الإسلام … وَالعقوبات
هل
يمكن أن تطبق اليوم تلك العقوبات الهمجية التي كانت تطبق في الصحراء ؟ هل يجوز أن تقطع يد
في ربع دينار ؟
اليوم في القرن العشرين الذي يعتبر المجرم فيه ضحية من ضحايا المجتمع ، ينبغي علاجه ولا
يجوز أن تمتد إليه يد بالعقاب ؟
إن
القرن العشرين يجيز لك مثلاً أن تقتل أربعين ألفاً في الشمال الإفريقي في مجزرة
واحدة لأنهم أبرياء ،
ولكن كيف يجيز لك أن تعاقب فرداً واحداً لأنه مجرم أثيم ؟
ويل
للناس من الألفاظ ..
كم تخدعهم عن الحقيقة ؟ !
فلنترك
حضارة القرن العشرين تتخبط في آثامها ، ولنبسط فكرة
الجريمة والعقاب في الإسلام .
الجريمة
في الغالب اعتداء موجه من الفرد إلى الجماعة ([1]) . ولذلك كانت فكرة
الجريمة والعقاب وثيقة الصلة بنظرة الأمم لطبيعة العلاقة بين الفرد والمجتمع .
فالأمم
الفردية -
كدول الغرب الرأسمالية - تبالغ في تقديس الفرد وتجعله محور
الحياة الاجتماعية كلها ، كما تبالغ في التحريج على حق المجتمع
في فرض القيود على حرية الفرد . وتمتد هذه النظرة إلى الجريمة والعقاب ، فتعطف هذه الدول
على المجرم عطفاً بالغاً ، وتدللـه باعتباره ضحية أوضاع
فاسدة أو عقد نفسية أو اضطرابات عصبية لم يكن يملك التغلب عليها ، ومن ثم تحاول تخفيف
العقوبة عنه بقدر الإمكان ، وتظل تخففها في
الجرائم الخلقية خاصة حتى تكاد تخرج بها من دائرة العقاب .
وهنا
يتدخل علم النفس التحليلي ليبرر الجريمة .
وقد
كان فرويد بطل هذا الانقلاب التاريخي في النظر إلى المجرم على انه ضحية العقد
الجنسية التي تنتج من كبت المجتمع والأخلاق والدين والتقاليد للطاقة الجنسية التي
يجب أن تجد منصرفها الطليق ! ثم تبعته مدارس التحليل النفسي سواء
اعترفت مثله بأن الطاقة الجنسية هي مركز الحياة أم لم تعترف . والمجرم في نظرها
جميعاً مخلوق سلبي لا يملك أمره من تأثير البيئة العامة والظروف الخاصة التي نشأ
فيها وهو طفل صغير .
فهم يؤمنون بما نسميه "
الجبرية النفسية "
أي أن الإنسان لا إرادة له ولا تصرف في الطاقة النفسية التي تتصرف بطرقة جبرية .
والأمم
الجماعية على العكس من ذلك تؤمن بأن المجتمع هو الكائن المقدس الذي لا ينبغي لفرد
أن يخرج عليه ،
ومن هنا تشتد في عقوبة الفرد الخارج على الدولة إلى حد القتل والتعذيب .
والشيوعية
خاصة تؤمن بأن الجرائم كلها تنشا من أسباب اقتصادية ، لا من أسباب نفسية
أصيلة كما يؤمن فرويد وغيره من العلماء التحليليين . ففي المجتمع الذي
تختل اقتصادياته لا يمكن أن تنِشأ الفضائل ، ولا يجوز أيضاً
معاقبة المجرم ،
أما في روسيا حيث يسير الاقتصاد بالعدالة المطلقة فلست أدري لم تنشأ الجرائم ، ولماذا تقام هناك
المحاكم والسجون !
لا
ريب على أي حال في أن كلتا النظرتين تشتمل على شيء من الحق وشيء من المبالغة . فالظروف المحيطة بالفرد
ذات أثر بعيد في تكوينه ، والعقد اللاشعورية تدفع أحياناً إلى
الجريمة . ولكن الإنسان مع ذلك
ليس كائناً سلبياً بحتاً بإزاء الظروف . إن عيب المحللين
النفسين أنهم -
بطبيعة عملهم -
ينظرون إلى الطاقة المحركة في الإنسان – إلى " الدينامو " - ولا ينظرون إلى الطاقة
الضابطة - إلى الفرامل - مع انها جزء أصيل
من كيان النفس البشرية غير مفروض عليها من الخارج . إن الطاقة التي
تجعل الطفل يضبط إفرازاته فلا يتبول في فراشه بعد سن معينة - حتى ولو لم يدربه
أحد -
لهي ذاتها -
أو شبيهة بها -
الطاقة التي تضبط انفعالاته وتصرفاته فلا ينساق دائماً وراء الشهوة الجامحة أو
وراء النزوة الطارئة .
ومن جانب آخر فإن الظروف الاقتصادية ذات أثر في
تكوين مشاعر الأفراد وأعمالهم. والجوع يدفع إلى الجريمة كما يدفع إلى السقوط
الخلقي ،
بما يفكك من كيان النفس وما ينمي فيها من الأحقاد . ولكن القول بأن
العامل الاقتصادي هو الوحيد الذي يؤثر في سلوك البشر قول مبالغ فيه تكذبه وقائع
الحياة ،
ويكذبه قيام الجرائم في الاتحاد السوفييتي ذاته الذي يقول دعاته إنه قضى على الفقر
والجوع .
بقي
أن نسأل :
ما مدى مسئولية المجرم إذن عن جريمته ، لكي نوقع – أو لا نوقع - عليه العقوبات ؟
ومن
هذا الجانب يأخذ الإسلام مسألة الجريمة والعقاب .
إنه
لا يقرر العقوبات جزافاً ، ولا ينفذها كذلك بلا حساب . وله في ذلك نظرة
ينفرد بها بين كل نظم الأرض ، نظرة تلتقي حيناً برأي الدول الفردية ، وحيناً برأي الدولة
الجماعية ،
ولكنها تمسك بميزان العدالة من منتصفه ، وتحيط بالظروف
والملابسات كلها في وقت واحد ، وتنظر إلى الجريمة في آن واحد بعين
الفرد الذي ارتكبها ،
وعين المجتمع الذي وقعت عليه ، ثم تقرر الجزاء العادل الذي لا يميل
مع النظريات المنحرفة ولا شهوات الأمم والأفراد .
يقرر
الإسلام عقوبات رادعة قد تبدو قاسية فظة لمن يأخذها أخذاً سطحياً بلا تمعن ولا
تفكير ،
ولكنه لا يطبقها أبداً حتى يضمن أولاً أن الفرد الذي ارتكب الجريمة قد ارتكبها دون
مبرر ولا شبهة اضطرار .
فهو
يقرر قطع يد السارق ،
ولكنه لا يقطعها أبداً وهناك شبهة بأن السرقة نشأت من الجوع .
وهو
يقرر رجم الزاني والزانية ، ولكنه لا يرجمهما إلا أن يكونا محصنين ، وإلا أن يشهد
عليهما أربعة شهود بالرؤية القاطعة . أي حين يتبجحان بالدعارة حتى ليراهما
كل هؤلاء الشهود ،
وهما متزوجان .
وهكذا
وهكذا في جميع العقوبات التي قررها الإسلام .
ونحن
نأخذ هذا من مبدأ صريح قرره عمر بن الخطاب ، وهو من أبرز
الفقهاء في الإسلام ،
وهو فوق ذلك رجل شديد التزمت في تنفيذ الشريعة ، فلا يمكن اتهامه
بالبحبحة في التطبيق .
وعمر
لم ينفذ حد السرقة في عام الرمادة ، عام الجوع ، حيث كانت الشبهة
قائمة في اضطرار الناس للسرقة بسبب الجوع .
والحادثة
التالية أبلغ في الدلالة وأصرح في تقرير المبدأ الذي نشير إليه :
"
روى أن غلماناً لابن
حاطب بن أبي بلتعة سرقوا ناقة لرجل من مزينة ، فأتى بهم عمر ، فأقروا ، فأمر كثير بن الصلت
بقطع أيديهم .
فلما ولى رده ثم قال :
أما والله لولا أني أعلم أنكم تستعملونهم وتجيعونهم حتى إن أحدهم لو أكل ما حرم
الله عليه لحل له ،
لقطعت أيديهم .
ثم وجه القول لابن حاطب بن أبي بلتعة فقال : وأيم الله إذ لم
أفعل ذلك لأغرمنك غرامة توجعك ! ثم قال يا مزني ، بكم أريدت منك
ناقتك ؟
قال :
بأربعمائة قال عمر لابن حاطب : اذهب فأعطه ثمانمائة "
فهنا
مبدأ صريح لا يحتمل التأويل ، هو أن قيام ظروف تدفع
إلى الجريمة يمنع تطبيق الحدود ، عملاً بحديث الرسول صلى الله عليه
وسلم : " ادرأوا الحدود
بالشبهات " ([2]) .
فإذا
استعرضنا سياسة الإسلام في جميع العقوبات التي قررها ، وجدنا أنه يلجأ
أولاً إلى وقاية المجتمع من الأسباب التي تؤدي إلى الجريمة ، وبعد ذلك لا قبله
يقرر عقوبته الرادعة وهو مطمئن إلى عدالة هذه العقوبة ، بالنسبة لشخص لا
يدفعه إلى جريمته مبرر معقول . فإذا عجز المجتمع
لسبب من الأسباب عن منع مبررات الجريمة ، أو قامت الشبهة
عليها في صورة من الصور ، فهنا يسقط الحد بسبب هذه الظروف
المخففة ،
ويلجأ ولى الأمر إلى إطلاق سراح المجرم أو توقيع عقوبات التعزير - كالضرب والحبس - بحسب درجة الاضطرار
أو درجة المسئولية عن الجريمة .
فهو
مثلاً يسعى إلى توزيع الثروة توزيعاً عادلاً ، وقد وصل في عهد عمر
بن عبد العزيز إلى إلغاء الفقر من المجتمع . ويعتبر الدولة
مسئولة عن كفالة كل فرد فيها بصرف النظر عن دينه وجنسه ولغته ولونه ومكانه في
الحياة الاجتماعية .
والدولة تكفل أفرادها بإيجاد العمل الكريم لهم . أو من بيت المال إذا
لم يوجد عمل ،
أو عجز عنه فرد من الأفراد . وبذلك يمنع الإسلام
الدوافع المعقولة للسرقة . ومع ذلك يحقق في كل جريمة تقع ، ليتأكد قبل توقيع
العقوبة أن مرتكبها لم يرتكبها بدافع الاضطرار .
وهو
يعترف بقوة الدافع الجنسي وعنف إلحاحه على البشر . ولكنه يعمل على
إشباع هذا الدافع بالطريق المشروع : طريق الزواج ، فيدعو إلى الزواج
المبكر ،
ويعين على إتمامه من بيت المال إذا حالت الظروف الخاصة دون إتمامه . ويحرص كذلك على
تنظيف المجتمع من كل وسائل الإغراء التي تثير الشهوة ، وعلى وضع الأهداف
العليا التي تستنفد الطاقة الحيوية الفائضة وتوجهها في سبيل الخير ، وعلى شغل أوقات
الفراغ في التقرب إلى الله ، وبذلك كله يمنع الدوافع التي تبرر
الجريمة .
ومع ذلك فهو لا يبادر بتوقيع العقوبة حتى يكون مرتكبها قد تبجح بها استهتاراً
بتقاليد المجتمع وإمعاناً في الهبوط الحيواني حتى ليراه أربعة شهود .
وأول
ما يتبادر إلى الذهن هو أن الأحوال الاقتصادية والاجتماعية والخلقية الموجودة
اليوم ،
كلها تباعد بين الشباب وبين الزواج ، وتقرب بينهم وبين الجريمة . وذلك صحيح . والإسلام ينبغي أن
يؤخذ كله وإلا فهو غير مسؤول عن انحرافات الجاهلية . وحين يحكم الإسلام
فلن تكون هذه المثيرات الجنونية التي تدفع الشباب دفعاً إلى الهبوط . لن تكون السينما العارية
والصحافة الخليعة والأغاني
المبتذلة والفتنة الهائجة في الطريق . ولن يكون الفقر
الذي يمنع الناس من الزواج . وعندئذ فقط يطالب الناس بالفضيلة وهم
قادرون عليها وتوقع عليهم العقوبة وهم غير معذورين .
وهكذا
شان الإسلام في بقية العقوبات . يعمل على وقاية المجتمع أولاً من
دوافع الجريمة ،
ثم يدرأ الحدود بالشبهات زيادة في الاحتياط . فأي نظام في الدنيا
كلها يبلغ هذه العدالة ؟
وإن
" الإفرنج "
الذين يخشى المسلمون تشنيعهم على الإسلام بسبب تطبيق هذه العقوبات ليستفظعونها
ويرون فيها إهداراً لكيان الفرد واستهتاراً بشأنه ، لأنهم لم يدرسوا
نظرة الإسلام للجريمة والعقاب على حقيقتها . ولأنهم يتصورون خطأ
أنها كعقوباتهم "
المدنية " ستطبق كل يوم ، فيتصورون في
المجتمع الإسلامي مجزرة هائلة : هذا يجلد وهذا يقطع وهذا يرجم . ولكن الواقع أن هذه
العقوبات الرادعة لا تكاد تنفذ .
ويكفي
أن
نعلم أن حد السرقة لم ينفذ إلا ست مرات في أربعمائة سنة لنعرف أنها عقوبات قصد بها
التخويف الذي يمنع وقوعها ابتداء . كما أن معرفتنا
بطريقة الإسلام في وقاية المجتمع من أسباب الجريمة قبل توقيع العقوبة تجعلنا في
اطمئنان تام إلى العدالة في الحالات النادرة التي توقع فيها هذه الحدود .
ولن
يجد هؤلاء " الإفرنج " أو غيرهم ما يخشونه من تطبيق
الحكم الإسلامي إلا أن يكون كلهم مجرمين بالطبع ، مصرين على الإجرام
رغم انتفاء المبررات التي تدفعهم إلى الجريمة !
وربما
خيل لبعض الناس أنها إذن عقوبات صورية لا قيمة لها في الواقع . وهذا غير صحيح .
فهي موجودة لتخويف بعض الأفراد الذين لا يلجئهم إلى الجريمة دافع معقول ، ولكنهم مع ذلك
يحسون ميلاً إليها وإقبالاً على ارتكابها ، فمهما تكن أسباب
هذا الدافع فسوف يراجع هؤلاء الأفراد أنفسهم مرات عديدة قبل ارتكاب الجريمة خوفاً
من العقاب . وإن من حق المجتمع ما
دام يعمل في سبيل الخير ، ويرعى الجميع بعنايته ، أن يطمئن على
أرواحه وأعراضه وأمواله أن تمتد إليها يد العدوان . ثم إن الإسلام لا
يمتنع عن علاج هؤلاء النزاعين إلى الجريمة بغير مبرر واضح ، ولا يتركهم - إذا اكتشفهم - فريسة لما ينطوون
عليه من انحراف .
* *
*
تلك
عقوبات الإسلام التي يخشاها الشباب " المثقف " والتي ينفر
منها بعض فقهاء القانون لئلا يصمهم الإفرنج بالهمجية والانحطاط ! ألا من يعلّم هؤلاء وهؤلاء حكمة
هذا التشريع الإسلامي الرفيع !
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق