الأربعاء، 26 يوليو 2023

التوظيف السياسي للنص الفقهي الرواية عن الإمام مالك (جواز قتل الثلث لإصلاح الثلثين)

 

التوظيف السياسي للنص الفقهي الرواية عن الإمام مالك (جواز قتل الثلث لإصلاح الثلثين)

هيد:

سبق وأن بينت خطورة توظيف السنة لمآرب سياسية سواء في جانب الولاء أم المعارضة، وأكدت أن الله ورسوله فوق الحاكم والمحكوم، وليس كتاب الله وسنة رسوله بضاعة برسم البيع للولاء ولا للمعارضة، وأتحدث اليوم عن كلام يتردد من في سياق التوظيف السياسي وهو ما ينقل عن الإمام مالك بن أنس، أنه يجيز للحاكم قتل ثلث الأمة لإصلاح بقية ثلثيها، وتوظيف هذه المقولة ف فقه الخدمات السلطانية مما يعني توسيع الهوة والشقاق بين الحاكم والمحكوم، بسبب نشر ثقافة الدم بين الأمة حكاما ومحكومين، ويؤدي إلى شقاق يطيح بالمجتمع كله ولاء ومعارضة، وأغلبية صامتة.

الرواية عن مالك:

لا سيما وقد تكرر نسبة المقولةإلى الإمام مالك يجيز قتل الثلث من الناس لإصلاح الثلثين، ويأتي ذلك في سياق أحداث عاصفة تمر بها أمتنا، وفي سياق تبرير قتل الأبرياء باسم الدين، وأنه ضرورة إصلاحية، وقد تعددت أنظار المالكية في نسبة ذلك إلى الإمام بين الإنكار وهو أولى، وبين تفسير هذا المنقول على فرض ثبوته، تفسيرا لا يتفق بحال مع طريقة التوظيف السياسي الخدماتي الدموي فيما روي عن مالك، وأبين هذين النظرين على النحو الآتي:

أولا: أن الرواية عنه لا تصح:

1-قال في ضوء الشموع شرح المجموع (3/ 568): (قوله: والمصلحة) كثيرًا ما يبنى مالك وغيره مذهبه عليها ولم يصح ما ينسب لمالك من قتل الثلث لإصلاح الثلثين

2-وجاء في الفكر السامي في تاريخ الفقه الإسلامي (1/ 156): (وأما ما نقله إمام الحرمين عن مالك من أنه يجيز قتل الثلث من الأمة لاستصلاح الثلثين فقد أنكر نسبته إلى الإمام كما في حواشي البناني على الزرقاني).

3- نفائس الأصول في شرح المحصول (9/ 4092):وكذلك ما نقله عن الإمام في (البرهان) من أن مالكًا يجيز قتل ثلث الأمة لصلاح الثلثين، المالكية ينكرون ذلك إنكارًا شديدًا، ولم يوجد ذلك في كتبهم، إنما هو في كتب المخالف لهم، ينقله عنهم، وهم لم يجدوه أصلاً.

3-وجاء في نشر البنود على مراقي السعود (2/ 191):(وما نسبه إمام الحرمين لمالك من جواز قتل ثلث الأمة لإصلاح الثلثين قال القرافي قد أنكر المالكية نسبته لمالك فلذلك لا يوجد في كتبهم وإنما هو في كتب المخالفين لهم وكذلك ما ذكره أن مالكًا يبيح قطع الأعضاء في التعزيزات لا تصح نسبته له لأنه مما دل الدليل على إهداره قاله الإبياري).

ثانيا: تفسيرها على فرض صحتها:

مع أن هذا التفسير لا يعني التسليم بالصحة، لكنه جار على فرض الصحة، فإن التفقه في الرواية يختلف عن حشدها إعلاميا لقتل الأبرياء ومعصومي الدم.

وما روي عن مالك يمكن تفسيره بأنه إذا تعين القتل للمفسدين طريقة للإصلاح حيث لم يفد في إصلاح المفسدين الضرب والحبس، وقد فسر الزرقاني الثلث بثلث المفسدين ليرتدع ثلثي المفسدين الآخرين، وأن الفساد محدد بما كان في تخريب أماكن الناس ونهب أموالهم خفية، فيما لم يقع فيه حد، أما قتل ثلث الأبرياء فهذا لا يفهم أبدا من الكلام المنسوب للإمام مالك، وهذا بيان لأئمة المذهب في تأكيد ذلك:

1-الفواكه الدواني على رسالة ابن أبي زيد القيرواني (2/ 181)

(وهو أن مشروعية القسامة إنما هي لحراسة الأنفس فتكفي فيها الشبهة واللطخ لإيجاب القصاص الذي هو حياة الأنفس، قال تعالى: {ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب} [البقرة: 179] فالعمل بها من المصالح العامةالتي بنى عليها الإمام مذهبه، حتى ترتب عنه العلامة خليل في التوضيح أنه قال: يجوز قتل ثلث المفسدين من المسلمين لإصلاح الثلثين حيث تعين القتل طريقا للإصلاح لا إن كان يحصل بنحو الحبس أو الضرب، ويعلم ذلك بقرائن الأحوال، وإنما أطلنا في ذلك لاقتضاء المقام الاختلاف في المسألة كما عرفت)

2-منح الجليل شرح مختصر خليل (7/ 513 فما بعدها)

 في التوضيح أبو المعالي الإمام مالك – رضي الله تعالى عنه – كثيرا ما يبني مذهبه على المصالح، وقد نقل عنه قتل ثلث العامة لإصلاح الثلثين. المازري ما حكاه أبو المعالي عن مالك صحيح. زاد الحط بعده عن شرح المحصول ما ذكره إمام الحرمين عن مالك لم يوجد في كتب المالكية. البناني شيخ شيوخنا المحقق محمد بن عبد القادر هذا الكلام لا يجوز أن يسطر في الكتب لئلا يغتر به بعض ضعفة الطلباء، وهذا لا يوافق شيئا من القواعد الشرعية. الشهاب القرافي ما نقله إمام الحرمين عن مالك أنكره المالكية إنكارا شديدا ولم يوجد في كتبهم ابن الشماع ما نقله إمام الحرمين لم ينقله أحد من علماء المذهب ولم يخبر أنه رواه نقلته، إنما ألزمه ذلك، وقد اضطرب إمام الحرمين في ذكره ذلك عنه كما اتضح ذلك من كتاب البرهان. وقول المازري ما حكاه أبو المعالي صحيح راجع لأول الكلام وهو أنه كثيرا ما يبني مذهبه على المصالح لا إلى قوله نقل عنه قتل الثلث إلخ، أو أنه حمله على تترس الكفار ببعض المسلمين، وقوله مالك يبني مذهبه على المصالح كثيرا فيه نظر لإنكار المالكية ذلك إلا على وجه مخصوص حسبما تقرر في الأصول، ولا يصح حمله على الإطلاق والعموم حتى يجري في الفتن التي تقع بين المسلمين وما يشبهها. وقد أشبع الكلام في هذا شيخ شيوخنا العلامة المحقق أبو عبد الله سيدي العربي الفاسي في جواب له طويل، وقد نقلت منه ما قيدته أعلاه وهو تنبيه مهم تنبغي المحافظة عليه لئلا يغتر بما في التوضيح اهـ. وأما تأويل ” ز ” بأن المراد قتل ثلث المفسدين إذا تعين طريقا لإصلاح بقيتهم فغير صحيح، ولا يحل القول به، فإن الشارع إنما وضع لإصلاح المفسدين الحدود عند ثبوت موجباتها، ومن لم تصلحه السنة فلا أصلحه الله تعالى، ومثل هذا التأويل الفاسد هو الذي يوقع كثيرا من الظلمة المفسدين في سفك دماء المسلمين نعوذ بالله من شرور الفساد. وفي الحديث «من شارك في دم امرئ مسلم ولو بشطر كلمة جيء به يوم القيامة مكتوب بين عينيه آيس من رحمة الله» .

3-شرح الزرقاني على مختصر خليل وحاشية البناني (7/ 55) وانظر الخرشي على شرح خليل:

 (قال مالك ما معناه يجوز قتل ثلث مسلمين مفسدين لإصلاح ثلثين مفسدين حيث تعين القتل طريقًا لإصلاح الثلثين دون الحبس أو الضرب وإلا منع صونًا للدماء والمراد بالإفساد تخريب أماكن الناس وقيام بعضهم على بعض ونهب أموال خفية من غير قتل ولا زنا إذ لو كان كذلك لقتل أو رجم من ثبت عليه ذلك بالوجه الشرعي ولو الجميع ثم الظاهر أن الإمام أو نائبه يخير في تعيين الثلث من جميع المفسدين بالمعنى الأول للقتل مع نظره بالمصلحة فيمن هو أشد فسادًا من غيره وقولي ثلث مفسدين هو الصواب خلافًا لما سرى لبعض الأوهام من جواز قتل ثلث من أهل الصلاح لإصلاح ثلثين مفسدين فإنه غلط فاحش معاذ الله أن يقال به وأيضًا أهل الفساد لا ينزجرون غالبًا بقتل أهل الصلاح بل لو فرض ذلك فلا يرتكب فيما يظهر وانظر لو كان لا يحصل إصلاح المفسدين إلا بقتل أكثر من ثلث مفسدين والظاهر عدم ارتكابه صونًا للدماء

ثالثا: الحمل الأصولي ليس للفتوى:

مدار الرواية عن مالك ما مثل به الإمام الجويني في البرهان على أن الإمام مالك من أصوله العمل بالمصالح وغاية ما قام به الجويني هو ضرب المثال على المصلحة ولم يكن متصدرا لمنصب الفتوى، ولما جاء زمن الذي يحسبون كل بيضاء شحمة وكل مدورة كعكة، لا يفرقون بين مقاصد الأصوليين، ومقاصد المفتين، ولا الحمل الفقهي مع الحمل الأصولي المتصدر للقاعدة العامة في نوعها ، ولا الفتوى الجزئية في مسألة بدليل جزئي، ولم يكلفوا أنفسهم الرجوع إلى ما بين أيديهم من كتب الفتوى التي تبين مذهب الإمام مالك.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق