث : ( يا رسول الله ادع الله أن يجعلني منهم لما أخبرهم بأنه يدخل الجنة سبعون ألفا).

وقول المرأة التي كانت تصرع : ( يا رسول الله أدع لي الله ). كما روي أن رجلا ضرير البصر أتى إلى النبي صلى الله علية وسلم فقال : (أدع الله أن يعافيني ).

3 - التوسل بالأعمال الصالحة : التوسل إلى الله تعالى بالأعمال الصالحة التي قام بها الداعي كأن يقول اللهم بإيماني بك ، ومحبتي لك ، واتباعي لرسولك ، اغفر لي .

ومنه أن يذكر الداعي عملا صالحاً ذا بال كان يعمله طاعة لله وإخلاصا لوجهه الكريم ، فيتوسل به إلى الله في دعائه ، ليكون أحرى لقبوله وإجابته .

والدليل على مشروعيته قوله تعالى: ( الذين يقولون ربنا إننا آمنا فاغفر لنا ذنوبنا وقنا عذاب النار ) (آل عمران : 16 ) .

وقوله عن الحواريين : (ربنا آمنا بما أنزلت واتبعنا الرسول فاكتبنا مع الشاهدين) (آل عمران : 53) .

ويدل أيضا على هذا النوع من التوسل ما ورد بشأن الثلاثة أصحاب الغار الذين آواهم المبيت إلى غار فدخلوه فانحدرت صخرة من الجبل فسدت عليهم الغار ولم ينجهم منها إلا دعاء كل واحد منهم إلى الله بأفضل ما قدمه من أعمال . . . القصة ) الحديث.

4 - التوسل إلى الله بدعاء من ترجى إجابته من أهل الصلاح والتقوى وأهل العلم بالكتاب والسنة:

وقد وردت أمثلة من هذا النوع في السنة الشريفة ، كما وقعت نماذج من فعل الصحابة - رضوان الله عليهم ..

ومنه ما رواه أنس - رضي الله عنه -أن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -كان إذا قحطوا استسقى بالعباس بن عبد المطلب ، فقال اللهم إنا كنا نتوسل إليك بنبينا فتسقينا، وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا ، قال : فيسقون .

ومثل ما فعله عمر فعل معاوية بن أبي سفيان بحضرة من معه من الصحابة والتابعين

ولما أجدب الناس بالشام حيث استسقوا بيزيد بن الأسود الجرشي وتوسلوا به كما توسل عمر بالعباس ، فقال : أى معاوية اللهم إنا نستشفع إليك اليوم بخيرنا وأفضلنا ، اللهم إنا نستشفع إليك اليوم بيزيد بن الأسود الجرشي ، يا يزيد ارفع يديك إلى الله . فرفع يديه ، ورفع الناس أيديهم ، فما كان إلا أن ثارت سحابة في الغرب كأنها ترس ، وهبت لها ريح ، فسقتنا حتى كاد الناس أن لا يبلغوا منازلهم .

-5 التوسل بالنبي صلى الله علية وسلم بعد مماته :

كأن يقول القائل أسألك يارب بنبيك محمد ، ويريد : أني أسألك بإيماني به وبمحبته . وأتوسل إليك بإيماني به يا رب وبمحبته . ونحو ذلك .

قال ابن تيمية : من أراد هذا المعنى فهو مصيب في ذلك بلا نزاع ، ويحمل على هذا المعنى كلام من توسل بالنبي صلى الله عليه وسلم بعد مماته من السلف ، كما نقل عن بعض الصحابة والتابعين ، وعن الإمام أحمد وغيره ، وعلى هذا لا يكون في المسألة نزاع أو خلاف.


ثانيا: التوسل المختلف فيه بين الأئمة

1- التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم بعد وفاته : ( الذي اختلف فيه العلماء ):

اختلف العلماء في مشروعية التوسل النبي صلى الله علية وسلم بعد وفاته كقوله القائل : اللهم إني أسألك بنبيك أو بجاه نبيك أو بحق نبيك ، على أقوال ثلاثة :

القول الأول: ذهب جمهور العلماء الفقهاء ( المالكية والشافعية ومتأخرو الحنفية وهو المذهب عند الحنابلة ) إلى جواز هذا النوع من التوسل سواء في حياة النبي صلى الله عليه وسلم أو بعد وفاته.

قال القسطلانى : وقد روي أن مالكا لما سأله أبو جعفر المنصور العباسي -ثاني خلفاء بني العباس -يا أبا عبد الله أستقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأدعو أم أستقبل القبلة وأدعو ؟

فقال له مالك : ولم تصرف وجهك عنه وهو وسيلتك ووسيلة أبيك آدم –عليه السلام – إلى الله عز وجل يوم القيامة؟ بل استقبله واستشفع به فيشفعه الله .

وقد روى هذه القصة أبو الحسن علي بن فهر في كتابه ( فضائل مالك ) بإسناد لا بأس به وأخرجها القاضي عياض في الشفاء من طريقه عن شيوخ عدة من ثقات مشايخه.

وقال النووي في بيان آداب زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم : ثم يرجع الزائر إلى موقف قبالة وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم فيتوسل به ويستشفع به إلى ربه ، ومن أحسن ما يقول الزائر، ما حكاه الماوردي والقاضي وأبو الطيب وسائر أصحابنا عن العتبي مستحسنين له قال : كنت جالسا عند قبر النبي فجاءه أعرابي فقال : السلام عليك يا رسول الله . سمعت الله تعالى يقول : ( ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاءوك فاستغفروا الله واستغفر لهم الرسول لوجدوا الله توابا رحيما ) (النساء : 64) .

وقد جئتك مستغفرا من ذنبي مستشفعاً بك إلى ربي . ثم أنشأ يقول :

يا خير من دفنت بالقاع أعظمه

وطاب من طيبهن القاع والأكم

نفسي الفداء لقبر أنت ساكنه

فيه العفاف وفيه الجود والكرم

وقال العز بن عبد السلام : ينبغي كون هذا مقصوراً على النبي صلى الله عليه وسلم لأنه سيد ولد آدم ، وأن لا يقسم على الله بغيره من الأنبياء والملائكة والأولياء لأنهم ليسوا في درجته ، وأن يكون مما خص به تنبيها على علو رتبته .

وقال السبكي : ويحسن التوسل والاستغاثة والتشفع بالنبي إلى ربه . وفي إعانة الطالبين : . . . وقد جئتك مستغفراً من ذنبي مستشفعا بك إلى ربي.

ما تقدم أقوال المالكية والشافعية .

وأما الحنابلة فقد قال ابن قدامه في المغني بعد أن نقل قصة العتبى مع الأعرابي : (ويستحب لمن دخل المسجد أن يقدم رجله اليمنى . . إلى أن قال : ثم تأتي القبر فتقول . . وقد أتيتك مستغفرا من ذنبي مستشفعاً بك إلى ربي . . ) ومثله في الشرح الكبير.

وأما الحنفية : فقد صرح متأخر وهم أيضا بجواز التوسل بالنبي صلى الله علية وسلم فقال الكمال بن الهمام في فتح القدير : ثم يقول في موقفه : السلام عليك يا رسول الله . . ويسأل الله تعالى حاجته متوسلا إلى الله بحضرة نبيه عليه الصلاة والسلام .

وقال صاحب الاختيار فيما يقال عند زيارة النبي صلى الله عليه وسلم (جئناك من بلاد شاسعة . . . والاستشفاع بك إلى ربنا) ثم يقول : مستشفعين بنبيك إليك .

ومثله في مراقي الفلاح والطحاوي على الدر المختار والفتاوى الهندية .

ونص هؤلاء : عند زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم :( اللهم . . . وقد جئناك سامعين قولك طائعين أمرك ، مستشفعين نبيك إليك ) .

وقال الشوكاني : ويتوسل إلى الله بأنبيائه والصالحين.

وقد استدلوا لما ذهبوا إليه بما يأتي:

أ - قوله تعالى: ( وابتغوا إليه الوسيلة) (الماثدة :35) .

ب - حديث الأعمى المتقدم وفيه : ( اللهم أني أسألك وأتوجه إليك بنبيك محمد نبي الرحمة . . . فقد توجه الأعمى في دعائه بالنبي صلى الله عليه وسلم (أي بذاته ) .

جـ قوله صلى الله عليه وسلم في الدعاء لفاطمة بنت أسد : " اغفر لأمي فاطمة بنت أسد ووسع عليها مدخلها بحق نبيك والأنبياء الذين من قبلي فإنك أرحم الراحمين ".

د- حديث الرجل الذي كانت له حاجة عند عثمان بن عفان -رضي الله عنه - : روى الطبراني والبيهقى أن رجلا كان يختلف إلى عثمان بن عفان - رضي الله عنه - في زمن خلافته ، فكان لا يلتفت ولا ينظر إليه في حاجته ، فشكا ذلك لعثمان بن حنيف ، فقال له : ائت الميضأة فتوضأ، ثم ائت المسجد فصل ، ثم قل : اللهم إني أسألك وأتوجه إليك بنبيك محمد نبي الرحمة . يا محمد إني أتوجه بك إلى ربك لتقضي حاجتي ، وتذكر حاجتك ، فانطلق الرجل فصنع ذلك ، ثم أتى باب عثمان بن عفان -رضي الله عنه -، فجاء البواب فأخذ بيده ، فأدخله على عثمان -رضي الله عنه - فأدخله معه وقال له : اذكر حاجتك ، فذكر حاجته فقضاها له ، ثم قال : مالك من حاجة فاذكرها .

ثم خرج من عنده فلقي ابن حنيف فقال له : جزاك الله خيرا ما كان ينظر لحاجتي حتى كلمته لي ، فقال ابن حنيف ، والله ما كلمته ولكن شهدت رسول الله صلى الله عليه وسلم وأتاه ضرير فشكا إليه ذهاب بصره. إلى آخر حديث الأعمى المتقدم .

قال المباركفوري : قال الشيخ عبد الغني في إنجاح الحاجة : ذكر شيخنا عابد السندي في رسالته والحديث - حديث الأعمى - يدل على جواز التوسل والاستشفاع بذاته المكرمة في حياته ، وأما بعد مماته فقد روى الطبراني في الكبير عن عثمان بن

حنيف أن رجلا كان يختلف إلى عثمان . . إلى آخر الحديث .

وقال الشوكاني : دليل على جواز التوسل برسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الله عز وجل مع اعتقاد أن الفاعل هو الله سبحانه وتعالى ، وأنه المعطي المانع ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن.

القول الثاني : في التوسل النبي صلى الله عليه وسلم بعد وفاته :

جاء في التاتر خانية معزيا للمنتقى : روي أبو يوسف عن أبي حنيفة : لا ينبغي لأحد أن يدعو الله إلا به ( أي بأسمائه وصفاته ) والدعاء المأذون فجه المأمور به ما استفيد من قوله تعالى: (ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها) (الأعراف : 18 ) .

- وعن أبي يوسف أنه لا بأس به ، وبه أخذ أبو الليث للأثر .

- وفي الدر : والأحوط الامتناع لكونه خبر واحد فيما يخالف القطعي ، إذ المتشابه إنما يثبت بالقطعي.

-أما التوسل بمثل قول القائل : بحق رسلك وأنبيائك وأوليائك ، أو بحق البيت فقد ذهب أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد إلى كراهيته ، قال الحصكفي : لأنه لا حق للخلق على الله تعالى وإنما يخص برحمته من يشاء من غير وجوب عليه .

قال ابن عابدين : قد يقال : إنه لا حق لهم وجوبا على الله تعالى لكن الله سبحانه وتعالى جعل لفم حقا من فضله ، أو يراد بالحق الحرمة والعظمة ، فيكون من باب الوسيلة ، وقد قال تعالى: ( وابتغوا إليه الوسيلة).

وقد عد من آداب الدعاء التوسل على ما في ( الحصن )، وجاء في رواية " اللهم إني أسألك بحق السائلين عليك ، وبحق ممشاي إليك ، فإني لم أخرج أشرا و لا بطرا " الحديث .

ويحتمل أن يراد بحقهم علينا وجوب الإيمان بهم وتعظيمهم . وفي (اليعقوبية) : يحتمل أن يكون الحق مصدرا لا صفة مشبهة، فالمعنى بحقية رسلك ، فليتأمل ا . هـ . أي : المعنى بكونهم حقا لا بكونهم مستحقين . أقول –أي ابن عابدين - : لكن هذه كلها احتمالات مخالفة لظاهر المتبادر من هذا اللفظ ، ومجرد إيهام اللفظ ما لا يجوز كاف في المنع . . فلذا والله أعلم أطلق أئمتنا المنع ، على أن إرادة هذه المعاني مع هذا الإيهام فيها ا،الأقسام بغير الله تعالى وهو مانع اخر، تأمل.

هذا ولم نعثر في كتب الحنفية على رأي لأبي حنيفة وصاحبيه في التوسل إلى الله تعالى النبي صلى الله عليه وسلم في غير كلمة " بحق " وذلك كالتوسل بقوله : "بنبيك " ، أو "بجاه نبيك " ، أو غير ذلك إلا ما ورد عن أبي حنيفة - في رواية أبي يوسف - قوله : (لا ينبغي لأحد أن يدعو الله إلا به ) .

القول الثالث : في التوسل النبي صلى الله عليه وسلم بعد وفاته :

ذهب تقي الدين بن تيمية ، وبعض الحنابلة من المتأخرين إلى أن التوسل بذات إلى بي في لمجبته لا يجوز، وأما التوسل بغير الذات فقد قال ابن تيمية : ولفظ التوسل قد يراد به ثلاثة أمور : يراد به أمران متفق عليهما بين المسلمين :

أحدهما : هو أصل الإيمان والإسلام ، وهو التوسل با لإيمان به صلى الله عليه ولم وبطاعته .

والثاني : دعاؤه وشفاعته صلى الله عليه وسلم ( أي في حال حياته ) وهذا أيضا نافع يتوسل من دعا له وشفع فيه باتفاق المسلمين .

الثالث: التوسل به بمعنى الإقسام على الله بذاته صلى الله عليه وسلم ، والسؤال بذاته ، فهذا ص الذي لم يكن الصحابة يفعلونه في الاستسقاء ونحوه ، لا في حياته ولا بعد مماته ، لا عند قبره ولا غير قبره ، ولا يعرف هذا في شيء من الأدعية المشهورة بينهم ، وإنما ينقل شيء من ذلك في أحاديث ضعيفة مرفوعة وموقوفة ، أو عمن ليس قوله حجة .

وذهب ابن تيميه إلى أن التوسل بلفظ ( أسألك بنبيك محمد ) يجوز إذا كان على تقدير مضاف ، فيقول في ذلك : ( فإن قيل : إذا كان التوسل بالإيمان به ومحبته وطاعته على وجهين : تارة بالتوسل بذلك إلى ثواب الله وجنته ( وهذا أعظم الوسائل ) تارة.

يتوسل بذلك في الدعاء -كما ذكرتم نظائره - فيحمل قول القائل : أسألك بنبيك محمد على أنه أراد : أني أسألك بإيماني به وبمحبف ، وأتوسل إليك بإيماني به ومحبف ونحو ذلك ، وقد ذكرتم أن هذا جائز بلا نزاع . قيل : من أراد هذا المعنى فهو مصيب في ذلك بلا نزاع ، وإذا حمل على هذا المعنى لكلام من توسل بإلى بي لمج!و بعد مماته من السلف ، كما نقل عن بعض الصحابة والتابعين ، وعن الإمام أحمد وغيره ، كان هذا حسنا ، وحينئذ فلا يكون في المسألة نزاع ، ولكن كثير من العوام يطلقون هذا اللفظ ، ولايريدون هذا المعنى ، فهؤلاء الذين أنكر عليهم من أنكر، وهذا كما أن الصحابة كانوا يريدون بالتوسل به التوسل بدعائه وشفاعته وهذا جائز بلا نزاع .

وقد نقل عن ابن تيمية-رضي الله عنه -أنه قال بذلك ، فقد نقل عن المجموعة العلمية ص 65 ، وهي مخطوطة في مكتبة الظاهرية بدمشق بخط شرف الدين بن تيمية -أخو الحافظ ابن تيمية - قوله : (وأما حقوق الرسول صلى الله عليه وسلم بأبي هو وأمي فتقديم محبته على النفس والأهل والمال وتعزيره وتوقيره ، وإجلاله وطاعته ، واتباع سنته ، وغير ذلك فعنن جدا ، وكذلك ما يشرع به في الدعاء كما في حديث رواه الترمذي وصحى "اللهم إني أسألك وأتوسل إليك بنبيك محمد نبي الرحمة ، يا محمد يا رسول الله ، إني أتوسل بك إلى ربي في حاجة لتقضيها اللهم فشفعه في ) . فهذا التوسل به حسن.

ثم يقول : والذي قاله أبو حنيفة وأصحابه وغيرهم من العلماء من أنه لا يجوز أن يسأل الله تعالى بمخلوق لا بحق الأنبياء ولا غير ذلك يتضمن شيئين كما تقدم :

أحدهما : الأقسام على الله سبحانه وتعالى به ، وهذا منهي عنه عند جماهير العلماء كما لقدم كما ينهي أن يقسم على الله بالكعبة والمشاعر باتفاق الفقهاء .

والثاني : السؤال به فهذا يجوزه طائفة من الناس ، ونقل في ذلك آثار عن بعض السلف ، وهو موجود في دعاء كثير من الناس ، لكن ما روي عن النبي !ذ في ذلك كله ضعيف بل موضوع ، وليس عنه حديث ثابت قد يظن أن لهم فيه حجة إلا حديث الأعمى الذي علمه أن يقول : أسألك وأتوجه إليك بنبيك محمد نبي الرحمة ).

وحديث الأعمى لا حجة لهم فيه ، فإنه صريح في أنه إنما توسل بدعاء النبي صلى الله عليه وسلم وشفاعته ، وهو طلب من النبي صلى الله عليه وسلم الدعاء ، وقد أمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يقول : ( اللهم شفعه في ) . ولهذا رد الله عليه بصره لما دعا له النبي صلى الله عليه وسلم، وكان ذلك يعد من آيات النبي صلى الله عليه وسلم. ولو توسل غيره من العميان الذين لم يدع لهم النبي صلى الله عليه وسلم بالسؤال به لم تكن حالهم كحاله.

وساغ النزاع في السؤال بالأنبياء والصالحين دون الأقسام بهم ، لأن بين السؤال والأقسام فرقا ، فإن السائل متضرع ذليل يسأل بسبب يناسب الإجابة ، والمقسم أعلى من هذا ، فإنه طالب مؤكد طلبه بالقسم ، والمقسم لا يقسم إلا على من يرى أنه يبر قسمه ، فإبرار القسم خاص ببعض العباد ، وأما إجابة السائلين فعام ، فإن الله يجيب دعوة المضطر ودعوة المظلوم ، وإن كان كافرا ، وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : "ما من مسلم يدعو بدعوة ليس فيها إثم ولا قطيعة رحم إلا أعطاه الله بها إحدى ثلاث : إما أن تعجل له دعوته في الدنيا ، واما أن يدخرها له في الآخرة مثلها ، وإما أن يصرف عنه من السوء مثلها . قالوا إذا نكثر، قال : : الله أكثر".

وهذا التوسل بالأنبياء بمعنى السؤال بهم -وهو الذي قال عنه أبو حنيفة وأصحابه وغيرهم : أنه لا يجوز - ليس في المعروف من مذهب مالك ما يناقض ذلك ، فمن نقل عن مذهب مالك أنه جوز التوسل به بمعنى الإقسام أو السؤال به فليس معه في ذلك نقل عن مالك وأصحابه ، ثم يقول : ولم يقل أحد من أهل العلم : أنه يسأل الله تعالى في ذلك لا بنبي ولا بغير نبي .

وكذلك من نقل عن مالك أنه جوز سؤال الرسول أو غيره بعد موتهم أو نقل ذلك عن إمام من أئمة المسلمين - غير ذلك -كالشافعي وأحمد وغيرهما فقد كذب عليهم، وليس مع ابن تيمية دليل على قوله هذا ، وإلا أتى به خاصة في موقف الخصومة ، ولكنه يقرر أن المسألة خلافية لكل فيها رأيه .

- ثم يقرر ابن تيمية في كتابه "قاعدة جليلة" أن هذه المسألة خلافية وأن التكفير بها حرام وإثم .

- ويقول بعد ذكر الخلاف في المسألة : ولم يقل أحد : إن من قال بالقول الأول فقد كفر، ولا وجه لتكفيره ، فإن هذه مسألة خفية ليست أدلتها جلية ظاهرة ، والكفر إنما يكون بإنكار ما علم من الدين بالضرورة ، أو بإنكار الأحكام المتواترة والمجمع عليها ونحو ذلك . بل المكفر بمثل هذه الأمور يستحق من غليظ العقوبة والتعزير ما يستحقه أمثاله من المفترين على الدين ، لا سيما مع قول النبي صلى الله عليه وسلم: ( أيما رجل قال لأخيه : يا كافر فقد باء به أحدهما ).


2 - التوسل بالصالحين من غير النبي :

لا يخرج حكم التوسل بالصالحين من غير النبي صلى الله عليه عما سبق من الخلاف في التوسل به صلى الله عليه وسلم.

لأن العلماء أثبتوا لهم جاها عند الله تعالى ومنزلة ، يتقرب بها إلى الله وقد استشهدوا على ذلك بأدلة نورد جزءا منها ونبين رأئ الإمام ابن تيميه في الأمور الآتية هل للصالحين جاه أم لا؟

- وهل هناك خلاف بالتوسل بهم أم لا؟

- هل يترتب عليها تكفير أو الحكم على الناس بالشرك أم لا؟

- وهل هو من مسائل الفقه أم من مسائل العقيدة؟

ولترك الإجابة الآن لشيخ الإسلام ابن تيمية حيث يقول :

إثبات الجاه للصالحين :

قد جاء في حديث رواه أحمد في مسنده وابن ماجة عن عطية العوفي عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه أنه علم الخارج إلى الصلاة أن يقول في دعائه : "أسألك بحق السائلين عليك وبحق ممشاي هذا فإني لم أخرج أشرا ولا بطرا ولا رياء ولا سمعة ، ولكن خرجت اتقاء سخطك وابتغاء مرضاتك ".

فإن كان هذا صحيحا فحق السائلين عليه أن يجيبهم ، وحق العابدين له أن يغيبهم وهو حق أوجبه على نفسه لهم ، كما يسأل بالإيمان والعمل الصالح الذي جعله سببا لإجابة الدعاء كما في قوله تعالى :( ويستجيب الذين آمنوا وعملوا الصالحات ويزيدهم من فضله ) (الشورى : 26) .

وكما يسأل بوعده لأن وعده يقتضي إنجاز ما وعده ، ومنه قول المؤمنين : (ربنا إننا سمعنا مناديا ينادي للإيمان أن آمنوا بربكم فآمنا ربنا فاغفر لنا ذنوبنا وكفر عنا سيئاتنا وتوفنا مع الأبرار!(آل عمران : 193 ) .

وقوله ( إنه كان فريق من عبادي يقولون ربنا آمنا فاغفر لنا وارحمنا أنت خير الراحمين(109) فاتخذتموهم سخرياً حتى أنسوكم ذكرى) (المؤمنون : 109 - 110 ) .

ويشبه هذا مناشدة النبي صلى الله عليه وسلم يوم بدر حيث يقول : "اللهم أنجز لي ما وعدتني " وكذلك ما في التوراة أن الله تعالى غضب على بني إسرائيل ، فجعل موسى يسأل زبه ويذكر ما وعد به إبراهيم ، فإنه سأله بسابق وعده لإبراهيم.

ثم يقول ابن تيمية "رحمه الله -عن إثبات الجاه للصالحين :

(قد تبين أن قول القائل ( أسألك بكذا ) نوعان : فإن الباء قد تكون للقسم ، وقد تكون للسبب . فقد تكون قسما به على الله ، وقد تكون سؤالا بسببه.

فأما الأول : فالقسم بالمخلوقات لا يجوز على المخلوق فكيف على الخالق ؟

وأما الثاني : وهو السؤال بالمعظم كالسؤال بحق الأنبياء فهذا فيه نزاع ، وقد تقدم عن أبي حنيفة وأصحابه أنه لا يجوز ذلك ، ومن الناس من يجوز ذلك فنقول : قول السائل لله تعالى : ( أسألك بحق فلان وفلان من الملائكة والأنبياء والصالحين ؟غيرهم ، أو بجاه فلان أو بحرمة فلان ) يقتضي أن هؤلاء لهم عند الله جاه ، وهذا صحيح .

فإن هؤلاء لهم عند الله منزلة وجاه وحرمة يقتضي أن يرفع الله درجاتهم ويعظم أقدارهم ويقبل شفاعتهم إذا شفعوا ، مع أنه سبحانه قال: ( من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه ).

ويقتضي أيضا أن من اتبعهم واقتدى بهم فيما سن له الاقتداء بهم فيه كان سعيدا ، ومن أطاع أمرهم الذي بلغوه عن الله كان سعيدا ، ولكن ليس مجرد نفس قدرهم وجاههم مما يقتضي إجابة دعائه إذا سأل الله بهم حتى يسأل الله بذلك ، بل جاههم ينفعه أيضا إذا اتبعهم وأطاعهم فيما أمروا به عن الله ، أو تأسى بهم فيما سنوه للمؤمنين ، وينفعه أيضا إذا دعوا له وشفعوا فيه.

هذا هو رأي الإمام بن تيمية ، الذي أثبت للصالحين جاها بالأدلة ولكنه منع التوسل بجاههم ، ولم يمنعه إذا توسل بطاعتهم والاقتداء بهم ، ومحبتهم ، وغير الإمام ابن تيمية من جمهور العلماء لم يمنع كل ذلك ، هذا ولكل رأيه في المسألة ، وهذه من الأمور الخلافية ، والمسائل الخلافية ليس فيها أمر بالمعروف ونهي عن المنكر، لأن المسائل الخلافية ليمت من المنكرات فضلا عن أن تكون من المحرمات أو الشركيات ، ولكل أن يتبع إماما من الأئمة ، أما إذا كان من أهل إلى النظر، فإنه يأخذ بما يصح عنده من الأدلة .


التوسل مسألة فقهية وليست من أصول العقيدة

وأخيرا نسوق إليك رأي الإمام محمد بن عبد الوهاب في الموضوع : في المسألة العاشرة : ( قولهم في الاستسقاء لا بم أس بالتوسل بالصالحين وقول أحمد يتوسل النبي صلى الله عليه وسلم خاصة مع قولهم إنه لا يستغاث بمخلوق - فالفرق ظاهر جدا - وليس الكلام مما نحن فيه فكون البعض يرخص التوسل بالصالحين وبعضهم يخصه النبي صلى الله عليه .

وأكثر العلماء ينهي عنه ويكرهه . . فهذه المسألة من مسائل الفقه الصواب عندنا قول الجمهور أنه مكروه فلا ننكر على من فعله.

فها هو الإمام محمد بن عبد الوهاب يقرر أنه :

ا -من مسائل الفقه .

2 - أنه مكروه .

3- لا ينكر على من فعله .

هذا وقد سبق لنا أن قدمنا رأي الإمام ابن تيمية في ذلك حيث قرر أن هذه مسائل خلافية ، وهي من مسائل الفقه لا شرك فيها ، ومن قال غير ذلك يستحق من العقوبة ما يستحق أمثاله من المفترين على الدين لا سيما قول النبي صلى الله عليه وسلم:" من قال لأخيه يا كافر فقد باء بها أحدهما".

والآن نعيد على هؤلاء ما قاله الإمام البنا في الأصل الخامس عشر-في رسالة التعاليم - عندما قال : ( والدعاء إذا قرن بالتوسل إلى الله بأحد من خلقه خلاف فرعي في كيفية الدعاء وليس من مسائل العقيدة ) . فهل خالف قوله العلماء وبصفة خاصة الإمامين ابن تيمية وابن عبد الوهاب ؟ .

ثم هل يترتب على فعل المتوسل بذات النبي صلى الله عليه وسلم والصالحين بعد وفاتهم عقوبة . و الآن وبعد أن تبين لنا أنها مسألة نزاع وخلاف بين العلماء ولا يترتب عليها تكفير فهل يترتب عليها عقوبة؟ ننظر إلف شيخ الإسلام ابن تيمية حيث يقول : (وليس هذا من مسائل العقوبات بإجماع المسلمين بل المعاقب على ذلك معتد جاهل ظالم - فإن القائل بهذا قد قال ما قالت العلماء - والمنكر عليه ليس معه نقل يجب اتباعه لا عن النبي صلى الله عليه وسلم!ذ ولا عن الصحابة ).

ولقد نفى الشيخ صالح الفوزان عن الشيخ ابن تيمية ، أنه كفر أحدا يتوسل النبي صلى الله عليه وسلم البتة أو بأحد الصالحين بعد وفاتهم ، وبين أن هذا النوع ، من التوسل ، لا يجوز تكفير صاحبه ، كما لم يقل أحد من علماء الأمة بأنه كفر أو شرك.


جهالة في الاستشهاد والاستدلال

هذا وقد استشهد بعض الذين لا علم لهم ولا دراية بالأحكام بآيات من القرآن الكريم نزلت في المشركين الذين يعبدون غير الله ، واستدلوا بها في غير موضوعها من مثل قوله تعالى : ( ويعبدون من دون الله ما لا يضرهم ولا ينفعهم ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله ) (يونس : 18 ) . وقوله تعالى :"والذين اتخذوا في دونه أولياء ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى (الزمر : 3) .

وواضح من الآيتين أنهم كانوا يعبدونهم ويتوسلون بهم بدليل قوله تعالى: (ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى ) وهذا يخالف تماما حال المسلمين الذين يعبدون الله تعالى ويتوسلون إلى الله بمن لا يعبدونهم ، ولكن بالصالحين من خلق الله كالأنبياء ، وغيرهم ، وقد وردت في ذلك أدلة تجيز ذلك كما سبق .

وفي ذلك يقول شيخ الإسلام ابن تيمية : ( وكان المشركون الذين جعلوا معه آلهة أخرى مقرين بأن آلهتهم مخلوقة ولكنهم كانوا يتخذونهم شفعاء ويتقربون بعبادتهم إليه كما قال تعالى : ثم ذكر الآيتين السابقتين ).

وبعد كل ما تقدم : يظهر للقارئ جهل هؤلاء المفترين على الشيخ البنا -رضي الله عنه -، كما يظهر سعة اطلاع الشيخ البنا وحصافته وفقهه للأمور، ومع كل ما تقدم فيما قرره الإمام البنا من أن الدعاء إذا قرن بالتوسل إلى الله بأحد من خلقه خلاف فرعي في كيفية الدعاء وليس من مسائل العقيدة يوضح الشيخ البنا رأيه صراحة في الأصل الثالث عشر فيقول : ( ومحبة الصالحين واحترامهم والثناء عليهم بما عرف من طيب أعمالهم قربة إلى الله تعالى والأولياء هم المذكورون في قوله تعالى: الذين آمنوا وكانوا يتقون * والكرامة ثابتة لهم بشرائطها الشرعية مع اعتقاد أنهم - رضي إن الله عليهم - لا يملكون لأنفسهم نفعا ولا ضرا في حياتهم أو بعد مماتهم فضلا عن أن يهبوا شيئا من ذلك لغيرهم.

أن رأي الشيخ البنا - رضوان الله عليه - مع إجماع العلماء ، في التوسل المتفق عليه ، ومنهم الشيخ الإمام إبن تيمية والشيخ محمد بن عبد الوهاب ولكن -رضي الله عنه -أراد أن يبين الحكم في التوسل ، وأنه من مسائل الفقه وليس من مسائل العقجدة، كما بين ذلك غيره من العلماء مثل -ابن تيمية وابن عبد الوهاب -وقد قدمنا ذلك فيما سبق .

وقد أنكر البعض كذلك على الأستاذ عمر التلمساني قوله بجواز التوسل النبي صلى الله عليه وسلم في كتابه (شهيد المحراب ) حيث قال : ( لا داعي للتشدد في النكير على من يعتقد في كرامة الأولياء واللجوء إليهم في قبورهم الطاهرة الدعاء فيها عند الشدائد ) :

ا - أما عن قوله : ( لا داعي للتشدد في النكير على من يعتقد في كرامة الأولياء) ، فكرامة الأولياء حق ، أثبتها إجماع العلماء ولم يشذ عنهم أحد، وقد قال الإمام ابن تيمية-رحمه الله -: إن الأولياء لهم الكرامات التي يكرم الله بها أولياءه المتقين.

ثم ذكر رحمه الله طرفا كبيرا من هذه الكرامات من ص 276 إلى 82 2 من الجزء الحادي عشر ، ومما ذكر من الكرامات ، كرامة عمر بن الخطاب ، والزنيرة ، وسعيد بن زيد ، والعلاء بن الخضرمي ، وأبو مسلم الخولاني ، وعامر بن عبد قيس ، والحسن البصري وغيرهم من الأولياء .

وكذلك قرر كرامة الأولياء الإمام ابن عبد الوهاب : حيث يقول : وأقر بكرامات الأولياء ، ومالهم من المكاشفات ، ولكن لا يطلب منهم ما لا يقدر عليه إلا الله. ويقول الإمام الطحاوي صاحب العقيدة الطحاوية في المسألة 99 ، ونؤمن بما جاء من كرامتهم وصح عن الثقات من رواياتهم .

2 - وأما قول الأستاذ التلمساني : ( اللجوء إليهم في قبورهم الطاهرة والدعاء فيها عند الشدائد ، وكرا.مات الأولياء معروفة ) .

ونريد أن نلقي الضوء على من استشكل عليه كلام الأستاذ -رحمه الله :

1 - أما قوله لا نكير على من دعا فيها عند الشدائد، فنقول :

أ - أنه رحمه الله قال من دعا فيها ( أي عندها ) ولم يقل بها ولا منها ، ثم ألم يقرأ هؤلاء ما أورده الحافظ ابن كثير في تفسير قول الله تعالى:(ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاوءك فاستنفروا الله واسثتغفر لهم الرسول لوجدوا الله توابا رحيما) (النساء : 64) .

وقد ذكر جماعة منهم أبو منصور الصباغ في كتابه الشامل الحكاية المشهورة عن العتبي ، قال : كنت جالسا عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم فجاء أعرابي فقال السلام عليكم يا رسول الله سمعت الله يقول : " ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاءوك فاستغفروا الله واستغفر لهم الرسول لوجدوا الله توابا رحيما" (النساء : 64) .

وقد جئتك مستغفرا لذنبي مستغفراً بك إلى ربي ، ثم أنشأ يقول :

يا خير من دفنت بالقاع أعظمه
وطاب من طيبهن القاع والأكم

نفسي الفداء لخبر أنت ساكنه

فيه العفاف وفيه الجود والكرم

ثم انصرف الأعرابي ، فغلبتني عيني ، فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم في النوم فقال : (ياعتبي الحق الأعرابي فبشره أن الله قد غفر له )، وهذه الرواية تؤيد ما ذهب إليه الأستاذ عمر من أن شفاعة الرسول صلى الله عليه وسلم ليست قاصرة على حياته فقط .

وقد وضح - رضي الله عنه -كلامه هذا فيما أوردته مجلة المجتمع الكويتية عدد 76 4 في 5 1 : 4 : 0 98 1 م . حين سأله المحرر عن زيارة الأضرحة : فقال : -رحمه الله - موضحا رأيه في ذلك : ( نحن نعتقد أن عادة الأهالي هنا بزيارة القبور ليس فيها ما يخالف السنة فأنا إذا زرت قبرا . لا أفعل إلا السنة ، لكن إذا كنت مسلما وأرى أن الحسين أو غيره يستطيع أن يفعل لي شيئا أو يضر أو ينفع ، فلا شك أن هذا شرك لا، ونحن إذا دعينا لزيارة القبور ، فإننا نزورها ولكن لا نتأثم غير أنه إذا زار غيرنا ضريحا ليستشفى أو يستنزل رزقا فإن هذا وثنية ) .

وهذا في الحقيقة يعتبر إيضاحا لما ورد متقدما في كتاب ( شهيد المحراب ) للأستاذ عمر ، والمطبوع في سنة 1974 .

ب - حتى إذا فهم من كلام الأستاذ عمر التلمساني التوسل بالصالحين لقضاء

الحاجات ، فهذا أمر أقره جمهور الفقهاء كما سبق لنا أن أبنا ذلك ، وقد كرهه الإمام أبو حنيفة ولم يمنعه إلا شيخ الإسلام ابن تيمية والشيخ محمد بن عبدالوهاب ولم يقولوا : إن هذا شرك لأنه من الأمور المختلف فيها عند العلماء .


وبعد فهل يعرف الفضل لأهل الفضل ؟

كم يسعد الإنسان أن يرى عالما يحترم أخاه ، ومجاهدا يقدر مكافحا في سبيل الحق ، وداعية يعضد مصلحا ويشد من أزره ، وكم يبتئس الإنسان ويأسى ويأسف لعالم يسب آخر أو يقع في عرضه أو يحاول تشويه سمعته ، أو غمزه ولمزه ، وكم يفجع الإنسان في دعاة يغمطون الحق ويتعامون عن الصواب ، ويحاولون هدم رجال ناصبوا الباطل العداء ، وكافحوه حتى هوى أو كاد ، وطاردوه حتى رحل أو باد ، وهذا الصنف المتدني البائس قد كثر في أيامنا هذه كثرة الذباب ، وانتشر في الأمة انتشار الوباء حتى كاد أن يلطخ في العصر الحديث كل نبتة خضراء وكل زهرة فيحاء ، ويحرق كل لبنة شماء وفكرة عصماء وصفحة بيضاء ، وهم في الحقيقة يلطخون وجوههم ، ويحرقون أنفسهم ، ويضلون أممهم ، ويلوثون تاريخهم وكفاح أمتهم ، صادفت يوما أحد هؤلاء ينتقص من قدر شيخ الإسلام ابن تيمية ، ويريد أن يقع في عرض الشيخ محمد بن عبدا لوهاب ، فأخذتني رعدة الحق ، ووخزتني صولة الإنصاف ، ورددته على عقبه ، وأدرت نصله في نحره ، أعطيته درسا بليغا في احترام العلماء ، وتقدير المكافحين وأهل الفضل .

وكم طربت كثيرا وانتشيت وسررت لرجال عرفوا فضل العلماء وقدروا جهودهم وتضحياتهم ، وما أروع قول الإمام أحمد بن حنبل - رضوان الله عليه - في ذلك ، حيث قال : ( الحمد لله الذي جعل في كل زمان فترة من الرسل ، بقايا من أهل العلم ، يدعون من ضل إلى الهدى، ويصبرون منهم على الأذى ويحيون بكتاب الله تعالى الموتى، ويبصرون بنور الله أهل العمى ، فكم من قتيل لإبليس قد أحيوه ، وكم من ضال تائه قد هدوه ، فما أحسن أثرهم على الناس ، وما أقبح أثر الناس عليهم ، ينفون عن كتاب الله تحريف الغالين ، و انتحال المبطلين ، وتأويل الجاهلين الذين عقدوا ألوية البدعة وأطلقوا عنان الفتنة، فهم مختلفون في الكتاب مخالفون للكتاب ، مجمعون على مفارقة الكتاب ، يقولون على كتاب الله ، وعلى الله ، وفي الله بغير علم ، ويتكلمون بالمتشابه من الكلام ، ويخضعون جهال الناس بما يشبهون عليهم ، فنعوذ بالله من فتنة المضلين )

وكم سعدت كثيرا في العصر الحديث أن وجد بقية من هؤلاء الصالحين الذين يقدرون جهد الدعاة والعلماء والمفكرين من هؤلاء : الأستاذ أبو الحسن علي الحسني الندوة ، إذ رأيت الرجل يشيد بجهود العلماء والدعاة ، ويعرف الفضل لأهله (وإنما يعرف الفضل لأهل الفضل ذووه ) .

يقول الشيخ العلامة أبو الحسن الندوة عن الشيخ البنا في (مقدمة مذكرات الدعوة والداعية ):

( يتهيب رجل مثلى في قلة بضاعته في العلم والعمل ، وفي تخلفه في ميدان الإصلاح والكفاح ، وفي مجال التربية والإخراج ، وفي حلبة التضحية والمحنة، أن يتقدم للكتاب والتعليق على كتاب للشيخ البنا رحمه الله ).

ثم يقول :

( هذه الشخصية التي هيأتها القدرة الإلهية، وصنعتها التربية الربانية، وأبرزتها في أوانها ومكانها تدل على رجل موهوب مهيأ، وليس من سوانح الرجال ولا صنعته بيئة أو مدرسة، ولا صنيعة تاريخ أو تقليد ، ولا صنيعة اجتهاد ومحاولة وتكلف ، ولا صنيعه تجربة وممارسة، وأنما هو من صنائع التوفيق والحكمة الإلهية والعناية بهذا الدين ، وبهذه الأمة، والغرس الكريم الذي تهيأ لأمر عظيم ولعمل عظيم في زمن تشتد إليه حاجته ،وفي بيئة تعظم فيها قيمته . . إن كل من عرف الإمام البنا عن كثب لا عن كتب ، وعاش متصلا به ، عرف فضل هذه الشخصية التي قفزت إلى الوجود ، وفاجأت مصر ثم العالم العربي والإسلامي كله بدعوتها وتربيتها وجهادها، وقوتها الفذة التي جمع الله فيها مواهب وطاقات ، قد تبدوا مستحيلة في عين كثير من علماء النفس والأخلاق ، ومن المؤرخين والناقدين ، لأنها العقل الهائل النابه النير والفهم المشرق الواسع ، والعاطفة القوية الجياشة، والقلب المبارك الفياض ، والروح المشبوبة النضرة ، واللسان الذرب البليغ ، والزهد والقناعة دون عنت . في الحياة الفردية، والحرص وبعد الهمة دونما ككل في سبيل نشر الدعوة والمبدأ ، والنفس الولوعة الطموحة، والهمة السامقة الوثابة، والنظر النافذ البعيد ، والإباء والغيرة على الدعوة، والتواضع في كل ما يخص النفس . . تواضعا يكاد يجمع على الشهادة عارفوه حتى لكأنه - كما حدثنا كثير منهم - مثل رفيف الضياء، ولا ثقل ولا ظل ولا غشاوة .

وقد تعاونت هذه الصفات والمواهب في تكوين قيادة دينية اجتماعية، لم يعرف العالم العربي وما وراءه قيادة دينية وسياسية أقوى وأعنف تأثيرا ، أو أكثر إنتاجا فيها مند قرون ، وفي تكوين حركة إسلامية يندر أن نجد . في دنيا العرب خاصة . حركة أوسع نطاقا ، وأعظم نشاطا ، وأكبر نفوذ ، وأعظم تغلغلا في أحشاء اجتمع ، واكثر استحواذا على إلى النفوذ منها.

هذا وقد تجلت عبقرية الإمام البنا كداعي مع كثرة جوانب هذه العبقرية ومجالاتها في ناحيتين خاصتين ، لا يشاركه فيهما إلا القليل النادر من الدعاة والمربين والزعماء والمصلحين :

أولاهما : شغفه بدعوته ، وأيمانه واقتناعه بها، وتفانيه فيها، وانقطاعه إليها بجميع مواهبه وطاقاته ووسائله ، وذلك هو الشرط الأساسي والسمة الرئيسية للدعاة والقادة الذين يجرى الله على يديهم الخير الكثير

وثانيهما ، تأثيره العميق في نفوس أصحابه وتلاميذه ، ونجاحه المدهش في التربية والإنتاج ، فقد كان رحمه الله منشئ جيل ، ومربى شعب ، وصاحب مدرسة علمية فكرية خلقية، وقد أثر في ميول من اتصل به من المتعلمين والعاملين ، في أذواقهم ، وفي مناهج تفكيرهم ، وأساليب بيانهم ولغتهم وخطاباتهم تأثيرا بقى على مر السنين والأحداث ، ولا يزال شعارا وسمة يعرفون بها على اختلاف المكان والزمان .

ولقد فاتني أن اسعد بلقائه في مصر وفي غير مصر حتى كان حادث استشهاده الذي أدمى نفوس ملايين المسلمين وحرم العالم الإسلامي هذه الشخصية التاريخية الفذة الفريدة، ولا أزال أتحسر على هذه الخسارة التي كتبت لى ).

هذا حديث أبو الحسن الندوي الإمام الصادق - رحمه الله ورضي عنه - عن الشيخ البنا قد اجتزأت منه ما ذكرت ، فقلت بعد قراءته ، وكم في الشرق من عباقرة وأفذاذ وقمم أكلتهم جدران السجون ، أو قضت عليهم المحن ، أو استأصلتهم أعواد المشانق ، أو اغتالتهم في قارعة الطريق قوى الظلام والبغي ، وأنكرتهم ألسنة الزور والبهتان ، ولمزتهم أقلام العمالة والارتزاق والإفك ، ونحن نقول لحساب من ولمصلحة من ؟ وهل هذا يرضي الله ، وذلك يدفع العمل الإسلامي ؟ لا أظن إلا أنه يعوقه ويشكك فيه ويفيد أعداءه ، ولكنه ودائما ينتصر الحق وتعلو رايته ويفرح المؤمنون بنصر الله .


البيان الشافي من الشيخ البنا في المسألة

هذا وقد سئل الشيخ البنا عن التوسل النبي صلى الله عليه وسلم والصالحين وعن الاستغاثة بهم ، فأجاب - رضي الله عنه -إجابة الفاقه العالم فقال: بسم الله الرحمن الرحيم ، الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى الله وصحبه وسلم .

إلى إخواننا في الله تعالى بميت سلسيل دقهلية ، إلى القراء الكرام ، وكل محب لخير الإسلام وبني الإسلام . . السلام عليكم ورحمة الله وبركاته . . وبعد . . فأحب أن ألفتكم قبل الجواب عن هذه الأسئلة إلى أمور مهمة :

أولها : أرجو أن تلاحظوا أن الخلاف في فروع الدين ج مر طبيعي ولا يمكن أن يجتمع الناس في الفرعيات على رأي واحد أبدا ، وقد يكون الدليل إلى قلي واحد ويختلف الأئمة-رضوان الله عليهم -في استنباط الحكم بحسب ما يفيضه الله على قلب كل منهم من الفهم والإدراك ، وهذه آية الوضوء يستخرج منها الشافعي -رضي الله عنه -مائة مسألة ولا يستخرج منها غيره هذا المقدار .

والإخوان يعلمون أن الأئمة - رضوان الله عليهم - متعددون ، وسل رأيه في الدين مع وحدة الأصول ووحدة العقيدة بل إن الإمام الواحد قد يختلف في فتواه في وقت عنه في وقت آخر، وهذا الشافعي -رضي الله عنه -يفتي في الجديد بغير ما أفتى به في القديم وهكذا ، وهذا باب واسع دقيق فليعلمه الإخوان تمام العلم ، الخلاف لابد منه ولا عجب فيه ولكن العيب والإثم في التعصب للخلاف وخير للإخوان أن يتساهل بعضهم مع بعض ، وأن يحترم بعضهم بعضا ، فكلنا مسلمون والحمد لله ، ونحب أن تتحد كلمتنا على خصومنا لا أن نفترق على أنفسنا .

وثانيا ، أن الجدل في المسائل الدينية سبب كثيرا.من إلى كبات ، وقد كرهه النبي صلى الله عليه وسلم كراهية شديدة ونهى عنه نهيا مؤكدا ، وفي هذا الحديث كفاية وتذكرة : عن أبي الدرداء ، وواثلة بن الأسقع ، وأنس بن مالك - رضي الله عنهم - قالوا : خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما ونحن نتمارى في شيء من أمر الدين ، فغضب غضبا شديدا لم يغضب مثله ثم انتهرنا ، فقال : "مهلا يا أمة محمد إنما هلك من كان قبلكم بهذا ، ذروا المراء لقلة خيره ، ذروا المراء فإن المؤمن لايماري ، ذروا المراء فإن المماري قد تمت خسارته ، ذروا المراء فكفئ إثما ألا تزال مماريا ، ذروا المراء فإن المماري لا أشفع له يوم القيامة ، ذروا المراخ فأنا زعيم بثلاثة أبيات في الجنة في ربضها ووسطها وأعلاها لمن ترك المراء وهو صادق ، ذروا المراء فإن أول ما نهاني عنه ربي بعد عبادة الأوثان المراء" ، والمراء : الجدل في شؤون الدين ، والحديث رواه الطبراني في الكبير.

لهذا أنصح الإخوان الكرام وأرجوهم ألا يقعوا تحت طائلة هذا الوعيد الشديد ، وألا يخالفوا نبي الله لمجس!تر بالمداومة على الجدل والمراء وليترك كل إنسان لأخيه رأيه فإن أعظم مصيبة في الدين الفرقة والخلاف ، وحسبنا أن نتحد على أن الله واحد ، ومحمدا رسوله ، والقران حق ، فمن كان كذلك فهو أخ نحبه ونجله ونعرف له حق إخائه ، وفي هذا الكفاية .

ثالثهما : إن هذه المسائل وإضرابها مثار خلاف بين المسلمين من قديم العصور ، ولم يتحد السابقون فيها على رأي مع شدة بحثهم وخلوص نياتهم وتفرغهم للبحث واهتمامهم بشأن الدين فكذلك المتأخر ون سيظلون مختلفين فيها فإن لم يتسامح بعضهم مع بعض ويسلم بعضهم لبعض فهي الفتنة إلى يوم القيامة ، فخير لنا أن ندع فيها الخلاف ، يبين كل رأيه فإن اقتنع أخوه فبها ، وإلا تركه وما يريد ، من غير أن يعتقد فيه خروجا على الدين أو إثما أو عصيانا فإن له شبهة ودليلا وكفى .

ونحن حين نفتي في هذه الشؤون نبين ما هدانا الله إليه في هذه المسائل واعتقادنا فيها بحسب ما وضح لنا من الأدلة ، ولا نلزم أحدا اعتقاد عقيدتنا ، ولا نزكي أنفسنا ، بل ربما كنا مخطئين ونحن لا نشعر، فمرحبا بمن يدلنا على مكان إلى قص أو يرشدنا إلى مواطن الخطأ ، نقرر رأينا ونحترم رأي غيرنا ولا نجرح من خالفنا ، وتجمعنا دائرة الأخوة ا لإسلامية العامة .

بعد أن بينا هذا للإخوان الكرام نتناول المسائل التي جاءت بكتاب الأخ واحدة واحدة والله المستعان .

أولا : الكرامة للولي بعد الوفاة :

اختلف فيها الناس من قديم بعضهم يثبت وبعضهم ينفي ، والذي نعتقده أن الكرامة ثابتة للولي بعد وفاته ، كما تثبت له في حياته ، ودليلنا العقلي أن الكرامة ليست لحياة الولي ولكنها لمنزلته والمنزلة بعد الوفاة كما هي قبلها ، وربما تزيد، هذا من جهة ، ومن جهة ثانية فإن فاعل الكرامة ليس الولي ولكنه الله والله موجود في كل حال فلا محل لانتفاء الكرامة بعد الموت ، هذا من جهة العقل والقياس .

وأما إلى قل فقد ثبت في حديث البخاري - رضي الله عنه - في غزوة الرجيع أن عاصم بن ثابت -رضي الله عنه -حين امتنع عن الأخذ بأمان الكفار وقاتلهم حتى قتل - رضي الله عنه - وأرادوا أن يحزوا رأسه أو أن يقطعوا من جسده لأنه كان قد قتل بعض عظمائهم فحماه الله منهم بأن أرسل مثل الظلة من الدبر (إلى حل والزنابير) فهبت في وجوههم ومنعته منهم فلم يقدروا على التمثيل به، ولاشك أن هذا من أكرام الله له رضي الله عنه بعد وفاته ، ولذلك كان عمر-رضي الله عنه - حين يذكر هذه القصة يقول : يحفظ الله العبد المؤمن بعد وفاته كما حفظه في حياته .

ودليل آخر هو ما رواه ابن سعد في الطبقات عن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه -: كنت ممن حفر لسعد قبره (يعني سعد بن معاذ-رضي الله عنه ) فكنا نشم رائحة المسك ، ولاشك أن هذا من إكرام الله لسعد -رضي الله عنه - بعد وفاته.

ومن هنا قلنا بثبوت الكرامة بعد الوفاة كثبوتها في الحياة بشرط صحة الخبر وصدق الرواية .

ثانيا ، جواز التوسل النبي صلى الله عليه وسلم والصالحين : ونحب أن نحدد معنى التوسل الذي نتكلم عنه هنا فنقول : هو أن يتقرب العبد في دعائه الله تبارك وتعالى إلى الله بذكر عبد من عباده الصالحين ، كأن يقول : (اللهم إني أتوسل بحب فلان أو بجاه فلان أو بحق فلان أو بمنزلة فلان أو بفلان أن تفعل كذا وكذا) هذا التوسل بهذه المعاني موضع خلاف أيضا ، أجازه قوم ومنعه آخرون ، ولكل حجته ودليله ، ومن الغريب أنك ترى بين المانعين منه بغير الرسول صلى الله عليه وسلم شيخ الإسلام العز بن عبدالسلام مع أنه ممن أخذ عن الصوفية - رضوان الله عليهم - واتصل بالشاذلي ، وكان معاصرا له على حين أنك ترى بين المجوزين له الإمام الشوكاني مع أنه سلفي متشدد .

فالمانعون يرون أن ذلك لم يحدث في زمن الصحابة -رضوان الله عليهم - والاتباع الأولى ، والمجوزون يستدلون على ذلك بحديث الأعمى ، ولد رواه كثير من المحدثين منهم النسائي ، والترمذي ، وغيرهما.

ونحن مع هذا القسم بشرط أن تتوقر العقيدة بأنه لا تصرف إلا لله ، ولا فعل إلا له سبحانه وتعالى . وقد استدل الشوكاني في كتابه الدر إلى النضيد على جواز التوسل بأن التوسل في الحقيقة إنما هو بميزة العبد الصالح لا بذاته ، فهو من التوسل بالأفعال وهو جائز، ونقول : إن التوسل لازم حب العبد للصالحين ، وحب العبد للصالحين عمل صالح ، فرجع الأمر إلى التوسل بالعمل الصالح وهو مجمع على جوازه .

ثالثا : ، قول الإنسان : أغثني يا رسول الله :

ينبغي أن يعلم أن ذكر أسماء الصالحين للتبرك لا بأس به فيما نعتقد، وقد أخرج ابن السني في كتاب "عمل اليوم والليلة" باب ما يقول الرجل إذا خدرت رجله : أن ابن عمر-رضي الله تعالى عنهما-لما خدرت رجله قال : "يا محمداه " فقام فمشى.

وليست هناك أي شبهة في ذكر أسماء الصالحين للتبرك أو التلذذ ، وأنت تقول في الصلاة : السلام عليك أيها النبي صلى الله عليه وسلم فهو نداء لا إثم فيه بل هو من القربات ، ذلك في ذكر الأسماء أو المناداة بها لمثل هذا الغرض ، ومنه نشيد الإخوان المسلمين : يا إله الكون هل يرضيك أنا أخوة في الله للإسلام قمنا .

بقي طلب المعونة منه صلى الله عليه وسلم أو من غيره من الصالحين ، أما في حالة الحياة وفيما هو في حدود قدرة المخلوقين فجائز لا شئ فيه ، وأما بعد الوفاة أو فيما هو من عمل الخالق سبحانه وتعالى فممنوع لما فيه من الشبهة الشركية ، والذريعة إلى الانحراف ، ولا نقول بالشرك لهؤلاء الجهلة وإخراجهم من الملة ، فإن السرك عظيم ، ولكن نقول . يجب أن نعلم قائل هذا ونرشده إلى تركه ، ونزجره ، وفي هذا الزجر الكفاية ، إلي أن ينتهي إن شاء الله ، فهو رجل مسلم وإذا عرف الصواب رجع إليه ، وهذا خير من إخراجه من الملة ووقوع فتنة بين المسلمين.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق