إفراد يوم السبت أو الجمعة بصيام تطوع
السؤال: شيخنا سيوافق ان شاء الله صيام يوم عاشور هذا العام يوم السبت ، فهل يجوز افراد يوم السبت أو الجمعة بصيام تطوع؟ وما رأي العلماء في ذلك ؟ افتونا مأجورين.
الجواب: الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على رسوله الأمين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين؛ أما بعد:
فقد اختلف العلماء في مسألة افراد يوم السبت بصيام في غير الفرض، وسبب اختلافهم فيما رواه الترمذي وأبو داود وابن ماجه وأحمد عن عبدالله بن بسر عن اخته الصماء بنت بسر- رضي الله عنها- وفيه قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((لا تصوموا يوم السبت إلا فيما افترض عليكم فإن لم يجد أحدكم إلا لحاء عنب أو عود شجر فليمضغه)) فقد اختلف العلماء في صحة هذا الحديث ، فمن صححه قال إما بالتحريم وإما بالكراهة، ومن ضعفه رأى عدم الكراهة والتحريم. وكذلك اختلفوا في جواز افراد يوم الجمعة بصوم تطوع كما سنبين ذلك.
وقد اختلفوا في هذه المسألة على أربعة اقوال وكما يأتي:
القول الاول: يكره إفراد يوم السبت أو الجمعة بالصيام بمفرده، الا ان يصوم قبله يوما أو بعده، وهو مذهب جماهير أهل العلم من الحنفية، والمالكية، والشافعية ، ورواية عن الامام أحمد واخذ بها اكثر اصحابه.
واحتجوا بحديث عبد الله بن بسر عن أخته الصماء أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لا تصوموا يوم السبت إلا فيما افترض عليكم، وإن لم يجد أحدكم إلا لحاء عنب أو عود شجرة فليمصه)).
قال الامام النووي – رحمه الله تعالى- في المجموع[6/439]: (يكره إفراد يوم السبت بالصوم: فإن صام قبله أو بعده معه لم يكره)، وقال ايضا في المجموع : (قال أصحابنا: يكره إفراد يوم الجمعة بالصوم فان وصله يصوم قبله أو بعده، أو وافق عادة له بأن نذر صوم يوم شفاء مريضه أو قدوم زيد أبدا فوافق الجمعة لم يكره).
وقال الامام ابن قدامة المقدسي -رحمه الله تعالى- في المغني[3/105]: (ويكره إفراد يوم الجمعة بالصوم إلا أن يوافق عادة مثل من يصوم يوماً ويفطر يوماً فيوافق صومه يوم الجمعة أو من عادته صومه أول يوم الشهر أو آخره أو يوم لضعفه ونحو ذلك نص عليه أحمد في رواية الأثرم ،... أما صيام يوم السبت ينفرد به، فقد جاء فيه حديث الصماء، والمكروه إفراده، فإن صام معه غيره لم يكره ولحديث أبي هريرة وجويرية . وإن وافق صوما لإنسان ، لم يكره ).
ويقصد الامام ابن قدامة بحديث أبي هريرة : ما رواه البخاري ومسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ : سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : (( لا يَصُومَنَّ أَحَدُكُمْ يَوْمَ الْجُمُعَةِ إِلا يَوْمًا قَبْلَهُ أَوْ بَعْدَه )).
وحديث جويرية : هو ما رواه الامام البخاري عَنْ جُوَيْرِيَةَ بِنْتِ الْحَارِثِ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا- أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَخَلَ عَلَيْهَا يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَهِيَ صَائِمَةٌ ، فَقَالَ : (( أَصُمْتِ أَمْسِ ؟ قَالَتْ : لا . قَالَ : تُرِيدِينَ أَنْ تَصُومِي غَدًا ؟ قَالَتْ : لا . قَالَ : فَأَفْطِرِي)).
فهذا الحديث والذي قبله يدلان دلالة صريحة على جواز صوم يوم السبت في غير رمضان ، لمن صام الجمعة قبله .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله تعالى- في كتابه اقتضاء الصراط[262 ]: (أن الأحاديث كلها مخالفة لحديث عبد الله بن بسر، منها حديث أم سلمة حين سئلت: ((أي الأيام كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر صياما لها؟ فقالت: ((السبت والأحد)). ومنها: حديث جويرية أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لها يوم الجمعة: ((أصمت أمس؟)) قالت: لا، قال: ((أتريدين أن تصومي غدًا؟)) فالغد هو يوم السبت).
قال الامام ابن القيم –رحمه الله تعالى- في زاد المعاد[2/75] عن حديث الصماء بنت بسر : (ذكره عنه أبو داود، قال الترمذي: هو حديث حسن. وقال أبو داود: هذا الحديث منسوخ، وقال النسائي: هو حديث مضطرب، وقال جماعة من أهل العلم: لا تعارض بينه وبين حديث أم سلمة، فإن النهي عن صومه إنما هو عن إفراده، وعلى ذلك ترجم أبو داود، فقال: باب النهي أن يخص يوم السبت بالصوم.. ) .
القول الثاني: لا يكره إفراد السبت بالصيام مطلقا ، قال به جماعة من أهل العلم منهم: الزهري، والأوزاعي، وأبو داود، ورواية عن الامام مالك والامام أحمد اختارها الأثرم، ورجحه الطحاوي وشيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم، وابن حجر العسقلاني. وحجتهم في ذلك ضعف حديث الصماء بنت بسر المتقدم. ولأنه يوم فأشبه سائر الأيام.
و احتجوا بحديث أم سلمة –رضي الله عنها- قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصوم يوم السبت والأحد أكثر ما يصوم من الأيام، ويقول: ((إنهما يوما عيد للمشركين فأنا أحب أن أخالفهم)) صحيح رواه النسائي في الكبرى ، والإمام أحمد في المسند، وابن خزيمة في صحيحه ، وابن حبان في صحيحه .
وما رواه كريب مولى ابن عباس- رضي الله عنهما- قال: أرسلني ابن عباس، وناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم إلى أم سلمة أسألها: أي الأيام كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثرها صياما؟ قالت: كان يصوم يوم السبت ويوم الأحد أكثر ما يصوم من الأيام، ويقول: ((إنهما يوما عيد للمشركين، فأنا أحب أن أخالفهم)). رواه البيهقي في السنن الكبرى ، وابن خزيمة في صحيحه ، ، وقال الشيخ الألباني في هامش الكتاب: (إسناده حسن وصححه ابن حبان)، وأحمد في المسند ، والحاكم في المستدرك وذكر أن إسناده صحيح.
وقالوا: ان الأصل الإباحة، ولا دليل صحيح على الكراهة. ولا نهم لا يصومون في عيدهم بل يأكلون ويشربون ،فصيامنا في يوم عيدهم من تمام مخالفتهم.
قال الامام الطحاوي – رحمه الله تعالى- في شرح المعاني[2/80] : (ففي هذه الآثار المروية إباحة صوم يوم السبت، وهي أشهر وأظهر في أيدي العلماء من هذا الحديث الشاذ الذي قد خالفها –يقصد حديث الصماء-)
قال الحافظ ابن حجر –رحمه الله تعالى- في فتح الباري[10/362] في معرض حديثه عن مخالفة أهل الكتاب: (والذي قاله بعضهم من كراهة إفراد السبت وكذا الأحد ليس جيداً، بل الأولى من المحافظة على ذلك يوم الجمعة كما ورد الحديث الصحيح فيه.. وأما السبت والأحد فالأولى أن يصاما معاً وفرادى امتثالاً لعموم الأمر بمخالفة أهل الكتاب).
القول الثالث: يجوز افراد السبت أو الجمعة بصيام تطوع اذا كان بسبب ، وكراهة ذلك من غير مناسبة خاصة .
والسبب هو: اذا وافق يوماً يعتاده، كمن يصوم يوماً ويفطر يوما، أو وافق يوم عرفة، أو عاشوراء فلا كراهة، وكذا إن وجد سبب آخر كمن نذر أن يصوم يوماً يقدم فيه غائبه أو يشفى فيه مريضه، فوافق يوم السبت مثلا فإن له صومه.
لما ثبت في الصحيحين من حديث عبدالله بن عمرو بن العاص – رضي الله عنهما- أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال : (( أَحَبُّ الصِّيَامِ إِلَى اللَّهِ صِيَامُ دَاوُدَ كان َيَصُومُ يَوْمًا وَيُفْطِرُ يَوْمًا)).
وقالوا: لا بد أن يوافق السبت منفرداً في بعض صومه ، فيؤخذ منه أنه إذا وافق صوم السبت عادةً له كيوم عرفة أو عاشوراء ، فلا بأس بصومه ، ولو كان منفرداً
وحديث أبي هريرة – رضي الله عنه-في النهي عن إفراد يوم الجمعة بصيام ، قوله عليه الصلاة والسلام : ((لا تخصوا يوم الجمعة بصيام من بين الأيام ، إلا أن يكون في صوم يصومه أحدكم)) ،متفق عليه وهذا لفظ مسلم ، كما ورد مثل هذا الاستثناء في حديث النهي عن تقدم رمضان بيوم أو يومين ، فقال عليه الصلاة والسلام :(( إلا أن يكون رجل كان يصوم صومه فليصم ذلك اليوم)) متفق عليه .
وقد ذكر الحافظ ابن حجر-رحمه الله تعالى- في الفتح: ( أنه يستثنى من النهي عن صوم يوم الجمعة من له عادة بصوم يوم معين ، كعرفة ، فوافق الجمعة ، فمثله يوم السبت).
قال الإمام شمس الدين الرملي الشافعي - رحمه الله تعالى- في نهاية المحتاج[3/199] : (يكره إفراد السبت بالصوم... ومحله إذا لم يوافق إفراد كل يوم من الأيام الثلاثة عادة له، وإلا: كأن كان يصوم يوما ويفطر يوما، أو يصوم عاشوراء، أو عرفة، فوافق يوم صومه: فلا كراهة، كما في صوم يوم الشك. ذكره في المجموع, وهو ظاهر، وإن أفتى ابن عبد السلام بخلافه. ولا يكره إفرادها بنذر، وكفارة، وقضاء، وخرج بإفراد ما لو صام أحدهما مع يوم قبله أو يوم بعده فلا كراهة لانتفاء العلة) .
قال الشيخ العلامة محمد صالح ابن عثيمين -رحمه الله تعالى- في مجموع الفتاوي والرسائل: (وليعلم أن صيام يوم السبت له أحوال :
الحال الأولى : أن يكون في فرضٍ كرمضان أداء ، أو قضاءٍ ، وكصيام الكفارة ، وبدل هدي التمتع ، ونحو ذلك ، فهذا لا بأس به ما لم يخصه بذلك معتقدا أن له مزية .
الحال الثانية : أن يصوم قبله يوم الجمعة فلا بأس به ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال لإحدى أمهات المؤمنين وقد صامت يوم الجمعة : (( أصمت أمس ؟ قالت : لا ، قال : أتصومين غدا ؟ قالت : لا ، قال : فأفطري ) . فقوله : ((أتصومين غدا ؟ )) يدل على جواز صومه مع الجمعة .
الحال الثالثة : أن يصادف صيام أيام مشروعة كأيام البيض ويوم عرفة ، ويوم عاشوراء ، وستة أيام من شوال لمن صام رمضان ، وتسع ذي الحجة فلا بأس ، لأنه لم يصمه لأنه يوم السبت ، بل لأنه من الأيام التي يشرع صومها .
الحال الرابعة : أن يصادف عادة كعادة من يصوم يوما ويفطر يوما فيصادف يوم صومه يوم السبت فلا بأس به ، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لما نهى عن تقدم رمضان بصوم يوم أو يومين : ( إلا رجلاً كان يصوم صوماً فليصمه ) ، وهذا مثله .
الحال الخامسة : أن يخصه بصوم تطوع فيفرده بالصوم ، فهذا محل النهي إن صح الحديث في النهي عنه ).
القول الرابع: تحريم افراد يوم الجمعة أو السبت بصيام لغير الفرض، لحديث الذي سبق عن الصمّاء رضي الله تعالى عنها ، وذلك لأن اليهود يعظمون يوم السبت، وقد أمرنا بمخالفة أهل الكتاب.
المفتى به:
هو ما ذهب اليه اصحاب القول الثالث القائل بجواز افراد السبت أو الجمعة بصيام تطوع بلا كراهة ،اذا كان بسبب أو مناسبة ، وكراهة ذلك من غير مناسبة خاصة ، بان يوافق يوماً يعتاده، مثل ان يصوم يوماً ويفطر يوما، أو وافق يوم عرفة، أو عاشوراء ، فيصومه بنيّة عاشوراء أو عرفة وليس بنيّة أنه يوم الجمعة أو السبت، وكذا إن وجد سبب آخر كمن نذر أن يصوم يوماً يقدم فيه غائبه أو يشفى فيه مريضه، فوافق يوم السبت مثلا أو جمعة فإن له صومه.
لقوة ما استدلوا به من أحاديث ، وكذلك أحاديث مشروعية افراد صيام السبت أو الجمعة لسبب أو مناسبة أَخَص من حديث النهي مطلقًا لمن صححه، وهي أكثر من جهة العدد وأصح من جهة الإسناد .
وقد ورد الاستثناء في الرخصة في صيام مثل هذه الأيام ، التي ثبت النهي عن تخصيصها بالصيام بأحاديث في غاية الصحة مثل افراد يوم الجمعة بصيام ، فكيف بصيام السبت ، وحديثه معارض بمثله ، وهو حديث أم سلمة ، ومعارض بأحاديث الجمعة المتفق على صحتها. إضافة إلى أن حديث عبد الله بن بسر عن اخته الصماء – رضي الله عنهما- في النهي عن إفراد يوم السبت مختلف في تصحيحه وتضعيفه بين الائمة.
ولكن من المهم التأكيد على وجاهة ما ذهب اليه اصحاب القول الاول من كراهة إفراد يوم السبت أو الجمعة بالصيام بمفرده، الا ان يصوم قبله يوما أو بعده، وهو مذهب جماهير العلماء ، والاخذ به من باب الاحتياط وخروجا من الخلاف .
ولاسيما صيام يوم عاشوراء فيستحب أن يصوم يوما قبله او بعده ، لما روى عبدالله بن عباس-رضي الله عنهما- قال : حين صام رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يوم عاشوراء وأمر بصيامه قالوا: يا رسول الله إنه يوم تعظمه اليهود والنصارى فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « فإذا كان العام المقبل إن شاء الله صمنا اليوم التاسع – أي مع العاشر-» قال: فلم يأت العام المقبل، حتى توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم. رواه مسلم .
وكذلك يجب التنبيه على احترام أقوال بقية العلماء وتقديرها وعدم التنازع والشحناء مع من يتبنون اقوال مخالفة لما ذهبت اليه من الاقوال ، لأنه كلاً يؤخذ منه ويرد عليه إلا رسول الله -عليه الصلاة والسلام- .
ويجب أن نعلم أن هذا الاختلاف ليس بجديد ، بل وقع في عصر الصحابة –رضي الله عنهم- أيضا كما ذكرنا في حديث كريب المتقدم، عندما أرسله ابن عباس وبعض الصحابة إلى أم سلمة -رضي الله تعالى عنها- ليسألها عن الأيام التي كان يصومها النبيّ عليه الصلاة والسلام، فيجب علينا الاقتداء بسلفنا الصالح في مسائل الاختلاف، فإذا اختلفوا في أمر ردوه إلى الله ورسوله عليه أفضل الصلاة والسلام، مع احترامهم لقول من يخالفهم . والله تعالى أعلم
د. ضياء الدين عبدالله الصالح
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق