في صحابة رسول الله، رسالة لكل عاقل منصف يخاف الله
.أكتب هذه الكلمات لطالبي الحق، وكل من يهمه أن يبرئ ذمته قبل موته
:
1-إن سيرة الرسول عليه الصلاة والسلام من العهد المكي، ثم الهجرة المباركة، ثم معارك الإسلام: بدر وأحد والأحزاب، ومعاركه مع اليهود، ثم الحديبية وفتح مكة، كل هذا كان بمشاركة الصحابة وتضحياتهم، فقد ترك المهاجرون ديارهم في مكة، وحاربوا أقرب الناس إليهم، وقد قام الأنصار بما يعجز عنه الوصف من النصرة والإيثار. وقد نص القرآن على ذلك (المهاجرين والأنصار).
.
2-كان دور المنافقين معلوما في المدينة، وكانوا حلفاء لليهود، وقد خذلوا المسلمين في أحد، وفي الأحزاب، وأثاروا الفتن، ولم يكن النبيّ صلى الله عليه وسلم يثق بهم، ولم يولّهم على أعماله ولا قيادة سراياه وغزواته، ولم يزوجهم ولم يتزوج منهم، وكان مع هذا يرد على من يطالب بقتلهم: (كيف إذا تحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه)، لكن هؤلاء لم يكن ليلتبس أمرهم مع الصحابة الحقيقيين، الذين شهدوا المشاهد مع رسول الله وكانوا معه في السراء والضراء.
.
3-بعد وفاته عليه الصلاة والسلام، حدثت ردّة بعض القبائل بقيادات معروفة (مسيلمة الكذاب) و (سجاح) و (الأسود العنسي) وغيرهم، وقد وقف الصحابة جميعا بوجههم حتى تم القضاء على هذا التمرد، ثم انطلق المسلمون جميعا المهاجرين والأنصار ومن تبعهم ففتح الله عليهم العراق والشام ومصر، وكان ذلك في عهد أبي بكر ثم عمر وبقيادات ميدانية كبيرة مثل (خالد وسعد وأبي عبيدة وعمرو بن العاص) وغيرهم.
.
4-كان من المتوقع أن تظهر ردة فعل من (فارس) و (الروم) بعد أن اجتاحهما الإسلام، فكانت جريمة اغتيال خليفة المسلمين عمر بن الخطاب على يد فارسي مجوسي، ثم توالت المؤامرات وحياكة الفتن، حيث قتل الخليفة عثمان، لتنشب فتنة أكبر، وأثناء هذه الفتنة قتل الخليفة علي على يد واحد كان من جيشه، فتولى الأمر الحسن بن علي فقرر أن يخمد الفتنة، فتنازل بالخلافة لمعاوية، ففرح المسلمون وسموه (عام الجماعة) وقد حقق الحسن بشارة جده عليه الصلاة والسلام: (ابني هذا سيّد ولعل الله أن يصلح به بين فئتين من المسلمين)
.
5-وهذا يعني أن الصحابة هم بالنهاية بشر قد يختلفون، وقد تقع بينهم الخصومة، وحتى القتال، وقد نص القرآن على ذلك : (وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما) وهذا هو الذي فعله الحسن، وقد ذكر القرآن قصة سيدنا يوسف مع إخوته، حيث هموا بقتله وألقوه في الجب، ولم يكونوا (منافقين) ولا (مرتدين) بل هذه هي طباع النفس البشرية في الغيرة والمنافسة، مع الفارق؛ أن قصة يوسف نص عليها القرآن، بينما ما حصل بين الصحابة جاء بروايات تاريخية آحادية لا يمكن الاطمئنان إليها.
.
6-وغني عن التأكيد أن الصحابة هم من جمع القرآن، وهم من روى السنّة، وهم من نشر الإسلام في هذه الأرض، ولذلك اتجهت سهام الأعداء للنيل من الصحابة، لأن النيل منهم يعني النيل من القرآن الذي جمعوه، ومن الإسلام الذي نشروه، وقد تحالف على هذا الصليبيون والمستشرقون من ناحية، والباطنيون والزنادقة من ناحية أخرى، وأولئك هم ورثة الإمبراطورية الرومانية، وهؤلاء هم ورثة الإمبراطورية الفارسية، وقد سجل جانبا من هذا التحالف الفيلسوف الإيراني الشهير علي شريعتي في كتابه (التشيع العلوي والتشيع الصفوي) مع أن كثيرا من مؤلفاته لا تخلو من الطعن والدس.
.
7-إنه من السفه والعيب أن تعمى الأبصار عن إنجاز بحجم ضم الحضارات الكبرى (العراق والشام ومصر) إلى أمة الإسلام، ليتم التركيز على (كسر ضلع الزهراء) مثلا وهي رواية تافهة لا يقبلها عقل ولا منطق، وهذا المنهج صار متبعا، فكلما ذكرنا موقفا عظيما بحجم كسر كسرى وقهر قيصر يثير هؤلاء نقاطا ترجعنا لمجادلات صغيرة لا ينبني عليها غير الجدل والفتنة والتفرّق.
.
ومن السفه والعيب كذلك أن يتم طمس موقف الحسن بن علي في جمع كلمة المسلمين وصفات الحلم والإيثار وترجيح مصلحة الأمة التي ميزت تلك الشخصية العظيمة، ليتم التركيز بدل ذلك على كل ما يثير الفتنة بين المسلمين.
.
ومن السفه والعيب كذلك أن تلتقط كلمة من هنا ورواية من هناك لخلط الأوراق بين هؤلاء الصحب الكرام وبين فئات (المنافقين) ثم (المرتدين)! حتى زعم السماوي التيجاني بأن حركة (الردة) كانت للمطالبة بحق علي بالخلافة! ولم يسأل نفسه هذا الدعي؛ أين كان موقف علي من أنصاره المزعومين هؤلاء؟ ولماذا خذلهم؟
.
إن القراءة التي تقرن عليا بمسيلمة الكذاب، هي ذات القراءة التي تزعم أن عليا سكت عن كسر ضلع زوجته، وهي ذات القراءة التي تتهم الحسن بأنه خذل المؤمنين يوم بايع معاوية، بل هي ذات القراءة التي تتهم عليا بأنه بايع أبا بكر وعمر وعثمان مكرها.
.
إنها القراءة التي تحاول تفتيت الإمة، وتشكيكها بتاريخها، بل تشكيكها بدينها وعقيدتها.
.
وإذا كنا نعزو تأثر بعض الناس وخاصة من أبناء القبائل العربية الأصيلة بهذا التضليل نتيجة لجهلهم وبيئتهم التي نشؤوا فيها، فصاروا يطعنون بتاريخ أجدادهم، ومفاخر أمتهم فإنه لا يمكن أن نبرئ (شياطين الإستشراق والباطنيّة) وورثة الأحقاد (الكسروية والقيصرية) من القصد الخبيث والتآمر على الإسلام وأهله.
.
إن حدثا عالميا غير مجرى التاريخ البشري حيث أصبح العراق والشام ومصر مع الجزيرة العربية كلها دولة واحدة وحضارة واحدة، إضافة إلى ما تم فتحه بعد ذلك، وصولا إلى خوارزم شرقا والأندلس غربا، كل هذا ينسب إلى مجموعة من (المنافقين) والضعفاء والجبناء كما يحلو للبعض أن يسميهم، لهو أمر لا ينطلي إلا على عدو حاقد حسود، أو غبي أبله لا يعي ما يقال له ولا يبصر موطئ قدمه.
.
إنك أيها المنصف العاقل لك أن تستشكل بعض الخلافات وبعض الثغرات التي حصلت في ذلك التاريخ العظيم، ولكن هل هناك أمة في الكون مهما علا شأنها تنزهت عن مثل هذه الثغرات والخلافات؟ وبالنسبة لنا نحن أهل السنّة لا نمنح العصمة لأحد غير رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلا تتعب نفسك بالتقاط الأخطاء، لكن في المحصلة النهائية ينبغي أن لا تنكر أن ما حققه الصحابة على أرض الواقع هو أشبه بالمعجزات، وأن لأحفادهم أن يفخروا ويرفعوا رؤوسهم، لا أن يستسلموا لحملات التشكيك والانتقاص.
كما أن الوثوق بكل رواية سواء في كتبنا أو كتبهم وجعلها كأنها وحي منزّل حتى لو خالفت صريح القرآن، أو خالفت المنطق والتحليل العلمي المحايد لهو من علامات سوء النيّة والقصد، أو بلادة العقل وضحالة التفكير.
.
د . محمد عياش الكبيسي
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق