معنى النوازل والاجتهاد فيها
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومَن والاه، وبعد:
فإن العناية بأصول العلوم من أهم الطرق لإحياء الأمة في جميع المجالات؛ لأن الأمة محتاجة في نهضتها لجميع العلوم، والعنايةُ بأصول كلِّ علم هو حفظٌ له، وتجديد لحياة الأمة الدينية والدنيوية وتحقيق مصالحها.
وكذلك العناية بالنوازل والمسائل المستجدَّة، التي لها أثر على كيان الأمة العقدي، أو الاقتصادي، أو الاجتماعي، أو السياسي، أو التربوي... إلخ.
ومَن تأمل تاريخ المسلمين، يجد أن لهم عنايةً فائقة بأصول العلوم، ولهم عناية فقهيَّة بالنوازل التي تَجِدُّ في حياة الأمة، وردها إلى تلك الأصول، وتختصُّ هذه الورقة[1]ببيان معنى النوازل وحقيقتها، وأوصافها، مع بيان حكم الاجتهاد فيها، وكيفية معالجة النازلة بالاجتهاد الفقهي.
معنى النازلة في اللغة:
النوازل جمع "نازلة"، والنازلة اسم فاعل من "نزل ينزل"، إذا حلَّ، ومن ذلك القنوت في النوازل[2].
وأما في الاصطلاح:
فقد شاع واشتهر عند الفقهاء إطلاق النازلة على المسألة الواقعة الجديدة التي تتطلَّب اجتهادًا، قال ابن عبدالبر: "باب اجتهاد الرأي على الأصول عند عدم النصوص في حين نزول النازلة"[3].
وقال النووي: "وفيه اجتهادُ الأئمة في النوازل، وردّها إلى الأصول"[4].
وقال ابن القيم: "وقد كان أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يجتهدون في النوازل"[5].
ويمكن أن يستنبط جملة من الأوصاف للنازلة، منها:
1- كونها واقعةً.
2- كونها جديدة.
3- كونها شديدة.
وقد استنبط بعض أهل العلم هذه الشروط من المعنى اللغوي للنازلة[6].
والذي يظهر لي أن الوصف الأول والثاني وصفان طبيعيان لمعنى النازلة؛ لأن المسألة التي تحتاج إلى اجتهاد شرعي في الغالب لا بد أن تكون قد وقعتْ[7]، وكانت من المسائل الجديدة، وهذا في جميع المسائل، ثم تختص النازلة بكونها شديدةً، بحيث تلتفت لها الأمة في مجموعها، وتستدعي موقفًا اجتهاديًّا شرعيًّا، ويترتب على ترك الاجتهاد فيها ضررٌ على المسلمين.
وهذا المعنى - وهو كونها تتَّصف بالشدة - وإن كان له أصل في اللغة، لكن الأقوى الاستدلال عليه بما ورد في بعض نصوص السيرة، وفيها أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقنت في النوازل[8]، كما ورد في كتب الحديث (القنوت في النوازل)[9]؛ أي: الشدائد.
وقد عرَّفها بعض أهل العلم بقوله: "ما استدعى حكمًا شرعيًّا من الوقائع المستجدَّة"[10]، أو يقال: هي الوقائع المستجدة الملحَّة.
وإذا انضاف إلى ذلك كونها شديدة؛ أي: متعلقة بأمور لها أهميتها في واقع الأمة، يستقيم لنا حينئذٍ التفريقُ بينها وبين عموم المسائل الجديدة؛ إذ ليس كل مسألة جديدة نازلة.
شمولية معنى النازلة:
يتَّجه بعض الباحثين إلى تقسيم النوازل إلى فقهية وغير فقهية، والفقهيةُ المتعلقةُ بالأحكام الشرعية العملية، وغيرُ الفقهية المتعلقة بالمسائل العقدية، كظهور الفِرَق والنحل والصور الحديثة للشرك، وبعض المسائل التربوية الحادثة، والاكتشافات العلمية المبتكرة، والمسائل اللغوية المعاصرة، كتسمية بعض المخترعات الحديثة[11].
وهذا تقسيمٌ حسن، وإن كان هذا كله يشمله اسمُ الفقه بالمعنى العام عند السلف كما هو معلوم، وعليه يمكن تسميتُه بفقه النوازل، ولا يدخل في ذلك ما يتعلَّق بعلوم العربية، إلا ما دخل في حكم شرعي.
أهمية الاجتهاد في النوازل:
الاجتهاد في النوازل من فروض الكفايات، ويتعيَّن على من يجد في نفسه قوةً على ذلك، وخاصة عند فقد من يستطيع النظر فيها.
ولا ريب أن الاجتهاد - سواء الاجتهاد بالمعنى العام، أو الاجتهاد الذي يتجزأ في بعض المسائل - هو من ضروريات إحياء الدين وتجديده، ولا تستغني عنه الأمة في كل عصر من العصور[12]، وعلى الباحث الذي لديه أهلية للاستنباط أن يستجمع ما يتعلَّق بالمسألة المبحوثة من الأدلة.
كيفية الاجتهاد في النازلة:
1- التصور الصحيح لها، ويكون ذلك بالخطوات التالية:
أ- تحديد موضع النزاع، وموضع البحث فيها وطبيعته، سواء كان فقهيًّا، أو تربويًّا، أو لغويًّا... إلخ[13].
ب- استقصاء الدراسات السابقة إن وجدت، سواء كانت في علوم الشريعة أم في غيرها من العلوم، وتحديث المعلومات حول النازلة.
ج- البحث عن ظروف النازلة وتاريخها، والظروف المحيطة بها.
د- الرجوع إلى أهل الاختصاص فيها ومشاورتهم[14].
2- تكييف النازلة، وذلك بردِّها إلى أصلها العلمي إن كانت ترجع إلى أصل، أو ردِّها إلى جملة أصول، أو بما يغلب عليها، أو اعتبارها مسألة لها حالة خاصة.
وكل ذلك يعرف إما بالنص، أو الإجماع، أو التخريج على نازلة متقدمة، أو فتوى إمام متقدم، أو قاعدة فقهية، وأما عموم المسائل المتعلقة بالعلوم الأخرى، فيعرف تكييفها باتِّباع مناهج البحث في تلك العلوم.
3- تطبيق الحكم عليها تحقيقًا لمقصد الشارع، وتحصيلاً للمصالح، ودرءًا للمفاسد، في الحال والمآل، وذكر الأدلة على ذلك[15]، وهذا كما سلف بيانه في علوم الشريعة، وفيما سواها، اتباع مناهج البحث في كل علم بخصوصه، مع بيان حكم الشرع، والكشف عن مقاصده، من خلال الدراسات في المجالات العلمية والتقنية والاجتماعية، وغيرها من القضايا المهمة للمجتمع.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق