عرض أردوغان، والذي جاء مفاجئا للجميع بمن فيهم الرئيس الروسي، يدشن فعليا لبدء اتخاذ خطوات أكثر فاعلية باتجاه إنهاء القطيعة التركية مع نظام بشار الأسد
يبدو أن الرئيس أردوغان أصبح أكثر استعجالا من بشار الأسد لعقد المصالحة التركية السورية، ساعيا بكل قوته لتحريك الماء الراكد بين البلدين، متخطيا جميع الأعراف الدبلوماسية التي تحكم مثل هذه المواقف؛ إذ أعلن أنه شخصيا عرض على الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، إجراء لقاء ثلاثي يجمع كل من رؤساء تركيا وروسيا وسوريا كبادرة حسن نية سياسية تؤسس لحوار مباشر بين وزيري خارجية البلدين، بهدف إفساح المجال أمام الاتفاق على تشكيل لجان عمل مشتركة، وتحديد طبيعة مهامها، والصلاحيات الممنوحة لها لحل القضايا الخلافية القائمة بين البلدين منذ عقود، وهو العرض الذي لقي ترحيبا كبيرا من جانب الرئيس الروسي الذي يرعى فعليا مبادرة للمصالحة التركية– السورية منذ فترة ليست بالقليلة.
عرض أردوغان، والذي جاء مفاجئا للجميع بمن فيهم الرئيس الروسي، يدشن فعليا لبدء اتخاذ خطوات أكثر فاعلية باتجاه إنهاء القطيعة التركية مع نظام بشار الأسد، وتحفيز الخطوات المتسارعة واللقاءات السرية المكثفة التي تجري حاليا بين مسؤولي الاستخبارات التركية والسورية لوضع الأطر الأساسية التي يمكن أن ينطلق بناءً عليها الحوار السياسي والأمني والدبلوماسي من خلال الاجتماع المنتظر سواء بين وزيري الدفاع أو الخارجية في البلدين.
لكن السؤال الذي يتبادر إلى الأذهان، لماذا أقدم الرئيس أردوغان على القيام بهذه الخطوة، وفي هذا التوقيت تحديدا، وما هي الأسباب التي تدفعه إلى تسريع خطوات التقارب مع النظام السوري الآن؟
تحجيم التنظيمات المسلحة وتنظيف الشمال السوري منهم
رغم تعدد الأسباب التي يمكن أن ينطلق منها موقف أردوغان في هذا الملف على وجه الخصوص إلا أن أولها وأهمها بالنسبة له الآن هو تنظيف المنطقة من عناصر وحدات حماية الشعب، التي تعتبرهم أنقرة امتدادا لحزب العمال الكردستاني، والسعي لتحجيم وجودهم في شمال سوريا عموما..
خصوصا وأن هذا الوجود يسبب لبلاده صداعا مزمنا بشكل دائم، مع زيادة العمليات التي يقومون بها على طول المناطق الحدودية ضد السكان المدنيين، وتهديد أمنها القومي، وهو يريد الانتهاء من هذه الإشكالية قبل بدء معركته الانتخابية التي لم يتبق عليها الكثير من الوقت.
ويري الرئيس التركي أن الحل الأمثل لإغلاق هذا الملف نهائيا لن يتأتى إلا عن طريق التصالح مع نظام بشار الأسد، الأمر الذي سيؤمن لتركيا حليفا مهما في مواجهتها لهذه التنظيمات، فالأسد هو صاحب الأرض، وعلى عاتق جيشه تقع مسؤولية الدفاع عن الوحدة الترابية لبلاده، وليس الجيش التركي.
تبادل المعلومات الاستخباراتية حول التنظيمات المسلحة
أما دور تركيا المستقبلي، حال إتمام المصالحة، فسيتلخص في أمرين: أولهما تقديم المساعدة اللازمة لتطهير المناطق الحدودية المشتركة مع سوريا من وجود هذه العناصر، وإمداد الاستخبارات السورية بجميع المعلومات التي تمتلكها الاستخبارات التركية حول أعداد مسلحي هذه التنظيمات، ومخازن أسلحتها، وأماكن معسكراتها، والطرق التي تستخدمها قوات التحالف الدولي لتزويدها بالسلاح، على أن يقوم الجيش العربي السوري بطردهم من باقي المناطق الداخلية التي يسيطرون عليها، وهي مناطق تحوي الكثير من آبار البترول، التي يقومون ببيع منتجاتها واستخدام أموالها في السعي لتقسيم الدولة السورية، وإقامة كيان فيدرالي كردي في المناطق الواقعة تحت سيطرتهم في شمال شرق سوريا، ويطلقون عليه اسم ” أفا روج”.
موقف واشنطن وراء ترجيح أنقرة الخيار المُر
التحرك التركي صوب المصالحة مع بشار الأسد جاء بعد أن أعلنت واشنطن رسميا رفضها بشكل قاطع لتلبية المطالب التركية، الخاصة بوقف مساعدتها العسكرية التي تقدمها لهذه التنظيمات تحت ذريعة مكافحة تنظيم داعش، الأمر الذي أفسح المجال رحبا أمام هذه التنظيمات لتنظيم صفوفها، وزيادة عدد مسلحيها، وتوسيع نطاق وجودها في الداخل السوري، الأمر الذي تعتبره أنقرة تهديدا مباشرا لأمنها القومي، وهو ما استلزم منها تحركا سريعا وفاعلا للحفاظ على وحده أراضيها، وإزالة أي خطر يمكن أن يمثل تهديدا لها ولمناطقها الحدودية، بعد أن تخلت عنها الولايات المتحدة مما دفعها إلى الخيار المُر، وهو اللجوء إلى نظام الأسد.
المصالحة وملف اللاجئين وتأثيرهما على الانتخابات التركية
نتائج المصالحة مع بشار الأسد لن تتوقف على هذا الملف فقط رغم أهميته السياسية والأمنية، لكنها في حقيقية الأمر تتخطاه لملفات أخرى لها أهميتها أيضا على الصعيد التركي الداخلي، فمن خلال عقد هذه المصالحة تستطيع تركيا أن ترفع عن كاهلها عبء اللاجئين السوريين الذين يتجاوز عددهم أربعة ملايين، ويشكلون أزمة حاليا في المجتمع التركي، الذي أصبح أغلبه يؤيد إعادتهم إلى بلادهم، بعد أن نجحت المعارضة في استغلال ملفهم لإشاعة الكراهية والبغضاء ضدهم، بعد تحميلهم الأزمات الاقتصادية والاجتماعية التي تواجهها تركيا، واتهامها للحكومة بالتضحية بمصالح مواطنيها وراحتهم من أجل استقبال هؤلاء اللاجئين، وتوفير حياة كريمة، والظهور بمظهر الدولة المضيافة أمام المجتمع الدولي.
مما يعني أن عودة اللاجئين السوريين قبيل الانتخابات البرلمانية والرئاسية من القضايا الملحة، التي ينبغي حلها والانتهاء منها، حتى تُفقد الحكومة أحزاب المعارضة ورقة هامة من أوراق الضغط التي بحوزتهم، خصوصا أن قادة هذه الأحزاب أعلنوا أن من أولوياتهم، حال فوزهم في الانتخابات، إحياء العلاقات التركية من نظام الأسد، تمهيدا لإعادة حوالي أربعة ملايين سوري يعيشون في تركيا إلى بلادهم، وهو ما سيعيد التوازن الاجتماعي والاقتصادي للمجتمع التركي، ويسترد بموجبة الأتراك بلادهم مرة أخرى مما يطلقون عليه اسم “الاحتلال السوري”.
المصالحة مع بشار الأسد لها أيضا فوائد اقتصادية لا يمكن غض الطرف عنها أو تجاهلها، فعودة العلاقات السياسية تعني ضمن ما تعني عودة التبادل التجاري بين البلدين، وضمان تركيا حصة لا بأس بها من عملية إعمار سوريا التي خربتها الحرب، ودخول الشركات التركية إلى السوق السورية كأحد الشركاء المعتمدين والمرحب بهم على الصعيدين الرسمي والشعبي.
التنازلات والتضحيات المطلوبة لإتمام المصالحة التركية السورية
إلا أن هذه المصالحة وما يمكن أن تحققه لتركيا تحديدا من مكاسب جمة تحتاج في سبيل تحقيقها إلى تقديم عدة تنازلات صعبة، والتضحية ببعض المكاسب التي حققتها من خلال وجود قواتها في الشمال السوري، مثل خروج جميع قواتها من مناطق تمركزها في الشمال السوري، والتنازل عن جميع الأراضي التي تحت سيطرتها بما في ذلك تلك الأراضي التي تسيطر عليها قوات سوريا الديمقراطية المعارضة المدعومة من أنقرة، وتسليمها للجيش العربي السوري، وهو مطلب النظام السوري نفسه من تركيا إذا أرادت المصالحة.
أما بالنسبة للمطالب التركية من سوريا فأولها وأهمها ضمان عودة آمنة للاجئين، وإعادة ممتلكاتهم وأراضيهم التي صادرها النظام منهم، مع التعهد بعدم التعرض لهم أمنيا، أو إخضاعهم للتحقيق من جانب أية جهة أمنية، إلى جانب إفساح المجال أمام قوى المعارضة السورية لتكون جزءا مهما في العملية السياسية، والعمل على تسريع خطوات الانتهاء من الدستور الجديد للبلاد بما يضمن انخراط مختلف قوى المعارضة السورية في العمل بكل حرية داخل الدولة السورية، وعلى رأس هذه المطالب بطبيعة الحال إخراج التنظيمات المسلحة من المناطق التي تسيطر عليها في الشمال السوري، والتعاون بين البلدين لتحقيق هذا الهدف.
فهل سيتم التوافق بين البلدين لضمان تحقيق هذه المطالب، ووضعها موضع التنفيذ الفعلي حتى ولو بشروط محددة أو اتفاقات أمنية وسياسية تفضي إلى تحول المصالحة التركية– السورية لحقيقة، وتُنهي سنوات من المعاناة لملايين السوريين النازحين من مدنهم وقراهم؟ سنتابع ونرى.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق