تمهيد: المشكلة التي تعالجها المقالة:
إن الإنسان مجبول على طباع وغرائز تحتاج إشباعا، وفي الوقت نفسه جاء الأنبياء عليهم السلام بالشرائع التي تنظم تلك الدوافع الغيريزية بحيث تصبح الغرائز قُوى تدفع والشريعة هاد يقود المسير إلى الله تعالى، فلا يمكن إهمال الغرائز، كما لا يمكن إهمال القائد، ولكنَّ الإشكال هو تحويلُ التدين إلى حالة مثالية تتخلى عن حظ النفس، أو تقع في هوى الحظوظ الغريزية وتتخلى عن الشريعة القائدة، وكلاهما باطل، وهما يفسران تخبط البشرية بين المثالية الدينية والواقعية الدنيوية، مما يستدعي أن تُبيَّن السنة في هذا الموضوع، وهي بيان رعاية الشريعة لحظوظ العباد بما يتفق مع غاية التعبد لله تعالى، ومتى يتفق حظ النفس مع التعبد؟ ومتى يفترقان؟ وهو السؤل الجوهري الذي تدور حوله هذه المقالة.
أولا: نص الحديث:
جاء في سنن البيهقي والنَّسائي عن أنس رضي الله عنه أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – (قال): «حُبِّب إلي من دنياكم: النساء والطيب، وجُعلت قرة عيني في الصلاة» فهذا من المحبب إلى النبي صلى الله عليه وسلم من الدنيا، ومعلوم أن الأنبياء حتى في نومهم وطعامهم لا يَنْفكُّون عن التعبد، مما يعني أنّ ما يناله العبد من الحظ للنفس من أمور الدنيا لا يناقض التعبد، إلا إذا ناقض حظ النفس التعبد بالأمور الشِّركية أو المعاصي المحرمة.
ثانيا: الحديث عن الأقسام الثلاثة:
يمثل النبي صلى الله عليه وسلم لحظوظ العباد بهذه الثلاثة، ولكل قسم من هذه الثلاثة نوع يُعتبر جزءا من الشريعة سواء كان تحسينيا كالطيب، أو حاجيا كالزواج من النساء، أو عباديا ضروريا كالصلاة، فللعبد فيه حظ يتفق مع مقام التعبد بحيث يكون العبد متعبدا، وفي الوقت نفسه نائلا لحظه من الدنيا.
1-حبب إلى النبي صلى الله عليه وسلم النساء:
أ-من حيث الأفراد:
-إن الزواج مندوب شرعي في أصله باعتبار الأفراد وهو أمر حاجي للعباد بحيث لو تركه العبد دخل عليه الحرج، وفيه حظ الغريزة وبقاء نسله، ومع أن العبد يقضي حظه من الدنيا إلا أنه في قضاء وطره من الزواج فهو خادم للعبادة من حيث الطمأنينة والسكينة المعِيْنة على العبادة، ومن حيث بقاءُ نسله، وفي بقاء نسله بقاء لدينه من ولد صالح يدعو له، هذا من حيث الأفراد.
– ويعين على هذا الفهم ما جاء في صحيح مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم: (وفي بضع أحدكم صدقة، قالوا: يا رسول الله، أيأتي أحدنا شهوته ويكون له فيها أجر؟ قال: أرأيتم لو وضعها في حرام أكان عليه فيها وزر؟ فكذلك إذا وضعها في الحلال كان له أجر) وهذا فيه دليل قياس العكس عند الأصوليين، فمَعَ أن العبد قضى وطره فله أجر، لأنه انتهى عن الحرام، فكان تحت منصب الامتثال، وهو مأجور بذلك مع قضاء حظه من الزواج، وموزور لو وضعها حرام كما هو منطوق النص.
ب-من حيث الجماعة:
الزواج من حيث الجماعة واجب، لأن ما كان مندوبا بالأفراد فهو واجب بالمجموع، فالأحكام تُغلَّظ باعتبار الجماعة، كما قال في المراقي: ما كان بالجزئيِّ ندبُه عُلمْ*** فهو بالكُلي كعِيدٍ مُنْحَتِمْ، فلو ترك المسلمون الزواج، لم يبق نسل يتدين بالإسلام، فكان اـلمُخل بالحاجي كالزواج مُخِلاًّ بضروري الدين، ومؤديا لزوال العبادة، فمِن هنا كان حظ العباد مندرجا، تحت ضروري الدين، ومُكمِّلا له ومحافظا عليه، وهو مأجور على حظه وغريزته، لأنه باقٍ تحت التعبُّد، وكذلك مأجور مع قضاء حظه وغريزته.
ج-متى يكون المكلف خارجا بحظِّه عن نطاق التعبد:
-يُلحُّ علينا سؤال: إذا كان العبد يسير مع حظه وغريزته، ومع ذلك هو قائم تحت التعبد، فكيف نميز بين من ينال حظه وغريزته وهو تحت التعبد، وبين أصحاب الأهواء الذين لهم نفس الحظ من الدنيا ويقضون أوطارهم بالزواج ولكنهم ليسوا تحت التعبد.
-والجواب على ذلك: إن هذا الذي يَقضي وطَرَه بالزواج وله حظه من الدنيا يبتليه الله بعوارض تكشف حقيقة حظِّه إن كان تحت الامتثال الشرعي أم لا، فلو أتيحت له معصية الزنا فلم يرتكبها خوفا من الله فهذا يعني أنه كان في قضاء وطره بالزواج تحت الامتثال الشرعي مراقبا له، فلما عَرَضَت له المعصية أَبَى وأَعْرض عنها، وكان عنده الشرع متبوعا وسابقا، وحظ العبد تابعا ومسبوقا، وقدوته في ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم.
-فإن وقع في المعصية فعندئذ يكون الشرع تابعا لهواه عندما تزوج، بدليل أنه نقَض الامتثال، ولم يتعفف عن الفاحشة، فلا يكون بالزواج ممتثلا للأمر، ولا قائما تحت التعبد، وليس له في السنة من نصيب، لأنه تابع لهواه وليس للشرع، وهكذا تَعرِض الابتلاءات للناس، ليُظهِر الله ما في قلوبهم من الحقائق الدينية، سواء من الهوى تحت الامتثال، أو من الهوى المخالف للشرع.
2-حُبِّب إلى النبي صلى الله عليه وسلم الطِّيب:
أ-الطيب من التحسينات:
إن الطيب من التحسينيات التي تجمُل بها الحياة، ولا يترتب على ترك الطيب فوات دين ولا دنيا، سواء على مستوى الأفراد أم على مستوى المجموع، ويندرج تحته كل التحسينيات التي لا تخل بضرروي أو حاجي، وبذلك يقول لنا النبي صلى الله عليه وسلم إن التطيب من الامتثال لله، وإنْ لم يترتب على تركه فوات الدين، أي لِيْأخذْ كل منكم حظه من دنياه، بما تهنأ به نفسه ويسترح له قلبه، فإن هذا يكون من الجمال الذي تحلو بها حياتكم ويحببكم على بعضكم
ب-متى يكون الطيب هوى تحت الامتثال أو هوى خارجا عن الامتثال:
-إذا رأيتَ الرجل حريصا على طيبه لصلاة الجمعة قاصدا الامتثال، فهو مأجور على حظ نفسه من الطيب، وحظّ نفسه من الطيب لا يعارض الامتثال، بل هواه موافق للشرع، وكذلك بالنسبة للمرأة في استعطارها في بيتها فلها حظها من الطيب والزينة، فهي نائلة حظها من الزينة ما دامت لا تقع في مخالفة أمر أو نهي متعلقة بذلك.
ب-ويُعرف إن كان هواه مخالفا للشرع إن تطيب متفاخرا به على الناس متكبرا، أو تعطَّر في وقت إحرامه بالحج، فهذا يكون هواه متبوعا، والشرع تابع لهواه، وكذلك بالنسبة للمرأة في استعطارها خارج بيتها، مما يؤدي إلى فتنة الرجال بها، فتكون بطيبها متبعة للهوى تاركة للامتثال، وليست واقعة تحت الامتثال، مما يعني أن مخالفة الامتثال تحصل بالمعاصي، لا بنيل العباد حظوظهم تحت مقام الامتثال.
3-جُعلت قرة عين النبي صلى الله عليه وسلم في الصلاة:
أ-أكمل العبادات مع أكمل الأنبياء لا تنافي حظ العبد:
وفي هذه الصلاة الوضوح التام في عدم معارضة حظ العبد لمقام الامتثال حتى في أعظم العبادات امتثالا وهي الصلاة، التي يحرم فيها الطعام والكلام، وجعل الله طمأنينة النفس وهدوءها التي هي مطلب البشرية الغارقة اليوم في محرَقة الشهوات من غير امتثال للشرع، فأصابتها الآلام النفسية والخوف من الموت المحدق بها، وكان بإمكانهم نيلُ هذه السعادة التي طلبوها في الموبقات أن يحصلوا عليها في أكثر العبادات امتثالا وهي الصلاة، فيمكن للعبد إذا أصيب بمصيبة أن يفزع إلى الصلاة مع أن المثير لأداء الصلاة هو طلب الطمأنينة بها، وهذا الطلب هو حظ النفس، وهو واقع تحت الامتثال فهو يصلي ويقضي وطره بطلب الطمأنينة بل طلب الطمأنينة هي سبب الصلاة، ومع ذلك ناسب منصب النبوة وهو أعلى المناصب في التعبد مع الصلاة التي هي غاية التعبد.
ب- الصلاة يناقضها الرياء وليس الفرح بالأداء:
-قد يصلي المسلم وتحسن صلاته بحيث يثني عليه الناس فيسر بذلك الثناء، فهذا لا يناقض الإخلاص وليس على العبد أن يحارب حظه فيصبح في حرب مستعرة بين الإخلاص والفرح بالثناء عليه من قبل الناس، وقد يصلي المصلي ويظهر في صلاته حتى لا يكون ترك الجماعة سببا في جرحه بإبطال عدالته فيحب هذا العبد أن يراه الناس ذاهبا إلى الصلاة ليجب الغيبة عن نفسه ولتصح شهادته وهذا باق تحت الامتثال لأن مقاصده تلك معتبرة شرعا في تصحيح الشهاد وإظهار الشعار ودرء العبد الغيبة عن نفسه.
– ما يناقض الإخلاص في الصلاة هو الرياء، بحيث يصلي المكلف من أجل أن يثق به الناس ليتوسل بتلك الصلاة إلى ما في أيديهم من الجاه وحطام الدنيا، فهذا بصلاته تلك كان الهوى متبوعا والشرع تابعا، كالمرائي بالحج لأن الرياء من الشرك الأصغر وهو مُنافٍ للامتثال.
ثالثا: مشكلة الحداثة في حظ العباد:
إن الحداثة هي استمرار لتناقضات الأديان السابقة من أديان تمارس التقشف والصدام مع حظ العباد كالبوذية والنصرانية، أو الأديان الإباحية كالمزدكية التي لا تحرّم ما حَرّم الله، فليست الحداثة بخارجة عن تناقضات الإنسان وتخبطه في تلك الأديان، وهي جميعا غير قادرة على الوفاء بحظ العبد مع بقائه تحت التدين والامتثال، فإما أن تجنح ذات اليمين أو ذات الشمال، وبعد الغرق في الضلالة، تقدم الحداثة فلسفة في النفس والسلوك، وتسميه عِلما يدرس في جامعاتنا على أنه علم من العلوم، بينما انشغل الوسط الديني بحرب استنزاف في التجديد بلا جديد والخوض بم لا يفيد.
رابعا: أمثلة تطبيقية على مشروعية حظ العبد مع العبادة:
1-طلب العلم لنيل الشهادة الدارسية:
أتحدث عن حالة حظ النفس تابعا للشرع، وهي حالة تحت الامتثال، والحالة الثانية وهي حالة الهوى متبوع والشرع تابع.
أ-حظ النفس تابع والشرع متبوع:
يختلط على طالب العلم الذي يدرس في الجامعة أيا كان التخصص أنه مخلص لله في دراسته أم لا، فيتوهم أنه إذا درس ليحصل على علامة عليا، أو المركز الأول أنه يناقض الإخلاص، مع أن الدراسة من أجل رفع العلامة تتضمن المزيد من التحصيل العلمي الذي هو موافق للامتثال ومعين للأمة في التخصصات التي تحتاجها، فيشعر الطالب بالحرج ويقع في وهم التناقض بين حظ العبد والامتثال للشرع، وهو تناقض مستورد من الأديان الوضعية والمحرفة، بل على الطالب أن يجعل من نيل حظه من الشهادة والعلامة تحت الامتثال معينا لهذه الأمة على النهضة والتفوق العلمي، فيكون حصل له حظ النفس وأجر الامتثال، لأنه قائم بفرض على الأمة ولم يأت بما يناقض ذلك كالرياء والكبر وحَبْس العِلم عن أهله.
ب- حظ النفس في العلم متبوع والشرع تابع:
إذا انتهت الامتحانات وحصل الطالب على علامته العليا هجر ما كان يدرسه وصار جاهلا به، وشعاره ادفع قِسطا تنجح فصلا، وإذا حصل على المركز الأول تكبر على زملائه وغمطهم حقهم، فصار الكبر مما يناقض الامتثال، وصار الشرع تابعا وحظ النفس متبوعا، وأضاع أجره بالكبر والرياء، ويمكن أن يبذل هذا العلم بما يرتد على المسلمين بالسوء والضرر.
2-موظفو الدولة:
وأقصد بذلك كل أجير يتقاضى راتبا، ولكنْ ذكرت موظفي الدولة على وجه الخصوص لأنهم منتصبون لأمر عام وذلك أشد خطرا من غيرهم، وأنهم يجب أن يتحملوا أكثر من غيرهم، لا أن يكون الشعور بالأمان الوظيفي في الحكومة سببا للإهمال والتقصير، لضعف المحاسبة، وترهُّل الأنظمة الإدارية، فهم أخطر من غيرهم إذا قصروا وأفضل من غيرهم إذا أحسنوا، والغُرْم بالغُنْم، وهؤلاء لهم حالتان، هما:
أ-حظ النفس بالأجرة تابع والشرع متبوع:
-يخالج أهل الطاعة أنهم يعسر عليهم الإخلاص مع أنهم يتقاضون راتبا، وقد يكونون من الموظفين الكبار كالقضاة والوزراء والمحافظين ولهم حظ نفس كبير حيث يقدمهم الناس في المحافل والمجامع ولهم أُبَّهة السُّلطة والمكانة الاجتماعية، ويظنون أنهم لا يمكنهم الإخلاص مع هذه الحظوظ.
-نعم يمكن أن يكون حظ النفس في كل هذا تابعا والشرع يكون متبوعا، ويقصِدُ الموظف بذلك وجه الله تعالى، بحيث يغِيث الملهوف، ويساعد المنكوب، ويقف مع الضعيف، ويحقق الإنصاف، ولا يقدم أحدا على أحد بالباطل، مع بقاء حظه من تكريم الناس له لمنصبه، وهذا لا يناقض الإخلاص لأن ما يقوم به من الواجب الكفائي نافع للأمة، ولم يَضِرْها في شيء، فهو نائل لحظّ نفسه تحت مقام الامتثال، وحظه تابع والشرع متبوع، وعليه أن لا يشعر بصراع حظ النفس مع الامتثال، ولْيطمئن إلى أنه تحت الامتثال وذلك معين له المزيد من العطاء والحفاظ على فرض الكفاية دون اختلال، وعليه أن يحذر من الوعاظ الذين تختلط عليهم مثل هذه الأمور الذين يجمعون بين المتفرّقِ، ويفرقون بين المجتمِعِ.
ب-حظ النفس بالأجرة متبوع والشرع تابع:
هنا تكون الطامة التي يعم فسادها، وتُخل بفرض الكفاية، فيظن موظف الدولة أنه وطني من الطراز الأول ولكن لا تعنيه موافقة الشرع في قليل ولا كثير، فتراه يخدِم حزبه وجماعته وقريته، مقدِّمًا ما حقُّه التأخير، ومؤخرا ما حقه التقديم، لأجل مزيد من الحظوظ الدنيوية بين قرابته وأبناء عمومته وحزبه، ويظن بذلك أنه يحسن صنعا، وهذا هو الذي صار عنده الحظ متبوعا والشرع تابعا، لأنه ناقض الامتثال الواجب في فرض الكفاية، وهدَمَه على رؤوس الناس لأجل عصبية منْتِنةٍ، وهذا يكون مناقضا للامتثال، بل مستحقا للوعيد، لتضييعه فرض الكفاية، فلا يمكنه الجمع بين حظ النفس وقصد الامتثال.
3-القتال في سبيل الوطن أم في سبيل الله تناقضات التدين مع الطبيعة:
أ-القتال في سبيل الله بين المقاصد الأصلية والمقاصد التبعية:
ما قلناه من تأصيل في شرح الحديث النبوي الشريف، في عدم تعارض حظ العبد مع الامتثال يقال هنا في الجهاد، فطلب الجنة حظ النفس الأخروي وتحرير الأوطان من الاحتلال فيها حظ النفس الدنيوي، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول وهو في أعلى مراتب الامتثال: (حُبب إلي من دنياكم) فلا ينافي الامتثال والإخلاص حظ العبد في وطنه ولا في جنة الله تعالى، لأنها جميعا متفقة مع المقصد الأصلي وهو في سبيل الله، فتحرير الوطن من غائلة الكفار يعني استرداد الأرض التي تزكى مزروعاتها ويستطيع المسلمون أن يؤدوا صلاتهم وزكاتهم وحجهم فيكون تحرير الوطن معينا على الحفاظ على ضروري الدين والنفس والعيش ومتفقا معه تماما، وقد رغب النبي صلى الله عليه وسلم في القتال وقال: من قتل قتيلا فله سَلَبُه، وهذا قصد تبعي لا ينافي في سبيل الله، ولذلك تفصيل أكثر في كتب الفروع.
ب- تأثير تناقضات الأديان والحداثة في الفكر الديني المعاصر في النظرة للجهاد:
تنطلق تناقضات الحداثة والأديان من تعذُّر الجمع بين حظوظ العباد وإخلاص التدين، لذلك نجد الاتجاهات في الفكر الديني المعاصر واقعة تحت تأثير هذا التناقض، بين من يريد دينا بلا وطن، ويعُدُّ القتال من أجل الوطن شركا ومناقضا للإخلاص في سبيل الله، فينفي مقاصد الشريعة التبعية، وبين من يعتقد أن الجهاد هو قتال من أجل الوطن دون الالتفات إلى المقاصد الأصلية، ويحوِّل الجهاد إلى صورة مصدقة عن الحرب في الدولة الحديثة، التي أقيمت أصلا على تحييد الدين في مجال الدولة والفضاءالعام، مما يعني أن تناقضات الحداثة والأديان أصبحت كليات تستبعد مقاصد الشريعة التبعية والأصلية، وتُفرض على حقيقة الجهاد الشرعية، بسبب الفكر الديني المسطَّح، الذي يعاني من قلة التلافيف الدماغية في دراسة أصول الشريعة وترتيبِ جزئياتها تحت كليّاتها.
4-التجارة بين اتباع الهوى في حظ النفس وقصد الامتثال:
إن البيع وما شاكل البيوع من عقود المعاوضات والمشاركات فيها قوام عيش العباد ولا ينفصل قوام عيش العبادة عن ضرورة الدين والنفس، ولكن السؤال متى يكون المرء نائلا حظ نفسه من العيش والالتذاذ بصنوف الطعام والشرب واللباس والمركوب والمسكون، مع كونه قائمة تحت الامتثال، ومتى يكون خارجا عنه، سيكون حديثنا هنا قريبا عن حديث في الزواج، لأن الزواج فيه بقاء النسل والبيوع فيها بقاء العيش.
أ-بيوع المكلف حظ له قائما تحت الامتثال:
-فإذا باع العبد وآجر ورهن وشارك إلى غير ذلك، فهو نائل لحظه من العيش ومشبع لطباعه منها، ويتحقق له ذلك إذا عرض له بيع بالربا أو قرض انتهى عنه، ولا يغش ولا يخدع في البيع ولا يكتم عيبا، ويؤدي ما عليه في العقد، فإذا أدى واجبه في البيع وانتهى عما نهاه عنه الشارع دل ذلك على أن المكلف لم يكن متبعا لهواه بما خالف الشرع، بل كان هواه موافقا للشرع، جاريا على مقاصده التبعية والأصلية، كما هو واضح من الحديث (حبب إلي من دنياكم…).
-بل إن الشريعة متسعة في ذلك كما في قوله تعالى: (لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَبْتَغُوا فَضْلًا مِّن رَّبِّكُمْ فَإِذَا أَفَضْتُم مِّنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِندَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِن كُنتُم مِّن قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ ) فيجوز الجمع بين نية الحج هو عبادة ونية التجارة من أجل الربح وهما لا يتنافيان، بل التوسع في التجارة هو لخدمة التوسع في فرض العين في الحج إلى البيت، وهذا التوسع التجاري لخدمة الفريضة وليس مناقضا لها، وهذا يكون عمله عبادة بهذا المعنى.
ب-بيوع المكلف هوى متبوع مخالف لمقام الامتثال:
وهذا حاله مخالف لحال صاحبه الأول، فهو يقضي حظه من العيش، ولكنه يغش، ولا يتورع عن الربا والمخادعة، ولا يؤدي الحقوق مع قدرته على ذلك، فهو مخالف لمنصب الامتثال خارج عنه، وهواه متبوع والشرع تابع، ولو قال العمل عبادة فإنه لا ينفعه، وهو من الساعين بالفساد وأكل أموال الناس بالباطل، بل فهمه للعبادة مفهوم وعظي عام يحسنه القُصّاص، وليس فيه نصيب من المعرفة الفقهية.
خامسا: وقفة مع النبوة والحديث الشريف:
إن مِن مسائل أصول الدين(علم الكلام) أن يُنظر إلى كلام النبي صلى الله عليه وسلم أنه وحي، وعلم إلهي ليس مكتسبا بشَريَّا تعترية السذاجة والخطأ، فمَن أقدم على كلام النبي صلى الله عليه وسلم وهو يعتقد أن النص النبوي مُفْعَمٌ بالعلوم المفيدة للبشرية، ومؤصِّلٌ للحياة الكريمة في كل زمان ومكان، ويسأل بقلبه المنكَسِر أن لا يحرم معرفة السنة بسبب تقصيره، فعليه أن ينتظر من علوم السنة ما يحدِّثُ الناس عما ينفعهم ويدعوهم إليه، وما يضرهم ويحذرهم منه، ولا يسعُني في هذا المقال القصير إلا أن أقول: إن الأمثلة التي يمكن أن تندرج تحت الحديث الشريف موضوع البحث لا تنتهي، وتَكْثُر على الحصر والعَدِّ، وإنما ذكرتُ من الأمثلة ما يكفي لفهم المراد، وحسبنا القياس، كما قال ابن مالك في الخلاصة: ورغبة في الخير خير وعمَل *** بِرٍّ يَزِينُ وَلْيُقَسْ ما لَم يُقَلْ.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق