فقه زكاة الفطر بالتفصيل على المذاهب الفقهية الأربعة
د. مرشد معشوق الخزنوي
زكاة الفطر؛ أي: الزكاة التي سببُها الفطر من رمضانَ، وتُسمَّى أيضًا صدَقةَ الفِطر، وبكلا الاسمَيْنِ وردَتِ النصوص، وهي الصَّدقة التي تَخرج في آخر رمضان، وفي ليلة عيد الفِطر وصباح عيد الفِطر.
• وسمِّيتْ بزكاة الفِطر؛ لأنَّها شُرعتْ عند إتمام شهر رمضان في السَّنة الثانية من الهجرة، وفي الزمن الذي يفطر فيه الصائمون مِن رمضان، فهي زَكاة الإفطار، أو صدقة عيد الفِطر الذي بعد إكمال رمضان، كما تسمَّى زكاة رمضان؛ لأنَّها متعلِّقة بشهر رمضان، أو زكاة الأبدان؛ لأنَّها تتعلَّق بالأشخاص؛ لأنَّ الفِطرة هي الخِلقة، كما قال تعالى: ﴿ فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا ﴾ [الروم: 30]؛ أي: الجِبلَّة التي جُبلوا عليها، ويُقصد بها هنا الصَّدقة عن البدن والنَّفس.
• حكمة مشروعيتها: وشُرعتْ هذه العبادة المرتبطة بشهر الصِّيام لسببين؛ كما يقول حبرُ الأمَّة عبدُالله بن عباس رضي الله عنهما: "فرَض رسولُ الله صلى الله عليه وسلم زكاةَ الفِطر؛ طُهرةً للصَّائم مِن اللَّغو والرَّفث، وطُعمةً للمساكين، مَن أدَّاها قبلَ الصلاة فهي زكاة مَقبولة، ومن أدَّاها بعد الصلاة فهي صدقة من الصدقات"[1].
فلأننا بشَر نُخطئ، يشوب صيامَنا بعضُ النواقص مِن اللَّغو والرَّفث، فكانت صدقة الفِطر تطهيرًا لصيامنا؛ حتى يرتفع إلى جناب المولى خاليًا مِن تلك النواقص.
ولذلك يقول الإمامُ النووي في المجموع عن وكيع بن الجراح رحمه الله، وهو محدِّث العراق وشيخ الشافعي، يقول وكيع: "زكاةُ الفِطْرِ لِشَهْرِ رَمَضانَ كَسَجْدَتَيِ السَّهْوِ للصَّلاةِ؛ تَجْبُرُ نُقْصانَ الصَّوْمِ كَما يَجْبُرُ السُّجُودُ نُقْصانَ الصَّلاة"[2].
فزكاة الفِطر تطهيرٌ للنَّفْس مِن أدرانها؛ من الشُّحِّ وغيره مِن الأخلاق الرديئة، وتكميلٌ للأجْر، وتنمية للعمل الصالح، وتطهيرٌ للصيام ممَّا قد يؤثِّر فيه وينقص ثوابَه من اللَّغو والرَّفَثِ ونحوهما.
إضافة إلى مشاركة الفقراء والمساكين في العيد؛ بإغنائهم عن السؤال في يوم العيد، وإدخالِ السرور عليهم في يوم يُسرُّ المسلمون بقدوم العيد عليهم، فمِن خصائص رمضان شعورُ الناس بعضهم ببعض، فتجد الغنيَّ يرأف بحال الفقراء؛ لأنَّه قد جرَّبَ الشعورَ بالجوع والعطش.
• حكمها: الفقهاء على قولين:
ذهب جمهورُ الفقهاء إلى أنَّ زكاة الفِطر واجبة على كلِّ مسلم؛ لما ورَد عن عبدالله بن عمر رضي الله عنهما أنَّه قال: "فَرَض رسولُ الله صلى الله عليه وسلم زكاةَ الفِطر مِن رمضان على الناس، صاعًا مِن تمر، أو صاعًا من شَعير، على كلِّ حُر أو عبد، ذكر أو أنثى مِن المسلمين"[3]، وجمهور العلماء الشافعيَّة والحنفية والحنابلة وقول عند المالكيَّة أخذوا بهذا الحديث، وفسَّروا قوله: "فَرَض" بمعنى أوجب.
القول الآخر على أنَّها سُنة، وهو قولٌ عند المالكيَّة، وقال به الأشهب بن علية والأصم[4]، وقال الخرشي في شرح مختصر خليل: "لا يقاتَل أهلُ بلد على مَنع زكاة الفطر... لأنَّه قيل القول بسُنِّيته"[5]، وفسَّروا "فرضها" أن معناها قدَّرها ووقتها؛ لأنَّ الفرض يكون بمعنى التقدير والتوقيت، قال الله عز وجل: ﴿ قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ ﴾ [التحريم: 2]؛ أي: قدَّرها، وقال به بعضُ الظاهريَّة، وابن اللبان الشافعي.
وقالوا: إنَّ زكاة الفِطر كانت واجبة، ولكنها نُسختْ بوجوب الزكاة العامَّة - زكاة الأموال - واستدلُّوا بحديث قيس بن سعد بن عبادة رضي الله عنه أنه قال: "كنَّا نصوم عاشوراء، ونؤدِّي زكاة الفِطر، فلمَّا نزل رمضان، ونزلت الزكاة، لم نُؤْمَر به، لم نُنْهَ عنه، وكنَّا نفعله"[6].
ومن جملة ما استدلَّ به مَن ذهب إلى أنَّ زكاة الفِطر سنَّة مؤكَّدة وليست واجبة: ما رُوي عن طلحة بن عبيدالله رضي الله عنه قال: جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم من أهل نجد، ثائر الرَّأس، يُسمَع دويُّ صوته، ولا يُفقه ما يقول، حتى دنا، فإذا هو يسأل عن الإسلام، فقال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: ((خمس صلوات في اليوم والليلة))، فقال: هل عليَّ غيرها؟ قال: ((لا، إلا أن تطوَّع))، قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: ((وصيام رمضان))، قال: هل عليَّ غيره؟ قال: ((لا، إلا أن تطوَّع))، قال: وذكر له رسولُ الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم الزكاةَ، قال: هل عليَّ غيرها؟ قال: ((لا، إلا أن تطوَّع))، قال: فأدبر الرجل وهو يقول: واللهِ لا أَزيد على هذا ولا أنقُص، قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: ((أَفلح إن صدَق))[7]، قالوا: وصدَقة الفِطر ليست داخلة تحت الزَّكاة المفروضة؛ بدليل أنَّ الحديث قد فرَّق بين الزَّكاة وصدقة الفطر.
شرائط وجوب زكاة الفطر: ويشترط لوجوب أدائها شرطان:
أولًا: الإسلام:وهذا الشَّرط محلُّ اتِّفاق بين العلماء، إلَّا ما روي عن الشافعيَّة أنه يجب على الكافر أداء زكاة الفِطر عن أقاربه المسلمين.
ثانيًا: أن يكون قادرًا على إخراج زكاة الفطر، وهذا الشَّرط محلُّ اتِّفاق بين أهل العلم في أنَّه لا بدَّ من توافر القدرة فيمن يجب عليه إخراج زَكاة الفِطر؛ لأنَّ غير القادر مرفوع عنه الحرَج بمثل قوله تعالى: ﴿ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا ﴾ [البقرة: 286]، لكنَّهم اختلفوا في معنى هذه القُدرة:
• فذهب المالكيَّة والشافعيَّة والحنابلة[8] إلى أنَّها تجب على مَن عنده فَضل عن قُوتِه وقوت مَن في نفقته ليلةَ العيد ويومه، ويشترط كونه فاضلًا عن مسكن وخادم يحتاج إليه.
وقد استدلَّ هؤلاء جميعًا بحديث سهل بن الحنظليَّة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((مَن سأل وعنده ما يُغنيه، فإنَّما يَستكثر من النار))، قالوا: يا رسول الله، وما يغنيه؟ قال: ((قدر ما يغديه ويعشيه))[9].
• وذهب الحنفيَّةُ إلى أنَّ معنى القدرة على إخراج صدقة الفِطر أن يكون مالكًا للنِّصاب الذي تجب فيه الزكاة من أيِّ مالٍ كان، سواء كان مِن الذَّهب أو الفضَّة، أو السوائم من الإبل والبقر والغنم، أو من عروض التجارة[10].
والنِّصاب الذي تجب فيه الزَّكاة مِن الفضة مائتا درهم؛ وهو ما يعادل 600 غرام، ومن الذهب عشرون دينار؛ وهو ما يعادل 85 غرامًا، فمَن كان عنده هذا القدر فاضلًا عن حوائجه الأصليَّة من مأكل وملبس ومسكن وسلاح وفرس، وجبتْ عليه زكاةُ الفِطر.
وعلَّلوا عدمَ وجوبها على مَن يملك أقل مِن ذلك أنَّه ممن تجوز عليهم الصَّدقة، فلا يجتمع جواز الصَّدقة عليه مع وجوبها عليه، واستدلُّوا على هذا بما روي عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((لا صَدقةَ إلَّا عن ظَهر غِنى))[11].
من تجب عليهم زكاة الفطر: اختلفت المذاهبُ الفقهية في هذه المسألة اختلافًا بيِّنًا؛ فقد ذهب الحنفيَّة إلى القول: إنه يجب على الرجل إذا كان غنيًّا أن يؤديها عن نفسه، وعن كلِّ مَن له ولاية عليه؛ وهم ابنه الصغير وبنته الصغيرة وابنه الكبير إذا كان مجنونًا؛ لأنَّ هؤلاء جميعًا له حق التصرُّف في أموالهم بما يعود عليهم بالنَّفع بدون إذنهم، هذا في حالة كونهم فقراء، أمَّا في حالة كونهم أغنياء فإنه يخرجها من أموالهم.
ولا يرى الحنفيَّةُ أن يخرجها الأبُ عن بنيه الكبار ووالديه وأقاربه وزوجته، سواء كانوا أغنياء أو فقراء؛ لأنَّه وإن كانت تلزمه نفقتهم إذا كانوا فقراء، فإنَّ ولايته عليهم قاصرة؛ بدليل أنَّه لا يجوز له التصرُّف في أموالهم إذا كان لهم مال إلَّا بإذنهم[12].
وذهب المالكيَّةُ إلى أنَّ الرجل يؤدِّيها عن نفسه وعن مَن تجب عليه نفقتُه؛ وهم الوالدان الفقيران، وأولاده الفقراء ذكورًا أو إناثًا، والزوجة وإن كانت ذات مال، وكذلك زوجة والده الفقير، وقد استدلُّوا على هذا بما رواه الدارقطني عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أنه قال: "أمر رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بصَدقة الفِطر عن الصَّغير والكبير، والحرِّ والعبد ممَّن تمُونُون"؛ أي: تُنفقون عليهم، ويستنتج مِن ذلك أنَّ المالكيَّة لا يرون أن يؤدي المرء زكاةَ الفِطر عن أولاده الأغنياء، سواء كانوا صغارًا أو كبارًا، ولا عن والديه الغنيَّينِ كذلك.
ويتَّفق الشافعيَّةُ والحنابلة مع المالكيَّة في أنَّ المرء يؤدِّي الزكاة عن نفسه وعن كلِّ مَن تجب عليه نفقته شرعًا، مع اختلاف يَسير في التفاصيل؛ فقد قال الشافعيَّةُ: إنَّ الرجل يؤدِّيها عن نفسه، وعن من تجب عليه نفقته من المسلمين لقرابة أو زوجية أو مِلك، فيؤدِّيها عن أصوله وإنْ علَوا؛ كجدِّه وجدَّته، وفروعه وإن نزلوا ذكورًا أو إناثًا إذا كانوا فقراء، كما يؤدِّيها عن زوجته، وكذلك مطلَّقته طلاقًا غير بائن، ولا تلزمه زكاة البائن إلَّا إذا كانت حاملًا؛ لقوله تعالى: ﴿ وَإِنْ كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ ﴾ [الطلاق: 6].
ويؤدِّيها أيضًا عن خادمه إذا كانت نفقته غير مقدَّرة، أما إذا كانت مقدَّرة باليوم أو الشهر أو السَّنة فلا يخرجها عنه؛ لأنَّه كالأجير لا تجب عليه نفقته[13].
وقت وجوب زكاة الفطر: وقد اختلف الفقهاءُ رحمهم الله تعالى في وقت الوجوب:
المذهب الأول: وهو قول الحنفيَّة، والمالكيَّة[14] في قولٍ، أنَّ وقت الوجوب هو طلوع فَجر يوم العيد، واستدلُّوا على ذلك بما روي عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما، أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم أمَر بزكاة الفِطر قبل خروج الناس إلى الصَّلاة[15].
ووجه استدلالهم بالحديث: هو أنَّ الرسول صلى الله عليه وسلم أمَر أن تؤدَّى صدقة الفِطر قبل الذهاب إلى مصلَّى العيد، وهذا يبيِّن أنَّ وقت وجوبها هو يوم الفِطر، ثمَّ إن تسميتها بزكاة الفِطر يدلُّ كذلك على أنَّ وجوبها يكون بطلوع فجر يوم الفطر؛ لأنَّ الفِطر لا يكون إلَّا بطلوع فجر ذلك اليوم، ولأنَّ ما قبله لا يسمَّى فِطرًا، ولا يعتبر الإنسان مفطرًا مِن صومه إلَّا بطلوع فجر يوم الفطر.
المذهب الثاني: وإليه ذهب المالكيَّةُ في القول الآخر، والشافعيَّة في الراجح، والحنابلة[16]، أنَّ وقت وجوب زكاة الفِطر هو بغروب شمس آخر يوم مِن رمضان.
وتظهر فائدة هذا الخِلاف فيمن مات أو وُلد بعد غروب شمس آخر يوم مِن رمضان؛ فمن مات بعد غروب الشمس عند الشافعيَّة والحنابلة وقول عند المالكيَّة تخرج عنه صدَقة الفطر؛ لأنَّه كان موجودًا وقت وجوبها.
وعند الحنفيَّة وقول عند المالكيَّة: لا تخرج عنه صدقة الفِطر؛ لأنه لم يكن موجودًا.
ومَن وُلد بعد غروب آخر يوم مِن رمضان تخرج عنه صدقة الفِطر عند الحنفيَّة وقول عند المالكية؛ لأنَّه وقتَ وجوبها كان موجودًا، ولا تخرج عنه الصَّدقة عند الشافعيَّة والحنابلة وقول عند المالكية؛ لأنَّه كان جنينًا في بطن أمه وقتَ وجوبها.
وقت وجوب الأداء: ذهب جمهورُ الحنفيَّة إلى أنَّ وقت وجوب أداء زكاة الفِطر موسَّع؛ لأنَّ الأمر بأدائها غير مقيَّد بوقت، كالزكاة؛ فهي تجب في مطلق الوقت، وإنَّما يتعيَّن بتعينه، ففي أيِّ وقت أدَّى كان مؤدِّيًا لا قاضيًا، غير أنَّ المستحب إخراجها قبل الذهاب إلى المصلَّى؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: ((أَغنوهم في هذا اليوم)).
ومذهب المالكيَّة والشافعيَّة والحنابلة: أنَّ من أدَّاها بعد صلاة العيد بدون عذر كان آثِمًا، مستدلِّين بقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((مَن أدَّاها قبلَ الصلاة فهي زَكاة مَقبولة، ومَن أدَّاها بعد الصلاة فهي صدَقة مِن الصَّدقات))[17].
• واتَّفق جميعُ الفقهاء على أنَّها لا تسقط بخروج وقتها؛ لأنَّها وجبت في ذمَّته لِمن هي له، وهم مستحِقُّوها، فهي دَينٌ لهم لا يَسقط إلَّا بالأداء؛ لأنَّها حقٌّ للعبد، أمَّا حقُّ الله في التأخير عن وقتها، فلا يُجبر إلا بالاستغفار والندامة
إخراجها قبل وقتها: ذهب الفقهاء إلى أقوال ثلاثة:
القول الأول (وهو رأيُ أبي حَنيفة): جواز تعجيلها السَّنَة والسَّنتين، وهو المعتمد عندهم كالزكاة[18]، وقد حسَّن الألباني ما رُوي أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم تسلَّف من العباس صدقة سنتين.
القول الثاني (قول عند الأحناف والشافعيَّة): جواز إخراجها مِن بداية رمضان، وقد علَّل النوويُّ هذا القول بقوله: إنَّها تجب بسببين، وهما صوم رمضان والفِطر منه، فإذا وُجد أحدهما جاز تَقديمها على الآخر؛ كزكاة المال قبل الحَول، وبَعد ملك النِّصاب، ولا يجوز تقديمها على رمضان؛ لأنَّه تقديمٌ على السَّببين معًا[19].
القول الثالث (قول عند الأحناف والمالكيَّة والحنابلة): جواز تقديمها بيومٍ أو يومين[20]؛ لما رُوي عن ابن عمر رضي الله عنهما أنَّه كان يُخرجها قبلَ يوم الفِطر بيوم أو يومين[21].
مقدار الواجب: اتَّفق الفقهاء على أنَّ الواجب إخراجه في الفطرة صاعٌ مِن جميع الأصناف التي يَجوز إخراج الفطرة منها عدا القمح، فقد اختلفوا في المقدار فيه إلى قولين:
القول الأول: ذهب إليه الجمهورُ من المالكيَّة والشافعيَّة والحنابلة[22]، أنَّ الواجب إخراجه في القمح هو صاع منه.
واستدلُّوا على وجوب صاع من بُرٍّ بحديث أبي سَعيد الخُدريِّ رضي الله تعالى عنه قال: "كنَّا نُخرج زكاةَ الفِطر إذ كان فينا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم صاعًا مِن طعام، أو صاعًا من تَمر، أو صاعًا من شَعير، أو صاعًا من زبيب، أو صاعًا مِن أقط، فلا أزال أُخرجه كما كنتُ أخرجه ما عشتُ"[23].
القول الثاني: وإليه ذهب الحنفيَّة، أنَّ الواجب إخراجه مِن القمح نصف صاع، وكذا دَقيق القمح[24].
والصَّاع المقصود هو صاع أهل المدينة؛ لأنَّ النبي صلى الله عليه وسلم جعل ضابط ما يُكال مكيالَ أهل المدينة؛ كما في حديث ابنِ عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((المِكيال على مِكيال أهل المدينة، والوزن على وزن أهل مكَّة))[25]، والصَّاع مِن المكيال، فوجب أن يكون بصاع أهل المدينة في زمن النبي صلى الله عليه وسلم.
والمكيال يَختلف باختلاف ما يملأ به الصَّاع، فعند إخراجه لا بدَّ مِن التأكُّد أنَّه يعادل ملء الصَّاع من النوع المخرَج منه.
والصَّاعُ النَّبوي أربعة أمداد بكفَّي الرجل المعتدل - أي: أربع حفنات - غير قابضهما ولا باسطهما، وبالوزن فهو كما يلي:
قمح 2200 جرام تقريبًا
شعير 2100 جرام تقريبًا
دقيق 2075 جرام تقريبًا
أرز 2675 جرام تقريبًا
تمر 1800 جرام تقريبًا
زبيب 2425 جرام تقريبًا
نوع الواجب: اختلف فيه الفقهاءُ على ثلاثة أقوال:
القول الأول: وإليه ذهب المالكيَّةُ والشافعيَّة[26] أنَّ الواجب عليه هو غالب قُوت البلد، أو قوت المكلَّف إذا لم يقدر على قوت البلد.
القول الثاني؛ وإليه ذهب الحنابلة[27]: أنَّ الواجب عليه يتعيَّن في أحد الأصناف الواردة في حديث أبي سَعيد الخدري رضي الله عنه أنه قال: "كنَّا نُخرج إذ كان فينا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم زكاةَ الفِطر عن كلِّ صغير وكبير، حرٍّ أو مَملوك - صاعًا مِن طعام، أو صاعًا مِن أقط، أو صاعًا من شَعير، أو صاعًا من تمر، أو صاعًا من زبيب، فلم نزَل نخرجه حتى قدِم علينا معاويةُ بن أبي سفيان حاجًّا أو معتمرًا المدينةَ، فكلَّم الناس على المنبر، فكان فيما كلَّم به الناس أن قال: إنِّي لأرى أنَّ مدَّين من سمراء الشام تعدل صاعًا من تمر، قال: فأخذ الناس بذلك"، قال أبو سعيد: "فأمَّا أنا، فلا أزال أُخرجه كما كنتُ أخرجه أبدًا ما عشتُ"[28]، فهذه الأنواع هي الحِنطة والشَّعير، والتمر، والأقط، والزَّبيب، فإذا عُدمت هذه الأصناف، فإنه يجزئه كلُّ مقتات مِن الحبوب والثمار.
القول الثالث؛ وإليه ذهبت الحنفيَّة: أنَّ الواجب في زكاة الفِطر هو البُر والشَّعير والتمر، فهذه الأنواع الثلاثة تُعتبر عندهم أصولًا لغيرها؛ ولذلك فإنَّه إذا كان المخرَج مِن الأجناس الأخرى، فإنَّ الاعتبار فيها بالقيمة؛ حيث تُقوَّم هذه الثلاثة، ثمَّ يَشتري بقيمة المقوَّم منها الجنسَ المراد إخراجه؛ لأنَّ الاعتبار بالمنصوص عليه لِما ليس فيه نص.
كما جوَّز الحنفيَّةُ إخراجَ القيمة مِن النُّقود في زكاة الفطر، وهي عندهم أفضَل مِن إخراج العين؛ لكون الفَقير يستطيع أن يشتري بها أيَّ شيء يريد في يوم العيد، غير أنَّ الجمهور لم يروا جوازَ دفع القيمة؛ لعدم النصِّ عليها.
ولا شك أنَّ دفع القيمة في زكاة الفِطر أنفَع للفقير وأيسر، وأسرع في سدِّ خلَّته، بل أضمن في حصول النَّفع كاملًا له؛ لأنَّ حاجته قد لا تكون معينة في الحِنطة أو الشَّعير أو التمر أو الأقط أو الزبيب أو أي مُقتات آخر؛ وإنَّما قد يكون محتاجًا إلى النُّقود لسداد أُجرة المسكن، أو لشراء لوازمه الضَّروريَّة كالملابس، وعند دفع الزكاة مِن الأعيان المذكورة في الحديث، أو مِن أي مقتات في البلد يتكلَّف الفقير مؤونةَ البيع عندما تكون حاجته في غير المدفوع له، إلى جانب النَّقص في سِعر تلك الأعيان، وخاصَّة إذا كانت مِن الأعيان التي ليس لها رواج في السوق، أو الأنواع الأقل جَودة، كما هو مشاهَد في وقتنا الحاضر، فلا يتم له الغِنى وسد الخلَّة التي أرادها الشارع مِن تشريع هذه الزكاة، وخاصَّة إذا علمنا أنَّ الأعيان المشار إليها أو غيرها ليست مَقصودة للشَّارِع بذواتها؛ وإنَّما المقصود هو نَفع الفقراء وإعطاؤهم الأصلحَ لهم.
مصارف زكاة الفطر: اختلف الفقهاءُ فيمن تُصرف إليه زكاة الفِطر على قولين:
القول الأول؛ واليه ذهب الجمهورُ مِن الحنفيَّة والشافعيَّة والحنابلة في القول الراجح[29]: أنَّ مصرفها مصرف زَكاة المال، فيجوز صرفها إلى الأصناف الثمانية المذكورين في قوله تعالى: ﴿ إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ﴾ [التوبة: 60].
بل إنَّ الشافعيَّة أوجبوا قِسمتها على الأصناف الثَّمانية إذا وُجدوا، وإذا لم يوجَدوا فعلى الموجود منهم، ولم يشترط الحنفيَّةُ والحنابلة استيعابَ جَميع الأصناف أو الموجود منهم، وإنما جوَّزوا صرفها حتى إلى صنف واحد مِن تلك الأصناف الثمانية.
القول الثاني؛ وإليه ذهب المالكيَّةُ والحنابلةُ في القول الآخر[30]: أنَّ زَكاة الفِطر خاصَّة بالفقراء والمساكين، وليست عامَّة في جميع مصارف زكاة المال، فلا يجوزُ دفعها إلى غير الفقراء والمساكين؛ لورود اختصاص هذه الزَّكاة بهم في حديث ابن عبَّاس رضي الله عنهما السابق؛ حيث قال: "فَرَض رسولُ الله صلى الله عليه وسلم زكاةَ الفِطر؛ طهرةً للصَّائم من اللَّغو والرَّفث، وطعمةً للمساكين".
مكان دفع زكاة الفطر: الأصل في الزَّكاة - سواء كانت زكاة مال أو زكاة بدن - أن تؤدَّى في البلد الذي يوجد فيه المالِك حين وجوبها عليه، وفي المكان الذي يوجد فيه الشخص المزكِّي حين وجوبها عليه، فتُفرَّق على مستحقيها هناك، ولا يجوز نقلها منه إلَّا إذا لم يوجد مَن يستحقها؛ لحديث عبدالله بن عباس رضي الله عنهما أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث معاذًا إلى اليمن... وكان مما قال: ((فأَعلِمْهم أنَّ الله افترض عليهم صدقةً في أموالهم، تؤخذ مِن أغنيائهم، وتردُّ على فُقرائهم))[31].
هذا في حالة وجود مستحقِّين لها في بلده، وممَّا اعتبره الجمهور مكانها: مسافة القصر، وهو 85 كم.
وقد استثنى الحنفيَّةُ مِن ذلك فقالوا: لا بأس أن يُخرجها مَن وجبت عليه إلى قرابته مِن أهل الحاجة؛ لِما في ذلك من صِلة الرَّحم، وكذلك إذا نقلها إلى قومٍ هم أحوج مِن أهل بلده إليها، أو إلى مَن هو أصلح أو أورع أو أنفع للمسلمين، أو مِن دار الحرب إلى دار الإسلام، أو إلى طالب علمٍ.
ودليل ذلك الأثَر الوارد عن طاوس، قال مُعاذٌ رضي الله عنه لأهل اليَمَن: "ائتوني بِعَرْضِ ثِياب خَمِيصٍ - أو لَبِيسٍ - في الصَّدَقَةِ مكانَ الشَّعِيرِ والذُّرَةِ؛ أَهْوَنُ عَلَيكم وَخَيْرٌ لِأصْحابِ النَّبي صلى اللهُ عليه وسلَّم بالمدينَةِ"[32]، ووجه الشَّاهد أنَّ فيه نقل الزَّكاة مِن اليَمَن إلى المدينة المنوَّرة.
[1] رواه أبو داود وابن ماجه والدارقطني والحاكم وصححه.
[2] المجموع للنووي 6/ 140.
[3] أخرجه البخاري.
[4] انظر: المقدمات الممهدات (1/ 332)، وبداية المجتهد (2/ 40)، والذخيرة للقرافي (3/ 154)، والقوانين الفقهية (ص: 75).
[5] شرح مختصر خليل للخرشي (2/ 227).
[6] أخرجه النسائي وغيره، وسنده صحيح.
[7] أخرجه البخاري ومسلم.
[8] انظر مواهب الجليل للحطاب (2/ 366)، المجموع للنووي 6/ 110)، الإنصاف للمرداوي (3/ 164).
[9] رواه أبو داود وابن حبان.
[10] تبيين الحقائق للزيلعي وحاشية الشبلي (1/ 306).
[11] رواه الإمام أحمد بن حنبل.
[12] البحر الرائق لابن نجيم (2/ 272).
[13] انظر: مواهب الجليل للحطاب (3/ 264)، المجموع للنووي (6/ 113)، الفروع لابن مفلح (4/ 216).
[14] انظر: فتح القدير لابن الهمام (2/ 297)، شرح مختصر خليل للخرشي (2/ 228).
[15] رواه البخاري ومسلم.
[16] انظر: مغني المحتاج للشربيني (1/ 401)، المغني لابن قدامة (3/ 89)، شرح مختصر خليل للخرشي (2/ 228).
[17] أخرجه أبو داود وابن ماجه.
[18] انظر: المبسوط للسرخسي (6/ 110).
[19] انظر المجموع للنووي (6/ 126).
[20] منح الجليل لعليش (2/ 106)، المغني لابن قدامة (3/ 89).
[21] رواه البخاري.
[22] انظر: شرح مختصر خليل للخرشي (2/ 228)، روضة الطالبين (2/ 301)، المغني لابن قدامة (3/ 81).
[23] رواه البخاري ومسلم.
[24] الحاوي الكبير للماوردي (3/ 380).
[25] رواه أبو داود والنسائي والطبراني، وصححه الألباني في صحيح النسائي.
[26] انظر: شرح مختصر خليل للخرشي (2/ 229)، روضة الطالبين للنووي (2/ 303).
[27] المغني لابن قدامة (3/ 85).
[28] رواه البخاري ومسلم.
[29] انظر حاشية ابن عابدين (2/ 368)، المجموع للنووي (6/ 186)، كشاف القناع للبُهُوتي (2/ 246).
[30] حاشية العدوي (1/ 645)، الإنصاف للمرداوي (3/ 132).
[31] رواه البخاري ومسلم.
[32] رواه البخاري معلَّقًا.
منقوووول للإستفادة
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق