«من أين جاء فقهاء الاستبداد بتقديس الحكّام عن المسؤولية حتى أوجبوا لهم الحمد إذا عدلوا، وأوجبوا الصّبر عليهم إذا ظلموا، وعدّوا كلّ معارضة لهم بغياً يبيح دماء المعارضين؟».
وكأن عبد الرحمن الكواكبي صاحب العبارة السابقة، لا يزال بيننا حيًا ويصف بتلك الكلمات طائفة من المنتسبين إلى العلم والدعوة، منحت الحاكم الذي يُفترض أنه خادم للأمة، كل هذه القدسية، تسوق الناس إلى التسبيح بحمد الحكام وإن جاروا، وعدم المجاهرة بالإنكار عليهم مهما أتوا من ظلم، ومناجزة كل من عارضهم بقول أو فعل أو فكرة، وعن المداخلة وأشباههم من الجامية أتحدث.
يُعرف الصحافي والمؤلف الأسكتلندي أندرو ماكغريغور هذه الطائفة فيقول: «يدعو التيار المدخلي إلى عدم مساءلة الحكومات، حتى تلك التي تلجأ للعنف المتطرف وغير المبرر ضد رعاياها، طالما أنها لا ترتكب أعمال كفرٍ واضحة».
وحديثي في هذه السطور عن المداخلة والجامية في ليبيا على وجه الخصوص، نظرًا لأن هذا الاتجاه في الداخل الليبي ليس فقط كيانًا علميًا دعويًا، وإنما جزءٌ أساس في الصراع المسلح، حيث يتخندق مع الجنرال المنشق خليفة حفتر الذي يُمثل امتدادًا للدولة العميقة، باعتباره ولي الأمر، ضد حكومة الوفاق المعترف بها دوليا، والتي تمثل قوى الثورة. وأضطرُّ أن أضع بين يدي القارئ خلفية معلوماتية مختصرة حول هذا الاتجاه حتى تتضح الصورة، فالمداخلة والجامية فرقة ظهرت في السعودية مطلع التسعينيات نسبة إلى الشيخ ربيع المدخلي، والشيخ محمد أمان الجامي، على خلفية رفض علماء ودعاة الصحوة الاستعانة بالقوات الأجنبية إبان حرب الخليج الثانية، وقامت مبادئ هذا التيار على النصرة المطلقة للحاكم مهما بلغ ظلمه، ويستندون إلى النصوص الآمرة بطاعة ولي الأمر، بدون استحضار النصوص الأخرى التي تحث على قول الحق أمام السلطان الجائر، وإضافة إلى ذلك فإنهم يعتبرون الاحتجاجات السلمية خروجًا على الحاكم، حتى إن لم يحمل المحتجون السلاح، أو يستخدموا في ذلك القوة، بل يُجرمون الإنكار على الحاكم أمام الناس، رغم أن ما جرى عليه العمل بالقرون المفضلة، الإنكار العلني على الحاكم إذا اقتضى الأمر. كما يقوم منهج هذا التيار على العداء لكل جماعة أو حزب سواهم، ويبدعون ويفسقون أصحابها، ويتتبعون كتب ومحاضرات العلماء والدعاة لجمع السقطات والزلات والتشهير بهم والتطاول عليهم.
يشترط في الحاكم من الناحية الشرعية صيانة الدين وسياسة الدنيا بالدين
وكانت الجامية والمداخلة من أبرز الطوائف التي وقفت في وجه ثورات الربيع العربي ضد الأنظمة الجائرة واعتبرتها خروجا على الحكام الشرعيين، مع أنه يشترط في الحاكم من الناحية الشرعية صيانة الدين وسياسة الدنيا بالدين، كما ذكر الإمام الماوردي وغيره، وهؤلاء لم يحققوا تلك الشروط. نعود إلى المداخلة في ليبيا، فهؤلاء تستقر مرجعياتهم الدينية في السعودية، وكما كان تنظيم «داعش» صناعة استخباراتية، فالمداخلة والجامية كذلك لهم تنسيقاتهم مع الأجهزة الاستخباراتية والأمنية، إذ كانوا يرفعون التقارير السرية الراصدة لأنشطة التيار الإسلامي إلى تلك الأجهزة، يحذرون فيها من خطورة تلك الجماعات، مع توصيات بالتصدي والمواجهة، وهذا الدور كان يلعبه المداخلة في ليبيا إبان حكم القذافي، الذي ضيق الخناق على الإسلاميين، وحظر أنشطتهم فاضطروا لممارستها في الخفاء، غير أنه رأى ضرورة مواجهة التيار الإسلامي بفكر مضاد، فاستفاد من المداخلة في تعبئة الجماهير ضد الجماعات الإسلامية حتى السلفية منها.
وبالفعل أعطى القذافي للمداخلة مساحة خضراء واسعة للتحرك، وعمل على دعمهم ورعايتهم، وأوكل ذلك الملف إلى نجله الساعدي القذافي، وظل هذا التيار مهيمنا على الحياة الدعوية في ليبيا حتى قيام الثورة، يروج لنظام القذافي وسياساته وشرعنة قراراته من ناحية، ومن ناحية أخرى يصب هجومه على الإسلاميين المعارضين لحكم القذافي على ضعف شوكتهم وتخفِّيهم بأنشطتهم الدعوية.
ومع اندلاع ثورة 17 فبراير وانضمام الإسلاميين الرافضين لحكم القذافي إلى معسكر الثورة، استخدم النظام المداخلة من جديد لقمع الثورة، تحت مظلة تحريم الخروج على ولي الأمر الشرعي، وخرج الساعدي ورموز المداخلة على الفضائيات لترويج ذلك، إضافة إلى تحذيرهم الناس في المساجد من الخروج في المظاهرات. وبعد نجاح الثورة ومساحة الحريات المُستحدثة، اعتمد المداخلة على كثرة أعدادهم وانتشارهم في بسط السيطرة على المساجد عنوة، وقاموا بالتواصل مع مشايخهم في السعودية بشأن تمدد نفوذ التيار الإسلامي المشارك في الثورة، وأفتى لهم ربيع بن هادي المدخلي بعدم انتخاب الإخوان المسلمين، لأنهم أضر على الإسلام من العلمانيين، وأشد على السلفية من اليهود والنصارى، بحسب قوله، فقام المداخلة بتعبئة الجماهير للتصويت ضد الإسلاميين الثوريين في الاستحقاقات الانتخابية. ولما قام خليفة حفتر بما سماه عملية الكرامة، وأعلن تولي إدارة البلاد، وتجميد المؤتمر الوطني الليبي الذي انتخبه الشعب، وهو ما يعد عملا انقلابيا، سارع المداخلة لتأييده، وأصدر ربيع بن هادي المدخلي فتاواه بالقتال إلى جانب حفتر ضد الإخوان، علمًا بأن الإخوان كانوا جزءًا من قوى الثورة لا جميعها، وقام المداخلة بتكوين الكتائب المسلحة برعاية حفتر، وبدء القتال ضد من سموهم الخوارج.
وحمل المداخلة السلاح ودخلوا في حرب دينية، وقاتلوا معارضي حفتر وقاموا بتصفيتهم واعتقالهم، واتسعت رقعتهم وقويت شوكتهم، حتى صاروا قوة ضاربة في جيش المنشق، ونفّذوا عمليات خطف واعتقال واغتيال وإحراق في صفوف المعارضين، حتى المدنيين بحجة أنهم خوارج، وصارت ميليشيات المداخلة عنصرا رئيسيا فاعلا في قوات حفتر.
ومما يُظهر تناقض المداخلة في ليبيا، أنهم يرون في حفتر وليا شرعيا مع أنه قد انشق على حكومة ما بعد الثورة، فمن أين اكتسب حفتر شرعيته لدى هؤلاء المداخلة إذن؟
وبناء على قولهم في مبايعة الحاكم المتغلِّب، فقد وقعوا في تناقض آخر، نظرا لأن حفتر لم يتغلّب بعد، ولم يؤل إليه زمام الأمور، والحرب بينه وبين حكومة الوفاق المعترف بها دوليا سجال، فكيف دخل هؤلاء في خندق حفتر باعتباره حاكما مُتغلبا؟ الجواب تجده في فتاوى زعيمهم المدخلي، التي طفحت بمعاداة تيار الإسلام السياسي، فأصبح مجرد وجود ذلك التيار على الساحة مبررا شرعيا لقتاله.
الغريب في الأمر، أن العالم الغربي والعربي، يواجه الجماعات الإسلامية المسلحة، فكيف يُسمح لميليشيات المداخلة بالتسليح والقتال في الصراع الدائر؟ إذا أردنا الإجابة لابد وأن ننظر إلى الجهات العربية الراعية لتلك الميليشيات، باعتبارها نائبا عن الثورات المضادة في مواجهة ثورات الربيع العربي، أما أمريكا فصمْتها يدور في فلك المصالح مع الحلفاء في المنطقة.
ومع قرار القيادة التركية بالتدخل عسكريا لصالح حكومة الوفاق، اعتبر المداخلة هذا تدخلا أجنبيا يجب الجهاد ضده، مع أنهم لم يعتبروا التدخل الروسي الإماراتي المصري تدخلا خارجيا.
مَداخلة حفتر لا يختلفون عن «داعش»، فهما وجهان لعملة واحدة، يعملون بالوكالة لصالح الأنظمة، ويقتلون أهل الإسلام، ويلوون أعناق النصوص لتبرير باطلهم، والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق