بسم الله الرحمن الرحيم
فتوى الاحتفال بمولد الحبيب المصطفى صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم :
كثرت الأسئلة في هذه الأيام حول الاحتفال بالمولد النبوي في شهر ربيع الأول، فهل هو بدعة مطلقاً، أم مستحبة، أم جائزة مطلقاً؟ أفيدونا وفق فقه الميزان أثابكم الله تعالى.
الجواب :
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه أجمعين، ومن تبع هداه إلى يوم الدين.
وبعد، فقد اختلف في هذه المسألة العلماء منذ القرن الرابع الهجري بين مجيز، وهم الأكثرية، ومحرم وهم الأقلية، ولكل أدلته، ووجهته التي هو موليها.
ودون الخوض في تفاصيل هذه المسألة وأدلة كل فريق، أقول :
أولاً: إن فقه الميزان يقتضي أن باب العبادات المحضة والشعائر التعبدية مقفول على الزيادة فيها أو تغيير شكلها ما لم يرد في ذلك نص صريح، وأما باب العادات والمعاملات فمفتوح، لأن الأصل فيها الإباحة إلا ما دل دليل صحيح وصريح على حرمتها.
ثانياً: أن جمهور العلماء أقروا بالقياس في بعض أنواع العبادات، وبوجود البدعة الحسنة التي توافق أصول الشريعة ولا تعارضها، فقد جمع عمر رضي الله عنه الناس على أبي بن كعب ليؤمهم في صلاة القيام في ليالي رمضان، ثم لما رآهم منتظمين خلف إمام واحد قال : " نعمت البدعة هذه " قال ابن تيميه في مجموع الفتاوى ( ٢٠/ ١٦٣): إسناده صحيح وقال ابن عمر في صلاة الضحى : ( بدعة، نعمت البدعة) قال الحافظ ابن حجر في الفتح ٣/٦٣ إسناده صحيح
كما أن عثمان أحدث الأذان الثاني ليوم الجمعة .
ويقول أبو شامة في : الباعث على إنكار البدع والحوادث ص 62 : " فالبدعة الحسنة متفق على جواز فعلها والاستحباب لها " ثم عرف البدعة الحسنة بأنها " كل مبتدع موافق لقواعد الشريعة غير مخالف لشيء منها، ولا يلزم من فعله محذور شرعي ... "
ثالثاً: إن هناك فرقاً بين الوسائل والمقاصد، فوسائل العبادات ليست على سنن واحد، فهناك من الوسائل ما هي قابلة للاجتهاد مثل وسائل الجهاد، وتوصيل الأذان بالوسائل الحديثة.
رابعاً: إن مفهوم العبادة واسع، فتشمل العبادات المحضة والشعائر التعبدية التي لا يجوز إحداث أي زيادة أو تغيير إلا بدليل صحيح .
وكذلك تشمل بقية أنواع القرب إلى الله مثل الجهاد، والدعوة إلى الله، بل تشمل كل عمل صالح يراد به وجه الله تعالى من الزراعة، والصناعة والتجارة ونحوها.
الراجح :
وبعد تدبري في مسألة الاحتفال بالمولد الذي يقام دون مخالفات شرعية بل إلقاء الخطب والدروس للتعريف بالرسول صلى الله عليه وسلم وسيرته وشمائله وشريعته فإن ميزانه وفق فقه الميزان الذي نزل مع القرآن هو ميزان الدعوة إلى الله تعالى، وميزان وسائل التعريف بالرسول صلى الله عليه وسلم وسيرته وشمائله وأقواله وأفعاله، وان الخطأ عند المحرمين له قد وقع في الميزان حيث اخضعوه لميزان العبادات المحضة.
ومن المعلوم أن الأصل في وسائل الدعوة الإباحة إلا إذا كانت وسائل محرمة، أو تصحبها محرمات، والدليل على هذا الأصل قوله تعالى: ( ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ) النحل 125
فالحكمة تشمل كل وسيلة نافعة مؤثرة مناسبة للأشخاص والأزمان والأماكن، وليست خاصة بما ورد في الشرع فقط.
والموعظة الحسنة بما فيها المبشرات، والزواجر، هي الأقوال اللينة والعبر الجميلة، والقصص الصادقة ونحوهما مما يؤثر في القلوب والنفوس.
والجدال هو الحوار ووصفه بالتي هي أحسن يدل على وجوب السعي أو استحبابه مز قبل الداعية للوصول إلى ما هو الأحسن لفظاً وأسلوباً ومعنى ومحتوى، وهذا يعني التجديد حيث تقتضي الآية أن نجدد اختيار الأحسن حسب الزمان والمكان والأشخاص والأحوال، وأن أحسن الأمس قد لا يكون أحسن اليوم، وهكذا، يقول ابن القيم في تفسير هذه الآية :
" جعل الله سبحانه مراتب الدعوة بحسب مراتب الخلق، فالمستجيب يدعى بطريق الحكمة، والقابل الذي عنده غفلة وتأخر يدعى بالموعظالحسنة، والمعاند الجاحد يجادل بالتي هي أحسن "
فكما أن وسائل الجهاد ليست مقيدة بما ورد فيها نص، بل هي شاملة لكل ما يحقق الغرض المنشود منه، ولكنها مقيدة بأن لا تتعارض مع النصوص الشرعية، حيث ذكر الله تعالى من وسائله رباط الخيل، واليوم أضيف إليها رباط الدبابات والطائرات ونحوهما، فكذلك وسائل الدعوة، بما فيها الدعوة إلى الله تعالى وإلى حب رسوله صلى الله عليه وسلم واتباع منهاجه وسيرته وسنته.
وإذا وصلنا إلى ذلك فإن الاحتفال بمولد النبي صلى الله عليه وسلم وسيلة من وسائل الدعوة إلى الله تعالى، والتعريف برسوله صلى الله عليه وسلم وطريقته وشمائله، فحينئذ تكون مشروعة بل يثاب عليها الإنسان بالشروط الآتية :
1- أن يراد بالاحتفال الدعوة إلى الله تعالى وإلى حبه، وحب رسوله صلى الله عليه وسلم، وإحياء سنته واتباع شرعه، والالتزام بمنهاجه.
2- أن لا يصاحب الاحتفال أي شيء حرمه الله تعالى من الرقص والاختلاط المحرم وغيرهما من المحرمات القولية والفعلية.
3- أن لا يصاحبه أيضاً الإسراف أو التبذير والمباهاة.
4- وإن كان يصحبه أكل فينبغي أن يدعى إليه الفقراء مع غيرهم.
خامساً: وإذا ثبت هذا فلا يقبل الإنكار الشديد من قبل بعض الدعاة إنكاراً تتجاوز شدته الإنكار على المحرمات القطعيات حتى قال أحدهم: إن الذي يحتفل بالمولد النبوي أعظم إثماً ممن شرب الخمر ويزني ويقتل " كما نقله صاحب مفهوم البدعة ص 21- 22
فهذا غلو في الدين يؤدي إلى الاختلال في الموازين، وإلى صناعة التكفير ثم التفجير،والتفرقة بين المسلمين
فمنتهى القول أن القضية خلافية، ولكل الحق في ترجيح ما يراه دون تبخيس لحق الآخرين، ولا تقديس لرأيه.
هذا ما توصلنا إليه وفقا لفقه الميزان، والله أسأل أن يعصمني من الخطأ والزلل في العقيدة والقول والعمل، وأن يجعلنا مخلصين لدينه، وأن يغفر عن أخطائنا وخطايانا.. (ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا)
آمين يارب العالمين
كتبه الفقير إلى ربه
علي محيي الدين القره داغي
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق