حديث صدقة الفطر: مدلولا ومعقولا وتنزيلا…لا للتفرق في الدين
أولا: نص الحديث الشريف:
عن ابن عمر أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فرض زكاة الفطر في رمضان على الناس صاعا من تمر وصاعا من شعير على كل حر وعبد ذكر وأنثى من المسلمين، وهذا الحديث صحيح ، وأيضا عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، يقول: (كنا نخرج زكاة الفطر صاعا من طعام، أو صاعا من شعير، أو صاعا من تمر، أو صاعا من أقط، أو صاعا من زبيب).
ثانيا: ما معنى النص مدلولا:
نص الحديث الشريف على وجوب إخراج صدقة الفطر من أنواع مذكورة في الحديث الشريف، وهي: التمر، الشعير، الأقط، الزبيب، ولم ينص على غير ذلك، بدلالة عبارة النص، أي معاني الألفاظ المذكورة في النص.
ثالثا: ما معنى النص معقولا (مثال1):
معنى معقول النص، أي ما يدخل في معناه، وإن لم يكن مذكورا في ألفاظه، مثل قوله تعالى: (فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُما)23سورة الإسراء، فهو نهي عن الشتم والضرب للوالدين، وأن النهي عن قول (أف) هو تنبيه على منع جميع أنواع الإيذاء، فكل إيذاء للوالدين حرام، وإن لم يكن تأففا، مع أن الضرب والشتم ليسا مذكورين في النص، لأن الآية نبهت بالتأفف الأدنى على تحريم ما هو أشد منه إيذاء، بل إننا نستطيع أن نقول إن النهي عن الشتم والضرب للوالدين متبادر إلى الذهن، من باب أولى.
رابعا: ما معنى النص معقولا (مثال2):
قال تعالى: (الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ (275) سورة البقرة، فالآية نصت على تحريم أكل الربا، فاتفق العلماء على أن التحريم لا يقتصر على الأكل، بل التحريم حاصل ولو اشترى المرابي بمال الربا سيارة، أو أثاثا، أو ملابس، فهذه جميعا يشملها النص بمعناه المتسع، ويكون ذكر الأكل من باب التنبيه على غيره، وما هو في معناه كالأثاث، والسيارة، وغير ذلك، فيحرم الربا ولو اشترى المرابي بالفائدة الربوية ملبوسا أو مركوبا، وإن الاقتصار على الأكل هو حالة من ظاهرية النص التي تتعارض مع منهج أهل السنة والجماعة، في معقول النص ومعناه.
خامسا: معقول نص حديث صدقة الفطر:
أ-اتفقت مدارس فقه السلف الأربع على أن ما ذكر في الحديث يجزيء في صدقة الفطر، ولكن ما ذكر لا يمنع إخراج أصناف غير مذكورة في الحديث، وذهبوا جميعا إلى النظر في المعنى والتعليل، وعدم الاكتفاء بالأصناف المذكورة، فأجازوا الإخراج من الأرز مثلا، لأن فيه معنى الشعير والتمر، وتحصل به الكفاية، ولا يصح البتة اعتقاد أن المعنى والقياس الذي ذهب إليه أئمة السلف أنه إعراض عن السنة، بل هو معقولها معنى وقياسا، ومن غرائب الزمان أن يرمي بعض الطلاب من الخلف أئمة السلف بأنهم خالفوا السنة، وليس لأئمة السلف من ذنب إلا أنهم غواصون في المعاني والعلل، وهو ما يغيب عن العامة المقتحمين ساحة النص الشرعي.
ب-وقد يقول قائل وردت في نصوص الحديث (طعام) ونكون بذلك في غنى عن الحديث عن معقول النص، فيكون الأرز داخلا في كلمة طعام، ولكن يمكن أن يناقش ذلك بالقول: هل يجوز إخراج صاع من التفاح أو البندورة، كذلك يمكن أن يقول إذا جاز بكل طعام فلماذا لا نخرج صاعا من ماء قال تعالى (وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي) (249) سورة البقرة، فاعتبرت الآية الماء طعاما، وهو لازم لمن أراد أن يعلل بالطعام، ومالك اعتبر الطعام بالطعام إلى أجل حرام ومن ذلك الطعام الفواكه والخضروات، وكذلك علل الشافعي علة تحريم بيع الفضل بالطعمية، ولم يشترط الاقتيات والادخار كمالك، مما يعني أن السلف يفرقون بين الطعام والمقتات المدخر، ولم يقل أحد بإخراج الماء ولا الفاكهة ولا البندورة والخيار، مما يعني أن الفقهاء اجتهدوا في تحديد القوت وليس أي طعام، وهذا لعلو كعبهم في فهم النص، وهو أمر لم يدركه الخلف، فالسلف هم أئمة المنقول والمعقول.
سادسا: تحذير من محاصرة النص الشرعي في التاريخ (النص تنزيلا):
لا يعني أن الصحابة رضي الله تعالى عنهم، أخرجوها في وقتهم من أنواع معينة، أنه لا يجوز غير تلك الأنواع، فالشرع يتنزل على بيئات مختلفة، وفعل الصحابة رضي الله عنهم هو تنزيل للحكم الشرعي في بيئته، ولا يعني عدم العلم بأنهم لم يخرجوها نقدا، العلم بالعدم، لاسيما أنه ورد عن السلف أنهم أخرجوها نقدا كما نقلت عن السبيعي في الحوار 18 مع أخي خالد، خصوصا أن إخراج الصحابة الشعير، لا يعني عدم جواز إخراج الأرز مثلا في عصرنا، وغيره من الأقوات المختلفة، وإن قصر الأنواع المخرج منها في صدقة الفطر على عهد الصحابة رضي الله عنهم، هو قصر لعمومات الشريعة ومطلقاتها على التاريخ، ورد للنص معقولا ومعنى، وهو باطل قطعا، وذلك معلوم من الدين بالضرورة، ومن هنا يجب أن نحذر من إهمال القياس الشرعي، وأن نحذر أكثر من محاصرة الشريعة ونصوصها في قالب الألفاظ دون القياس والمعنى، أو دفن عموم نصوص الشريعة في التاريخ.
سابعا: ارتضى الله تعالى القياس لهذه الأمة:
ولم يكن ذنب الأئمة إلا أنهم فهموا عن ربهم ونبيهم، وأعملوا النظر الأصولي عندما أجازوا إخراج غير الأصناف المذكورة في الحديث استدلالا بالقياس الذي أنكره ابن حزم الظاهري -رحمه الله، وكانت مخالفته للسلف وفهمهم في أمر القياس، سببا لاندثار مذهبه، وبقيت مذاهب السلف الأربعة التي ارتضاها الله لأمة نبيه صلى الله عليه وسلم، وحاشا لله تعالى أن يرتضي الفتنة في الدين لأمة نبيه -صلى الله عليه وسلم، حيث مضت الأمة على فتوى وقضاء على مذاهب السلف الأربعة قرونا طويلة، وهؤلاء السلف هم القائلون بالقياس، لأن القياس ينشر النص في الزمان والمكان، ويمد النص في أرض الواقع، بينما إهمال القياس -كما ترى- يجعل النص محاصرا في التاريخ.
ثامنا: الاتفاق على إعمال المعنى ولكن تعدَّد النظر في حدود إعماله:
بالرغم أن الأئمة أعملوا المعنى والقياس، فأجازوا الإخراج من غير الأصناف المذكورة في النص كالقمح مثلا، وهو غير مذكور في الحديث ، معتبرين قوت البلد مراعاة للقياس والمعنى، الذي هو مبدأ راسخ عند أهل السنة والجماعة، حسبما وضحتُه في الأمثلة السابقة، أما الحنفية فهم متفقون مع الجمهور في المعنى والقياس، و ذهبوا خطوة أبعد في المعنى، وهي جواز الإخراج نقدا، بالإضافة إلى جواز الإخراج عينا، فيقال لا يجزيء إخراج النقد باعتبار الجمهور، ويجزيء النقد عند الحنفية، وأن كلا الاجتهادين معتبر شرعا، وله أصله الشرعي، أما الزعم بأنها لا تجزيء عند الله تعالى، وإبطال اجتهاد مدرسة علمية معتبرة، فهذا لا يعرفه إلا من أطلعه الله على الحكم الصواب عنده، وهو من علوم الغيب، أو أنه من أصحاب الإلهام والذوق، الذين سندهم حدثني قلبي عن ربي، وهو باطل قطعا.
تاسعا: حماية تعدد الاجتهاد في كفالة علم أصول الفقه:
وقد تكفل علم أصول الفقه بحماية الاجتهادَين بالإخراج نقدا وعدمه وأنهما من الشرع، والإنكار على واحد منهما هو إنكار على الشرع، وهو ناتج من حالة الوقوف عند عبارة النص ، وحصار النص الشرعي في التاريخ زمانا ومكانا، وإبطال المعنى والقياس، واتهام فطاحل القياس والمعنى من أئمة الاجتهاد بأنهم خالفوا السنة، لذلك نقول ا المشكلة هي أصولية بامتياز، والإشكال في الأصول أكبر من الإشكال في الفروع، لأن الإشكال في الأصول سيبقى ينتج أخطاء في الجزئيات بسبب الخلل في الكليات، وستكون المقالة التالية في هذا الموضوع، في حماية تعدد الاجتهاد المعتبرمن الإبطال والهدم، ونقول ختاما من أخرجها عينا فحسن، أو نقدا فحسن، أما اختيار أحدهما، فهو راجع للرشد والصلاح، وهما مختلفان باعتبار الزمان والمكان والأفراد، والهداية للأحسن توفيق رباني.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق