السعودية وتصدير السلفية المخابراتية..
وقفت حركة السلفية المدخلية كرقم مؤثر في المعادلة السياسية للتغيير في العالم العربي والإسلامي بشكل سلبي قائم على كبح عملية التغيير، سواء عن طريق أليات الديمقراطية أو الثورة، فأصلت لحرمة المشاركات السياسية سواء عن طريق المجالس النيابية، والعمل العام، أو عن طريق المظاهرات، وانتهاءاً بالتغيير الثوري العنيف.
ففي أحضان أجهزة مخابرات آل سعود نشأت السلفية المدخلية إبان حرب الخليج أوائل التسعينيات، للتصدي لصعود تيار الصحوة المعارض لتوجهات الحكومة السعودية في الاستعانة بقوات الحلفاء لرد الغزو العراقي الكويتي، ونسب هذا التيار السلفي الدخيل في بدايته إلى الشيخ محمد أمان الله الجامي، ثم خلفه في قيادة هذا الاتجاه الشيخ ربيع بن هادي المدخلي.
ويتميز هذا التيار عن غيره من التيارات السلفية بعدة خصائص أهمها:
- غلوه في طاعة الحكام والحكومات العلمانية، وتنزيل أحكام الولاية الشرعية من الفقه الإسلامي عليهم، والدعوة لسحق وقتل المعارضين لهذه الأنظمة بصفتهم خوارج.
- غلوه في جرح المخالفين، وإخراجهم من دائرة أهل السنة وتطرفهم في تطبيق أحكام المبتدع عند السلف على كل من خالفهم.
- قولهم بحرمة (العمل الجماعي) بمعني أن اجتماعهم وانتظامهم هم أو غيرهم في عمل جماعي حرام شرعاً، فكونوا جماعة واحدة فيما بينهم تجتمع على ألا تجتمع.
- قصر العمل الاجتماعي على إصلاح العقائد الدينية والدعوة الإسلامية، والتصدي للعمل السياسي بمهاجمة كل من يتعرض للنظام السياسي عامة، وشخص رئيس النظام بشكل خاص.
- التخصص في مهاجمة الجماعات الإسلامية التي تسعى لإحداث التغيير السياسي بداية من الجماعات الجهادية، وانتهاءاً بالجماعات السلمية المعارضة، وحتى الدعاة المستقلون الذين قد يعارضون أفعال النظام بين الحين والآخر كأبي إسحاق الحويني ومحمد حسين يعقوب، وأحيانا المعارضون السياسيون العلمانيون كفتوى قتل د. البرادعي.
من مبادئ الجامية نقد الجماعات الإسلامية الأخرى، بما في ذلك الحركات السلمية كالإخوان المسلمين أو التبليغ، ويتوجهون بالنقد الشديد للصحويين والسروريين، ويبدعون ويتهمون سيد قطب وعقيدته |
تم تصدير هذه الأفكار للبيئة المصرية، ويعتبر أهم رموزه في مصر محمد سعيد رسلان، وهشام البيلي، وطلعت زهران ومحمود لطفي عامر.
ونفصل بعضا من خصائص هذا التيار فيما يلي:
أولاً: الغلو في طاعة الحكام والحكومات العلمانية: من مبادئ المداخلة تأكيد الطاعة التامة لولى الأمر خاصة إذا كان علمانياً، يؤكد على ذلك الشيخ محمود لطفي عامر، حيث يذكر في مقاله بعنوان "هذا بيان لمدعى السلفية": "هؤلاء المذكورون بأعيانهم وأفرادهم إن كانوا يزعمون بأنهم سلفيون عليهم أن يبينوا لنا ولعموم الشباب ولولاة أمر مصر من أجهزة معنية خاصة ما يلي: هل يعترف هؤلاء المذكورون بوجود جماعة المسلمين في مصر وإمامها أم لا؟ وأطالبهم بتحديد موقفهم من نجل الرئيس مبارك ”جمال مبارك” في حالة إسناد الرئاسة إليه.
ولم تكن تلك هي المرة الأولى التي يثير فيها "عامر" الجدال حول توجهاته، وربما بدأ مسلسل جدلياته حينما بادر خلال الانتخابات الرئاسية 2005، بنشر لافتات بميادين عامة تدعو إلى البيعة لمبارك كأمير المؤمنين في مصر، ولما كان تصرفه هذا مثير إلى حد الخشية من سوء عواقبه في الشارع المصري، استدعته أجهزة أمن الدولة واستنكرت صنيعه، وطلبوا منه نزع هذه العبارات من أماكن وجودها. وله كذلك فتوى شهيرة بقتل "البرادعي" لأنه معارض سياسي لنظام مبارك.
ويقول الشيخ طلعت زهران بعد ثورة يناير 2011 ما نصه "نحن حسب التمكين، فالمتغلب هو الإمام سواء كان مسلماً أو كافراً، ولو شنودة تمكن الآن فهو الإمام"، وبالرغم من هذا تصدى التيار كله لحكم د. محمد مرسي، الرئيس الإسلامي المنتخب.
يوضح سلوك عامر السابق والمخالف لسلوك الجماعة الوطنية بشكل عام، والمخالف بشكل خاص لسلوك التيار الإسلامي الذي يتنازعه أفكار الحاكمية، مدى غلو التيار المدخلي في الحكام والحكومات العلمانية بشكل ربما يكون مثاراً للضحك أو ربما ظن البعض منه الاستهزاء في ظل الدولة المدنية الحديثة، والتي لا تعترف أصلاً بهذه التنظيرات، في الوقت نفسه يقر زهران، السلفي الأصولي!، بأن المتغلب عندهم هو ولى الأمر سواء كان مسلم أو كافر!
ويتابعه الشيخ محمد سعيد رسلان بأن أصحاب منهج النبوة يلزمون الجماعة، ويحفظون حقوق ولاة الأمر، وأهمها وأخطرها: السمع والطاعة، ما لم يؤمروا بمعصية.
ويقول نقلاً عن الشيخ صالح الفوزان في منع المعارضة حتى عن الكلام عن عيوب النظام السياسي أو التظاهر "الخروج على الأئمة يكون بالسيف، ويكون بالكلام، بسبهم وشتمهم، والكلام فيهم في المجالس، وعلى المنابر، وهذا يهيج الناس ويحثهم على الخروج على ولى الأمر، وينقص قدر الولاة عندهم، فالكلام خروج"، ويقول "والذين يهيجون الناس على حكامهم، ويزرعون الأحقاد في قلوبهم على ولاة أمورهم، ويصدرون الفتاوى باستحلال ما حرم الله من ذلك باسم تغيير المنكر، هم الخوارج القعدة، وهم أخبث فرق الخوارج".
ويقول "قبل فتنة 25 يناير قمتُ بفضل الله وتوفيقه بالكتابة في شأن ما يسمى بالعصيان المدني وذكرتُ أن ذلك من الخروج على ولي الأمر المسلم الممكّن والمتغلب".
مهمة هذا التيار العمل ضد اتجاه الثورة أو الإصلاح للنظام السياسي العلماني، وإنما يعمل على تثبيت دعائم النظام، والحفاظ عليه بإحداث التوازنات داخل الدولة للحد من انتشار الحركات السلفية المعارضة للحاكم والحكومات العلمانية |
ثانياً: الغلو في جرح الجماعات الإسلامية: من مبادئ الجامية نقد الجماعات الإسلامية الأخرى، بما في ذلك الحركات السلمية كالإخوان المسلمين أو التبليغ، ويتوجهون بالنقد الشديد للصحويين والسروريين، ويبدعون ويتهمون سيد قطب وعقيدته.
يقول رسلان "والاجتماعات السرية، والسمع والطاعة، والإمارة والبيعة، والجماعات والفرق، كلها مبنية على أصل واحد، وهو التكفير بلا موجب، وهؤلاء الضلال يرتبون على ذلك التكفير شغور الزمان من الإمام شغوراً معنوياً، وتنتقل السلطة تبعاً لذلك الشغور إلى هؤلاء الخارجين، ومن بايعوهم في المدن والقرى والحواري، وهؤلاء صناع الفتن، ومثيرو الفوضى والفساد في البلاد".
ثالثاً: المداخلة جماعة الـ (لا) جماعة: ويؤكد رسلان على وجهة نظر التيار في كل الجماعات الإصلاحية المعارضة قائلاً "هذه الجماعات وهذه التنظيمات وهذه الفرق، هذه جميعها بدعة ما أنزل الله رب العالمين بها من سلطان، هذه التجمعات الحركية التنظيمية، هذا العمل الجماعي التنظيمي بدعة في دين الإسلام العظيم، بدعة منتنة، ومن تربى على هذه البدعة فإنه لا يفلح أبدا، إلا أن يشاء ربى شيئاً، فهذه الجماعات مزقت الأمة، وأذهبت قوتها.
ولكن مع هذه الحالة من نقد التنظيمات الإسلامية، فإن المتتبع لشأن التيار المدخلي يجدهم في حقيقة الأمر يكونون شكل تنظيمي، أو جماعة، فالتيار المدخلي يسيطر على أغلب مؤسسات جمعية أنصار السنة، بما لها من مؤسسات مختلفة، وهيكل تنظيمي مؤسسي يشبه إلى حد التطابق لهيكل الجماعات الإسلامية، بما له من هيكل مالي و إداري، وينسق التيار فيما بينه عن طريق المحاضرات والدروس العلمية والأسابيع الثقافية والمعاهد العلمية، وانتقال طلبة العلم بين المحاضرين أو مشايخ التيار، مع ما للتيار من فكر موحد لا يكاد يظهر بينهم أوجه للخلاف إلا في مسائل بسيطة، ولذلك فمشايخ التيار المدخلي في رأيي يكونون جماعة اجتمعت على أن لا تجتمع ولا تنتظم بعضها مع بعض!
ومهمة هذا التيار العمل ضد اتجاه الثورة أو الإصلاح للنظام السياسي العلماني، وإنما يعمل على تثبيت دعائم النظام، والحفاظ عليه بإحداث التوازنات داخل الدولة للحد من انتشار الحركات السلفية المعارضة للحاكم والحكومات العلمانية، ولا أدل على ذلك من قول طلعت زهران السابق، فمن تغلب هو إمام شرعي لا يجوز معارضته.
رابعا: حاكمية الشريعة بلا حكم: يشترط المداخلة لإقرار حق الشعوب في الثورة على الحاكم أن يترك حاكمية الشريعة الإسلامية!، وبما أنهم صمموا للدفاع عن حكومات عسكرية علمانية بالأساس فقد وضعوا شروطاً مستحيلة للحاكمية، كاشتراطهم تصريح الحاكم بأن حكمه مماثل لحكم الله، أو تصريحه بأنه مستحل لترك حاكمية الشريعة، وعليه فلا يجوز للشعوب أن تثور على من حكم بغير ما أنزل الله بمجرد الفعل من دون أن يعلم أنه استحل ذلك بقلبه.
وللشيخ رسلان فلسفة طريفة في رسالته (مواطن النزاع في التكفير والحاكمية)، حيث يقول: "ولا ينكر الحاكمية ولا يجحدها إلا كافر، شديد العداوة لله، بل من جحد حاكمية الله في جزئية من الجزئيات الفروعية فضلا عن الأصول فإنه يكون كافراً بالله خارجاً عن الملة"، ويبين أن هذا يصدق على الحاكم والمحكوم، لكنه يري أن هذه الحالة مستحيلة بقوله: "ولا نعرف مسلماً يصدق عليه وصف الإسلام ينكر وجوب الحكم بما أنزل الله، هل يعرف أحد في الدنيا كلها، ولا الغول ولا العنقاء يعرفان أحداً يعبد من يحاد ما أنزل الله"، وبذلك فالمنكر هذا شخصية أسطورية لا توجد أصلاً، ولا تعرفها حتى الكائنات الأسطورية.
فهذه التيارات السلفية المخابراتية في الحقيقة تأصل وتنشر هذه الأوهام الشرعية والسياسية، لكبح عملية التغيير أو الإصلاح، سواء عن طريق آليات الديمقراطية والعمل السياسي أو الثورة الشعبية، بما يخدم الأنظمة العسكرية العلمانية الظالمة والقائمين عليها.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق