الإسلام … والحضارة
أتريدون أن ترجعوا
بنا ألف سنة إلى الوراء .. إلى عهد الخيام ؟
لقد
كان الإسلام صالحاً لأولئك الحفاة الجفاة من الأعراب
قبل ألف عام . وكانت سذاجته وبدائيته مناسبة للبيئة
البدوية التي نشأ فيها .
أما اليوم فهل يصلح في عهد المدنية والحضارة الآلية ؟
عصر الطائرات الصاروخية والقنابل الهيدروجينية وناطحات السحاب والسينما المجسمة ؟ !
إنه
دين جامد لا يتفاعل مع الحضارة الحديثة ،
ولا مناص من نبذه إذا أردنا أن نتحضر كبقية خلق الله !
* *
*
شبهة
غبية لا يقول بها أحد درس تاريخ هذا الدين .
وإلا فأين ومتى وقف الإسلام في طريق الحضارة ؟
لقد
نزل الإسلام – فيما نزل – في قوم نصفهم من الأعراب ،
بلغ من جفوتهم وغلظة قلوبهم أن يقول فيهم القرآن :
" الأعراب أشد كفراً ونفاقاً وأجدر ألا
يعلموا حدود ما أنزل الله على رسوله " فكانت معجزته العظمى أن جعل من هؤلاء
الغلاظ الجفاة أمة من الآدميين ،
لا يكتفون بأنهم اهتدوا بهدى الله فارتفعوا من حيوانيتهم إلى آفاق الإنسانية
الرفيعة ، بل أصبحوا هم أنفسهم هداة البشرية
يدعونها إلى هدى الله . وذلك وحده برهان
على ما في هذا الدين من قدرة عجيبة على تحضير الناس
وتهذيب النفوس .
ولكن
الإسلام لم يكتف بهذا العمل الجبار في داخل النفوس .
وهو العملية الحقيقية التي تستأهل الجهد وتستحق التسجيل ،
لأنها الهدف الأخير من كل المدنيات والحضارات ..
لم يكتف الإسلام بهذا التهذيب العميق للأفكار
والمشاعر ، بل ضم إليه كل مظاهر المدنية التي
يهتم بها الناس اليوم ويحسبونها لباب الحياة ،
فتبنّى كل الحضارات التي وجدها في البلاد
المفتوحة في مصر وفارس وبلاد الروم ،
ما دامت لا تخالف عقيدته في وحدانية الله ولا تصرف الناس عن الخير الواجب لعباد
الله . ثم تبنّى
كل الحركة العلمية التي كانت لدى اليونان من طب وفلك ورياضة وطبيعة وكيمياء وفلسفة ، ثم أضاف إليها صفحات جديدة تشهد بتعمق
المسلمين في البحث ، واشتغالهم الجدي
بالعلم ، حتى كانت خلاصة ذلك كله في الأندلس هي
التي قامت عليها نهضة أوربا الحديثة وفتوحاتها في العلم والاختراع .
فمتى ؟ متى وقف الإسلام في وجه حضارة نافعة
للناس ؟
* *
*
أما
موقف الإسلام من الحضارة الغربية السائدة اليوم فهو موقفه من كل حضارة سابقة.
يتقبل كل ما تستطيع أن تمنحه من خير ،
ويرفض ما فيها من شرور .
فهو لا يدعو – ولم يدع قط – إلى عزلة علمية أو مادية ،
ولا يعادي الحضارات الأخرى معاداة شخصية أو عنصرية ،
لإيمانه بوحدة البشرية واتصال الوشائج
بين البشر من جميع الأجناس وجميع الاتجاهات .
وإذن فلا خوف من أن تقف الدعوة الإسلامية دون
استخدام ثمار الحضارة الحديثة كما يفهم بعض البلهاء من المثقفين . ولن يشترط المسلمون أن تكون الأدوات
والآلات مكتوباً عليها " بسم
الله الرحمن الرحيم "
حتى يقبلوا استخدامها في منازلهم
ومصانعهم ومزارعهم ومختلف مرافق حياتهم ! وإنما
يكفي أن يستخدموها هم باسم الله وفي سبيل الله . والآلة في ذاتها لا يمكن أن يكون لها
دين ولا جنس ولا وطن . ولكن الهدف من
استخدامها هو الذي يتأثر بأولئك جميعاً .
فالمدفع في ذاته إنتاج بشري لا عنوان له ،
ولكنك حين تستخدمه لا تكون مسلماً إذا استخدمته في الاعتداء على الآخرين ، فشرط استخدامه في الإسلام أن يكون
دفعاً لعدوان أو إحقاقاً لكلمة الله في الأرض .
والسينما في ذاتها إنتاج بشري كذلك .
وتستطيع أن تكون مسلماً حين تستخدمها في عرض العواطف النظيفة والإنسانية الرفيعة وصراع الأحياء في سبيل الخير ، ولكنك لا تكون مسلماً وأنت تستخدمها
لعرض الأجساد العارية والشهوات العارية والإنسانية الهابطة في حمأة الرذيلة . الرذيلة من كل نوع . خلقية كانت أم فكرية أم روحية . فليس عيب الأفلام التافهة التي تغرق
الأسواق هو مجرد استثارة الغرائز الدنيا ،
ولكنه تهوين الحياة وحصرها في أهداف تافهة رخيصة لا يمكن أن تكون غذاءً لبشرية
صالحة .
وكذلك
لم تقف الدعوة الإسلامية دون التفاعل مع التجارب العلمية التي تنتجها البشرية في
أي مكان على الأرض . فكل تجربة بشرية
صالحة هي غذاء يجب أن يجربه المسلمون ،
وقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم :
" طلب العلم فريضة "
واعلم حين يطلق هكذا يشمل كل علم ،
وقد كانت دعوة الرسول إلى العلم كافة ،
ومن كل سبيل .
كلا ! لا خوف من وقوف الإسلام في وجه
الحضارة ما دامت نفعاً للبشرية .
أما إذا كانت الحضارة هي الخمر والميسر ،
والدعارة الخلقية ، والاستعمار الدنيء ، واستعباد البشر تحت مختلف العنوانات ، فحينذاك يقف الإسلام حقاً في وجه هذه " الحضارة " المزعومة ،
ويقيم نفسه حاجزاً بين الناس وبين التردي في مهاوي الهلاك .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق