السبت، 23 ديسمبر 2023

جامع لطائف التفسير

 

                                        جامع لطائف التفسير

العاجز الفقير
عبد الرحمن بن محمد بن عبد الحميد القماش
إمام وخطيب مسجد المرحوم يوسف بورسلي ـــ رأس الخيمة ـــ
كتاب يجمع ألطف اللطائف وأدق الدقائق مما احتوت عليه كتب التفسير من روائع وفرائد من خلال ما يزيد عن أربعين تفسيرا وما يقرب من مائتى كتاب من مختلف الفنون ويفند الإسرائيليات والأقوال الشاذة الموجودة فى بعض كتب التفسير ويرد على شبهات خصوم القرآن  وغير ذلك
الجزء الأ ول

إلى كم تطوف على ساحل البحر مغمضا عينيك عن غرائبها أو ما كان لك أن تركب متن لجتها لتبصر عجائبها وتسافر إلى جزائرها لاجتناء أطايبها وتغوص في عمقها فتستغني بنيل جواهرها أو ما تعير نفسك في الحرمان عن دررها وجواهرها بإدمان النظر إلى سواحلها وظواهرها أو ما بلغك أن القرآن هو البحر المحيط ومنه يتشعب علم الأولين والآخرين كما يتشعب عن سواحل البحر المحيط أنهارها وجداولها أو ما تغبط أقواما خاضوا في غمرة أمواجها فظفروا بالكبريت الأحمر وغاصوا في أعماقها فاستخرجوا الياقوت الأحمر والدر الأزهر والزبرجد الأخضر وساحوا في سواحلها فالتقطوا العنبر الأشهب والعود الرطب الأنضر وتعلقوا إلى جزائرها واستدروا من حيواناتها الترياق الأكبر والمسك الأذفر أهـ .
جواهر القرآن - الغزالي ج1/ص21
لو ذاب أهل السموات وأهل الأرض حين يسمعون كلام الله عز وجل أو ماتوا خمودا أجمعون لكان ذلك حق لهم ولما كان ذلك كثيرا إذ تكلم الله عز وجل به تكليما من نفسه من فوق عرشه من فوق سبع سمواته فإذا عظم في صدرك تعظيم المتكلم به لم يكن عندك شيء أرفع ولا أشرف ولا أنفع ولا ألذ ولا أحلى من استماع كلام الله جل وعز وفهم معاني قوله تعظيما وحبا له وإجلالا إذ كان تعالى قائله فحب القول على قدر حب قائله أهـ .
فهم القرآن - للحارث المحاسبي ج1/ص302
تقديم الدكتور عبد الوهاب المشهدانى
بسم الله الرحمن الرحيم

(1/1)


من المعلوم بالضرورة عند أهل العلم الشرعى الشريف ، أن أعمالنا ووظائفنا وتخصصاتنا كلها توقيفية على الله ـ عز وجل ـ ولهذا أودع الله تعالى فى كل كيان ما يساعده على القيام بالمهمة التى خصص لها ، فهو بعد ذلك يعمل ويعمل ويبدع ويأتى بما هو نافع وناجح وطيب لدينه ووطنه وأمته ، بل وللعالم كله ؛ لأن الإنسان يعيش مدة عمره ليزرع الخير ، ويلفظ الرديئة ويقضى عليها والناس للناس وخيرهم من قام لتقديم الخير لهم ، ثم الشىء لا يسمى خيرا ولا صالحا إلا إذا أريد به وجهة الخالق الموجود المنعم جل جلاله ، فالإيمان أساس كل خير ، ذلك كانت أروع الأعمال وأسمى الأقوال المستنبطة من محيط العلم الذى جاء به رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وحينما أجد طلاب العلوم الشرعية وبعد تخرجهم سيما طلاب الأزهر الشريف بعد أن أضاء لهم الطريق وأنار لهم الدرب ، حين درسهم علوم الآلة من نحو وصرف وبلاغة وعلوم القرآن والحديث وما ينضبط به الفكر ، وهذه كلها علوم استنبطها علماء الأمة فى الصدر الأول من كتاب الله وسنة رسول الله عليه السلام ، وهى علوم يجب على طلاب الشريعة معرفتها والوقوف على ما فيها ؛ لأن الغوص فى محيط كتاب الله وبحر سنة رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ لاستنباط القضايا المستجدة إلى يوم القيامة متوقفة على ذلك ، وما لا يتم الواجب المطلق إلا به فهو واجب ؛ لذلك كان قتل العلماء وازدراؤهم وإبعاد المجتمع عنهم قتلا وإنهاء للإسلام العظيم ؛ لأن استمرار وجود هذه الأمة الإسلامية بوجود علمائها المستنبطين الربانيين ، فخلودها علقه الله تعالى بوجودهم ، فحين أدرك أعداء الإسلام ذلك قاموا بمحاربة علماء الأمة بعد أن شوهوا سمعتهم وغيروا صورهم البهية الجميلة فى أذهان الأميين والدهماء فى أذهانهم ؛ لذلك سار هؤلاء ومعهم مرضى القلوب والمنافقون خلف المنهج الذى رسمه لهم أعداء الإسلام ، وحين وفق الله تعالى طلاب العلوم الشرعية أزهريين كانوا

(1/2)


وغيرهم لوظيفة الإمامة والخطابة وأفسح لهم المجال وقدم لهم الوقت الكافى ليعيشوا بين مظان الكتب الشرعية والمطولات الشريفة وملاحقة العلماء الربانيين أصحاب القدرة والتمكن ليأخذوا عنهم بما فتح الله عليهم وبما أفهمهم وألهمهم فى شرح كتابه وسنة رسوله ــ صلى الله عليه وسلم ــ فنجد أحدهم وقد جعل القرطاس تحت إبطه وامتلأت جيوبه بالأقلام ، فيأخذ من هذا الربانى تارة ومن ذلك المرشد تارة أخرى حتى إذا استقام عوده وصلب كيانه وتم علمه فتح الله تعالى له أبواب الاستنباط والتنقيب والغوص بعد أن ملكه أدوات العلم والتحقيق ومكنه من تحقيق المعانى وصياغة قوالب الألفاظ لتشق طريقها إلى مسامع المسلمين ثم تتداخل لتصل بعد ذلك إلى سويداء قلوبهم لتستقر هنالك مع التمكن والجلال وهى فى زى البهجة ولباس النور ممزوجة مع كمال التوفيق .
وبهؤلاء فحسب دون غيرهم سوف تعيش حياتها ومجدها وهما محاطان بالحب لبعضهم والأخوة والتوقير ؛ لذا خلق هؤلاء الأفذاذ ، ولهذا وجدوا ولهذا أخرجوا من ظلمات العدم إلى نور الوجود ، وإلا فسيأخذ مجالهم ومكانهم الجليلين الجميلين من لا علم عنده ولا تربية لديه ، ومن لم يخلقوا لذلك ولم يحدثوا له من الذين لا توفيق لكلامهم ولا قبول لهم اللهم إلا عند مرضى القلوب ومن يريد الكيد للإسلام ، ثم يحارب الإسلام أهله ويذبح المسلمين أبناؤهم ويخرب البلاد شبابهم عملا بما يتلفظ به هؤلاء الأغراب عن العلم والدين والفقه والعقيدة ، والذى فسح لهم المجال أنتم يا من خصصكم الله تعالى للعلم والدين والإرشاد حين تركتم ما خلقتم له وما وجدتم لأجله ؛ لذا أرجو من كل إمام وخطيب أن يجعل من هذا الكتاب أسوة حسنة .

(1/3)


من زمن الرسول الأعظم ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلى يومنا هذا يقتدى كل جيل بما قبله وكلهم آخذ من عند رسول الله ــ صلى الله عليه وسلم ــ ولكن هى الأمانة يسلمها جيل لمن بعده هكذا ما دامت الدنيا باقية ، والمسلمون بأشد الشوق إليكم ولما تقومون به من إرشاد واستنباط وإنارة عقولهم للوصول إلى رضى الله تعالى والفوز بالسعادتين يا أصحاب العلم الشريف وأصحاب الأقلام الطاهرة المخلصة التى تخاف الله رب العالمين وتعظم رسوله محمدا الأمين وتحافظ على وجود الأمة وتقف أمام كل من يريد شتاتها وتمزيقها وتخريب بلادها .
وكم سرنى وأثلج قلبى وأعاد الثقة لنفسى وأن الخير ما زال موجودا فى أمة محمد ــ صلى الله عليه وسلم ــ حين قدم لى أحد طلاب الأزهر الشريف ـ وقد أسند الله تعالى إليه وظيفة الإمامة والخطابة فى دولة الإمارات العربية المتحدة ـ كتابه المبارك المسمى ( جامع لطائف التفسير ) لمؤلفه الشيخ الفاضل / عبدالرحمن بن محمد بن عبدالحميد القماش وله جزيل الشكر والتوفيق .
وهو كتاب مشحون باللطائف البهية والحكم العلية ؛ لذا أتمنى أن يكون فى كل بيت من بيوت المسلمين ؛ لأنه سيكون سببا لتوسيع مداركهم وسمو أفكارهم وسعة مجال استنباطهم وينير الدرب والطريق للوصول إلى الهيمنة على الدنيا والسيطرة على السماء لنقوم بإرشاد الأمم على اختلاف لغاتها وتغيرات أمزجتها بما جاء به رسول الله ــ صلى الله عليه وسلم ــ لأن الذى يسيطر على السماء يسيطر على الأرض ولا عكس ونحن مأمورون بذلك بنص القرآن العظيم ( وسخرلكم ما فى السماوات وما فى الأرض ) والتسخير هو التذليل والانتفاع ، وقدم السماوات على الأرض لشدة أهميتها وتوقف الأرض فى الإرشاد عموما عليها ، فغزو السماء والوصول إليها فرض فرضه الله على هذه الأمة بمحض الأخبار والأوامر التى جاءت فى كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم

(1/4)


ولا يحتمل هذا المختصر فى هذه المقدمة تفصيل ذلك ، ثم إنى أحب أن أذكر لطيفة وقعت عليها عينى فى هذا الكتاب تشدنا إلى معرفة الله والخوف منه والعمل بمقتضى كتاب الله العزيز وهى تختص بلفظ الجلالة ( الله ) وهو علم مرتجل لم يؤخذ من أصل ولم يشتق من شىء ، كما قال الإمام الأعظم أبو حنيفة النعمان ــ رضى الله عنه ــ وهو الجامع جميع الصفات والأسماء وهو اسم الله الأعظم ، كما قاله الإمام الربانى جدنا الشيخ عبدالقادر الجيلانى ــ قدس سره العزيز ــ فالله هو المستغنى عن كل ما سواه والمفتقر إليه كل من عداه إذا حذفت الألف منه كان الباقى على صورة ( لله ) وهو مختص به سبحانه وتعالى ( ولله جنود السماوات والأرض ) وقوله تعالى (ولله خزائن السماوات والأرض )
فالجنود متمكنون منا ، ولا نعلم حقيقتهم والخزائن بيد الله عز وجل ، فماذا نملك وبماذا نتحكم وكل ذلك بيد الله ، إذن فلابد من العودة إلى الله مع الخضوع والخشوع .
وإن حذفت عن هذه الصورة اللام الأولى بقيت على صورة( له ) فقد قال الله تعالى ( له مقاليد السماوات والأرض ) وقوله ( له الملك وله الحمد ) ، فمن نحن بالنسبة للسماوات والأرض ؛ لذا يجب على كل مسلم أن يعرف مقدار نفسه ولا يعلو ولا يتكبر ولا يظلم ؛ بهذا الفهم تعيش الأمة بأمن وأمان واطمئنان ، وإذا كان له الملك والعظمة وله الحمد ، فمعناه أن أفعالنا التى نقوم بها خيرا للأمة إنما هى مخلوقة لله ، أما صورة الكسب فهى للعبد التى لا يتوصل بها إلا بخلق الله قال تعالى ( وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى) فلم يبق لنا شىء .

(1/5)


إذن الكل لله تعالى ، فّإذا حذفت اللام الباقية كانت البقية هى قولنا ( هو ) وتحذف الواو إذا اتصلت هذه الهاء بكلمة تدل على نفسها ولم تقترن بزمن وهى الاسم إذ لا يوجد اسم من أسماء اللغة العربية مختوما بواو ؛ لذلك إذا انفردت الهاء عادت إليها الواو فقال ( هو ) كما قال الله تعالى ( قل هو الله أحد ) وقوله ( هو الحى لا إله إلا هو ) معناه لا تطلب الحوائج حقيقة إلا من الله ؛ لأنه هو السيد الصمد ولا تعطى الحياة إلا من قبله ، فالأمر كله لله ، وبهذا التصور وبهذا الإذعان نعيش جنودا مخلصين مستعدين ظاهرا وباطنا ؛ لذلك نشعر بلذة ونشوة لا مثيل لهما لأننا لا ندرى ولا نعلم من أى مكان تتنزل علينا الفيوضات الربانية والتجليات الإلهية فتنعش منا القلوب وتربى فينا الأرواح وتغذى فينا العقول والأفكار ، فما أسعد البشرية بما جاء به رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ من عند الله عز وجل لخيرنا وصالحنا واطمئنان قلوبنا .
فأرجو الله أن يوفق صاحب الكتاب أن يكتب لهذه الأمة المزيد من الكتب النافعة ' وستكون فى ميزان حسناته يوم القيامة ـ إن شاء الله تعالى ـ وهو علم ينتفع به . وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم .
خادم العلم الشريف
د / عبد الوهاب المشهدانى
الواعظ الأول ومسؤول الفتوى بالوزارة برأس الخيمة
25جمادى الأولى 1426 هـ الموافق 2 يوليو 2005
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة الكتاب

(1/6)


الحمد لله المتصف بصفات الكمال والمنعوت بنعوت الجلال والجمال والمنفرد بالإنعام والأفضال والعطاء والنوال سبحانه لا يزال في نعوت جلاله منزها عن الزوال وفى صفات كماله مستغنيا عن زيادة الاستكمال أحمده تعالى على ما ألهم وعلم من العلم ما لم نعلم من علينا بالإيمان وشرفنا بتلاوة القرآن فأشرقت علينا بحمد الله أنواره وبدت لذوى المعارف عند التلاوة أسراره وفاضت على المتقين عند التدبر والتأمل بحاره والصلاة والسلام على البشير النذير والسراج المنير سيد الأولين والآخرين سيدنا محمد الذي جعله الله نورا ومنيرا فقال تعالى (قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين ) وقال (ياأيها النبى إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا وداعيا إلىالله بإذنه وسراجا منيرا ) فهونور [ كامل فى ذاته] وهو منير [مكمل لغيره] سيد الأصفياء وعلم الأولياء وخاتم الأنبياء ونور أهل الأرض والسماء بلغه الله رضاه في الدنيا فقال له (فلنولينك قبلة ترضاها ) وتأمل كيف قال الله (ترضاها) ولم يقل أرضاها وفى الآخرة أقر عينه بأن أعطاه المقام المحمود بقوله (عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا ) ومنحه أسمى درجات الرضا بقوله (ولسوف يعطيك ربك فترضى ) اللهم صل عليه وعلى آله الأطهار وصحابته الأبرار الذين منهم من آواه ونصره ومنهم من هجر لأجله ماله وأهله ووطنه وعلى كل من تبعهم بإحسان في جميع الأزمان ممن اتخذ طاعة ربه سكنه ووافق في الصلاح سره علنه وبعد اعلم نور الله باطنك بأنوار الإيمان وزين ظاهرك بوظائف الإسلام واستعملك في الدنيا بمتابعة السنة وأسعدك في الأخرى بجواره في الجنة أن أولى ما أفنى فيه المكلف عمره وعلق به خاطره وأعمل فيه فكره تحصيل العلوم الشرعية واستعمالها في الأعمال المرضية وإن أعلى هذه العلوم كتاب الله ، ثم العلوم المتعلقة به كثيرة وفوائد كل علم منها غزيرة ، وإن من أجلها وأنفسها علم التفسير وهو جنة في الدنيا وكيف يروق لعاقل أن يطلب جنة الخلد في الآخرة

(1/7)


قبل أن يسبح في أنهار جنة التفسير ويطوف في حدائقها ويقتطف من ثمارها ؟!! وكيف يعد نفسه من الأحياء من لم يرتع في هذه الجنة؟!! ولو كشف عنه الغطاء ورأى الأمور على حقائقها بعين بصيرته لطار لبه ولهامت روحه ولتاقت نفسه للنزول بساحة الكرم ـ جنة القرآن وروضة التفسير ـ (ولكن أكثر الناس لا يعلمون) والعمرـ لاشك ـ يتقاصر عن نيل المقاصد والنهايات ويضيق عن تحصيل المطالب والغايات ؛ لذا فإن اللائق البحث والفحص في تحصيل ما الفائدة في تحصيله أعم ،والدنيا تنقضى على أهلها ، وتبقى الأعمال قلائد في رقاب أهلها .

(1/8)


واعلم أن كل قول مكرر مملول إلا القرآن العزيز ،فإنه كلما كرر حلا وعلا واقتبس من فوائده وأنواره مالا يدخل تحت الحصر ، وكيف يمل حديثه وهو أحسن الحديث قال تعالى (الله نزل أحسن الحديث كتابا متشابها ) [ الزمر / 23] وهو أحسن القصص قال تعالى (نحن نقص عليك أحسن القصص بما أوحينا إليك هذا القرآن ) [يوسف /3] فلا شرف ولا عز إلا لأهل القرآن ؛لأنه عز لا ذل معه وغنى لا فقر يتبعه وأهله هم أهل التجارة الرابحة وهى لا تكسد عنده حتى يوفيهم أجورهم من الجنة قال تعالى (إن الذين يتلون كتاب الله وأقاموا الصلاة وأنفقوا مما رزقناهم سرا وعلانية يرجون تجارة لن تبور [فاطر /29 ] وهم أهل الله وخاصته ،وهم أشراف هذه الأمة ، وهم أهل الحلل والكرامة يوم القيامة وهم الملأ بحق ،كما قال الإمام الشاطبى عنهم : أولئك أهل الله والصفوة الملا . والصفوة: الخالص من كل شىء ،والملأ مهموز أبدل همزه ألفا للوقف ، وإنما سمى الملأ بذلك ؛ لأنهم أشراف الناس وعظماؤهم ولأنهم يملئون العين رهبة ،وكأنه يقول إن أردت ناسا بحق فهم أهل القرآن،وانظرـ أكرمك الله ـ كيف ارتقى بهم القرآن حتى سموا وعلوا فسادوا وقادوا،فهذا صنيع القرآن بأهله فكيف يكون صنيعه بمن غاص في أعماق بحار التفسير لاستخراج جواهر المعاني من صدف المباني التي أودعها الله تعالى في كتابه العزيز الذي هو منتهى الحكمة البالغة ولا يفنى ولا ينفد ولا تنقضي عجائبه ، فقد حوى من المعاني الأنيقة والحكم الرشيقة ما بهر القلوب عجبا ،وتأمل ـ أشرق الله قلبي وقلبك بأنوار اليقين وجعلني وإياك من أوليائه المتقين ـ فى قوله تعالى (ولو أن ما فى الأرض من شجرة أقلام والبحر يمده من بعده سبعة أبحر ما نفدت كلمات الله ) [لقمان /27] كيف استغنى القرآن العظيم فى الآية الكريمة عن ذكر المداد بقوله ( يمده ) فجعل البحر المحيط بمنزلة الدواة ، والأبحر السبعة مملوءة مدادا أبدا صبا لا ينقطع ،ونظيره قوله تعالى ( قل لو

(1/9)


كان البحر مدادا لكلمات ربى لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربى ولو جئنا بمثله مددا ) [الكهف /109] ثم تدبر كيف قال (من شجرة أقلام ) ولم يقل من شجر ، يتجلى لك أنه أراد تفصيل الشجر وتقصيها شجرة شجرة حتى لا يبقى من جنس الشجر شجرة إلا وقد بريت أقلاما ،ثم انظر كيف قال:( ما نفدت كلمات الله ) [جمع قلة]ولم يقل : كلم الله [جمع كثرة]يتبين لك أن جمع القلة أبلغ في المقصود ؛لأن جمع القلة إذا لم يغن بتلك الأقلام وذلك المداد ، فكيف يغنى جمع الكثرة أه [ انظر تفسير الرازى
صـ 402ـ 403 ]
ومع هذا كله نرى بعض خصوم الإسلام يحاولون الطعن في القرآن ولم تتوقف هجماتهم ضد القرآن من أول وهلة قرع أسماعهم فيها وحى الله وأنفقوا كل نفيس وعزيز للنيل من القرآن لكن نقول لهم : ما يضير الشمس أن لا يرى ضوءها الأعمى والخفافيش لا يزيدها النور والضياء إلا تخبطا وتحيرا وهؤلاء قوم طمس على قلوبهم وأعمى أبصارهم فلا قيمة لهم ولا وزن وهم من خلال تلك المطاعن يخدمون القرآن من حيث لا يشعرون فيضيفون له ـ وإن لم يشعروا ـ كمالا إلى كماله ونورا إلى نوره وبهاء إلى بهائه وذلك من خلال أجوبة العلماء المحققين الذين أذن الله لهم ومكنهم من إبراز بعض المكنون في الكتاب العزيز من لطائف وأسرار تبهر العقول وتأخذ بمجامع القلوب فيظهر ـ بحمد الله ـ علو القرآن وكماله ويتبين في المقابل نقصان الخصم وانحطاطه وانقطاع وتينه ولو تأمل القارىء لوجد أن كل ما يوجه للقرآن من مطاعن وإلى يوم القيامة ليس جديدا وقد أجاب عنه الأئمة الأعلام ولكن الخصوم جمعوا تلك الشبه ـ المزعومة ـ ورتبوها وحذفوا الأجوبة وفى كل عصرـ والحمد لله ـ لا يرجعون إلا بالخزي والعار وسبحان الله ما من آية يطعنون فيها إلا وللقرآن فيها حكم وإحكام وتبيان وإنعام .
وإذا أراد الله نشر فضيلة طويت …… أتاح لها لسان حسود
ولولا اشتعال النار فيما جاورت… ما كان يعرف طيب عرف العود

(1/10)


مع الفارق وبدون تشبيه ـ ولله المثل الأعلى ـ وبعد فإنه لما دعاني داعى المشيئة والإلهام لجمع مؤلف يحوى أكثر ما اشتملت عليه أرحام أمهات كتب التفسير من فرائد وروائع وبدائع ولطائف ورقائق جمعت أبكار الأفكار وغوامض الأسرار حقها أن تكتب بسواد العيون على صفحات الخدود ، بل إن شئت فقل : حقها أن تكتب بحروف من نور على وجنات الحور استخرت الله تعالى في ذلك فمنحنى الإجابة والتوفيق ومع ذلك فالفقير مقر بقصر باعه وقلة بضاعته وعدم أهليته ومعترف بأنه مغترف من بحر غيره وقد ضمنته ـ بفضل الله ـ أبحاثا قيمة لكثير من العلماء المحققين ذكرتها كاملة حرصا على المنفعة وتيسيرا على القارىء ولم أر بأسا في ذكرها كاملة ـ وإن طالت ـ لذا ما رمت اختصارها لأهميتها فقد يذهب اختصارها بفائدتها وجمالها ، كذلك لم أحل القارىء على مراجعها لصعوبة الحصول على بعضها ولضعف همم البعض في مواصلة البحث ، ومن يطالع كتب السادة الأوائل يجدهم أحالوا القارىء في بعض الموضوعات على كتب قد اندثرت ولم يبق منها اليوم إلا اسمها ومن أهم الأبحاث التي حواها هذا المؤلف أبحاث قيمة تتعلق بإعجاز القرآن وأخرى عن الشفاعة وعصمة الأنبياء والملائكة وأبحاث[لغوية] حسبما تقتضيه الحاجة. وأيضا فقد تعرضت لبعض الأقوال التي وضعت في كتب التفسيرـ على سبيل التلبيس والتدليس لطمس الحقائق ،وذلك من خلال ما وضع من إسرائيليات قد اغتر بها البعض لذكرها في كتب كبار المفسرين ـ رحمهم الله أجمعين ـ وبتوفيق من الله ذكرت فيها كلام المحققين من العلماء الأعلام النبلاء لبيان وهنها وضعفها ولعدم الاغترار بها ومن ذلك ـ على سبيل المثال ـ ما ورد في قصة آدم ـ عليه السلام ـ وما ورد في وصف عصا موسى ـ عليه السلام ـ وما ورد في قصة هاروت وماروت وقصص يوسف وأيوب وداود وسليمان ـ صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين ـ وأيضا فقد تضمنت كتب التفسير بعض الآراء التي قد تضر بالعقيدة ـ إن أخذنا بها ـ ذكرها

(1/11)


العلماء دون أن يقصدوا ما قد تؤدى إليه منها على سبيل المثال ما ذكره السيوطى في الدر المنثور[ج1ص110 ] حيث قال:وأخرج ابن جرير عن الضحاك قال: كل شيء في القرآن [ جعل ] فهو خلق . انتهى كلامه وهذا المعنى قد ينطبق على بعض الآيات كقوله تعالى ( وجعل الظلمات والنور ) لكن كيف ينطبق هذا المعنى على قوله تعالى (إنا جعلناه قرآنا عربيا ) [الزخرف /3 ] أي خلقناه قرآنا عربيا وهذا رأى المعتزلة ـ معاذ الله أن نقرهم أو نوافقهم على تلك الضلالة وعلى العكس من ذلك فقد يتضمن بعض التفاسير استطرادا في تفسير آية يجيب به على إشكالات طال فيها الكلام وكثر ومن ذلك ما ذكره الإمام السمرقندى فى تفسيره [بحر العلوم] فى قوله تعالى عن اليهود ( قل إن كانت لكم الدار الآخرة عند الله خاصة من دون الناس فتمنوا الموت إن كنتم صادقين ولن يتمنوه أبدا بما قدمت أيديهم ) فقال :وفى قوله (ولن يتمنوه أبدا) دليل على أن [لن] ليست للنفى على التأبيد كما يقول المعتزلة . انتهى كلامه ملخصا ومن المعلوم أن المعتزلة استدلوا على نفى رؤية المؤمنين لله تعالى في الجنة بقوله تعالى لموسى لما طلب الرؤية ( قال لن ترانى)
[ الأعراف /143] فقالوا إن [لن] للنفى على التأبيد أى فى الدنيا والآخرة وفيما ذكره السمرقندى رد عليهم لأن نفى تمنيهم الموت قاصر على الدنيا فقط بدليل قوله تعالى على لسان أهل النار ( ونادوا يا مالك ليقض علينا ربك ) [الزخرف/77]فكما أن نفى تمنيهم قاصر على الدنيا فقط فكذلك نفى الرؤية قاصر على الدنيا فقط ومن العجيب المبهر أن المعتزلة استدلوا على نفى الرؤية ب[لن] في قوله تعالى (لن تراني ) [الأعراف/143] و[لا] في قوله تعالى ( لا تدركه الأبصار )[الأنعام/103] والقرآن نفى تمنى اليهود الموت ب[لن] فى قوله تعالى ( ولن يتمنوه أبدا )[البقرة /95] و[لا] في قوله تعالى

(1/12)


( ولا يتمنونه أبدا ) [ الجمعة/7] فتأمل هذه اللطيفة ـ أسعدك الله بتقواه ومتعك في الجنة برؤياه ـ هذا وقد حاولت جاهدا ذكر كلام السادة المفسرين بعباراتهم الرشيقة كما وردت خوفا من الوقوع في الزلل ، ولم أتصرف فيها إلا في القليل النادر ، والنادر لا حكم له ، مثل حذف الأسانيد مراعاة للإيجاز وتيسيرا على القارىء ، فإنه أقرب لفهم المراد ، وكذلك لم أذكر ترجيح بعض الأقوال على بعض إلا من خلال كلام المفسرين إلا في النادر أيضا ، ولم أتعرض للحديث عن جميع آيات القرآن ، بل اخترت بعضا منها مما أذن الله فيه لبعض المفسرين بالاطلاع على بعض ما حوت من الحكم والأسرار ، وقد رجعت ـ ويعلم الله ـ في أكثر المواضع إلى ما يقرب من أربعين تفسيرا ـ مرشحة للزيادة في الأجزاء القادمة إن شاء الله وهذا فضلا عن كتب علوم القرآن وغيرها من سائر المتفرقات في مختلف الفنون ، فإن وجدت أحدا منهم انفرد بلطيفة ذكرتها ، وإن وجدتهم متفقين على المراد اكتفيت بذكرها عند أحدهم ، وفى الختام ما كان في هذا المؤلف من خير وعلم ، فالفضل فيه لله تعالى وحده ، ثم لأولئك العلماء النجباء النجوم الزواهر والقمم العوالى الذين تألق نجمهم وتلألأ نورهم ، فرضى الله عنهم أجمعين وأجزل لهم المثوبة ، وما كان من خطإ وتقصير فمن العاجز الفقير كثير الزلات ، ومن الشيطان ،فمن رأى شيئا من ذلك فليدركه بفضلة من الحلم وليصلحه من جاد مقولا ـ على حد تعبير الإمام الشاطبى ـ ولا يصلحه من رأيه ، بل يرجع إلى كتب أولئك الأعلام ، فهم أهل الذكر في هذا التخصص ، وهم المهرة في هذا السباق وما أحسن ما قيل :
وإن تجد عيبا فسد الخللا … فجل من لاعيب فيه وعلا

(1/13)


والقرآن بحر متلاطم الأمواج لا قعر له ولا ساحل ، تذهب فيه حيلة السابح قال الإمام السمرقندى فى مقدمة تفسيره [ حـ1 صـ 25] : وقد روى عن على ـ رضى الله عنه ـ أنه قال : ما من شيء إلا وعلمه في القرآن غير أن آراء الرجال تعجز عنه انتهى كلامه . والله أسأل أن يجعل هذا العمل المتواضع خالصا لوجهه الكريم ، وأن ينفع به كل المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها ، وأن يجعله لمن رام دخول جنة التفسير سراجا للمبتدئين ، وعونا للباحثين وتذكارا للعلماء المحققين ، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين .
… أبو إبراهيم
عبد الرحمن بن محمد بن عبد الحميد القماش
إمام وخطيب مسجد بورسلى ـ رأس الخيمة ـ

ذاقوا حلاوة القرآن فقالوا
قال الإمام الشاطبي ـ رحمه الله ـ في مقدمة الشاطبية :
وإن كتاب أوثق شافع

وأغني غناء واهباً متفضلاً

وخير جليس لا يمل حديثه

ووترداده يزداد فيه تجملاً

وحيث الفتي يرتاع في ظلماته

من القبر يلقاه سنا متهللاً

هنالك يهنيه مقيلاً وروضة

ومن أجله في ذروة العز يجتلي

يناشد في أرضائه لحبيبه

وأجدر به سؤلاً إليه موصلاً

فيا أيها القارئ به متمسكاً

مجلاً له في كل حال مبجلاً

هنيئاً مريئاً والداك عليهما

ملابس أنوار من التاج والحلا

فما ظنكم بالنجل عند جزائه

أولئك أهل الله والصفوة الملا

أولو البر والإحسان و الصبر والتقى

حلاهم بها جاء القرآن مفصلاً

عليك بها ماعشت فيها منافساً

وبع نفسك الدنيا بأنفاسها العلا

إلى أن قال :

أقول لحر والمروءة مرؤها

لإخوته المرآت ذو النور مكحلاً
ج

أخي أيها المجتاز نظمي ببابه

ينادي عليه كاسد السوق أجملا

وظن به خيراً وسامح نسيجه

بالإغضاء والحسني وإن كان هلهلا

وسلم لإحدى الحسنيين إصابة

والأخرى اجتهاد رام صوباً فأمحلا

وإن كان خرق فأدركه بفضله

من الحلم وليصلحه من جاد مقولا

وقل صادقاً لولا الوئام وروحه

لطاح الانام الكل في الخلق والقلا

(1/14)


وعش سالماً صدرا وعن غيبة فغب

تحضر حظار القدس أنقي مغسلاً

وهذا زمان الصبر من لك بالتي

كقبض على جمر فتنجو من البلا

ولو أن عيناً ساعدت لتوكفت

سحائبها بالدمع ديما وهطلا

ولكنها عن قسوة القلب قحطها

فيا ضيعة الاعمار تمشي سبهللا

بنفسي من استهدى إلى الله وحده

وكان له القرآن شرباً ومغسلا

وطابت عليه أرضه فتفقت

بكل عبير حتى اصبح مخضلا

فطوبى له والشوق يبعث همه

وزند الأسى يهتاج في القلب مشعلا

هو المجتبي يغدو على الناس كلهم

قريباً غريباً مستمالا مؤملا

يعد جميع الناس مولي لأنهم

على ما قضاه الله يجرون أفعلا

يري نفسه بالذم أولى لأنها

على المجد لم تلعق من الصبر والألا

وقد قيل كن كالكلب يقصيه اهله

وما يأتلي في نصحهم متبذلا

لعل إله العرش يا أخوتى يقي

جماعتنا كل المكاره هو لا

ويجعلنا ممن يكون كتابه

شفيعاً لهم إذا ما نسوه فيمحلا

وبالله حولي واعتصامى وقوتي

ومالي إلا ستره متجللا
ج

فيارب أنت الله حسبي وعدتي

عليك اعتمادي ضارعا متوكلاً(1)

وقال حجة الإسلام الإمام الغزالى ـ رحمه الله ـ فى الإحياء ما نصه :
الباب الثالث في أعمال الباطن في التلاوة وهي عشرة فهم
أصل الكلام ثم التعظيم ثم حضور القلب ثم التدبر ثم التفهم ثم التخلي عن موانع الفهم ثم التخصيص ثم التأثر ثم الترقي ثم التبري
فالأول فهم عظمة الكلام وعلوه وفضل الله سبحانه وتعالى ولطفه بخلقه في نزوله عن عرش جلاله إلى درجة إفهام خلقه
فلينظر كيف لطف بخلقه في إيصال معاني كلامه الذي هو صفة قديمة قائمة بذاته إلى أفهام خلقه ، وكيف تجلت لهم تلك الصفة في طي حروف وأصوات هي صفات البشر إذ يعجز البشر عن الوصول إلى فهم صفات الله عز وجل إلا بوسيلة صفات نفسه
__________
(1) - مقدمة الشاطبية للإمام الشاطبي

(1/15)


ولولا استتار كنه جلالة كلامه بكسوة الحروف لما ثبت لسماع الكلام عرش ولا ثرى ولتلاشى ما بينهما من عظمة سلطانه وسبحات نوره ، ولولا تثبيت الله عز وجل لموسى عليه السلام لما أطاق لسماع كلامه كما لم يطق الجبل مبادي تجليه حيث صار دكا ولا يمكن تفهيم عظمة الكلام إلا بأمثلة على حد فهم الخلق
ولهذا عبر بعض العارفين عنه فقال : إن كل حرف من كلام الله عز وجل في اللوح المحفوظ أعظم من جبل قاف وإن الملائكة ـ عليهم السلام ـ لو اجتمعت على الحرف الواحد أن يقلوه ما أطاقوه حتى يأتي إسرافيل ـ عليه السلام ـ وهو ملك اللوح فيرفعه فيقله بإذن الله ـ عز وجل ـ ورحمته لا بقوته وطاقته ولكن الله عز وجل طوقه ذلك واستعمله به ولقد تألق بعض الحكماء في التعبير عن وجه اللطف في إيصال معاني الكلام مع علو درجته إلى فهم الإنسان وتثبيته مع قصور رتبته وضرب له مثلا لم يقصر
فيه وذلك أنه دعا بعض الملوك حكيم إلى شريعة الأنبياء ـ عليهم السلام ـ فسأله الملك عن أمور فأجاب بما لا يحتمله فهمه فقال الملك أرأيت ما تأتي به الأنبياء إذا ادعت أنه ليس بكلام الناس وأنه كلام الله ـ عز وجل ـ فكيف يطيق الناس حمله ؟ فقال الحكيم : إنا رأينا الناس لما أرادوا أن يفهموا بعض الدواب والطير ما يريدون من تقديمها وتأخيرها وإقبالها وإدبارها ورأوا الدواب يقصر تمييزها عن فهم كلامهم الصادر عن أنوار عقولهم مع حسنه وتزيينه وبديع نظمه ، فنزلوا إلى درجة تمييز البهائم وأوصلوا مقاصدهم إلى بواطن البهائم بأصوات يضعونها لائقة بهم من النقر والصفير والأصوات القريبة من أصواتها لكي يطيقوا حملها ، وكذلك الناس يعجزون عن حمل كلام الله عز وجل بكنهه وكمال صفاته فصاروا بما تراجعوا بينهم من الأصوات التي سمعوا بها الحكمة كصوت النقر

(1/16)


والصفير الذى سمعت به الدواب من الناس ولم يمنع ذلك معاني الحكمة المخبوءة في تلك الصفات من أن شرف الكلام أي الأصوات لشرفها وعظم لتعظيمها ، فكان الصوت للحكمة جسدا ومسكنا ، والحكمة للصوت نفسا وروحا فكما أن أجساد البشر تكرم وتعز لمكان الروح فكذلك أصوات الكلام تشرف للحكمة التي فيها
والكلام على المنزلة رفيع الدرجة قاهر السلطان نافذ الحكم في الحق والباطل وهو القاضي العدل والشاهد المرتضى يأمر وينهى ولا طاقة للباطل أن يقوم قدام كلام الحكمة كما لا يستطيع الظل أن يقول قدام شعاع الشمس ولا طاقة للبشر أن ينفذوا غور الحكمة كما لا طاقة لهم أن ينفذوا بأبصارهم ضوء عين الشمس ولكنهم ينالون من ضوء عين الشمس ما تحيا به أبصارهم ويستدلون به على حوائجهم فقط
فالكلام كالملك المحجوب الغائب وجهه النافذ أمره ، وكالشمس الغزيرة الظاهرة مكنون عنصرها ، وكالنجوم الزهرة التي قد يهتدي بها من لا يقف على سيرها فهو مفتاح الخزائن النفيسة وشراب الحياة الذي من شرب منه لم يمت ، ودواء الأسقام الذي من سقى منه لم يسقم ، فهذا الذي ذكره الحكيم نبذة من تفهيم معنى الكلام والزيادة عليه لا تليق بعلم المعاملة فينبغي أن يقتصر عليه
الثاني التعظيم للمتكلم فالقارئ عند البداية بتلاوة القرآن ينبغي أن يحضر في قلبه عظمة المتكلم ويعلم أن ما يقرؤه ليس من كلام البشر وإن في تلاوة كلام الله ـ عز وجل ـ غاية الخطر فإنه تعالى قال [ لا يمسه إلا المطهرون ] وكما أن ظاهر جلد المصحف وورقه محروس عن ظاهر بشرة اللامس إلا إذا كان متطهرا فباطن معناه أيضا بحكم عزه وجلاله محجوب عن باطن القلب إلا إذا كان متطهرا عن كل رجس ومستنيرا بنور التعظيم والتوقير ، وكما لا يصلح لمس جلد المصحف كل يد فلا يصلح لتلاوة حروفه كل لسان ولا لنيل معانيه كل قلب ، ولمثل هذا التعظيم كان عكرمة بن أبي جهل إذا نشر المصحف غشي عليه ويقول : هو كلام ربي هو كلام ربي .

(1/17)


فتعظيم الكلام تعظيم المتكلم ولن تحضره عظمة المتكلم ما لم يتفكر في صفاته وجلاله وأفعاله فإذا حضر بباله العرش والكرسي والسموات والأرض وما بينهما من الجن والإنس والدواب والأشجار وعلم أن الخالق لجميعها والقادر عليها والرازق لها واحد وأن الكل في قبضة قدرته مترددون بين فضله ورحمته وبين نقمته وسطوته إن أنعم فبفضله وإن عاقب فبعدله وأنه الذي يقول : هؤلاء إلى الجنة ولا أبالي ، وهؤلاء إلى النار ولا أبالي وهذا غاية العظمة والتعالي فبالتفكر في أمثال هذا يحضر تعظيم المتكلم ثم تعظيم الكلام
الثالث حضور القلب وترك حديث النفس. أهـ . [ الإحياء حـ1ص180 ـ 181 ] .
وقال الحارث المحاسبى – رحمه الله – في فضائل القرآن الكريم :

(1/18)


فإن العاقل عند الله – عز وجل – بدلائل الكتاب مستبصر بحبله من كل هلكة معتصم و لربه ، بتلاوته في الخلوات مناج لأنه بمناجات نفسه مهتم ففزع إلى فهم كلام الرب – جل و عز – ليحيي به قلبه ، و ينجو به من عقابه في يوم يندم فيه الغافلون و يتحسر فيه المبطلون ، فكفي بكتاب الله – عز و جل – عن غيب الآخرة مخبراً و ببصائره للعوام موضحاً لأن من فهم عن الله – عز وجل – ذاق طعم حلاوته ، وخالط فهم لذة مناجاته ، إذا عرف من تحاوره ، فعقل عن الله – عز و جل – ما به خاطبه ، فاتخذ معاذا فسكن إلى الله – عز وجل – و أنس به من كل وحشة ، فلم يؤثر شيئاً عليه ، فكان للمتقين الماضين قبله في الدنيا خلفا و للآخرين المريدين من بعده سلفاً فتدبر القرآن أيام حياته ، فصار الله – جل و عز – به مستفيداً ، لأنه الدليل الهادي للعباد قبل نزول المحل وحادي المشتاقين إلى جوار الكريم ، فبه نطق الحكماء وبه أنس المنفردون إلى إدمان الفكر في معانيه لا يضل السالك بإتباع دلائله ، لأنه النور الذي استضاء به الموقنون ، والغاية التي يتسابق إليها المتسابقون ، والمنهج الذي لا يصل السالك إلا بإتباع دلائله ، ولا يعلم له طريق النجاة إلا من تقرب إلى الله عز و جل برعايته ، وحفظ حدوده وصبر لله – عز و جل – على أحكامه ، وهو الماحل لمن لم يكن في قلبه منه إلا حفظ حروفه ، و في جوارحه منه إلا تلاوته ، وهو القول الذي فصلت آياته ، والفرقان الذي يميز بين الحق و الأباطيل بشواهد بيناته حكمة بالغة منزلة من حكيم الحكماء ،وعليم العلماء ، انزله الله – تعالي – دواء للقلوب شافياً ، ولمن حرم حرامه وأحل حلاله عن النار عادلاً ، ولمن حذر مخاوفه من الادناس ، وأهل الخاصة من الله عز وجل الذين اشعروا فهمه قلوبهم ، وتدبروا آياته عند تلاوته بألباسهم فتزودوا لبعد سفرهم إلى معادهم ، وفهموا من شدة إجهادهم يوم القيامة ، ففزعوا وذكروا به السؤال من الله عز وجل فاستعدوا

(1/19)


للجواب عما عملوا فتابوا إلى الله – عز وجل – عن كل ذنب ، وتطهروا له من كل دنس ، وأخلصوا له النيات في أعمالهم ليجيبوه عما سلف من ذنوبهم بالتوبة وعن إرادتهم في طاعته بصدق النية ، فاستعدوا بالقرآن للعرض والسؤال منقادين له بذلتهم وخاشعين له باستكانتهم ، لأنهم وقروه لإجلال المتكلم به غير مغيبين عن تلاوته لطلب حقائق معانيه ، ولا مستهينين بحرماته فانتعشوا به من كل صرعة ، وجبر الله لهم به من كل مصيبة ، فما زال ذلك دأب العاقلين عن ربهم – عز وجل – لأنه ربيع قلوب المؤمنين ، وراحة الراجين ومستراح المحزونين ن لا ينقص نوره لدوام تلاوته ولا يدرك قدر فهمه ولا يبلغ له غاية نهاية تالية أبداً لأنه كلام الله – جل ثناؤه – الذي تعلق المتقون بعروته والملجأ الذي آوى الراهبون إلى كنف رحمته .(1)
تحدثوا عن التفسير فقالوا :
قال الإمام الراغب الأصفهاني في مقدمة تفسيره : أشرف صناعة يتعاطاها الإنسان تفسير القرآن و تأويله . وذلك أن الصناعات الحقيقية إنما تشرف بأحد ثلاثة أمور : إما بشرف موضوعاتها وهي المعمول فيها ، نحو أن يقال : الصياغة أشرف من الدباغة لأن موضوعها – وهو الذهب و الفضة – أشرف من جلد الميتة – الذي هو موضوع الدباغة .
وإما بشرف صورها ، نحو أن يقال : طبع السيوف أشرف من طبع القيود
وإما بشرف أغراضها وكمالها ، كصناعة الطب – التي غرضها إفادة الصحة – فإنها أشرف من الكناسة – التي غرضها تنظيف المستراح .
__________
(1) - فهم القرآن للمحاسبي صـ271 - 274

(1/20)


فإذا ثبت ذلك فصناعة التفسير قد حصل لها الشرف من الجهات الثلاث ، وهو أن موضوع التفسير كلام الله تعالى : الذي هو ينبوع كل حكمة معدن كل فضيلة ، وصورة فعله : إظهار خفيات ما أودعه منزله من أسراره ليدبروا آياته وليتذكر أولو الألباب ، وغرضه التمسك بالعروة الوثقى التي لا انفصام لها ، والوصول إلى السعادة الحقيقية التي لا فناء لها – ولهذا عظم الله محله بقوله : " ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيراً كثيراً " البقرة :269 قيل هو تفسير القرآن الكريم (1).
وقال ابن عطية – رحمه الله – في مقدمة تفسيره : فلما أردت أن أختار لنفسي ، وانظر في علم أعد أنواره لظلم رمسي ، وسبرتها بالتنويع والتقسيم ، وعلمت أن شرف العلم على قدر شرف المعلوم فوجدت أمتنها حبالاً ، وأرسخها جبالاً ، وأجملها آثاراً ، وأسطعها نوراً ، علم كتاب الله جلت قدرته ، وتقدست أسماؤه ، الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، تنزيل من حكيم حميد ، الذي استقل بالسنة و الفرض ، ونزل به آمين السماء إلى أمين الأرض ، هو العلم الذي جعل للشرع قواماً ، واستعمل سائر المعارف خداماً منه تأخذ مبادئها وبه تعتبر نواشئها ، فما وافقه منها نصع وما خالفه رفض ودفع فهو عنصرها النمير وسراجها الوهاج وقمرها المنير .
وأيقنت انه أعظم العلوم تقريباً إلى الله عز وجل وتخليصاً للنيات ، ونهياً عن الباطل وحضاً على الصالحات ، إذ ليس من علوم الدنيا فيختل حامله من منازلها صيداً ويمشي في التلطف لها رويداً .
ورجوت أن الله تعالي يحرم على النار فكراً عمرته أكثر عمره معانيه ولساناً مرن على آياته ومثانيه ونفساً ميزت براعة رصفه ومبانيه ، وجالت سومها في ميادينه ومغانيه فثنيت إليه عنان النظر وأقطعته جانب الفكر وجعلته فائدة العمر ، وما ونيت – علم الله – إلا عن ضرورة بحسب ما يلم في هذه الدار من شغوب ، ويمس من لغوب أو بحسب تعهد نصيب من سائر المعارف .
__________
(1) - القاسمي حـ2 – صـ239 - 240

(1/21)


فما سلكت سبيله بفضل الله ذللاً ، وبلغت فيه من اطراد الفهم أملاً ، رأيت أن نكته وفوائده تغلب قوة الحفظ وتفدح ، وتسنح لمن يروم تقييدها في فكرة وتبرح أنها قد أخذت بحفظها من الثقل ، فهي تتفصي من الصدر تفصي الإبل من العقل(1) . ا-هـ
وقال الإمام الآلوسي – رحمه الله – في تفسيره :
إن العلوم وإن تباينت أصولها ، وغربت وشرقت فصولها ، واختلفت أحوالها ، واتهمت و انجدت أقوالها ، وتنوعت أبوابها واشأمت وأرعقت أصوابها وتغايرت مسائلها وأيمنت وأيسرت وسائلها فهي بأسرها مهمة ، ومعرفتها على العلات نعمة إلا أن أعلاها قدراً وأغلاها مهراً وأسناها مبني وأسماها معنى وأدقها فكراً وأرقها سراً وأعرقها نسباً وأعرفها أبا وأقومها قيلا وأقواها قبيلا وأحلاها لساناً وأجلاها بياناً وأوضحها سبيلاً وأصحها دليلا وأفصحها نطقاً وأمنحها رفقاً العلوم الدينية والفهوم اللدنية ن فهي شمس ضحاها وبدر دجاها وخال وجنتها ولعس شفتها ودعج عيونها وغنج جفونها وحبب رضاها وتنهد كعباها ورقة كلامها ولين قوامها على نفسه فليبك من ضاع عمره وليس له منها نصيب ولا سهم فلا ينبغي لعاقل أن يستغرق النهار والليل إلا في غوص بحارها أو يستنهض الرجل والخيل إلا في سبر أغوارها أو يصرف نفائس الأنفاس إلا في مهور أبكارها أو ينفق بدر الأعمار إلا لتشوق بدر أسرارها إذا كان هذا الدمع يجري صبابة على غير مسمي فهو دمع مضيع ، و إن من ذلك علم التفسير الباحث عما أراده الله – سبحانه وتعالى – بكلامه المجيد الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد فهو الحبل المتين والعروة الوثقي والصراط المستقيم والوزر الأقوى والأوقي (2). أ هـ
وقال الإمام الفخر الرازي ـ رحمه الله ـ :
__________
(1) - المحرر الوجيز لابن عطية حـ1 – صـ34
(2) - مقدمة تفسير روح المعاني للآلوسي حـ1 – صـ2

(1/22)


ولقد اختبرت الطرق الكلامية فما رأيت فيها فائدة تساوي الفائدة التي وجدتها في القرآن الكريم العظيم ، لأنه يسعى في تسليم العظمة والجلال بالكلية لله تعالي ، ويمنع عن التعمق في إيراد المعارضة والمتناقضات ، وما ذاك إلا للعلم بأن العقول البشرية تتلاشي وتضمحل في تلك المضايف العميقة والمناهج الخفية .
ولهذا أقول كلما ثبت بالدلائل الظاهرة من وجوب وجوده و وحدته وبراءته عن الشركاء في القدم والأزلية والتدبير والفعالية ، فذلك هو الذي أقول به وألقي الله تعالي عليه وأما ما أشهي الأمر فيه إلى الدقة والغموض فكل ما ورد في القرآن و الأخبار الصحيحة المتفق عليها بين الأئمة المتبعين للمعني الواحد فهو كما هو والذي لم يكن كذلك أقول : يا إله العالمين إني أرى الخلق مطبقين على انك أكرم الاكرمين وأرحم الراحمين فلك مامر به قلمي ، أو خطر ببالي ، فأشهد علمك وأقول : إن علمت مني أني أردت تحقيق باطل أو إبطال حق ، فافعل بي ما أنا أهله و إن علمت مني أني ما سعيت إلا في تقرير ما اعتقدت أنه هو الحق و تصورت أنه القصد فلتكن رحمتك مع قصدي لا مع حاصلي ، فذاك جهد المقل ، فأنت أكرم من أن تضايق الضعيف ، والواقع في الزلة : فاغشني وارحمني واستر زلتي وامح حوبتي ، يا من لا يزيد ملكه عرفان العارفين ولا ينقص بخطأ المجرمين .
وأقول : ديني متابعة " سنة " محمد سيد المرسلين وكتابي هو القرآن الكريم العظيم ، وتعويلي في طلب الدين عليهما .
اللهم يا سامع الأصوات ويا مجيب الدعوات ، ويا مقيل العثرات ويا راحم العبرات ويا قيوم المحدثات والممكنات ، أنا كنت حسن الظن بك ، عظيم الرجاء في رحمتك ، وأنت قلت " أنا عند حسن ظن عبدي بي " وأنت قلت " أم من يجيب المضطر إذا دعاه " { النمل 62 } وأنت قلت " وإذا سألك عبادي عني فإني قريب " البقرة 186 فهب أني ما جئت بشيء فأنت الغني الكريم وأنا المحتاج اللئيم (1). 1 هـ
__________
(1) - الفخر الرازي حـ1 – صـ18

(1/23)


وقال الزركشي :
أما بعد فإن أولى ما أعملت فيه القرائح ، وعلقت به الأفكار واللواقح : الفحص عن أسرار التنزيل ، والكشف عن حقائق التأويل / الذي تقوم به المعالم ، وتثبت الدعائم . فهو العصمة الواقية ، والنعمة الباقية والحجة البالغة ، والدلالة الدامغة ،وهو شفاء الصدور ، والحكم العادل عن مشتبهات الأمور والكلام الجزل وهو الفصل الذي ليس بالهزل ، سراج لا يخبو ضياؤه ، وشهاب لا يخمد نوره وسناؤه وبحر لا يدرك غوره ، بهرت بلاغته العقول ، وظهرت فصاحته على كل مقول ، وتظاهر إيجازه وإعجازه ، وتظاهرت حقيقته ومجازه ، وتقارن في الحسن مطالعه ومقاطعه ، وحوت كل البيان جوامعه وبدائعه ، قد أحكم الحكيم صيغته مبناه ، وقسم لفظه ومعناه ، إلى ما ينشط السامع ويقرط المسامع من تجنيس أنيس وتطبيق لبيق ، وتشبيه نبيه وتقسيم وسيم ، وتفصيل أصيل ، وتبليغ بليغ ، وتصدير بالحسن جدير ، وترديد ما مزيد ، إلى غير ذلك مما أجري الصياغة البديعة ، والصناعة الرفيعة ، فالآذان بأقراطه حالية ، والأذهان من أسماطه غير خالية ، فهو من تناسب ألفاظه ، وتناسق أغراضه ، قلادة ذات اتساق ، ومن تبسم زهره ، وتنسم نشره ، حديقة مبهرة للنفوس والأسماع والأحداق ، كل كلمة منه لها من نفسها طرب ، ومن ذاتها عجب ، ومن طلعتها غرة ، ومن بهجتها درة لاحت عليه بهجة القدرة ، ونزل ممن له الأمر ، فله على كل كلام سلطان وإمرة ، بهر تمكن فواصلة ، وحسن ارتباط أواخره وأوائله ، وبديع إشاراته ، وعجيب انتقالاته ، من قصص باهرة ، إلى مواعظ زاجرة وأمثال سائرة ، ومواقع تعجب واعتبار ،ومواطن تنزيه واستغفار ، وإن كان سياق الكلام ترجيه بسط ، وإن كان تخويفاً قبض ، وإن كان وعداً أبهج ، وإن كان دعوة حدب ، وإن كان كان زجرة أرعب وإن كان موعظة أقلق وإن كان ترعيباً شوق .
هذا ، وكم فيه من مزايا و في زواياه خبايا
ويطمع الحير في التقاضي فيكشف الخبر عن قضايا

(1/24)


فسبحان من سلكه ينابيع في القلوب ، صرفه بأبدع معنى وأغرب أسلوب ، لا يستقصي معانيه فهم الخلق فلا يحيط بوصفه على الإطلاق ذو اللسان الطلق فالسعيد من صرف همته إليه ووقف فكره وعزمه عليه ، والموفق من وفقه الله لتدبيره و اصطفاه للتذكير به وتذكره فهو يرتع من رياض ، ويكرع منه في حياض .
أندي على الأكباد من قطر الندي وألذ في الاجفان من سنة الكري
يملأ القلوب بشرا و يبعث القرائح عبيراً ونشراً ، ويحيي القلوب بأوراده ولهذا سماه روحاً ، فقال : " يلقي الروح من أمره على من يشاء من عباده " { غافر : 15 }
فسماه الله روحاً ، لأنه يؤدي إلى حياة الأبد و لولا الروح لمات الجسد فجعل هذا الروح سبباً للاقتدار و علماً على الاعتبار .
يزيد على طول التأمل من بهجة كأن العيون الناظرات صياقل (1)

هكذا صنع بهم القرآن
__________
(1) - البرهان في علوم القرآن حـ1 – صـ 21 ، 22 ، 23

(1/25)


أحمد بن نصر الخزاعى الذى أبى القول بخلق القرآن وقدم نفسه فداء للقرآن ذكره الإمام أحمد بن حنبل يوما فقال : رحمه الله ما كان أسخاه بنفسه لله لقد جاد بنفسه له وقال جعفر بن محمد الصائغ بصرت عيناي وإلا فقئتا وسمعت أذناي وإلا فصمتا أحمد بن نصر الخزاعي حين ضربت عنقه يقول رأسه : لا إله إلا الله وقد سمعه بعض الناس وهو مصلوب على الجذع ورأسه يقرأ : (الم أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون ) قال فاقشعر جلدي ورآه بعضهم في النوم فقال له مافعل بك ربك فقال ما كانت إلا غفوة حتى لقيت الله عز وجل فضحك إلى ورأى بعضهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في المنام ومعه أبو بكر وعمر قد مروا على الجذع الذي عليه رأس أحمد بن نصر فلما جاوزوه أعرض رسول الله صلى الله عليه وسلم بوجهه الكريم عنه فقيل له يارسول الله مالك أعرضت عن أحمد بن نصر فقال : أعرضت عنه استحياء منه حين قتله رجل يزعم أنه من أهل بيتى . ولم يزل رأسه منصوبا من يوم الخميس الثامن والعشرين من شعبان من هذه السنة أعني سنة إحدى وثلاثين ومائتين إلى بعد عيد الفطر بيوم أو يومين من سنة سبع وثلاثين ومائتين فجمع بين رأسه وجثته ودفن بالجانب الشرقي من بغداد بالمقبرة المعروفة بالمالكية رحمه الله وذلك بأمر المتوكل على الله الذي ولى الخلافة بعد أخيه الواثق وقد دخل عبد العزيز بن يحي الكتائي صاحب كتاب الحيدة على المتوكل وكان من خيار الخلفاء لأنه أحسن الصنيع لأهل السنة بخلاف أخيه الواثق وأبيه المعتصم وعمه المأمون فإنهم أساؤا إلى أهل السنة وقربوا أهل البدع والضلال من المعتزلة وغيرهم فأمره أن ينزل جثة أحمد بن نصر ويدفنه ففعل وقد كان المتوكل يكرم الامام أحمد بن حنبل إكراما زائدا جدا كما سيأتي بيانه في موضعه والمقصود أن عبد العزيز صاحب كتاب الحيدة قال للمتوكل يا أمير المؤمنين ما رأيت أو مارئى أعجب من أمر الواثق قتل أحمد بن نصر وكان لسانه يقرأ إلى أن دفن

(1/26)


فوجل المتوكل من كلامه وساءه ما سمع في أخيه الواثق فلما دخل عليه الوزير محمد بن عبد الملك بن الزيات قال له المتوكل في قلبي شيء من قتل أحمد بن نصر فقال يا أمير المؤمنين أحرقني الله بالنار إن قتله أمير المؤمنين الواثق إلا كافرا ودخل عليه هرثمة فقال له في ذلك فقال قطعني الله إربا إربا إن قتله إلا كافرا ودخل عليه القاضي أحمد بن أبي دؤاد فقال له مثل ذلك فقال ضربني الله بالفالج إن قتله الواثق إلا كافرا قال المتوكل فأما ابن الزيات فأنا أحرقته بالنار وأما هرثمة فانه هرب فاجتاز بقبيلة خزاعة فعرفه رجل من الحي فقال يا معشر خزاعة هذا الذي قتل ابن عمكم أحمد بن نصر فقطعوه فقطعوه إربا إربا وأما ابن أبي دؤاد فقد سجنه الله في جلده يعني بالفالج ضربه الله قبل موته بأربع سنين وصودر من صلب ماله بمال جزيل جدا .أهـ البداية والنهاية ج10ص306 .

" فائدة في عدد سور القرآن وآياته وكلماته وحروفه "

قال الإمام أبو بكر أحمد بن الحسين بن مهران المقرئ عدد سور القرآن مائة وأربع عشرة سورة .
وقال بعث الحجاج بن يوسف إلى قراء البصرة فجمعهم فاختار منهم الحسن البصري و أبا العالية و نصر بن عاصم وعاصما الجحدري و مالك بن دينار رحمة الله عليهم ،
وقال : عدوا حروف القرآن ، فبقوا أربعة أشهر يعدون بالشعير فأجمعوا على أن كلماته سبع و سبعون ألف كلمة و أربعمائة و تسع و ثلاثون كلمة ، وأجمعوا على أن عدد حروفه ثلاثمائة ألف و ثلاثة و عشرون ألفا وخمسة عشر حرفاً . أ.هـ .
وقال غيره : أجمعوا على أن عدد آيات القرآن ستة ألاف آية ثم اختلفوا فيما زاد على ذلك على أقوال فمنهم من لم يزد علي ذلك و منهم من قال و مائتا أية و أربع آيات . و قيل مائتان و ست و ثلاثون آية . حكي ذلك أبو عمرو الداني في كتابه " البيان " وأما كلماته فقال الفضيل بن شاذان : عن عطاء بن يسار : سبع و سبعون ألف كلمة و أربعمائة و سبع و ثلاثون كلمة .

(1/27)


وأما حروفه فقال عبد الله بن جبير عن مجاهد : ثلاثمائة ألف حرف و أحد وعشرون ألفا و قال سلام أبو محمد الحماني : إن الحجاج جمع القراء والحفاظ والكتاب فقال : اخبروني عن القرآن كله ، كم حرف هو ؟ قال : فحسبناه ، فأجمعوا على انه ثلاثمائة ألف وأربعون ألاف وسبعمائة وأربعون حرفاً .
قال فأخبروني عن نصفه : فإذا هو إلى الفاء من قوله في الكهف : [وليتلطف{الكهف:آية:19] وثلثه الأول : عند رأس مائة من براءة والثاني على رأس مائة أو إحدى ومائة من الشعراء و الثالث إلى آخره .
وسبعه الأول من الدال في قوله " فمنهم من آمن به ومنهم من صد عنه " . { النساء : 57}
والسبع الثاني : إلى التاء من قوله في الأعراف : " حبطت أعمالهم " { الأعراف : 147 }
والثالث إلى الألف الثانية من قوله في الرعد : أكلها " { الرعد : 35 }
والرابع : إلى الألف في الحج : " جعلنا منسكاً " { الحج 34 ، 67 }
والخامس إلى الهاء من قوله في الأحزاب : " وما كان لمؤمن ولا مؤمنة " { الأحزاب : 36 }
والسادس: إلى الواو من قوله في الفتح: " الظانين بالله الظن السوء "{الفتح:6}
والسابع : إلى آخر القرآن الكريم قال سلام علمنا ذلك في أربعة أشهر .
قالوا : وكان الحجاج يقرأ في كل ليلة ربع القرآن ، فالأول إلى آخر الأنعام والثاني : " إلى و ليتلطف " " الكهف " والثالث إلى آخر المؤمن والرابع إلى آخر القرآن ، و حكي الشيخ أبو عمرو الداني في كتاب " البيان " خلافا في هذا كله (1) . أ.هـ.
واعلم أن سبب اختلاف العلماء في عدد الآي و الكلم و الحروف أن النبي " صلى الله عليه وسلم" كان يقف على رءوس الآي للتوقيف . فإذا علم محلها وصلها للتمام فيحسب السامع أنها ليست فاصلة .
وأيضا البسملة نزلت مع السورة في بعض الأحرف السبعة فمن قرأ بحرف نزلت فيه عدها و من قراها بغير ذلك لم يعدها .
__________
(1) - البرهان في علوم القرآن حـ1 – صـ 314 - 316

(1/28)


وسبب الاختلاف في الكلمة أن الكلمة لها حقيقة و مجاز ، ورسم واعتبار كل منها جائز و كل من العلماء اعتبر أحد الجوائز .
وأطول سورة في القرآن سورة البقرة و اقصرها سورة الكوثر .
وأطول آية فيه آية الدين " البقرة : 282 " مائة وثمانية وعشرون كلمة وعدد الحروف خمسمائة و أربعون حرفاً .
وأقصر آية فيه " والضحي " ثم " والفجر " كل كلمة خمسة أحرف تقديراً ثم لفظاً ستة أحرف رسماً ، لا " مدهامتان " " الرحمن : 64 " لأنها سبعة أحرف لفظاً و رسماً و ثمانية تقديراً ولا " ثم تطر " لأنها كلمتان " المدثر : 21 " خمسة أحرف رسماً وكتابة وستة أحرف تقديراً خلافاً لبعضهم .
وأطول كلمة فيه لفظاً و كتابة بلا زيادة " فأسقيناكموه " { الحجر : 22 } أحد عشر لفظاً ثم " اقترفتموها " { التوبة : 24 } عشرة وكذا " أنلزمكموها " { هود : 28 }
" والمستضعفين " { النساء : 75 } ثم ليستخلفنهم " { النور : 55 } تسعة لفظاً وعشرة تقديراً .
وأقصرها نحو باء الجر، حرف واحد، لا حرفان، خلافاً للداني فيهما(1).أ.هـ

فائدة في نزول القرآن
__________
(1) - البرهان في علوم القرآن حـ1 – صـ 318 - 319

(1/29)


فائدة : اعلم أن الله تعالى أنزل القرآن المجيد في اللوح المحفوظ جملة واحدة إلى سماء الدنيا في شهر رمضان في ليلة القدر ، ثم كان ينزله مفرقاً على لسان جبريل عليه السلام إلى النبي " صلى الله عليه وسلم " مدة رسالته نجوما عند الحاجة ، و بحدوث ما يحدث على ما يشاء الله ، و ترتيب نزول القرآن غير ترتيبه في تلاوة المصحف فأما ترتيب نزوله على رسوله " صلى الله عليه وسلم " فأول ما نزل من القرآن بمكة : " اقرأ باسم ربك الذي خلق " ثم " ن و القلم " ثم " يا أيها المزمل " ثم " المدثر " ثم تبت يدا أبي لهب وتب " ثم " إذا الشمس كورت " ثم "سبح اسم ربك الأعلى " ثم " والليل إذا يغشي " ثم " والفجر" ثم " والضحي " ثم " ألم نشرح " ثم " والعصر " ثم " والعاديات " ثم " إنا أعطيناك الكوثر " ثم " ألهاكم التكاثر " ثم " أرأيت " ثم " قل يأيها الكافرون " ثم " الفيل " ثم " قل هو الله أحد " ثم " النجم ثم عبس ثم سورة القدر ثم البروج ثم التين ثم " لإيلاف قريش " ثم " القارعة " ثم " القيامة " ثم الهمزة ثم المرسلات ثم ق ثم البلد ، ثم الطارق ، ثم " اقتربت الساعة " ثم ص ، ثم الأعراف ، ثم الجن ، ثم يس ، ثم الفرقان ، ثم فاطر ، ثم مريم ، ثم طه ، ثم الواقعة ، ثم الشعراء ، ثم النمل ، ثم القصص ، ثم بني إسرائيل ، ثم يونس ، ثم هود ، ثم يوسف ، ثم الحجر ، ثم الأنعام ، ثم الصافات ، ثم لقمان ، ثم سبأ ، ثم الزمر ، ثم المؤمن ، ثم حم السجدة ، ثم حم عسق ، ثم الزخرف ، ثم الدخان ، ثم الجاثية ، ثم الأحقاف ، ثم الذاريات ، ثم الغاشية ، ثم الكهف ، ثم النحل ثم نوح ، ثم إبراهيم ، ثم الأنبياء ، ثم المؤمنون ، ثم تنزيل السجدة ، ثم الطور، ثم الملك ، ثم الحاقة ، ثم سأل سائل ، ثم عم يتساءلون ، ثم النازعات ، ثم " إذا السماء انفطرت ، ثم " إذا السماء انشقت " ، ثم الروم ، ثم العنكبوت . و اختلفوا في آخر ما نزل بمكة فقال ابن عباس : العنكبوت وقال الضحاك

(1/30)


وعطاء : المؤمنون و قال مجاهد : ويل للمطففين . فهذا ترتيب ما نزل من القرآن بمكة فذلك ثلاثة وثمانون سورة على ما استقرت عليه روايات الثقات و أما ما نزل بالمدينة فإحدى وثلاثون سورة ، فأول ما نزل بالمدينة سورة البقرة ، ثم الأنفال ، ثم آل عمران ، ثم الأحزاب ، ثم الممتحنة ثم النساء ، ثم " إذا زلزلت الأرض " ثم الحديد ثم محمد – صلى الله عليه وسلم - ، ثم الرعد ، ثم الرحمن ، ثم هل أتى على الإنسان حين من الدهر ، ثم الطلاق ، ثم لم يكن ، ثم الحشر ، ثم الفلق ، ثم الناس ، ثم " إذا جاء نصر الله والفتح " ، ثم النور ، ثم الحج ، ثم المنافقون ، ثم المجادلة ، ثم الحجرات ، ثم التحريم ، ثم الصف ، ثم الجمعة ، ثم التغابن ، ثم الفتح ، ثم التوبة ، ثم المائدة ، ومنهم من يقدم المائدة على التوبة فهذا ترتيب ما نزل من القرآن بالمدينة (1). أ-هـ .
فائدة في تفصيل حروف القرآن
فائدة : في تفصيل حروف القرآن ذكرها الإمام النسقي في كتابه مجموع العلوم و مطلع النجوم.
الألف : ثمانية و أربعون الفاً و سبعمائة و أربعون
الباء : أحد عشر ألفاً و أربعمائة و عشرون
التاء : ألف و أربعمائة و أربعة
الثاء : عشرة آلاف و مائة و ثمانية و ثلاثون
الجيم : ثلاثة آلاف و ثلاثمائة و اثنان و عشرون
الحاء : أربعة آلاف و مائة و ثمانية و ثلاثون
الخاء : ألفان و خمسمائة و ثلاثة
الدال : خمسة آلاف و تسعمائة و ثمانية و تسعون
الذال : أربعة آلاف و تسعمائة و أربعة و ثلاثون
الراء : ألفان و مائتان و ستة
الزاي : ألف و ستمائة و ثمانون
السين : خمسة آلاف و سبعمائة و تسع و تسعون
الشين : ألفان و مائة و خمسة عشر
الصاد : ألفان و سبعمائة و ثمانون
الضاد : ألف و ثمانمائة و اثنان و ثمانون
الطاء : ألف و مائتان و أربعة
الظاء : ثمانمائة و اثنان و أربعون
العين : تسعة آلاف و أربعمائة و سبعون
__________
(1) - نفسير الخازن – حـ1 – صـ9 ، والفتوحات الإلهية حـ1 – صـ10

(1/31)


الغين : ألف و مائتان و تسعة و عشرون
الفاء : تسعة آلاف و ثمانمائة و ثلاثة عشر
القاف : ثمانية آلاف و تسعة و تسعون
الكاف : ثمانية آلاف و اثنان و عشرون
اللام : ثلاثة و ثلاثون ألفاً و تسعمائة و اثنان و عشرون
الميم : ثمانية و عشرون ألفاً و تسعمائة و اثنان و عشرون
النون : سبعة عشر ألفاً
الهاء : ستة و عشرون ألفاً و تسعمائة و خمسة و عشرون
الواو : خمسة و عشرون ألفاً و خمسمائة و ستة
لام ألف : أربعة عشر ألفاً و سبعمائة و سبعة
الياء: خمسة و عشرون الفاً و سبعمائة و سبعة عشر (1).

أسباب اختلاف المفسرين
أسباب الخلاف بين المفسرين و الوجوه التي يرجح بها أقوالهم فأما أسباب الخلاف فهي أثنى عشر :
الأول : اختلاف وجوه الإعراب وإن اتفقت القراءات .
الثاني : اختلاف القراءات .
الثالث : اختلاف اللغويين في معني الكلمة .
الرابع : اشتراك اللفظ بين معنيين وأكثر .
الخامس : احتمال الإضمار أو الاستقلال .
السادس : احتمال التقييد أو الإطلاق .
السابع : احتمال الحقيقة أو المجاز .
الثامن : احتمال العموم والخصوص .
التاسع : احتمال الكلمة زائدة .
العاشر : احتمال حمل الكلام على الترتيب وعلى التقديم والتأخير .
الحادي عشر : احتمال يكون الكلام منسوخاً أو محكماً .
الثاني عشر : اختلاف الرواية في التفسير عن النبي " صلى الله عليه وسلم " وعن السلف رضي الله عنهم .
وأما وجوه الترجيح فهي اثني عشر :
الأول : تفسير بعض القرآن ببعض فإذا دل موضع من القرآن على المراد بموضع آخر حملناه عليه و رجحنا القول بذلك على غيره من الأقوال .
الثاني : حديث النبي " صلى الله عليه وسلم " فإذا ورد عن النبي تفسير شيء من القرآن عولنا عليه – لاسيما – إن ورد في الحديث الصحيح .
الثالث : أن يكون القول قول الجمهور و أكثر المفسرين فإن كثرة القائلين بالقول يقتضي ترجيحه .
__________
(1) - الفتوحات الإلهية – حـ1 – صـ12

(1/32)


الرابع : أن يكون القول قول من يقتدي به من الصحابة كالخلفاء الأربعة .
وعبد الله بن مسعود لقول النبي " صلى الله عليه وسلم " : " اللهم فقهه في الدين و علمه التأويل " .
الخامس : أن يدل على صحة القول كلام العرب من اللغة والإعراب أو التصريف أو الاشتقاق .
السادس : أن يشهد بصحة القول سياق الكلام و يدل عليه ما قبله أو ما بعده.
السابع : أن يكون ذلك المعنى المتبادر إلى الذهن فإن ذلك دليل على ظهوره و رجحانه .
الثامن : تقديم الحقيقة على المجاز . فإن الحقيقة أولى أن يحمل عليها اللفظ عند الأصوليين .
وقد يترجح المجاز إذا كثر استعماله حتى يكون أغلب استعمالاً من الحقيقة ويسمى مجازا راجحا و الحقيقة مرجوحة . وقد اختلف العلماء أيهما يقدم فمذهب أبو حنيفة تقديم الحقيقة لأنها الأصل و مذهب أبو يوسف تقديم المجاز الراجح ، لرجحانه وقد يكون المجاز أفصح و أبرع فيكون أرجح .
التاسع : تقديم العمومي على الخصوصي : ، لأن العمومي أولى لأنه الأصل إلا أن يدل دليل على التخصيص .
العاشر : تقديم الإطلاق على التقييد : إلا أن يدل دليل على التقييد .
الحادي عشر : تقديم الاستقلال على الإضمار إلا أن يدل دليل على الإضمار.
الثاني عشر : حمل الكلام على ترتيبه : إلا أن يدل دليل على التقديم والتأخير(1) . أ-هـ .
باب التنبيه على أحاديث وضعت في فضل سور القرآن و غيره
__________
(1) - التسهيل لعلوم التنزيل - حـ1 – صـ9

(1/33)


لا التفات لما وضعه الواضعون ، و اختلقه المختلقون من الأحاديث الكاذبة ، والأخبار الباطلة في فضل سور القرآن و غير ذلك من فضائل الأعمال ، قد ارتكبها جماعة كثيرة ، اختلفت أغراضهم و مقاصدهم في ارتكابها ، فمن قوم الزنادقة مثل : المغيرة بن سعيد الكوفي ، ومحمد بن سعيد الشامي المصلوب في الزندقة وغيرهما ، وضعوا أحاديث و حدثوا بها ليوقعوا بذلك الشك في قلوب الناس ، فما رواه محمد بن سعيد عن أنس بن مالك في قوله – صلى الله عليه وسلم – أنا خاتم الأنبياء لا نبي بعدي إلا ما شاء الله " فزاد هذا الاستثناء لما كان يدعوا إليه من الإلحاد و الزندقة .
قلت وقد ذكره ابن عبد البر في كتاب " التمهيد " و لم يتكلم عليه ، بل تأول الاستثناء على الرؤيا فالله أعلم .
ومنهم قوم وضعوا الحديث لهوى يدعون الناس إليه ، قال شيخ من شيوخ الخوارج بعد أن تاب إن هذه الأحاديث دين فانظروا ممن تأخذوا دينكم ، فإنا كنا إذا هوينا أمراً صيرناه حديثاً و منهم جماعة وضعوا الحديث حسبة كما زعموا يدعون الناس إلى فضائل الأعمال ، كما روي عن أبي عصمة نوح بن أبي مريم المروزى ، و محمد بن عكاشة الكرماني ، و أحمد بن عبد الله الجويباري و غيرهم ، قيل لأبي عصمة : من أين لك عن عكرمة عن ابن عباس في فضل سور القرآن سورة سورة ؟
فقال : إنى رأيت الناس قد أعرضوا عن القرآن وانشغلوا بفقه أبي حنيفة ومغازي محمد بن إسحاق ، فوضعت هذا الحديث حسبة .
فقال أبو عمرو عثمان بن الصلاح في كتاب " علوم الحديث " له : و هكذا الحديث الطويل الذي عن أبي بن كعب عن النبي " صلى الله عليه وسلم " في فضل القرآن سورة سورة ؟

(1/34)


وقد بحث باحث عن مخرجه حتى انتهى إلى أن اعترف بأنه وجماعة وضعوه ، وأن أثر الوضع عليه لبين . وقد أخطأ الواحدي المفسر ومن ذكره من المفسرين في إيداعه تفاسيرهم و منهم قوم من السؤال و المكدين يقفون في الأسواق و المساجد فيضعوا على رسول الله " صلى الله عليه وسلم " أحاديث بأسانيد صحاح قد حفظوها فيذكرون الموضوعات بتلك الأسانيد .
قال جعفر بن محمد الطيالسي : صلى أحمد بن حنبل ويحيي بن معين في مسجد الرصافة فقال بين أيديهم قاص فقال : حدثنا أحمد بن حنبل ويحيي بن معين قالا : أنبأنا عبد الرزاق قال أنبانا معمر عن قتادة عن أنس قال قال رسول الله " صلى الله عليه وسلم " : من قال لا إله إلا الله يخلق من كل كلمة منها طائر منقاره من ذهب و ريشه مرجان وأخذ في قصة نحو من عشرين ورقة فجعل أحمد ينظر إلى يحيي و يحيي ينظر إلى احمد فقال : أأنت حدثته بهذا ؟ فقال و الله ما سمعت به إلا الساعة . قال : فسكتا جميعاً حتى فرغ من قصصه فقال له يحي : من حدثك بهذا الحديث ؟ فقال : أحمد بن حنبل ويحيي بن معين .
فقال له : أنا ابن معين و هذا أحمد بن حنبل ما سمعنا به قط في حديث لرسول الله " صلى الله عليه وسلم " فإن كان و لا بد من الكذب فعلى غيرنا . فقال له : أنت يحي بن معين . قال : نعم ، قال : لم أزل أسمع أن يحي بن معين أحمق و ما علمته إلا هذه الساعة فقال له يحيي : و كيف علمت أنى أحمق ؟ قال : كأنه ليس في الدنيا يحيي بن معين و لا أحمد بن حنبل غيركما كتبت عن سبعة عشر أحمد بن حنبل غير هذا . قال فوضع أحمد كمه على وجهه و قال : دعه يقوم ، فقام كالمستهزئ بهما .

(1/35)


فهؤلاء الطوائف كذبة على رسول الله " صلى الله عليه وسلم " ومن يجري مجراهم يذكر أن الرشيد كان يعجبه الحمام واللهو به فأهدي إليه حمام وعنده أبو البحتري القاضي فقال : روي أبو هريرة عن النبي " صلى الله عليه وسلم " أنه قال : لا سبق إلا في خف أو حافر أو جناح " فزاد : أو جناح . وهي لفظة وضعها للرشيد فأعطاه جائزة سنية ، فلما خرج قال الرشيد : والله لقد علمت انه كذاب وأمر بالحمام أن يذبح فقيل له وما ذنب الحمام ؟ قال : من أجله كذب على رسول الله " صلى الله عليه وسلم " فترك العلماء حديثه لذلك . ولغيره من موضوعاته فلا يكتب العلماء حديثه بحال .
قلت : فلو اقتصر الناس على ما ثبت في الصحاح والمسانيد وغيرهما من المصنفات التي تداولها العلماء و رواها الأئمة الفقهاء لكان لهم في ذلك غنية وخرجوا عن تحذيره " صلى الله عليه وسلم " حيث قال : " اتقوا الحديث عني إلا ما علمتم فمن كذب على متعمداً فليتبوأ مقعده من النار ؟ فتخويفه " صلى الله عليه وسلم " أمته بالنار على الكذب دليل على أنه يعلم أنه سيكذب عليه .
فحذار مما وضعه أعداء الدين و زنادقة المسلمين في باب الترغيب والترهيب وغير ذلك و أعظمهم ضرراً أقوام من المنسوبين إلى الزهد وضعوا الحديث حسبة فيما زعموا فتقبل الناس موضوعاتهم ثقة منهم بهم وركوناً إليهم فضلوا و أضلوا (1) أ.هـ.
فائدة في فهم القرآن
قال صاحب البرهان :
كتاب الله بحره عميق ، و فهمه دقيق ، لا يصل إلى فهمه إلا من تبحر في العلوم و عامل الله بتقواه في السر و العلانية و أجله عند مواقف الشبهات واللطائف و الحقائق لا يفهمها إلى من ألقى السمع و هو شهيد فالعبارات للعموم و هي السمع و الإشارات للخصوص و هي للعقل و اللطائف للأولياء وهي المشاهد و الحقائق للأنبياء و هي الاستسلام .
__________
(1) - تفسير القرطبي – حـ1 – صـ 65 ، 66

(1/36)


ولكل وصف ظاهر و باطن و حد و مطلع فالظاهر التلاوة و الباطن الفهم والحد إحكام الحلال والحرام والمطلع – أي الإشراف – من الوعد والوعيد فمن فهم هذه الملاحظة بان له بسط الموازنة و ظهر له حال المعاينة وفي صحيح ابن حبان عن ابن مسعود قال : قال رسول الله " صلى الله عليه وسلم " " أنزل القرآن على سبعة أحرف لكل آية منه ظهر و بطن " .
ثم فوائده على قدر ما يؤهل له سمعه ، فمن سمعه من التالي ففائدة فيه علم أحكامه ومن سمعه كأنما يسمعه من النبي " صلى الله عليه وسلم " يقرؤه على أمته بموعظته وتبيان معجزته وانشراح صدره بلطائف خطابه ومن سمعه كأنما سمعه من جبريل عليه السلام يقرؤه على النبي صلى الله عليه وسلم يشاهد في ذلك مطالعات الغيوب والنطق إلى ما فيه من الوعود ومن سمع الخطاب فيه من الحق فنى عنده وأمحت صفاته و صار موصوفاً بصفات التحقيق عن مشاهدة علم اليقين وعين اليقين و حق اليقين .
وقد قال أبو الدرداء رضي الله عنه : " لا يفقه الرجل حتى يجعل للقرآن وجوهاً .
وقال ابن مسعود : من أراد علم الأولين و الآخرين فليثور القرآن .
قال ابن سبع في " شفاء الصدور " :
هذا الذي قاله أبو الدرداء ، لا يحصل بمجرد تفسير الظاهر وقد قال بعض العلماء : لكل آية ستون ألف فهم وما بقى من فهمها أكثر وقال آخر : " يحوي سبعة وسبعين ألف علم ومائتي علم . إذ لكل كلمة علم ثم يتضاعف ذلك أربعة إذ لكل كلمة ظاهر وباطن و حد ومطلع .

(1/37)


وبالجملة : فالعلوم كلها داخلة في أفعال الله تعالى وصفاته وفي القرآن شرح ذاته وصفاته وأفعاله فهذه الأمور تدل على أن في فهم معاني القرآن مجالاً رحباً ومتسعاً بالغاً ، وأن المنقول من الظاهر التفسير ليس ينتهي الإدراك فيه بالنقل والسماع لا بد منه في ظاهر التفسير ليتقى به مواضع الغلط ، ثم بعد ذلك يتسع الفهم والاستنباط ، والغرائب التي لا تفهم إلا باستماع فنون كثيرة ، ولا بد من الإشارة إلى جمل منها ليستدل بها على أمثالها ويعلم أنه لا يجوز التهاون بحفظ التفسير الظاهر أولاً ولا مطمع في الوصول إلى الباطن قبل إحكام الظاهر .
ومن ادعى فهم أسرار القرآن ولم يحكم التفسير الظاهر فهو كمن ادعى البلوغ إلى صدر البيت قبل تجاوز الباب ، فظاهر التفسير يجري كمجرى تعلم اللغة التي لا بد منها للفهم وما لا بد فيها من استماع كثير لأن القرآن نزل بلغة العرب فما كان الرجوع فيه إلى لغتهم فلا بد من معرفتها أو معرفة أكثرها ، إذ الغرض مما ذكرناه التنبيه على طريق الفهم ليفتح بابه .
ويستدل المريد بتلك المعاني التي ذكرناها من فهم باطن علم القرآن وظاهره على أن فهم كلام الله تعالى لا غاية له ، كما لا نهاية للمتكلم به ، فأما الاستقصاء فلا مطمع فيه للبشر ومن لم يكن له علم وفهم و تقوى و تدبر لم يدرك من لذة القرآن شيئاً .
ومن أحاط بظاهر التفسير – وهو معنى الألفاظ في اللغة – لم يكف ذلك في فهم حقائق المعاني ، ومثاله قوله تعالى : " وما رميت إذا رميت ولكن الله رمى " { الأنفال : 17 }
فظاهر تفسيره واضح و حقيقة معناه غامضة فإنه إثبات للرمى ونفي له وهما متضادان في الظاهر ما لم يفهم انه رمى من وجه ولم يرم من وجه ، ومن الوجه الذي لم يرم ما رماه الله عز وجل .
وكذلك قال : " قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم " { التوبة : 14 }

(1/38)


فإذا كانوا هم القاتلين كيف يكون الله سبحانه هو المعذب ، وإن كان الله هو المعذب بتحريك أيديهم فما معنى أمرهم بالقتال !
فحقيقة هذا تستمد من بحر عظيم من علوم المكاشفات ، فلا بد أن يعلم وجه ارتباط الأفعال بالقدرة وتفهم وجه ارتباط القدرة بقدرة الله سبحانه وتعالى حتى تنكشف و تتضح و من هذا الوجه تفاوت الخلق في الفهم بعد الاشتراك في معرفة ظاهر التفسير (1) . أ- هـ .
باب ما جاء في فضل تفسير القرآن و أهله
قال علماؤنا – رحمة الله عليهم - : وأما ما جاء في فضل التفسير عن الصحابة و التابعين :
__________
(1) - البرهان في علوم القرآن حـ2 – صـ 170 ، 172

(1/39)


فمن ذلك : أن على بن أبي طالب – رضي الله عنه – ذكر جابر بن عبد الله ووصفه بالعلم ، فقال له رجل : جعلت فداك ! تصف جابراً بالعلم و أنت ! فقال : إنه كان يعرف تفسير قوله تعالى : " إن الذي فرض عليك القرآن لرادك إلى معاد " { القصص : 85 } وقال مجاهد : أحب الخلق إلى الله تعالي أعلمهم بما أنزل ، وقال الحسن : والله ما أنزل الله آية إلا أحب أن أعرف فيما أنزلت وما يعنى بها . وقال الشعبي : رحل مسروق إلى البصرة في تفسير آية فقيل له : إن الذي يفسرها رحل إلى الشام ، فتجهز ورحل إلى الشام حتى علم تفسيرها . وقال عكرمة في قوله عز و جل (ومن يخرج من بيته مهاجراً إلى الله و رسوله ) { النساء : 100 } طلبت اسم هذا الرجل " الذي خرج مهاجراً إلى الله ورسوله " أربعة عشر سنة حتى وجدته ، وقال ابن عبد البر : هو ضمرة بن حبيب وسيأتى . وقال ابن عباس : مكثت سنتين أريد أن أسأل عمر بن الخطاب عن المرأتين اللتين تظاهرتا على رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ما يمنعني إلا مهابته فسألته فقال : حفصة و عائشة . وقال إياس بن معاوية : مثل الذين يقرؤون القرآن وهم لا يعلمون تفسيره ، كمثل قوم جاءهم كتاب من ملكهم ليلاً ليس عندهم مصباح ، فقد أخلتهم روعته و لا يدرون ما في الكتاب ، ومثل الذي يعرف تفسيره كمثل رجل جاءهم بمصباح فقرؤوا ما في الكتاب (1) . ا هـ .
فائدة في تنزيه ساحة القرآن عن التعارض
قال الزركشي :
__________
(1) - تفسير القرطبي – حـ1 – صـ31

(1/40)


قال القاضي أبو بكر في " التقريب " : لا يجوز تعارض أي القرآن والآثار وما توجبه أدلة العقل ، فذلك لم يجعل قوله عز وجل : " الله خالق كل شيء " { الزمر : 62 } معارضاً لقوله : " وتخلقون إفكاً " { العنكبوت : 17 } وقوله : " وإذ تخلق من الطين " { المائدة : 110 } وقوله : " فتبارك الله أحسن الخالقين " { المؤمنون : 14 } لقيام الدليل العقلي أنه لا خالق غير الله تعالي ، فيتعين تأويل ما عارضه ، فيؤول قوله " وتخلقون " { العنكبوت : 17 } بمعنى تكذبون لأن الإفك نوع من الكذب وقوله : " وإذ تخلق من الطين " {المائدة : 110 } أي تصور ومن ذلك قوله : " إن الله بكل شيء عليم " { المجادلة : 7 } لا يعارض قوله " أتنبؤن الله بما لا يعلم " { يونس : 18 } فإن المراد بهذا ما لا يعلمه أنه غير كائن ويعلمونه وقوع ما ليس بواقع لا على أن من المعلومات ما هو غير عالم به وإن علمتموه .
وكذلك لا يجوز جعل قول الله تعالي : " إن الله لا يخفى عليه شيء " { آل عمران : 7 } معارضاً لقوله : " حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين " { محمد 31 } وقوله : " إلى ربها ناظرة " { القيامة : 23 } معارضاً لقوله : " لا تدركه الأبصار " { الأنعام : 31 } في تجويز الرؤيا وإحالتها لأن دليل العقل يقضي بالجواز و يجوز تخليص النفي بالدنيا و الإثبات بالقيامة .
وكذلك لا يجوز جعل قوله : " وما مسنا من لغوب " { ق : 38 } معارضاً لقوله : " وهو أهون عليه " { الروم : 37 } بل يجب تأويل " أهون " على هين .
ولا جعل قوله تعالى : " ما يجادل في آيات الله إلا الذين كفروا " { غافر : 4} معارضاً لأمر نبيه وأمته بالجدال في قوله : " وجادلهم بالتي هي أحسن " { النحل : 125 } فيحمل الأول على ذم الجدال الباطل .

(1/41)


ولا يجوز جعل قوله : " و يبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام " { الرحمن : 26 } معارضاً لقوله : " كل من عليها فان " { الرحمن : 27 } (1) ا هـ
فوائد في الاستعاذة

( فائدة 1) إنما جاء أعوذ بالمضارع دون الماضي ، لأن معنى الاستعاذة لا يتعلق إلا بالمستقبل لأنها كالدعاء وإنما جاء بهمزة المتكلم وحده مشاكلة للأمر به في قوله : " فاستعذ " .
( فائدة2) : الشيطان يحتمل أن يراد الجنس فتكون الاستعاذة من جميع الشياطين ، أو العهد فتكون الاستعاذة من إبليس . وهو من شطن إذا بعد فالنون أصلية والباء زائدة وزنه فيعال . وقيل من شاط إذا هاج فالنون زائدة والياء أصلية وزنه فعلان وإن سميت به لم ينصرف على الثاني لزيادة الألف والنون والصرف على الأول .
( فائدة 3) : الرجيم : فعيل بمعني مفعول و يحتمل معنيين أن يكون بمعني لعين وطريد وهذا يناسب إبليس لقوله " وجعلناها رجوما للشياطين " والأول أظهر .
( فائدة 4) من استعاذ بالله صادقاً أعاذه فعليك بالصدق ألا تري امرأة عمران لما أعاذت مريم و ذريتها عصمها الله ففي الحديث الصحيح أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " ما من مولود إلا نخسه الشيطان فيستهل صارخاً إلا ابن مريم و أمه " .
( فائدة 5) الشيطان عدو و حذر الله منه إذا لا مطمع في زوال علة عداوته وهو يجري من ابن آدم مجرى الدم فيأمره أولاً بالكفر ويشككه في الإيمان فإن قدر عليه وإلا أمره بالمعاصى فإن أطاعه وإلا ثبطه عن الطاعة فإن سلم من ذلك أفسدها عليه بالرياء والعجب .
( فائدة 6) القواطع عن الله أربع : الشيطان ، النفس ، الدنيا ، و الخلق فعلاج الشيطان : الاستعاذة والمخالفة ، وعلاج النفس : بالقهر ، وعلاج الدنيا : بالزهد ، وعلاج الخلق : بالانقباض والعزلة (2) . ا هـ

من لطائف الاستعاذة
__________
(1) - البرهان في علوم القرآن - حـ2 - صـ 60 ، 61
(2) - التسهيل لعلوم التنزيل - حـ1 ، صـ30

(1/42)


ذكر الإمام فخر الدين الرازي – رحمه الله – في تفسيره الكبير تسع عشرة لطيفة في الاستعاذة واخترت منها ما يلي :
إن قوله : " أعوذ بالله " اعتراف بعجز النفس وبقدرة الرب وهذا يدل على أنه لا وسيلة إلى القرب من حضرة الله إلا بالعجز والانكسار .
ومنها : الشيطان عدو الإنسان كما قال تعالي : " إن الشيطان لكم عدو فاتخذوه عدواً " { فاطر : 6 } والرحمن مولى الإنسان و خالقه ومصلح مهماته ثم إن الإنسان عند شروعه في الطاعات والعبادات خاف العدو فاجتهد في أن يتحرى مرضاة الله مالكه ليخلصه من زحمة ذلك العدو وأقبل بالكلية على خدمة الحبيب ، فالمقام الأول هو الفرار وهو قوله : " أعوذ بالله من الشيطان الرجيم } والمقام الثاني وهو الاستقرار في حضرة الملك الجبار فهو قوله : " بسم الله الرحمن الرحيم "
ومنها : قال : أرباب الإشارات : لك عدوان أحدهما ظاهر والآخر باطن وأنت مأمور بمحاربتهما قال تعالي في العدو الظاهر : " قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله و اليوم الآخر " { التوبة : 29 } وقال في العدو الباطن : " إن الشيطان لكم عدو فاتخذوه عدواً " { فاطر : 6 } فكأنه تعالى قال : إذا حاربت عدوك الظاهر كان مددك الملك { بفتح اللام } كما قال تعالى " يمددكم بخمسة آلاف من الملائكة مسومين " { آل عمران : 125 } .
وإذا حاربت عدوك الباطن كان مددك الملك { بكسر اللام } كما قال تعالي " إن عبادي ليس لك عليهم سلطان " { الحجر : 42 } وأيضاً فمحاربة العدو الباطن أولى من محاربة العدو الظاهر لأن العدو الظاهر إن وجد فرصة ففي متاع الدنيا والعدو الباطن إن وجد فرصة ففي الدين و اليقين وأيضاً العدو الظاهر إن غلبنا كنا مأجورين أما العدو الباطن إن غلبنا كنا مفتونين وأيضا من قتله العدو الظاهر كان شهيداً ومن قتله العدو الباطن كان طريداً فكان الاحتراز من العدو الباطن أولى و ذلك لا يكون إلا بأن يقول الرجل بقلبه ولسانه " أعوذ بالله من الشيطان الرجيم " .

(1/43)


ومنها إن نظرت إلى قصة أبيك فإنه أقسم بأنه له من الناصحين ثم كان عاقبة ذلك الأمر أنه سعى في إخراجه من الجنة ، وأما في حقك فإنه أقسم بأنه يضلك ويغويك فقال : " فبعزتك لأغوينهم أجمعين إلا عبادك منهم المخلصين " { ص : 82 ، 83 } فإذا كانت هذه معاملته مع أنه قد أقسم أنه من الناصحين فكيف تكون معاملته مع أنه أقسم أنه يضل و يغوي ؟ !
ومنها : لما قال العبد " أعوذ بالله من الشيطان الرجيم " دل ذلك على انه لا يرضي بأن يجاور الشيطان و إنما لم يرض بذلك لأن الشيطان عاص وعصيانه لا يضر المسلم في الحقيقة فإذا كان العبد لا يرضي بجوار العاص فبأن لا يرضي بجوار عين المعصية أولى .
ومنها : لقائل أن يقول : " لم لم يقل : أعوذ بالملائكة مع أن أدون ملك من الملائكة يكفي في دفع الشيطان . فما السبب في أن جعل ذكر هذا الكلب في مقابلة ذكر الله – تعالى - ؟ وجوابه كأنه تعالي يقول : عبدي إنه يراك وأنت لا تراه بدليل قوله تعالى : " إنه يراكم هو و قبيله من حيث لا ترونهم " { الأعراف : 27 } وإنما نفذ كيده فيكم لأنه يراكم وأنتم لا ترونه فتمسكوا بمن يري الشيطان والشيطان لا يراه وهو الله سبحانه و تعالي فقولوا " أعوذ بالله من الشيطان الرجيم "

(1/44)


ومنها : الشيطان مأخوذ من شطن إذا بعد فحكم عليه بكونه بعيداً وأما المطيع فقريب قال الله تعالي " واسجد واقترب " { العلق : 19 } والله قريب منك : " وإذا سألك عبادي عنى فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان " {البقرة : 186 } وأما الرجيم فهو المرجوم بمعني كونه مرمياً بسهم اللعن والشقاوة وأما أنت فموصول بحبل السعادة قال الله تعالي " وألزمهم كلمة التقوى " { الفتح : 26 } فدل هذا على انه جعل الشيطان بعيداً مرجوماً وجعلك قريباً موصولاً ثم انه تعالى أخبر أنه لا يجعل الشيطان الذي هو بعيد قريبا لأنه تعالي قال : " ولن تجد لسنة الله تحويلا" { فاطر : 43 } فاعرف أنه لما جعلك قريباً فإنه لا يطردك ولا يبعدك عن فضله ورحمته .
ومنها : كأنه تعالي يقول : إنه شيطان رجيم و أنا رحمن رحيم فابعد عن الشيطان الرجيم لتصل إلى الرحمن الرحيم
ومنها : الشيطان عدوك وأنت عنه غافل غائب قال تعالي : " إنه يراكم هو وقبيله من حيث لا ترونهم " { الأعراف : 27 } فعلى هذا لك عدو غائب ولك حبيب غالب لقوله : " والله غالب على أمره " { يوسف : 21 } فإذا قصدك العدو الغائب فافزع إلى الحبيب الغالب و الله سبحانه وتعالي - اعلم بمراده (1) ا هـ

"بسم الله الرحمن الرحيم"

من لطائف البسملة

الباء في " بسم الله " حرف التضمين أي بالله ظهرت الحادثات وبه وجدت المخلوقات (2) . ا هـ
فإن قيل لك لم قال " بسم الله " ولم يقل بالله ؟ الجواب على وجه التبرك بذكر اسمه عند قوم وللفرق بين هذا وبين القسم عند الآخرين ولأن الاسم هو المسمى عند العلماء ولاستصفاء القلوب من العلائق ولاستخلاص الأسرار عن العوائق عند أهل العرفان ليكون ورود قوله على قلب منقى وسر مصفى(3) . ا هـ
__________
(1) - التفسير الكبير للفحر الرازي [ حـ1 - 91 : 95 ] بتصرف يسير
(2) - لطائف الإشارات للقشيري [ حـ1 : صـ44 ]
(3) - نفس المرجع السابق .

(1/45)


فإن قلت : بم تعلقت الباء في " بسم الله " قلت بمحذوف تقديره بسم الله أقرأ أو أتلو لأن الذي يتلو التسمية مقروء كما أن المسافر إذا حل أو ارتحل فقال بسم الله والبركات كان المعني بسم الله أحل و بسم الله أرتحل (1) ا هـ
فإن قلت : لم قدرت المحذوف متأخراً (2) ؟ قلت لأن الأهم من الفعل والمتعلق به هو المتعلق به لأنهم كانوا يبدءون بأسماء آلهتهم فيقولون : باسم اللات ، باسم العزى فوجب أن يقصد الموحد معنى الاختصاص لاسم الله – عز و جل – بالابتداء و ذلك بتقديمه و تاخير الفعل كما في قوله {إياك نعبد } حيث صرح بتقديم الاسم إرادة للاختصاص و الدليل عليه قوله { بسم الله مجراها و مرساها } [هود : 41]
فإن قلت: فقد قال"اقرأ باسم ربك الذي خلق "{العلق:1} فقدم الفعل قلت: هناك تقديم الفعل أوقع لأنها أول سورة نزلت فكان الأمر بالقراءة أهم (3).اهـ
فإن قيل لم أسقط من الاسم [ الألف ]. والجواب : طلبا للخفة لكثرة استعمالها وإن قيل لم طولت الباء والجواب : قال الطيبي ليكون افتتاح كلام الله بحرف معظم و قيل لما أسقطوا الألف ردوا طول الألف على الباء ليكون دالا على سقوط الألف ألا ترى انه لما كتب الألف في اقرأ باسم ربك الذي خلق " ردت الباء إلى صيغتها ولا يحذف الألف إذا أضيف الاسم إلى غير الله ولا مع غير الباء (4) ا هـ
قال الخازن : وأثبتت الألف في قوله " فسبح باسم ربك العظيم " { الحاقة : 52 } لقلة استعماله (5) ا هـ
فإن قيل ما معنى التسمية من الله لنفسه ؟ قيل : هو تعليم العباد كيف يستفتحون القراءة ا هـ

من لطائف لفظ الجلالة
__________
(1) - الكشاف للزمخشري [ حـ1 : صـ12 ]
(2) - قال صاحب [ الانتصاف ] لأنك تبدأ بالفعل في التقدير لما كان الاسم مبتدأ به فيفوت الفرص من التبرك باسم الله تعالى أول نطقك . أهـ . [ هامش الكشاف – حـ1 : صـ13 ]
(3) الكشاف حـ1 : صـ13
(4) - تفسير البغوي حـ1 – صـ24 بتصرف يسير
(5) - تفسير البغوي – حـ1 : صـ24

(1/46)


اعلم أن هذا الاسم مختص بخواص لم توجد في سائر أسماء الله – تعالى – نحن نشير إليها : فالخاصية الأولى أنك إذا حذفت الألف من قولك " الله " بقي الباقي على صورة " لله " مختص به سبحانه كما في قوله " ولله جنود السماوات والأرض " { الفتح : 4 } " ولله خزائن السماوات والأرض " {المنافقون : 7 }
وإن حذفت عن هذه البقية اللام الأولى بقيت البقية على صورة " له " كما في قوله تعالى : " له مقاليد السماوات والأرض " { الزمر : 63 } وقوله : " له الملك وله الحمد " { التغابن : 1 } فإن حذفت اللام الباقية كانت البقية هي قولنا " هو " وهو أيضاً يدل عليه سبحانه و تعالى كما في قوله : " قل هو الله احد " { الإخلاص } و قوله : " هو الحي لا إله إلا هو " { غافر : 65 } و الواو زائدة بدليل سقوطها في التثنية والجمع فإنك تقول هما وهم فلا تبقي الواو فيهما فهذه الخاصية موجودة في لفظ " الله " غير موجودة في سائر الأسماء وكما حصلت هذه الخاصية بحسب اللفظ فقد حصلت أيضاً بحسب المعنى فإنك إذا دعوت الله بالرحمن فقد وصفته بالرحمة وما وصفته بالقهر و إذا دعوته بالعليم فقد وصفته بالعلم وما وصفته بالقدرة وأما إذا قلت يا الله فقد وصفته بجميع صفاته لأن الإله لا يكون إلها إلا إذا كان موصوفاً بجميع الصفات فثبت أن قولنا " الله " قد حصلت له هذه الخاصية التي لم تحصل لسائر الأسماء .
الخاصية الثانية : أن كلمة الشهادة و هي الكلمة التي بسببها ينتقل الكافر من الكفر إلى الإيمان " الإسلام " لم يحصل فيها إلا هذا الاسم ، فلو أن الكافر قال أشهد أن لا إله إلا الرحمن أو الرحيم أو الملك أو القدوس لم يخرج من الكفر ولم يدخل في الإسلام أما إذا قال أشهد أن لا إله إلا الله فإنه يخرج من الكفر ويدخل في الإسلام وذلك يدل على اختصاص هذا الاسم بهذه الخاصية الشريفة . والله الهادي إلى الصواب . اهـ
فائدة في أن لفظ الجلالة علم لا مشتق

(1/47)


قال الإمام الفخر – رحمه الله – المختار عندنا أن هذا اللفظ اسم علم لله – تعالي – و انه ليس بمشتق ألبتة ، و هو قول الخليل ، و سيبويه و قول أكثر الأصوليين و الفقهاء (1). ا هـ
وقال فى البحر المديد: [ لفظ الجلالة ] ليس باسمٍ مشتق من صفة، كالعالِم والحق والخالق والرازق، فالألف واللام على هذا في (الله) من نفس الكلمة، كالزاي من زيد، وذهب إلى هذا جماعة، واختاره الغزالي، وقال: كل ما قيل في اشتقاقه فهو تعسُّف ، وقيل: مشتق من التَّأَلُّهِ وهو التعبد، وقيل: من الوَلَهَان، وهو الحيرة؟ لتحيُّر العقول في شأنه. وقيل: أصله: الإلهُ، ثم حذفت الهمزة ونقلت حركتها إلى اللام، ثم وقع الإدغام وفُخمت للتعظيم، إلا إذا كان قبلها كسر.
أهـ [البحر المديد فى تفسير القرآن المجيد لابن عجيبة حـ1 صـ5]

هل يجوز إطلاق لفظ الموجود على الله ؟
لفظ الوجود يقال بالاشتراك على معنيين : أحدهما أن يراد بالوجود الوجدان والإدراك والشعور ، والثاني : أن يراد بالوجود الحصول والتحقق في نفسه وإطلاق لفظ الموجود على الله – تعالى – يكون على وجهين . أحدهما كونه تعالي معلوماً مشعوراً به و الثاني كونه في نفسه ثابتاً متحققاً أما بحسب المعني الأول فقد جاء في القرآن قال تعالى : " ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاؤك فاستغفروا الله و استغفر لهم الرسول لوجدوا الله تواباً رحيما " { النساء : 64 } و لفظ الوجود هنا بمعنى الوجدان والعرفان وأما بالمعني الثاني فهم غير موجود في القرآن(2) . اهـ .
فائدة

قال ابن عطية في تفسيره : و المكتوبة التي لفظها الله أبهر أسماء الله – تعالى – و أكثرها استعمالاً و هو المتقدم لسائرها في الأغلب و إنما تجئ الأخر أوصافاً (3) اهـ .
فائدة لغوية
__________
(1) - التفسير الكبير للفخر الرازي حـ1 – صـ113 باختصار يسير .
(2) - التفسير الكبير حـ1 صـ113
(3) - المحرر الوجيز ط1 – صـ63

(1/48)


قال الخازن : و قيل الباء حرف منخفض الصورة فلما اتصل باسم الله ارتفع واستعلى (1). اهـ
فائدة لغوية
ذكر أبو حيان الاندلسي - رحمه الله - في تفسيره ما نصه :
باء الجر تأتي لمعان :
" للإلصاق والاستعانة ، والقسم ، والسبب ، والحال ، والظرفية ، والنقل .
فالإلصاق : حقيقة " مسحت برأسي " ، ومجازاً " مررت بزيد "
والاستعانة : " ذبحت بالسكين " والسبب : " فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم " { النساء : 160 } والقسم بالله لقد قام والحال : " جاء زيد بالبصرة " والنقل " قمت بزيد " وتأتي زائدة للتأكيد : " شربت بماء البحر " .
والبدل " فليت لي بهم قوماً " أي بدلهم و المقابلة : " اشتريت الفرس بألف " والمجاورة : " ويوم تشقق السماء بالغمام " . { الفرقان : 25 } أي عن الغمام والاستعلاء " ومن أهل الكتاب من أن تامنه بقنطار يؤده إليك " { آل عمران : 75 } .
وكنى بعضهم عن الحال بالمصاحبة و زاد فيه كونها للتعليل و كنى عن الاستعانة بالسبب وعن الحال بمعنى مع بموافقة اللام.
والبدل " فليت لي بهم قوماً " أي بدلهم والمقابلة : " اشتريت الفرس بألف " والمجاورة : " ويوم تشقق السماء بالغمام " . { الفرقان : 25 } أي عن الغمام والاستعلاء " ومن أهل الكتاب من أن تامنه بقنطار يؤده إليك " { آل عمران : 75 } .
وكنى بعضهم عن الحال بالمصاحبة وزاد فيه كونها للتعليل وكنى عن الاستعانة بالسبب وعن الحال بمعنى مع بموافقة اللام (2). أهـ .
الرحمن - الرحيم
__________
(1) - الخازن ط1 - صـ12
(2) - البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي 1 - صـ25

(1/49)


قال ابن عباس : هما اسمان رقيقان أحدهما أرق من الآخر(1) وقيل هما بمعني واحد مثل ندمان ونديم ومعناهما الرحمة وإنما جمع بينهما للتأكيد وقيل ذكر أحدهما بعد الآخر تطميعاً للقلوب الراغبين إليه وقيل الرحمن فيه العموم والرحيم فيه معني الخصوص فالرحمن يعني الرازق في الدنيا وهو على العموم لكافة الخلق المؤمن والكافر والرحيم بمعني الغفور الكافي للمؤمنين في الآخرة فهو على الخصوص ولذلك قيل رحمن الدنيا ورحيم الآخرة ورحمة الله إرادة الخير والإحسان لأهله وقيل هي ترك عقوبة من يستحق العقاب وإسداء الخير و الإحسان إلى من لا يستحق فهو على الأول صفة ذات وعلى الثاني صفة فعل وقيل الرحمن يكشف الكروب والرحيم يغفر الذنوب وقيل الرحمن بتبيين الطريق والرحيم بالعصمة والتوفيق(2).اهـ .
فإن قيل : لم قدم الرحمن على الرحيم ؟ فالجواب :
قال ابن جزي " وإنما قدم الرحمن لوجهيين ، أحدهما : اختصاصه بالله وثانيهما جريانه مجري الأسماء التي ليست بصفات (3). اهـ .
وقال الإمام الفخر – رحمه الله – الرحمن أعظم (4) فلم ذكر الأدنى بعد الأعلى ؟
__________
(1) - قال الخطابي : وهذا مشكل ، لأن الرقة لا مدخل لها في شيء من صفات الله – تعالى – وقال الحنين بن الفضل البجلي : هذا وهم من الراوي ، لأن الرقة ليست من صفات الله – تعالى – في شيء ، وإنما هما اسمان رفيقان أحدهما أرفق من الآخر ، والرفق من صفات الله – عز وجل – قال النبي صلى الله عليه وسلم " إن الله رفيق يحب الرفق ويعطى على الرفق مالا يعطى على العنف . أهـ القرطبي حـ1 – صـ83 .
(2) - تفسير الخازن – حـ1 – صـ13
(3) - تفسير التسهيل لعلوم التنزيل لابن جزي – حـ1 – صـ31
(4) - أي من الرحيم ، وعادة العرب أنها ترتقي من الأدنى إلى الأعلى وقد انتقل القرآن هنا على خلاف ذلك .

(1/50)


لأن الكبير العظيم لا يطلب منه الشيء الحقير اليسير ، وحكي أن بعضهم ذهب إلى بعض الأكابر فقال : جئتك لمهم يسير فقال : أطلب للمهم اليسير رجلاً يسيراً و كأنه تعالى يقول : " لو اقتصرت على ذكر الرحمن لاحتشمت عنى و لتعذر عليك سؤال الأمور اليسيرة و لكن كما علمتني رحمانا تطلب من الأمور العظيمة (1) فأنا أيضاً رحيم فاطلب منى شراء نعلك وملح قدرك (2) . اهـ .
ومن لطائف هذين الاسمين الجليلين

ما ذكره الفخر الرازي أيضاً :
منها أنه تعالى رحمن لأنه يخلق ما لا يقدر عليه العبد ، و رحيم لأنه يفعل ما لا يقدر العبد على جنسه ، فكأنه تعالي يقول : " أنا رحمن لأنك تسلم إلى نطفة مذرة فأسلمها إليك صورة حسنة كما قال تعالى : " وصوركم فأحسن صوركم " { غافر : 64 } و انا رحيم لأنك تسلم إلى طاعة ناقصة فأسلم إليك جنة خالصة .
وهذه لطيفة أخري :
لقد اشتهر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما كسرت رباعيته قال : " اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون " فظهر يوم القيامة يقول : " أمتى . أمتى ، فهذا كرم عظيم منه في الدنيا والآخرة وإنما حصل فيه هذا الكرم وهذا الإحسان لكونه رحمة كما قال تعالى : " وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين " { الأنبياء : 107 } فإذا كان أثر الرحمة الواحدة بلغ هذا الحد المبلغ فكيف كرم من هو رحمن رحيم (3) ؟ ! اهـ .
وجه غريب
و قد ذكر الإمام القرطبي - رحمه الله - وجهاً غريباً عند الكلام عن هذين الاسمين الكريمين " الرحمن - الرحيم " قال ما نصه :
__________
(1) - ينبغي على العبد أن يطلب من الله تعالى - كل ما يحتاج إليه من صغير وكبير وعظيم وحقير وهكذا فعل الكليم - عليه السلام - فقد طلب من الله الرؤيا بقوله " رب أرني أنظر إليك " وهي أسمى المطالب وأعلاها وكذلك طلب أقل الأشياء من الطعام " قال رب إني لما أنزلت إلي من خير فقير .
(2) - التفسير الكبير - حـ1 - صـ202
(3) - التفسير الكبير - حـ1 - صـ203

(1/51)


" و قيل (1) أن معني " الرحيم " أي بالرحيم وصلتهم إلى الله وإلى الرحمن فـ الرحيم نعت محمد - صلى الله عليه وسلم - وقد نعته الله تعالي بذلك فقال : " رؤوف رحيم " { التوبة : 128 } فكأن المعني يقول بسم الله الرحمن وبالرحيم أي و بمحمد - صلى الله عليه وسلم - وصلتهم إلي أي بإتباعه وبما جاء به وصلتهم إلى ثوابي وكرامتي والنظر إلى وجهي (2) . والله اعلم (3). اهـ
من لطائف البسملة

ذكر الإمام الفخر الرازي-رحمه الله - في تفسيره الكبير أربعاً و عشرين لطيفة في البسملة اخترت منها ما يلي :
- مرض موسى عليه السلم و اشتد وجع بطنه فشكا إلى الله تعالي فدل على عشب في المغازة فأكل منه فعوفي بإذن الله تعالي ثم عاوده ذلك المرض في وقت آخر فأكل ذلك العشب فازداد مرضه فقال يا رب أكلته أولاً فانتفعت به وأكلته ثانياً فازداد مرضي فقال : لأنك في المرة الأولى ذهبت منى إلى الكلأ فحصل فيه الشفاء وفي المرة الثانية ذهبت منك إلى الكلأ فازداد المرض أما علمت أن الدنيا كلها سم قاتل وترياقها اسمى (4) .
ومنها باتت رابعة ليلة في التهجد و الصلاة فلما انفجر الصبح نامت فدخل السارق دارها و أخذ ثيابها و قصد الباب فلم يهتد إلى الباب فوضعها فوجد الباب ففعل ذلك ثلاث مرات فنودي من زاوية البيت : ضع القماش واخرج فإن نام الحبيب فالسلطان يقظان .
__________
(1) - هذا الوجه وإن كان معناه صحيحاً إلا أنه بعيد عن ظاهر القرآن الكريم ، وفيه تكلف لسنا بحاجة إليه ، والمشهور أن الرحمن الرحيم في البسملة - وصف لله تعالى كما قوله تعالى : " هو الله الذي لا إله إلا هو عالم الغيب والشهادة هو الرحمن الرحيم " . [ الحشر : 22 ] والله أعلم بالصواب .
(2) - الجامع لأحكام القرآن حـ1 - صـ84
(3) - لا يخفى ما في هذا الوجه من البعد والتكلف مع تسليمنا بصدق ما يتضمنه من معان نفيسة والله أعلم
(4) - هذا المعنى صحيح ولكنه يحتاج إلى سند صحيح

(1/52)


ومنها قوله " بسم الله " معناه أبدأ باسم الله فأسقط منه قوله " أبدأ " تخفيفاً فإذا قلت بسم الله فكأنما قلت أبدأ باسم الله والمقصود التنبيه على أن العبد من أول ما شرع في العمل كان مدار أمره على التسهيل والتخفيف والمسامحة فكأنه تعالى في أول كلمة ذكرها لك جعلها دليلاً على الصفح والإحسان .
ومنها سمي نفسه رحماناً رحيماً فكيف لا يرحم ؟
روي أن سائلاً وقف على باب رفيع فسأل شيئاً فأعطي قليلاً فجاء في اليوم التالي بفأس وأخذ يخرب الباب فقيل له : لم تفعل ؟ قال : إما أن يجعل الباب لائقاً بالعطية أو العطية لائقة بالباب .
إلهنا إن بحار الرحمة بالنسبة إلى رحمتك أقل من الذرة بالنسبة إلى العرش فكما ألقيت في أول كتابك على عبادك صفة رحمتك فلا تجعلنا محرومين عن رحمتك وفضلك .
ومنها : " الله " إشارة إلى القهر والقدرة والعلو ثم ذكر عقيبة الرحمن الرحيم وذلك يدل على أن رحمته أكثر من قهره .
ومنها كثيراً ما يتفق لبعض عبيد الملك أنهم إذا اشتروا شيئاً من الخيل والبغال والحمير وضعوا عليها سمة الملك لئلا يطمع فيها الأعداء فكأنه تعالي يقول إن لطاعتك عدواً وهو الشيطان فإذا شرعت في عمل فاجعل عليه سمتي وقل بسم الله الرحمن الرحيم حتى لا يطمع العدو فيها .
ومنها أن نوحاً عليه السلام لما ركب السفينة قال : " بسم الله مجراها ومرساها " . { هود : 41 } فوجد النجاة بنصف هذه الكلمة فمن واظب على هذه الكلمة طول عمره كيف يبقي محروماً عن النجاة ؟!
وأيضاً أن سليمان عليه السلام نال مملكة الدنيا والآخرة بقوله : " إنه من سليمان و إنه بسم الله الرحمن الرحيم " { النمل : 30 } فالمرجو أن العبد إذا قاله فاز بملك الدنيا والآخرة .

(1/53)


ومنها إن قائل لم قدم سليمان عليه السلام اسم نفسه على اسم الله تعالي في قوله : " إنه من سليمان " فالجواب من وجوه : الأول : أن بلقيس لما وجدت ذلك الكتاب موضوعاً على وسادتها ولم يكن لأحد إليها طريق ورأت الهدهد واقفاً على طرف الجدار علمت أن ذلك الكتاب من سليمان فأخذت الكتاب وقالت : " إنه من سليمان ، فلما فتحت الكتاب ورأت بسم الله الرحمن الرحيم قالت وإنه بسم الله الرحمن الرحيم فقوله : " إنه من سليمان " من كلام بلقيس لا كلام سليمان ، الثاني : " لعل سليمان كتب على عنوان الكتاب " إنه من سليمان " وفي داخل الكتاب ابتدأ بقوله " بسم الله الرحمن الرحيم " كما هو العادة في جميع الكتب فلما أخذت بلقيس ذلك الكتاب قرأت ما في عنوانه فقالت إنه من سليمان فلما فتحت الكتاب قرأت بسم الله الرحمن الرحيم فقالت : وإنه بسم الله الرحمن الرحيم ، الثالث : " أن بلقيس كانت امرأة كافرة فخاف سليمان أن تشتم الله إذا نظرت في الكتاب فقدم اسم نفسه على اسم الله تعالى ليكون الشتم له لا لله تعالي .
أما قوله " الله " فاعلموا أيها الناس أنى أقول طول حياتي الله فإذا مت أقول الله وإذا سألت في القبر أقول الله وإذا جئت يوم القيامة أقول الله وإذا أخذت الكتاب أقول الله وإذا وزنت أعمالي أقول الله وإذا أجزت الصراط أقول الله وإذا دخلت الجنة أقول الله وإذا رأيت الله أقول الله .

ومنها الحكمة في ذكر هذه الأسماء الثلاثة أن المخاطبين في القرآن ثلاثة أصناف كما قال تعال : " فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات " { فاطر : 32 }
فقال : " أنا الله للسابقين والرحمن للمقتصدين والرحيم للظالمين وأيضاً الله هو معطى العطاء و الرحمن هو المتجاوز عن زلات الأولياء والرحيم هو المتجاوز عن الجفاء .

(1/54)


ومن كمال رحمته كأنه تعالي يقول : أعلم منك ما لو علمه أبواك لفارقاك ولو علمته المرأة لجفتك ولو علمته الأمة لأقدمت على الفرار منك ولو علمه الجار لسعى في تخريب الدار و أنا أعلم كل ذلك و أستره بكرمي لتعلم أني إله كريم .
ومنها : الله يوجب ولايته قال الله تعالى : " الله ولي الذين آمنوا " { البقرة : 256 } والرحمن يوجب محبته ، قال تعالى : " إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات سيجعل لهم الرحمن وداً " { مريم : 96 } والرحيم يوجب رحمته " وكان بالمؤمنين رحيماً " { الأحزاب : 43 }
ومنها : كتب قيصر إلى عمر – رضي الله عنه – إن بي صداعاً لا يسكن فابعث لي دواء فبعث إليه عمر قلنسوة فكان إذا وضعها على رأسه يسكن الألم وإذا رفعها عن رأسه عاوده الصداع فعجب منه ففتش القلنسوة فإذا فيها كاغد مكتوب فيه : " بسم الله الرحمن الرحيم " .
ومنها طلب بعضهم آية من خالد بن الوليد فقال : إنك تدعي الإسلام فأرنا آية لنسلم فقال : ائتوني بالسم القاتل فأتى بطاس من السم فأخذها بيده وقال بسم الله الرحمن الرحيم و أكل الكل وقام سالماً بإذن الله فقال المجوس هذا دين حق .
ومنها سئلت عمرة الفرغانية – و كانت من كبار العارفات – ما الحكمة من أن الجنب و الحائض منهيان عن قراءة القرآن دون تسمية فقالت لأن التسمية ذكر اسم الحبيب و الحبيب لا يمنع من ذكر الحبيب .
ومنها : قيل في قوله " الرحيم " هو تعالى رحيم بهم في ست مواضع في القبر وحشراته والقيامة وظلماتها والميزان ودرجاته وقراءة الكتاب وفزعاته والصراط ومخافاته والنار ودركاته .
ومنها : " كتب عارف " بسم الله الرحمن الرحيم " وأوصى أن تجعل في كفنه فقيل له : أي فائدة لك فيه فقال : " أقول يوم القيامة إلهي بعثت كتاباً وجعلت عنوانه بسم الله الرحمن الرحيم فعاملني بعنوان كتابك .

(1/55)


ومنها : قيل بسم الله الرحمن الرحيم " تسعة عشر حرفاً وفيه فائدتان إحداهما : أن الزبانية تسعة عشر ، فالله تعالى يدفع بأسهم بهذه الحروف التسعة عشر(1)، والثانية : خلق الله الليل والنهار أربعة وعشرين ساعة ثم فرض خمس صلوات في خمس ساعات فهذه الحروف التسعة عشر تقع كفارات للذنوب التي تقع في هذه الساعات التسعة عشر.
* ومنها : لما كانت سورة التوبة مشتملة على الأمر بالقتال لم يكتب في أولها " بسم الله الرحمن الرحيم " وأيضا السنة أن يقال عند الذبح " باسم الله ، والله اكبر " ولا يقال " بسم الله الرحمن الرحيم " لان وقت القتال والقتل لا يليق به ذكر الرحمن الرحيم ، فلما وفقك لذكر هذه الكلمة في كل يوم سبعة عشر مرة في الصلوات المكتوبة دل ذلك على انه ما خلقك للقتل والعذاب ، وإنما خلقك للرحمة والفضل والإحسان ، والله تعالى الهادي إلى الصواب (2).

سورة " الفاتحة "

" الحمد لله " الذي له ما في السماوات " رب العالمين " بحسب كل الذوات والصفات " الرحمن الرحيم " على أصحاب الحاجات وأرباب الضرورات " مالك يوم الدين " في إيصال الأبرار إلى الدرجات ، وإدخال الفجار في الدركات .
__________
(1) - قال ابن عطية : وهذه من ملح التفسير ، وليست من متين العلم ، وهي نظير قولهم في ليلة القدر : " إنها ليلة سبع وعشرين " ، مراعاة للفظة [هي] في كلمات سورة " إنا أنزلناه " [ القدر : 1 ] ونظير قولهم في عدد الملائكة الذين ابتدروا قول القائل " ربنا ولك الحمد حمداً كثيراً طيباً مباركاً فبه " فإنها بضعة وثلاثون حرفاً ، قالوا : فتلك قال النبي صلى الله عليه وسلم : " لقد رأيت بضعة وثلاثين ملكاً يبتدرونها أيهم يكتبها أولاً " أ هـ - المحرر - الموجيز حـ1 - صـ61
(2) - الفخر الرازي حـ1 صـ 152 : 156

(1/56)


" إياك نعبد " و إياك نستعين " بالقيام في أداء جملة التكليفات " اهدنا الصراط المستقيم " بحسب كل أنواع الهدايات " صراط الذين أنعمت عليهم " في كل الحالات والمقامات " غير المغضوب عليهم ولا الضالين " من أهل الجهالات والضلالات (1). أهـ.

" أسماء سورة الفاتحة "

يقال لها : الفاتحة أي فاتحة الكتاب خطاً و بها تفتح القراءة في الصلوات ويقال لها أيضاً " أم الكتاب " عند الجمهور قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم – الحمد لله رب العالمين أم الكتاب والسبع المثاني والقرآن العظيم " (2) ويقال لها الحمد ويقال لها الصلاة لقوله – صلى الله عليه وسلم - عن ربه : " قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين – الحديث " (3) فسميت الفاتحة صلاة لأنها شرط فيها ويقال لها الشفاء لما رواه الدارمي عن أبي سعيد مرفوعا : " فاتحة الكتاب شفاء من كل سقم "(4) و يقال لها " الرقية " لحديث أبي سعيد في الصحيح حين رقي بها الرجل السليم اللديغ فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " وما يدريك أنها رقية " (5) .
ويقال لها " أساس القرآن " ويقال لها " الوافية " و " الكافية " لأنها تكفي عما عداها ولا يكفي ما سواها عنها و يقال لها "سورة الصلاة والكنز"(6).أهـ .
__________
(1) - مقدمة التفسير الكبير للإمام الفخر الرازي حـ1- صـ21
(2) - أخرجه البخاري في [ التفسير ، 4474 ، فتح ]
(3) - أخرجه مسلم في [ الصلاة ، 395 ، عبد الباقي ]
(4) - أخرجه الدارمي بلفظ شفاء من كل داء [ 3370 ] وقال الألباني " موضوع " ، ضعيف الجامع [3950]

(5) - أخرجه البخاري في [ الإجارة ، 2276 ، فتح ] ، [ مسلم في السلام ، 2201 ، عبد الباقي ]
(6) - تفسير القرآن العظيم للإمام الحافظ ابن كثير حـ1 – صـ11 ، بتصرف يسير

(1/57)


وذكر القرطبي رحمه الله أسماء أخري للفاتحة إضافة إلى هذه الأسماء منها: " أم القرآن - المثاني لأنها تثني في كل ركعة وقيل سميت بذلك لأنها استثنيت لهذه الأمة فلم تنزل على احد قبلها ذخراً لها . ومنها : " القرآن العظيم سميت بذلك لتضمنها جيع علومه والقرآن (1). أهـ .

الحمد لله رب العالمين
الحمد : هو النعت بالجميل على الجميل اختياريا كان أو مبدأ له على وجه يشعر ذلك بتوجيهه إلى المنعوت (2). أهـ
وقال شقيق بن إبراهيم في تفسيره " الحمد لله " قال هو على ثلاثة أوجه : أولها إذا أعطاك الله شيئاً تعرف من أعطاك ، والثاني أن ترضي بما أعطاك والثالث : ما دامت قوته في جسدك ألا تعصيه فهذه شرائط الحمد (3). أهـ
فمعني الحمد لله رب العالمين أي سبق الحمد مني لنفسي قبل أن يحمدني أحد من العالمين ، وحمدي نفسي لنفسي في الأزل لم يكن بعلة وحمدي الخلق مشوب بعلل وقيل حمد نفسه في الأزل لما علم من كثرة نعمه على عبادة وعجزهم عن القيام بواجب حمده فحمد نفسه عنهم ، لتكون النعمة أهنأ حيث أسقط عنهم به ثقل المنة (4). أ هـ
سئل على رضي الله عنه عن الحمد : فقال : كلمة أحبها الله - تعالى - لنفسه ورضيها لنفسه وأوجب أن تقال (5). أهـ .
معنى اللام في " الحمد لله " اللام في قوله " الحمد لله " يحتمل وجوهاً : احدها : الاختصاص اللائق وثانيها : الملك ، وثالثها : القدرة والاستيلاء فالحمد بمعني أن الحمد لا يليق إلا بالله وبمعني أن ملكه وملكه و بمعني أنه هو المستوي على الكل والمستعلي على الكل(6)
__________
(1) - تفسير القرطبي حـ1 - صـ87 - 88 ، بتصرف يسير
(2) - تفسير أبي السعود حـ1 - صـ11
(3) - القرطبي حـ1 - صـ102
(4) - تفسير القرطبي حـ1 - صـ102
(5) - ابن كثير حـ1 - صـ30
(6) - الفخر الرازي حـ1 - صـ192 ، بتصرف يسير

(1/58)


وقال الخازن اللام في " لله " لام الاستحقاق كقولك : الدار لزيد يعني أنه المستحق للحمد لأنه المحسن المتفضل على كافة الخلق على الإطلاق (1). أهـ .
قال الإمام القشيري – رحمه الله – حقيقة " الحمد " : الثناء على المحمود بذكر نعوته الجليلة ، وأفعاله الجميلة واللام هاهنا للجنس ومقتضاها الاستغراق فجميع المحامد لله سبحانه إما وصفاً وإما خلقاً له الحمد لظهور سلطانه وله الشكر لوفور إحسانه والحمد لله لاستحقاقه لجلاله والشكر لله لجزيل نواله وعزيز إفضاله " ثم قال : هذا خطيب الأولين والآخرين سيد الفصحاء وإمام البلغاء لما سمع حمده لنفسه ومدحه سبحانه وتعالي لحقه علم النبي – صلى الله عليه وسلم – أن تقاصر اللسان أليق به في هذه الحالة فقال : " لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك " (2) أ هـ .

وقال فى البحر المديد { الحمد } مبتدأ، و { الله } خبر، وأصله النصب ، وقرئ به ، والأصل : أحمد الله حمداً، وإنما عدل عنه إلى الرفع ليدل على عموم الحمد وثباته ، دون تجدده وحدوثه، وفيه تعليم اللفظ مع تعريض الاستغناء. أي: الحمد لله وإن لم تحمدوه. ولو قال (أحمد الله) لما أفاد هذا المعنى .أهـ [البحر المديد فى تفسير القرآن المجيد لابن عجيبة حـ1 صـ5]
الفرق بين الحمد والشكر والمدح

الفرق بين الحمد والمدح من وجوه :الأول: أن المدح قد يحصل للحي ولغير الحي ألا ترى أن من رأي لؤلؤة في غاية الحسن أو ياقوتة في غاية الحسن فإنه قد يمدحها ,ويستحيل أن يحمدها ,فثبت أن المدح أعم من الحمد .
__________
(1) - تفسير الخازن حـ1 – صـ15
(2) - لطائف الإشارات للتقشيري حـ1 – صـ45

(1/59)


الثاني:أن المدح قد يكون قبل الإحسان وقد يكون بعده, وأما الحمد فإنه لا يكون إلا بعد الإحسان.الثالث: أن المدح قد يكون منهيا عنه (1), وأما الحمد فإنه مأمور به مطلقا الرابع : أن المدح يختص بنوع من أنواع الفضائل ,وأما الحمد فإنه يختص بفضيلة معينة وهي فضيلة الإنعام والإحسان (2) .
وأما الفرق بين الحمد والشكر (3) فهو أن الحمد يعم ما إذا وصل ذلك الإنعام إليك أم إلى غيرك ,وأما الشكر فهو مختص بالإنعام الواصل إليك.أهـ

وقال صاحب مجمع البيان : الحمد والمدح والشكر متقاربة المعنى , والفرق بين الحمد والشكر أن الحمد نقيض الذم ,كما أن المدح نقيض الهجاء والشكر نقيض الكفران والحمد قد يكون من غير نعمة والشكر يختص بالنعمة ألا نزى أن الحمد يوضع موضع الشكر ويقال :الحمد لله شكرا فينصب شكرا على المصدر , ولو لم يكن الحمد في معنى الشكر لما نصبه فإذا كان الحمد يقع موقع الشكر فالشكر هو الاعتراف بالنعمة مع ضرب من التعظيم , ويكون بالقلب وهو الأصل ويكون أيضا باللسان وإنما يجب باللسان لنفي تهمة الجحود والكفران وأما المدح فهو القول المنبئ عن عظم حال الممدوح مع القصد إليه (4).أهـ .

فوائد ولطائف في الحمد
__________
(1) - كما قال تعالى : " فلا تزكوا أنفسكم هو أعلم بمن اتقى " [ النجم : 32 ]
(2) - التفسير الكبير حـ1 – صـ 190 : 191 ، بتصرف يسير
(3) - قال الخازن والحمد يكون بمعنى الشكر على النعمة ويكون بمعنى الثناء بجميل الفعال تقول حمدت الرجل على علمه وكرمه والشكر لا يكون إلا على النعمة فالحمد اعم من الشكر إذ لا تقول شكرت فلان على علمه فكل حامد شاكر وليس كل شاكر حامداً وقيل الحمد باللسان قولاً والشكر بالإحسان فعلاً . أ هـ الخازن – حـ1 – صـ 15
(4) - مجمع البيان للطبرسي حـ1 – صـ94

(1/60)


(الحمد لله ) له تعلق بالماضي وتعلق بالمستقبل ,أما تعلقه بالماضي فهو أن يقع شكرا على النعم المتقدمة ,وأما تعلقه بالمستقبل فهو أنه يوجب تجدد النعم في الزمان المستقبل لقوله تعالى :"لئن شكرتم لأزيدنكم "{إبراهيم :7}(1) اهـ
لطيفة :أول كلمة ذكرها أبونا آدم عليه السلام هي قوله "الحمد لله "وآخر كلمة يذكرها أهل الجنة قولنا الحمد لله أما الأول فلأنه لما بلغ الروح إلى سرته عطس فقال الحمد لله رب العالمين ,وأما الثاني فهو قوله سبحانه وتعالى "وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين "{يونس :10}ففاتحة العالم مبنية على الحمد وخاتمته مبنية على الحمد فاجتهد حتى يكون أول أعمالك وأخرها مقرونا بهذه الكلمة فإن الإنسان عالم صغير فيجب أن تكون أحواله موافقة لأحوال العالم الكبير (2).أهـ

لقائل أن يقول : التسبيح مقدم على التحميد ، لأنه يقال : سبحان الله والحمد لله فما السبب ها هنا في وقوع البداية بالتحميد ؟
الجواب : إن التحميد يدل على التسبيح دلالة التضمن ، فإن التسبيح يدل على كونه مبرأ في ذاته و صفاته عن النقائض و الآفات و التحميد يدل مع حصول تلك الصفة على كونه محسناً إلى الخلق منعما عليهم رحيما بهم فالتسبيح إشارة إلى كونه تاماً ، و التحميد يدل على كونه تعالي فوق التمام ، لهذا السبب كان الابتداء بالتحميد أولى . أهـ
فإن قيل : لم خص الحمد بالله ولم يقل الحمد للخالق ؟ أو نحوه من بقية الصفات ؟
الجواب : لئلا يتوهم الاختصاص واستحقاق الحمد بوصف دون وصف(3).أهـ
__________
(1) - التفسير الكبيرحـ1- - صـ195
(2) - التفسير الكبير حـ1- - صـ195
(3) - السراج المنير للخطيب الشربيني - حـ1 - صـ9 دار المعرفة - بيروت

(1/61)


قال الإمام الفخر - رحمه الله - : إذا قال العبد " الحمد لله " كان معناه أن كل حمد أتى به أحد من الحامدين فهو لله ، وكل حمد لم يأت به أحد من الحامدين وأمكن في حكم العقل دخوله في الوجود فهو لله ، وذلك يدخل فيه جميع المحامد التي ذكرها ملائكة العرش والكرسي . وساكنو أطباق السماوات وجميع المحامد التي ذكرها جميع الأنبياء من آدم إلى محمد - صلوات الله عليهم - وجميع المحامد التي ذكرها الأولياء والعلماء وجميع الخلق وجميع المحامد التي سيذكرونها إلى وقت قولهم : " دعواهم فيها سبحانك اللهم وتحيتهم فيها سلام وآخر دعواهم أن الحمد لله " ثم جميع هذه المحامد متناهية ، وأما المحامد التي لا نهاية لها هي التي سيأتون بها أبد الآباد ودهر الداهرين (1) أ هـ
وقال الخازن : " الحمد لله لفظة خبر بأنه سبحانه وتعالي يخبر بأنه المستحق للحمد سبحانه وتعالى ، ومعناه الأمر أي قولوا : " الحمد لله " ، وفيه تعليم للخلق كيف يحمدونه (2) . أهـ .
قال الإمام ابن القيم - رحمه الله - في طريق الهجرتين (3) :
" الملك والحمد في حقه تعالي متلازمان فكل ما شمله ملكه و قدرته شمله حمده فهو محمود في ملكه وله الملك و القدرة مع حمده ، فكما يستحيل خروج شيء من الموجودات عن ملكه وقدرته يستحيل خروجها عن حمده وحكمته ثم قال : فالحمد أوسع الصفات و أعم المدائح ، والطرق إلى العلم به في غاية الكثرة والسبيل إلى اعتباره في ذرات العالم وجزيئاته وتفاصيل الأمر والنهى واسعة جداً لأن جميع أسمائه تبارك وتعالي حمد ، وصفاته حمد ، وأفعاله حمد ، وأحكامه حمد ، وعدله حمد ، وانتقامه من أعدائه حمد ، وفضله في إحسانه إلى أوليائه حمد ، والخلق والأمر إنما قام بحمده ، ووجد بحمده وظهر بحمده وكان الغاية هي حمده " أهـ .

__________
(1) - التفسير الكبير حـ1 - صـ194
(2) - الخازن - حـ1 - صـ15
(3) - طريق الهجرتين وباب السعادتين للإمام ابن القيم صـ125 - 126 بتصرف يسير

(1/62)


طبقات الحامدين
وتتفاوت طبقات الحامدين في تباينهم في أحوالهم ، فطائفة حمدوه على ما نالوا من إنعامه وإكرامه من نوعي صفة نفعة و دفعه ، وإزاحته وإتاحته ، وما عقلوا من إحسانه بهم أكثره ما عرفوا من أفضاله معهم ، قال جل ذكره : " وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها " { إبراهيم :34} . وطائفة حمدوه على ما لاح لقلوبهم من عجائب لطائفه ، وأودع سرائرهم من مكنونات بره وكاشف أسرارهم به من خفي غيبه ، وأفرد أرواحهم به من بواده مواجده ، وقوم حمدوه عند شهود ما كاشفهم به من صفات القدم ، ولم يردوا من ملاحظة العز والكرم إلى تصفح أقسام النعم ، وتأمل خصائص القسم ، وفرق بين من يمدحه بعز جلاله و بين من يشكره على وجوب أفضاله كما قال قائلهم :
وما الفرق عن أرض العشيرة ساقنا … و لكننا جئنا بلقياك نسعد(1) أ هـ

لطيفة
قوله : " الحمد لله " ثمانية أحرف وأبواب الجنة ثمانية ، فمن قال هذه الثمانية عن صفاء قلبه استحق ثمانية أبواب الجنة (2). أهـ
فإن قيل لماذا كان التعبير بقوله : " الحمد لله " ولم يكن ب { أحمد الله } ؟
الجواب : لو قال أحمد الله أفاد ذلك كون ذلك القائل قادراً على حمده أما لما قال : " الحمد لله " فقد أفاد ذلك أنه كان محموداً قبل حمد الحامدين وقبل شكر الشاكرين فهؤلاء سواء حمدوا أو لم يحمدوا وسواء شكروا أو لم يشكروا فهو تعالي محمود منذ الأزل إلى الأبد لحمده القديم وكلامه القديم وأيضا لو قال " أحمد الله " لكان قد حمد لكن لا حمداً يليق به ، وأما إذا قال الحمد لله فكأنه قال : من أنا حتى أحمده لكنه محمود بجميع حمد الحامدين(3).أهـ
__________
(1) - لطائف الإرشادات حـ1- صـ46
(2) - التفسير الكبير - حـ1 - صـ192
(3) - التفسير الكبير - حـ1 - صـ 191 ، بتصرف يسير

(1/63)


قال ابن جزى – رحمه الله – ما نصه : الحمد أعم من الشكر لأن الشكر لا يكون إلا بجزاء النعمة والحمد يكون جزاء كالشكر ويكون ثناء ابتداءا كما أن الشكر قد يكون أعم من الحمد لأن الحمد باللسان والشكر بالقلب واللسان والجوارح . فإذا فهمت عموم الحمد علمت أن قولك " الحمد لله " يقتضي الثناء عليه لما هو من الثناء والعظمة والوحدانية والإفضاء والعلم وغير ذلك من الصفات . ما يتضمن معاني أسمائه الحسني التسعة والتسعين ويقتضي شكره والثناء عليه بكل نعمة ورحمة أولى جميع خلقه في الآخرة والأولى ، فيا لها من كلمة جمعت ما تضيق عنه المجلدات .
واتفق دون عدة عقول الخلائق ويكفيك إن الله جعلها أول كتابه وأخر دعوى أهل الجنة، الشكر باللسان هو الثناء على المنعم والتحدث بالنعم ، قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم - : " التحدث بالنعم شكر " والشكر بالجوارح هو العمل بطاعة الله و ترك معاصيه و الشكر بالقلب هو معرفة مقدار النعمة . والعلم بأنها من الله وحده ، والعلم بأنها أفضل لا باستحقاق العبد ،
واعلم أن النعم التي تجب الشكر عليها لا تحصى ، ولكنها تنحصر في ثلاثة أقسام :
نعم دنيوية : كالعافية والمال ، نعم دينية : كالعلم والتقوى . ونعم أخروية: هي جزاؤه بالثواب الكثير على العمل القليل في العمر القصير . والناس في الشكر على مقامين : منهم من يشكر على النعم الواصلة إليه خاصة ومنهم من يشكر الله عن جميع خلقه على النعم الواصلة إلي جميعهم ، والشكر على ثلاث درجات : فدرجات العوام الشكر على النعم ودرجة الخواص الشكر على النعم و النقم على كل حال ودرجة خواص الخواص أن يغيب عن النعمة بمشاهدة المنعم ، قال رجل لإبراهيم بن آدهم : الفقراء إذا منعوا شكروا وإذا أعطوا أثروا . ومن فضيلة الشكر انه من صفات الحق ومن صفات الخلق فإن من أسماء الله : الشاكر والشكور (1) . أهـ .
__________
(1) - التسهيل – حـ1 – صـ32 ، 33

(1/64)


رب العالمين
قال الخازن - رحمه الله -(1) " الرب بمعنى المالك كما يقال : رب الدار ، ورب الشيء أي مالكه ، ويكون بمعنى التربية والإصلاح يقال : رب فلان الضيعة يربها إذا أصلحها ، فالله مالك العالمين ، ومربيهم ، ومصلحهم ، ولا يقال الرب للمخلوق معرفاً بل يقال : " رب الشيء مضافاً " . أ هـ
وقال ابن عطية - رحمه الله - (2) " والرب في اللغة : المعبود ، والسيد المالك ، والقائم بالأمور المصلح لما يفسد منها - ثم قال : وهذه الاستعمالات قد تتداخل فالرب على الإطلاق الذي هو رب الأرباب على كل جهة هو الله تعالى .
و[ العالمين ] جمع عالم ، وهو كل موجود سوى الله تعالى - ولفظة العالم جمع لا واحد له من لفظه وهو مأخوذ من العلم والعلامة ، لأنه يدل على موجده كذا قال الزجاج . أ هـ
قال الزجاج : العالم كل ما سوى الله في الدنيا والآخرة (3) . أ هـ
وقال القشيري - رحمه الله - " الرب هو السيد ، والعالمون جميع المخلوقات ، واختصاص هذا الجمع بلفظ العالمين لاشتماله على العقلاء والجمادات فهو مالك الأعيان ومنشيها ، وموجد الرسوم والديار بما فيها .
ويدل اسم الرب أيضاً على تربية الخلق ، فهو مرب نفوس العابدين بالتأييد ومرب قلوب الطالبين بالتسديد ، ومرب أرواح العارفين بالتوحيد وهو مرب الأشباح بوجود النعم ، ومرب الأرواح بشهود الكرم .
ويدل اسم الرب أيضاً على إصلاحه لأمور عباده من ربيت العديم أربه ، فهو مصلح أمور الزاهدين بجميل رعايته ، ومصلح أمور العابدين بحسن كفايته ، ومصلح أمور الواجدين بقديم عنايته ، أصلح أمور قوم فاستغنوا بعطائه ، وأصلح أمور آخرين فاشتاقوا للقائه ، وثالث أصلح أمورهم فاستقاموا للقائه(4).أ هـ

__________
(1) تفسير الخازن حـ1 ص15
(2) المحرر الوجيز حـ1 ص67
(3) تفسير القرطبي حـ1 ص 105
(4) لطائف الإشارات حـ1 ص 46-47

(2/1)


فائدة
قال السعدي - رحمه الله - " وتربيته لخلقه نوعان : عامة وخاصة فالعامة هي خلقه للمخلوقين ورزقهم ، وهدايتهم لما فيه مصالحهم التي فيها بقاؤهم في الدنيا ، والخاصة : تربيته لأوليائه ، فيربيهم بالإيمان ، ويوفقهم له ، ويكملهم ، ويدفع عنهم الصوارف ، والعوائق الحائلة بينهم وبينه ، وحقيقتها : تربية التوفيق لكل خير ، والعصمة من كل شر ، ولعل هذا المعنى هو السر في كون أكثر أدعية الأنبياء بلفظ الرب ، فإن مطالبهم كلها داخلة تحت ربوبيته الخاصة (1) " .
لطيفة
فإن قيل لم جمع [ العالمين ] جمع قلة مع أن المقام يستدعي الإتيان بجمع الكثرة ؟ أجيب بأن فيه تنبيهاً على أنهم وإن كثروا قليلون في جنب عظمته وكبريائه - تعالى - (2). أ هـ
قال القاسمي - رحمه الله - و "العالمين" جمع عالم وهو : الخلق كله وكل صنف منه وإيثار صيغة الجمع لبيان شمول ربوبيته تعالى لجميع الأجناس ، والتعريف لاستغراق أفراد كل منها بأسرها (3) . أ هـ
وقال الإمام البغوي - رحمه الله - ما نصه :
__________
(1) تفسير السعدي ص33
(2) تفسير السراج المنير للخطيب الشربيني حـ1 ص9
(3) تفسير القاسمي حـ 2 ص247 ط دار الحديث - القاهرة .

(2/2)


فالله تعالى مالك العالمين ومربيهم ولا يقال للمخلوق الرب معرفاً ، إنما يقال رب كذا مضافاً لأن الألف واللام للتعميم ، وهو لا يملك الكل ، والعالمين جمع عالم والعالم جمع لا واحد له من لفظه ، واختلفوا في العالمين ، قال ابن عباس : هم الجن والإنس لأنهم مكلفون بالخطاب ، قال الله تعالى << ليكون للعالمين نذيرا >> [الفرقان :1] وقال قتادة ومجاهد والحسن : جميع المخلوقين . قال الله تعالى :<< قال فرعون وما رب العالمين ؟ قال رب السموات والأرض وما بينهما >> [الشعراء : 24،23] واشتقاقه من العلم والعلامة سمواً به لظهور أثر الصنعة فيهم . قال أبو عبيدة : أربع أمم الملائكة ، والإنس ، والجن ، والشياطين ، مشتق من العلم ولا يقال للبهائم عالم ، لأنها لا تعقل ، واختلفوا في مبلغهم . قال سعيد بن المسيب : لله ألف عالم ستمائة في البحر وأربعمائة في البر ، وقال مقاتل بن حيان : لله ثمانون ألف عالم ، ألفاً في البحر ، وأربعون ألفاً في البر ، وقال وهب : لله ثمانية عشر ألف عالم ، الدنيا عالم منها ، وما العمران في الخراب إلا كفسطاط في صحراء ، وقال كعب الأحبار (1) لا يحصى عدد العالمين أحد إلا الله ، قال << وما يعلم جنود ربك إلا هو >> [المدثر : 31] (2) . أ هـ
من اللطائف والأسرار
ما ذكره الفخر الرازي – رحمه الله – في الربوبية حيث قال :
__________
(1) هذا أرجح الأقوال – والله أعلم – لأن الأقوال السابقة تفتقر إلى سند صحيح ، وأيضاً فإنها قد تتعارض مع ظاهر قوله تعالى "وما يعلم جنود ربك إلا هو" ، وأيضاً فكل قرن أو جيل من الناس يعتبر عالماً . قال تعالى لبني إسرائيل " وأنى فضلتكم على العالمين" والمراد عالمي زمانهم فمن يحصي هذه العوالم إلا الله الذي أحاط بكل شيء علما .
(2) معالم التنزيل حـ1 ص27

(2/3)


واعلم أن تربيته تعالى مخالفة لتربية غيره ، وبيانه من وجود : الأول : ما ذكرناه أنه تعالى يربي عبيده لا لغرض نفسه وغيره يربون لغرض أنفسهم لا لغرض غيرهم ، الثاني : أن غيره إذا ربى فبقدر تلك التربية يظهر النقصان في خزائنه وفي ماله وهو متعال عن النقصان والضرر ، كما قال تعالى :"وإن من شيء إلا عندنا خزائنه وما ننزله إلا بقدر معلوم " [الحجر :21] الثالث : أن غيره من المحسنين إذا ألح الفقير عليه أبغضه وحرمه ومنعه ، والحق تعالى بخلاف ذلك ، كما قال عليه الصلاة والسلام إن الله تعالى يحب الملحين في الدعاء . الرابع : أن غيره من المحسنين ما لم يطلب منه الإحسان لم يعط ، أما الحق تعالى فإنه يعطي قبل السؤال ، ألا ترى أنه رباك حال ما كنت جنيناً في رحم الأم ، وحال ما كنت جاهلاً غير عاقل ، لا تحسن أن تسأل منه ووقاك وأحسن إليك مع أنك ما سألته وما كان لك عقل ولا هداية . الخامس : أن غيره من المحسنين ينقطع إحسانه إما بسبب الفقر أو الغيبة أو الموت ، والحق تعالى لا ينقطع إحسانه ألبتة . السادس : أن غيره من المحسنين يختص إحسانه بقوم دون قوم ولا يمكنه التعميم أما الحق تعالى فقد وصل تربيته وإحسانه إلى الكل كما قال :" ورحمتي وسعت كل شيء " [الأعراف :156] فثبت أنه تعالى رب العالمين ومحسن إلى الخلائق أجمعين ، فلهذا قال تعالى في حق نفسه الحمد لله رب العالمين .

(2/4)


أن الذي يحمد ويمدح ويعظم في الدنيا إنما يكون كذلك لأحد وجوه أربعة ، إما لكونه كاملاً في ذاته وفي صفاته منزهاً عن جميع النقائص والآفات وإن لم يكن منه إحسان إليك ، وإما لكونه محسناً إليك ومنعماً عليك ، وإما لأنك ترجو وصول إحسانه إليك في المستقبل من الزمان ، وإما لأجل أنك تكون خائفاً من قهره وقدرته وكمال سطوته ، فهذه الحالات هي الجهات الموجبة للتعظيم ، فكأنه سبحانه وتعالى يقول : إن كنتم ممن يعظمون الكمال الذاتي فاحمدوني فإني إله العالمين ، وهو المراد من قوله الحمد لله ، وإن كنتم ممن تعظمون الإحسان فأنا رب العالمين ، وإن كنتم تعظمون للطمع في المستقبل فأنا الرحمن الرحيم ، وإن كنتم تعظمون للخوف فأنا مالك يوم الدين .
أضاف الحمد إلى نفسه فقال تعالى الحمد لله ، ثم أضاف إلى العالمين والتقدير : إني أحب الحمد فنسبته إلى نفسي بكونه ملكاً لي ثم لما ذكرت نفسي عرفت نفسي بكوني رباً للعالمين ، ومن عرف ذاتاً بصفة فإنه يحاول ذكر أحسن الصفات وأكملها ، وذلك يدل على أن كونه رباً للعالمين أكمل الصفات ، والأمر كذلك ، لأن أكمل المراتب أن يكون تاماً ، وفوق التمام ، فقولنا الله يدل على كونه واجب الوجود لذاته في ذاته وبذاته وهو التمام ، وقوله رب العالمين معناه أن وجود كل ما سواه فائض عن تربيته وإحسانه وجوده وهو المراد من قولنا أنه فوق التمام .

(2/5)


أنه يملك عباداً غيرك كما قال : "وما يعلم جنود ربك إلا هو" [المدثر :31] وأنت ليس لك رب سواه ، ثم أنه يربيك كأنه ليس له عبد سواك وأنت تخدمه كأن لك رباً غيره ، فما أحسن هذه التربية أليس أنه يحفظك في النهار عن الآفات من غير عوض ، وبالليل عن المخافات من غير عوض ؟ واعلم أن الحراس يحرسون الملك كل ليلة ، فهل يحرسونه عن لدغ الحشرات وهل يحرسونه عن أن تنزل به البليات ؟ أما الحق تعالى فإنه يحرسه من الآفات ، ويصونه من المخافات ، بعد أن كان قد زج أول الليل في أنواع المحظورات وأقسام المحرمات والمنكرات ، فما أكبر هذه التربية وما أحسنها (1) . أ هـ
وقال السلمى : وقيل أيضًا : الحمد لله رب العالمين عن العالمين قبل العالمين لعلمه بعجز العالمين عن أداء حمد رب العالمين.
وقيل هذا رحمة للعالمين بإضافته إياهم إليه أنه ربهم.أهـ [حقائق التفسير للسلمى حـ 1 صـ 34 ــ ط العلمية ــ بيروت ]

وقال فى تنوير الأذهان ما نصه : {رب العالمين} لما نبه على استحقاقه الذاتى بجميع المحامد بمقابلة الحمد باسم الذات أردفه بأسماء الصفات جمعا بين الاستحقاقين وهو أى [رب العالمين] كالبرهان على استحقاقه جميع المحامد الذاتى والصفاتي والدنيوىوالأخروى. أهـ { تنوير الأذهان حـ1 صـ 9}

الرحمن الرحيم
فإن قيل : إنه تعالى ذكر الرحمن الرحيم في التسمية ثم ذكرهما مرة ثانية دون الأسماء الثلاثة الباقية ، فما الحكمة في ذلك ؟
أجيب بأن الحكمة في ذلك كأنه قال تعالى : أذكر أني إله ورب مرة واحدة وأذكر أني رحمن رحيم مرتين ليعلم أن العناية بالرحمة أكثر منه بسائر الأمور (2) . أ هـ
وقال القاسمي – رحمه الله – إيرادهما عقب وصف الربوبية من باب قرن الترغيب بالترهيب الذي هو أسلوب التنزيل الحكيم (3) . أ هـ

مالك يوم الدين
__________
(1) التفسير الكبير حـ1 ص199 :201 باختصار يسير .
(2) السراج المنير للخطيب الشربيني حـ1 ص9
(3) تفسير القاسمي حـ2 ص247

(2/6)


قراءة الجمهور بغير ألف "ملك يوم الدين" أرجح من القراءة بالألف "مالك يوم الدين" وذلك من ثلاثة أوجه :
الأول : أن الملك أعظم من المالك إذ قد يوصف كل أحد بالمالك لماله ، وأما الملك فهو سيد الناس . الثاني : قوله تعالى "وله الملك يوم ينفخ في الصور" [الأنعام : 73] . والثالث : لا تقتضي حذفاً بخلاف الأخرى فإنها تقتضيه لأن تقديرها مالك يوم الدين ، أو مالك مجيء يوم الدين - والحذف على خلاف الأصل (1) . أ هـ
قال الخازن " والمالك هو المتصرف بالأمر والنهي ، وقيل : هو القادر على اختراع الأعيان من العدم إلى الوجود ، ولا يقدر على ذلك إلا الله تعالى ، وقيل : مالك أوسع من ملك ، لأنه يقال : مالك للعبد والدابة ، ولا يقال ملك هذه الأشياء ، ولأنه لا يكون ملكاً لشيء إلا وهو يملكه ، وقد يكون مالكاً لشيء ولا يملكه ، وقيل ملك أولى ، لأن كل ملك مالك ، وليس كل مالك ملك ، وقيل هما بمعنى واحد مثل فرهين وفارهين (2) . أ هـ
فإن قيل : لم خص يوم الدين بالذكر مع كونه مالكاً للأيام كلها ؟
والجواب : لأن الأملاك يومئذ زائلة ، فلا ملك ولا أمر إلا له قال الله تعالى " الملك يومئذ الحق للرحمن " [الفرقان : 26] وقال : "لمن الملك اليوم لله الواحد القهار " [غافر :16 ] وقال: "والأمر يومئذ لله " [ الانفطار :19] (3) . أ هـ .
وقال القاسمي : وتخصيصه بالإضافة إما لتعظيمه وتهويله أو لبيان تفرده تعالى بإجراء الأمر وفصل القضاء (4) . أ هـ
وقال القرطبي : إن وصف الله سبحانه وتعالى بأنه ملك كان ذلك من صفات ذاته وإن وصف بأنه مالك كان ذلك من صفات فعله (5) . أ هـ

__________
(1) التسهيل لعلوم التنزيل لابن جزي حـ1 ص33.
(2) تفسير الخازن حـ1 ص16
(3) تفسير البخري حـ1 ص28
(4) محاسن التأويل للقاسمي حـ2 ص248
(5) تفسير القرطبي حـ1 ص107 .

(2/7)


لطيفة
إن السياسات على أربعة أقسام : سياسة الملاك ، وسياسة الملوك ، وسياسة الملائكة ، وسياسة ملك الملوك : فسياسة ملك الملوك أقوى من سياسة الملاك ، لأنه لو اجتمع عالم من المالكين فإنهم لا يقاومون ملكاً واحداً ، ألا ترى أن السيد لا يملك إقامة الحد على مملوكه عند أبي حنيفة وأجمعوا على أن الملك يملك إقامة الحدود على الناس ، وأما سياسة الملائكة فهي فوق سياسات الملوك ، لأن عالماً من أكابر الملوك لا يمكنهم دفع سياسة ملك واحد ، وأما سياسة ملك الملوك فإنها فوق سياسات الملائكة ، ألا ترى إلى قوله تعالى :" يوم يقوم الروح والملائكة صفاً لا يتكلمون إلا من أذن له الرحمن وقال صوابا" [النبأ :38] وقوله تعالى :" من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه" [البقرة :255] وقال في صفة الملائكة :" ولا يشفعون إلا لمن ارتضى " [الأنبياء :28] فيا أيها الملوك لا تغتروا بما لكم من المال والملك فإنكم أسراء في قبضة قدرة مالك يوم الدين ويا أيها الرعية إذا كنتم تخافون سياسة الملك أفما تخافون سياسة ملك الملوك الذي هو مالك يوم الدين .
من أحكام كونه تعالى ملكاً أنه ملك لا يشبه سائر الملوك لأنهم إن تصدقوا بشيء انتقص ملكهم ، وقلت خزائنهم ، أما الحق سبحانه وتعالى فملكه لا ينقص بالعطاء والإحسان ، بل يزداد ، بيانه أنه تعالى إذا أعطاك ولداً واحداً لم يتوجه حكمه إلا على ذلك الولد الواحد ، أما لو أعطاك عشرة من الأولاد وكان حكمه وتكليفه لازماً على الكل ، فثبت أنه تعالى كلما كان أكثر عطاء كان أوسع ملكاً .

(2/8)


من أحكام كونه ملكاً كمال الرحمة ، والدليل عليه آيات : إحداها : ما ذكر في هذه السورة من كونه رباً رحماناً رحيماً : وثانيها : قوله تعالى :"هو الله الذي لا إله إلا هو عالم الغيب والشهادة هو الرحمن الرحيم " ثم قال بعده :"هو الله الذي لا إله إلا هو الملك " [الحشر :23،22] ثم ذكر بعده كونه قدوساً عن الظلم والجور ، ثم ذكر بعده كونه سلاماً ، وهو الذي سلم عباده من ظلمه وجوره ، ثم ذكر بعده كونه مؤمناً ، وهو الذي يؤمن عبيده عن جوره وظلمه ، فثبت أن كونه ملكاً لا يتم إلا مع كمال الرحمة . وثالثها : قوله تعالى :"الملك يومئذ الحق للرحمن " [الفرقان :26] لما أثبت لنفسه الملك أردفه بأن وصف نفسه بكونه رحماناً ، يعني إن كان ثبوت الملك له في ذلك اليوم يدل على كمال القهر ، فكونه رحماناً يدل على زوال الخوف وحصول الرحمة .
أنه لما وصف نفسه بكونه ملكاً ليوم الدين أظهر للعالمين كمال عدله فقال "وما ربك بظلام للعبيد " [فصلت :46] ثم بين كيفية العدل فقال :"ونضع الموازين القسط ليوم القيامة فلا تظلم نفس شيئاً" [الأنبياء :47] فظهر بهذا أن كونه ملكاً حقاً ليوم الدين إنما يظهر بسبب العدل ، فإن كان الملك المجازي عادلاً كان ملكاً حقاً وإلا كان ملكاً باطلاً ، فإن كان ملكاً عادلاً حقاً حصل من بركة عدله الخير والراحة في العالم وإن كان ملكاً ظالماً ارتفع الخير من العالم .
قراءة المالك أرجى من قراءة الملك ، لأن أقصى ما يرجى من الملك العدل والإنصاف وأن ينجو الإنسان منه رأساً برأس ، أما المالك فالعبد يطلب منه الكسوة والطعام والرحمة والتربية فكأنه تعالى يقول : أنا مالككم فعلي طعامكم وثيابكم وثوابكم وجنتكم .

(2/9)


الملك وإن كان أغنى من المالك غير أن الملك يطمع فيك والمالك أنت تطمع فيه ، وليست لنا طاعات ولا خيرات فلا يريد أن يطلب منا يوم القيامة أنواع الخيرات والطاعات ، بل يريد أن نطلب منه يوم القيامة الصفح والمغفرة وإعطاء الجنة بمجرد الفضل ، فلهذا السبب قال الكسائي : اقرأ مالك يوم الدين لأن هذه القراءة هي الدالة على الفضل الكثير والرحمة الواسعة .
أن الملك إذا عرض عليه العسكر لم يقبل إلا من كان قوي البدن صحيح المزاج ، أما من كان مريضاً فإنه يرده ولا يعطيه شيئاً من الواجب ، أما المالك إذا كان له عبد فإن مرض عالجه وإن ضعف أعانه وإن وقع في بلاء خلصه ، فالقراءة بلفظ المالك أوفق للمذنبين والمساكين
الملك له هيبة وسياسة ، والمالك له رأفة ورحمة ، واحتياجنا إلى الرأفة والرحمة أشد من احتياجنا إلى الهيبة والسياسة .
أنه تعالى ذكر في هذه السورة من أسماء نفسه خمسة : الله ، والرب ، والرحمن ، والرحيم ، والمالك . والسبب فيه كأنه يقول خلقتك أولاً فأنا إله . ثم ربيتك بوجوه النعم فأنا رب ، ثم عصيت فسترت عليك فأنا رحمن ، ثم تبت فغفرت لك فأنا رحيم ، ثم لا بد من إيصال الجزاء إليك فأنا مالك يوم الدين (1) . أ هـ

إياك نعبد وإياك نستعين
قال الواحدى :
[ نعبد ] من العبادة وهى الطاعة مع الخضوع ، ولا يستحقها إلا الله عز وجل ، وسمى العبد عبدا لذلته وانقياده لمولاه ، وطريق معبد إذا كان مذللا بالأقدام .أهـ [الوسيط للواحدى النيسابورى حـ1 صـ68] .
قال القشيري (2) – رحمه الله – معناه نعبدك ونستعين بك ، والابتداء بذكر المعبود أتم من الابتداء بذكر صفته – التي هي عبادته واستعانته - وهذه الصيغة أجزل في اللفظ ، وأعذب في السمع .
والعبادة : الإتيان بغاية ما في بابها من الخضوع ، ويكون ذلك بموافقة الأمر ، والوقوف حيثما وقف الشرع .
__________
(1) التفسير الكبير حـ1 ص205 : 208 بتصرف يسير
(2) لطائف الإشارات حـ1 ص48-49

(2/10)


والاستعانة : طلب الإعانة من الحق .
والعبادة تشير إلى بذل الجهد والمنة ، والاستعانة تخبر عن استجلاب الطول والمنة .
فبالعبادة يظهر شرف العبد ، وبالاستعانة يحصل اللطف للعبد .
في العبادة وجود شرفه ، وبالاستعانة أمان تلفه ، والعبادة ظاهرها تذلل وحقيقتها تعزز وتحمل :
…وإذا تذللت الرقاب تقرباً………منا إليك فعزها في ذلها
وفي معناه :
…حين أسلمتني لذال ولام………ألقيتني في عين وزاي. أهـ
وقال البغوي (1) – رحمه الله - : [نعبد] أي نوحدك ونطيعك خاضعين ، والعبادة : الطاعة مع التذلل والخضوع ، وسمي العبد عبداً لذلته وانقياده يقال : طريق معبد أي مذلل .
قوله تعالى :[وإياك نستعين] . نطلب منك المعونة على عبادتك ، وعلى جميع أمورنا . أ هـ
وقال ابن عطية (1)- رحمه الله – [إياك نعبد] نطق بالمؤمن به إقرار بالربوبية وتذلل وتحقيق لعبادة الله ، إذ سائر الناس يعبدون سواء من أصنام وغير ذلك وقدم المفعول على الفعل اهتماما وشأن العرب تقديم الأهم .
ويذكر أن إعرابياً سب آخر فأعرض المسبوب عنه ، فقال له الساب : إياك أعني ، فقال الآخر : وعنك أعرض ، فقدما الأهم . أ هـ
وأضاف القرطبي – رحمه الله – وجهاً آخر إضافة لما ذكر ابن عطية – رحمه الله – قال القرطبي (2) " وأيضاً لئلا يتقدم ذكر العبد والعبادة على المعبود ، فلا يجوز نعبدك ونستعينك ، ولا نعبد إياك ونستعين إياك ، فيقدم الفعل على كناية المفعول ، وإنما يتبع لفظ القرآن . أ هـ
__________
(1) تفسير البغوي حـ1 ص28-29
(2) تفسير القرطبي حـ1 ص109

(2/11)


فإن قيل : فما معنى النون في قوله تعالى "إياك نعبد وإياك نستعين" فإن كانت للجمع فالداعي واحد وإن كانت للتعظيم فلا يناسب هذا المقام ؟ وقد أجيب بأن المراد من ذلك الإخبار عن جنس العباد والمصلي فرد منهم ولاسيما إن كان في جماعة أو إمامهم فأخبر عن نفسه وعن إخوانه المؤمنين بالعبادة التي خلقوا لأجلها وتوسط لهم بخير ، ومنهم من قال : يجوز أن تكون للتعظيم كأن العبد قيل له : إن كنت داخل العبادة فأنت شريف وجاهك عريض فقل : "إياك نعبد وإياك نستعين" وإن كنت خارج العبادة فلا تقل نحن ولا فعلنا ولو كنت في مائة ألف أو ألف ألف لاحتياج الجميع إلى الله – تعالى – وفقرهم إليه ، ومنهم من قال [ إياك نعبد] ألطف في التواضع من إياك أعبد لما في الثاني من تعظيمه نفسه وحده أهلاً لعبادة الله – تعالى – الذي لا يستطيع أحداً أن يعبده حق عبادته ولا يثني عليه كما يليق به .
والعبادة مقام عظيم يشرف به العبد لانتسابه به إلى جناب الله تعالى(1). أ هـ
وقال الإمام الفخر الرازي – رحمه الله – بعد أن أجاب عن هذا السؤال (2) :"فإن قال قائل : جميع ما ذكر تم قائم في قوله :"الحمد لله" مع أنه قدم فيه ذكر الحمد على ذكر الله ؟
فالجواب : أن قوله الحمد يحتمل أن يكون لله ولغير الله فإذا قلت لله فقد تقيد الحمد بأن يكون لله أما لو قدم قوله [نعبد] احتمل أن يكون لله واحتمل أن يكون لغير الله وذلك كفر ، والنكتة أن الحمد لما جاز لغير الله في ظاهر الأمر كما جاز لله ، فلا جرم حسن تقدم الحمد أما ها هنا فالعبادة لما لم تجز لغير الله لا جرم قدم قوله "إياك" على نعبد ، فتعين الصرف للعبادة فلا يبقى في الكلام احتمال أن تقع العبادة لغير الله . أ هـ . فإن قيل : لم أطلقت الاستعانة ؟ أجيب بأنها إنما أطلقت لأجل أنها تتناول المعرفة في المهمات كلها أو في أداء العبادات (3) . أ هـ
__________
(1) ابن كثير حـ1 ص35
(2) التفسير الكبير حـ1 ص212
(3) تفسير السراج المنير حـ1 ص11

(2/12)


فإن قيل لم تكرر الضمير المنصوب [إياك] ؟ فالجواب : كما قال أبو السعود - رحمه الله - للتنصيص على تخصصه تعالى بكل واحدة من العبادة والاستعانة ، ولإبراز الاستلذاذ بالمناجاة والخطاب . أ هـ
وإن قيل : لم قدم العبادة على الاستعانة ؟ فالجواب لأن العبادة من مقتضيات مدلول الاسم الجليل وإن ساعدته الصفات المجراة عليه أيضاً ، وأما الاستعانة فمن الأحكام المبينة على الصفات المذكورة ولأن العبادة من حقوق الله تعالى ، والاستعانة من حقوق المستعين ، ولأن العبادة واجبة حتماً ، والاستعانة تابعة للمستعان فيه في الوجوب وعدمه ، وقيل لأن تقديم الوسيلة على المسئول أدعى إلى الإجابة والقبول هذا على تقدير كون إطلاق الاستعانة على المفعول فيه ليتناول كل مستعان فيه كما قالوا وقد قيل إنه لما أن المسئول هو المعونة في العبادة والتوفيق لإقامة مراسمها على ما ينبغي وهو اللائق بشأن التنزيل والمناسب لحال الحامد فإن استعانته مسبوقة بملاحظة فعل من أفعاله ليستعينه تعالى في إيقاعه (1) . أ هـ
وأجاب الخازن عن ذلك بأوجه منها : إن الاستعانة نوع تعبد فكأنه ذكر جملة العبادة أولاً ثم ذكر ما هو من تفاصيلها ثانياً ، ومنها كأن العبد يقول شرعت في العبادة فأنا أستعين بك على إتمامها فلا يمنعني من إتمامها مانع ، ومنها أن العبد إذا قال إياك نعبد حصل له الفخر وذلك منزلة عظيمة فيحصل بسبب ذلك العجب فأردف ذلك بقوله : وإياك نستعين ليزول ذلك العجب الحاصل بسبب تلك العبادة (2) .
أ هـ
__________
(1) تفسير أبي السعود حـ1 ص17
(2) تفسير الخازن باختصار يسير .

(2/13)


لقائل أن يقول : قوله الحمد لله رب العالمين الرحمن الرحيم مالك يوم الدين كله مذكور على لفظ الغيبة ، وقوله إياك نعبد وإياك نستعين انتقال من لفظ الغيبة إلى لفظ الخطاب ، فما الفائدة فيه ؟ قلنا فيه وجوه : الأول : أن المصلي كان أجنبياً عند الشروع في الصلاة ، فلا جرم أثنى على الله بألفاظ المغايبة إلى قوله مالك يوم الدين ، ثم إنه تعالى كأنه يقول له حمدتني وأقررت بكوني إلهاً رباً رحماناً رحيماً مالكاً ليوم الدين ، فنعم العبد أنت قد رفعنا الحجاب وأبدلنا البعد بالقرب فتكلم بالمخاطبة وقل إياك نعبد .
الوجه الثاني : أن أحسن السؤال ما وقع على سبيل المشافهة ، ألا ترى أن الأنبياء عليهم السلام لما سألوا ربهم شافهوه بالسؤال فقالوا : "ربنا ظلمنا أنفسنا" [الأعراف : 23] ، و "ربنا اغفر لنا" [آل عمران :147] ، و "رب هب لي " [آل عمران:38] ، و "رب أرني " [الأعراف : 143] والسبب فيه أن الرد من الكريم على سبيل المشافهة والمخاطبة بعيد وأيضاً العبادة خدمة ، والخدمة في الحضور أولى ، الوجه الثالث : أن من أول السورة إلى قوله إياك نعبد ثناء ، والثناء في الغيبة أولى ، ومن قوله إياك نعبد وإياك نستعين إلى آخر السورة دعاء والدعاء في الحضور أولى الوجه الرابع : العبد لما شرع في الصلاة وقال نويت أن أصلي تقرباً إلى الله فينوي حصول القربة ، ثم إنه ذكر بعد هذه النية أنواعاً من الثناء على الله ، فاقتضى كرم الله إجابته في تحصيل تلك القربة ، فنقله من مقام الغيبة إلى مقام الحضور ، فقال : إياك نعبد وإياك نستعين (1) . أ هـ
__________
(1) التفسير الكبير حـ1 ص215 ، 216

(2/14)


قال فى التيسير {إياك نعبد} إظهار التوحيد {وإياك نستعين} طلب العون عليه ، وقوله {اهدنا} لسؤال الثبات على دينه ، وهو تحقيق عبادته واستعانته ، وذلك لأن الثبات على الهداية أهم الحاجات ؛ إذ هو الذى سأله الأنبياء والأولياء ، كما قال يوسف ـ عليه السلام ـ {توفنى مسلما} وسحرة فرعون {توفنا مسلمين} والصحابة {وتوفنا مع الأبرار} وذلك لأنه لا ينبغى أن يعتمد على ظاهر الحال ، فقد يتغير فى المآل ، كما لإبليس وبرصيصا وبلعام بن باعوراء . أهـ { تنوير الأذهان حـ1 صـ 13}

من أسرار الالتفات في قوله تعالى :
[ إياك نعبد وإياك نستعين ] ما ذكره أبو السعود - رحمه الله - في تفسيره حيث قال ما نصه :

(2/15)


التفات من الغيبة إلى الخطاب وتلوين للنظم من باب جار على نهج البلاغة في اقتنان الكلام ومسلك البراعة حسبما يقتضي المقام لما أن التنقل من أسلوب أدخل في استجلاب النفوس واستمالة القلوب يقع من كل واحد من المتكلم والخطاب والغيبة إلى كل واحد من الآخرين كما في قوله عز وجل " الله الذي أرسل الرياح فتثير سحاباً " الآية ، وقوله تعالى " حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم " إلى غير ذلك من الالتفاتات الواردة في التنزيل لأسرار تقتضيها ومزايا تستدعيها ومما استأثر به هذا المقام الجليل من النكت الرائقة الدالة على أن تخصيص العبادة والاستعانة به تعالى لما أجرى عليه من النعوت الجليلة التي أوجبت له تعالى أكمل تميز وأتم ظهور بحيث تبدل خفاء الغيبة بجلاء الحضور فاستدعى استعمال صيغة الخطاب والإيذان بأن حق التالي بعد ما تأمل فيما سلف من تفرده تعالى بذاته الأقدس المستوجب للعبودية وامتيازه بذاته عما سواه بالكلية واستبداده بجلائل الصفات وأحكام الربوبية المميزة له عن جميع أفراد العالمين وافتقار الكل إليه في الذات والوجود ابتداء وبقاء على التفصيل الذي مرت إليه الإشارة أن يترقى من رتبة البرهان إلى طبقة العيان وينتقل من عالم الغيبة إلى معالم الشهود ويلاحظ نفسه في حظائر القدس حاضراً في محاضر الأنس كأنه واقف لدى مولاه ماثل بين يديه وهو يدعو بالخضوع والإخبات ويقرع بالضراعة باب المناجاة قائلاً يا من هذه شئون ذاته وصفاته نخصك بالعبادة والاستعانة فإن كل ما سواك كائناً من كان بمعزل عن استحقاق الوجود فضلاً عن استحقاق أن يعبد أو يستعان ولعل هذا هو السر في اختصاص السورة الكريمة بوجوب القراءة في كل ركعة من الصلاة التي هي مناجاة العبد لمولاه ومئنة للتبتل إليه بالكلية (1) . أ هـ
فائدة
العبودية نوعان : عامة ، وخاصة .
__________
(1) تفسير أبي السعود حـ1 ص16

(2/16)


فالعبودية العامة : عبودية أهل السموات والأرض كلهم لله ، برهم وفاجرهم ، مؤمنهم وكافرهم . فهذه عبودية القهر والملك . قال تعالى "وقالوا اتخذ الرحمن ولدا . لقد جئتم شيئاً إدا . تكاد السموات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هدا . أن دعوا للرحمن ولدا . وما ينبغي للرحمن أن يتخذ ولدا. إن كل من في السموات والأرض إلا آتى الرحمن عبدا" [مريم : 88-93] فهذا يدخل فيه مؤمنهم وكافرهم .
وأما النوع الثاني : فعبودية الطاعة والمحبة ، وإتباع الأوامر . قال تعالى " يا عباد لا خوف عليكم ولا أنتم تحزنون" [الزخرف : 68] وقال "وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هوناً . وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما" [الفرقان : 63-64] فالخلق كلهم عبيد ربوبيته ، وأهل طاعته وولايته : هم عبيد إلهيته (1) . أ هـ

قال الإمام القشيري - رحمه الله -
العبادة نزهة القاصدين ، ومستروح المريدين ، ومربع الأنس للمحبين ، ومرتع البهجة للعارفين . بها قرة أعينهم ، وفيها مسرة قلوبهم ، ومنها راحة أرواحهم .
وإليه أشار - صلى الله عليه وسلم - بقوله : "أرحنا بها يا بلال "
والاستعانة إجلالك لنعوت كرمه ، ونزولك بساحة جوده ، وتسليمك إلى يد حكمه ، فتقصده بأمل فسيح ، وتخطو إليه بخطو وسيع ، وتأمل فيه برجاء قوي ، وتثق بكرم أزلي ، وتتكل على اختيار سابق ، وتعتصم بسبب جوده (2) . أ هـ

" اهدنا الصراط المستقيم "
ومعنى اهدنا يحتمل أمرين:
أحدهما ـ ( أرشدنا ) كما قال طرفة
للفتى عقل يعيش به حيث يهدي ساقه قدمه

والثاني ـ( وفقنا ) كما قال الشاعر :
فلا تعجلن هداك المليك فان لكل مقام مقالا
__________
(1) مدارج السالكين حـ1 ص91،90 باختصار يسير .
(2) لطائف الإشارات حـ1 ص49

(2/17)


أي وفقك والآية تدل على بطلان قول من يقول: لا يجوز الدعاء بأن يفعل الله ما يعلم أنه يفعله لأنه عبث لأن النبي (صلى الله عليه وآله) كان عالما بأن الله يهديه الصراط المستقيم ، وأنه قد فعل ومع ذلك كان يدعو به ، وقد تكون الهداية بمعنى أن يفعل بهم اللطف الذي يدعوهم إلى فعل الطاعة ، والهدى يكون أيضا بمعنى العلم لصاحبه لأنه مهتد على وجه المدح والهدى يكون أن يهديه إلى طريق الجنة كما قال الله تعالى : " وقالوا الحمد لله الذي هدانا لهذا " وأصل الهداية في اللغة الدلالة على طريق الرشد
فان قيل: ما معنى المسألة في ذلك وقد هداهم الله الصراط المستقيم ومعلوم أن الله تعالى يفعل بهم ما هو أصلح لهم في دينهم؟
قيل: يجوز أن يكون ذلك عبادة وانقطاعا إليه تعالى كما قال: " رب احكم بالحق " وإن علمنا أنه لا يحكم إلا بالحق ويكون لنا في ذلك مصلحة كسائر العبادات ، وكما تعبدنا بأن نكرر تسبيحه وتحميده والإقرار بتوحيده ، ولرسوله بالصدق وإن كنا معتقدين لجميع ذلك ، ويجوز أن يكون المراد بذلك الزيادة في الألطاف كما قال تعالى: " والذين اهتدوا زادهم هدى " وقال: " يهدي به الله من اتبع رضوانه " ويجوز أن يكون الله تعالى يعلم أن أشياء كثيرة تكون أصلح لنا وأنفع لنا إذا سألناه وإذا لم نسأله لا يكون ذلك مصلحة وكان ذلك وجها في حسن المصلحة ، ويجوز أن يكون المراد استمرار التكليف والتعريض للثواب ؛ لأن إدامته ليست بواجبة بل هو تفضل محض جاز أن يرغب فيه بالدعاء ويلزم المخالف أن يقال له: إذا كان الله تعالى قد علم أنه يفعل ذلك لا محالة فما معنى سؤاله ما علم أنه يفعله فما أجابوا به فهو جوابنا .
والصراط المستقيم هو الدين الحق الذي أمر الله به من توحيده وعد له وولاية من أوجب طاعته . أهـ [التبيان فى تفسير القرآن لأبى جعفر الطوسى حـ1 صـ40 ـ 41]
وقال الواحدى :

(2/18)


و[الصراط] أصله بالسين ؛ لأنه من الاستراط ، بمعنى الابتلاع ، فالسراط يبتلع السابلة ، فمن قرأ بالسين فعلى أصل الكلمة ، ومن قرأ بالصاد فلأنها أخف على اللسان ؛ لأن الصاد حرف مطبق كالطاء ، فيتقاربان ويحسنان فى السمع .
ومن قرأ بالزاى : أبدل من السين حرفا مجهورا حتى يشبه الطاء فى الجهر، ويحتج بقول العرب [زقر] فى [صقر]
ومن قرأ بإشمام الزاى : فإنه لم يجعلها زايا خالصة ولا صادا خالصة لئلا يلتبس أصل الكلمة بأحدهما ، وكلها لغات .أهـ [الوسيط للواحدى النيسابورى حـ1 صـ68]
فإن قيل : كيف يطلبون الهداية من الله وهم مهتدون ، لأن الله تعالى يقول : "فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام" [الأنعام : 125] ؟ والجواب : هذا سؤال من يقول بتناهي الألطاف من الله – تعالى – ومذهب أهل السنة أن الألطاف والهدايات من الله – تعالى – لا تتناهى ، فيكون ذلك بمعنى طلب مزيد الهداية (1) ويكون بمعنى سؤال للتثبيت "اهدنا" بمعنى تثبتنا كما يقال القائم : قم حتى أعود إليك أي اثبت قائماً (2) . أ هـ
وقال ابن الجوزي – رحمه الله – [اهدنا] فيه أربعة أقوال : أحدها : ثبتنا قاله علي وأبي والثاني : أرشدنا ، والثالث : وفقنا ، والرابع : ألهمنا ، وهذه الثلاثة عن ابن عباس (3) – رضي الله عنهما – أ هـ
__________
(1) ومنه قوله تعالى "ويزيد الله الذين اهتدوا هدى" [مريم : 76] وقوله "إنهم فتية آمنوا بربهم وزدناهم هدى" [ الكهف : 13] وقوله "والذين اهتدوا زادهم هدى وآتاهم تقواهم" [ محمد :17] .
(2) تفسير السمعاني حـ1 ص38
(3) تفسير زاد السير لابن الجوزي حـ1 ص14

(2/19)


وقال السمرقندي – رحمه الله – قال ابن عباس – رضي الله عنهما – "اهدنا الصراط المستقيم" وهو الإسلام ، فإن قيل : أليس هذا الطريق المستقيم وهو الإسلام فما معنى السؤال ؟ قيل له : الصراط المستقيم هو الذي ينتهي بصاحبه إلى المقصود ، فإنما يسأل العبد ربه أن يرشده الثبات على الطريق الذي ينتهي به إلى المقصود ويعصمه من السبل المتفرقة (1) . أ هـ
وقال النسفي – رحمه الله – "اهدنا الصراط المستقيم" أي ثبتنا على المنهاج الواضح كقولك للقائم : قم حتى أعود إليك أي أثبت على ما أنت عليه أو اهدنا في الاستقبال كما هديتنا في الحال (2) . أ هـ
وقال ابن جزي – رحمه الله – في جوابه عن هذا السؤال : إن ذلك طلب للثبات عليه إلى الموت ، أو الزيادة منه فإن الارتقاء في المقامات لا نهاية له (3) . أ هـ
وقال السعدي – رحمه الله – "اهدنا الصراط المستقيم" أي : دلنا وأرشدنا ووفقنا إلى الصراط المستقيم ، وهو الطريق الواضح الموصل إلى الله وإلى جنته ، وهو معرفة الحق والعمل به ، فاهدنا إلى الصراط واهدنا في الصراط ، فالهداية إلى الصراط لزوم دين الإسلام ، وترك ما سواه من الأديان ، والهداية في الصراط ، تشمل الهداية لجميع التفاصيل الدينية علماً وعملاً ، فهذا الدعاء من أجمع الأدعية ، وأنفعها للعبد ، ولهذا وجب على الإنسان أن يدعو الله به في كل ركعة من صلاته لضرورته إلى ذلك(4). أهـ
وقال الثعالبى – رحمه الله - : فمعنى قوله "اهدنا" فيما هو حاصل عندهم التثبيت والدوام ، وفيما ليس بحاصل ، إما من جهة الجهل به ، أو التقصير في المحافظة عليه طلب الإرشاد إليه فكل داع به إنما يريد الصراط بكامله في أقواله وأفعاله ومعتقداته (5) . أ هـ

ما المراد بالصراط المستقيم ؟
__________
(1) بحر العلوم للسمرقندي حـ1 ص44
(2) تفسير النسفي حـ1 ص8
(3) التسهيل حـ1 ص33
(4) تفسير السعدي ص33
(5) تفسير الثعالبى حـ1 ص25

(2/20)


قال البغوي - رحمه الله - والصراط المستقيم هو الإسلام ، وقيل هو القرآن ، وقيل : كتاب الله ، وقيل : طريق الجنة ، وقيل طريق السنة والجماعة ، وقيل : طريق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وقيل : رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وآله وصاحباه ، وأصله في اللغة الطريق الواضح (1) . أ هـ
وعلق الإمام الفخر - رحمه الله - على بعض هذه الأقوال بقوله : قال بعضهم : الصراط المستقيم الإسلام ، وقال بعضهم القرآن ، وهذا لا يصح ، لأن قوله : صراط الذين أنعمت عليهم . من المتقدمين ، ومن تقدمنا من الأمم ما كان لهم القرآن والإسلام وإذا بطل ذلك ثبت أن المراد اهدنا صراط المحقين المستحقين للجنة (2) . أ هـ
وقال الطبري - رحمه الله - فالمعنى مل بقلوبنا إلى الحق ، وقال الفضيل بن عياض : [الصراط المستقيم] طريق الحج ، وهذا خاص والعموم أولى ، وقيل "الصراط المستقيم" دين الله الذي لا يقبل من العباد غيره ، وهذا منسوب إلى محمد بن الحنفية . أ هـ
وقال الطبرسى ما نصه : و ( الصراط المستقيم ) هو الدين الحق الذي لا يقبل الله من العباد غيره ، وإنما سمي الدين صراطا لأنه يؤدي بمن يسلكه إلى الجنة كما أن الصراط يؤدي بمن يسلكه إلى مقصده . أهـ [جوامع الجامع للطبرسى حـ1 صـ57]

"الصراط المستقيم"

قال العلامة ابن القيم - رحمه الله - عن (الصراط المستقيم) ما نصه :
وهو طريق الله الذي نصه لعباده على ألسن رسله ، وجعله موصلاً لعباده إليه ، ولا طريق لهم إليه سواه ، بل الطرق كلها مسدودة إلا هذا ، وهو إفراده بالعبودية وإفراد رسوله بالطاعة ، فلا يشرك به أحداً في عبوديته ، ولا يشرك برسوله أحداً في طاعته فيجرد التوحيد ويجرد متابعة الرسول .
__________
(1) تفسير البغوي حـ1 ص29
(2) تفسير الطبري حـ1 ص110

(2/21)


وهذا معنى قول بعض العارفين إن السعادة والفلاح كله مجموع في شيئين : صدق محبته وحسن معاملته ، وهذا كله مضمون شهادة : (أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله ) فأي شيء فسربه الصراط فهو داخل هذين الأصلين ونكتة ذلك وعقده : أن تحبه بقلبك كله ، وترضيه بجهدك كله ، فلا يكون في قلبك موضع إلا معمور بحبه ، ولا تكون لك إرادة إلا متعلقة بمرضاته .
الأول : يحصل بالتحقيق بشهادة (أن لا إله إلا الله ) ، والثاني : يحصل بالتحقيق بشهادة أن ( محمداً رسول الله ) ، وهذا هو الهدى ودين الحق ، وهو معرفة الحق والعمل له ، وهو معرفة ما بعث الله به رسله والقيام به .
فقل ما شئت من العبارات التي هذا أحسنها وقطب رحاها ، وهي معنى قول من قال : علوم وأعمال ، ظاهرة وباطنة ، مستفادة من مشكاة النبوة ، ومعنى قول من قال : متابعة رسول الله ظاهراً وباطناً علماً وعملاً ، ومعنى قول من قال : الإقرار لله بالوحدانية والاستقامة على أمره .
وأما ما عدا هذا من الأقوال كقول من قال : الصلوات الخمس ،وقول من قال : حب أبي بكر وعمر ، وقول من قال : هو أركان الإسلام الخمس التي بني عليها ، فكل هذه الأقوال تمثيل وتنويع ، لا تفسير مطابق له ، بل هي جزء من أجزائه وحقيقته الجامعة ما تقدم ... والله أعلم (1) . أ هـ
__________
(1) بدائع الفوائد حـ1 ص269

(2/22)


لقائل أن يقول : لم قال اهدنا ولم يقل اهدني ؟ والجواب من وجوه : الأول : أن الدعاء كلما كان أعم كان إلى الإجابة أقرب . كان بعض العلماء يقول لتلامذته : إذا قرأتم في خطبة السابق "رضي الله عنك وعن جماعة المسلمين " إن نويتني في قولك "رضي الله عنك" فحسن ، وإلا فلا حرج ، ولكن إياك وأن تنساني في قولك "وعن جماعة المسلمين" لأن قوله رضي الله عنك تخصيص بالدعاء فيجوز أن يقبل ، وأما قوله وعن جماعة المسلمين فلا بد وأن يكون في المسلمين من يستحق الإجابة ، وإذا أجاب الله الدعاء في البعض فهو أكرم من أن يرده في الباقي ، ولهذا السبب فإن السنة إذا أراد أن يذكر دعاء أن يصلي أولاً على النبي – صلى الله عليه وسلم – ثم يدعو ثم يختم الكلام بالصلاة على النبي – صلى الله عليه وسلم – ثانياً : لأن الله تعالى يجيب الداعي في صلاته على النبي – صلى الله عليه وسلم - ، ثم إذا أجيب في طرفي دعائه امتنع أن يرد في وسطه .
الثاني : قال عليه الصلاة والسلام :"ادعوا الله بألسنة ما عصيتموه بها ، قالوا : يا رسول الله ومن لنا بتلك الألسنة ، قال : يدعو بعضكم لبعض ، لأنك ما عصيت بلسانه وهو ما عصى بلسانك ".
الثالث : كأنه يقول : أيها العبد ، ألست قلت في أول السورة الحمد لله وما قلت أحمد الله فذكرت أولاً حمد جميع الحامدين فكذلك في وقت الدعاء أشركهم فقل اهدنا (1) . أ هـ
فإن قيل : لم قدم الحمد والثناء على الدعاء ؟ والجواب : لأن تلك السنة في الدعاء وشأن الطلب أن يأتي بعد المدح ، وذلك أقرب للإجابة ، وكذلك قدم الرحمن الرحيم على مالك يوم الدين ، لأن رحمة الله سبقت غضبه(2) . أهـ
__________
(1) التفسير الكبير حـ1 ص219 باختصار يسير
(2) التسهيل لابن جزي حـ1 ص33

(2/23)


ذكر الإمام القاسمي في "محاسن التأويل" نقلاً عن الإمام الراغب في تفسيره ما نصه : والهداية هي الإرشاد إلى الخيرات قولاً وفعلاً ، وهي من الله تعالى على منازل بعضها يترتب على بعض ، لا يصح حصول الثاني إلا بعد الأول ، ولا الثالث إلا بعد الثاني .
فأول المنازل : إعطاؤه العبد القوي التي بها يهتدي إلى مصالحه إما تسخيراً وإما طوعاً – كالمشاعر الخمسة والقوة الفكرية ، وبعض ذلك قد أعطاه الحيوانات ، وبعض خص به الإنسان ، وعلى ذلك دل قوله تعالى :"أعطى كل شيء خلقه ثم هدى" [ طه :50] ، وقوله تعالى :"الذي قدر فهدى" الأعلى :3] . وهذه الهداية إما تسخير وإما تعليم ، وإلى نحوه أشار قوله تعالى :"وأوحى ربك إلى النحل" [النحل :68] ، وقوله تعالى :"بأن ربك أوحى لها" [الزلزلة :5] . وقال في الإنسان بما أعطاه من العقل ، وعرفه من الرشد :"إنا هديناه السبيل" [الإنسان :3] . وقال :"وهديناه النجدين" [البلد :10] . وقال في ثمود :"فهديناهم فاستحبوا العمى على الهدى" [فصلت :17]
وثانيها : الهداية بالدعاء وبعثة الأنبياء عليهم السلام . وإياها عنى بقوله تعالى :"وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا" [السجدة :24] وبقوله :"ولكل قوم هاد" [الرعد :7] وهذه الهداية تنسب تارة إلى الله تعالى عز وجل ، وتارة إلى النبي عليه السلام ، وتارة إلى القرآن . قال تعالى :"إن هذا القرآن يهدى للتي هي أقوم" [الإسراء :9] .
وثالثها : هداية يوليها صالحي عباده بما اكتسبوه من الخيرات ، وهي الهداية المذكورة في قوله عز وجل :"وهدوا إلى الطيب من القول وهدوا إلى صراط الحميد" [الحج :24] .

(2/24)


وقوله :"أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده" [الأنعام :90] . وقوله :"والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا" [العنكبوت :69] ، وهذه الهداية هي المعنية بقوله :"ويجعل لكم نوراً تمشون به" [الحديد :28] . ويصح أن ننسب هذه الهداية إلى الله عز وجل فيقال : هو آثرهم بها من حيث إنه هو السبب في وصولهم إليها . ويصح أن يقال : اكتسبوها من حيث إنهم توصلوا إليها باجتهادهم . فمن قصد سلطاناً مسترقداً فأعطاه ، يصح أن يقال : إن السلطان خوله . ويصح أن يقال : فلان اكتسب بسعيه ، و لانطواء ذلك على الأمرين ، 4قال تعالى :"والذين اهتدوا زادهم هدى وآتاهم تقواهم" [محمد :17] . وقال :"إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات يهديهم ربهم بإيمانهم" [يونس :9] . فنبه أن ذلك بجهدهم وبفضله جميعاً .
وهذه الهداية يصح أن بقال : هي مباحة للعقلاء كلهم ، ويصح أن يقال : هي محظورة إلا على أوليائه ، لما كان في إمكان جميع العقلاء أن يترشحوا لتناولها . ومن ذلك قيل : إنها لا يسهل تناولها قبل أن يتشكل الإنسان بشكل مخصوص ، بتقديم عبادات . وقد قال بعض المحققين : الهدى من الله كثير ، ولا يبصره إلا البصير ، ولا يعمل به إلا اليسير . ألا ترى إلا نجوم السماء ما أكثرها ولا يهتدي بها إلا العلماء . وقال بعض الأولياء : إن مثل هداية الله مع الناس كمثل سيل مر على قلات وغدران ، فيتناول كل قلت منها بقدر سعته – ثم تلا قوله -:"أنزل من السماء ماء فسالت أودية بقدرها" [الرعد :17] . وقال بعضهم : هي كمطر أتى على أرضين فينتفع كل أرض بقدر ترشيحها للانتفاع به .

(2/25)


والمنزلة الرابعة من الهداية : التمكين من مجاورته في دار الخلد ، وإياها عني الله بقوله :"ونزعنا ما في صدورهم من غل تجري من تحتهم الأنهار وقالوا الحمد لله الذي هدانا لهذا" [الأعراف :43] . فإذا ثبت ذلك فمن الهداية ما لا ينفي عن أحد بوجه . ومنها ما ينفي عن بعض ويثبت لبعض ، ومن هذا الوجه قال تعالى لنبيه – صلى الله عليه وسلم - :"إنك لا تهدي من أحببت" [القصص :56] . وقال :"ليس عليك هداهم ولكن الله يهدي من يشاء" [البقرة :272] .
وقال :"وما أنت بهاد العمي عن ضلالتهم" [الروم :53] . فإنه عنى الهداية – التي هي التوفيق وإدخال الجنة – دون التي هي الدعاء لقوله تعالى :"وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم" [الشورى :52] وقال في الأنبياء :"وجعلناهم أئمة يهدون بأمرنا" [الأنبياء :73] .

(2/26)


فقوله :"اهدنا الصراط المستقيم" فسر على وجوه بحسب أنظار مختلفة إلى الوجوه المذكورة : الأول : أنه عنى الهداية العامة ، وأمر أن ندعوا ذلك - وإن كان هو قد فعله لا محالة - ليزيدنا ثواباً بالدعاء ، كما أمرنا أن نقول : اللهم صلي على محمد . والثاني : قيل : وفقنا لطريقة الشرع . والثالث : احرسنا عن استغواء القوة واستهواء الشهوات ، واعصمنا من الشبهات - الرابع : زدنا هدى استنجاحاً لما وعدت بقولك :"ومن يؤمن بالله يهد قلبه" [التغابن :11] وقولك "والذين اهتدوا زادهم هدى" [محمد :17] . الخامس : قيل علمنا العلم الحقيقي فذلك سبب الخلاص ، وهو المعبر عنه بالنور في قوله :"يهدي الله لنوره من يشاء" [النور :35] . السادس : قيل : هو سؤال الجنة ، لقوله تعالى :"والذين قتلوا في سبيل الله فلمن يضل أعمالهم . سيهديهم ويصلح بالهم" [محمد :5،4] - وقال :"إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات يهديهم ربهم بإيمانهم" الآية [يونس :9] . فهذه الأقاويل اختلفت باختلاف أنظارهم إلى أبعاض الهداية وجرئياتها ، والجميع يصح أن يكون مراداً بالآية - إذ لا تنافي بينها - وبالله التوفيق" أ هـ كلام الراغب . وبه يعلم تحقيق معنى الهداية في سائر مواقعها في التنزيل الكريم ، وأن الوجوه المأثورة في آية ما - إذا لم تتناف - صح إرادتها كلها ، ومثل هذا يسمى : اختلاف تنوع لا اختلاف تضاد (1) . أ هـ

__________
(1) محاسن التأويل . حـ2 ص254،252

(2/27)


فائدة
إنه تعالى كرر في كلامه ذكر الصراط والسبيل ، ولم ينسب لنفسه أزيد من صراط مستقيم واحد ، وعد لنفسه سبلاً كثيرة فقال عز من قائل "والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا" [العنكبوت :69] . وكذا لم ينسب الصراط المستقيم إلى أحد من خلقه إلا ما في هذه الآية (صراط الذين أنعمت عليهم الآية) ولكنه نسب السبيل إلى غيره من خلقه ، فقال تعالى :"قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة" [يوسف :108] وقال تعالى :"سبيل من أناب إلي" [لقمان :15] وقال :"سبيل المؤمنين" [النساء :114] ، ويعلم منها : أن السبيل غير الصراط المستقيم فإنه يختلف ويتعدد ويتكثر باختلاف المتعبدين السالكين سبيل العبادة بخلاف الصراط المستقيم كما يشير إليه قوله تعالى :" قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام ويخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه ويهديهم إلى صراط مستقيم" [المائدة :16] ، فعد السبل كثيرة والصراط المستقيم إما هي السبل الكثيرة وإما أنها تؤدي إليه باتصال بعضها إلى بعض واتحادها فيها (1) . أ هـ

فائدة في مراتب الهداية الخاصة والعامة
وهي عشر مراتب :
المرتبة الأولى : مرتبة تكليم الله - عز وجل - لعبده يقظة بلا واسطة بل منه إليه وهذه أعلى مراتبها ، كما كلم موسى بن عمران - صلوات الله وسلامه على نبينا وعليه - قال الله - تعالى - " وكلم الله موسى تكليما" [النساء:163]
المرتبة الثانية : مرتبة الوحي الخاص بالأنبياء .
المرتبة الثالثة : إرسال الرسول الملكي إلى الرسول البشري فيوحي إليه عن الله ما أمره أن يوصله إليه . فهذه المراتب الثلاث خاصة بالأنبياء ، لا تكون لغيرهم .
المرتبة الرابعة : مرتبة التحديث وهو دون مرتبة الوحي الخاص ، وتكون دون مرتبة الصديقين كما كانت لعمر - رضي الله عنه - .
__________
(1) الميزان في تفسير القرآن . حـ1 ص31

(2/28)


المرتبة الخامسة : مرتبة الإفهام : قال الله – تعالى – " وداود وسليمان إذ يحكمان في الحرث إذ نفشت فيه غنم القوم وكنا لحكمهم شاهدين ففهمناها سليمان وكلاً آتينا حكماً وعلماً " [الأنبياء : 79:78] فذكر هذين النبيين الكريمين فأثنى عليهما بالعلم والحكم ، وخص سليمان بالفهم في هذه الواقعة المعينة .
المرتبة السادسة : مرتبة البيان العام . وهو تبيين الحق وتمييزه من الباطل بأدلته وشواهده وأعلامه ، بحيث يصير مشهوداً للقلب ، كشهود العين للمرئيات ، وهذه المرتبة هي حجة الله على خلقه التي لا يعذب أحداً ولا يضله إلا بعد وصوله إليها . قال الله – تعالى – "وما كان الله ليضل قوماً بعد إذ هداهم حتى يبين لهم ما يتقون" [التوبة :115] فهذا الإضلال عقوبة منه لهم ، حين بين لهم فلم يقبلوا ما بينه لهم ولم يعملوا به ، فعاقبهم بأن أضلهم عن الهدى وما أضل الله أحداً قط إلا بعد هذا البيان .
المرتبة السابعة : البيان الخاص ، وهو البيان المستلزم للهداية الخاصة ، وهو بيان تقارنه العناية والتوفيق والاجتباء ، وقطع أسباب الخذلان وموادها عن القلب فلا تتخلف عنه الهداية ألبتة قال تعالى في هذه المرتبة "إن تحرص على هداهم فإن الله لا يهدى من يضل" [النحل :37] وقال "إنك لا تهدى من أحببت ولكن الله يهدى من يشاء" [القصص :56] فالبيان الأول شرط وهذا موجب .

(2/29)


المرتبة الثامنة : مرتبة الإسماع . قال الله - تعالى – "ولو علم الله فيهم خيراً لأسمعهم ولو أسمعهم لتولوا وهم معرضون" [الأنفال :23] . وهذا الإسماع أخص من إسماع الحجة والتبليغ ، فإن ذلك حاصل لهم ، وبه قامت الحجة عليهم . لكن ذاك إسماع الآذان ، وهذا إسماع القلوب ، فإن الكلام له لفظ ومعنى وله نسبة إلى الأذن والقلب وتعلق بهما ، فسماع لفظه حظ الأذن ، وسماع حقيقة معناه ومقصوده حظ القلب ، فإنه سبحانه نفى عن الكفار سماع المقصود والمراد الذي هو حظ القلب ، وأثبت لهم سماع الألفاظ الذي هو حظ الأذن في قوله "ما يأتيهم من ذكر من ربهم إلا استمعوه وهم يلعبون لاهية قلوبهم" [الأنبياء :2] وهذا السماع لا يفيد السامع إلا قيام الحجة عليه ، أو تمكنه منها ، وأما مقصود السماع وثمرته ، والمطلوب منه ، فلا يحصل مع لهو القلب وغفلته وإعراضه .
المرتبة التاسعة : مرتبة الإلهام قال تعالى "ونفس وما سواها فألهمها فجورها وتقواها" [الشمس :8،7]
المرتبة العاشرة : الرؤيا الصادقة : وهي أجزاء من أجزاء النبوة كما ثبت عن النبي – صلى الله عليه وسلم – أنه قال (1) : "الرؤيا الصادقة جزء من ستة وأربعين جزء من النبوة" (2) . أ هـ

فائدة في تعدية الفعل [ اهدنا ] بنفسه
تعدية الفعل هنا بنفسه دون حرف [إلى] .
فجوابها أن الفعل الهداية : يتعدى بنفسه تارة كقوله تعالى :"ويهديك صراطاً مستقيماً" [الفتح :2] وبحرف [إلى] تارة كقوله تعالى :"وإنك لتهدى إلى صراط مستقيم" [الشورى :52] وباللام تارة كقوله تعالى :"وقالوا الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله " [الأعراف :43] وقوله تعالى "إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم" [الإسراء :9] .
__________
(1) أخرجه البخاري بلفظ : الرؤيا الصالحة (8566) ومسلم (2263) .
(2) مدارج السالكين لابن القيم حـ1 ص37-48 باختصار ط دار الحديث القاهرة .

(2/30)


وفعل الهداية متى عدى بـ [إلى] تضمن الإيصال إلى الغاية المطلوبة ، فأتى بحرف الغاية ، ومتى عدى باللام تضمن التخصيص بالشيء المطلوب فأتى باللام الدالة على الاختصاص والتعيين فإذا قلت : هديته لكذا ، فهم معنى ذكرته له وجعلته له وهيأته ... ونحو هذا ، وإذا تعدى بنفسه تضمن المعنى الجامع لذلك كله ، وهو التعريف والبيان والإلهام (1) . أ هـ

فائدة في معاني الهدى في القرآن
ذكر الهدى في القرآن على سبعة عشر وجهاً وهي كما يلي :
بمعنى البيان ، كقوله تعالى :"أولئك على هدى من ربهم" [البقرة :5]
وبمعنى الدين :"إن الهدى هدى الله" [آل عمران :73]
وبمعنى الإيمان :"ويزيد الله الذين اهتدوا هدى" [مريم :76]
وبمعنى الداعي :"ولكل قوم هاد" [الرعد :7] . "وجعلناهم أئمة يهدون بأمرنا" [الأنبياء :73]
وبمعنى الرسل والكتب :"فإما يأتينكم مني هدى" [البقرة :38]
وبمعنى المعرفة :"وبالنجم هم يهتدون" [النحل :16]
وبمعنى الرشاد :"اهدنا الصراط المستقيم" [الفاتحة :6]
وبمعنى محمد صلى الله عليه وسلم :"إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى" [البقرة :159] "من بعد ما تبين لهم الهدى" [محمد :32]
وبمعنى القرآن :"ولقد جاءهم من ربهم الهدى" [النجم :23]
وبمعنى التوراة :"ولقد آتينا موسى الهدى" [غافر :53]
وبمعنى الاسترجاع :"وأولئك هم المهتدون" [البقرة :57] ، ونظيرها في التغابن : "ومن يؤمن بالله" [التغابن :11] أي في المصيبة أنها من عند الله "يهد قلبه" [التغابن :11] للاسترجاع .
وبمعنى الحجة :"والله لا يهدى القوم الظالمين" بعد قوله "ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم في ربه" [البقرة :258] ، أي لا يهديهم إلى الحجة .
وبمعنى التوحيد :"إن نتبع الهدى معك" [القصص :57]
وبمعنى السنة :"وإنا على آثارهم مهتدون" [الزخرف :22]
وبمعنى الإصلاح :"وأن الله لا يهدي كيد الخائنين" [يوسف :52]
__________
(1) بدائع الفوائد لابن القيم حـ2 ص253:252 . بتصرف يسير .

(2/31)


وبمعنى الإلهام :"أعطى كل شيء خلقه ثم هدى" [طه :50] ، هدى كلاً في معيشته .
وبمعنى التوبة :"إنا هدنا إليك" [الأعراف :156] أي تبنا (1) . أ هـ

"صراط الذين أنعمت عليهم"
قيل هم الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - ، وقيل : هم كل من ثبت الله على .. الإيمان من النبيين والمؤمنين الذين ذكر الله - تعالى - في قوله "فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين" [النساء :69] . وقيل هم قوم موسى وعيسى -عليهما السلام- قبل أن يغيروا دينهم ، وقيل هم النبي - صلى الله عليه وسلم - وقيل : هم الرسول -صلى الله عليه وسلم - وأبو بكر وعمر - رضي الله عنهما - وقيل : إنه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأهل بيته ، وقيل : هم أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -وأهل بيته (2) . أ هـ
فإن قلت : ما فائدة البدل ؟ وهلا قيل اهدنا صراط الذين أنعمت عليهم ؟ قلت : فائدته التوكيد لما فيه من التثنية والتكرير ، والإشعار بأن الطريق المستقيم بيانه وتفسيره : صراط المسلمين ، ليكون ذلك شهادة لصراط المسلمين بالاستقامة على أبلغ وجه وآكده (3) . أ هـ
فإن قيل : لم أطلق الإنعام ؟ أجيب : ليشمل كل إنعام (4) ، لأن من أنعم عليه بنعمة الإسلام لم تبق نعمة إلا أصابته واشتملت عليه (5) . أ هـ

وقال فى الدر المصون :
__________
(1) البرهان في علوم القرآن . حـ1 ص136:134
(2) معالم التنزيل للبغوي حـ1 ص29 بتصرف يسير .
(3) الكشاف للزمخشري حـ1 ص25
(4) قال صاحب الانتصاف - رحمه الله - والتحقيق أن الإطلاق إنما يقتضي إبهاماً وشيوعاً ، والنفس إلى المبهم أشوق منها إلى المفيد لتعلق الأمل مع الإبهام لكل نعمة تخطر بالبال أ هـ [هامش الكشاف حـ1 ص25]
(5) الكشاف حـ1 ص26،25

(2/32)


فإن قيل: لِمَ أتى بصلة الذين فعلاً ماضياً ؟ قيلٍ : لِيَدُلَّ ذلِك على ثبوتِ إنعام الله عليهم وتحقيقه لهم ، وأتى بصلة [أل] اسماً ليشمل سائرَ الأزمانِ ، وجاء به كبنياً للمفعول ؛ تَحْسِيناً للفظ ؛ لأنَّ مَنْ طُلِبتْ منه الهدايةُ ونُسِب الإنعامُ إليه لا يناسِبُه نسبةُ الغضبِ إليه ، وترفُّق لطلبِ الإحسانِ ، فلا يُحْسُنُ مواجَهَتُه بصفةِ الانتقام . أهـ [ الدر المصون فى علم الكتاب المكنون حـ1 صـ33 ]
فائدة
اعلم أن كل ما يصل إلى الخلق من النفع ودفع الضرر فهو من الله تعالى على ما قال تعالى :"وما بكم من نعمة فمن الله " [النحل :53] ثم إن النعمة على ثلاثة أقسام أحدها : نعمة تفرد الله بإيجادها ، نحو أن خلق ورزق. ثانيها : نعمة وصلت من جهة غير الله في ظاهر الأمر ، وفي الحقيقة فهي أيضاً إنما وصلت من الله تعالى ، وذلك لأنه تعالى هو الخالق لتلك النعمة ، والخالق لذلك المنعم ، والخالق لداعية الإنعام بتلك النعمة في قلب ذلك المنعم ، إلا أنه تعالى لما أجرى تلك النعمة على يد ذلك العبد كان ذلك العبد مشكوراً ، ولكن المشكور في الحقيقة هو الله تعالى ولهذا قال :"أن أشكر لي ولوالديك إلي المصير" [لقمان :14] فبدأ بنفسه تنبيهاً على أن إنعام الخلق لا يتم إلا بإنعام الله ، وثالثها : نعم وصلت من الله إلينا بسبب طاعتنا ، وهي أيضاً من الله تعالى ، لأنه لولا أن الله سبحانه وتعالى وفقنا للطاعات وأعاننا عليها وهدانا إليها وأزاح الأعذار عنا وإلا لما وصلنا إلى شيء منها ، فظهر بهذا التقرير أن جميع النعم في الحقيقة من الله تعالى (1) .
أ هـ
__________
(1) التفسير الكبير حـ1 ص221،220

(2/33)


ونعم الله تعالى مع استحالة إحصائها ينحصر أصولها في دنيوي وأخروي والأول قسمان وهبي وكسبي ، والوهبي أيضاً قسمان روحاني كنفخ الروح فيه وإمداده بالعقل وما يتبعه من القوى المدركة فإنها مع كونها من قبيل الهدايات نعم جليلة في أنفسها وجسماني كتخليق البدن والقوى الحالة فيه والهيئات العارضة له من الصحة وسلامة الأعضاء والكسبي تخلية النفس عن الرذائل وتحليتها بالأخلاق السنية والملكات البهية وتزيين البدن بالهيئات المطبوعة والحلي المرضية وحصول الجاه والمال . والثاني مغفرة ما فرط منه والرضى عنه وتبوئته في أعلى عليين مع المقربين والمطلوب هو القسم الأخير وما هو ذريعة إلى نيله من القسم الأول اللهم ارزقنا ذلك بفضلك العظيم ورحمتك الواسعة(1).أ هـ
فإن قيل : ما السر في إضافة [ الصراط ] في قوله تعالى "صراط الذين أنعمت عليهم " إلى الموصول المبهم ، دون أن يقول صراط النبيين والمرسلين ؟
أجاب عنه العلامة ابن القيم -رحمه الله- بثلاثة أجوبة : اكتفى منها بالأخير حيث قال -رحمه الله-
إن الآية عامة في جميع طبقات المنعم عليهم ، ولو أتى باسم خاص لكان لم يكن فيه سؤال الهداية إلى صراط جميع المنعم عليهم ، فكان في الإتيان بالاسم العام من الفائدة أن المسئول الهدى إلى جميع تفاصيل الطريق التي سلكها كل من أنعم عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين .
وهذا أجل مطلوب وأعظم مسئول ، ولو عرف الداعي قدر هذا السؤال لجعله هجيراً ، وقرنه بأنفاسه ، فإنه لم يدع شيئاً من خير الدنيا والآخرة إلا تضمنه . ولما كان بهذه المثابة فرضه الله على جميع عباده فرضاً متكرراً في اليوم والليلة ، لا يقوم غيره مقامه (2) .
أ هـ
__________
(1) تفسير أبي السعود حـ1 ص18
(2) بدائع الفوائد لابن القيم حـ2 ص249 باختصار يسير

(2/34)


فإن قيل : لم قال :(أنعمت عليهم) ولم يقل (المنعم عليهم) كما قال : المغضوب عليهم ؟ وجوابه من وجوه إحداها : أن هذا جاء على الطريقة المعهودة في القرآن الكريم ، وهي أن أفعال الإحسان والرحمة والجود تضاف إلى الله –سبحانه وتعالى- فيذكر فاعلها منسوبة إليه ، ولا يبنى الفعل معها للمفعول ، فإذا جيء بأفعال العدل والجزاء والعقوبة حذف وبني الفعل معها للمفعول أدباً في الخطاب وإضافته إلى الله تعالى أشرف قسمي أفعاله .
فمنه : هذه الآية فإنه ذكر النعمة فأضافها إليه ولم يحذف فاعلها ، ولما ذكر الغضب حذف الفاعل وبنى الفعل للمفعول فقال "المغضوب عليهم" وقال في الإحسان : "الذين أنعمت عليهم" .
ونظيره قول إبراهيم الخليل صلوات الله وسلامه عليه :"الذي خلقني فهو يهدين (78) والذي هو يطعمني ويسقين (79) وإذا مرضت فهو يشفين (80) " [الشعراء: 78-80] فنسب الخلق والهداية والإحسان بالطعام والسقي إلى الله تعالى ولما جاء ذكر المرض قال : وإذا مرضت ، ولم يقل : أمرضني ، وقال فهو يشفين .
ومنه قوله تعالى حكاية عن مؤمني الجن :"وأنا لا ندري أشر أريد بمن في الأرض أم أراد بهم ربهم رشدا(10)" [الجن : 10] ، فنسبوا إرادة الرشد إلى الرب ، وحذفوا فاعل إرادة الشر وبنوا الفعل للمفعول .
ومنه قول الخضر –عليه الصلاة والسلام- في السفينة فأردت أن أعيبها فأضاف العيب إلى نفسه . وقال في الغلامين :"فأراد ربك أن يبلغا أشدهما" [الكهف : 82]
ومنه قوله تعالى :"أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم" [البقرة : 275] ، لأن في ذكر الرفث ما يحسن منه أن لا يقترن بالتصريح بالفاعل .
ومنه :"حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير" [المائدة : 3] ، وقوله :"قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم ألا تشركوا به شيئا وبالوالدين إحسانا " [الأنعام : 151] ، إلى آخرها .

(2/35)


ومنه وهو ألطف من هذا وأدق معنى قوله :"حرمت عليكم أمهاتكم وبناتكم وأخواتكم " [النساء :23] ، إلى آخرها ، ثم قال :"وأحل لكم ما وراء ذلكم" [النساء : 24] ، وتأمل قوله :"فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم" [النساء : 160] ، كيف صرح بفاعل التحريم في هذا الموضع ، وقال في حق المؤمنين "حرمت عليكم الميتة والدم" ؟
ومنها : أن الإنعام بالهداية يستوجب شكر المنعم بها ، وأصل الشكر ذكر المنعم والعمل بطاعته ، وكان من شكره إبراز الضمير المتضمن لذكره تعالى الذي هو أساس الشكر ، وكان في قوله :"أنعمت عليهم" من ذكره وإضافته النعمة إليه ما ليس في ذكر المنعم عليهم لو قاله ، فضمن هذا اللفظ الأصلين وهما : الشكر والذكر المذكوران في قوله :"فاذكروني أذكركم واشكروا لي ولا تكفرون" [البقرة : 152] .
ومنها :أن النعمة بالهداية إلى الصراط لله وحده وهو المنعم بالهداية دون أن يشرك أحد في نعمته فاقتضى اختصاصه بها أن يضاف إليه بوصف الإفراد فيقال :"أنعمت عليهم" ، أي : أنت وحدك المنعم المحسن المتفضل بهذه النعمة ، وأما الغضب فإن الله سبحانه غضب على من لم يكن من أهل الهداية إلى الصراط ، وأمر عباده المؤمنين بمعاداتهم ، وذلك يستلزم غضبهم عليهم موافقة لغضب ربهم عليهم ، فموافقته تعالى تقتضي أن يغضب على من غضب عليه ، ويرضى عمن رضي عنه ، فيغضب لغضبه ، ويرضى لرضاه ، وهذه حقيقة العبودية .
واليهود قد غضب الله عليهم فحقيق بالمؤمنين الغضب عليهم فحذف فاعل الغضب ، وقال:"المغضوب عليهم" ، لما كان المؤمنين نصيب من غضب الله عليه بخلاف الإنعام فإنه لله وحده فتأمل هذه النكت البديعة .

(2/36)


ومنها : أن المغضوب عليهم في مقام الإعراض عنهم وترك الالتفات والإشارة إلى نفس الصفة التي لهم والاقتصار عليها ، وأما أهل النعمة فهم في مقام الإشارة إليهم وتعيينهم والإشادة بذكرهم ، وإذا ثبت هذا فالألف واللام في المغضوب ، وإن كانتا بمعنى الذين فليست مثل الذين ، في التصريح والإشارة إلى تعيين ذات المسمى ، فإن قولك : الذين فعلوا ، معناه : القوم الذين فعلوا ، وقولك : الضاربون والمضروبون ، ليس فيه ما في قولك الذين ضربوا أو ضربوا .. فتأمل ذلك .
فالذين أنعمت عليهم إشارة إلى تعريفهم بأعيانهم ، وقصد ذواتهم ، بخلاف المغضوب عليهم ، فالمقصود التحذير من صفتهم والإعراض عنهم ، وعدم الالتفات إليهم (1) . أ هـ
"غير المغضوب عليهم ولا الضالين" قال الأصفهاني : وإنما ذكر تعالى هذه الجملة لأن الكفار قد شاركوا المؤمنين في إنعام كثير عليهم ، فبين بالوصف أن المراد بالدعاء ليس هو النعم العامة ، بل ذلك نعمة خاصة (2).أهـ

__________
(1) بدائع الفوائد حـ2 ص251،250 بتصرف يسير
(2) محاسن التأويل حـ2 ص257

(2/37)


"غير المغضوب عليهم ولا الضالين"
قال القرطبي -رحمه الله- : اختلف في "المغضوب عليهم" و"الضالين" من هم ؟ فالجمهور أن المغضوب عليهم اليهود ، والضالين النصارى ، وجاء ذلك مفسراً عن النبي -صلى الله عليه وسلم- في حديث عدي بن حاتم وقصة إسلامه أخرجه أبو داوود الطيالسي في مسنده ، والترمذي في جامعه (1) ، وشهد لهذا التفسير أيضاً قوله سبحانه في اليهود "وباءوا بغضب من الله" [آل عمران :112] وقال :"وغضب الله عليهم" [الفتح :6] وقال في النصارى :"قد ضلوا من قبل وأضلوا كثيراً وضلوا عن سواء السبيل" [المائدة : 77] . وقيل "المغضوب عليهم "المشركون ، و"الضالين" المنافقون ، وقيل : [المغضوب عليهم] من أسقط فرض هذه السورة في الصلاة و[الضالين] عن بركة قراءتها حكاه السلمي في حقائقه والماوردي في تفسيره ، وليس بشيء . قال الماوردي : وهذا وجه مردود ، لأن ما تعارضت فيه الأخبار وتقابلت فيه الآثار وانتشر فيه الخلاف لم يجز أن يطلق عليه هذا الحكم (2) ، وقيل : [المغضوب عليهم] باتباع البدع و [الضالين] عن سنن الهدى ، ثم قال -رحمه الله- وهذا حسن ، وتفسير النبي -صلى الله عليه وسلم- أولى وأعلى وأحسن (3) . أ هـ

لطيفة
وقال فى البحر المديد ما نصه :
__________
(1) أخرجه الترمذي (2953) وابن حبان (6246) والطبراني في الكبير (237) والبيهقي في الشعب (2329) وأحمد (4/378)
(2) هذه قاعدة وفائدة جليلة ، فالكثير من الناس في هذا الزمان يحكمون بالبدع على كثير من الأمور المختلف فيها بين العلماء وخصوصاً فقهاء المذاهب الأربعة الذين تلقت الأمة علمهم بالقبول .
(3) الجامع لأحكام القرآن حـ1 ص112

(2/38)


واعلم أن الحق - سبحانه - قسم خلقه على ثلاثة أقسام: قسم أعدَّهم للكرم والإحسان، ليُظْهِرَ فيهم اسم الكريم أو الرحيم، وهو المنعم عليه بالإيمان والاستقامة. وقسم أعدَّهم للانتقام والغضب، ليُظهر فيهم اسمه المنتقم أو القهار، وهم المغضوب وعليهم والضالون عن طريق الحق عقلاً أو عملاً ، وهم الكفار، وقسم أعدَّهم الله للحِلْم والعفو، ليُظهر فيهم اسمه تعالى الحليم والعفو، وهم أهل العصيان من المؤمنين.
فمن رَامَ أن يكونَ الوجودُ خالياً من هذه الأقسام الثلاثة، وأن يكون الناس كلهم سواء في الهداية أو ضدها، فهو جاهل بالله وبأسمائه ؛ إذ لا بد من ظهور آثار أسمائه في هذا الآدمي، من كرم وقهرية وحِلْم وغير ذلك. والله تعالى أعلم. أهـ [ البحر المديد المجيد حـ1 صـ25] .

وقال ابن أبي حاتم في تفسيره [حـ1 ص31] : ولا أعلم في هذا الحرف اختلافاً بين المفسرين . أ هـ . وقال ابن جزي –رحمه الله- مرجحاً القول الأول بقوله : والأول أرجح لأربعة أوجه روايته عن النبي –صلى الله عليه وسلم- ، وجلالة قائله ، وذكر [ولا] في قوله "ولا الضالين" دليل على تغاير الطائفتين ، وأن الغضب صفة اليهود في مواضع من القرآن ، كقوله "فباؤا بغضب" والضلال صفة النصارى لاختلاف أقوالهم الفاسدة في عيسى ابن مريم –عليه السلام- ولقول الله فيه "قد ضلوا من قبل وأضلوا كثيراً وضلوا عن سواء السبيل" (1) أ هـ

فائدة جليلة

قال الإمام البغوي –رحمه الله- وغضب الله لا يلحق عصاة المؤمنين إنما يلحق الكافرين .
__________
(1) التسهيل حـ1 ص34

(2/39)


قال القرطبي – رحمه الله - [لا] في قوله :[ولا الضالين] اختلف فيها ، فقيل : هي زائدة ، قاله الطبري (1) ، ومنه قوله تعالى "ما منعك ألا تسجد" [الأعراف :12] وقيل :هي تأكيد دخلت لئلا يتوهم أن الضالين معطوف على الذين ، حكاه مكي والمهدوي ، وقال الكوفيون "لا" بمعنى غير ، وهي قراءة عمر وأبي (2) . أ هـ
قال الطبري (3) : فإن قال قائل أليس الضلال من صفة اليهود ، كما أن النصارى عليهم غضب فلم لم يخص كل فريق بذكر شيء مفرد ؟ قيل: هم كذلك ولكن رسم الله لعباده كل فريق بما قد تكررت العبارة عنه به وفهم به أمره ".
قال القاضي أبو محمد عبد الحق : وهذا غير شاف ، والقول في ذلك أن أفاعيل اليهود من اعتدائهم ، وتعنتهم ، وكفرهم مع رؤيتهم الآيات ، وقتلهم الأنبياء أمور توجب الغضب في عرفنا ، فسمى تعالى ما أحل بهم غضباً ، والنصارى لم يقع لهم شيء من ذلك ، إنما ضلوا من أول كفرهم دون أن يقع منهم ما يوجب غضباً خاصاً بأفاعيلهم ، بل هو الذي يعم كل كافر وإن اجتهد ، فلهذا تقررت العبارة عن الطائفتين بما ذكر (4) . أ هـ
ما فائدة زيادة [لا] بين المعطوف والمعطوف عليه ؟ ففي ذلك أربع فوائد :
أحدها : أن ذكرها تأكيد للنفي الذي تضمنه (غير) فلولا ما فيها من معنى النفي لما عطف عليها بـ (لا) مع الواو ، فهو في قوة لا المغضوب عليهم ولا الضالين ، أو غير المغضوب عليهم وغير الضالين .
الفائدة الثانية : أن المراد المغايرة الواقعة بين النوعين ، وبين كل نوع بمفرده ، فلو لم يذكر (لا)وقيل : غير المغضوب عليهم والضالين ، أوهم أن المراد ما غاير المجموع المركب من النوعين لا ما غاير كل نوع بمفرده ، فإذا قيل ولا الضالين كان صريحاً في أن المراد صراط غير هؤلاء وغير هؤلاء .
__________
(1) تفسير الطبري حـ1 ص81
(2) تفسير القرطبي حـ1 ص113
(3) تفسير الطبري حـ1 ص84
(4) المحرر الوجيز حـ1 ص78

(2/40)


وبيان ذلك أنك إذا قلت ما قام زيد وعمرو ، فإنما نفيت القيام عنهما ، ولا يلزم من ذلك نفيه عن كل واحد منهما بمفرده .

الفائدة الثالثة : رفع توهم أن الضالين وصف للمغضوب عليهم ، وأنهما صنف واحد وصفوا بالغضب والضلال ، ودخل العطف بينهما كما يدخل في عطف الصفات بعضها على بعض ، نحو قوله تعالى :"قد أفلح المؤمنون (1) الذين هم في صلاتهم خاشعون (2) والذين هم عن اللغو معرضون (3) " [المؤمنون :1-3] ... إلى آخرها فإن هذه صفات المؤمنين ، ومثل قوله :"سبح اسم ربك الأعلى (1) الذي خلق فسوى (2) والذي قدر فهدى (3) [الأعلى : 1-3] ... ونظائره .
فلما دخلت (لا) علم أنهما صنفان متغايران مقصودان بالذكر ، وكانت (لا) أولى بهذا المعنى من (غير) لوجوه :
أحدها : أنها أقل حروفاً . الثاني : التفادي من تكرار اللفظ . الثالث : الثقل الحاصل بالنطق بـ (غير) مرتين من غير فصل إلا بكلمة مفردة ، ولا ريب أنه ثقيل على اللسان . الرابع : أن (لا) إنما يعطف بها بعد النفي ، فالإتيان بها مؤذن بنفس الغضب عن أصحاب الصراط المستقيم ، كما نفى عنهم الضلال ، و(غير) وإن فهمت هذا فـ (لا) أدخل في النفي منها (1).أ هـ
فإن قيل :
لم أتى في أهل الغضب باسم المفعول ، وفي الضالين باسم الفاعل ؟ فجوابهما ظاهر ، فإن أهل الغضب من غضب الله عليهم وأصابهم غضبه ، فهم مغضوب عليهم ، وأما أهل الضلال فإنهم هم الذين ضلوا وآثروا الضلال واكتسبوه ، ولهذا استحقوا العقوبة عليه ، ولا يليق أن يقال : ولا المضلين مبنياً للمفعول ، لما في رائحته من إقامة عذرهم ، وأنهم لم يكتسبوا الضلال من أنفسهم بل فعل فيهم (2) . أ هـ

فائدة
__________
(1) بدائع الفوائد حـ2 ص263 ، 264
(2) بدائع الفوائد حـ2 ص263 بتصرف يسير

(2/41)


الغضب : تغير يحصل عند غليان دم القلب بشهوة الانتقام ، واعلم أن هذا على الله تعالى محال، لكن ههنا قاعدة كلية ، وهي أن جميع الأعراض النفسانية -أعني الرحمة ، الفرح ، والسرور ، والغضب ، والحياء ، والغيرة ، والمكر والخداع ، والتكبر ، والاستهزاء - لها أوائل ، ولها غايات ، ومثاله الغضب فإن أوله غليان دم القلب ، وغايته إرادة إيصال الضرر إلى المغضوب عليه ، فلفظ الغضب في حق الله تعالى لا يحمل على أوله الذي هو غليان دم القلب ، بل على غايته الذي هو إرادة الإضرار ، وأيضاً ، الحياء له أول وهو انكسار يحصل في النفس ، وله غرض وهو ترك الفعل ، فلفظ الحياء في حق الله يحمل على ترك الفعل لا على انكسار النفس ، وهذه قاعدة شريفة في هذا الباب (1) . أ هـ

ما الحكمة في أته تعالى جعل المقبولين طائفة واحدة وهم الذين أنعم الله عليهم ، والمردودين فريقين : المغضوب عليهم ، والضالين ؟
والجواب أن الذين كملت نعم الله عليهم هم الذين جمعوا بين معرفة الحق لذاته والخير لأجل العمل به ، فهؤلاء هم المرادون بقوله : أنعمت عليهم ، فإن اختل قيد العمل فهم الفسقة وهم المغضوب عليهم كما قال تعالى "ومن يقتل مؤمناً متعمداً فجزاؤه جهنم خالداً فيها وغضب الله عليه ولعنه" [النساء :93] وإن اختل قيد العلم فهم الضالون لقوله تعالى :"فماذا بعد الحق إلا الضلال" [يونس :32] وهذا آخر كلامنا في تفسير كل واحدة من آيات هذه السورة على التفصيل ، والله أعلم (2) . أ هـ

( فائدة )
دلت هذه الآية الكريمة على أن المكلفين ثلاث فرق : أهل الطاعة ، وإليهم الإشارة بقوله :أنعمت عليهم وأهل المعصية وإليهم الإشارة بقوله غير المغضوب عليهم ، وأهل الجهل في دين الله والكفر وإليهم الإشارة بقوله ولا الضالين (3) . أ هـ

فائدة في عصمة الأنبياء والملائكة
__________
(1) التفسير الكبير حـ1 ص223
(2) التفسير الكبير حـ1 ص224
(3) التفسير الكبير حـ1 ص223

(2/42)


قوله :"غير المغضوب عليهم ولا الضالين" يدل على أن أحداً من الملائكة والأنبياء عليهم السلام ما أقدم على عمل يخالف قول الذين أنعم الله عليهم ، ولا على اعتقاد الذين أنعم الله عليهم ، لأنه لو صدر عنه ذلك لكان قد ضل عن الحق ، لقوله تعالى :"فماذا بعد الحق إلا الضلال" [يونس :32] ولو كانوا ضالين لما جاز الإقتداء بهم ، ولا الاهتداء بطريقهم ، ولكانوا خارجين عن قوله :"أنعمت عليهم" ولما كان ذلك باطلاً علمنا بهذه الآية عصمة الأنبياء والملائكة عليهم السلام (1) . أ هـ
وتأمل كيف قال : المغضوب عليهم ولا الضالين ، ولم يقل اليهود والنصارى ، مع أنهم هم الموصوفون بذلك تجريداً لوصفهم بالغضب والضلال الذي به غايروا المنعم عليهم ولم يكونوا منهم بسبيل ، لأن الإنعام المطلق ينافي الغضب والضلال ، فلا يثبت لمغضوب عليه ولا لضال ، فتبارك من أودع في كلامه من الأسرار ما يشهد بأنه تنزيل من حكيم حميد (2). أ هـ
لم قدم المغضوب عليهم على الضالين ؟
وأما تقديم المغضوب عليهم على الضالين فلوجوه :
أحدها : أنهم متقدمون عليهم بالزمان .
الثاني : أنهم كانوا الذين يلون النبي –صلى الله عليه وسلم- من أهل الكتابين فإنهم كانوا جيرانه في المدينة ، والنصارى كانت ديارهم نائية عنه ، ولهذا تجد خطاب اليهود والكلام معهم في القرآن الكريم أكثر من خطاب النصارى كما في سورة (البقرة والمائدة وآل عمران) .. وغيرها من السور .
الثالث : أن اليهود أغلظ كفراً من النصارى ، ولهذا كان الغضب أخص بهم واللعنة والعقوبة ، فإن كفرهم عن عناد وبغي كما تقدم فالتحذير من سبيلهم ، والبعد منها أحق وأهم بالتقديم ، وليس عقوبة من جهل كعقوبة من علم.
__________
(1) التفسير الكبير حـ1 ص223
(2) بدائع الفوائد حـ2 ص255،254 بتصريف يسير

(2/43)


الرابع : وأحسنها أنه تقدم ذكر المنعم عليهم والغضب ضد الإنعام ، والسورة هي السبع المثاني التي يذكر فيها الشيء ومقابله ، فذكر المغضوب عليهم مع المنعم عليهم فيه من الازدواج والمقابلة ما ليس في تقديم الضالين ، فقولك : الناس منعم عليه ومغضوب عليه ، فكن من المنعم عليهم أحسن من قولك : منعم عليه وضال (1) . أ هـ
فإن قيل : لم قال (غير المغضوب عليهم) ولم يقل (لا المغضوب عليهم) ؟
قال :"غير المغضوب عليهم" ، ولم يقل (لا المغضوب عليهم) فيقال: لا ريب أن "لا" يعطف بها بعد الإيجاب ، كما تقول : جاءني زيد لا عمرو ، وجاءني العالم لا الجاهل ، وأما (غير) فهي تابع لما قبلها ، وهي صفة ليس إلا .
وإخراج الكلام هنا مخرج الصفة أحسن من إخراجه مخرج العطف ، وهذا إنما يعلم إذا عرف فرق ما بين العطف في هذا الموضع ، والوصف ، فتقول: لو أخرج الكلام مخرج العطف ، وقيل : صراط الذين أنعمت عليهم لا المغضوب عليهم ، لم يكن في العطف بها أكثر من نفي إضافة الصراط إلى المغضوب عليهم ، كما هو مقتضى العطف ، فإنك إذا قلت : جاءني العالم لا الجاهل ، لم يكن في العطف أكثر من نفي المجيء عن الجاهل وإثباته للعالم وأما الإتيان بلفظ (غير) فهي صفة لما قبلها ، فأفاد الكلام معها وصفهم بشيئين :
أحدهما : أنهم منعم عليهم ، والثاني : أنهم غير مغضوب عليهم ، فأفاد ما يفيد العطف مع زيادة الثناء عليهم ومدحهم ، فإنه يتضمن صفتين ثبوتية هي كونهم منعماً عليهم ، وصفة سلبية : وهي كونهم غير مستحقين لوصف الغضب ، وأنهم مغايرون لأهله .
__________
(1) بدائع الفوائد حـ2 ص262 بتصرف يسير

(2/44)


ولهذا لما أريد بها هذا المعنى جرت صفة على المنعم عليهم ، ولم تكن صفة منصوبة على الاستثناء ، لأنه يزول منها معنى الوصفية المقصود ، وفيها فائدة أخرى : وهي أن أهل الكتاب من اليهود والنصارى ادعوا أنهم هم المنعم عليهم دون أهل الإسلام ، فكأنه قيل لهم : المنعم عليهم غيركم لا أنتم ، وقيل للمسلمين المغضوب عليهم غيركم لا أنتم فالإتيان بلفظة غير في هذا السياق أحسن وأدل على إثبات المغايرة المطلوبة ... فتأمله .

آمين

قال الإمام القرطبي – رحمه الله - في تفسيره [ حـ1 ص97] ويسن لقاريء القرآن أن يقول بعد الفراغ من الفاتحة بعد سكتة على النون :"ولا الضالين" آمين ، ليتميز ما هو قرآن مما ليس بقرآن .
ثم قال : ثبت في الأمهات من حديث أبي هريرة أن رسول الله –صلى الله عليه وسلم- قال "إذا أمن الإمام فأمنوا فإنه من وافق تأمينه تأمين الملائكة غفر له ما تقدم من ذنبه" (1) . قال علماؤنا – رحمة الله عليهم – فترتبت المغفرة للذنب على مقدمات أربع ، تضمنها هذا الحديث : الأولى : تأمين الإمام ، الثانية : تأمين من خلقه ، والثالثة : تأمين الملائكة ، الرابعة : موافقة التأمين ؛ قيل في الإجابة ، وقيل في الزمن ، وقيل في الصفة من إخلاص الدعاء . أ هـ .
وقال علي بن أبي طالب – رضي الله عنه – آمين خاتم رب العالمين ، يختم بها دعاء عبده المؤمن (2) . أ هـ .
معنى آمين عند أكثر أهل العلم ( اللهم استجب لنا) ، وضع موضع الدعاء – وفي آمين لغتان المد على وزن فاعيل كياسين . والقصر على وزن يمين(3)
__________
(1) - أخرجه البخاري [747] ، ومسلم [410] ، وأبو داوود [936] ، والترمذي [250] ، والنسائي [927] ، وابن ماجه [851] و [852] ، ومالك [190] وأحمد [7203] ، [9605] وابن أبي شيبة [2/314] وأبو يعلى [5874] وابن خزيمة [750] والبيهقي [2485] من حديث أبي هريرة – رضي الله عنه-
(3) 1– المحرر الوجيز حـ1 صـ79

2- الجامع لأحكام القرآن حـ1 صـ97 – 98 باختصار يسير

(2/45)


.أ هـ .
وقال القشيري – رحمه الله – والتأمين سنة ، ومعناه يارب افعل واستجب ، وكأنه يستدعي بهذه القالة التوفيق للأعمال ، والتحقيق للآمال ، وتحط رجله بساحات الافتقار ، ويناجي حضرة الكرم بلسان الابتهال ، ويتوسل بتبريه عن السؤال والطاقة والمنة والاستطاعة إلى حضرة الجود ، وبأقوى وسيلة للفقير تعلقه بدوام الاستعانة لتحققه بصدق الاستغاثة (1). أ هـ .
__________
(1) - لطائف الإشارات حـ1 صـ52

(2/46)


سورة البقرة
قوله تعالى (الم )
من لطائف فواتح السور
ذكرالآلوسي حـ1/صـ [100] ما نصه :
"وقال الشعبي سر الله تعالى فلا تطلبوه بين المحبين سر ليس يفشيه قول ولا قلم للخلق يحكيه فلا يعرفه بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا الأولياء الورثة فهم يعرفونه من تلك الحضرة وقد تنطق لهم الحروف عما فيها كما كانت تنطق لمن سبح بكفه الحصى وكلمه الضب والظبي صلى الله عليه وسلم "
ثم قال الآلوسى حـ1/ص[103]
وإذا علمت أن هذه الفواتح السر الأعظم والبحر الخضم والنور الأتم صفاء ولا ماء ولطف ولا هواء ونور ولا نار وروح ولا جسم فأعلم أن كل ما ذكر الناس فيها رشفة من بحار معانيها ومن ادعى قصرا فمن قصوره أو زعم أنه أتى بكثير فمن قلة نوره والعارف يقول باندماج جميع ما ذكروه في صدف فوائدها وامتزاج سائر ما سطروه في طمطام فوائدها. انتهى كلامه .
وقال العلامة ابن القيم رحمه الله فى بدائع الفوائد ج: 3 ص: [669]ما نصه
فائدة : السر في حروف (الم ) تأمل سر [الم] كيف اشتملت على هذه الحروف الثلاثة فالألف إذا بدىء بها أولا كانت همزة وهي أول المخارج من أقصى الصدر واللام من وسط مخارج وهي أشد الحروف اعتمادا على اللسان والميم آخر الحروف ومخرجها من الفم وهذه الثلاثة

(3/1)


هي أصول مخارج الحروف أعني الحلق واللسان والشفتين وترتيب في التنزيل من البداية إلى الوسط إلى النهاية فهذه الحروف معتمد المخارج الثلاثة التي تتفرع منها ستة عشر مخرجا فيصير منها تسعة وعشرون حرفا عليها دار كلام الأمم الأولين والآخرين مع تضمنها سرا عجيبا وهو أن اللألف البداية واللام التوسط والميم النهاية فاشتملت الأحرف الثلاثة على البداية والنهاية والواسطة بينهما وكل سورة استفتحت بهذه الأحرف الثلاثة فهي مشتملة على بدء الخلق ونهايته وتوسطه فمشتملة على تخليق العالم وغايته وعلى التوسط بين البداية والنهاية من التشريع والأوامر فتأمل ذلك في [البقرة وآل عمران وتنزيل السجدة وسورة الروم] وتأمل اقتران الطاء بالسين والهاء في القرآن فإن الطاء جمعت من صفات الحروف خمس صفات لم يجمعها غيرها وهي الجهر والشدة والاستعلاء والإطباق والسين مهموس رخو مستفل صفيري منفتح فلا يمكن أن يجمع إلى الطاء حرف يقابلها كالسين والهاء فذكر الحرفين اللذين جمعا صفات الحروف وتأمل السور التي اشتملت على الحروف المفردة كيف تجد السورة مبنية على كلمة ذلك الحرف فمن ذلك [ق] والسورة مبنية على الكلمات القافية من ذكر القرآن وذكر الخلق وتكرير القول ومراجعته مرارا والقرب من ابن آدم وتلقي الملكين قول العبد وذكر الرقيب وذكر السائق والقرين والإلقاء في جهنم والتقدم بالوعيد وذكر المتقين وذكر القلب والقرون والتنقيب في البلاد وذكر القيل مرتين وتشقق الأرض وإلقاء الرواسي فيها وبسوق النخل والرزق وذكر القوم وحقوق الوعيد ولو لم يكن إلا تكرار القول والمحاورة وسر آخر وهو أن كل معاني هذه السورة مناسبة لما في حرف القاف من الشدة والجهر والعلو والانفتاح وإذا أردت زياة إيضاح هذا فتأمل ما اشتملت عليه سورة [ص] من الخصومات المتعددة فأولها خصومة الكفار مع النبي (أجعل الآلهة إلها واحدا) إلى آخر كلامهم ثم اختصام الخصمين عند داود ثم تخاصم أهل النار ثم

(3/2)


اختصم الملأ الأعلى في العلم وهو الدرجات والكفارات ثم مخاصمة إبليس واعتراضه على ربه في أمره بالسجود لآدم ثم خصامه ثانيا في شأن بنيه حلفه ليغوينهم أجمعين إلا أهل الإخلاص منهم فليتأمل اللبيب الفطن هل يليق بهذه السورة غير [ ص ] وسورة [ ق ] غير حرفها وهذه قطرة من بحر من بعض أسرار هذه الحروف والله أعلم . انتهى كلامه. وسيأتى تفصيل ذلك إن شاء الله فى فاتحة سورة [الأعراف].
قوله تعالى(ذلك الكتاب)
سؤال : لقائل أن يقول : المشار إليه ها هنا حاضر ، ذلك اسم مبهم يشار به إلى البعيد ؟
قال الفخر الرازي – رحمه لله – [ حـ2 ص 259 : 260 ].
والجواب من وجهين : الأول : لا نسلم أن المشار إليه حاضر وبيانه من وجوه أحدهما : ما قاله الأصم وهو أن الله تعالي أنزل الكتاب بعضه بعد بعض فنزل قبل سورة البقرة سور كثيرة ، وهي كل ما نزل بمكة ، فقوله " ذلك " إشارة إلى تلك السور التي نزلت قبل سورة البقرة وقد يسمى بعض القرآن قرآناً قال الله تعالي " وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له " {الأعراف : 204 } وقال حاكيا عن الجن " إنا سمعنا قرآناً عجباً } { الجن : 1 } وقوله إنا سمعنا كتاباً أنزل من بعد موسي " {الأحقاف : 30 } وهم ما سمعوا إلا بعضه وهو الذي كان قد نزل إلى ذلك الوقت ومنها أنه وقعت الإشارة بذلك إلى " ألم " بعد ما سبق التكلم به وانقضى والمنقضي فى حكم المتباعد .
ومنها : أنه لما وصل من المرسل إلى المرسل إليه وقع فى حد البعد كما تقول لصاحبك وقد اعطيته شيئاً : احتفظ بذلك .
ومنها أن القرآن لما اشتمل على حكم عظيمة وعلوم كثيرة يتعسر إطلاع القوة البشرية عليها بأسرها والقرآن وإن كان حاضراً نظراً إلى صورته لكنه غائب نظراً إلى أسراره وحقائقه فجاز أن يشار إليه كما يشار إلى البعيد وأما الوجه الثاني فهو: سلمنا أن المشار إليه حاضر لكن لا نسلم أن لفظة ذلك لا يشار بها إلا إلى البعيد.

(3/3)


وبيان ذلك أن هذا وذلك قد يستعمل أحدهما في موضع الآخر قال تعالي " واذكر عبادنا إبراهيم وإسحاق و يعقوب – إلى قوله – وكل من الأخيار " ص: 45 : 48 " ثم قال : " هذا ذكر وقال " وعندهم قاصرات الطرف أتراب هذا ما توعدون ليوم الحساب " ص 52 – 53 " وقال : " وجاءت سكرة الموت بالحق ذلك ما كنت منه تحيد " { ق : 19 } وقال : " فأخذه الله نكال الآخرة والأولى إن في ذلك لعبرة لمن يخشى " [ النازعات : 26 ] وقال " وما تلك بيمينك يا موسي" { طه:17 } أي ما هذه التى بيمينك(1).أهـ
وقال أبو السعود ـ رحمه الله ـ ما نصه : " ذلك " ذا اسم إشارة و اللام عماد جيء به للدلالة على بعد المشار إليه والكاف للخطاب و المشار إليه هو المسمي ، فإنه منزل منزلة المشاهد بالحس البصري وما فيه من معني البعد مع قرب العهد بالمشار إليه للإيذان بعلو شأنه وكونه في الغاية القاصية من الفضل والشرف(2) . أهـ .
وقال القاسمي : " قال بعض المحققين : اختصاص ذلك بالإشارة للبعيد حكم عرفي لا وضعي ، فإن العرب تعارض بين اسمي الإشارة فيستعملون كلا منهما مكان الآخر وهذا معروف في كلا مهم ، وفي التنزيل من ذلك آيات كثيرة (3). أهـ
سؤال : لقائل أن يقول : لم ذكر اسم الإشارة والمشار إليه مؤنث وهو سورة ؟
الجواب : لا نسلم أن المشار غليه مؤنث ، لأن المؤنث إما المسمي أو الاسم والأول باطل ، لأن المسمي هو ذلك البعض من القرآن وهو ليس بمؤنث ، وأما الاسم فهو ألم وهو ليس بمؤنث نعم ذلك المسمى له اسم آخر وهو السورة وهو مؤنث و لكن المذكور السابق هو الاسم الذي ليس بمؤنث وهو " ألم " لا الذي هو مؤنث و هو السورة (4) . أهـ
__________
(1) - التفسير الكبير حـ2 – صـ259 – 260 – بتصرف يسير
(2) - تفسير أبي السعود حـ1 – صـ23
(3) - تفسير القاسمي حـ2 – صـ269
(4) - التفسير الكبير حـ2 – صـ260

(3/4)


سؤال : فإن قلت أخبرني عن تأليف " ذلك الكتاب " قلت : إن جعلت " ألم " اسماً للسورة ففي التأليف وجوه : أن يكون " ألم " مبتدأ أو " ذلك " مبتدأ ثانياً و" الكتاب " خبره والجملة خبر المبتدأ الأول ومعناه : أن ذلك الكتاب هو الكامل ، وكأن ما عداه من الكتب في مقابلته ناقص ، وانه يستأهل أن يسمى كتاباً كما تقول : " هو الرجل أي الكامل في الرجولة ، الجامع لما يكون في الرجال من مرضيات الخصال . والوجه الثاني : أن يكون الكتاب صفة ومعناه هو ذلك الكتاب الموعود (1). أهـ
" لا ريب فيه "
قال ابن الجوزي - رحمه الله - : " واختلف العلماء في معني هذه الآية علي ثلاثة أقوال أحدها : إن ظاهر النفي و معناه النهي ، وتقديرها لا ينبغي لأحد أن يرتاب فيه لإتقانه وإحكامه ، ومثله " ما كان لنا أن نشرك بالله من شيء " { يوسف : 38 } .
أي ما ينبغي لنا ومثله : " فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج " { البقرة : 196 }
والثاني : أن معناه لا ريب فيه أنه هدي للمتقين .
والثالث : أن معناه لا ريب فيه أنه من عند الله (2) أهـ
وقال الإمام الفخر (3)- رحمه الله - : " الريب " قريب من الشك وفيه زيادة كأنه ظن السوء تقول : " رابني أمر فلان إذا ظننت به سوءً " .
فقوله تعالي : " لا ريب فيه " نفي كونه مظنة للريب بوجه من الوجوه والمقصود أنه لا شبهة في صحته ، ولا في كونه من عند الله ولا في كونه معجزاً . أهـ
سؤال : فإن قيل كيف قال : " لا ريب فيه " على سبيل الاستغراق وكم من ضال قد ارتاب فيه ؟ ويؤيد ذلك قوله تعالى " وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا.
{البقرة :23}وقوله "وارتابت قلوبهم فهم في ريبهم يترددون" {التوبة :45}
وقوله : "بل هم في شك يلعبون" {الدخان :9}
__________
(1) - الكشاف حـ1 - صـ42 - 43 - باختصار يسير
(2) 1 - زاد المسير حـ2 - صـ22
(3) - التفسير الكبير حـ2 - صـ265

(3/5)


والجواب كما ذكره الإمام الفخر(1) رحمه الله- أنه بلغ في الوضوح إلى حيث لا ينبغي لمرتاب أن يرتاب فيه ، والأمر كذلك ،لأن العرب مع بلوغهم في الفصاحة إلى النهاية عجزوا عن معارضة أقصر سورة من القران ،وذلك يشهد بأنه بلغت هذه الحجة في الظهور إلى حيث لا يجوز للعاقل أن يرتاب فيه أهـ
وقال أبو السعود رحمه الله –"ومعنى نفيه عن الكتاب أنه في علو الشأن وسطوع البرهان بحيث ليس فيه مظنة أن يرتاب في حقيقته وكونه وحيا منزلا من عند الله تعالى لأنه يرتاب فيه أحد أصلا ,ألا ترى كيف جوز ذلك في قوله تعالى :" وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا "فإنه من قوة أن يقال : وإن كان لكم ريب فيما نزلنا ,أو إن ارتبتم فيما نزلنا . الخ إلا أنه خولف في الأسلوب حيث فرض كونه في الريب لا كون الريب فيه لزيادة تنزيه ساحة التنزيل عنه مع نوع إشعار بأن ذلك من جهتهم لا من جهته العالية(2).أهـ
وقال ابن جزي (3) – رحمه الله -:إن المراد لا شك أنه من عند الله في نفس الأمر في اعتقاد أهل الحق ولم يعتبر أهل الباطل .اهـ
وقال محمد بن أبي بكر الرازي(4) في قوله تعالى "لا ريب فيه "أي لا ريب فيه عند الله ورسوله والمؤمنين .
أو نفي معناه النهي أي لا ترتابوا فيه؛إنه من عند الله و نظيره قوله تعالى "وأن الساعة آتية لا ريب فيها "{الحج :7}.
__________
(1) - التفسير الكبير حـ2 – صـ 266
(2) - تفسير أبي السعود حـ1 – صـ25
(3) - التسهيل – حـ1 – صـ35
(4) - ولم يعتبر أهل الباطل لأنهم لا قدر لهم ولاوزن ، فالفاسق لا تقبل شهادته ولا يعتبر قوله ، والكافر أولى بذلك ، وكل كلمة في القرآن ، بل كل حرف فيه يحمل دليلاً على نزوله من عند الله ، وأنه لا يتطرق إليه الشك فضلاً عن أن يقع فيه وهذا عند المؤمنين وعند المنصفين من العقلاء فضلاً عن الفضلاء ، ولا عبرة بأهل الضلال فهم أموات غير أحياء - تفسير الرازي صـ21

(3/6)


وقال الشيخ الشنقيطي رحمه الله في كتابه [ دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب صـ 7 ] ما نصه :
إن القران بالغ من وضوح الأدله وظهور المعجزة ما ينفي تطرق أي ريب إليه, وريب الكفار فيه إنما هو لعمي أبصارهم كما بينه تعالى بقوله "أفمن يعلم أنما أنزل إليك من ربك الحق كمن هو أعمى"{الرعد :19 }
فصرح بأن من لا يعلم أنه الحق أن ذلك إنما جاءه من قبل عماه ومعلوم أن عدم رؤية الأعمى للشمس لا ينافي كونها لا ريب فيها لظهورها.

إذا لم يكن للمرء عين صحيحة… فلا غر أن يرتاب والصبح مسفر أهـ

وقال ابن الجوزي(1) :فان قيل :فقد ارتاب فيه قوم , فالجواب :انه حق في نفسه فمن حقق النظر علم قال الشاعر :
ليس في الحق يا أمامه ريب ……إنما الريب ما يقول الكذوب أهـ

وأجاب فى تنوير الأذهان بقوله :
إن هذا نفى الريب عن الكتاب لاعن الناس ، والكتاب موصوف بأنه لا يتمكن فيه ريب فهو حق صدق معلوم ومفهوم ــ شك فيه الناس او لم يشكوا ــ كالصدق صدق فى نفسه وإن وصفه الناس بالكذب ، والكذب كذب وإن وصفه الناس بالصدق ، فكذا الكتاب ليس مما يلحقه ريب او يتمكن فيه عيب. أهـ { تنوير الأذهان حـ1 صـ 18}

سؤال :فان قيل لم قال ها هنا :"لا ريب فيه "وفي موضع آخر :"لا فيها غول" {الصافات :47} أي فهلا قدم الظرف على الريب كما قدم الغول ؟
وأجاب عنه الفخر الرازي بقوله : لأتهم يقدمون الأهم فالأهم وها هنا الأهم نفي الريب بالكلية عن الكتاب ولو قلت لا فيه ريب لأوهم أن هناك كتاباً أخر حصل الريب فيه لا ها هنا كما قصد في قوله, :"لا فيها غول " تفضيل خمر الجنة على خمور الدنيا , فإنها لا تغتال العقول كما تغتالها خمرة الدنيا(2).أهـ
__________
(1) - زاد المسير حـ1 – صـ22
(2) - التفسير الكبير حـ2 – صـ266

(3/7)


فائدة :.قال السعدي (1)– رحمه الله -:ونفى الريب عنه يستلزم ضده , إذ ضد الريب والشك اليقين , فهذه الكتاب مشتمل على اليقين المزيل للشك والريب ,وهذه قاعدة مفيدة أن النفي المقصود به المدح ولابد أن يكون متضمنا لضده , وهو الكمال ,لأن النفي عدم , والعدم المحصن لا مدح فيه فلما اشتمل على اليقين و كانت الهداية لا تحصل إلا باليقين قال : " هدي للمتقين. أهـ
الفرق بين الريب و الشك
قال الألوسي : " وبعض فرق بين " الريب والشك " بأن الريب شك مع تهمته وقال الراغب : الشك وقوع النفس بين شيئين متقابلين بحيث لا يرجح أحدهما على الآخر بأمارة ثم قال : " ولذا حسن هنا لا ريب للإشارة إلى انه لا يحصل فيه ريب فضلاً عن الشك " ونفي سبحانه الريب فيه مع كثرة المرتابين – لا كثرهم – الله تعالى على معني أنه في علو الشأن ، وسطوع البرهان بحيث لا يرتاب العاقل بعد النظر في كونه وحياً من عند الله(2). أهـ
" هدي للمتقين "
سؤال : " فإن قلت : فلم قال " هدى للمتقين " و المتقون مهتدون ؟
قلت : هو قولك للعزيز المكرم أعزك الله وأكرمك تريد طلب الزيادة إلى ما هو ثابت فيه واستدامته كقوله : " اهدنا الصراط المستقيم " ووجه آخر وهو أنه سماهم عند مشارفتهم لاكتساء لباس التقوى متقين كقول رسول الله – صلى الله عليه وسلم - : " من قتل قتيلاً فله سلبه " وعن ابن عباس : " إن أراد أحدكم الحج فليعجل فإنه يمرض المريض وتضل الضلالة وتكون الحاجة"
فسمي المشارف للقتل والمرض والضلال، قتيلاً ومريضاً وضالاً ومنه قوله تعالي : " ولا يلدوا إلا فاجراً كفاراً " { نوح : 27 } أي صائراً إلى الفجور والكفر (3) أهـ

وأجاب صاحب الأمثل عن هذا السؤال قائلا :
واضح أن القرآن هداية للبشرية جمعاء، فلماذا خصت الآية الكريمة المتقين بهذه الهداية؟
__________
(1) - تفسير للسعدي – صـ34
(2) - روح المعاني حـ-1 – ص106
(3) 2- الكشاف حـ1 – صـ 44 - 45

(3/8)


السبب هو أن الإنسان لا يتقبل هداية الكتب السماوية ودعوة الأنبياء، مالم يصل إلى مرحلة معينة من التقوى (مرحلة التسليم أمام الحق وقبول ما ينطبق مع العقل والفطرة).
وبعبارة اُخرى: الأفراد الفاقدون للإِيمان على قسمين:
قسم يبحث عن الحق، ويحمل مقداراً من التقوى يدفعه لأن يقبل الحق أنّى وجده.
وقسم لجوج متعصب قد استفحلت فيه الأهواء، لا يبحث عن الحق، بل يسعى في إطفاء نوره حيثما وجده.
ومن المسلم به أن أفراد القسم الأول هم الذين يستفيدون من القرآن أو أيّ كتاب سماوي آخر، أما القسم الثاني فلا حظّ لهم في ذلك. أهـ [ الأمثل فى تفسير الكتاب المنزل للشيرازى حـ1 صـ96 ]
سؤال فإن قيل لم حذف المعمول فلم يقل : " هدى للمصلحة الفلانية ولا للشيء الفلاني ؟
فالجواب : لإرادة العموم ، وانه هدى لجميع مصالح الدارين(1) . أهـ سؤال : فإن قلت : فهلا قيل : هدى للضالين : قلت : لأن الضالين فريقان فريق علم بقاؤهم على الضلالة وهم المطبوع علي قلوبهم و فريق علم أن مصيرهم إلى الهدى فلا يكون هدى للفريقين الباقيين على الضلالة فبقي أن يكون هدى لهؤلاء و أيضاً فقد جعل ذلك سلماً إلى تصدير السورة التي هي أول الزهراوين و سنام القرآن و أول المثاني بذكر أولياء الله والمرتضين من عباده(2) . أهـ
__________
(1) 3- تفسير السعدي - صـ34
(2) - الكشاف حـ1 - صـ45 باختصار يسير

(3/9)


وقال السعدي (1) - رحمه الله - : " وقال في موضع آخر " هدي للناس " فعم و في هذا الموضع و غيره " هدى للمتقين " لأنه في نفسه هدي لجميع الخلق فالأشقياء لم يرفعوا به رأساً و لم يقبلوا هدى الله ، فقامت عليهم به الحجة و لم ينتفعوا به لشقائهم و أما المتقون الذين أتوا بالسبب الأكبر لحصول الهداية وهو التقوي التي حقيقتها اتخاذ ما يقي سخط الله وعذابه بامتثال أوامره واجتناب نواهيه فاهتدوا به وانتفعوا غاية الانتفاع قال تعالي : " يأيها الذين آمنوا إن تتقوا الله يجعل لكم فرقاناً " {الأنفال:29} فالمتقون هم المنتفعون بالآيات القرآنية والآيات الكونية ولأن الهداية نوعان : هداية البيان وهداية التوفيق فالمتقون حصلت لهم الهدايتان و غيرهم لم تحصل لهم هداية التوفيق وهداية البيان بدون توفيق للعمل بها ليست هداية حقيقية تامة. أهـ
سؤال : فإن قيل : فيه بيان لجميع الناس فكيف أضاف إلى المتقين خاصة ؟
والجواب : لأن المتقين هم الذين ينتفعون بالبيان ويعملون به . أهـ
وقال البغوي [ حـ1 صـ59 ] : " وتخصيص المتقين بالذكر تشريف لهم أو لأنهم المنتفون بالهدي . أهـ
وقال أبو السعود(2) : " للمتقين " أي المتصفين بالتقوى حالاً أو مآلا وتخصيص الهدي بهم لما أنهم المقتبسون من أنواره المنتفعون بآثاره . أهـ
وقيل : إنما صاروا مهتدين بما استفادوا به من الهدي أو إنه ثبات لهم على الهدي وزيادة فيه أو خصهم بالذكر لأنهم هم الفائزون بمنافعه حيث قبلوه واتبعوه كقوله " إنما أنت منذر من يخشاها " { النازعات : 45 } أو أراد الفريقين واقتصر على أحدهما كقوله تعالي : " سرابيل تقيهم الحر " { النحل : 81 } أي والبرد(3) . أهـ
__________
(1) - تفسير السعدي صـ34
(2) - تفسير أبو السعود حـ1 - صـ27
(3) - تفسير الرازي صـ21

(3/10)


فائدة في معاني التقوى في القرآن
جاءت التقوى في القرآن والغرض منها الإيمان تارة والتوبة تارة أخرى والطاعة ثالثة وترك المعصية رابعاً والإخلاص خامساً .
أما الإيمان : فقوله تعالي : " وألزمهم كلمة التقوى " { الفتح : 26 } أي التوحيد " أولئك الذين امتحن الله قلوبهم للتقوى " { الحجرات : 3 } وأما التوبة فقوله : " ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا " { الأعراف : 96 } أي تابوا .
وأما الطاعة فقوله في النحل : " أن أنذروا أنه لا إله إلا أنا فاتقون " { النحل : 2 } وأيضاً : " أفغير الله تتقون " { النحل : 52 }
وأما ترك المعصية فقوله في الحج : " فإنها من تقوى القلوب " {الحج : 32} أي من إخلاص القلوب ، هكذا قوله " وإياي فاتقون "(1) { البقرة : 41} أهـ
لطائف في التقوى
قال الحسن : التقوى أن لا تختار على الله سوي الله ، وتعلم أن الأمور كلها بيد الله وقال إبراهيم بن آدهم التقوى أن لا يجد الخلق في لسانك عيباً ولا في الملائكة في أفعالك عيباً ولا ملك العرش في سرك عيباً .
ولو لم يكن للمتقي فضيلة إلا في قوله تعالي : " هدي للمتقين " كفاه لأنه تعالي بين أن القرآن هدي للناس في قوله تعالي : " شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدي للناس " [البقرة :185 ]
ثم قال ها هنا في القرآن : هدي للمتقين فهذا يدل على أن المتقين هم كل الناس فمن لا يكون متقياً كأنه ليس بإنسان (2) أهـ .
الفرق بين التقوى و الورع
التقوى اخذ عدة والورع دفع شبهة فالتقوى محققة السبب والورع مظنون السبب. أهـ .
__________
(1) - التفسير الكبير حـ2 - صـ267 - بتصرف يسير
(2) - التفسير الكبير حـ - صـ268 - بتصرف يسير

(3/11)


فصل في التقوى والبواعث عليها ودرجاتهاوفضائلها المستنبطة من القرآن وهي خمس عشرة : الهدي كقوله : " هدي للمتقين " والفطرة لقوله : " إن الله مع الذين اتقوا " { النحل : 128 } والولاية لقوله : " والله ولى المتقين " { الجاثية : 19 } والمحبة لقوله : " إن الله يحب المتقين " { التوبة : 7 } والمغفرة لقوله : " إن تتقوا الله يجعل لكم فرقاناً " { الأنفال : 29 } والمخرج من الغم والرزق من حيث لا تحتسب لقوله " ومن يتق الله يجعل له مخرجاً " { الطلاق : 4 } وتيسير الأمور : " ومن يتق الله يجعل له من أمره يسرا " { الطلاق : 4 } وغفران الذنوب وإعظام الأجور لقوله " ومن يتق الله يكفر عنه سيئاته ويعظم له أجرا " وتقبل الأعمال : " إنما يتقبل الله من المتقين " { المائدة : 27 } والفلاح لقوله : " واتقوا الله لعلكم تفلحون " { البقرة : 189 } والبشرى لقوله " لهم البشري في الحياة الدنيا وفي الآخرة " { يونس : 64 } ودخول الجنة لقوله : " إن للمتقين عند ربه جنات النعيم " { القلم : 34 } والنجاة من النار لقوله : " ثم تنجي الذين اتقوا " { مريم : 72 ]

البواعث على التقوى عشرة : خوف العقاب الأخروي . وخوف العقاب الدنيوي ، رجاء الثواب الدنيوي ، رجاء الثواب الأخروي ، خوف الحساب ، الحياء من نظر الله ، وهو مقام المراقبة ، الشكر على نعمه بطاعته ، والعلم لقوله : " إنما يخشي الله من عباده العلماء " [فاطر : 28 } وتعظيم جلال الله ، وهو مقام الهيبة ، وصدق المحبة لقول القائل :-
تعصى الإله و أنت تظهر حبه …هذا لعمري في القياس بديع
لو كان حبك صادقاً لأطعته…إن المحب لمن يحب مطيع
ولله در القائل :
قالت و قد سألت عن حال عاشقها… لله صفة و لا تنقص و لا تزد
فقلت لو كان يطن الموت من ظمإ وقلت قف ورود الماء لم يرد

(3/12)


* درجات التقوى خمس : أن يتقي العبد الكفر ، وذلك مقام الإسلام ، وأن يتقي المعاصي ، والحرمات ، وهو مقام التوبة ، وأن يتقي الشبهات ، وهو مقام الورع ، وأن يتقي المباحات وهو مقام الزهد وأن يتقي حضور غير الله على قلبه وهو مقام المشاهدة (1). أهـ.
وقال أبو السعود :
والمتقي اسم فاعل من باب الافتعال من الوقاية وهي فرط الصيانة والتقوى في عرف الشرع عبارة عن كمال التوقي عما يضره في الآخرة قال عليه السلام جماع التقوى في قوله :" إن الله يأمر بالعدل والإحسان "{النحل :90 } الآية وعن عمر بن عبد العزيز أنه ترك ما حرم الله وأداء ما فرض الله وعن شهر بن حوشب المتقي من يترك مالا بأس به حذراً من الوقوع فيما فيه بأس وعن أبي يزيد أن التقوى هي التورع عن كل ما فيه شبهة وعن محمد بن حنيف أنه مجانبة كل ما يبعدك عن الله تعالي وعن سهل المتقي كل من تبرأ عن حوله وقدرته وقيل التقوى أن لا يراك الله حيث نهاك ولا يفقدك حيث أمرك وعن ميمون بن مهران لا يكون الرجل تقياً حتى يكون أشد محاسبة لنفسه من الشريك الشحيح والسلطان الجائر وعن أبي تراب بين يدي التقوى خمس عقبات لا يناله من يجاوزهن إيثار الشدة على النعمة وإيثار الضعف على القوة وإيثار الذل على العزة ، وإيثار الجهد على الراحة وإيثار الموت على الحياة وعن بعض الحكماء أنه لا يبلغ الرجل سنام التقوى إلا أن يكون بحيث لو جعل ما في قلبه في طبق فطيف به في السوق لم يستح ممن ينظر إليه وقيل التقوى أن نزين سرك للحق كما تزين علانيتك للخلق والتحقيق أن للتقوى ثلاث مراتب : الأولى التوقي عن العذاب المخلد بالتبروء عن الكفر وعليه قوله تعالي " وألزمهم كلمة التقوى " والثانية التجنب عن كل ما يؤثم من فعل أو ترك حتى السائر عند قوم وهو المتعارف بالتقوى في الشرع وهو المعنى بقوله تعالي : " ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا " ، المأمورية في قوله : " يا أيها الذين
__________
(1) - التسهيل حـ1 - صـ35 ، 36

(3/13)


آمنوا اتقوا الله حق تقاته " ولهذه المرتبة عرض عريض يتفاوت طبقات أصحابها حسب تفاوت درجات استعداداتهم الفائضة عليهم بموجب المشيئة الإلهية المبنية على الحكم الأبية أقصاها ما انتهي إليه همم الأنبياء عليهم السلام حيث جمعوا بذلك بين رياستي النبوة والولاية وما عاقهم التعلق بعالم الأشباح عن العروج إلى معالم الأرواح ولم يصدهم الملابسة بمصالح الخلق عن الاستغراق في شئون الحق لكمال استعداد نفوسهم الزكيةالمؤيدة بالقوة القدسية وهداية الكتاب المبين شاملة لأرباب هذه المراتب أجمعين (1). أهـ
ومن لطائف قوله : " هدى للمتقين "
ما نقله السيوطي - رحمه الله - في الدرر المنثور بقوله :
" كتب رجل إلى عبد الله بن الزبير بموعظة أما بعد ؛ فإن لأهل التقوى علامات يعرفون بها ، و يعرفونها من أنفسهم من صبر على البلاء ، ورضي بالقضاء ، وشكر على النعماء وذل لحكم القرآن .
وأخرج ابن أبي الدنيا عن ابن المبارك قال : قال داود لابنه سليمان - عليهما السلام - " يا بني إنما يستدل على تقوي الرجل بثلاث أشياء : لحسن توكله على الله فيما نابه ، و لحسن رضاه فيما آتاه ، و لحسن زهده فيما فاته ، وأخرج ابن أبي الدنيا عن مالك بن دينار قال : " القيامة عرس المتقين " (2). أهـ
قوله تعالى [ويقيمون الصلاة]
قال فى زاد المسير حـ1ص25 ما نصه :
الصلاة في اللغة الدعاء وفي الشريعة أفعال وأقوال على صفات مخصوصة وفي تسميتها بالصلاة ثلاثة أقوال
أحدها أنها سميت بذلك لرفع الصلا وهو مغرز الذنب من الفرس
والثاني أنها من صليت العود إذا لينته فالمصلي يلين ويخشع
والثالث أنها مبنية على السؤال والدعاء والصلاة في اللغة الدعاء وهي في هذا المكان اسم جنس
قال مقاتل أراد بها هاهنا الصلوات الخمس
وفي معنى إقامتها ثلاثة أقوال
أحدها أنه تمام فعلها على الوجه المأمور به روي عن ابن عباس ومجاهد
__________
(1) - تفسير أبي السعود حـ1 - صـ27 ، 28
(2) - الدر المنثور حـ1 - صـ62

(3/14)


والثاني أنه المحافظة على مواقيتها ووضوئها وركوعها وسجودها قاله قتادة ومقاتل
والثالث إدامتها والعرب تقول في الشيء الراتب قائم وفلان يقيم أرزاق الجند قاله ابن كيسان انتهى كلامه رحمه الله .
"موعظة"
اعلموا - إخواني - أن الله عز وجل قد قدر الصلوات وقدمها على غيرها من العبادات وإنما يحافظ عليها من يعرف قدرها ويرجو أجرها ويخاف العقاب على تركها وهذه صفة المؤمن وإنما يتوانى عنها ناقص الإيمان إن تكاسل وكافر إن تهاون
قد روى مسلم في صحيحه من حديث جابر عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أنه قال : [ بين العبد وبين الكفر ترك الصلاة ]
وروى في صحيحه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : [ عليك بكثرة السجود فإنك لا تسجد لله سجدة إلا رفعك الله بها درجة وحط عنك بها خطيئة ]
وروى أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : [ جعلت قرة عيني في الصلاة ]
وقد كان لله عز وجل عباد يحبون خدمته لشدة محبتهم إياه فيحضرون في الصلاة قلوبهم ويجمعون لأدائها هممهم
وروى عن ابن الزبير أنه كان إذ قام في الصلاة فكأنه عود من الخشوع وكان يسجد فتنزل العصافير على ظهره لا تحسبه إلا جزعا أو حائطا أو وجه حجر أو رحل فدقه وهو في الصلاة فذهبت ببعض ثوبه فما التفت وكان إذا دخل بيته سكت أهل البيت فإذا قام إلى الصلاة تحدثوا وضحكوا
واعلموا - إخواني - أن من أحب المخدوم أحب الخدمة له لو عرف العبد من يناجي لم يقبل على غيره والصلاة صلة بين العبد وبين ربه
الستر الأول : الأذان كالإذن في الدخول
وستر التقريب الإقامة : فإذا كشف ذلك الغطاء لاح للمتقي قرة العين فدخل في دائرة دار المناجاة [ أرحنا بها يا بلال ] فقد [ جعلت قرة عيني في الصلاة ] اكشف يا بلال ستر التقريب عن الحبيب
يا بطال : لو سافرت بلدا لم تربح فيه حزنت على فوات [ ربحك ] وضياع وقتك أفلا يبكي من دخل في الصلاة على قرة العين ثم خرج بغير فائدة
يصلي فيرسلها كالطيور إذا أرسلت من حصار القفص

(3/15)


يقوم ويقعد مستعجلا كمثل الطروب إذا ما رقص
إخواني : لا تقنعوا بالحركات فإن الله لا ينظر إلى صوركم
يا هذا : إنما يصاد الطائر بمحبوبه من الحب ومحبوب القلب الطاهر ذكر الله عز وجل فحرام على قلبك الحائم حول جيف الهوى ألق له حب الذكر على فخ الصدق في حديقة الصور لعله يقع في شبكة المعرفة انتهى الياقوتة لابن الجوزى حـ1ص133 .… من لطائف الإمام الفخرالرازى ـ رحمه الله ـ ( الصلاة معراج العارفين )
من لطائف الإمام الفخر الرازى اعلم أنه كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم معراجان : أحدهما من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى والآخر من الأقصى إلى أعالي ملكوت الله تعالى فهذا ما يتعلق بالظاهر وأما ما يتعلق بعالم الأرواح فله معراجان : أحدهما : من عالم الشهادة إلى عالم الغيب . والثاني : من عالم الغيب إلى عالم غيب الغيب وهما بمنزلة قاب قوسين متلاصقين فتخطاهما محمد عليه السلام وهو المراد من قوله تعالى : { فكان قاب قوسين أو أدنى } [ النجم : 9 ] وقوله أو أدنى إشارة إلى فنائه في نفسه أما الانتقال من عالم الشهادة إلى عالم الغيب فاعلم أن كل ما يتعلق بالجسم والجسمانيات فهو من عالم الشهادة لأنك تشاهد هذه الأشياء ببصرك فانتقال الروح من عالم الأجساد إلى عالم الأرواح هو السفر من عالم الشهادة إلى عالم الغيب وأما عالم الأرواح فعالم لا نهاية له وذلك لأن آخر مراتب الأرواح هو الأرواح البشرية ثم تترقى في معارج الكمالات ومصاعد السعادات حتى تصل إلى الأرواح المتعلقة بسماء الدنيا ثم تصير أعلى وهي أرواح السماء الثانية وهكذا حتى تصل إلى الأرواح الذين هم سكان درجات الكرسي وهي أيضا متفاوتة في الاستعلاء ثم تصير أعلى وهم الملائكة المشار إليهم بقوله تعالى : { وترى الملائكة حافين من حول العرش } [ الزمر : 75] ثم تصير أعلى وأعظم وهم المشار إليهم بقوله تعالى : { ويحمل عرش ربك فوقهم يومئذ ثمانية }

(3/16)


[ الحاقة : 17 ] وفي عدد الثمانية أسرار لا يجوز ذكرها ههنا ثم تترقى فتنتهي إلى الأرواح المقدسة عن التعلقات بالأجسام وهم الذين طعامهم ذكر الله وشرابهم محبة الله وأنسهم بالثناء على الله ولذتهم في خدمة الله وإليهم الإشارة بقوله : { ومن عنده لا يستكبرون عن عبادته } وبقوله : { يسبحون الليل والنهار لا يفترون } [ الأنبياء : 20 ] ثم لهم أيضا درجات متفاوتة ومراتب متباعدة والعقول البشرية قاصرة عن الإحاطة بأحوالها والوقوف على شرح صفاتها ولا يزال هذا الترقي والتصاعد حاصلا كما قال تعالى { وفوق كل ذي علم عليم } [ يوسف : 76] إلى أن ينتهي الأمر إلى نور الأنوار ومسبب الأسباب ومبدأ الكل وينبوع الرحمة ومبدأ الخير وهو الله تعالى فثبت أن عالم الأرواح هو عالم الغيب وحضرة جلال الربوبية هي غيب الغيب ولذلك قال عليه الصلاة والسلام إن لله سبعين حجابا من النور لو كشفها

(3/17)


لأحرقت سبحات وجهه كل ما أدرك البصر وتقدير عدد تلك الحجب بالسبعين مما لا يعرف إلا بنور النبوة . فقد ظهر بما ذكرنا أن المعراج على قسمين : أولهما : المعراج من عالم الشهادة إلى عالم الغيب والثاني : المعراج من عالم الغيب إلى عالم غيب الغيب وهذه كلمات برهانية يقينية حقيقية . إذا عرفت هذا فلنرجع إلى المقصود فنقول : إن محمدا عليه السلام لما وصل إلى المعراج وأراد أن يرجع قال : يا رب العزة إن المسافر إذا أراد أن يعود إلى وطنه احتاج إلى محمولات يتحف بها أصحابه وأحبابه فقيل له : إن تحفة أمتك الصلاة وذلك لأنها جامعة بين المعراج الجسماني وبين المعراج الروحاني : أما الجسماني فبالأفعال وأما الروحاني فبالأذكار فإذا أردت أيها العبد الشروع في هذا المعراج فتطهر أولا لأن المقام مقام القدس فليكن ثوبك طاهرا وبدنك طاهرا لأنك بالوادي المقدس طوى وأيضا فعندك ملك وشيطان فانظر أيهما تصاحب ؛ ودين ودنيا فانظر أيهما تصاحب ؛ وعقل وهوى فانظر أيهما تصاحب ؛ وخير وشر وصدق وكذب وحق وباطل وحلم وطيش وقناعة وحرص ؛ وكذا القول في كل الأخلاق المتاضدة والصفات المتنافية فانظر أنك تصاحب أي الطرفين وتوافق أي الجانبين فإنه إذا استحكمت المرافقة تعذرت المفارقة ألا ترى أن الصديق اختار صحبة محمد عليه السلام فلزمه في الدنيا وفي القبر وفي القيامة وفي الجنة وأن كلبا صحب أصحاب الكهف فلزمهم في الدنيا وفي الآخرة ولهذا السر قال تعالى { يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين } [ التوبة : 119 ] ثم إذا تطهرت فارفع يديك وذلك الرفع إشارة إلى توديع عالم الدنيا وعالم الآخرة فاقطع نظرك عنهما بالكلية ووجه قلبك وروحك وسرك وعقلك وفهمك وذكرك وفكرك إلى الله ثم قل : الله أكبر والمعنى أنه أكبر من كل الموجودات وأعلى وأعظم واعز من كل المعلومات بل هو أكبر من أن يقاس إليه شيء أو يقال إنه أكبر ثم قل : سبحانك اللهم وبحمدك وفي هذا المقام تجلى

(3/18)


لك نور سبحات الجلال ثم ترقيت من التسبيح إلى التحميد ثم قل : تبارك اسمك وفي هذا المقام انكشف لك نور الأزل والأبد لأن قوله تبارك إشارة إلى الدوام المنزه عن الإفناء والإعدام وذلك يتعلق بمطالعة حقيقة الأزل في العدم ومطالعة حقيقة الأبد في البقاء ثم قل : وتعالى جدك وهو إشارة إلى إنه أعلم وأعظم من أن تكون صفات جلاله ونعوت كماله محصورة في القدر المذكور ثم قل : ولا إله غيرك وهو إشارة إلى أن كل صفات الجلال وسمات الكمال له لا لغيره فهو الكامل الذي لا كامل إلا هو والمقدس الذي لا مقدس إلا هو وفي الحقيقة لا هو إلا هو ولا إله إلا هو والعقل ههنا ينقطع واللسان يعتقل والفهم يتبلد والخيال يتحير والعقل يصير كالزمن ثم عد إلى نفسك وحالك وقل : وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض فقولك سبحانك اللهم وبحمدك معراج الملائكة المقربين وهو المذكور في قوله : { ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك } [ البقرة : 30 ] وهو أيضا معراج محمد عليه السلام لأن معراجه مفتتح بقوله سبحانك اللهم وبحمدك وأما قولك وجهت وجهي فهو معراج إبراهيم الخليل عليه السلام وقولك إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله فهو معراج محمد الحبيب عليه السلام فإذا قرأت هذين الذكرين فقد جمعت بين معراج أكابر الملائكة المقربين وبين معراج عظماء الأنبياء والمرسلين ثم إذا فرغت من هذه الحالة فقل : أعوذ بالله من الشيطان الرجيم لتدفع ضرر العجب من نفس

(3/19)


نفسك ، واعلم أن للجنة ثمانية أبواب ففي هذا المقام انفتح لك باب من أبواب الجنة وهو باب المعرفة ، والباب الثاني هو باب الذكر وهو قولك بسم الله الرحمن الرحيم ، والباب الثالث باب الشكر وهو قولك الحمد لله رب العالمين ، والباب الرابع الرجاء وهو قولك الرحمن الرحيم ، والباب الخامس باب الخوف وهو قولك مالك يوم الدين ، والباب السادس باب الإخلاص المتولد من معرفة العبودية ومعرفة الربوبية وهو قولك إياك نعبد وإياك نستعين ، والباب السابع باب الدعاء والتضرع كما قال : { أمن يجيب المضطر إذا دعاه } [ النمل : 62 ] وقال : { ادعوني أستجب لكم } [ غافر : 60 ] وهو ههنا قولك اهدنا الصراط المستقيم والباب الثامن باب الاقتداء بالأرواح الطيبة الطاهرة والاهتداء بأنوارهم وهو قولك صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين وبهذا الطريق إذا قرأت هذه السورة ووقفت على أسرارها انفتحت لك ثمانية أبواب الجنة وهو المراد من قوله تعالى : [جنات عدن مفتحة لهم الأبواب] [ ص : 50 ] فجنات المعارف الربانية انفتحت أبوابها بهذه المقاليد الروحانية فهذا هو الإشارة إلى ما حصل في الصلاة من المعراج الروحاني . وأما المعراج الجسماني فالمرتبة الأولى أن تقوم بين يدي الله مثل قيام أصحاب الكهف وهو قوله تعالى : [إذ قاموا فقالوا ربنا رب السموات والأرض] [ الكهف : 14 ] بل قم قيام أهل القيامة وهو قوله تعالى : [يوم يقوم الناس لرب العالمين] [ المطففين : 6 ] ثم اقرأ سبحانك اللهم وبعده وجهت وجهي وبعده الفاتحة وبعدها ما تيسر لك من القرآن واجتهد في أن تنظر من الله إلى عبادتك حتى تستحقرها وإياك أن تنظر من عبادتك إلى الله فإنك إن فعلت ذلك صرت من الهالكين وهذا سر قوله إياك نعبد وإياك نستعين . واعلم أن النفس الآن جارية مجرى خشبة عرضتها على نار خوف الجلال فلانت فاجعلها محنية بالركوع فقل : سمع الله لمن حمده ثم اتركها لتستقيم مرة أخرى فإن هذا

(3/20)


الدين متين فأوغل فيه برفق ولا تبغض إلى نفسك عبادة الله فإن المنبت لا أرضا قطع ولا ظهرا أبقى فإذا عادت إلى استقامتها فانحدر إلى الأرض بنهاية التواضع واذكر ربك بغاية العلو وقل : سبحان ربي الأعلى فإذا أتيت بالسجدة الثانية فقد حصل لك ثلاثة أنواع من الطاعة : الركوع الواحد والسجودان وبها تنجو من العقبات الثلاث المهلكة فبالركوع تنجو عن عقبة الشهوات وبالسجود الأول تنجو عن عقبة الغضب الذي هو رئيس المؤذيات وبالسجود الثاني تنجو عن عقبة الهوى الذي هو الداعي إلى كل المهلكات والمضلات فإذا تجاوزت هذه العقبات وتخلصت عن هذه الدركات فقد وصلت إلى الدرجات العاليات وملكت الباقيات الصالحات وانتهيت إلى عتبة جلال مدبر الأرض والسموات فقل عند ذلك التحيات المباركات الصلوات الطيبات لله فالتحيات المباركات باللسان والصلوات بالأركان والطيبات بالجنان وقوة الإيمان ثم في هذا المقام يصعد نور روحك وينزل نور روح محمد صلى الله عليه وسلم فيتلاقى الروحان ويحصل هناك الروح والراحة والريحان فلا بد لروح محمد عليه الصلاة والسلام من محمدة وتحية فقل : السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته فعند ذلك يقول محمد عليه الصلاة والسلام : السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين وكأنه قيل لك فهذه الخيرات والبركات بأي وسيلة وجدتها ؟ وبأي طريق وصلت إليها ؟ فقل بقولي : أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا رسول الله فقيل لك إن محمدا هو الذي هداك إليه فأي شيء هديتك له؟

(3/21)


فقل : اللهم صل على محمد وعلى آل محمد فقيل لك : إن إبراهيم هو الذي طلب من الله أن يرسل إليك مثل هذا الرسول فقال { ربنا وابعث فيهم رسولا منهم } [ البقرة : 129 ] فما جزاؤك له ؟ فقل : كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم فيقال لك : فكل هذه الخيرات من محمد أو من إبراهيم أو من الله ؟ فقل : بل من الحميد المجيد إنك حميد مجيد . ثم إن العبد إذا ذكر الله بهذه الأثنية والمدائح ذكره الله تعالى في محافل الملائكة بدليل قوله عليه الصلاة والسلام حكاية عن الله عز وجل إذا ذكرني عبدي في ملأ ذكرته في ملأ خير من ملئه فإذا سمع الملائكة ذلك اشتاقوا إلى هذا العبد فقال الله : إن ملائكة السماوات اشتاقوا إلى زيارتك وأحبوا القرب منك وقد جاؤك فابدأ بالسلام عليهم لتحصل لك فيه مرتبة السابقين فيقول العبد عن يمينه وعن شماله : السلام عليكم ورحمة الله وبركاته فلا جرم أنه إذا دخل الجنة الملائكة يدخلون عليه من كل باب فيقولون : سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار . انتهى التفسير الكبير حـ1ص234ـ236
قوله تعالى " ومما رزقناهم ينفقون "
في قوله : " و مما رزقناهم ينفقون " فوائد :
أحدها : أدخل " من "التبعيضية صيانة لهم ، وكفي عن الإسراف والتبذير المنهي عنه
وثانيها : قدم مفعول الفعل دلالة على كونه أهم ، كأنه قال و يخصون بعض المال بالتصدق به .
وثالثها : يدخل في الإنفاق المذكور في الآية ، الإنفاق الواجب ، والإنفاق المندوب والإنفاق الواجب أقسام : احدها : الزكاة وثانيها : الإنفاق على النفس وعلى من تجب عليك نفقته .
وثالثها : الإنفاق في الجهاد .
وأما الإنفاق المندوب فالمراد به الصدقة (1). أهـ
__________
(1) - التفسير الكبير حـ2 - بتصرف يسير

(3/22)


وقال السعدي رحمه الله : " ومما رزقناهم ينفقون " يدخل فيه النفقات الواجبة كالزكاة والنفقة على الزوجات والأقارب والمماليك ونحو ذلك والنفقات المستحبة بجميع طرق الخير ولم يذكر المنفق عليهم لكثرة أسبابها وتنوع أهلها ولأن النفقة من حيث هي قربة إلى الله وأتى بمن الدالة على التبعيض لينبههم أنه لم يرد منهم إلا جزءا يسيراُ من أموالهم غير ضار لهم ولا مثقل بل ينتفعون هم بإنفاقه و ينتفع به إخوانهم .
وفي قوله " رزقناهم " إشارة إلى أن هذه الأموال التي بين أيديكم ليست حاصلة بقوتكم ولا ملككم وإنما هي رزق الله الذي خولكم وأنعم به عليكم فكما أنعم عليكم و فضلكم على كثير من عباده فاشكروه بإخراج بعض ما أنعم به عليكم وواسوا إخوانكم المعدمين ، وكثيراً ما يجمع تعالي بين الصلاة والزكاة في القرآن لأن الصلاة متضمنة الإخلاص للمعبود والزكاة والنفقة متضمنة الإحسان على عبيده فعنوان سعادة العبد إخلاصه للمعبود وسعيه في نفع الخلق (1). أهـ
" لطائف في الإنفاق "
قال القشيري(2)- رحمه الله - :
الزاهدون أنفقوا في طريقة متابعة هواهم ، فآثروا رضاء الله على مناهم والعابدون أنفقوا في سبيل الله وسعهم وقواهم فلازموا سراً وعلناً نفوسهم والمريدون أنفقوا في سبيله ما يشغلهم عن ذكر مولاهم فلم يلتفتوا إلى شيء من دنياهم وعقباهم والعارفون أنفقوا في سبيل الله ما هو سوي مولاهم فقربهم الله الحق سبحانه وأجزاهم وبحكم الإفراد به لقاهم .
وقال أيضاً الأغنياء أنفقوا من نعمهم على عاقبتهم والفقراء أنفقوا من هممهم على منابتهم و يقال : العبد بقلبه و ببدنه و بماله فبإيمانهم قاموا بقلوبهم وبصلاتهم قاموا بنفوسهم و بإنفاقهم قاموا بأموالهم فاستحقوا خصائص القربة من معبودهم وحيث قاموا لحقه بالكلية استوجبوا كمال الخصوصية . أ هـ
__________
(1) - تفسير السعدي صـ35
(2) - لطائف الإرشادات حـ1 - صـ57 - 58

(3/23)


" أولئك على هدى من ربهم "
سؤال : فإن قيل : ما معني الاستعلاء في قوله : " على هدي من ربهم "؟
فالجواب : " بيان لتمكنهم من الهدى واستقرارهم عليه حيث شبهت حالهم بحال من اعتلى الشيء وركبه ، و نظيره فلان على الحق أو على الباطل(1) . أهـ
سؤال : فإن قيل ما السبب في تنكير الهدي في قوله : " على هدي "؟
فالجواب : ليفيد ضرباً مبهماً لا يبلغ كنهه ولا يقدر قدره كما يقال لو أبصرت فلان لأبصرت رجلاً .
قال عون بن عبد الله : الهدي من الله كثير ولا يبصره إلا بصير ولا يعمل به إلا يسير ، ألا تري أن نجوم السماء يبصرها البصراء ولا يهتدي بها إلا العلماء (2). أهـ
وقال أبو السعود :
" أولئك " إشارة إلى الذين حكيت خصائصهم الحميدة من حيث اتصافهم بها وفيه دلالة على انهم متميزون بذلك أكمل تمييز منتظمون بسببه في سلك الأمور المشاهدة ، و ما فيه من معني البعد للإشارة بعلو درجتهم وبعد منزلتهم في الفضل (3) .أهـ
وقال - الفخر الرازي (4)- رحمه الله - في تكرير " أولئك " تنبيه على أنهم كما ثبت لهم الاختصاص بالهدي ثبت لهم الاختصاص بالفلاح أيضاً فقد تميزوا عن غيرهم بهذين الاختصاصين .
فإن قيل : فلما جاء بالعاطف وما الفرق بينه و بين قوله : " أولئك كالأنعام بل هم أضل أولئك هم الغافلون "{ الأعراف : 179 } قلنا : قد اختلف
الخبران هنا فلذلك دخل العاطف بخلاف الخبرين ثمت فإنهما متفقان لأن التسجيل عليهم بالغفلة وتشبيههم بالبهائم .شيء واحد وكانت الجملة الثانية مقررة لما في الأولى فهي من العطف بمعزل .
{ هم } فصل وله فائدتان : إحداهما : الدلالة على أن الوارد بعد خبر لا صفة وثانيتهما : حصر الخبر في المبتدأ . أهـ
__________
(1) - التفسير الكبير حـ2 - صـ276
(2) - التفسير الكبير حـ2 - صـ279
(3) - تفسير أبي السعود حـ1- صـ33
(4) - التفسير الكبير حـ2 - صـ279 - بتصرف يسير

(3/24)


وقال السعدي (1): " أولئك " أي الموصوفون بتلك الصفات الحميدة " على هدي من ربهم " أي على هدي عظيم لأن التنكير للتعظيم وأي هداية أعظم من تلك الصفات المذكورة المتضمنة للعقيد الصحيحة والأعمال المستقيمة وهل الهداية في الحقيقة إلا هدايتهم و ما سواها مما خالفها فهي ضلالة .
وآتى بـ " على " في هذا الموضع الدالة على الاستعلاء وفي الضلالة يأتي بـ " في " كما في قوله " وإنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين " { سبأ : 24 } لأن صاحب الهدي مستعل بالهدي مرتفع به وصاحب الضلالة منغمس فيها محتقر .
ثم قال : " أولئك هم المفلحون " والفلاح هو الفوز بالمطلوب والنجاة من المهروب وحصر الفلاح فيهم لأنه لا سبيل إلى الفلاح إلا بسلوك سبيلهم.أهـ

قوله تعالى [ وأؤلئك هم المفلحون ]
قال ابن إسحاق أي الذين أدركوا ما طلبوا ونجوا من شر ما منه هربوا
وأصل الفلاح في اللغة البقاء وقيل للمؤمن مفلح لبقائه في الجنة
وقال عبيد
أفلح بما شئت فقد يدرك بالضعف وقد يخدع الأريب أي ابق بما شئت من كيس وحمق ثم اتسع في ذلك حتى قيل لكل من نال شيئا من الخير مفلح.انتهى [معانى القرآن للنحاس حـ1ص86]
كلام نفيس للإمام الزمخشري "
ومعني التعريف في " المفلحون " الدلالة على أن المتقين هم الناس الذين عنهم بلغك أنهم يفلحون في الآخرة كما إذا بلغك أن إنساناً قد تاب من أهل بلدك ، فاستخبرت من هو ؟ فقيل زيد التائب ، أي هو الذي أخبرت بتوبته . أو على أنهم الذين إن حصلت صفة المفلحين و تحققوا ما هم تصوروا بصورتهم الحقيقية فهم هم لا يعدون تلك الحقيقة كما تقول لصاحبك : هل عرفت الأسد وما جبل عليه من الإقدام ؟ إن زيد أهو هو فانظر كيف كرر
__________
(1) - تفسير السعدي صـ35

(3/25)


الله عز وجل التنبيه على الاختصاص المتقين بنبيل ما لا يناله أحد على طرق شتى وهي ذكر اسم الإشارة و تكريره وتعريف المفلحين وتوسيط الفصل بينه وبين أولئك ببصرك مراتبهم ويرغبك في طلب ما طلبوه وينشطك لتقديم ما قدموه ويثبطك عن الطمع الفارغ والرجاء الكاذب والتمني على الله ما لا تقتضيه حكمته ولم تسبق به كلمته . اللهم زينا بلباس
التقوى واحشرنا في زمرة من صدرت بذكرهم سورة البقرة .
والمفلح : الفائز بالبغية كأنه الذي انفتحت له وجوه الظفر ولم تستغلق عليه (1) . أهـ
وقد وصفهم بأنهم على هدى من ربهم فدل ذلك على أن تلبسهم بهذه الصفات الكريمة تلبسهم بلباس الهداية من الله سبحانه وتعالي ، فهم إنما صاروا متقين أولى هذه الصفات بهداية منه تعالي ثم وصف الكتاب بأنه هدي لهؤلاء المتقين بقوله تعالي : " ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين " فعلمنا بذلك : أن الهداية غير الهداية ، وأن هؤلاء و هم متقون محفوفون بهدايتين هداية أول : صاروا متقين ، وهداية ثانية أكرمهم الله سبحانه وتعالي بها بعد التقوى وبذلك صحت المقابلة بين المتقين وبين الكفار والمنافقين ، فإنه سبحانه يجعلهم في وصفهم بين ضلالين وعمائين ضلال أول هو الموجب لأ وصفاهم الخبيثة من الكفر والنفاق وضلال ثان يتأكد به ضلالهم الأول ويتصفون به يعد تحقق الكفر والنفاق كما يقوله تعالي في حق الكفار : " ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة " البقرة : 7 } فنسب الختم إلى نفسه تعالي والغشاوة إلى أنفسهم وكما يقول في حق المنافقين : " في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضاً " [البقرة : 10 ] فنسب المرض الأول إليهم والمرض الثاني إلى نفسه على حد ما يستفاد من قوله تعالى : " يضل به كثيراً ويهدي به كثيراً وما يضل به إلا الفاسقين " [ البقرة : 26 ] وقوله تعالي : " فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم "[الصف : 5]
__________
(1) - تفسير الميزان حـ1 - صـ55

(3/26)


وبالجملة المتقون واقعون بين هدايتين كما أن الكفار والمنافقين واقعون بين ضلالين .
ثم إن الهداية الثانية لما كانت بالقرآن فالهداية الأولى قبل القرآن وبسبب سلامة الفطرة (1). أهـ
" إن الذين كفروا سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون "
معني الكفر مأخوذ من قوله كفر إذا غطي و ستر و منه قول الشاعر لبيد بن ربيعة : في ليلة كفر النجوم غمامها - أي سترها و منها سمي الليل كافراً ، لأنه يغطي كل شيء بسواده و منه قيل للزراع كفار لأنهم يغطون الحب ، وكفر في الدين معناه غطي قلبه بالرين عن الإيمان أو غطي الحق بأقواله وأفعاله .
واختلف فيمن نزلت هذه الآية بعد الاتفاق على أنها غير عامة لوجود الكفار قد أسلموا بعدها
فقال قوم : " هي فيمن سبق في علم الله أنه لا يؤمن أراد الله تعالى أن يعلم أن في الناس من هذه حالة دون أن يعين أحد ، وقيل نزلت في حيي بن أخطب و أبي ياسر و ابن الأشرف و نظرائهم
وقيل نزلت في قادة الأحزاب و هم أهل القليب ببدر و قد خطأ ابن عطية هذا القول الأخير، لأن قادة الأحزاب قد أسلم منهم كثير ورجح القول الأول (2) . أهـ
وقال ابن الجوزى : " قال شيخنا على بن عبيد الله : هذه الآية وردت بلفظ العموم و المراد بها الخصوص لأنها آذنت بأن الكافر حين أنذرناه لا يؤمن ومن آمن كثير من الكفار عند إنذارهم و لو كانت على ظاهرها في العموم لكان خبر الله لهم خلاف مخبره و لذلك وجب نقلها إلى الخصوص (3). أهـ
سؤال : إن قال قائل : إذا علم الله تعالي بأنهم لا يؤمنون و كانوا قادرين على الإيمان عندكم فما أنكرتم أن يكونوا قادرين على إبطال علم الله بأنهم لا يؤمنون.
__________
(1) - الميزان حـ1 - صـ44
(2) - المحرر الوجيز حـ1 - صـ87 - بتصرف يسير
(3) - زاد المسير حـ1 - صـ27

(3/27)


والجواب أنه لا يجب ذلك كما أنه لا يجب إذا كانوا مأمورين بالإيمان أن يكونوا مأمورين بإبطال علم الله كما لا يجب إذا كان الله قادراً على أن يقيم القيامة الساعة أن يكون قادراً على إبطال علمه بأنه لا يقيمها الساعة والصحيح أن نقول إن العلم يتناول الشيء على ما هو به ولا يجعله على ما هو به ، فلا يمتنع أن يعلم حصول شيء بعينه وإن كان غيره مقدوراً(1)أهـ
وقال صاحب الميزان (2): هذا التعبير وهو قوله " أأنذرتهم أولم تنذرهم لا يؤمنون " لا يمكن استطراده في حق جميع الكفار وإلا انسد باب الهداية والقرآن ينادي على خلافه " أهـ
" كلام نفيس عن الكفر ومعانيه "
قال البغوي : والكفر على أربعة أنحاء : كفر إنكار ، و كفر جحود ، وكفر عناد ، وكفر نفاق ، فكفر الإنكار هو أن يعرف الله أصلاً ولا يعترف به وكفر به .
وكفر الجحود هو أن يعرف الله بقلبه ولا يعترف بلسانه ككفر إبليس و كفر اليهود قال الله تعالي : " فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به " { البقرة : 89 }
وكفر العناد هو : أن يعرف الله بقلبه و يعترف بلسانه ولا يدين به ككفر أبي طالب حيث قال :
و لقد علمت بأن دين محمد …من خير أديان البرية ديناً
لولا الملامة أو حذار مسبة…لوجدتني سمحاً بذالك مبيناً
وأما كفر النفاق : فهو : أن يقر باللسان و لا يعتقد بالقلب و جميع هذه الأنواع سواء في أنه من لقي الله تعالي بواحد منها لا يغفر له (3).أهـ
وقال صاحب الميزان (4):
__________
(1) - مجمع البيان في تفسير البيان للطبرسي حـ1 - صـ128 ط دار المعرفة لبنان .
(2) - الميزان حـ1 - صـ52
(3) - معالم التنزيل حـ1 - صـ40
(4) - الميزان في تفسير القرآن حـ1 - صـ53 بتصرف يسير

(3/28)


الكفر في كتاب الله على خمسة أوجه : كفر الجحود و الجحود على وجهيين الكفر بترك ما أنزل الله و كفر البراءة و كفر النعم أما كفر الجحود فهو الجحود بالربوبية وهو قول من يقول : " لا رب و لا جنة ولا نار " وأما الوجه الآخر فهو الجحود على معرفة و منه قوله : " فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به فلعنة الله على الكافرين " { البقرة : 89 }
الوجه الثالث : من الكفر : كفر النعم { ترك الشكر } و منه قوله تعالي : " حكاية عن سليمان – عليه السلام – هذا من فضل ربي ليبلوني أأشكر أم اكفر ومن شكر فإنما يشكر لنفسه و من كفر فإن ربي غني كريم " { النمل : 40 } و قوله تعالي : " فاذكروني أذكركم واشكروا لي ولا تكفرون " { البقرة : 152 } و قوله : " لئن شكرتم لأزيدنكم و لئن كفرتم إن عذابي لشديد " { إبراهيم : 7 } .
والوجه الرابع من الكفر : ترك أمر الله عز و جل ومنه قوله : " وإذا أخذنا ميثاقكم لا تسفكون دماءكم " إلى قوله " أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض " { البقرة : 84 ، 85 ْ }.
الوجه الخامس من الكفر : كفر البراءة و منه قوله تعالي حكاية عن إبراهيم – عليه السلام - : " كفرنا بكم وبدا بيننا و بينكم العداوة و البغضاء أبداً حتى تؤمنوا بالله وحده ..... الآية " { الممتحنة : 4 } و منه قوله تعالي : " حكاية عن إبليس – عليه لعنة الله – لأهل النار " إنى كفرت بما أشركتمون من قبل " {إبراهيم : 22 } .
وقوله تعالي : " ثم يوم القيامة يكفر بعضكم ببعض ويلعن بعضكم بعضاً "[ العنكبوت : 25] يعني يتبرأ بعضكم من بعض أهـ .

(3/29)


وذكر الإمام العلامة الفخر الرازي – رحمه الله – في تفسيره حـ2 صـ 48 هذه القصة قال : ويحكي أن الإمام أبا القاسم الأنصاري سئل عن تكفير المعتزلة في هذه المسألة (1) فقال لا لأنهم نزهوه فسئل عن أهل السنة فقال لا لأنهم عظموه والمعني أن كلا الفريقين ما طلب إلا إثبات جلال الله وعلو كبريائه إلا أن أهل السنة وقع نظرهم على العظمة فقالوا ينبغي أن يكون هو الموجد و لا موجود سواه والمعتزلة وقع نظرهم على الحكمة فقالوا لا يليق بجلال حضرته هذه القبائح . أهـ .
وقال القاضى عياض فى هذا الشأن بعد كلام مطول ما نصه : وقال غيرهما[أبو المعالى و أبو محمد عبد الحق] من المحققين : الذي يجب الاحتراز عن التكفير في أهل التأويل فإن استبحاة الموحدين خطأ و الخطأ في ترك ألف كافر أهون من الخطأ في سفك محجمة من دم مسلم واحد
وقد قال صلى الله عليه و سلم : [ فإذا قالوها ـ يعني الشهادة ـ عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها و حسابهم على الله ]
فالعصمة مقطوع بها من الشهادة ولا ترتفع و يستباح خلافها إلا بقاطع ولا قاطع من شرع ولا قياس عليه ] . أهـ. [ الشفا للقاضى عياض حـ2صـ232]
فائدة
أخبرنا عبد الرزاق عن معمر عمن سمع الحسن قال لما قتل علي رضي الله عنه الحرورية قالوا من هؤلاء يا أمير المؤمنين أكفار هم ؟ قال : من الكفر فروا قيل فمنافقين قال : إن المنافقين لا يذكرون الله إلا قليلا وهؤلاء يذكرون الله كثيرا قيل فما هم ؟ قال : قوم أصابتهم فتنة فعموا فيها أو صموا]أخرجه عبد الرزاق [18656] .
وقال شيخ الإسلام ـ رحمه الله ـ فى مجموع الفتاوى حـ7ص 326ـ ص330
__________
(1) - المراد مسألة خلق أفعال العباد وفيها خلاف عريض بين المعتزلة وأهل السنة .

(3/30)


ما نصه : قالوا فمن ثم قلنا إن ترك التصديق بالله كفر وإن ترك الفرائض مع تصديق الله أنه قد أوجبها كفر ليس بكفر بالله إنما هو كفر من جهة ترك الحق كما يقول القائل كفرتنى حقى ونعمتى يريد ضيعت حقى وضيعت شكر نعمتى قالوا ولنا فى هذا قدوة بمن روى عنهم من أصحاب رسول الله والتابعين إذ جعلوا للكفر فروعا دون أصله لا ينقل صاحبه عن ملة الإسلام كما أثبتوا للإيمان من جهة العمل فروعا للأصل لا ينقل تركه عن ملة الإسلام من ذلك قول ابن عباس فى قوله ( ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون ) قال محمد بن نصر حدثنا ابن يحيى حدثنا سفيان ابن عيينة عن هشام يعنى ابن عروة عن حجير عن طاووس عن ابن عباس[ ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون ] ليس بالكفر الذى يذهبون إليه حدثنا محمد بن يحيى ومحمد بن رافع حدثنا عبدالرزاق أنبأنا معمر عن ابن طاووس عن أبيه قال سئل ابن عباس عن قوله [ ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون ] قال هى به كفر قال ابن طاووس وليس كمن كفر بالله وملائكته وكتبه ورسله
حدثنا إسحاق أنبأنا وكيع عن سفيان عن معمر عن ابن طاووس عن أبيه عن ابن عباس قال هو به كفر وليس كمن كفر بالله وملائكته وكتبه ورسله وبه أنبأنا وكيع عن سفيان عن معمر عن ابن طاووس عن أبيه قال قلت لابن عباس [ومن لم يحكم بما أنزل الله] فهو كافر قال هو به كفر وليس كمن كفر بالله واليوم الآخر وملائكته وكتبه ورسله
حدثنا محمد بن يحيى حدثنا عبدالرزاق عن سفيان عن رجل عن طاووس عن ابن عباس قال كفر لا ينقل عن الملة
حدثنا إسحاق انبأنا وكيع عن سفيان عن سعيد المكى عن طاووس قال ليس بكفر ينقل عن الملة
حدثنا إسحاق أنبأنا وكيع عن سفيان عن ابن جريج عن عطاء قال كفر دون كفر وظلم دون ظلم وفسق دون فسق

(3/31)


قال محمد بن نصر قالوا وقد صدق عطاء قد يسمى الكافر ظالما ويسمى العاصى من المسلمين ظالما فظلم ينقل عن ملة الإسلام وظلم لا ينقل قال الله تعالى [الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم] وقال [إن الشرك لظلم عظيم] وذكر حديث ابن مسعود المتفق عليه قال لما نزلت[ الذين آمنوا ولم يلبسوا ايمانهم بظلم] شق ذلك على أصحاب النبى وقالوا أينا لم يظلم نفسه قال رسول الله ليس بذلك ألم تسمعوا إلى قول العبد الصالح [إن الشرك لظلم عظيم] إنما هو الشرك حدثنا محمد بن يحيى حدثنا الحجاج بن المنهال عن حماد بن سلمة عن على بن زيد عن يوسف بن مهران عن ابن عباس أن عمر بن الخطاب كان إذا دخل بيته نشر المصحف فقرأ فيه فدخل ذات يوم فقرأ فأتى على هذه الآية [الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم] إلى آخر الآية فانتعل وأخذ رداءه ثم أتى إلى أبى بن كعب فقال يا أبا المنذر أتيت قبل على هذه الآية [الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم] وقد نرى أنا نظلم ونفعل فقال يا أمير المؤمنين إن هذا ليس بذلك يقول الله [إن الشرك لظلم عظيم] إنما ذلك الشرك
قال محمد بن نصر وكذلك الفسق فسقان : فسق ينقل عن الملة وفسق لا ينقل عن الملة فيسمى الكافر فاسقا والفاسق من المسلمين فاسقا ذكر الله إبليس فقال [ففسق عن أمر ربه] وكان ذلك الفسق منه كفرا وقال الله تعالى [وأما الذين فسقوا فمأواهم النار] يريد الكفار دل على ذلك قوله [ كلما أرادوا أن يخرجوا منها أعيدوا فيها وقيل لهم ذوقوا عذاب النار الذى كنتم به تكذبون] وسمى الفاسق من المسلمين فاسقا ولم يخرجه من الإسلام قال الله تعالى [والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا وأولئك هم الفاسقون ] وقال تعالى [ فمن فرض فيهن الحج فلا رفث ولا فسوق ولا جدال فى الحج ] فقال العلماء فى تفسير الفسوق ها هنا هى المعاصى قالوا فلما كان الظلم ظلمين والفسق فسقين كذلك الكفر كفران

(3/32)


أحدهما ينقل عن الملة والآخر لا ينقل عن الملة وكذلك الشرك شركان شرك فى التوحيد ينقل عن الملة وشرك فى العمل لا ينقل عن الملة وهو الرياء قال تعالى [ فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه أحدا ] يريد بذلك المراءاة بالأعمال الصالحة وقال النبى (الطيرة شرك)
قال محمد بن نصر فهذان مذهبان هما فى الجملة محكيان عن أحمد بن حنبل فى موافقيه من أصحاب الحديث حكى الشالنجى إسماعيل بن سعيد أنه سأل أحمد بن حنبل عن المصر على الكبائر يطلبها بجهده إلا أنه لم يترك الصلاة والزكاة والصيام هل يكون مصرا من كانت هذه حاله قال هو مصر مثل قوله [لا يزنى الزانى حين يزنى وهو مؤمن] يخرج من الإيمان ويقع فى الإسلام ومن نحو قوله [لا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن ولا يسرق حين يسرق وهو مؤمن] ومن نحو قول ابن عباس فى قوله [ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون] فقلت له ما هذا الكفر فقال كفر لا ينقل عن الملة مثل الإيمان بعضه دون بعض وكذلك الكفر حتى يجئ من ذلك أمر لا يختلف فيه وقال ابن أبى شيبة [لا يزنى الزانى حين يزنى وهو مؤمن] لا يكون مستكمل الإيمان يكون ناقصا من إيمانه قال وسألت أحمد بن حنبل عن الإسلام والإيمان فقال الإيمان قول وعمل والإسلام إقرار قال وبه قال أبو خيثمة وقال ابن أبى شيبة لا يكون الإسلام إلا بإيمان ولا إيمان إلا بإسلام قلت وقد تقدم تمام الكلام بتلازمهما وإن كان مسمى أحدهما ليس هو مسمى الآخر وقد حكى غير واحد إجماع أهل السنة والحديث على أن الإيمان قول وعمل قال أبو عمر بن عبد البر فى التمهيد أجمع أهل الفقه والحديث على أن الإيمان قول وعمل ولا عمل إلا بنية والإيمان عندهم يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية والطاعات كلها عندهم إيمان الا ما ذكر عن أبى حنيفة وأصحابه فانهم ذهبوا إلى أن الطاعة لا تسمى إيمانا قالوا إنما الإيمان التصديق والإقرار ومنهم من زاد المعرفة وذكر ما احتجوا به الى أن

(3/33)


قال
وأما سائر الفقهاء من أهل الرأى والآثار بالحجاز والعراق والشام ومصر منهم مالك بن أنس والليث بن سعد وسفيان الثورى والأوزاعى والشافعى وأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه وأبو عبيد القاسم بن سلام وداود بن على والطبرى ومن سلك سبيلهم فقالوا الإيمان قول وعمل قول باللسان وهو الاقرار واعتقاد بالقلب وعمل بالجوارح مع الإخلاص بالنية الصادقة قالوا وكل ما يطاع الله عز وجل به من فريضة ونافلة فهو من الإيمان والإيمان يزيد بالطاعات وينقص بالمعاصى وأهل الذنوب عندهم مؤمنون غير مستكملى الإيمان من أجل ذنوبهم وانما صاروا ناقصى الإيمان بارتكابهم الكبائر ألا ترى إلى قول النبى [لا يزنى الزانى حين يزنى وهو مؤمن] الحديث يريد مستكمل الإيمان ولم يرد به نفى جميع الإيمان عن فاعل ذلك بدليل الإجماع على توريث الزانى والسارق وشارب الخمر إذا صلوا إلى القبلة وانتحلوا دعوة الإسلام من قراباتهم المؤمنين الذين ليسوا بتلك الأحوال . أهـ .

وقال ابن القيم ـ رحمه الله ـ فى إعلام الموقعين حـ3ص51 ما نصه :والله سبحانه وتعالى رفع المؤاخذة عن المتكلم بكلمة الكفر مكرها لما لم يقصد معناها ولا نواها فكذلك المتكلم بالطلاق والعتاق والوقف واليمين والنذر مكرها لا يلزمه شيء من ذلك لعدم نيته وقصده وقد أتى باللفظ الصريح فعلم أن اللفظ إنما يوجب معناه لقصد المتكلم به والله تعالى رفع المؤاخذة عمن حدث نفسه بأمر بغيرتلفظ أو عمل كما دفعها عمن تلفظ باللفظ من غير قصد لمعناه ولا إرادة ولهذا لا يكفر من جرى على لسانه لفظ الكفر سبقا من غير قصد لفرح أو دهش وغير ذلك كما في حديث الفرح الإلهي بتوبة العبد وضرب مثل ذلك بمن فقد راحلته عليها طعامه وشرابه في الأرض المهلكة فأيس منها ثم وجدها فقال اللهم أنت عبدي وأنا ربك أخطأ من شدة الفرح ولم يؤاخذ بذلك أهـ .

(3/34)


وقال الإمام الغزالي في كتاب التفرقة بين الإسلام والزندقة : والذي ينبغي الاحتراز عن التكفير ما وجد إليه سبيلا فان استباحة الدماء والأموال من المصلين إلى القبلة المصرحين بالتوحيد خطأ والخطأ في ترك ألف كافر في الحياة أهون من الخطأ في سفك دم مسلم.
قال : وقد وقع التكفير لطوائف من المسلمين يكفر بعضها بعضا ، فالأشعري يكفر المعتزلي زاعما أنه كذب الرسول في رؤية الله تعالى وفي إثبات العلم والقدرة والصفات ، وفي القول بخلق القرآن ، والمعتزلي يكفر الأشعري زاعما أنه كذب الرسول في التوحيد فإن إثبات الصفات يستلزم تعدد القدماء.
قال والسبب في هذه الورطة الجهل بموقع التكذيب والتصديق ، ووجهه أن كل من نزل قولا من أقوال الشرع على شيء من الدرجات العقلية التى لا تحقق نقصا فهو من التعبد وإنما الكذب أن ننفي جميع هذه المعاني ويزعم أن ما قاله لا معنى له وإنما هو كذب محض وذلك هو الكفر المحض ؛ ولهذا لا يكفر المبتدع المتأول ما دام ملازما لقانون التأويل لقيام البرهان عنده على استحالة الظواهر وهذا كمن يسمع قوله صلى الله عليه وسلم يؤتى بالموت يوم القيامة في صورة كبش أملح فيذبح فان من قام عنده البرهان العقلي على أن الموت عرض أو عدم عرض وإن قلب العرض جسما مستحيل غير مقدور عليه ، فينزل الخبر على أن أهل القيامة يشاهدون ذلك ويعتمدون أن الموت فيكون ذلك موجودا في حسهم لا في الخارج ، ويكون سببا لحصول اليقين باليأس عن الموت . أهـ [المنثور فى القواعد للزركشى حـ3 صـ88 ـ89 باختصار يسير جدا].
وقد حكى الروياني في البحر عن الإمام الشافعي ـ رضي الله تعالى عنه ـ قال : لا يكفر من أهل القبلة إلا واحدا وهو من نفى علم الله عن الأشياء قبل كونها فهو كافر . أهـ [المنثور فى القواعد للزركشى حـ3 صـ87].

(3/35)


وقال الشيخ أبو محمد بن عبد السلام : قد رجع الأشعري ـ رحمه الله ـ عند موته عن تكفير أهل القبلة ؛ لأن الجهل بالصفات ليس جهلا بالموصوفات ، وقال اختلفنا في عبارات والمشار إليه واحد ، وقد مثل ذلك بمن كتب إلى عبيده فأمرهم ونهاهم فاختلفوا في صفاته هل هو أبيض أو أسود أو أحمر أو أسمر ، فلا يجوز أن يقال : إن اختلافهم في صفته اختلاف في كونه سيدهم المستحق لطاعتهم وعبادتهم ، فكذلك اختلاف المسلمين في صفات الإله ليس اختلافا في كونه سبحانه وتعالى في جهة كونه خالقهم وسيدهم المستحق لطاعتهم . أهـ [المنثور فى القواعد للزركشى حـ3 صـ90].

وقال الإمام أبو الحسن السبكي : ما دام الإنسان يعتقد شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ، فتكفيره صعب . أهـ [المنثور فى القواعد للزركشى حـ3 صـ93].
وقال الغزالي : ذهبت طائفة إلى تكفير عوام المسلمين لعدم معرفتهم أصول العقائد بأدلتها ، وهو بعيد عقلا ونقلا ، وليس الإيمان عبارة عما اصطلح عليه النظار ، بل هو نور يقذفه الله في القلب ، فلا يمكن التعبير عنه ، كما قال الله تعالى [فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام] [الأنعام ـ125] وقد حكم النبي ــ صلى الله عليه وسلم ــ أن من تكلم بلفظة التوحيد أجرى عليه أحكام المسلمين .
وثبت بهذا أن مأخذ التكفير من الشرع لا من العقل إذا الحكم بإباحة الدم والخلود في النار شرعي لا عقلي خلافا لما ظنه بعض الناس . أهـ [المنثور فى القواعد للزركشى حـ3 صـ94]

(3/36)


وقال العلامة بدر الدين العينى فى كتابه عمدة القارى جـ1 صـ200 ما نصه : والكفر المطلق هو الكفر بالله وما دون ذلك يقرب منه وتحقيق ذلك ما قاله الأزهري الكفر بالله أنواع : إنكار وجحود وعناد ونفاق ، وهذه الأربعة من لقى الله تعالى بواحد منها لم يغفر له ، فالأول أن يكفر بقلبه ولسانه ولا يعرف ما يذكر له من التوحيد كما قال الله تعالى [إن الذين كفروا سواء عليهم أأنذرتهم] (البقرة 6 ) الآية أي الذين كفروا بالتوحيد وأنكروا معرفته والثاني أن يعرف بقلبه ولا يقر بلسانه وهذا ككفر إبليس وبلعام وأمية بن أبي الصلت والثالث أن يعرف بقلبه ويقر بلسانه ويأبى أن يقبل الإيمان بالتوحيد ككفر أبي طالب والرابع أن يقر بلسانه ويكفر بقلبه ككفر المنافقين قال الأزهري ويكون الكفر بمعنى البراءة كقوله تعالى حكاية عن الشيطان [إني كفرت بما أشركتمون من قبل] (إبراهيم 22 ) أي تبرأت قال وأما الكفر الذي هو دون ما ذكرنا فالرجل يقر بالوحدانية والنبوة بلسانه ويعتقد ذلك بقلبه لكنه يرتكب الكبائر من القتل والسعي في الأرض بالفساد ومنازعة الأمر أهله وشق عصا المسلمين ونحو ذلك انتهى وقد أطلق الشارع الكفر على ما سوى الأربعة وهو كفران الحقوق والنعم كهذا الحديث ونحوه وهذا مراده من قوله وكفر دون كفر أهـ

(3/37)


وقال صاحب التحرير والتنوير ما نصه :والكفر بضم الكاف مصدر سماعي لكفر الثلاثي القاصر وأصله جحد المنعم عليه نعمة المنعم اشتق من مادة الكفر بفتح الكاف وهو الحجب والتغطية لأن جاحد النعمة قد أخفى الاعتراف بها كما أن شاكرها أعلنها . وضده الشكر ولذلك صيغ له مصدر على وزان الشكر وقالوا أيضا كفران على وزن شكران ثم أطلق الكفر في القرآن على الإشراك بالله في العبادة بناء على أنه أشد صور كفر النعمة إذ الذي يترك عبادة من أنعم عليه في وقت من الأوقات قد كفر نعمته في تلك الساعة إذ توجه بالشكر لغير المنعم وترك المنعم حين عزمه على التوجه بالشكر ولأن عزم نفسه على مداومة ذلك استمرار في عقد القلب على كفر النعمة وإن لم يتفطن لذلك فكان أكثر إطلاق الكفر بصيغة المصدر في القرآن على الإشراك بالله ولم يرد الكفر بصيغة المصدر في القرآن لغير معنى الإشراك بالله . وقل ورود فعل الكفر أو وصف الكافر في القرآن لجحد رسالة محمد صلى الله عليه وسلم وذلك حيث تكون قرينة على إرادة ذلك كقوله ( ما يود الذين كفروا من أهل الكتاب ولا المشركين ) وقوله ( ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون ) يريد اليهود وأما إطلاقه في السنة وفي كلام أئمة المسلمين فهو الاعتقاد الذي يخرج معتقده عن الإسلام وما يدل على ذلك الاعتقاد من قول أو فعل دلالة لا تحتمل غير ذلك

(3/38)


وقد ورد إطلاق الكفر في كلام الرسول عليه السلام وكلام بعض السلف على ارتكاب جريمة عظيمة في الإسلام إطلاقا على وجه التغليظ بالتشبيه المفيد لتشنيع ارتكاب ما هو من الأفعال المباحة عند أهل الكفر ولكن بعض فرق المسلمين يتشبثون بظاهر ذلك الإطلاق فيقضون بالكفر على مرتكب الكبائر ولا يلتفتون إلى ما يعارض ذلك في إطلاقات كلام الله ورسوله . وفرق المسلمين يختلفون في أن ارتكاب بعض الأعمال المنهي عنها يدخل في ماهية الكفر وفي أن إثبات بعض الصفات لله تعالى أو نفي بعض الصفات عنه تعالى داخل في ماهية الكفر على مذاهب شتى ومذهب أهل الحق من السلف والخلف أنه لا يكفر أحد من المسلمين بذنب أو ذنوب من الكبائر فقد ارتكبت الذنوب الكبائر في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم والخلفاء فلم يعاملوا المجرمين معاملة المرتدين عن الدين والقول بتكفير العصاة خطر على الدين لأنه يؤول إلى انحلال جامعة الإسلام ويهون على المذنب الانسلاخ من الإسلام منشدا " أنا الغريق فما خوفي من البلل " . ولا يكفر أحد بإثبات صفة لله لا تنافي كماله ولا نفي صفة عنه ليس في نفيها نقصان لجلاله فإن كثيرا من الفرق نفوا صفات ما قصدوا بنفيها إلا إجلالا لله تعالى وربما أفرطوا في ذلك كما نفى المعتزلة صفات المعاني وجواز رؤية الله تعالى وكثير من الفرق أثبتوا صفات ما قصدوا من إثباتها إلا احترام ظواهر كلامه تعالى كما أثبت بعض السلف اليد والإصبع مع جزمهم بأن الله لا يشبه الحوادث. أ هـ [ التحرير والتنوير ج1 ص217 ـ 218 ]
وقال الشيخ الألبانى ـ رحمه الله ـ فى هذا الشأن فى كتابه فتنة التكفير ص5 ـ6 ما نصه : فلا بد لنا - والحالة هذه - من أن ندندن دائما وأبدا حول هذا الأصل الأصيل إذا أردنا أن نفهم عقيدتنا وأن نفهم عبادتنا وأن نفهم أخلاقنا وسلوكنا

(3/39)


ولا محيد عن العودة إلى منهج سلفنا الصالح لفهم كل هذه القضايا الضرورية للمسلم حتى يتحقق فيه - صدقا - أنه من الفرقة الناجية
ومن هنا ضلت طوائف قديمة وحديثة حين لم يتنبهوا إلى مدلول الآية السابقة وإلى مغزى حديث سنة الخلفاء الراشدين وكذا حديث افتراق الأمة فكان أمرا طبيعيا جدا أن ينحرفوا كما انحرف من سبقهم عن كتاب الله وسنة رسول صلى الله عليه وسلم ومنهج السلف الصالح
ومن هؤلاء المنحرفين : الخوارج قدماء ومحدثين
فإن أصل فتنة التكفير في هذا الزمان - بل منذ أزمان - هو آية يدندنون دائما حولها ألا وهي قوله تعالى : [ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون ] ( 44 - المائدة ) فيأخذونها من غير فهوم عميقة ويوردونها بلا معرفة دقيقة
ونحن نعلم أن هذه الآية الكريمة قد تكررت وجاءت خاتمتها بألفاظ ثلاثة وهي : } فأولئك هم الكافرون { } فأولئك هم الظالمون { [ 45 - المائدة ] } فأولئك هم الفاسقون { [ 47 – المائدة ]
فمن تمام جهل الذين يحتجون بهذه الآية باللفظ الأول منها فقط : } فأولئك هم الكافرون { : أنهم لم يلموا على الأقل ببعض النصوص الشرعية - قرآنا أم سنة - التي جاء فيها ذكر لفظة ( الكفر ) فأخذوها - بغير نظر - على أنها تعني الخروج من الدين وأنه لا فرق بين هذا الذي وقع في الكفر وبين أولئك المشركين من اليهود والنصارى وأصحاب الملل الأخرى الخارجة عن ملة الإسلام
بينما لفظة الكفر في لغة الكتاب والسنة لا تعني - دائما - هذا الذي يدندنون حوله ويسلطون هذا الفهم الخاطئ المغلوط عليه
فشأن لفظة } الكافرون { - من حيث إنها لا تدل على معنى واحد - هو ذاته شأن اللفظين الآخرين : } الظالمون { و } الفاسقون { فكما أن من وصف أنه ظالم أو فاسق لا يلزم بالضرورة ارتداده عن دينه فكذلك من وصف بأنه كافر سواء بسواء
وهذا التنوع في معنى اللفظ الواحد هو الذي تدل عليه اللغة ثم الشرع الذي جاء بلغة العرب - لغة القرآن الكريم

(3/40)


فمن أجل ذلك كان الواجب على كل من يتصدى لإصدار الأحكام على المسلمين - سواء كانوا حكاما أم محكومين - أن يكون على علم واسع بالكتاب والسنة وعلى ضوء منهج السلف الصالح .
والكتاب والسنة لا يمكن فهمهما - وكذلك ما تفرع عنهما - إلا بطريق معرفة اللغة العربية وآدابها معرفة دقيقة
فإن كان لدى طالب العلم نقص في معرفة اللغة العربية فإن مما يساعده في استدراك ذلك النقص الرجوع إلى فهم من قبله من الأئمة والعلماء وبخاصة أهل القرون الثلاثة المشهود لهم بالخيرية
ولنرجع إلى الآية : [ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون ] فما المراد بالكفر فيها ؟ هل هو الخروج عن الملة ؟ أو أنه غير ذلك ؟
فأقول : لا بد من الدقة في فهم هذه الآية فإنها قد تعني الكفر العملي وهو الخروج بالأعمال عن بعض أحكام الإسلام
ويساعدنا في هذا الفهم حبر الأمة وترجمان القرآن عبدالله بن عباس ـ رضي الله عنهما ـ الذي أجمع المسلمون جميعا - إلا من كان من تلك الفرق الضالة - على أنه إمام فريد في التفسير فكأنه طرق سمعه يومئذ ما نسمعه اليوم تماما من أن هناك أناسا يفهمون هذه الآية فهما سطحيا من غير تفصيل فقال رضي الله عنه : " ليس الكفر الذي تذهبون إليه وإنه ليس كفرا ينقل عن الملة وهو كفر دون كفر "
ولعله يعني بذلك الخوارج الذين خرجوا على أمير المؤمنين علي رضي الله عنه ثم كان من عواقب ذلك أنهم سفكوا دماء المؤمنين وفعلوا فيهم ما لم يفعلوا بالمشركين : فقال : ليس الأمر كما قالوا أو كما ظنوا وإنما هو كفر دون كفر
هذا الجواب المختصر الواضح من ترجمان القرآن في تفسير هذه الآية هو الحكم الذي لا يمكن أن يفهم سواه من النصوص التي أشرت إليها قبل
ثم إن كلمة ( الكفر ) ذكرت في كثير من النصوص القرآنية والحديثية ولا يمكن أن تحمل - فيها جميعا - على أنها تساوي الخروج من الملة

(3/41)


من ذلك مثلا الحديث المعروف في الصحيحين عن عبدالله بن مسعود رضي الله تعالى عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : ] سباب المسلم فسوق وقتاله كفر [ . فالكفر هنا هو المعصية التي هي الخروج عن الطاعة ولكن الرسول عليه الصلاة والسلام - وهو أفصح الناس بيانا - بالغ في الزجر قائلا. . . وقتاله كفر
ومن ناحية أخرى هل يمكن لنا أن نفسر الفقرة الأولى من هذا الحديث - ] سباب المسلم فسوق [ - على معنى الفسق المذكور في اللفظ الثالث ضمن الآية السابقة :[ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون ] ؟
والجواب : أن هذا قد يكون فسقا مرادفا للكفر الذي هو بمعنى الخروج عن الملة وقد يكون الفسق مرادفا للكفر الذي لا يعني الخروج عن الملة وإنما يعني ما قاله ترجمان القرآن إنه كفر دون كفر
وهذا الحديث يؤكد أن الكفر قد يكون بهذا المعنى وذلك لأن الله عز وجل قال : [وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله ] . إذ قد ذكر ربنا عز وجل هنا الفرقة الباغية التي تقاتل الفرقة المحقة المؤمنة ومع ذلك فلم يحكم على الباغية بالكفر مع أن الحديث يقول : ] . . .[ وقتاله كفر ]
إذا فقتاله كفر دون كفر كما قال ابن عباس في تفسير الآية السابقة تماما
فقتال المسلم للمسلم بغي واعتداء وفسق وكفر ولكن هذا يعني أن الكفر قد يكون كفرا عمليا وقد يكون كفرا اعتقاديا

(3/42)


من هنا جاء هذا التفصيل الدقيق الذي تولى بيانه وشرحه الإمام - بحق - شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله وتولى ذلك من بعده تلميذه البار ابن قيم الجوزية إذ لهما الفضل في التنبيه والدندنة على تقسيم الكفر إلى ذلك التقسيم الذي رفع رايته ترجمان القرآن بتلك الكلمة الجامعة الموجزة فابن تيمية يرحمه الله وتلميذه وصاحبه ابن قيم الجوزية : يدندنان دائما حول ضرورة التفريق بين الكفر الاعتقادي والكفر العملي وإلا وقع المسلم من حيث لا يدري في فتنة الخروج عن جماعة المسلمين التي وقع فيها الخوارج قديما وبعض أذنابهم حديثا
وخلاصة القول : إن قوله صلى الله عليه وسلم ] . . . وقتاله كفر [ لا يعني - مطلقا - الخروج عن الملة والأحاديث في هذا كثيرة جدا فهي - جميعا - حجة دامغة على أولئك الذين يقفون عند فهمهم القاصر للآية السابقة ويلتزمون تفسيرها بالكفر الاعتقادي
فحسبنا الآن هذا الحديث لأنه دليل قاطع على أن قتال المسلم لأخيه المسلم هو كفر بمعنى الكفر العملي وليس الكفر الاعتقادي .انتهى كلامه رحمه الله ..

(3/43)


من ذاكرة التاريخ
قال أبو مخنف عن عطاء بن عجلان عن حميد بن هلال : إن الخارجة التي أقبلت من البصرة جاءت حتى دنت من إخوانها بالنهر ، فخرجت عصابة منهم فإذا هم برجل يسوق بامرأة على حمار فعبروا إليه فدعوه فتهددوه وأفزعوه وقالوا له من أنت ؟ قال أنا عبد الله بن خباب صاحب رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ثم أهوى إلى ثوبه يتناوله من الأرض وكان سقط عنه لما أفزعوه فقالوا له : أفزعناك ؟ قال : نعم ، قالوا له : لا روع عليك ، فحدثنا عن أبيك بحديث سمعه من النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لعل الله ينفعنا به قال حدثني أبي عن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن فتنة تكون يموت فيها قلب الرجل كما يموت فيها بدنه يمسي فيها مؤمنا ويصبح فيها كافرا ويصبح فيها كافرا ويمسي فيها مؤمنا ، فقالوا لهذا الحديث سألناك ، فما تقول في أبي بكر وعمر ؟ فأثنى عليهما خيرا. قالوا ما تقول في عثمان في أول خلافته وفي آخرها ؟ قال : إنه كان محقا في أولها وفي آخرها. قالوا فما تقول في علي قبل التحكيم وبعده ؟ قال : إنه أعلم بالله منكم وأشد توقيا على دينه وأنفذ بصيرة ، فقالوا إنك تتبع الهوى وتوالي الرجال على أسمائها لا على أفعالها والله لنقتلنك قتلة ما قتلناها أحدا فأخذوه فكتفوه ثم أقبلوا به وبامرأته وهي حبلى متم حتى نزلوا تحت نخل مواقر فسقطت منه رطبة فأخذها أحدهم فقذف بها في فمه فقال أحدهم بغير حلها وبغير ثمن فلفظها وألقاها من فمه ثم أخذ سيفه فأخذ بيمينه فمر به خنزير لأهل الذمة فضربه بسيفه ، فقالوا هذا فساد في الأرض فأتى صاحب الخنزير فارضاه من خنزيره ، فلما رأى ذلك منهم ابن خباب قال لئن كنتم صادقين فيما أرى فما علي منكم بأس إني لمسلم ما أحدثت في الإسلام حدثا ولقد أمنتموني قلتم لا روع عليك ، فجاؤا به فأضجعوه فذبحوه وسال دمه في الماء ، وأقبلوا إلى المرأة فقالت : إنما أنا امرأة !!! ألا تتقون الله ؟ فبقروا بطنها وقتلوا ثلاث نسوة من طيء وقتلوا أم

(3/44)


سنان الصيداوية فبلغ ذلك عليا ومن معه من المسلمين من قتلهم عبدالله بن خباب واعتراضهم الناس فبعث إليهم الحارث بن مرة العبدي ليأتيهم فينظر فيما بلغه عنهم ويكتب به إليه على وجهه ولا يكتمه فخرج حتى انتهى إلى النهر ليسائلهم فخرج القوم إليه فقتلوه . أهـ [تاريخ الطبرى حـ3 صـ199]

ومسك الختام فى هذا الموضوع ذكر بعض الأحاديث النبوية عن أسامة بن زيد بن حارثة رضي الله عنهما قال بعثنا رسول الله ـ صلى الله عليه
وسلم ـ إلى الحرقة من جهينة قال فصبحنا القوم فهزمناهم قال ولحقت
أنا ورجل من الأنصار رجلا منهم قال فلما غشيناه قال لا إله إلا الله قال فكف عنه الأنصاري فطعنته برمحي حتى قتلته قال فلما قدمنا بلغ ذلك النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال فقال لي ( يا أسامة أقتلته بعد ما قال لا إله إلا الله ) . قال قلت يا رسول الله إنما كان متعوذا قال (أقتلته بعدما قال لا إله إلا الله) . قال فما زال يكررها علي حتى تمنيت أني لم أكن أسلمت قبل ذلك اليوم ) [ أخرجه البخارى ] [6478]
وعن أنس بن مالك قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " ثلاث من أصل
: الإيمان الكف عمن قال لا إله إلا الله ولا نكفره بذنب ولا نخرجه عن الإسلام بعمل والجهاد ماض منذ بعثني الله إلى أن يقاتل آخر أمتي الدجال لايبطله جور جائر ولا عدل عادل والإيمان بالأقدار. رواه أبو داود [2532] .]
عن ابن عمر : قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :(كفوا عن أهل لا إله إلا الله لا تكفروهم بذنب فمن أكفر أهل لا إله إلا الله فهو إلى الكفر أقرب) رواه الطبرانى فى الكبير [13089] .
وعن المقداد بن عمرو الكندي أنه قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم : أرأيت إن لقيت رجلا من الكفار فاقتتلنا فضرب إحدى يدي بالسيف فقطعها ثم لاذ

(3/45)


مني بشجرة فقال أسلمت لله أقتله يا رسول الله بعد أن قالها ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( لا تقتله ) . فقال يا رسول الله إنه قطع إحدى يدي ثم قال ذلك بعد ما قطعها ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( لا تقتله فإن قتلته فإنه بمنزلتك قبل أن تقتله وإنك بمنزلته قبل أن يقول كلمته التي قال) أخرجه البخارى [3794]
__________________________________________________
تعليق
إنما طولنا النفس فى هذا الأمر لخطورته وأهميته ، فقد كان سببا فى فرقة المسلمين وضعفهم ، وعلى كل طالب للحق أن ينظر بعين بصيرته ليفرق بين الحق والباطل ــ والأصل براءة الذمة ــ والله يقول [ ولكن ما تعمدت قلوبكم ]وفى صحيح السنة [ إنما الأعمال بالنيات ] وهذا أصل عظيم فيجب أن نحسن الظن بالمسلمين ، أما تبنى تكفير المخالف فهو مذهب الخوارج فى كل عصر ، وقد تقدمت أحاديث سيد المتقين وإمام المرسلين ـ صلى الله عليه وسلم ـ فى هذا الشأن وكلام المحقين من العلماء المحققين ومنهم الإمام المفترى عليه شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ والذى صوره بعض من يدعى الانتساب إلى السلف ـ والسلف منه براء ـ وكفر كل من خالفه موهما أن هذا رأى شيخ الإسلام وحاش لله أن يكون مذهب السلف يقول بتكفير المخالف ، ولكنه مذهب يقوم على التسامح وحسن الظن بالمسلمين وأن رأيى صواب يحتمل الخطأ ورأى غيرى خطأ يحتمل الصواب ، وفى الحقيقة لقد أساء كثير من هؤلاء إلى الإمامين الجليلين ابن تيمية وابن القيم وإلى مذهب السلف عموما ، واقرأ إن شئت كتب الإمامين المحققة اليوم لتقف على هذه الحقيقة المرة والمؤلمة وترى ما وضع فيها من فساد وإفساد يخالف منهج الإمامين ـ رحمهما الله ـ بل إن بعض الصبية فى العقل ممن يدعون التحقيق يعتب على الإمام ابن القيم فى مدارج السالكين لأنه لم يكفر الشيخ الهروى ـ سبحانك هذا بهتان عظيم ـ وهذه جرأة على العلماء [ولحوم العلماء مسمومة ] وأهل لا إله إالا

(3/46)


الله لهم حرمة يجب أن تصان وحسبنا الله ونعم الوكيل ومن أراد مزيد بيان فى هذا الموضوع فليرجع إلى كتاب إيثار الحق على الخلق لابن الوزير والله أعلم أهـ.
الإنذار : إعلام مع التخويف / المنذر معلم وليس كل معلم منذراً(1). أهـ
سؤال : قوله تعالي : " سواء عليهم ءأنذرتهم أم لم تنذرهم " لم قال ذلك ولم يقل إنذارك وعدم إنذارك ؟
الجواب : قوله تعالي : " أأنذرتهم أم لم…تنذرهم معناه سواء عليهم إنذارك وعدم إنذارك لهم بعد ذلك لأن القوم قد بلغوا في الإصرار واللجاج والإعراض عن الآيات والدلائل إلى حالة ما بقي فيهم ألبتة رجاء القبول بوجه وقبل ذلك ما كانوا كذلك ولو قال سواء عليهم إنذارك وعدم إنذارك لما أفاد هذا المعني إنما حصل في هذا الوقت دون ما قبله ولما قال ءأنذرتهم أم لم تنذرهم } أفاد أن هذه الحالة إنما حصلت في هذا الوقت فكان ذلك يفيد حصول اليأس وقطع الرجاء منهم (2). أهـ
((وجه مردود))
قال الإمام الزمخشري (3) ما نصه : فإن قلت ما تقول فيمن يقلب الثانية ألفاً (4) قلت هو لاحن خارج عن كلام العرب خروجيين أحدهما الإقدام على جمع ساكنين علي غير حدة و الثاني : إخطاء طريق التخفيف لأن طريق التخفيف الهمزة المتحركة المفتوح ما قبلها أن تخرج بين بين فأما القلب ألفا فهو تخفيف الهمزة الساكنة المفتوحة ما قبلها كهمزة رأس ... أهـ
سؤال : فإن قيل إن كان يستوي الإنذار وعدمه فما فائدته ؟
__________
(1) - معالم التنزيل حـ1 - صـ40
(2) التفسير الكبير حـ2 - صـ285
(3) - الكشاف حـ1 - صـ56 - 57
(4) - هذه راوية ورش عن نافع في مثل قوله تعالى "" أأنذرتهم " بتسهيل الهمزة الثانية بين بين أو بإبدالها ألفًا مع الإشباع [ تمد ست حركات ] وهذه قراءة متواترة قرأ بها رسول الله صلى الله عليه وسلم - فكيف يحكم على من يقرأ بها بأنه لاحن [ مخطئ ] ؟!! فالأولى تقديم ما قرأ به رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهجر رأي الإمام الزمخشري .

(3/47)


والجواب : لإقامة الحجة و كان في هذا قطعاً لطمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في إيمانهم (1). أهـ
وقال الكرماني - رحمه الله - " سواء عليهم " { البقرة : 6 } وفي يس بزيادة واو لأن ما في البقرة جملة هي خبرها عن اسم إن وما في يس جملة عطفت بالواو على جملة (2). أهـ
سؤال : فإن قيل : لم اقتصر على الإنذار ولم يذكر البشارة في قوله تعالى : " أأنذرتهم أم لم تنذرهم "؟
الجواب : لأنهم ليسوا أهلاً للبشارة ولأن الإنذار أوقع في القلوب ومن لم يتأثر به فلأن لا يرفع البشارة رأساً - أولى (3). أهـ
قوله تعالى ( ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم ... الآية )
يقول الحقّ جلّ جلاله: يا محمد { إنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا } بما أنزل إليك جهراً، وسبقت لهم مني الشقاوة سرّاً، لا ينفع فيهم الوعظ والإنذار، ولا البشارة والتذكار، فإنذارك وعدمه في حقهم سواء، لما سبق لهم مني الطرد والشقاء، فالتذكير في حقهم عناء ، والغيبة عن أحوالهم راحة وهناء، لأني ختمتُ على قلوبهم بطابع الكفران، فلا يهتدون إلى إسلام ولا إيمان، ومنعت أسماعهم أن تصغي إلى الوعظ والتذكير، فلا ينجع فيهم تخويف ولا تحذير، وغشيت أبصارهم بظلمة الحجاب فلا يبصرون الحق والصواب، قد أعددتُهم لعذابي ونقمتي، وطردتهم عن ساحة رحمتي ونعمتي.
__________
(1) - تفسير السعدي صـ35 - بتصرف يسير
(2) - أسرار التكرار في القرآن للكرماني صـ22 ط دار الاعتصام - بالقاهرة
(3) - محاسن التأويل حـ2 - صـ273 - بتصرف يسير

(3/48)


وإنما أمرتك بإنذارهم لإقامة الحجة عليهم، وإني وإن حكمت عليهم أنهم من أهل مخالفتي وعنادي؛ فإني لا أظلم أحداً من خلقي وعبادي ،{ قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَآءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ }[الأنعَام: 149]. فما ظلمتُهم؛ لأني بعثتُ الرسلَ مبشرين ومنذرين ، ولكن ظلموا أنفسهم فكانوا هم الظالمين، فحكمتي اقتضيت الإنذار، وقدرتي اقتضت القهر والإجبار، فالواجب عليك أيها العبد أن تكون لك عينان : عين تنظر لحكمتي وشريعتي فتتأدب، وعينٌ تنظر لقدرتي وحقيقتي فتُسلم ، وتكون بي الأمن والرّهْب ، فلا تأمَنْ مَكْرِي وإن أمَّنتُك، ولا تيأس من حلمي وإن أبعدتك، فعلمي لا يحيط به محيط، إلا من هو بكل شيء محيط. . أهـ [ البحر المديد حـ1 صـ65 .
مسألة الجبر
أول سؤال يطرح في هذا المجال يدور حول مسألة الجبر ، التي قد تتبادر إلى الأذهان من قوله تعالى: (خَتَمَ اللهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ وَعَلى أبْصَارِهِمْ غِشاوَةٌ..) فهذا الختم يفيد بقاء هؤلاء في الكفر إجباراً ، دون أن يكون لهم اختيار في الخروج من حالتهم هذه. أليس هذا بجبر؟ وإذا كان جبراً فلماذا العقاب ؟

(3/49)


القرآن الكريم يجيب على هذه التساؤلات ويقول : إن هذا الختم وهذا الحجاب هما نتيجة إصرار هؤلاء ولجاجهم وتعنتهم أمام الحق ، واستمرارهم في الظلم والطغيان والكفر . يقول تعالى : (بَلْ طَبَعَ اللهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ) ويقول : (كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللهُ عَلى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّر جَبَار) ويقول أيضاً : (اأفَرَأيْتَ مَنِ اتَّخَذ إلَهَهُ هَوَاهُ وَأضَلَّهُ اللهُ عَلَى عِلْم وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلى بَصَرِهِ غِشاوَةً) كل هذه الآيات تقرر أنّ السبب في سلب قدرة التشخيص ، وتوقف أجهزة الإدراك عن العمل يعود إلى الكفر والتكبر والتجبر واتباع الهوى واللجاج والعناد أمام الحق ، هذه الحالة التي تصيب الإنسان ، هي في الحقيقة ردّ فعل لأعمال الإنسان نفسه .
من المظاهر الطبيعية في الموجود البشري ، أن الإنسان لو تعوّد على انحراف واستأنس به ، يتخذ في المرحلة الأُولى ماهية الـ «حالة» ثمّ يتحول إلى «عادة» وبعدها يصبح «ملكة» وجزءً من تكوين الإنسان حتى يبلغ أحياناً درجة لا يستطيع الإنسان أن يتخلّى عنها أبداً ، لكن الإنسان اختار طريق الانحراف هذا عن علم ووعي ، ومن هنا كان هو المسؤول عن عواقب أعماله ، دون أن يكون في المسألة جبر تماماً ، مثل شخص فقأ عينيه وسدَّ أُذنيه عمداً ، كي لا يسمع ولا يرى .
ولو رأينا أن الآيات تنسب الختم وإسدال الغشاوة إلى الله ، فذلك لأن الله هو الذي منح الانحراف مثل هذه الخاصية. (تأمّل بدقّة). أهـ [ الأمثل فى تفسير الكتاب المنزل للشيرازى حـ1 صـ 104] .
لطيفة
قال الإمام القرطبي(1) – رحمه الله – ما نصه :
__________
(1) - تفسير القرطبي حـ1 – صـ 136 - 137

(3/50)


" وقال أهل المعاني : وصف الله قلوب الكفار بعشرة أوصاف بالختم والطبع والضيق والمرض والرين والموت والقساوة والانصراف والحمية والإنكار فقال في الإنكار : " قلوبهم منكرة و هم مستكبرون " [النحل : 22] وقال في الحمية : " إذ جعل الذين كفروا في قلوبهم الحمية " { الفتح : 26 } وقال في الانصراف " ثم انصرفوا صرف الله قلوبهم بأنهم قوم لا يفقهون " { التوبة : 127 }
وقال في القساوة : " فويل للقاسية قلوبهم من ذكر الله " { الزمر : 22 } وقال : " ثم قست قلوبكم من بعد ذلك " { البقرة : 74 } وقال في الموت : " أو من كان ميتاً فأحييناه " { الأنعام : 122 } وقال في الرين : " كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون " { المطففين : 14 }
وقال في المرض : " في قلوبهم مرض " { البقرة : 20 } وقال في الضيق : " ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقاً حرجاً " { الأنعام : 125 } وقال في الطبع : " فطبع على قلوبهم فهم لا يفقهون " { المنافقون : 3 } وقال : " بل طبع الله عليها بكفرهم " { النساء : 155 } وقال في الختم :" ختم الله على قلوبهم " { البقرة : 7 } أهـ
وذكر ابن القيم – رحمه الله – في شفاء العليل: أن الله عاقب الكفار بأمور تمنعهم من الإيمان وذكر منها :
الختم والطبع والأكنة والغطاء والغلاف والحجاب والوقرة والغشاوة والران والغل والسد والقفل والصمم والبكم والعمى والصد والصرف والشد على القلب والضلال والإغفال وتقليب الأفئدة والحول بين المرء
وقلبه وإزاغة القلوب والخذلان والتثبيط والتزيين وعدم الإرادة هداهمم وتطهيرهم وإماتة قلوبهم بعد خلق الحياة فيها فتبقي على الموت الأصلي وإمساك النور عنها فتبقي في الظلمة الأصلية وجعلها قاسية لا ينطبع فيه مثال الهدى و صورته وجعل الصدر ضيقاً حرجاً لا يقبل الإيمان .
وهذه الأمور منها ما يرجح إلى القلب كالختم والطبع والقفل والأكنة والمرض ونحوها .

(3/51)


ومنها ما يرجع إلى رسوله الموصل إليه الهدى كالصمم والوقر ومنها ما يرجع إلى طليعته ورائده كالعمى والغشاوة ومنها ما يرجع إلى ترجمانه ورسوله المبلغ عنه كالبكم النطقي وهو نتيجة البكم القلبي فإذا بكم القلب بكم اللسان (1). أهـ .
قال الخازن – رحمه الله – " ختم الله علي قلوبهم " أي طبع الله عليها فلا تعي خيراً ولا تفهمه وأصل الختم التغطية وحقيقته الاستيثاق من الشيء لكي لا يخرج منه ما حصل فيه ولا يدخله ما خرج منه ومنه ختم الكتاب(2) . أهـ
سؤال : فإن قيل لم خص القلب بالختم دون سائر الجوارح ؟
فالجواب : لأنه محل الفهم والعلم (3). أهـ
سؤال : " فإن قيل لم جمع الأبصار ووحد السمع ؟
فالجواب : إنما وحده لأنه مصدر يقع للقليل والكثير يقال سمعت الشيء أو اسمعه سمعاً وسماعاً فالسمع مصدر سمعت و السمع أيضاً اسم الجارحة
المسموع بها سميت بالمصدر وقيل إنه لما أضاف السمع إلى الجماعة دل على أنه يراد به أسماع الجماعة (4). أهـ

لماذا جاءت «قُلُوبُهُمْ» و«أَبْصَارُهُمْ» بصيغة الجمع ، و«سَمْعُهُمْ» بصيغة المفرد ؟
يتكرر في القرآن استعمال القلب والبصر بصيغة الجمع : قلوب وأبصار، بينما يستعمل السمع دائماً بصيغة المفرد ، فما السرّ في ذلك ؟
قبل الإجابة لابد من الإشارة إلى أن القرآن استعمل السمع والبصر بصيغة المفرد أيضاً كقوله تعالى : (وَخَتَمَ عَلى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلى بَصَرِهِ غِشَاوَةً).
__________
(1) - شفاء العليل لابن القيم حـ1 – صـ92 – بتصرف يسير – ط دار الفكر - بيروت
(2) - تفسير الخازن حـ1 – صـ24
(3) - تفسير الخازن – حـ1 – صـ24
(4) - تفسير القرطبي حـ - صـ139

(3/52)


الشّيخ الطّوسي(رحمه الله) في تفسير «التبيان» ذكر نقلا عن لغوي معروف ، أن سبب ذلك قد يعود إلى أحد أمرين:أولهما : إن كلمة «السمع» قد تستعمل باعتبارها اسم جمع ، ولا حاجة عندئذ إلى جمعها. ثانياً : إن كلمة «السمع» لها معنى المصدر، والمصدر يدل على الكثير والقليل ، فلا حاجة إلى جمعه.
ويمكننا أن نضيف إلى ما سبق تعليا ذوقياً وعلمياً هو أن الإدراكات القلبية والمشاهدات العينية تزيد بكثير على «المسموعات» ، ولذا جاءت القلوب والأبصار بصيغة الجمع ، والفيزياء الحديثة تقول لنا إن الأمواج الصوتية المسموعة معدودة لا تتجاوز عشرات الآلاف ، بينما أمواج النور والألوان المرئية تزيد على الملايين. (تأمل بدقة). أهـ الأمثل فى تفسير الكتاب المنزل للشيرازى حـ1 صـ107
وقال فى نظم الدرر ما نصه : { وعلى سمعهم } فهم لا يسمعون حق السمع ، وأفرده لأن التفاوت فيه نادر ، قال الحرالي : وشرّكه في الختم مع القلب ؛ لأن أحداً لا يسمع إلا ما عقل. أهـ [ نظم الدرر للبقاعى حـ1 صـ22 ]
" وعلى سمعهم "
أي وختم على موضع سمعهم فلا يسمعون الحق ولا ينتفعون به وعلى أبصارهم غشاوة الغشاوة الغطاء ومنه السرج أي وحصل على أبصارهم غشاوة فلا يرون الحق وهي غطاء التعامي عن آيات الله ودلائل توحيده .
" ولهم عذاب عظيم " يعني فىالآخرة وقيل الأسر والقتل في الدنيا والعذاب الأليم الدائم في العقبي وحقيقة العذاب هو كل ما يؤلم الإنسان ويعييه ويشق عليه وقيل هو الإيجاع الشديد وقيل هو ما يمنع الإنسان .من مراده ومنه الماء العذب لأنه يمنع العطش والعظيم ضد الحقير(1) . أهـ
" فائدة "
الفرق بين العظيم والكبير أن العظيم نقيض الحقير والكبير نقيض الصغير فكأن العظيم فوق الكبير كما أن الحقير دون الصغير ويستعملان في الجثث والأحداث جميعاً تقول رجل عظيم وكبير وتريد جثته أو خطره .
__________
(1) - تفسير الخازن حـ1 - صـ25 - بتصرف يسير

(3/53)


سؤال : ما معنى التنكير في قوله " غشاوة " الجواب : أن على أبصارهم نوعاً من الأغطية غير ما يتعارفه الناس وهو غطاء التعامي عن آيات الله ولهم من بين الآلام العظام نوع عظيم لا يعلم كنهه إلا الله (1). أهـ
" ختم الله على قلوبهم و على سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة "
سؤال : فإن قيل لم خص الله هذه الأعضاء بالذكر ؟
فالجواب: قيل إنها طرق العلم ، فالقلب محل العلم وطريقه السماع أو الرؤية(2)أهـ
سؤال : ما الفائدة في تكرير الجار في قوله " و على سمعهم "
الجواب أنها لما أعيدت للأسماع كان أدل على شدة الختم في الموضعين(3).أهـ
قال صاحب الميزان (4)– رحمه الله – وقوله تعالي " ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم " يشعر تغيير السياق حيث نسب الختم نفسه إلى نفسه تعالي والغشاوة إليهم أنفسهم بأن فيهم حجاباً دون الحق في أنفسهم وحجاباً من الله تعالي عقيب كفرهم وفسوقهم ، فأعمالهم متوسطة بين حجابين من ذاتهم ومن الله تعالي أهـ .
ثم قال – واعلم أن الكفر كالإيمان وصف قابل للشدة والضعف فله مراتب مختلفة الآثار كالإيمان . أهـ
وقال العلامة ابن القيم (5)– رحمه الله – وقال أبو إسحاق معنى ختم وطبع في اللغة واحد وهو التغطية على الشيء والاستيثاق منه فلا يدخله شيء كما قال الله تعالي : " أم على قلوب أقفالها " { محمد : 24 } و كذلك قوله : " وطبع الله على قلوبهم " { البقرة : 94 }
قلت : الختم والطبع يشتركان في ذكر ويفترقان في معني آخر وهو أن الطبع ختم يصير سجية وطبيعة فهو تأثير لازم لا يفارق . أهـ
__________
(1) - الكشاف حـ1 ص62 – بتصرف يسير
(2) - مجمع البيان حـ1 – صـ131
(3) - التفسير الكبير حـ2 – صـ295
(4) - الميزان حـ1 – صـ52 – بتصرف يسير
(5) - شفاء العليل صـ92 – بتصرف يسير

(3/54)


وقال ابن جزى (1)– رحمه الله - : " ختم " تعليل لعدم إيمانهم وهو عبارة عن إضلاهم فهو مجاز وقيل حقيقة و إن القلب كالكف ينقبض مع زيادة الضلال إصبعاً إصبعاً حتى يختم عليه والأول أبرع – غشاوة – مجاز مرسل باتفاق ، وفيه دليل على وقوع المجاز في القرآن خلاف لمن منعه.أهـ
فإن قيل : لماذا قدم هنا القلوب على السمع فقال ( ختم الله على قلوبهم وسمعهم ) وعكس فى الجاثية فقال ( وختم على سمعه وقلبه ) ؟
فالجواب كما ذكره البقاعى :
ولما سوى هنا بين الإنذار وعدمه كانت البداءة بالقلوب أنسب تسوية لهم بالبهائم ، ولما كان الغبي قد يسمع أو يبصر ، فيهتدي وكان إلى السمع أضر لعمومه وخصوص البصر بأحوال الضياء نفى السمع ثم البصر تسفيلاً لهم عن حال البهائم ، بخلاف ما في الجاثية ، فإنه لما أخبر فيها بالإضلال ، وكان الضال أحوج شيء إلى سماع الهادي نفاه ، ولما كان الأصم ، إذا كان ذا فهم أو بصر أمكنت هدايته ، وكان الفهم أشرف نفاهما على ذلك الترتيب.أهـ
[ نظم الدرر للبقاعى حـ1 صـ22 ]
__________
(1) - التسهيل حـ1 – صـ37 – بتصرف يسير

(3/55)


( وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض .... الآية )
الفساد : خروج الشيء عن الحالة اللائقة ، والصلاح مقابله ، والفساد في تهييج الحروب والفتن المتتبعة لزوال الاستقامة عن أحوال العباد واختلال أمر المعاش والمعاد ، والمراد بما نهوا عنه ما يؤدي إلى ذلك من إفشاء أسرار المؤمنين إلى الكفار وإغرائهم عليهم وغير ذلك من فنون الشرور ، يقال للرجل : ( لا تقتل نفسك بيدك ولا تلق نفسك في النار إذا قدم على ما تلك عاقبته .
قوله ( قالوا إنما نحن مصلحون ) جواب ( إذا ) وهو العامل فيها أي نحن مقصورون على الإصلاح المحض بحيث لا يتعلق به شائبة الإفساد والفساد ، وهذا الجواب منهم رد للناصح على أبلغ وجه ،
والمعنى أنه لا تصح مخاطبتنا بذلك ، فإن شأننا ليس إلا الإصلاح ، وإن حالنا متحمضة عن شوائب الفساد ، لأن إنما تفيد قصر ما دخلته على ما بعدها مثل : إنما زيد منطلق ، وإنما ينطلق زيد ، وإنما قالوا ذلك لأنهم تصوروا الفساد بصورة الصلاح لما في قلوبهم من المرض كما قال تعالى : ( أفمن زين له سوء عمله فرآه حسناً ) (فاطر : 8) قوله رداً عليهم)(1) وعبارة السمين والتأكيد (بأن) وبضمير الفصل ، وتعريف الخبر للمبالغة في الرد عليهم لما ادعوه من قولهم (إنما نحن مصلحون) لأنهم أخرجوا الجواب جملة اسمية مؤكدة بإنما ليدلوا بذلك على ثبوت الوصف لهم فرد الله عليهم بأبلغ وأوكد بما ادعوه (2 ) . أهـ
(سؤال) : فإن قلت : كيف يصح النفاق مع المجاهرة بقولهم (أنؤمن كما آمن السفهاء)
(الجواب) كانوا يظهرون هذا القول فيما بينهم لا عند المؤمنين (1) . أهـ
(سؤال) : فإن قيل كيف عبر في الآية السابقة بقوله (ولكن لا يشعرون) وفي هذا الآية (ولكن لا يعلمون) ؟
__________
(1) 1 ـ المراد قوله تعالى (ألا إنهم هم المفسدون ) 2 ـ الفتوحات الإلهية ج 1 ص31 3- تفسير الخازن جـ1 صـ27

(4/1)


(والجواب) لأن التعبير بـ (لا يعلمون) أكثر مطابقة لذكر السفه ، لأن السفه جهل مطابقة العلم ، ولأن أمر الإيمان أخروي يحتاج إلى دقة نظر فعبر في الآية التي اشتملت عليه بـ (لا يعلمون) وأمر البغي والفساد دينوي فهو كالمحسوس لا يحتاج إلى دقة نظر فعبر في الآية التي اشتملت عليه بـ (لا يشعرون) (1) أهـ
وقال ابن الأثير ما نصه : وقوله تعالى ( وإذا قيل لهم آمنوا كما آمن الناس قالوا أنؤمن كما آمن السفهاء ألا إنهم هم السفهاء ولكن لا يعلمون ) ألا ترى كيف فصل الآية الأخرى بـ [يعلمون] والآية التي قبلها بـ [يشعرون] ، وإنما فعل ذلك ؛ لأن أمر الديانة والوقوف على أن المؤمنين على الحق وهم على الباطل يحتاج إلى نظر واستدلال حتى يكتسب الناظر العلم والمعرفة بذلك ، وأما النفاق وما فيه من البغي المؤدي إلى الفتنة والفساد في الأرض فأمر دنيوي مبني على العادات معلوم عند الناس خصوصا عند العرب وما كان فيهم من التحارب والتغاور ، فهو كالمحسوس عندهم ، فلذلك قال فيه
( لا يشعرون ) وأيضا فإنه لما ذكر السفه في الآية الأخيرة وهو جهل كان ذكر العلم معه أحسن طباقا فقال ( لا يعلمون ) . أهـ [المثل السائر فى أدب الكاتب والشاعر لابن الأثير حـ2 صـ284]
قوله تعالى : (وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا إنما نحن مصلحون)
قال ابن الجوزي – رحمه الله –
في المراد بالإفساد هنا خمسة أقوال
أحدهما : أنه الكفر ، والثاني : العمل بالمعاصي ، الثالث : الكفر
والرابع : ترك امتثال الأوامر واجتناب النواهي والخامس : أنه النفاق الذي صادفوا به الكفار وأطلعوهم على أسرار المؤمنين .
وفي قوله (مصلحون) خمسة أقوال :
أحدهما : إنكار ما عرفوا به وتقديره : ما فعلنا شيئاً يوجب الفساد
والثاني : أن معناه إنا قصدنا الإصلاح بين المسلمين والكافرين
والثالث : أنهم أرادوا مصافاة الكفار : صلاح لا فساد
__________
(1) - السراج المنير جـ1 صـ25

(4/2)


والرابع : أنهم أرادوا أن فعلنا هذا هو الصلاح ، وتصديق محمد - صلى الله عليه وسلم - هو الفساد
والخامس : أنهم ظنوا أن مصافاة الكفار صلاح في الدنيا لا في الدين ، لأنهم اعتقدوا أن الدولة إن كانت للنبي - صلى الله عليه وسلم - فقد أمنوه بمبايعته وإن كانت للكفار فقد أمنوهم بمصافاتهم (1) . آهـ
قوله تعالى (وإذا قيل لهم آمنوا كما آمن الناس .. الآية) (آمنوا كما آمن الناس) يعني المهاجرين والأنصار ، وقيل عبد الله بن سلام وأصحابه من مؤمني أهل الكتاب (ألا إنهم هم السفهاء) يعني الجهال ، وأصل السفه خفة العقل ورقة العلم ، وإنما سمى الله المنافقين سفهاء ، لأنهم كانوا عند أنفسهم عقلاء رؤساء فقلب ذلك عليهم وسماهم سفهاء (2) . أهـ
( الله يستهزئ بهم )
وقيل : إن ضرر استهزائهم بالمؤمنين راجع عليهم وغير ضار بالمؤمنين فيصير كأن الله استهزأ بهم .
وقيل : إن من آثار الاستهزاء حصول الهوان والحقارة ، فذكر الاستهزاء والمراد حصول الهوان لهم تعبير بالسبب عن المسبب (3) . أهـ
(سؤال) فإن قيل : كيف ابتدأ قوله (الله يستهزئ بهم) ولم يعطف على الكلام الذي قبله ؟
(الجواب) هو استئناف في غاية الجزالة والفصاحة ، وفيه أن الله تعالى هو الذي يستهزئ بهم استهزاء العظيم الذي يصير استهزاؤهم في مقابلته كالعدم وفيه أيضاً أن الله هو الذي يتولى الاستهزاء بهم انتقاماً للمؤمنين ، ولا يحوج المؤمنين إلى أن يعارضوهم باستهزاء مثله . (4) أهـ
(سؤال) هلا قيل : إن الله مستهزئ بهم ليكون مطابقاً لقوله (إنما نحن مستهزئون)
(الجواب) لأن يستهزئ يفيد حدوث الاستهزاء وتجدده وقتاً بعد وقت .(5) أهـ
قوله تعالى (ويمدهم في طغيانهم يعمهون)
__________
(1) - زاد المسير جـ1 صـ32 ، باختصار يسير
(2) - تفسير الخازن جـ1 صـ27 . بتصرف يسير
(3) - التفسير الكبير جـ2 صـ309 بتصرف يسير
(4) - التفسير الكبير جـ2 صـ309
(5) - نفس المرجع السابق صـ310

(4/3)


قوله تعالى (يعمهون) يعمون وقال مجاهد أي : يترددون متحيرين في الكفر والعمي في العين والعمه في القلب ، وفي التنزيل ( فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور ) (الحج : 46) (1) أهـ
وقال صاحب الكشاف : والعمه مثل العمى ، إلا أن العمى عام في البصر والرأي (2) ، والعمه في الرأي خاصة ، وهو التحير والتردد ، لا يدري أين يتوجه ومنه قوله :
بالجاهلين العمه ، أي الذين لا رأي لهم ولا دراية بالطرق ، وسلك أرضاً عمهاء : لا منار بها (3). أهـ
(الله يستهزئ بهم )
نقل ابن كثير (4)- رحمه الله - عن الإمام الطبري ما ملخصه (الله يستهزئ بهم)
هذا وما أشبهه من استهزاء الله - تعالى ذكره ـ وسخريته ومكره وخديعته للمنافقين وأهل الشرك به عند قائل هذا القول ومتأول هذا التأويل .
وهذا القول إن ذلك جواب ومقابلة على صنيعهم
وقال آخرون : هذا وأمثاله على سبيل المثال الجواب ، كقوله الرجل لمن يخدعه إذا ظفر به أنا الذي خدعتك ، ولم يكن منه خديعة ، ولكن قال ذلك إذا صار الأمر إليه قالوا .
وكذلك قوله تعالى : (ومكروا ومكر الله والله خير الماكرين) و (الله يستهزئ بهم على الجواب ، والله لا يكون منه المكر ولا الهزء
والمعنى أن المكر والهزء حاق بهم
وقال آخرون : المراد استهزاؤه بهم توبيخه إياهم ولومه لهم على ما ركبوا من معاصيهم والكفر .
وقيل إن هذه كناية عن جزائهم . أهـ
__________
(1) - تفسير القرطبى جـ1 صـ152 بتصرف يسير
(2) - هذا الأصل يصلح أن يكون جواباً للجمع بين قوله تعالى (فإنها لا تعمي الأبصار ولكن تعمي القلوب التي في الصدور ، وبين قوله في سورة محمد (فأصمهم وأعمى أبصارهم) والله أعلم
(3) - الكشاف جـ1 صـ76
(4) - تفسير ابن كثير جـ1 صـ67 . بتصرف يسير

(4/4)


وقال أبو السعود (1): (الله يستهزئ بهم) أي يجازيهم على استهزائهم سمى جزاؤه كما سمى جزاء السيئة سيئة إما للمشاكلة في اللفظ ، أو المقارنة في الوجود ، أو وبال الاستهزاء عليهم فيكون كالمستهزئ بهم ، أو ينزل بهم الحقارة والهوان الذي هو لازم الاستهزاء ، أو يعاملهم معاملة المستهزئ بهم، أما في الدنيا فبإجراء أحكام المسلمين عليهم واستدراجهم بالإمهال والزيادة في النعمة على التمادي.
التمادي في الطغيان ، أما في الآخرة فبما يروى أنه يفتح لهم باب إلى الجنة فيسرعون نحوه فإذا صاروا إليه سد عليهم الباب وذلك قوله (فاليوم الذين آمنوا من الكفار يضحكون) (المطففين : 34) أهـ
(وقيل إن الاستهزاء من الله التخطئة لهم والتجهيل فمعناه أن الله يخطئ فعلهم ويجهلهم في الإقامة على كفرهم ، وقيل إن الاستهزاء بهم أن يقال لأحدهم وهو في غاية الذل (ذق إنك أنت العزيز الكريم) (الدخان : 49) (2) أهـ

قوله تعالى : ( الله يستهزئ بهم )
قال القرطبي (3) – رحمه الله – (الله يستهزئ بهم) أي ينتقم منهم ويعاقبهم ويسخر بهم ويجازيهم على استهزائهم، فسمى العقوبة باسم الذنب هذا قول الجمهور من العلماء ، والعرب تستعمل ذلك كثيراً في كلامهم ، من ذلك قول عمرو بن كلثوم :
ألا لا يجهلن أحد علينا .... فنجهل فوق جهل الجاهلين
فسمى انتصاره جهلاً ، والجهل لا يفتخر به ذو عقل ، وعلى ذلك جاء الكتاب والسنة وقال الله – عز وجل – (وجزاء سيئة سيئة مثلها) (الشورى : 40) وقال : (فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم) (البقرة : 194) والجزاء لا يكون سيئة ، والقصاص اعتداء ، لأنه حق وجب ، ومثله (ومكروا ومكر الله) (آل عمران : 54) و (إنهم يكيدون كيداً وأكيد كيداً ) (الطارق : 15-16) و (إنما نحن مستهزؤن الله يستهزئ بهم ) (البقرة : 14-15)
__________
(1) - تفسير أبي السعود جـ1 صـ47
(2) - زاد المسير جـ1 صـ35 . بتصرف يسير
(3) - تفسير القرطبي جـ1 صـ151 . بتصرف يسير

(4/5)


وليس منه سبحانه مكر ولا هزء ولا كيد ، إنما هو جزاء لمكرهم واستهزائهم وجزاء كيدهم ، وكذلك (يخادعون الله وهو خادعهم) (النساء : 142) (فيسخرون منهم سخر الله منهم) (التوبة : 79)
وقيل : إن الله يفعل بهم أفعالاً هي في تأمل البشر هزء وخدع ومكر ،
وقيل : الله يستهزئ بهم بأن يفتح لهم أبواب الجنة ثم يقال لهم تعالوا فيقلبون فتغلق دونهم عندها يضحك منهم المؤمنون ، وذلك قوله تعالى (فاليوم الذين آمنوا من الكفار يضحكون) (المطففين : 34)
وقال قوم : الخداع من الله والاستهزاء هو استدراجهم بدرور النعم الدنيوية عليهم ، فالله سبحانه يظهر لهم من الإحسان في الدنيا خلاف ما يغيب عنهم ، عنهم من عذاب الآخرة ، فيظنون أنه راض عنهم وهو تعالى قد حتم عذابهم فهذا على تأمل البشر كأنه استهزاء ومكر وخداع .
وقال بعض العلماء في قوله تعالى ( سنستدرجهم من حيث لا يعلمون) (الأعراف: 182)
كلما أحدثوا ذنباً أحدث لهم نعمة . أهـ
قوله تعالى : ( مثلهم كمثل الذي استوقد ناراً .. الآية )
(سؤال) كيف الله شبه المنافقين واليهود - وهم جماعة - بالذي استوقد ناراً وهو واحد ؟
(الجواب) على وجوه أحدهما : أن الذي في معنى الجمع كما قيل في الآية الأخرى (والذي جاء بالصدق وصدق به أولئك هم المتقون) (الزمر : 33)
وثانيها : أن يقال : النون محذوفة من الذي ، كما جاء في قول الأخطل : أبنى كليب إن عمى اللذا قتلا الملوك وفككا الأغلالا
وثالثها : أن يكون الكلام على حذف ، كأن قال : مثلهم كمثل أتباع الذي استقود ناراً - ثم حذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه كما قال الحبدي
وكيف تواصل من أصبحت .. خلالته كأبي مرحب
يريد كخلالة أبي مرحب
ورابعها : أن يقال : أراد بالمستوقد الجنس لما في الذي من الإبهام
وخامسها : هذا تشبيه الحال بالحال ، فتقديره حال هؤلاء المنافقين في جهلهم كحال المستوقد ناراً ، وتشبيه الحال جائز (1) . أهـ
__________
(1) - مجمع البيان جـ1 صـ146 . بتصرف يسير

(4/6)


وقال ابن جزي : (مثلهم كمثل الذي استوقد ناراً ) قال : (والأرجح أنه أعيد ضمير الجماعة ، لأنه لم يقصد بالذي واحد بعينه إنما المقصود التشبيه بمن استوقد ناراً سواء كان واحداً أو جماعة ثم أعيد الضمير بالجمع ليطابق المشبه لأنهم جماعة(1) أهـ
وقال القرطبي : قوله (الذي) يقع للواحد والجمع قال ابن الشجري هبة الله بن علي : ومن العرب من يأتي بالجمع بلفظ الواحد كما قال :
وإن الذي حانت بفلج دماؤهم .. هم القوم كل القوم با أم خالد
وقيل في قول الله تعالى : (والذي جاء بالصدق وصدق به أولئك هم المتقون) (الزمر : 33)
إنه بهذه اللغة ، وكذلك قوله (مثلهم كمثل الذي) قيل : المعنى كمثل الذين استوقدوا ، ولذلك قال : (ذهب الله بنورهم) ، فحمل أول الكلام على الواحد ، وآخره على الجمع ، فأما قوله تعالى : (وخضتم كالذي خاضوا) (التوبة : 69) فإن الذي ها هنا وصف لمصدر محذوف تقديره وخضتم كالخوض الذي خاضوا .
وقيل : إنما وحد (الذي) و (استوقد) لأن المستوقد كان واحداً من جماعة تولى الإيقاد لهم ، فلما ذهب الضوء رجع عليهم جميعاً فقال : (بنورهم) واستوقد بمعنى أوقد ، مثل استجاب بمعنى أجاب ، فالسين والتاء زائدتان(2).أهـ .
وقال ابن عطية – رحمه الله – (ووحد (الذي) لأنه لم يقصد تشبيه الجماعة بالجماعة ، وإنما المقصد أن كل واحد من المنافقين فعله كفعل المستوقد ، و(الذي) أيضاً ليس بإشارة إلى الواحد ولابد ، بل إلى هذا الفعل : وقع من واحد أو من جماعة (3) أهـ
وقال الإمام الفخر(4) – رحمه الله – المراد جنس المستوقدين أو أريد الجمع أو الفوج الذي استوقد ناراً .
وقال صاحب غرائب القرآن :
ولولا عود الضمير إلى الذي مجموعاً في قوله " بنورهم ، وتركهم "
__________
(1) - التسهيل جـ1 صـ38
(2) - تفسير القرطبي جـ1 صـ154
(3) - المحرر الوجيز جـ1 صـ99
(4) - التفسير الكبير جـ2 صـ313-314 . بتصرف يسير

(4/7)


لم يحتج إلى التكلفات المذكورة ، على أنه يمكن أن يشبه قصة جماعة بقصة شخص واحد نحو ، مثل الذين حملوا التوراة ثم لم يحملوها كمثل الحمار } [الجمعة: 5]. أهـ [ غرائب القرآن نظام الدين النيسابورى حـ1 صـ165]
وقيل أن المنافقين وذواتهم لم يشبهوا بذلك المستوقد ناراً حتى يلزم منه تشبيه الجماعة بالواحد وإنما شبهت قصتهم بقصة المستوقد ، ومثله قوله تعالى : (مثل الذين حملوا التوراة ثم لم يحملوها كمثل الحمار) (الجمعة : 5) وقوله : (ينظرون إليك نظر المغشي عليه من الموت) (محمد : 20)
وقيل : المعنى ومثل كل واحد منهم كقوله : ( يخرجكم طفلاً ) (غافر : 67) أي يخرج كل واحد منكم . أهـ
قال الإمام الزمخشري – رحمه الله – ما نصه (لما جاء بحقيقة صفتهم عقبها بضرب المثل زيادة في الكشف وتتميماً للبيان ، ولضرب العرب الأمثال ، واستحضار العلماء المثل والنظائر . شأن ليس بالخفي في إبراز خبيات المعاني ، ورفع الأستار عن الحقائق ، حتى تريك المتخيل في صورة المحقق ، والمتوهم في معرض المتيقن والغائب كأنه مشاهد ، وفيه تبكيت للخصم الألد ، وقمع لسورة الجامح الأبي ، ولأمر ما أكثر الله في كتابه المبين وفي سائر كتبه أمثاله ، وفشت في كلام رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وكلام الأنبياء والحكماء . قال الله تعالى : (وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلها إلا العالمون) (العنكبوت : 43) (1) أهـ .
__________
(1) - الكشاف جـ1 صـ79

(4/8)


وقال الخازن – رحمه الله – (المثل عبارة عن قول يشبه ذلك القول قولاً بينهما مشابه ليبين أحدهما الآخر ويصوره ، ولهذا ضرب الله تعالى الأمثال في كتابه وهو أحد أقسام القرآن السبعة ، ولما ذكر الله تعالى حقيقة وصف المنافقين عقبه بضرب المثل زيادة في الكشف والبيان ، لأنه يؤثر في القلوب ما لا يؤثره وصف الشيء في نفسه ، ولأن المثل تشبيه الشيء الخفي بالجلي فيتأكد الوقوف على ماهيته وذلك هو النهاية في الإيضاح ، وشرطه أن يكون قولاً فيه غرابة من بعض الوجوه كمثل الذي استوقد ناراً لينتفع بها (1). أهـ
(سؤال) فإن قيل : ما وجه تشبيه المنافقين بصاحب النار التي أضاءت ثم أظلمت ؟ .
(فالجواب) من ثلاثة أوجه :
أحدهما : أن منفعتهم في الدنيا بدعوى الإيمان شبيهة بالنور ، وعذابهم في الآخرة شبيه بالظلمة بعده .
والثاني : أن استخفاء كفرهم كالنور ، وفضيحتهم كالظلمة .
والثالث : أن ذلك فيمن آمن منهم ثم كفر ، فإيمانه نور ، وكفره بعد ظلمه ، ويرجح هذا القول قوله : (ذلك بأنهم آمنوا ثم كفروا) (المنافقون : 3) (2) أهـ
(سؤال) فإن قلت : أين جواب لما في قوله تعالى (فلما) أضاءت ما حوله) ؟ قلت : فيه وجهان :
أحدهما : أن جوابه (ذهب الله بنورهم) والثاني : أنه محذوف كما حذف في قوله : (فلما ذهبوا به وأجمعوا أن يجعلوه في غيابة الجب) (يوسف : 15) وإنما جاز حذفه لاستطالة الكلام مع أمن الإلباس للدلالة عليه ، وكان الحذف أولى من الإثبات لما فيه من الوجازة ، مع الإعراب عن الصفة التي حصل عليها المستوقد بما هو أبلغ من اللفظ في أداء المعنى ، كأنه قيل : فلما أضاءت ما حوله خمدت فبقوا خابطين في ظلام ، متحيرين متحسرين على فوت الضوء ، خائبين بعد في إحياء النار
__________
(1) - تفسير الخازن جـ1 صـ28 : 29
(2) - التسهيل جـ1 صـ38

(4/9)


فإن قلت : فإذا قدر الجواب محذوفاً فبم يتعلق (ذهب الله بنورهم) ؟ قلت : يكون كلاماً مستأنفاً . كأنهم لما شبهت حالهم بحال المستوقد الذي طفئت ناره
اعترض سائل فقال : ما بالهم قد أشبهت حالهم حال المستوقد ؟ فقيل له :
(ذهب الله بنورهم) أو يكون بدلاً من جملة التمثيل على سبيل البيان (1). أهـ
(سؤال) فإن قيل : لم قال (ذهب الله بنورهم) ولم يقل : أذهب الله بضوئهم مشاكلة لقوله : (فلما أضاءت ما حوله)
(فالجواب) : أن إذهاب النور أبلغ ، لأنه إذهاب للقليل والكثير بخلاف الضوء فإنه يطلق على الكثير (2). أهـ
وأجاب صاحب الكشاف عن هذا السؤال بما نصه :
(ذكر النور أبلغ ، لأن الضوء فيه دلالة على الزيادة . فلو قيل : ذهب الله بضوئهم ، لأوهم الذهاب بالزيادة وبقاء ما يسمى نوراً ، والغرض إزالة النور عنهم رأساً وطمسه أصلاً . ألا ترى كيف ذكر عقيبه (وتركهم في ظلمات) والظلمة عبارة عن عدم النور وانطماسه ، وكيف جمعها ، وكيف نكرها ، وكيف أتبعها ما يدل على أنها ظلمة مبهمة لا يتراءى فيها شبحان وهو قوله (لا يبصرون) (3) أهـ .
(سؤال) فإن قلت : فلم وصفت بالإضاءة ؟ قلت : هذا على مذهب قولهم : للباطل صولة ثم يضمحل ، ولريح الضلالة عصفة ثم تخفت ، ونار العرفج مثل لنزوة كل طماح (4) أهـ .
(سؤال) ما الفرق بين أذهبه وذهب به ؟
(الجواب) أن معنى أذهبه : أزاله وجعله ذاهباً ، ويقال : ذهب به إذا استصحبه ومضى به معه : وذهب السلطان بماله : أخذه (فلما ذهبوا به) (يوسف : 15)
(إذاً لذهب كل إله بما خلق) (المؤمنون : 91) ومنه ذهبت به الخيلاء . والمعنى : أخذ الله بنورهم وأمسكه ، (وما يمسك فلا مرسل له من بعده) (فاطر : 2) فهو أبلغ من الإذهاب (5) أهـ .
__________
(1) - الكشاف جـ1 صـ80
(2) - التسهيل جـ1 صـ38
(3) - الكشاف جـ1 صـ81
(4) - الكشاف جـ1 صـ81
(5) - الكشاف جـ1 صـ81

(4/10)


(مثلهم كمثل الذي استوقد ناراً ، فلما أضاءت ما حوله ذهب الله بنورهم وتركهم في ظلمات لا يبصرون . صم بكم عمي فهم لا يرجعون) .
"كلام قيم لابن القيم"
شبه سبحانه أعداءه المنافقين بقوم أوقدوا ناراً لتضيء لهم ، وينتفعوا بها ، فلما أضاءت لهم النار فأبصروا في ضوءها ما ينفعهم وما يضرهم ، وأبصروا الطريق بعد أن كانوا حيارى تائهين ، فهم كقوم سفر ضلوا عن الطريق ، فأوقدوا النار لتضيء لهم الطريق ، فلما أضاءت لهم فأبصروا وعرفوا طفئت عنهم تلك الأنوار ، وبقوا في الظلمات لا يبصرون ، قد سدت عليهم أبواب الهدى الثلاث .
فإن الهدى يدخل إلى العبد من ثلاثة أبواب ، مما يسمعه بأذنه ، ويراه بعينه ويعقله بقلبه . وهؤلاء قد سدت عليهم أبواب الهدى ، فلا تسمع قلوبهم شيئاً ، ولا تبصر ، ولا تعقل ما ينفعها .
وقيل : لما لم ينتفعوا بأسماعهم وأبصارهم وقلوبهم نزلوا منزلة من لا سمع له ولا بصر ولا عقل . والقولان متلازمان .
وقال في صفتهم (فهم لا يرجعون) لأنهم قد رأوا في ضوء النار ، وأبصروا الهدى ، فلما أطفئت عنهم لم يرجعوا إلى ما رأوا وأبصروا .
وقال سبحانه وتعالى (ذهب الله بنورهم) ولم يقل : ذهب نورهم . وفيه سر بديع ، وهو انقطاع سر تلك المعية الخاصة التي هي للمؤمنين من الله تعالى ، فإن الله تعالى مع المؤمنين ، (إن الله مع الصابرين) (البقرة : 153) و(النحل : 128) (إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون) .

(4/11)


فذهاب الله بذلك النور هو انقطاع المعية التي خص بها أولياءه ، فقطعها بينه وبين المنافقين : فلم يبق عندهم بعد ذهاب نورهم ولا معهم ، فليس لهم نصيب من قوله : (التوبة : 40) (لا تحزن إن الله معنا) ولا من (الشعراء : 63) (كلا ، إن معي ربي سيهدين) وتأمل قوله تعالى (أضاءت ما حوله) كيف جعل ضوأها خارجاً عنه منفصلاً ؟ ولو اتصل ضوءها به ولابسه لم يذهب ، ولكنه كان ضوء مجاورة ، وملابسة ومخالطة . وكان الضوء عارضاً والظلمة أصلية . فرجع الضوء إلى معدنه وبقيت الظلمة في معدنها . فرجع كل منه إلى أصله اللائق به ، حجة من الله تعالى قائمة . وحكمة بالغة ، تعرف بها إلى أولي الألباب من عباده .
وتأمل قوله (ذهب الله بنورهم) ولم يقل بنارهم . ليطابق أول الآية . فإن النار فيها إشراق وإحراق . فذهب بما فيها من الإشراق – وهو النور – وأبقى عليهم ما فيها من الإحراق ، وهو النار .
وتأمل كيف قال (بنورهم) ولم يقل بضوئهم ، مع قوله (فلما أضاءت ما حوله) لأن الضوء هنا زيادة في النور . فلو قال : ذهب الله بضوئهم لأوهم الذهاب بالزيادة فقط ، دون الأصل فلما كان النور أصل الضوء كان الذهاب به ذهاباً بالشيء وزيادته .
وأيضاً فإنه أبلغ في النفي عنهم ، وأنهم من أهل الظلمات ، الذين لا نور لهم.
وأيضاً فإن الله تعالى سمى كتابه نوراً ، ورسوله نوراً ، ودينه نوراً ومن أسمائه النور ، والصلاة نور ، فذهابه سبحانه بنورهم : ذهاب بهذا كله .

(4/12)


وتأمل مطابقة هذا المثل لما تقدمه من قوله (أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى فما ربحت تجارتهم وما كانوا مهتدين) كيف طابق بين هذه التجارة الخاسرة التي تضمنت حصول الضلالة والرضى بها ، وبذل الهدى في مقابلتها ، وحصول الظلمات التي هي الضلالة والرضى بها ، بدلاً عن النور الذي هو الهدى والنور ، فبذلوا الهدى والنور ، وتعوضوا عنه بالظلمة والضلالة ، فيالها من تجارة ما أخسرها ! وصفقة ما أشد غبنها ! (1) أهـ
وقد اشتمل هذان المثلان على حكم عظيمة .
منها : أن المستضيئ بالنار مستضيئ بنور من جهة غيره ، لا من قبل نفسه . فإذا ذهبت تلك النار بقي في ظلمة . وهكذا المنافق ، لما أقر بلسانه من غير اعتقاد ومحبة بقلبه ، وتصديق جازم . كان ما معه من النور كالمستعار .
ومنها : أن ضياء النار يحتاج دوامها إلى مادة تحمله ، وتلك المادة للضياء بمنزلة غذاء الحيوان فكذلك نور الإيمان يحتاج إلى مادة من العلم النافع والعمل الصالح ، يقوم بها ويدوم بدوامها فإذا لم توجد مادة الإيمان طفئ كما تطفأ النار بفراغ مادتها .
ومنها : أن الظلمة نوعان ، ظلمة مستمرة لم يتقدمها نور ، وظلمة حادثة بعد النور . وهي أشد الظلمتين وأشقهما على من كانت حظه . فظلمة المنافق ظلمة بعد إضاءة ، فمثلت حاله بحال المستوقد للنار ، الذي حصل في الظلمة بعد الضوء ، وأما الكافر فهو في الظلمات لم يخرج منها قط .
__________
(1) - اجتماع الجيوش الإسلامية لابن القيم جـ1 صـ21 : 22

(4/13)


ومنها : أن في هذا المثل إيذاناً وتنبيهاً على حالهم في الآخرة ، وأنهم يعطون نوراً ظاهراً ، كما كان نورهم في الدنيا ظاهراً . ثم يطفأ ذلك النور وهم أحوج ما يكونون إليه إذ لم تكن له مادة باقية تحمله ، وبقوا في الظلمة على الجسر لا يستطيعون العبور . فإنه لا يمكن أحداً عبوره إلا بنور ثابت يصحبه حتى يقطع الجسر . فإن لم يكن لذلك النور مادة من العلم النافع والعمل الصالح ، وإلا ذهب الله تعالى به أحوج ما كان إليه صاحبه . فطابق مثلهم في الدنيا بحالتهم التي هم عليها في هذه الدار ، وبحالتهم يوم القيامة عندما يقسم النور .
ومن هنا يعلم السر في قوله تعالى (ذهب الله بنورهم) ولم يقل : أذهب الله نورهم(1) . أهـ
قال (ذهب الله بنورهم) ولم يقل : بنارهم لأن النار فيها الإحراق والإشراق . فذهب بما فيها من الإضاءة والإشراق ، وأبقى عليهم ما فيها من الأذى والإحراق ، وكذلك حال المنافقين : ذهب نور إيمانهم بالنفاق ، وبقي في قلوبهم حرارة الكفر والشكوك والشبهات تغلي في قلوبهم قد صليت بحرها وأذاها ، وسمومها ووهجها في الدنيا ، فأصلاها الله تعالى إياه يوم القيامة ناراً مؤصدة تطلع على الأفئدة .
فهذا مثل من لم يصبه نور الإيمان بل خرج منه وفارقه بعد أن استضاء به ، وهو حال المنافق عرف ثم أنكر ، وقرأ ثم جحد . فهو في ظلمات أصم أبكم أعمى ، كما قال تعالى في حق إخوانهم من الكفار (الأنعام : 39) (والذين كذبوا بآياتنا صم وبكم في الظلمات) . وقال تعالى [ البقرة : 171 ] ومثل الذين كفروا كمثل الذي ينعق بما لا يسمع إلا دعاء ونداء " صم بكم عمي فهم لا يعقلون " .
__________
(1) - اجتماع الجيوش الإسلامية جـ1 صـ33 لابن القيم ط دار الكتب العلمية بيروت

(4/14)


شبه الله تعالى حال المنافقين في خروجهم من النور بعد أن أضاء لهم بحال مستوقد النار ، وذهب نورها عنه بعد أن أضاءت ما حوله ، لأن المنافقين بمخالطتهم المسلمين وصلاتهم معهم ، وصيامهم معهم ، وسماعهم القرآن ، ومشاهدتهم أعلام الإسلام ومناره ، وقد شاهدوا الضوء ورأوا النور عياناً . ولهذا قال تعالى في حقهم (فهم لا يرجعون) إليه . لأنهم فارقوا الإسلام بعد أن تلبسوا به واستناروا . فهم لا يرجعون إليه . وقال تعالى في حق الكفار (فهم لا يعقلون) لأنهم لم يعقلوا الإسلام ، ولا دخلوا فيه ، ولا استناروا به ، لا بل يزالون في ظلمات الكفر صم بكم عمي .
فسبحان من جعل كلامه لأدواء الصدور شافياً ، وإلى الإيمان وحقائقه منادياً وإلى الحياة الأبدية والنعيم المقيم داعياً ، إلى طريق الرشاد هادياً (1) . أهـ
قوله تعالى : (أو كصيب من السماء فيه ظلمات ورعد وبرق .. الآية)
قال الإمام الفخر : المشبه بالصيب والظلمات والرعد والبرق والصواعق ما هو ؟
(الجواب) : لعلماء البيان هاهنا قولان : أحدهما : أن هذا تشبيه مفرق ومعناه أن يكون المثل مركباً من أمور والممثل يكون أيضاً مركباً من أمور ويكون كل واحد من المثل شبيهاً بكل واحد من الممثل ، فهاهنا شبه دين الإسلام بالصيب ، لأن القلوب تحيا به حياة الأرض بالمطر ، وما يتعلق به من شبهات الكفار بالظلمات ، وما فيه من الوعد والوعيد بالبرق والرعد ، وما يصيب الكفرة من الفتن من جهة أهل الإسلام بالصواعق ، والمعنى أو كمثل ذوي صيب ، والمراد كمثل قوم أخذتهم السماء على هذه الصفة .
__________
(1) - الوابل الصيب صـ78 ، 79 ط دار الكتب العربي بيروت

(4/15)


والقول الثاني : أنه تشبيه مركب ، وهو الذي يشبه فيه إحدى الجملتين بالأخرى في أمر من الأمور وإن لم تكن آحاد إحدى الجملتين شبيهة بآحاد الجملة الأخرى وهاهنا المقصود تشبيه حيرة المنافقين في الدنيا والدين بحيرة من انطفت ناره بعد إيقادها ، وبحيرة من أخذته السماء في الليلة المظلمة مع رعد وبرق (1) أهـ
قال ابن جزي (2) : ما نصه : (من السماء) إشارة إلى قوته وشدة إنصابه
قال ابن مسعود : إن رجلين من المنافقين هربا إلى المشركين فأصابهما هذا المطر وأيقنا بالهلاك فعزما على الإيمان ورجعا إلى النبي – صلى الله عليه وسلم – وحسن إسلامهما فضرب الله ما أنزل فيهما مثلاً للمنافقين (3) أهـ
(سؤال) فإن قلت : قوله : (من السماء) ما الفائدة في ذكره ؟ والصيب لا يكون إلا من السماء .
(الجوابِ) قلت : الفائدة فيه أنه جاء بالسماء معرفة فنفي أن يتصوب من سماء . أي من أفق واحد من بين سائر الآفاق ، لأن كل أفق من آفاقها سماء ، كما أن كل طبقة من الطباق سماء في قوله (وأوحى في كل سماء أمرها) (فصلت : 62) والمعنى أنه غمام مطبق أخذ بأطباق السماء ، كما جاء بصيب ، وفيه مبالغات من جهة التركيب والبناء والتنكير . أمد ذلك بأن جعله مطبقاً . (4) أهـ
(سؤال) لماذا نكر الصيب في قوله (أوكصيب) ؟
(الجواب) لأنه أريد نوع من المطر شديد هائل(5) . أهـ
(سؤال) الصيب هو المطر والسحاب فأيهما أريد فما ظلماته ؟
(الجواب) : أما ظلمات السحاب فإذا كان أسحم مطبقاً فظلمته سحمته وتطبيقه مضمومة إليهما ظلمة الليل .
__________
(1) - التفسير الكبير جـ2 صـ316
(2) - التسهيل جـ1 صـ39
(3) - هذا القول فيه نظر لأن الرجلين إن كانا منافقين فما الذي يحملها على الهرب وأيضا فإن آخر الآية الكريمة وهو قوله تعالى ] والله محيط بالكافرين ] يتعارض مع ما ذكر من عزمهما على الإيمان وحسن إسلامهما . والله أعلم .
(4) - الكشاف جـ1 صـ89
(5) - التفسير الكبير جـ2 صـ317

(4/16)


وأما ظلمة المطر فظلمته تكاثفه وانسجامه بتتابع القطر وظلمته إظلال الغمامة مع ظلمة الليل(1) أهـ
وقال ابن عطية : قوله تعالى (ظلمات) بالجمع ، إشارة إلى ظلمة الليل وظلمة الدجن ومن حيث تتراكب وتتزايد جمعت ، وكون الدجن مظلماً هول وغم للنفس بخلاف السحاب والمطر إذا انجلى دجنه ، فإنه سار جميل (2) .
(سؤال) هلا قيل رعود وبروق كما قيل : ظلمات ؟
(الجواب) الفرق أنه حصلت أنواع مختلفة من الظلمات على الاجتماع فاحتيج إلى صيغة الجمع ، أما الرعد فإنه نوع واحد وكذا البرق ، ولا يمكن اجتماع أنواع الرعد والبرق في السحاب الواحد ، فلا جرم لم يذكر فيه لفظ الجمع(3)أهـ .
وأجاب ابن جزي عن هذا السؤال ، بأن الرعد والبرق مصدران ، والمصدر لا يجمع ويحتمل أن يكونا اسمين وجمعهما لأنهما في الأصل مصدران(4)أهـ
(سؤال) لم جاءت هذه الأشياء منكرات ؟
(الجواب) لأن المراد أنواع منها كأنه قيل فيه ظلمات داجية ، ورعد قاصف وبرق خاطف (5) أهـ
وقال صاحب الميزان :
وقوله تعالى (أوكصيب من السماء .. الآية) الصيب هو المطر الغزير ، والبرق معروف ، والرعد هو الصوت الحادث من السحاب عن الإبراق ، والصاعقة هي النازلة من البروق .
وهذا مثل ثان يمثل به حال المنافقين في إظهارهم الإيمان ، إنهم كالذي أخذ صيب السماء ومعه ظلمة تسلب عنه الأبصار والتمييز ، فالصيب يضطر إلى الفرار والتخلص ، والظلمة تمنعه ذلك ، والمهولات من الرعد و الصاعقة محيطة به فلا يجد مناصاً من أن يستفيد بالبرق وضوئه وهو غير دائم ولا باق متصل : كلما أضاء له مشى وإذا أظلم عليه قام .
__________
(1) - التفسير الكبير جـ2 صـ317
(2) - المحرر الوجيز جـ1 صـ101
(3) - التفسير الكبير جـ2 صـ317
(4) - التسهيل جـ1 صـ39 بتصرف يسير
(5) - التفسير الكبير جـ2 صـ317

(4/17)


وهذه حال المنافق ، فهو لا يحب الإيمان ولا يجد بداً من إظهاره ، ولعدم المواطأة بين قلبه ولسانه لا يستضيء له طريقه تمام الاستضاءة ، فلا يزال يخبط خبطاً بعد خبط ويعثر عثرة بعد عثرة فيمشي قليلاً ويقف قليلاً ويفضحه الله بذلك ، ولو شاء الله لذهب بسمعه وبصره ، فيفتضح من أول يوم (1) أهـ
وقال الزركشي(2) ما نصه : (وقد ضرب الله للمنافقين مثلين : مثلاً بالنار ، ومثلاً بالمطر فقال (مثلهم كمثل الذي استوقد ناراً .. الآية) ، يقال : أضاء الشيء وأضاءه غيره فيستعمل لازماً ومتعدياً ، فقوله (أضاءت ما حوله) هو متعد ، لأن المقصود أن تضيء النار ما حول من يريدها حتى يراها ، وفي قوله في البرق (كلما أضاء لهم) ذكر اللازم ، لأن البرق بنفسه يضيء بغير اختيار الإنسان ، فإذا أضاء البرق سار ، وقد لا يضيء ما حول الإنسان ، إذ يكون البرق وصل إلى مكان دون مكان ، فجعل سبحانه المنافقين كالذي أوقد ناراً فأضاءت ثم ذهب ضوءها ، ولم يقل (انطفأت) بل قال (ذهب الله بنورهم) وقد يبقى مع ذهاب النور حرارتها فتضر ، وهذا المثل يقتضي أن المنافق حصل له نور ثم ذهب ، كما قال تعالى (ذلك بأنهم آمنوا ثم كفروا فطبع على قلوبهم فهم لا يفقهون)

(يجعلون أصابعهم في آذانهم)

قال ابن جزي (3) – رحمه الله – ما نصه :
قال ابن مسعود – رضي الله عنه – (كانوا يجعلون أصابعهم في آذانهم لئلا يسمعوا القرآن في مجلس النبي – صلى الله عليه وسلم – فهو على هذا حقيقة في المنافقين (4) أهـ .
__________
(1) - الميزان جـ1 صـ56
(2) - البرهان في علوم القرآن للزركشي جـ1 صـ579
(3) - التسهيل جـ1 صـ39
(4) - هذا القول في نظر أيضاً لأن المنافقين كانوا يتظاهرون بالإيمان ويبطنون الكفر ، ولا يستطيع واحد منهم أن يظهر خلاف ذلك في مجلس رسول الله – صلى الله عليه وسلم – لكن ما ذكر من وضع الأصابع في الآذان وجد من الكفار لا من المنافقين . أهـ

(4/18)


(سؤال) فإن قيل : لم قال أصابعهم ولم يقل أناملهم ، والأنامل هي التي تجعل في الآذان ؟
(فالجواب) أن ذكر الأصابع أبلغ ، لأنها أعظم من الأنامل ولذلك جمعها مع أن الذي يجعل في الآذان السبابة خاصة (1) أهـ
(سؤال) فإن قيل : ما إحاطة الله بالكافرين ؟
(الجواب) إنه مجاز والمعنى أنهم لا يفوتونه ، كما لا يفوت المحاط به المحيط به حقيقة ثم فيه ثلاثة أقوال :
أحدهما : أنه عالم بهم قال تعالى (وأن الله قد أحاط بكل شيء علماً ) (الطلاق :12)
وثانيها : قدرته مستولية عليهم (والله من ورائهم محيط) (البروج : 20)
وثالثها : يهلكهم من قوله تعالى (إلا أن يحاط بكم) (يوسف : 66) (2) أهـ
وقال أبو السعود : (والله محيط بالكافرين) أي لا يفوتونه كما لا يفوت المحاط به المحيط شبه شمول قدرته تعالى وانطواء ملكوته عليهم بإحاطة المحيط بما أحاط به في استحالة الفوت .
وفائدة وضع الكافرين موضع الضمير الراجع إلى أصحاب الصيب الإيذان بأن ما دهمهم من الأمور الهائلة المحكية بسبب كفرهم على منهاج قوله تعالى (كمثل ريح أصابت حرث قوم ظلموا أنفسهم فأهلكته) فإن الإهلاك الناشئ من السخط أشد (3) أهـ
فائدة

من الأسئلة الحسنة ، في قوله تعالى : (كلما أضاء لهم مشوا فيه وإذا أظلم عليهم قاموا (البقرة : 20) ، أنه يقال : لم أتى قبل (أضاء) بـ (كلما) . وقبل (أظلم) بـ (إذا) ؟ ما وجه المناسبة في ذلك ؟ وفيه وجوه :
الأول : أن تكرار الإضاءة يستلزم تكرار الإظلام ، فكان تنويع الكلام أعذب
الثاني : أن مراتب الإضاءة مختلفة متنوعة ، فذكر (كلما) تنبيهاً على ظهور التعدد وقوة لوجوده بالصورة والنوعية ، والإظلام نوع واحد ، فلم يؤت بصيغة التكرار لضعف التعدد فيه ، بعد ظهوره بالنوعية ، وإن حصل بالصورة .
__________
(1) - التسهيل جـ1 صـ39
(2) - التفسير الكبير جـ2 صـ317
(3) - تفسير أبي السعود جـ1 صـ54 . بتصرف يسير

(4/19)


الثالث : قاله الزمخشري ، وفيه تكلف – أنهم لما اشتد حرصهم على الضوء المستفاد من النور ، كانوا كلما حدث لهم نور تجدد لهم باعث الضوء فيه ، لا يمنعهم من ذلك تقدم فقده واختفاؤه منهم ، وأما التوقف بالظلام فهو نوع واحد .
وهذا قريب من الجواب الثاني ، لكنه بمادة أخرى . ويفترقان بأن جواب الزمخشري يرجع التكرار فيه إلى جواب (كلما) لا إلى شروطها الذي يليها ويباشرها ، فطلب تكراره وهو الأولى في مدلول التكرار ، والجواب المتقدم يرجع إلى تكرار مشروطها ، يتبعه الجواب من حيث هو ملزومه ، وتكرره فرع تكرر الأول .
الرابع : أن إضاءة البرق منسوبة إليه وإظلامه ليس منسوباً إليه ، لأن إضاءته لمعانه ، والظلام أمر يحدث عن اختفائه ، فتظلم الأماكن كظلام الأجرام الكثائف .
فأتى بأداة التكرار عند الفعل المتكرر من البرق ، وبالأداة التي لا تقتضي التكرار عند الفعل الذي ليس متكرراً منه ، ولا صادراً عنه .
الخامس : ذكره ابن المنير – أن المراد بإضاءة البرق الحياة ، وبالظلام الموت ، فالمنافق تمر حاله في حياته بصورة الإيمان ، لأنها دار مبنية على الظاهر ، فإذا صار إلى الموت رفعت له أعماله ، وتحقق مقامه ، فتسقيم (كلما) في الحياة ، و (إذا) في الممات هكذا كقول النبي – صلى الله عليه وسلم – (اللهم أحيني ما دامت الحياة خيراً لي ، وأمتني إذا كانت الوفاة خيراً لي) .
فاستعمل مع الحياة لفظ التكرار والدوام ، واستعمل مع لفظ الوفاة لفظ الاختصار والتقييد .

(4/20)


وقيل : إن ذلك لأحد معنيين : إما لأن الحياة مأثورة لازدياد العمل الصالح الذي الهمم العالية معقودة به ، فعرض بالاستكثار منه ، والدوام عليه ، ونبه على أن الموت لا يتمنى ، ولكن إذا نزل وقته رضي به . وإما لأن الحياة يتكرر زمانها ، وأما الموت مرة واحدة وجواب آخر ، أن الكلام في الأنوار هو الأصل المستمر ، وأما خفقان البرق في أثناء ذلك فعوارض تتصل بالحدث والتكرار ، فناسب الإتيان فيها بكلما وفي تلك بـ (إذا)(1)، والله أعلم.أهـ .

قوله تعالى (يا أيها الناس اعبدوا ربكم ) الآية

قال الإمام الفخر (2) – رحمه الله ما نصه :
(يا) حرف وضع في أصله لنداء البعيد وإن كان لنداء القريب لكن لسبب أمر مهم جداً ، وأما نداء القريب فله : أي ، والهمزة ، ثم استعمل في نداء من سها وغفل وإن قرب تنزيلاً له منزلة البعيد .
فإن قيل : فلم يقول الداعي : يا رب ، يا الله وهو أقرب إليه من حبل الوريد.
قلنا : هو استبعاد لنفسه من مظان الزلفى وما يقربه إلى منازل المقربين هضماً لنفسه وإقراراً عليها بالتنقيص حتى يتحقق الإجابة بمقتضى قوله :
(أنا عند المنكسرة قلوبهم من أجلي) أو لأجل أن إجابة الدعاء من أهم المهام للداعي . أهـ .
__________
(1) - البرهان في علوم القرآن جـ4 صـ229 : 231
(2) - التفسير الكبير جـ2 صـ320

(4/21)


وقال ابن جزي (1) ) في قوله تعالى (اعبدوا ربكم) يدخل فيه الإيمان به سبحانه وتوحيده وطاعته ، فالأمر بالإيمان به لمن كان جاحداً ، والأمر بالتوحيد لمن كان مشركاً ، والأمر بالطاعة لمن كان مؤمناً . (لعلكم) يتعلق بخلقكم أي : خلقكم لتتقوه كقوله (وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون) (الذاريات :56 ) أو بفعل مقدم من معنى الكلام أي : دعوتكم إلى عبادة الله لعلكم تتقون ، وهذا أحسن ، وقيل يتعلق بقوله (اعبدوا) ، وهذا ضعيف ، وإن كانت (لعل) للترجي فتأويله أنه في حق المخلوقين جرياً على عادة كلام العرب ، وإن كانت للمقاربة أو التعليل فلا إشكال ، والأظهر أنها لمقاربة الأمر نحو (دعى) ، فإذا قال الله : فمعناه أطباع العباد ، وهكذا القول فيها حيث ما وردت في كلام الله تعالى . أهـ .

وقال الإمام الفخر : (إن الله – تعالى – لما قدم أحكام الفرق الثلاثة أعنى : المؤمنين والكفار والمنافقين أقبل عليهم بالخطاب وهو من باب الالتفات المذكور في قوله تعالى (إياك نعبد وإياك نستعين) وفيه فوائد :
أحدها : أن فيه مزيد هز وتحريك من السامع .
وثانيها : كأنه سبحانه وتعالى يقول : جعلت الرسول – صلى الله عليه وسلم – واسطة بيني وبينك أولاً ثم الآن أزيد في إكرامك وتقريبك ، فأخاطبك من غير واسطة ، ليحصل لك من التنبيه على الأدلة شرف المخاطبة والمكالمة .
وثالثها : أنه مشعر بأن العبد إذا كان مشغولاً بالعبودية فإنه يكون أبداً في الترقي بدليل أنه في هذه الآية انتقل من الغيبة إلى الحضور .
__________
(1) - التسهيل جـ1 صـ40

(4/22)


ورابعها : أن الآيات المتقدمة كانت في حكاية أحوالهم ، وأما هذه الآيات فإنها : أمر وتكليف ففيه كلفة ومشقة ، فلابد من راحة تقابل هذه الكلفة ، وتلك الراحة هي أن يرفع ملك الملوك الواسطة من البين ويخاطبهم بذاته ، كما أن العبد إذا ألزم تكليفاً شاقاً فلو شافهه المولى وقال : أريد منك أن تفعل كذا ، فإنه يصير ذلك الشاق لذيذاً لأجل ذلك الخطاب (1). أهـ
وقال البغوي - رحمه الله(2) - قوله (يا أيها الناس) قال ابن عباس (يا أيها الناس) خطاب أهل مكة ، (يا أيها الذين آمنوا) خطاب أهل المدينة ، وهو هاهنا عام إلا من حيث إنه لا يدخله الصغار والمجانين .
وعلق القرطبي - رحمه الله - على هذا الكلام قائلاً : (وهذا يرده أن هذه السورة والنساء مدنيتان وفيهما (يا أيها الناس) ، وأما في (يا أيها الذين آمنوا) فصحيح (3) .
قوله تعالى (يا أيها الناس اعبدوا ربكم) ليس في القرآن غيره ، لأن العبادة في الآية : التوحيد .
والتوحيد أول ما يلزم العبد من المعارف ، فكان هذا أول خطاب خاطب الله به الناس في القرآن ، فخاطبهم بما ألزمهم أولاً ثم ذكر سائر المعارف وبني عليها العبادات فيما بعدها من السور والآيات .
فإن قيل : سورة البقرة ليست من أول القرآن نزولاً ، فلا يحسن فيها ما ذكرت .
قلت : أو القرآن سورة الفاتحة ، ثم البقرة ، ثم آل عمران ، على هذا الترتيب إلى سورة الناس ، وهكذا هو عند الله في اللوح المحفوظ ، وهو يدل على هذا الترتيب كان يعرضه عليه الصلاة والسلام على جبريل - عليه السلام - كل سنة أي : ما كان يجتمع عنده منه ، وعرضه عليه الصلاة والسلام في السنة التي توفي فيها مرتين (4) . أهـ
__________
(1) - التفسير الكبير حـ1 صـ319 - بتصرف يسير .
(2) - معالم التنزيل حـ1 صـ51
(3) - تفسير القرطبي جـ1 صـ162 . بتصرف يسير
(4) - أسرار التكرار في القرآن للكرماني صـ22

(4/23)


وجوه المخاطبات والخطاب في القرآن
قال الزركشي رحمه الله - يأتي على نحو من أربعين وجهاً :
الأول : خطاب العام المراد به العموم .
كقوله تعالى : (إن الله بكل شيء عليم) (المجادلة : 7) ، وقوله تعالى (إن الله لا يظلم الناس شيئاً ) (يونس : 44) .
الثاني : خطاب الخاص والمراد به الخصوص .
من قوله تعالى : (أكفرتم بعد إيمانكم) (آل عمران : 106) ، وقوله : (هذا ما كنزتم لأنفسكم) (التوبة : 35) .
الثالث : خطاب خاص والمراد به العموم
كقوله تعالى : (يا أيها النبي إذا طلقتم النساء) (الطلاق : 1) ، فافتتح الخطاب بالنبي - صلى الله عليه وسلم - والمراد سائر من يملك الطلاق .
الرابع : خطاب العام والمراد الخصوصي
كقوله تعالى : (الذين قال لهم الناس إن الناس قد أجمعوا لكم) (آل عمران : 173) وعمومه يقتضي دخول جميع الناس في اللفظين جميعاً ، والمراد بعضهم ، لأن القائلين غير المقول لهم ، والمراد بالأول نعيم بن سعيد الثقفي، والثاني أبو سيفان وأصحابه .
الخامس : خطاب الجنس
نحو (يا أيها الناس) (البقرة : 21) ، فإن المراد جنس الناس لا كل فرد ، وإلا فمعلوم أن غير المكلف لم يدخل تحت هذا الخطاب .
السادس : خطاب النوع .
نحو (يا بني إسرائيل) (البقرة : 40) ، والمراد بنو يعقوب ، وإنما صرح به للطيفة سبقت في النوع السادس وهو علم المبهمات .
السابع : خطاب العين
نحو (يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة) (البقرة : 35) ، (يا نوح اهبط بسلام) (هود : 48) ، (يا إبراهيم قد صدقت الرؤيا) (الصافات : 105) ، (يا موسى) (الأعراف : 144) ، (يا عيسى) (آل عمران : 55) . ولم يقع في القرآن النداء بـ (يا محمد) بل ، بـ (يا أيها النبي) ، و (يا أيها الرسول) تعظيماً له وتبجيلاً ، وتخصيصاً بذلك عن سواه
الثامن : خطاب المدح
نحو : (يا أيها الذين آمنوا) ، (يا أيها النبي)
التاسع : خطاب الذم
نحو (يا أيها الذين كفروا لا تعتذروا اليوم) (التحريم : 7) ، (قل يا أيها الكافرون) (الكافرون)
العاشر : خطاب الكرامة

(4/24)


نحو : (ويا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة) (الأعراف : 19) وقوله (ادخلوها بسلام آمنين) (الحجر : 46) .
الحادي عشر : خطاب الإهانة
نحو قوله لإبليس : (فإنك رجيم . وإن عليك اللعنة) (الحجر : 34 ، 35) وقوله (قال اخسئوا فيها ولا تكلمون) (المؤمنون : 108)
الثاني عشر : خطاب التهكم
وهو الاستهزاء بالمخاطب ، مأخوذ من تهكمت البئر
إذ تهدمت ، كقوله تعالى (ذق إنك أنت العزيز الكريم) (الدخان : 50) ، وهو خطاب لأبي جهل ، لأنه قال : ما بين جبليها – يعني مكة – أعز ولا أكرم مني .
وقال (فبشرهم بعذاب أليم) (التوبة : 34) ، جعل العذاب مبشراً به .
الثالث عشر : خطاب الجمع بلفظ الواحد
كقوله (يا أيها الإنسان إنك كادح) (الانشقاق : 6 ) ، (يا أيها الإنسان ما غرك بربك الكريم) (الانفطار : 6) ، والمراد الجميع بدليل قوله : (إن الإنسان لفي خسر . إلا الذين آمنوا) (العصر : 2 ، 3) .
الرابع عشر : خطاب الواحد بلفظ الجمع
كقوله تعالى : (يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحاً ) إلى قوله : (فذرهم في غمرتهم حتى حين) (المؤمنون : 51-54) فهذا خطاب النبي – صلى الله عليه وسلم – وحده ، إذ لا نبي معه قبله ولا بعده .
الخامس عشر : خطاب الواحد والجمع بلفظ الاثنين
كقوله تعالى : (ألقيا في جهنم) (ق : 24) ، والمراد : مالك ، خازن النار .
السادس عشر : خطاب الاثنين بلفظ الواحد
كقوله تعالى : (فمن ربكما يا موسى) (طه : 49) أي (ويا هارون) وفيه وجهان : أحدهما : أنه أفرد موسى عليه السلام بالنداء بمعنى التخصيص والتوقف ، إذ كان هو صاحب عظيم وكريم الآيات . ذكره ابن عطية .
والثاني : لما كان هارون أفصح لساناً منه على ما نطق به القرآن ثبت عن جواب الألد . ذكره صاحب (الكشاف) وانظر إلى الفرق بين الجوابين .
السابع عشر : خطاب الجمع بعد الواحد

(4/25)


كقوله تعالى : (وما تكون في شأن وما تتلو منه من قرآن ولا تعلمون من عمل إلا كنا .. الآية) فجمع ثالثها ، والخطاب للنبي – صلى الله عليه وسلم .
قال ابن الأنباري : إنما جمع في الفعل الثالث ليدل على أن الأمة داخلون مع النبي – صلى الله عليه وسلم – وحده ، وإنما جمع تفخيماً وتعظيماً ، كما في قوله تعالى : (أفتطمعون أن يؤمنوا لكم) (البقرة : 75) .
الثامن عشر : خطاب عين والمراد غيره
كقوله تعالى : (يا أيها النبي اتق الله ولا تطع الكافرين والمنافقين) (الأحزاب : 1-2) .
الخطاب له والمراد المؤمنون ، لأنه – صلى الله عليه وسلم – كان تقياً ، وحاشاه من طاعة الكفار والمنافقين ، والدليل على ذلك قوله في سياق الآية (واتبع ما يوحى إليك من ربك إن الله كان بما تعملون خبيراً ) (الأحزاب :2)
التاسع عشر : خطاب الاعتبار .
كقوله تعالى حاكياً عن صالح لما هلك قومه (فتولى عنهم وقال يا قوم لقد أبلغتكم رسالة ربي ونصحت لكم ولكن لا تحبون الناصحين) (الأعراف : 79) ، وقوله (انظروا إلى ثمرة إذا أثمر) (الأنعام : 99) .
العشرون : خطاب الشخص ثم العدول إلى غيره
كقوله : (فإن لم يستجيبوا لكم) (هود : 14) ، الخطاب للنبي – صلى الله عليه وسلم – ثم قال للكفار : (فاعلموا أنما أنزل بعلم الله) (هود : 14) ، بدليل قوله (فهل أنتم مسلمون) (هود : 14)
الحادي والعشرون : خطاب التلوين
وسماه الثعلبي المتلون كقوله تعالى : (يا أيها النبي إذا طلقتم النساء) (الطلاق:1)
(فمن ربكما يا موسى) (طه : 49) ، وتسمية أهل المعاني الالتفات .
الثاني والعشرون : خطاب الجمادات من يعقل
كقوله تعالى : (فقال لها وللأرض ائتيا طوعاً أو كرهاً قالتا أتينا طائعين) (فصلت : 11) تقديره : (طائعة) .
الثالث والعشرون : خطاب التهييج

(4/26)


كقوله : (وعلى الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين) (المائدة : 23) ، ولا يدل على أن من لم يتوكل ينتفي عنهم الإيمان ، بل حث لهم على التوكل . وقوله (فالله أحق أن تخشوه إن كنتم مؤمنين) (التوبة : 13) .
الرابع والعشرون : خطاب الإغضاب
كقوله تعالى : (إنما ينهاكم عن الذين قاتلوكم في الدين وأخرجوكم من دياركم وظاهروا على إخراجكم أن تولوهم ومن يتولهم فأولئك هم الظالمون) (الممتحنة: 9)
الخامس والعشرون : خطاب التشجيع والتحريض
وهو الحث على الاتصاف بالصفات الجميلة ، كقوله تعالى (إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفاً كأنهم بنيان مرصوص) (الصف : 2) وكفى بحث الله سبحانه تشجيعاً على منازلة الأقران ، ومباشرة الطعان !
السادس والعشرون : خطاب التنفير
كقوله تعالى : (ولا يغتب بعضكم بعضاً أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتاً فكرهتموه واتقوا الله إن الله تواب رحيم) (الحجرات : 12)
السابع والعشرون : خطاب التحنن والاستعطاف
كقوله تعالى : (قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله) (الزمر : 53)
الثامن والعشرون : خطاب التحبيب
نحو : (يا أبت لم تعبد مالا يسمع ولا يبصر) (مريم :42 )
(يا بني إنها إن تك مثقال حبة) (لقمان : 16) ، (يابن أم لا تأخذ بلحيتي ولا برأسي) (طه : 94)
التاسع والعشرون : خطاب التعجيز
نحو :(فأتوا بسورة من مثله) (البقرة:23) ،(فليأتوا بحديث مثله)(الطور: 34)
الثلاثون : التحسير والتلهف
كقوله تعالى : (قل موتوا بغيظكم) (آل عمران : 119)
الحادي والثلاثون : التكذيب
نحو قوله : (قل فأتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين) (آل عمران : 93) ، (قل هلم شهداءكم الذين يشهدون) (الأنعام : 150)
الثاني والثلاثون : خطاب التشريف
وهو ما في القرآن العزيز مخاطبة يقل ،

(4/27)


هي : سورة الإخلاص ، والناس ، والفلق ، وكقوله (قل آمنا) ، وهو تشريف منه سبحانه لهذه الأمة ، بأن يخاطبها بغير واسطة لتفوز بشرف المخاطبة ، إذ ليس من الفصيح أن يقول الرسول للمرسل إليه : قال لي المرسل : قل (كذا وكذا) ، ولأنه لا يمكن إسقاطها ، فدل على أن المراد بقاؤها ، ولابد لها من فائدة ، فتكون أمراً من المتكلم بتكلم به أمره شفاهاً بلا واسطة ، كقوله لمن تخاطبه : افعل كذا .
الثالث والثلاثون : خطاب المعدوم
ويصح ذلك تبعاً لموجود ، كقوله تعالى : (يا بني آدم) (الأعراف : 26) فإنه خطاب لأهل ذلك الزمان ، ولكل من بعدهم ، وهو على نحو ما يجري من الوصايا في خطاب الإنسان لولده وولد ولده ما تناسلوا الله وإتيان طاعته(1)أهـ .
" فأخرج به من الثمرات رزقا لكم "
(سؤال) لما كان الله قادراً على خلق هذه الثمار بدون هذه الوسائط فما الحكمة في خلقها بهذه الوسائط في هذه المدة الطويلة ؟
(الجواب) : يفعل الله ما يشاء ويحكم ما يريد ثم ذكروا من الحكم المفصلة وجوهاً .
أحدها : أنه تعالى إنما أجرى العادة بأن لا يفعل ذلك إلا على ترتيب وتدريج، لأن المكلفين إذا تحملوا المشقة في الحرث والغرس طلباً للثمرات ، وكدوا أنفسهم في ذلك حالاً بعد حال علموا أنهم لما احتاجوا إلى تحمل هذه المشاق لطلب هذه المنافع الدنيوية ، فلأن يتحملوا مشاق أقل من المشاق الدنيوية لطلب المنافع الأخروية التي هي أعظم من المنافع الدنيوية كان أولى وصار هذا كما قلنا إنه تعالى قادر على خلق الشفاء من تناول الدواء ، لكنه أجرى عادته بتوقيفه عليه ، لأنه إذا تحمل مرارة الأدوية دفعاً لضرر المرض ، فلأن يتحمل مشاق التكليف دفعاً لضرر العقاب كان أولى (2) . أهـ
(سؤال) الثمر المخرج بماء السماء كثير فلم قيل : الثمرات دون الثمر أو الثمار ؟ .
(أي لم ذكره بجمع القلة دون جمع الكثير) ؟
__________
(1) - البرهان في علوم القرآن جـ2 صـ237 : 268 بتصرف
(2) - التفسير الكبير جـ2 صـ344

(4/28)


(الجواب) : تنبيهاً على قلة ثمار الدنيا ، وإشعاراً بتعظيم أمر الآخرة والله أعلم (1) أهـ .
وقال القشيري (2)– رحمه الله –
العبادة : موافقة الأمر ، وهي استفراغ الطاقة في مطالبات تحقيق الغيب ويدخل ، فيه التوحيد بالقلب ، والتجريد بالسر ، والتفريد بالقصد ، والخضوع بالنفس ، والاستسلام للحكم .
ويقال : اعبدوا بالتجرد عن المحظورات ، والتجلد في أداء الطاعات ، ومقام الواجبات بالخشوع والاستكانة ، والتجافي عن التجريح في منازل الكسل والاستهانة .
قوله (لعلكم تتقون) : تقريب الأمر عليهم وتسهيله ، ولقد وقفهم بهذه الكلمة – أعني لعل – على حد الخوف والرجاء .
وحقيقة التقوى : التحرز والوفاء بالطاعة عن متوعدات العقاب (3). أهـ
وذكر ابن جزي في هذه الآية ثلاث فوائد
الأولى : هذه الآية ضمنت دعوة الحق إلى عبادة الله بطريقين أحدهما : البراهين بخلقتهم وخلقة السماوات والأرض والمطر والسحاب .
والآخر : ملاطفة جميلة بذكر ما لله عليهم من الحقوق ومن الإنعام ، فذكر ربوبيته لهم ، ثم ذكر خلقه لهم وآبائهم ، لأن الخالق يستحق أن يعبد ثم ذكر ما أنعم الله به عليهم من جعل الأرض فراشاً والسماء بناء ، ومن إنزال المطر وإخراج الثمرات ، لأن المنعم يستحق أن يعبد ويشكر ، وانظر قوله : جعل لكم ، ورزقاً لكم : يدلك على ذلك لتخصيصه ذلك بهم في ملاطفة وخطاب بديع .
__________
(1) - التفسير الكبير جـ2 صـ344
(2) - لطائف الإشارات جـ1 صـ67-68
(3) - لطائف الإشارات حـ1 صـ67 - 68

(4/29)


الثانية : المقصود الأعظم من هذه الآية : الأمر بتوحيد الله وترك ما عبد من دونه بقوله في آخرها : (فلا تجعلوا لله أنداداً ) وذلك هو الذي يترجم عنه بقولنا : لا إله إلا الله ، فيقتضي ذلك الأمر الدخول في دين الإسلام الذي قاعدته التوحيد وقول لا إله إلا الله تكون في القرآن ذكر المخلوقات ، والتنبيه على الاعتبار في الأرض والسماوات والحيوان والنبات والرياح والأمطار والشمس والقمر والليل والنهار وذلك أنها تدل بالعقل على عشرة أمور : وهي : أن الله موجود ، لأن الصنعة دليل على الصانع لا محالة ، وأنه واحد لا شريك له ، لأنه لا خالق إلا هو
(أفمن يخلق كمن لا يخلق) (النحل : 17)
وأنه حي قدير عالم مريد ، لأن هذه الصفات الأربع من شروط الصانع .
إذ لا تصدر صنعة عمن عدم صفة منها ، وأنه قديم ، لأنه صانع للمحدثات فيستحيل أن يكون مثلها في الحدوث ، وأنه باق ، لأن ما ثبت قدمه استحال عدمه ، وأنه حكيم ، لأن آثار حكمته ظاهرة في إتقانه للمخلوقات وتدبيره للملكوت ، وأنه رحيم ، لأن في كل ما خلق منافع لبني آدم سخر لهم ما في السماوات وما في الأرض ، وأكثر ما يأتي ذكر المخلوقات في القرآن في معرض الاستدلال على وجوده تعالى وعلى وحدانيته .
فإن قيل : لم قصر الخطاب بقوله (لعلكم تتقون) على المخاطبين دون الذين قبلهم مع أنه أمر الجميع بالتقوى ؟
(فالجواب) : أنه لم يقصره عليهم ، ولكنه غلب المخاطبين على الغائبين في اللفظ ، والمراد الجميع .
فإن قيل : هلا قال (لعلكم تعبدون) مناسبة لقوله (اعبدوا)
(فالجواب) أن التقوى غاية العبادة وكمالها فكان قوله (لعلكم تتقون) أبلغ وأوقع في النفوس (1) أهـ .
__________
(1) - التسهيل جـ1 صـ40-41 - ويلاحظ أنه لم يذكر الفائدة الثالثة ، ولعله أدخلها في ثنايا كلامه ، كما أنه تعرض للحديث عن آيتين لا عن آية واحدة كما ذكر ولعل فيه سقطاً أو خطأ من الناسخ - غفر الله لنا ولهم أجمعين .

(4/30)


وقال القشيري :
(تعرف إليهم بذكر ما من به عليهم من خلق السماء لهم سقفاً مرفوعاً ، وإنشاء الأرض لهم فراشاً موضوعاً ، وإخراج النبات لهم بالمطر رزقاً مجموعاً ، ويقال : أعتقهم عن منة الأمثال بما أزاح لهم من العلة فيما لابد منه ، فكافيهم السماء لهم غطاء والأرض وطاء ، والمباحات رزقاً ، والطاعة حرفة ، والعبادة شغلاً ، والذكر مؤنساً ، والرب وكيلاً - (فلا تجعلوا لله أنداداً ) ، ولا تعلقوا قلوبكم بالأغيار في طلب ما تحتاجون إليه ، فإن الحق سبحانه وتعالى متوحد بالإبداع ، لا محدث سواه ، فإذا توهمتم أن شيئاً من الحادثات من نفع أو ضرر ، أو خير أو شر يحدث من مخلوق كان ذلك - في التحقيق شركاً .
وقوله عز وجل (وأنتم تعلمون) أن من له حاجة في نفسه لا يصلح أن ترفع حاجتك إليه ، وتعلق المحتاج بالمحتاج ، واعتماد الضعيف على الضعيف يزيد في الفقر ، ولا يزيل هواجم الضر (1) . أهـ
(لطيفة)
قال الإمام الرازي - رحمه الله - في قوله تعالى (وأنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقاً لكم)
اعلم أن الله تعالى لما خلق الأرض وكانت كالصدف والدرة المودعة فيه آدم وأولاده التي هي لك كالأم فقال : (أنا صببنا الماء صباً ثم شققنا الأرض شقاً) (عبس : 25 ، 26)
فانظر يا عبدي أن أعز الأشياء عندك الذهب والفضة ، ولو أني خلقت الأرض من الذهب والفضة هل كان يحصل منها هذه المنافع ، ثم إني جعلت هذه الأشياء في هذه الدنيا مع أنها سجن ، فكيف الحال في الجنة ، فالحاصل أن الأرض أمل ، بل أشفق من الأم ، لأن الأم تسقيك لوناً واحداً من اللبن ، والأرض تطعمك كذا وكذا لونا من الأطعمة ، ثم قال : (منها خلقناكم وفيها نعيدكم) (طه : 55) معناه نردكم إلى هذه .
__________
(1) - لطائف الإشارة جـ1 صـ68

(4/31)


وهذا ليس بوعيد ، لأن المرء لا يوعد بأمه وذلك لأن مكانك من الأم التي ولدتك أضيق من مكانك من الأرض ، ثم إنك كنت في بطن الأم تسعة أشهر فما مسك جوع ولا عطش ، فكيف إذا دخلت بطن الأم الكبرى ، ولكن الشرط أن تدخل بطن هذه الأم الكبرى كما كنت في بطن الأم الصغرى ، لأنك حين كنت في بطن الأم الصغرى ما كانت لك زلة فضلاً عن أن تكون لك كبيرة ، بل كنت مطيعاً لله بحيث دعاك مرة إلى الخروج إلى الدنيا فخرجت إليها بالرأس طاعة منك لربك ، واليوم يدعوك سبعين مرة إلى الصلاة فلا تجيبه برجلك ، واعلم أنه سبحانه وتعالى لما ذكر الأرض والسماء بين ما بينهما من شبه عقد النكاح بإنزال الماء من السماء على الأرض ، والإخراج من بطنها أشباه النسل الحاصل من الحيوان ، ومن أنواع الثمار رزقاً لبني آدم ليتفكروا في أنفسهم وفي أحوال ما فوقهم وما تحتهم ، ويعرفوا أن شيئاً من هذه الأشياء لا يقدر على تكوينها وتخليقها إلا من كان مخالفاً لها في الذات والصفات ، وذلك الصانع الحكيم سبحانه وتعالى(1) . أهـ .
لطيفة
جاء جماعة من الدهرية لأبى حنيفة ـ رضى الله عنه ـ فقال ما تقولون فى خشب قطع من الأشجار بلا نجار ، واجتمع ثم كون سفينة تجرى فى البحر ، وهى مشحونة بالأحمال مملوءة من الأثقال قد احتوشها فى لجة البحر أمواج متلاطمة ورياح مختلفة ، وهى من بينها تجرى مستوية ليس لها ملاح يجريها ولا متعهد يدفعها ، هل يجوز ذلك فى العقل ؟
قالوا لا : هذا شىء لايقبله العقل ، فقال أبو حنيفة : يا سبحان الله إذا لم يجز فى العقل سفينة تجرى فى البحر مستوية من غير متعهد ولا مجر ، فكيف يجوز قيام هذه الدنيا على اختلاف أحوالها ، وتغير أعمالها ، وسعة أطرافها ، وتباين أكنافها من غير صانع وحافظ ، فبكوا جميعا ، وقالوا صدقت . أهـ . [الجواهر فى تفسير القرآن الكريم حـ1 صـ34 للشيخ طنطاوى جوهرى]
__________
(1) - التفسير الكبير جـ2 صـ342-343

(4/32)


قوله تعالى (وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا .. الآية )
قال ابن جزي : في قوله تعالى :
(فأتوا بسورة) هذا أمر يراد به التعجيز (من مثله) الضمير عائد على ما أنزل وهو القرآن ، وقيل يعود على النبي – صلى الله عليه وسلم – والأول أرجح لتعيينه في يونس (1) وهود (2) ، وبمعنى مثله في فصاحته وفيما تضمنه من العلوم والحكم العجيبة والبراهين الواضحة (3) . أهـ
وقال الخطيب الشربيني – رحمه الله – ما نصه :
(وإنما قال (مما نزلنا) لأن نزوله نجماً فنجماً بحسب الوقائع على ما يرى عليه أهل الشعر والخطابة مما يريبهم ، كما حكى الله تعالى عنهم قوله تعالى (وقال الذين كفروا لولا نزل عليه القرآن جملة واحدة) (الفرقان : 32) فكان الواجب تحديهم على هذا الوجه إزالة للشبهة ، وإلزاماً للحجة (4) ، فإن أهل الشعر والخطابة يأتون بأشعارهم وخطبهم على قدر الحاجة شيئاً فشيئاً ، ولما كان القرآن منزلاً كذلك طعنوا فيه بأنه مثل كلامهم ، فقيل لهم : ارتبتم في نزوله منجماً فأتوا بنجم منه ، لأنهم إذا عجزوا عن نجم منه ، فعجزهم عن كله أولى (5) . أهـ .
(سؤال) لم عبر بقوله (وإن كنتم في ريب) ولم يقل (وإن ارتبتم) ؟
__________
(1) - المراد قوله تعالى (قل فأتوا بسورة مثله) (يونس : 38)
(2) - المراد قوله تعالى (فأتوا بعشر سور مثله مفتريات) (هود : 13)
(3) - التسهيل جـ1 صـ41 . بتصرف يسير
(4) - هذا جواب عن سؤاله حاصلة لم عبر بقوله (نزلنا) وهي تفيد التدرج في النزول ، ولم يعبر بأنزلنا التي تفيد نزوله جملة واحدة
(5) - السراج المنير للخطيب الشربيني جـ1 صـ34

(4/33)


(الجواب) للمبالغة في تنزيه ساحة التنزيل عن شائبة وقوع الريب فيه حسبما نطق به قوله تعالى (لا ريب فيه) والإشعار بأن ذلك إن وقع فمن جهتهم لا من جهته العالية ، واعتبار استقرارهم فيه وإحاطته بهم لا ينافي اعتبار ضعفه وقلته لما أن ما يقتضيه ذلك هو دوام ملابستهم به لا قوته وكثرته(1).أهـ .

قال أبو السعود :
وليس معنى كونهم في ريب منه ارتيابهم في استقامة معانيه وصحة أحكامه ، بل في نفس كونه وحياً منزلاً من عند الله عز وجل .
ثم قال : وفي ذكره – صلى الله عليه وسلم – بعنوان العبودية مع الإضافة إلى ضمير الجلالة من التشريف والتنويه على اختصاصه به عز وجل والقيادة لأوامره تعالى مالا يخفى .
وقال في قوله تعالى (من مثله) أي بسورة كائنة من مثله في علو الرتبة وسمو الطبقة ، والنظم الرائق ، والبيان البديع ، وحيازة سائر نعوت الإعجاز(2) . أهـ .

وقال الزركشي(3) : ما نصه :
(واعلم أن النبي – صلى الله عليه وسلم – تحدى العرب قاطبة بالقرآن حين قالوا : افتراه ، فأنزل الله عز وجل عليه : (أم يقولون افتراه قل فأتوا بعشر سور مثله) (هود (13) ثم كرر هذا فقال (وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله) أي : من كلام مثله ، وقيل من بشر مثله ، ويحقق القول الأول الآيتان السابقتان فلما عجزوا عن أن يأتوا بسورة تشبه القرآن على كثرة الخطباء فيهم والبلغاء قال : (قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيراً) (الإسراء : 88) فقد ثبت أنه تحداهم به ، وأنهم لم يأتوا بمثله لعجزهم عنه ، لأنهم لو قدروا على ذلك لفعلوا ، ولما عدلوا إلى العناد تارة والاستهزاء أخرى ، فتارة قالوا : سحر ، وتارة قالوا : شعر ، وتارة قالوا : أساطير الأولين . كل ذلك من التحير والانقطاع . أهـ .
__________
(1) - تفسير أبي السعود جـ1 صـ63
(2) - تفسير أبي السعود جـ1 صـ64 . بتصرف يسير
(3) - البرهان جـ2 صـ102

(4/34)


وقال الكرماني : قوله تعالى (فأتوا بسورة من مثله) بزيادة (من) في هذه السورة ، وفي غيرها (بسورة مثله) لأن (من) تدل على التبعيض ، ولما كانت هذه السورة سنام القرآن وأوله بعد الفاتحة حسن دخول (من) فيها ليعلم أن التحدى واقع على جميع سور القرآن من أوله إلى آخره ، وغيرها من السور لو دخلها (من) لكان التحدي واقعاً على بعض السور دون بعضها ولم يكن ذلك بالسهل (1) . أهـ .
قال الإمام القشيري – رحمه الله –
(لبس على بصائر الأجانب حتى لم يشهدوا حبيبه – صلوات الله عليه – فتاهوا في أودية الظنون لما فقدوا نور العناية ، فلم يزدد الرسول عليهم إتياناً بالآيات وإظهاراً من المعجزات إلا ازدادوا ريباً على ريب وشكاً على شك ، وهكذا سبيل من أعرض عن الحق سبحانه ، لا يزيده ضياء الحجج إلا عمي عن الحقيقة ، قال الله تعالى (وما تغني الآيات والنذر عن قوم لا يؤمنون) (يونس : 101) ، وليبلغ عليهم في إلزام الحجة عرفهم عجزهم عن معارضة ما آتاهم من معجزة القرآن الذي قهر الأنام من أولهم إلى آخرهم ، وقدر عليهم أنهم لو تظاهروا فيما بينهم ، واعتضدوا بأشكالهم ، واستفرغوا كنه طاقتهم واحتيالهم لم يقدروا على الإتيان بسورة مثل سورة القرآن .
ثم قال (فإن لم تفعلوا) وأخبر أنهم قطعاً لا يقدرون على ذلك و لا يفعلون فقال (ولن تفعلوا) فكان كما قال – فانظروا لأنفسكم ، واحذروا الشرك الذي يوجب لكم عقوبة النار التي من سطوتها بحيث وقودها الناس والحجارة ، فإذا كانت تلك النار التي لا تنبت لها الحجارة مع صلابتها فكيف يطيقها الناس مع ضعفهم وحين أشرقت قلوب المؤمنين على غاية الإشفاق من سماع ذكر النار تداركها بحكم التثبيت فقال (أعدت للكافرين) ففي ذلك بشارة للمؤمنين ، وهذه سنة من الحق سبحانه : إذا خوف أعداءه بشر مع ذلك أولياءه .
__________
(1) - أسرار التكرار في القرآن للكرماني صـ25

(4/35)


وكما أن كيد الكافرين يضمحل في مقابلة معجزات الرسل – عليهم السلام – فكذلك دعاوى الملبسين تتلاشى عن ظهور أنوار الصديقين ، وأمارة المبطل في دعواه رجوع الزجر منه إلى القلوب ، وعلامة الصادق في معناه وقوع القهر منه على القلوب . وعزيز من فصل وميز بين رجوع الزجر وبين وقوع القهر (1) . أهـ .

لطائف وفوائد

قال الإمام ابن القيم ما نصه :
(وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله وادعوا شهداءكم من دون الله إن كنتم صادقين) (البقرة : 23) ، إن حصل لكم ريب في القرآن الكريم وصدق من جاء به ، وقلتم : إنه مفتعل فأتوا بسورة واحدة تشبهه ، وهذا خطاب لأهل الأرض أجمعهم ، ومن المحال أن يأتي واحد منهم بكلام يفتعله ويختلقه من تلقاء نفسه ثم يطالب أهل الأرض بجمعهم أن يعارضوه في أيسر جزء منه يكون مقداره ثلاث آيات من عدة ألوف ثم تعجز الخلائق كلهم عن ذلك ، حتى إن الذين راموا معارضته كان ما عارضوه من أقوى الأدلة على صدقه ، فإنهم أتوا بشيء يستحي العقلاء من سماعه ، ويحكمون بسماجته ، وقبح ركاكته وخسته ، فهو كمن أظهر طيباً لم يشم أحد مثل ريحه قط ، وتحدى الخلائق ملوكهم وسوقتهم بأن يأتوا بذرة طيبة مثله ، فاستحى العقلاء وعرفوا عجزهم وجاء الحمقاء بعذرة منتنة خبيثة ، وقالوا : قد جئنا بمثل ما جئت به فهل يزيد هذا ما جاء به إلا قوة وبرهاناً وعظمة وجلالة ، وأكد تعالى هذا التوبيخ والتقريع والتعجيز بأن قال (وادعوا شهداءكم من دون الله إن كنتم صادقين) (23) ، كما يقول المعجز لمن يدعى مقاومته : أجهد على بكل من تقدر عليه من أصحابك وأعوانك وأوليائك ولا تبق منهم أحداً حتى تستعين به ، فهذا لا يقدم عليه إلا أجهل العالم وأحمقه وأسخفه عقلاً إن كان غير واثق بصحة ما يدعيه أو أكملهم وأفضلهم وأصدقهم وأوثقهم بما يقول ، والنبي – صلى الله عليه وسلم – يقرأ هذه الآية وأمثالها على أصناف الخلائق
__________
(1) - لطائف الإشارات جـ1 صـ69

(4/36)


أميهم وكتابيهم وعربهم وعجمهم ويقول : لن تستطيعوا ذلك ولن تفعلوه أبداً فيعدلون معه إلى الحرب والرضى بقتل الأحباب فلو قدروا على الإتيان بسورة واحدة لم يعدلوا عنها إلى اختيار المحاربة ، وإيتام الأولاد ، وقتل النفوس، والإقرار بالعجز عن معارضته(1)أهـ .

بحث نفيس في : إعجاز القرآن

قال صاحب الميزان – رحمه الله – ما نصه :
لا ريب في أن القرآن يتحدى بالإعجاز في آيات كثيرة مختلفة مكية ومدنية تدل جميعها على أن القرآن آية معجزة خارقة حتى أن الآية السابقة أعني قوله تعالى : (وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله) (البقرة :23 ) الآية ، أي من مثل النبي – صلى الله عليه وسلم – استدلال على كون القرآن معجزة بالتحدي على إتيان سورة نظيرة سورة من مثل النبي – صلى الله عليه وسلم – لا أنه استدلال على النبوة مستقيماً وبلا واسطة ، والدليل عليه قوله تعالى في أولها : (وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا) ولم يقل وإن كنتم في ريب من رسالة عبدنا ، فجميع التحديات الواقعة في القرآن نحو استدلال على كون القرآن معجزة خارقة من عند الله ، والآيات المشتملة على التحدي مختلفة في العموم والخصوص ومن أعمها تحدياً قوله تعالى (قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيراً ) (الإسراء : 88) ، والآية مكية وفيها من عموم التحدي مالا يرتاب فيه ذو مسكة .
فلو كان التحدي ببلاغة بيان القرآن وجزالة أسلوبه فقط لم يتعد التحدي قوماً خاصاً وهم العرب العرباء من الجاهلين والمخضرمين قبل اختلاط اللسان وفساده ، وقد قرع بالآية أسماع الإنس والجن .
__________
(1) - بدائع الفوائد جـ4 صـ910 ، 911

(4/37)


وكذا غير البلاغة والجزالة من كل صفة خاصة اشتمل عليها القرآن كالمعارف الحقيقية والأخلاق الفاضلة والأحكام التشريعية والأخبار المغيبة ومعارف أخرى لم يكشف البشر حين النزول عن وجهها النقاب إلى غير ذلك ، كل واحد منها بما يعرفه بعض الثقلين دون جميعهم ، فإطلاق التحدي على الثقلين ليس إلا في جميع ما يمكن فيه التفاضل في الصفات .
فالقرآن آية للبليغ في بلاغته وفصاحته ، وللحكيم في حكمته ، وللعالم في علمه ، وللاجتماعي في اجتماعه ، وللمقنين في تقنيهم وللسياسيين في سياستهم ، وللحكام في حكومتهم ولجميع العالمين فيما لا ينالونه جميعاً ، كالغيب والاختلاف في الحكم والعلم والبيان ومن هنا يظهر أن القرآن يدعي عموم إعجازه من جميع الجهات من حيث كون إعجاز الكل فرد من الإنس والجن من عامة أو خاصة أو عالم أو جاهل أو رجل أو امرأة أو فاضل بارع في فضله أو مفضول إذا كان ذا لب يشعر بالقول فإن الإنسان مفطور على الشعور بالفضيلة وإدراك الزيادة والنقيصة فيها ، فلكل إنسان أن يتأمل ما يعرفه من الفضيلة في نفسه أو في غيره من أهله ثم يقيس ما أدركه منها إلى ما يشتمل عليه القرآن فيقضي بالحق والنصفة ، فهل يتأتى للقوة البشرية أن تختلق معارف إلهية مبرهنة تقابل ما أتى به القرآن وتماثله في الحقيقة وهل يمكنها أن تأتي بأخلاق مبنية على أساس الحقائق تعادل ما أتى به القرآن في الصفاء والفضيلة ؟ وهل يمكنها أن تشرع أحكاماً تامة فقهية تحصي جميع أعمال البشر من غير اختلاف يؤدي إلى التناقض مع حفظ روح التوحيد وكلمة التقوى في كل حكم ونتيجة ، وسريان الطهارة في أصله وفرعه ؟ وهل يمكن أن يصدر هذا الإحصاء العجيب والإتقان الغريب من رجل أمي لم يترب إلا في حجر قوم حظهم من الإنسانية على مزاياها التي لا تحصى وكمالاتها التي لا تغيا أن يرتزقوا بالغارات والغزوات ونهب الأموال وأن يئدوا البنات ويقتلوا الأولاد خشية إملاق ويفتخروا بالآباء وينكحوا الأمهات

(4/38)


ويتباهوا بالفجور ويذموا العلم ويتظاهروا بالجهل وهم على أنفتهم وحميتهم الكاذبة أذلاء لكل مستذل وخطفة لكل خاطف فيوماً لليمن ويوماً للحبشة ويوماً للروم ويوماً للفرس ؟ فهذا حال عرب الحجاز في الجاهلية .
وهل يجترئ عاقل على أن يأتي بكتاب يدعيه هدى للعالمين ثم يودعه أخباراً في الغيب مما مضى ويستقبل وفيمن خلت من الأمم وفيمن سيقدم منهم لا بالواحد والاثنين في أبواب مختلفة من القصص والملاحم والمغيبات المستقبلة ثم لا يختلف شيء منها عن صراط الصدق
وهل يتمكن إنسان وهو أحد أجزاء نشأة الطبيعة المادية ، والدار التحول والتكامل ، أن يداخل في كل شأن من شئون العالم الإنساني ويلقى إلى الدنيا معارف وعلوماً وقوانين وحكماً ومواعظ وأمثالاً وقصصاً في كل ما دق وجل ثم لا يختلف حاله في شيء منها في الكمال والنقص وهي متدرجة الوجود متفرقة الإلقاء وفيها ما ظهر ثم تكرر وفيها فروع متفرعة على أصولها ؟ هذا ما نراه أن كل إنسان يبقى من حيث كمال العمل ونقصه على حال واحدة .
فالإنسان اللبيب القادر على تعقل هذه المعاني لا يشك في أن هذه المزايا الكلية وغيرها مما يشتمل عليه القرآن الشريف كلها فوق القوة البشرية ووراء الوسائل الطبيعية المادية وإذا لم يقدر على ذلك فلم يضل في إنسانيته ولم ينس ما يحكم به وجدانه أنه الفطري أن يراجع فيما لا يحب اختياره ويجهل مأخذه إلى أهل الخبرة به (1) . أهـ
__________
(1) - الميزان في تفسير القرآن جـ1 صـ59 ، 60 ، 61

(4/39)


التحدي بمن أنزل عليه القرآن
وقد تحدى بالنبي الأمي الذي جاء بالقرآن المعجز في لفظه ومعناه ، ولم يتعلم عند معلم ولم يترب عند مرب بقوله تعالى (قل لو شاء الله ما تلوته عليكم ولا أدراكم به فقد لبثت فيكم عمراً من قبله أفلا تعقلون) (يونس : 16) ، فقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - بينهم وهو أحدهم لا يتسامى في فضل ولا ينطق بعلم حتى لم يأت بشيء من شعر أو نثر نحواً من أربعين سنة وهو ثلثا عمره لا يجوز تقدماً ولا يرد عظيمة من عظائم المعالي ثم أتى بما أتى به دفعة فأتى بما عجزت عنه فحولهم وكلت دونه ألسنة بلغائهم ، ثم بثه في أقطار الأرض فلم يجترئ على معارضته معارض من عالم أو فاضل أو ذي لب وفطانة .
وغاية ما أخذوه عليه : أنه سافر إلى الشام للتجارة فتعلم هذه القصص ممن هناك من الرهبان ولم تكن أسفاره إلى الشام إلا مع عمه أبي طالب قبل بلوغه وإلا مع ميسرة مولى خديجة وسنه يومئذ خمسة وعشرون وهو مع من يلازمه في ليله ونهاره ، ولو فرض محالاً ذلك فما هذه المعارف والعلوم ؟ ومن أين هذه الحكم والحقائق ؟ وممن هذه البلاغة في البيان الذي خضعت له الرقاب وكلت دونه الألسن الفصاح ؟
وما أخذوه عليه أنه كان يقف على قين بمكة من أهل الروم كان يعمل السيوف ويبيعهم فأنزل الله سبحانه (ولقد نعلم أنهم يقولون إنما يعلمه بشر لسان الذي يلحدون إليه أعجمي وهذا لسان عربي مبين) (النحل : 103) .
وما قالوا عليه أنه يتعلم بعض ما يتعلم من سلمان الفارسي وهو من علماء الفرس عالم بالمذهب والأديان مع أن سلمان إنما آمن به في المدينة ، وقد نزل أكثر القرآن بمكة وفيها من جميع المعارف الكلية والقصص ما نزلت منها بمدينة بل أزيد ، فما الذي زاده إيمان سلمان وصحابته ؟

(4/40)


على أن من قرأ العهدين وتأمل ما فيهما ثم رجع إلى ما قصه القرآن من تواريخ الأنبياء السالفين وأممهم رأى أن التاريخ غير التاريخ والقصة ، فقيهما عثرات وخطايا لأنبياء الله الصالحين تنو الفطرة وتتنفر من أن تنسبها إلى المتعارف من صلحاء الناس وعقلائهم ، والقرآن يبرئهم منها ، وفيها أمور أخرى لا يتعلق بها معرفة حقيقية ولا فضيلة خلقية ولم يذكر القرآن منها إلا ما ينفع الناس في معارفهم وأخلاقهم وترك الباقي وهو الأكثر(1).أهـ

تحدي القرآن بعدم الاختلاف فيه

وقد تحدى أيضاً بعدم وجود الاختلاف فيه ، قال تعالى : (أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً ) (النساء : 82) ، فإن من الضروري أن النشأة نشأة المادة والقانون الحاكم فيها قانون التحول والتكامل فما من موجود من الموجودات التي هي أجزاء هذا العالم إلا وهو متدرج الوجود متوجه من الضعف إلى القوة ومن النقص إلى الكمال في ذاته وجميع توابع ذاته ولواحقه من الأفعال والآثار ومن جملتها الإنسان الذي لا يزال يتحول ويتكامل في وجوده وأفعاله وآثاره التي منها آثاره التي يتوسل إليها ، بالفكر والإدراك ، فما من واحد منا إلا وهو يرى نفسه كل يوم أكمل من أمس ولا يزال يعثر في الحين الثاني على سقطات في أفعاله وعثرات في أقواله الصادرة منه في الحين الأول ، هذا أمر لا ينكره من نفسه إنسان ذو شعور .
__________
(1) - الميزان في تفسير القرآن جـ1 صـ63 ، 64

(4/41)


وهذا الكتاب جاء به النبي – صلى الله عليه وسلم – نجوماً وقرأه على الناس قطعاً قطعاً في مدة ثلاث وعشرين سنة في أحوال مختلفة وشرائط متفاوتة في مكة والمدينة في الليل والنهار والحضر والسفر والحرب والسلم في يوم العسرة وفي يوم الغلبة ويوم الأمن ويوم الخوف ، ولإلقاء المعارف الإلهية وتعليم الأخلاق الفاضلة وتقنين الأحكام الدينية في جميع أبواب الحاجة ، ولا يوجد فيه أدنى اختلاف في النظم المتشابه ، كتاباً متشابهاً مثانى ، ولم يقع في المعارف التي ألقاها والأصول التي أعطاها اختلاف بتناقض بعضها مع بعض وتنافي شيء منها آخر ، فالآية تفسير الآية والبعض يبين البعض ، والجملة تصدق الجملة كما قال علي – رضي الله عنه - : (ينطق بعضه ببعض ويشهد بعضه على بعض) (نهج البلاغة) .
ولو كان من عند غير الله لاختلف النظم في الحسن والبهاء والقول في الشداقة والبلاغة والمعنى من حيث الفساد والصحة ومن حيث الإتقان والمتانة .
فإن قلت : هذه مجرد دعوى لا تنكي على دليل وقد أخذ على القرآن مناقضات وإشكالات جمة ربما ألف فيه التأليفات ، وهي إشكالات لفظية ترجع إلى قصوره في جهات البلاغة ومناقضات معنوية تعود إلى خطأه في آرائه وأنظاره وتعليماته ، وقد أجاب عنها المسلمون بما لا يرجع في الحقيقة إلا إلى التأويلات التي يحترزها الكلام الجاري على سنن الاستقامة وارتضاء الفطرة السليمة .
قلت : ما أشير إليه من المناقضات والإشكالات موجودة في كتب التفسير وغيرها مع أجوبتها ومنها هذا الكتاب ، فالإشكالات أقرب إلى الدعوى الخالية عن البيان .
ولا تكاد تجد في هذه المؤلفات التي ذكرها المستشكل شبهة أوردوها أو مناقضة أخذوها إلا وهي مذكورة في مسفورات المفسرين مع أجوبتها فأخذوا الإشكالات وجمعوها ورتبوها وتركوا الأجوبة وأهملوها ، ونعم ما قيل : لو كانت عين الحب متهمة فعين البغض أولى بالتهمة (1) . أهـ
__________
(1) - الميزان في تفسير القرآن جـ1 صـ66 ، 67

(4/42)


التحدي بالبلاغة

وقد تحدى القرآن بالبلاغة كقوله تعالى : (أم يقولون افتراه قل فأتوا بعشر سور مثله مفتريات وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين فإن لم يستجيبوا لكم فاعلموا أنما أنزل بعلم الله وأن لا إله إلا هو فهل أنتم مسلمون) (هود : 13 ، 14) .
والآية مكية ، وقوله تعالى : (أم يقولون افتراه قل فأتوا بسورة مثله وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه ولما يأتهم تأويله) (يونس : 38 ، 39) . والآية أيضاً مكية وفيها التحدي بالنظم والبلاغة فإن ذلك هو الشأن الظاهر من شؤون العرب المخاطبين بالآيات يومئذ ، فالتاريخ لا يرتاب أن العرب العرباء بلغت من البلاغة في الكلام مبلغاً لم يذكره التاريخ لواحدة من الأمم المتقدمة عليهم والمتأخرة عنهم ووطئوا موطئاً لم تطأه أقدام غيرهم في كمال البيان وجزالة النظم ووفاء اللفظ ورعاية المقام وسهولة المنطق . وقد تحدى عليهم القرآن بكل تحد ممكن مما يثير الحمية ويوقد نار الأنفة والعصبية . وحالهم في الغرور ببضاعتهم والاستكبار عن الخضوع للغير في صناعتهم مما لا يرتاب فيه ، وقد طالت مدة التحدي وتمادي زمان الاستنهاض فلم يجيبوه إلا بالتجافي ولم يزدهم إلا العجز ولم يكن منهم إلا الاستكبار والفرار ، كما قال تعالى : (ألا أنهم يثنون صدورهم ليستخفوا منه ألا حين يستغشون ثيابهم يعلم ما يسرون وما يعلنون) (هود : 5) .
وقد مضى من القرون والأحقاب ما يبلغ أربعة عشر قرناً ولم يأت بما يناظره آت ولم يعارضه أحد بشيء إلا أخزي نفسه وافتضح في أمره .

(4/43)


وقد ضبط النقل بعض هذه المعارضات والمناقشات ، فهذا مسبلمة عارض سورة الفيل بقوله : (الفيل ما الفيل وما أدراك ما الفيل له ذلب وبيل وخرطوم طويل) وفي كلام له في الوحي يخاطب السجاح النبيه (فنولجه فيكن إيلاجاً ، ونخرجه منكن إخراجاً ) فانظر إلى هذه الهذيانات واعتبر ، وهذه سورة عارض بها الفاتحة بعض النصارى (الحمد للرحمن . رب الأكوان الملك الديان . لك العبادة وبك المستعان اهدنا صراط الإيمان) إلى غير ذلك من التقولات (1) . أهـ .
*وقال الشيخ محمد جواد البلاغي في تقديمه لتفسير مجمع البيان للطبرسي ما نصه :
ولا تزال المصاحف ينسخ بعضها على بعض والمسلمون يقرأ بعضهم على بعض ويسمع بعضهم من بعض .
تكون ألوف المصاحف رقيبة على الحفاظ وألوف الحفاظ رقباء على المصاحف وتكون الألوف من كلا القسمين رقيبة على المتجدد منها . نقول الألوف ولكنها مئات الألوف وألوف الألوف فلم يتفق لأمر تاريخي من التواتر وبداهة البقاء مثل ما اتفق للقرآن الكريم كما وعد الله جلت ألاؤه بقوله في سورة الحجر (إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون) (الحجر :9) وقوله في سورة القيامة (إن علينا جمعه وقرآنه) (القيامة :17) (2) . أهـ .
__________
(1) - الميزان في تفسير القرآن جـ1 صـ68
(2) - مجمع البيان جـ1 صـ19

(4/44)


من أقوال العلماء في وجوه إعجاز القرآن
*قال أبو حيان التوحيدي في البصائر : لم أسمع كلاماً ألصق بالقلب ، وأعلق بالنفس من فصل تكلم به بندار بن الحسين الفارسي . وكان بحراً في العلم - وقد سئل عن موضع الإعجاز من القرآن فقال : هذه مسألة فيها حيف على المفتي ، وذلك أنه شبيه بقولك : ما موضع الإنسان من الإنسان ؟ فليس للإنسان موضع من الإنسان بل متى أشرت إلى جملته فقد حققته ، ودللت على ذاته ، كذلك القرآن لشرفه لا يشار إلى شيء منه إلا وكان ذلك المعنى آية في نفسه ، ومعجزة لمحاوله ، وهدى لقائله ، وليس في طاقة البشر الإحاطة بأغراض الله في كلامه وأسراره في كتابه ، فلذلك حارت العقول وتاهت البصائر عنده .
ومنها : وهو قول حازم في (منهاج البلغاء) : إن الإعجاز فيه من حيث استمرت الفصاحة والبلاغة فيه من جميع أنحائها في جميعه استمراراً لا توجد له فترة ، ولا يقدر عليه أحد من البشر ، وكلام العرب ومن تكلم بلغتهم لا تستمر الفصاحة والبلاغة في جميع أنحائها في العالي منه إلا في الشيء اليسير المعدود ، ثم تعرض الفترات الإنسانية فتقطع طيب الكلام ورونقه ، فلا تستمر لذلك الفصاحة في جميعه ، بل توجد في تفاريق وأجزاء منه ، والفترات في الفصاحة تقع للفصيح ، إما بسهو يعرض له في الشيء من غير أن يكون جاهلاً به ، أو من جهل به ، أو من سآمة تعتري فكره ، أو من هوى للنفس يغلب عليها فيما يحوش عليها خاطره ، من اقتناص المعاني سميناً كان أو غثاً ، فهذه آفات لا يخلو منها الإنسان الفاضل الطبع الكامل ، وهو قريب مما ذكره ابن الزملكاني وابن عطية .
قال الخطابي في كتابه - وإليه ذهب الأكثرون من علماء النظر - : إن وجه الإعجاز فيه من جهة البلاغة ، لكن لما صعب عليهم تفصيلها صغوا فيه إلى حكم الذوق والقبول عند النفس .

(4/45)


قال : والتحقيق أن أجناس الكلام مختلفة ، ومراتبها في درجة البيان متفاوتة، ودرجاتها في البلاغة متباينة غير متساوية ، فمنها البليغ الرصين الجزل ، ومنها الفصيح القريب السهل ، ومنها الجائز الطلق الرسل ، وهذه أقسام الكلام الفاضل المحمود .
فالقسم الأول أعلاه ، والثاني أوسطه ، والثالث أدناه وأقربه ، فحازت بلاغات القرآن من كل قسم من هذه الأقسام حصة ، وأخذت من كل نوع شعبة ، فانتظم لها بامتزاج هذه الأوصاف نمط من الكلام يجمع صفتي الفخامة والعذوبة ، وهما على الانفراد في نعوتهما كالمتضادين ، لأن العذوبة نتاج السهولة ، والجزالة والمتانة . يعالجان نوعان من الوعرة ، فكان اجتماع الأمرين في نظمه مع نبو كل منهما عن الآخر فضيلة خص بها القرآن . يسرها الله بلطيف قدرته ، ليكون آية بينة لنبيه .
وإنما تعذر على البشر الإتيان بمثله لأمور :
منها : أن علمهم لا يحيط بجميع أسماء اللغة العربية وأوضاعها التي هي ظروف المعاني والحوامل ولا تدرك أفهامهم جميع معاني الأشياء المحمولة على تلك الألفاظ ، ولا تكمل معرفتهم باستيفاء جميع وجوه النظوم التي بها يكون ائتلافها وارتباطها بعضها ببعض ، فيتوصلوا باختيار الأفضل عن الأحسن من وجوهها ، إلا أن يأتوا بكلام مثله .
وإنما يقوم الكلام بهذه الأشياء الثلاثة : لفظ حامل ، ومعنى به قائم ، ورباط لهما ناظم ، وإذا تأملت القرآن وجدت هذه الأمور منه في غاية الشرف والفضيلة ، حتى لا ترى شيئاً من الألفاظ أفصح ولا أجزل ولا أعذب من ألفاظه ، ولا ترى نظماً أحسن تأليفاً وأشد تلاؤماً وتشاكلاً من نظمه . وأما معانيه ، فكل ذي لب يشهد له بالتقديم في أبوابه ، والرقي في أعلى درجاته .
وقد توجد هذه الفضائل الثلاث على التفرق في أنواع الكلام ، وأما أن توجد مجموعة في نوع واحد منه فلم توجد إلا في كلام العليم القدير ،

(4/46)


فخرج من هذا أن القرآن إنما صار معجزاً لأنه جاء بأفصح الألفاظ في أحسن نظوم التأليف ، مضمناً أصح المعاني ، من توحيد الله تعالى وتنزيهه في صفاته ، ودعاء إلى طاعته وبيان لطريق عبادته في تحليل وتحريم ، وحظر وإباحة ، ومن وعظ وتقويم ، وأمر بمعروف ونهي عن منكر ، وإرشاد إلى محاسن الأخلاق ، وزجر عن مساويها ، واضعاً كل شيء منها موضعه الذي لا يرى شيء أولى منه ، ولا يتوهم في صورة العقل أمر أليق به منه ، مودعاً أخبار القرون الماضية وما نزل من مثلات الله بمن عصى وعاند منهم ، منبئاً عن الكوائن المستقبلة في الأعصار الماضية من الزمان ، جامعاً في ذلك بين الحجة والمحتج له ، والدليل والمدلول عليه ، ليكون ذلك أؤكد للزوم ما دعا إليه ، وإنباءً عن وجوب ما أمر به ونهي عنه .
ومعلوم أن الإتيان بمثل هذه الأمور ، والجمع بين أشتاتها حتى تنتظم وتتسق، أمر تعجز عنه قوى البشر ، ولا تبلغه قدرتهم ، فانقطع الخلق دونه ، وعجزوا عن معارضته بمثله ، ومناقضيه في شكله ، ثم صار المعاندون له يقولون مرة : إنه شعر لما رأوه منظوماً ، ومرة إنه سحر لما رأوه معجوزاً عنه ، غير مقدور عليه . وقد كانوا يجدون له وقعاً في القلب وقرعاً في النفس ، يريبهم ويحيرهم ، فلم يتمالكوا أن يعترفوا به نوعاً من الاعتراف ، ولذلك قالوا : إن له الحلاوة ، وإن عليه لطلاوة . وكانوا مرة لجهلهم وحيرتهم يقولون : (أساطير الأولين اكتتبها فهي تملى عليه بكرة وأصيلاً ) (الفرقان : 5) . مع علمهم أن صاحبهم أمي وليس بحضرته من يملي أو يكتب شيئاً ، ونحو ذلك من الأمور التي أوجبها العناد والجهل والعجز . وقد حكى الله عن بعض مردتهم – وهو الوليد بن المغيرة المخزومي – أنه لما طال فكره في القرآن وكثر ضجره منه ، وضرب له الأخماس من رأيه في الأسداس ، فلم يقدر على أكثر من قوله : (إن هذا إلا قول البشر) (المدثر : 24) عناداً وجهلاً به ، وذهاباً عن الحجة ، وانقطاعاً دونها .

(4/47)


قال الخطابي : وقلت في إعجاز القرآن وجه آخر ذهب عنه الناس فلا يكاد يعرفه إلا الشاذ في آحادهم وهو صنيعه بالقلوب ، وتأثيره في النفوس ، فإنك لا تسمع كلاماً غير القرآن منظوماً ولا منثوراً إذا قرع السمع خلص له إلى القلب من اللذة والحلاوة في حال ، ومن الروعة والمهابة في حال أخرى ما يخلص منه إليه .
قال الله تعالى : (لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعاً متصدعاً من خشية الله) (الحشر : 21) .
وقال تعالى : (الله نزل أحسن الحديث كتاباً متشابهاً مثاني تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم) (الزمر : 23) .
قلت : ولهذا أسلم جبير بن مطعم لما سمع قراءة النبي – صلى الله عليه وسلم – للطور حتى انتهى إلى قوله : (إن عذاب ربك لواقع) (الطور : 7) قال : خشيت أن يدركني العذاب . وفي لفظ : (كاد قلبي يطير فأسلم) . وفي أثر آخر أن عمر لما سمع سورة طه أسلم ، وغير ذلك
وقد يصنف بعضهم كتاباً فيمن مات بسماع آية من القرآن .
وهو قول أهل التحقيق : إن الإعجاز وقع بجميع ما سبق من الأقوال ، لا بكل واحد عن انفراد ، فإنه جمع ذلك كله ، فلا معنى لنسبته إلى واحد منها بمفرده مع اشتماله على الجميع بل وغير ذلك مما لم يسبق .
فمنها : الروعة التي له في قلوب السامعين ، وأسماعهم ،، سواء المقرين والجاحدين ، ثم إن سامعه إن كان مؤمناً به يداخله روعة في أول سماعه وخشية ، ثم لا يزال يجد في قلبه هشاشة إليه ، ومحبة له . وإن كان جاحداً أوجد فيه مع تلك الروعة نفوراً وعياً ، لانقطاع مادته بحسن سمعه .
ومنها : أنه لم يزل غضاً طرياً في أسماع السامعين ، وعلي ألسنة القارئين.

(4/48)


ومنها: ما ينتشر فيه عند تلاوته من إنزال الله إياه في صورة كلام هو مخاطبة من الله لرسوله تارة ، ومخاطبة أخرى لخلقه ، لا في صورة كلام يستمليه من نفسه من قد قذف في قلبه ، وأوحي إليه ما شاء أن يلقيه إلى عباده على لسانه ، فهو يأتي بالمعاني التي ألهمها بألفاظه التي يكسوها إياه ، كما يشاهد من الكتب المتقدمة .
ومنها : جمعه بين صفتي الجزالة والعذوبة وهما كالمتضادين ، لا يجتمعان غالباً في كلام البشر ، لأن الجزالة من الألفاظ التي لا توجد إلا بما يشوبها من القوة وبعض الوعورة والعذوبة منها ما يضادها من السلاسة والسهولة ، فمن نحا نحو الصورة الأولى فإنما يقصد الفخامة والروعة في الإسماع ، مثل الفصحاء من الأعراب ، وفحول الشعراء منهم ، ومن نحا نحو الثانية قصد كون الكلام في السماع أعذب وأشهى وألذ ، مثل أشعار المخضرمين ومن داناهم من المولدين والمتأخرين .
وترى ألفاظ القرآن قد جمعت في نظمه كلتا الصفتين ، وذلك من أعظم وجوه البلاغة والإعجاز .
ومنها : جعله آخر الكتب غنياً عن غيره ، وجعل غيره من الكتب المتقدمة قد يحتاج إلى بيان يرجع فيه إليه ، كما قال تعالى (إن هذا القرآن يقص على بني إسرائيل أكثر الذي هم فيه مختلفون) (1) (النمل : 76) . أهـ .

شهادات حول القرآن
يجدر بنا أن ننقل جما من أقوال المشاهير بشأن القرآن بمن فيهم أولئك الذين اتهموا بمعارضة القرآن.
1 ـ أبو العلاء المعري (المتهم بمعارضة القرآن) يقول :
__________
(1) - البرهان في علوم القرآن جـ2 صـ109 : 115

(4/49)


«وأجمع ملحد ومهتد أن هذا الكتاب الذي جاء به محمّد ــ صلى الله عليه وسلم ــ كتاب بهر بالإعجاز، ولقى عدوه بالإرجاز، ما حذى على مثال ، ولا أشبه غريب الأمثال ، ... ما هو من القصيد الموزون ، ولا الرجز، ولا شاكل خطابة العرب ولا سجع الكهنة ،وجاء كالشمس ، لو فهمه الهضب لتصدع ، وأن الآية منه أو بعض الآية لتعرض في أفصح كلم يقدر عليه المخلوقون ، فتكون فيه كالشهاب المتلألىء في جنح غسق ، والظهرة البادية في جدوب ».
2 ـ الوليد بن المغيرة المخزومي ، وهو رجل عرف بين عرب الجاهلية بكياسته وحسن تدبيره ، ولذلك سمي «ريحانة قريش» ، سمع آيات من سورة «غافر» فرجع إلى قوم من بني مخزوم فقال لهم :
«والله لقد سمعت من محمّد آنفاً كلاماً ما هو من كلام الإنس ولا من كلام الجن ، وإن له لحلاوة ، وإن عليه لطلاوة ، وإن أعلاه لمثمر، وإن أسفله لمغدق، وإنه ليعلو وما يعلى عليه»
3 ـ العالم المؤرخ البريطاني «كارليل» يقول حول القرآن :
«لو ألقينا نظرة على هذا الكتاب المقدس لرأينا الحقائق الكبيرة ، وخصائص أسرار الوجود ، مطروحة بشكل ناضج في مضامينه ، ممّا يبين بوضوح عظمة القرآن. وهذه الميزة الكبرى خاصة بالقرآن ، ولا توجد في أي كتاب علميّ وسياسي واقتصادي آخر . نعم ، قراءة بعض الكتب تترك تأثيراً عميقاً في ذهن الإنسان ، ولكن هذا التأثير لا يمكن مقارنته بتأثير القرآن.
من هنا ينبغي أن نقول : المزايا الأساسية للقرآن ، ترتبط بما فيه من حقائق وعواطف طاهرة ، ومسائل كبيرة ، ومضامين هامة لا يعتريها شك وترديد. وينطوي هذا الكتاب على كل الفضائل اللازمة لتحقيق تكامل البشرية وسعادتها»
4 ـ جان ديفن بورت مؤلف كتاب : «الاعتذار إلى محمّد والقرآن». يقول :
«القرآن بعيد للغاية عن كل نقص ، بحيث لا يحتاج إلى أدنى إصلاح أو تصحيح ، وقد يقرؤه شخص من أوّله إلى آخره دون أن يحسّ بأي ملل»

(4/50)


ويقول: «لا خلاف في أن القرآن نزل بأبلغ لسان وأفصحه ، وبلهجة قريش أكثر العرب أصالة وأدباً ... ومليء بأبلغ التشبيهات وأروعها»
5 ـ غورة الشاعر الألماني يقول :
«قد يحسّ قرّاء القرآن للوهلة الاُولى بثقل في العبارات القرآنية ، لكنه ما أن يتدرج حتى يشعر بانجذاب نحو القرآن ، ثم إذا توغّل فيه ينجذب ـ دون اختيار ـ إلى جماله الساحر».
وفي موضع آخر يقول: «لسنين طويلة ، أبعدنا القساوسة عن فهم حقائق القرآن المقدس وعن عظمة النّبي محمّد ، ولكن كلما خطونا على طريق فهم العلم تنزاح من أمام أعيننا حُجُب الجهل والتعصب المقيت ، وقريباً سيلفت هذا الكتاب الفريد أنظار العالم ، ويصبح محور أفكار البشرية»!
ويقول كذلك : «كنا معرضين عن القرآن ، ولكن هذا الكتاب ألفت أنظارنا ، وحيّرنا ، حتى جعلنا نخضع لما قدمه من مبادىء وقوانين علمية كبرى»!
6 ـ «ويل ديورانت» المؤرخ المعروف يقول: «القرآن أوجد في المسلمين عزّة نفس وعدالة وتقوى لا نرى لها نظيراً في أية بقعة من بقاع العالم».
7 ـ المفكر الفرنسي «جول لابوم» في كتاب «تفصيل الآيات» يقول: «العلم انتشر في العالم على يد المسلمين ، والمسلمون أخذوا العلوم من (القرآن) وهو بحر العلم ، وفرّعوا منه أنهاراً جرت مياهها في العالم ...».
8 ـ المستشرق البريطاني دينورت يقول :
«يجب أن نعترف أنّ العلوم الطبيعية والفلكية والفلسفة والرياضيّات التي شاعت في أوربا ، هي بشكل عام من بركات التعاليم القرآنية ، ونحن فيها مدينون للمسلمين ، بل إن أوربا من هذه الناحية من بلاد الإِسلام».
9 ـ الدكتورة لورا واكسيا واغليري أستاذة جامعة نابولي في كتاب «تقدم الإِسلام السريع» تقول :

(4/51)


«كتاب الإسلام السماوي نموذج الإعجاز ...(القرآن) كتاب لا يمكن تقليده ، وأسلوبه لا نظير له في الآداب ، والتأثير الذي يتركه هذا الأسلوب في روح الإنسان ناشىء عن امتيازاته وسموّه ... كيف يمكن لهذا الكتاب الإِعجازي أن يكون من صنع محمّد ، وهو رجل أميّ؟! ... .
نحن نرى في هذا الكتاب كنوزاً من العلوم تفوق كفاءة أكثر النّاس ذكاء وأكبر الفلاسفة وأقوى رجال السياسة والقانون.
من هنا لا يمكن اعتبار القرآن عمل إنسان متعلّم عالم» . أهـ الأمثل فى تفسير الكتاب المنزل للشيرازى حـ1 صـ121 .
" فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا فاتقوا النار ... الآية "
قال القرطبي(1) : قوله تعالى " فإن لم تفعلوا " يعني فيما مضى : " ولن تفعلوا " أي تطيقوا ذلك فيما يأتي ، والوقف على هذا على : " صادقين " تام .. وقال جماعة من المفسرين معني الآية :
" وادعوا شهدائكم من دون الله إن كنتم صادقين ولن تفعلوا .. فإذا لم تفعلوا فاتقوا النار .. فعلى هذا التفسير لا يتم الوقف على " صادقين " .
ثم قال وفي قوله : " ولن تفعلوا " إثارة لهممهم ، وتحريك لنفوسهم ، ليكون عجزهم بعد ذلك أبدع وهذا من الغيوب التي أخبر بها القرآن قبل وقوعها .
{ فاتقوا النار }
قال ابن عطية(2) : وروي عن أبن مسعود في " الحجارة " أنها حجارة الكبريت وخصت بذلك لأنها تزيد على جميع الأحجار بخمسة أنواع من العذاب : سرعة الاتقاد ، ونتن الرائحة ، وكثرة الدخان ، وشدة الالتصاق بالأبدان ، وقوة حرها إذا حميت .
__________
(1) تفسير القرطبي جـ1 صـ168 . باختصار يسير .
(2) المحرر الوجيز جـ1 صـ107 : 108 بتصرف يسير .

(4/52)


وفي قوله تعالى " أعدت" رد على من قال : إن النار لم تخلق حتى الآن ، وذهب بعض المتأولين إلى أن هذه النار المخصصة بالحجارة هي نار الكافرين خاصة ، وأن غيرها هي للعصاة ، وقال الجمهور : بل الإشارة إلى جميع النار لا إلى نار مخصوصة ، وإنما ذكر الكافرين ليحصل المخاطبون في الوعيد .. إذ فعلهم كفر فكأنه قال : أعدت لمن فعل فعلكم ، وليس يقتضي ذلك أنه لا يدخلها غيرهم .
وقال القرطبي(1) : " والحجارة " هي حجارة الكبريت الأسود ، وقيل المراد بالحجارة الأصنام بقوله تعالى : " إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم " { الانبياء : 98 } .
أي حطب جهنم ، وعليه فتكون الحجارة والناس وقوداً للنار ، وذكر ذلك تعظيماً للنار أنها تحرق الحجارة مع إحراقها للناس وعلى التأويل الأول يكونون معذبين بالنار والحجارة .
أسئلة وأجوبة ذكرها الإمام الفخر جـ2 صـ 352 : صـ 353
أخترت منها ما يلي :-
{ سؤال } انتقاء إتيانهم بالسورة واجب فهلا جي بـ { إذا } الذي للوجوب دون [ إن ] الذي للشك؟
{ الجواب } من وجهين : أحدهما : أن يساق القول معهم على حسب حسبانهم فإنهم كانوا بعد غير جازمين بالعجز عن المعارضة لاتكالهم على فصاحتهم واقتدارهم على الكلام .
والثاني : أن يتهكم بهم كما يقول الموصوف بالقوة الواثق من نفسه بالغلبة على من يقاومة إن غلبتك وهو يعلم أنه غالبه تهكما به .
{ سؤال } لم قال : إن لم تفعلوا ، ولم يقل فإن لم تأتوا به ؟
{ الجواب } لأنه أخصر من أن يقال : فإن لم تأتوا بسورة من مثله ولن تأتوا بسورة مثله .
{ سؤال } ما حقيقة [ لن ] في باب النفي ؟
{ الجواب } [ لا ] و [ لن ] أختان في نفي المستقبل إلا أن في [ لن ] توكيداً وتشديداً تقول لصاحبك لا أقيم غداً عندك .. فإن أنكر عليك قلت : لن أقيم غداً .
{ سؤال } ما معني اشتراطه في اتقاد النار انتفاء إتيانهم بسورة من مثله ؟
__________
(1) تفسير القرطبي جـ1 صـ169 باختصار يسير .

(4/53)


{ الجواب } إذا ظهر عجزهم عن المعارضة صح عند ذلك صدق الرسول - صلي الله عليه وسلم - وإذا صح ذلك ثم لزموا العناد استوجوا العقاب بالنار .. فاتقاء النار يوجب ترك العناد فأقيم المؤثر مقام الأثر وجعل قوله [ فاتقوا النار ] قائماً مقام قوله فاتركوا العناد ، وهذا الإيجاز الذي هو أحد أبواب البلاغة ، وفيه تهويل لشأن العناد .. لإنابة إتقاء النار منابه متبعاً ذلك بتهويل صفة النار .
{ سؤال } صلة " الذي " يجب أن تكون قضية معلومة فكيف علم أولئك أن نار الآخرة توقد بالناس والحجارة ؟
{ الجواب } لا يمنع أن يتقدم لهم بذلك سماع من أهل الكتاب أو سمعوه من رسول الله - صلى الله وعليه وسلم - أو سمعوه من قبل هذه قوله في سورة التجريم " ناراً وقودها الناس والحجارة " [ التجريم : 6 ]
{ سؤال } فلم جاءت النار الموصوفة بهذة الصفة منكرة في سورة التحريم وها هنا معرفة ؟
{ الجواب } تلك الآية نزلت بمكة فعرفوا منها ناراً موصوفة بهذه الصفة ثم نزلت هذه بالمدينة مستندة إلى ما عرفوه أولاً .
{ سؤال } ما معنى قوله " وقودها الناس والحجارة " ؟
{ الجواب } أنها نار ممتازة من النيران بأنها لا تتقد إلا بالناس والحجارة وذلك يدل على قوتها من وجهين :
الأول : أن سائر النيران إذا أريد إحراق الناس بها أو إحماء الحجارة أوقدت أولاً بوقود ثم طرح فيها ما يراد إحراقه أو إحماؤه ، وتلك أعاذنا الله منها توقد بنفس ما تحرق .
الثاني : أنها لإفراط حرها تتقد في الحجر .
{ سؤال } لم قرن الناس بالحجارة ، وجعلت الحجارة معهم وقوداً ؟
{ الجواب } لأنهم قرنوا بها أنفسهم في الدنيا حيث نحتوها أصناماً وجعلوها لله أنداداً وعبدوها من دونه قال تعالى : " إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم " [ الأنبياء :98 ] .

(4/54)


وهذه الآية مفسرة لها فقوله : إنكم وما تعبدون من دون الله " في معنى الناس والحجارة وحصب جهنم في معني وقودها ولما اعتقد الكفار في حجارتهم المعبودة من دون الله أنها الشفعاء والشهداء الذين يستشفعون بهم ويستدفعون المضار عن أنفسهم تمسكاً بهم ، وجعلها الله عذابهم بها محماة في نار جهنم إبلاغاً وإغراباً في تحسرهم ، ونحوه ما يفعله بالكافرين الذين جعلوا ذهبهم وفضتهم عدة وذخيرة فشحوا بها ومنعوها من الحقوق حيث يحمى عليها في نار جهنم فتكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم ، وقيل هي حجارة الكبريت وهو تخصيص بغير دليل .. بل فيه ما يدل على فساده ، وذلك لأن الغرض ها هنا تعظيم صفة هذه النار ، والإيقاد بحجارة الكبريت أمر معتاد فلا يدل الإيقاد بها على قوة النار .. أما لو حملناه على سائر الأحجار دل ذلك على عظم أمر النار فإن سائر الأحجار تطفأ بها النيران فكأنه قال : تلك النيران بلغت لقوتها أن تتعلق في أول أمرها بالحجارة التي هي مطفئة لنيران الدنيا(1) .
قوله تعالى : " وبشر الذين آمنوا وعملوا الصالحات أن لهم جنات ... الآية "
" والبشارة : إيراد الخبر السار على سامع مع مستبشر به ، ويظهر السرور في بشرة وجهه .. لأن الإنسان إذا فرح وسر به ظهر ذلك على بشرة وجهه .. ثم كثر حتى وضع موضع الخير والشر ، ومنه قوله " فبشرهم بعذاب أليم " [ التوبة : 34 ] ، ولكن هو في الخير والسرور أغلب .
" وعملوا الصالحات " أي الفعلات الصالحات وهي الطاعات وقيل العمل الصالح ما كان فيه أربعة أشياء : العلم والنية والصبر والإخلاص .
وقال عثمان بن عفان : وعملوا الصالحات أي أخلصوا الأعمال يعني : عن الرياء .
" أن لهم جنات " جمع جنة وهي البستان الذي فيه أشجار مثمرة .. سميت جنة لاجتنانها وتسترها بالأشجار والأوراق ، وقيل الجنة ما فيه نخل والفردوس ما فيه كرم(2) .
__________
(1) التفسير الكبير جـ2 صـ 352 : 353 بتصرف يسير .
(2) تفسير الخازن جـ 1 صـ34 : 35 .

(4/55)


" تجري من تحتها الأنهار " أي من تحت أشجارها (1) ولم يجر لها ذكر لأن الجنات دالة عليه ، وروي أن أنهار الجنة ليست في أخاديد ، وإنما تجري على سطح الجنة منضبطة بالقدر حيث شاء أهلها .
" قالوا هذا الذي رزقنا من قبل " يعني في الدنيا ، وفيه وجهان : أحدهما : أنهم قالوا هذا الذي وعدنا في الدنيا والثاني هذا الذي رزقنا في الدنيا لأن لونها يشبه لون ثمار الدنيا فإذا أكلوا وجدوا طعمه غير ذلك(2) ، وقيل " من قبل " يعني في الجنة لأنهم يرزقون ثم يرزقون .. فإذا أتوا بطعام وثمار في أول النهار فأكلوا منها ثم أتوا منها في آخر النهار قالوا : هذا الذي رزقنا من قبل .. يعني طعمنا في أول النهار لأن لونه يشبه ذلك فإذا أكلوا منها وجدوا لها طعماً غير طعم الأول(3) .
وقال ابن عباس : ليس في الجنة شيء مما في الدنيا سوى الأسماء ، وأما الذوات فمتباينه(4) : " وأتوا به متشابهاً " .. قيل متشابهاً : معناه يشبه بعضه بعضاً في المنظر ويختلف في الطعم
وقيل : يشبه ثمر الدنيا في المنظر ويباينه في جل الصفات وقيل معناه : خيار لارذل فيه .
كقوله تعالى : " كتاباً متشابهاً " [ الزمر : 23 ] .
__________
(1) وما المانع من أن تجري أنهار الجنة من تحت مساكنها وغرفها وقد قال الله تعالى " لكن الذين اتقوا ربهم لهم غرف من فوقها غرف مبنية تجري من تحتها الأنهار " [ الزمر : 20 ] بل وتجرى من تحت أهل الجنة أنفسهم لقوله تعالى (تجرى من تحتهم الأنهار) [الأعراف :43]و[يونس[ 9]و[الكهف 31] والنعيم في الجنة – رزقنا الله وإياكم أجمعين – لا يخضع للمتعارف عليه من قوانين في الدنيا .
(2) هذا وجه في غاية البعد فأين نعيم الدنيا وثمارها من نعيم وثمار الجنة وقد ورد أن عنقود العنب لو أكل منه من بين السماء والأرض إلى يوم القيامة لا ينقصونه .
(3) تفسير الخازن جـ1 ص ـ34 : 35 .
(4) المحرر الوجيز جـ1 صـ109 .

(4/56)


وقال ابن عطية : كأنه يريد متناسباً في أن كل صنف هو أعلى جنسه فهذا تشابه ما .
وقيل " متشابهاً " أي مع ثمر الدنيا في الأسماء لا في غير ذلك من هيئة وطعم (1) " ولهم فيها أزواج مطهرة وهم فيها خالدون " .
وها هنا سؤلان :-
الأول : هلا جاءت الصفة مجموعة كالموصوف [ أي أزواج مطهرات ] ؟
{ الجواب } : هما لغتان فصيحتان يقال : النساء فعلن والنساء فعلت ومنه بيت الحماسة .
وإذا العذارى بالدخان تقنعت واستعملت نصب القدور فملت .
والمعنى : وجماعة أزواج مطهرة .
الثاني : هلا قيل طاهرة ؟
{ الجواب } في المطهرة : إشعار بأن مطهراً طهرهن ، وليس ذلك إلا الله تعالى وذلك يفيد فخامة أمر أهل الثواب .. كأنه قيل : إن الله تعالى هو الذي زينهن لأهل الثواب(2) .
__________
(1) المحرر الوجيز جـ1 صـ 109 بتصرف يسير .
(2) التفسير الكبير جـ2 صـ360 .

(4/57)


وقال السبكى فى فتاويه :
وَإِنَّمَا جَاءَ فِي الآيَةِ " مُطَهَّرَةٌ " وَإِنْ كَانَ الأَفْصَحُ مُطَهَّرَاتٌ إشَارَةً إلَى أَنَّ أَزْوَاجَ الآخِرَةِ لاتِّفَاقِهِنَّ كَالشَّيْءِ الْوَاحِدِ لا تَغَايُرَ بَيْنَهُنَّ وَذَلِكَ مِنْ كَمَالِ النَّعِيمِ لِرِجَالِهِنَّ فَلِذَلِكَ قِيلَ " مُطَهَّرَةٌ " وَلَمْ يَرِدْ فِي الْقُرْآنِ مُطَهَّرَاتٌ أَصْلا ، فَانْظُرْ مَا أَبْدَعَ هَذِهِ الْحِكْمَةَ ، وَقَالَ {وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ} لاجْتِمَاعِهِمْ فِي وَقْتِ الأَجَلِ ، وَقَالَ {وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ} ؛ لأَنَّ الانْكِدَارَ وَصْفٌ شَامِلٌ لِجَمَاعَةِ النُّجُومِ ، وَقَالَ {وَالصَّافَّاتِ} لأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مُسْتَقِلٌّ بِذَلِكَ. وَقَالَ تَعَالَى {فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا} لأَنَّ الإِبَاءَ مِنْ وَصْفِ الْعُقَلاءِ ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُنَّ أَبَى ، وَقَالَ {مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ} ؛ لأَنَّ التَّبْعِيضَ مِنْ الْجُمْلَةِ الَّتِي هِيَ اثْنَيْ عَشَرَ وَقَالَ {فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ} ؛ لأَنَّ النَّهْيَ عَنْ الظُّلْمِ فِي كُلِّ وَاحِدٍ ، وَهَذَا مَعْنًى زَائِدٌ عَلَى كَوْنِهِ جَمْعَ قِلَّةٍ لِغَيْرِ عَاقِلٍ ، وَقَالَ {فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ} لأَنَّهُ لا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يُفْرَضَ فِي الْمَجْمُوعِ أَوْ فِي كُلِّ وَاحِدٍ .أهـ [ فتاوى السبكى حـ1 صـ 19]

(4/58)


" وهم فيها خالدون " والخلود البقاء ، ومنه جنة الخلد وقد تستعمل مجازاً فيما يطول(1) ومنه قولهم في الدعاء خلد الله ملكه أي طوله .
قال زهير : ألا لا أرى على الحوادث باقيا ولا خالداً إلا الجبال الرواسيا …
وأما الذي في الآية فهو أبدي حقيقة (2) .

وقال حجة الإسلام الإمام الغزالي – رحمه الله – واصفاً نعيم أهل الجنة بعد أن ذكر شقاء أهل النار وعذابهم مانصه :
__________
(1) هذا المعنى مهم جدا خصوصاً في الرد على المعتزلة الذين يقولون بتخليد صاحب الكبيرة في النار مستدلين بقوله تعالى " ومن يقتل مؤمناً متعمداً فجزاؤه جهنم خالداً فيها " [ النساء : 93 ] فالخلود قديراد منه الأبد وقد يراد من المكث الطويل بخلاف الأبد لذا فإن القرآن يعبر عن خلود أهل الجنة بالخلود تارة وبالخلود مقرونا بالأبد تارة أخرى ليرفع هذا الإيهام ويثبت الخلود الأبدي لأهل الجنة .
(2) تفسير القرطبي جـ1 صـ173 .

(4/59)


اعلم أن تلك الدار التي عرفت همومها وغمومها تقابلها دار أخرى .. فتأمل نعيمها وسرورها فإن من بعد من أحدهما استقر لا محالة في الأخرى .. فاستشر الخوف من قلبك بطول الفكر وأهوال الجحيم واستشر الرجاء بطول الفكر في النعيم المقيم الموعود لأهل الجنان ، وسق نفسك بسوط الخوف وقدها بزمام الرجاء إلى الصراط المستقيم فبذلك تنال الملك العظيم وتسلم من العذاب الأليم .. فتفكر في أهل الجنة وفي وجوههم نضرة النعيم يسقون من رحيق مختوم .. جالسين على منابر الياقوت الأحمر في خيام من اللؤلؤ الرطب الأبيض فيها بسط من العبقري الأخضر .. متكئين على أرائك منصوبة على أطراف أنهار مطردة بالخمر والعسل محفوفة بالغلمان والولدان مزينة بالحور العين من الخيرات الحسان كأنهن الياقوت والمرجان لم يطمثهن إنس قبلهم ولا جان .. يمشين في درجات الجنان إذا اختالت إحداهن في مشيها حمل أعطافها سبعون ألفاً من الولدان ، عليها من طرائف الحرير الأبيض ما تتحير فيه الأبصار مكللات بالتيجان المرصعة باللؤلؤ والمرجان شكلات غنجان عطرات آمنات من الهرم والبؤس مقصورات في الخيام في قصور من الياقوت بنيت وسط روضات الجنان .. قاصرات الطرف عين .. ثم يطاف عليهم وعليهن بأكواب وأباريق وكأس من معين بيضاء لذة للشاربين ، ويطوف عليهم خدام وولدان كأمثال اللؤلؤ المكنون جزاء بما كانوا يعملون .. في مقام أمين في جنات وعيون في جنات ونهر في مقعد صدق عند مليك مقتدر ينظرون فيها إلى وجه الملك الكريم وقد أشرقت في وجوههم نضرة النعيم لا يرهقهم قتر ولا ذلة بل عباد مكرمون وبأنواع التحف من ربهم يتعاهدون فهم فيما اشتهت أنفسهم خالدون لا يخافون فيها ولا يحزنون وهم من ريب المنون آمنون فهم فيها يتنعمون ويأكلون من أطعمتها ويشربون من أنهارها لبناً وخمراً وعسلاً من أنهار أراضيها من فضة وحصباؤها مرجان وعلى أرض ترابها مسك أذفر ونباتها زعفران ويمطرون من سحاب فيها من ماء النسرين على

(4/60)


كثبان الكافور ويؤتون بأكواب وأي أكواب بأكواب من فضة مرصعة بالدر والياقوت والمرجان كوب فيه من الرحيق المختوم ممزوج به السلسبيل العذب كوب يشرق نوره من صفاء جوهره يبد والشراب من ورائه برقته وحمرته لم يصنعه آدمي فيقصر في تسوية صنعته وتحسين صناعته في كف خادم يحكي ضياء وجهة الشمس في إشراقها ولكن من أين للشمس حلاوة مثل حلاوة صورته وحسن أصداغه وملاحة أحداقة فيا عجباً لمن يؤمن بدار هذه صفتها ويوقن بأنه لا يموت أهلها ولا تحل الفجائع بمن نزل بفنائها ولا ننظر الأحداث بعين التغيير إلى أهلها كيف يأنس بدار قد أذن الله في خرابها ويتهنأ بعيش دونها ؟ .
والله لو لم يكن فيها إلا سلامة الأبدان من الأمن من الموت والجوع والعطش وسائر أصناف الحدثان لكان جديراً بأن يهجر الدنيا بسببها !
كيف وأهلها ملوك آمنون وفي أنواع السرير ممتعون لهم فيها ما يشتهون وهم في كل يوم بفناء العرش يحضرون وإلى وجه الله الكريم ينظرون وينالون بالنظر من الله مالا ينظرون معه إلى سائر نعيم الجنان ولا يلتفتون وهم على الدوام بين أصناف هذه النعم يترددون وهم من زوالها آمنون .. قال أبو هريرة قال رسول الله - صلي الله عليه وسلم - ينادي مناد يا أهل الجنة أن لكم أن تصحوا فلا تسقموا أبداً وإن تحيوا فلا تموتوا أبداً وإن لكم أن تشبوا فلا تهرموا أبداً وإن لكم أن تنعموا فلا تيأسوا أبداً فذلك قوله عز وجل .
" ونودوا أن تلكم الجنة أورثتموها بما كنتم تعملون (1) "
" زوج "
وقال الراغب { زوج } يقال لكل واحد من القرينين من الذكر والأنثى في الحيوانات المتزاوجة زوج ، ولكل قرينين فيها وفي غيرها { زوج } كالخف والنعل ولكل ما يقترن بآخر مماثلاً له ، أو مضاداً زوج قال تعالى " فجعل منه الزوجين الذكر والأنثى " [ القيامة : 39] .
__________
(1) إحياء علوم الدين جـ4 لحجة الإسلام أبي حامد الغزالي .

(4/61)


وقال " وزوجك الجنة " [ البقرة : 35 ] وزوجة لغة رديئة وجمعها زوجات .. قال الشاعر:
فبكى بناتي شجوهن وزوجتي .
وجمع الزوج أزواج وقوله " هم وأزواجهم " [ يس : 56 ] ، " احشروا الذين ظلموا وأزواجهم " [ الصافات : 22 ] أي : أقرانهم المقتدين بهم في أفعالهم
قال تعالى " لا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجاً منهم " [ الحجر : 88 ] أي : أشباهاً
واقرأ قوله " سبحان الذي خلق الأزواج كلها " [ يس : 36 ]
وقال " ومن كل شيء خلقنا زوجين " [ الذاريات : 49 ] فتنبيه على أن الأشياء كلها مركبة من جوهر وعرض وصورة ، وأن لا شيء يتعرى من تركيب يقتضي كونه مصنوعاً وأنه لابد له من صانع تنبيها أنه تعالى هو الفرد وقوله " خلقنا زوجين " فبين أن كل ما في العالم زوج من حيث إن له ضداً أو مثلاً ما .. أو تركيباً ما .
بل لا ينفك بوجه من تركيب وإنما ذكرها هنا زوجين ، وقوله " أزواجاً من نبات شتى "[ طه : 52].
أي أنواعاً متشابهة ، وكذلك قوله " من كل زوج كريم " [ لقمان : 10 ] .
" ثمانية أزواج " [ الزمر : 6 ] أي أصناف ، وقوله " وكنتم أزواجاً ثلاثة " [ الواقعة : 7 ]
قرناء ثلاثة وهم الذين فسرهم بما بعد ، وقوله " وإذا النفوس زوجت " [ التكوير : 7 ] فقد قيل معناه قرن كل شيعة بمن شايعهم في الجنة والنار نحو " احشروا الذين ظلموا وأزواجهم (1) )" أهـ .
لطيفة بل لطائف للإمام ابن القيم - رحمه الله - في كتابه جلاء الأفهام ما نصه :-
وأما الأزواج فجمع زوج - وقد يقال زوجة - والأول أفصح وبها جاء القرآن ..
قال تعالى لآدم " اسكن أنت وزوجك الجنة " ، وقال تعالى في حق زكريا وأصلحنا له زوجه "
ومن الثاني : قول ابن عباس في عائشة رضي الله عنها " إنها زوجة نبيكم في الدنيا والآخرة "
وقال الفرزدق :
وإن الذي يبغي ليفسد زوجتي ……كساع إلى أسد الشرى يستبينها
__________
(1) المفردات في غريب القرآن للراغب جـ1 صـ215 .

(4/62)


وقد جمع على زوجات ، وهذا إنما هو جمع زوجة وإلا فجمع زوج أزواج .. قال تعالى " وأزواجهم في ظلال على الأرائك متكئون " [ يس : 56 ] .
وقال تعالى " أنتم وأزواجكم تحبرون " [ الزغرف : 71 ] ، وقد وقع في القرآن الإخبار عن أهل الإيمان يلفظ الزوج مفرداً وجمعاً .
كما تقدم وقال تعالى [ الأحزاب : 6 ] .. النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم وأزواجهم أمهاتهم " ،
وقال تعالى" [ الأحزاب : 38 ] يا أيها النبي قل لأزواجك " والإخبار عن أهل الشرك بلفظ " المرأة " قال تعالى " تبت يدا أبي لهب وتب – إلى قوله – وامرأته حماله الحطب في جيدها حبل من مسد " وقال تعالى في فرعون " التحريم 10 .. ضرب الله مثلاً للذين آمنوا امرأة فرعون " فلما كان هو المشرك وهي مؤمنة لم يسمها زوجاً له ،
وقال تعالى " التحريم 11 .. ضرب الله مثلاً للذين كفروا امرأة نوح وامرأة لوط " فلما كانتا مشركتين أوقع عليها اسم " المرأة وقال في حق آدم " اسكن أنت وزوجك الجنة " وقال للنبي – صلى الله عليه وسلم – " الأحزاب 50 .. إنا أحللنا لك أزواجك " وقال في حق المؤمنين " البقرة .. ولهم فيها أزواج مطهرة " .
فقالت طائفة .. منهم السهيلي وغيره : إنما لم يقل في حق هؤلاء " الأزواج " لأنهن لسن بأزواج لرجالهن في الآخرة ، ولأن الترويج حلية شرعية ، وهي من أمر الدين فجرد الكافرة منه .. كما جرد منه امرأة نوح وامرأة لوط .
ثم أورد السهيلي على نفسه قول زكريا " مريم 5 .. وكانت امرأتي عاقراً " وقوله عن إبراهيم – عليه السلام – " الذاريات 29 .. فأقبلت امرأته في صرة " .
وأجاب : بأن ذكر المرأة أليق في هذه المواضع .. لأنه في سياق ذكر الحمل والولادة فذكر المرأة أولى به لأن الصفة – التي هي الأنثوية – هي المقتضية للحمل والوضع لا من حيث كانت زوجاً .

(4/63)


قلت : لو قيل : إن السر في ذكر المؤمنين ونسائهم بلفظ " الأزواج " أن هذا اللفظ مشعر بالمشاكلة والمجانسة والاقتران .. كما هو المفهوم من لفظه : لكان أولى فإن الزوجين هما الشيئان المتشابهان المتشاكلان والمتساويان .
ومنه قوله تعالى " الصافات 22 .. احشروا الذين ظلموا وأزواجهم " قال عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – " أزواجهم : أشباههم ونظراؤهم " .
وقال الإمام أحمد أيضاً ومنه قوله تعالى : التكوير 7 .. وإذا النفوس زوجت " أي قرن بين كل شكل وشكله في النعيم والعذاب .. قال عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – في هذه الآية " الصالح مع الصالح في الجنة والفاجر مع الفاجر في النار " وقاله الحسن وقتادة والأكثرون وقيل : زوجت أنفس المؤمنين بالحور العين ، وأنفس الكافرين بالشياطين .
وهو راجع إلى القول الأول .

(4/64)


وقال تعالى " الأنعام 142 .. ثمانية أزواج " ثم فسرها بقوله " ومن الضان اثنتين ومن المعز اثنتين ومن الإبل اثنتين " فجعل الزوجين هما الفردان من نوع واحد ومنه قولهم " زوجا خف وزوجا حمام " ولا ريب أن الله سبحانه تعالى قطع المشابهة والمشاكلة بين الكفار والمؤمنين قال تعالى " الحشر 20 .. لا يستوي أصحاب النار وأصحاب الجنة " وقال تعالى في حق مؤمن أهل الكتاب وكافرهم " آل عمران 113 .. ليسوا سواء من أهل الكتاب أمة قائمة " وقطع سبحانه المقارنة بينهما في أحكام الدنيا فلا يتوارثان ولا يتناكحان ولا يتولى أحدهما صاحبه .. فكما انقطعت الصلة بينهما في المعنى انقطعت في الاسم فأضاف فيهما " المرأة " بلفظ الأنوثة المجرد ، دون لفظ المشاكلة والمشابهة فتأمل هذا المعنى تجده أشد مطابقة لألفاظ القرآن ومعانيه ، ولهذا أوقع على المسلمة امرأة الكافر وعلى الكافرة امرأة المؤمن : لفظ المرأة دون لفظ الزوجة تحقيقاً لهذا المعنى والله أعلم وهذا أولى من قول من قال : انما سمي صاحبة أبي لهب امرأته ولم يقل لها زوجته " لأن أنكحه الكفار لايثبت لها حكم الصحة بخلاف أنكحة أهل الإسلام .
فإن هذا باطل بإطلاق اسم المرأة على امرأة نوح وامرأة لوط مع صحته ذلك النكاح .
وتأمل هذا المعنى في آية المواريث ، وتعليقه سبحانه التوارث فيها بلفظ أزواجكم " إيذاناً بأن هناك التوارث إنما وقع بالزوجية المقتضية للتشاكل والتناسب والمؤمن والكافر لا تشاكل بينهما ولا تناسب فلا يقع بينهما التوارث وأسرار مفردات القرآن ومركباته فوق عقول العالمين(1) .
__________
(1) جلاء الأفهام للإمام ابن القيم صـ229 : 233 .

(4/65)


رؤية الله تعالى أعلى من الجنة ومن نعيمها
قال حجة الإسلام فى [ الإحياء حـ4 صـ214 ] ما نصه : وكما أنك ترى في الدنيا من يؤثر لذة الرياسة على المطعوم والمنكوح وترى من يؤثر لذة العلم وانكشاف مشكلات ملكوت السموات والأرض وسائر الأمور الإلهية على الرياسة وعلى المنكوح والمطعوم والمشروب جميعا فكذلك يكون في الآخرة قوم يؤثرون لذة النظر إلى وجه الله تعالى على نعيم الجنة إذ يرجع نعيمها إلى المطعوم والمنكوح وهؤلاء بعينهم هم الذين حالهم في الدنيا ما وصفنا من إيثار لذة العلم والمعرفة والاطلاع على أسرار الربوبية على لذة المنكوح والمطعوم والمشروب وسائر الخلق مشغولون به ،
ولذلك لما قيل لرابعة ما تقولين في الجنة فقال الجار ثم الدار ،
فبينت أنه ليس في قلبها التفات إلى الجنة بل إلى رب الجنة
وكل من لم يعرف الله في الدنيا فلا يراه في الآخرة وكل من لم يجد لذة المعرفة في الدنيا فلا يجد لذة النظر في الآخرة إذ ليس يستأنف لأحد في الآخرة ما لم يصحبه من الدنيا ولا يحصد أحد إلا ما زرع ولا يحشر المرء إلا على ما مات عليه ولا يموت إلا على ما عاش عليه فما صحبه من المعرفة هو الذى يتنعم به بعينه فقط إلا أنه ينقلب مشاهدة بكشف الغطاء فتتضاعف اللذة به كما تتضاعف لذة العاشق إذا استبدل بخيال صورة المعشوق رؤية صورته فإن ذلك منتهى لذته ، وإنما طيبة الجنة أن لكل أحد فيها ما يشتهى فمن لا يشتهي إلا لقاء الله تعالى فلا لذة له في غيره بل ربما يتأذى به
فإذن نعيم الجنة بقدر حب الله تعالى وحب الله تعالى بقدر معرفته فأصل السعادات هى المعرفة التى عبر الشرع عنها بالإيمان . أهـ .
قوله جل ذكره " إن الله لا يستحي أن يضرب مثلاً ما بعوضة فما فوقها "
قال الفخر رحمه الله :

(4/66)


اعلم أن الحياء تغير وانكسار يعتري الإنسان من خوف ما يعاب به ويذم واشتقاقه من الحياة يقال حيي الرجل كما يقول نسي وخشي وشظي الفرس إذا اعتلت هذه الأعضاء جعل الحيي لما يعتريه الانكسار والتغير منكسر القوة منغص الحياة .
كما قالوا فلان هلك حياء من كذا .. ومات حياء ورأيت الهلاك في وجهه من شدة الحياء وذاب حياء وإذا ثبت هذا استحال الحياء على الله تعالى لأنه تغير يلحق البدن وذلك لا يعقل إلا في حق الجسد ولكنه وارد في الأحاديث روى سليمان عن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – أنه قال " إن الله تعالى حيي كريم يستحي إذا رفع العبد إليه يديه أن يردهما صفراً حتى يضع فيهما خيراً " وإذا كان كذلك وجب تأويله وفيه وجهان :-
الأول : وهو القانون في أمثال هذه الأشياء أن كل صفة للعبد مما يختص بالأجسام فإذا وصف الله تعالى بذلك فذلك محمول على نهايات الأعراض لا على بدايات الأعراض مثاله أن الحياء حالة تحصل للإنسان لكن لها مبدأ أو منتهى .. أما المبدأ فهو التغير الجسماني الذي يلحق الإنسان من خوف أن ينسب إلى القبيح وأما النهاية فهو أن يترك الإنسان ذلك الفعل فإذا ورد الحياء في حق الله تعالى فليس المراد من ذلك الخوف الذي هو مبدأ الحياء ومقدمته بل ترك الفعل الذي هو منتهاه وغايته ، وكذلك الغضب له .. علامة ومقدمة وهي غليان دم القلب ، وشهوة الانتقام وله غايه وهو إنزال العقاب بالمغضوب عليه .. فإذا وصفنا الله تعالى بالغضب فليس المراد ذلك المبدأ أعني شهوة الانتقام وغليان دم القلب .. بل المراد تلك النهاية وهو إنزال العقاب فهذا هو القانون الكلي في هذا الباب .
الثاني : يجوز أن تقع هذه العبارة في كلام الكثير فقالوا أما يستحي رب محمد أن يضرب مثلاً بالذباب والعنكبوت .. فجاء هذا الكلام على سبيل إطباق الجواب على السؤال وهذا فن بديع من الكلام(1) .
__________
(1) تفسير الرازي جـ2 صـ 361 : 362 .

(4/67)


الاستحياء من الله تعالى بمعنى الترك .. فإذا وصف نفسه بأنه يستحى من شيء فمعناه أنه لا يفعل ذلك وإذا قيل لا يستحي فمعناه لا يبالي بفعل ذلك .
والخلق في التحقيق - وبالإضافة إلى وجود الحق - أقل من ذرة من الهواء في الهواء لأن هذا استهلاك محدود في محدود فسيان - في قدرته - العرش والبعوضة .. فلا خلق العرش أشق وأعسر ولا خلق البعوضة أخف عليه وأيسر فإنه سبحانه متقدس عن لحوق العسر واليسر .
فإذا كان الأمر بذلك الوصف فلا يستحي أن يضرب بالبعوضة مثلاً كما لا يستحي أن يضرب بالعرش - فما دونه - مثلاً .
وقيل إن جهة ضرب المثل بالبعوضة أنها إذا جاعت فرت وطارت إذا شبعت تشققت فتلفت كذلك
" إن الإنسان ليطغى أن رآه استغنى " .
وقيل ما فوقها يعني الذباب ، وجهة الإشارة فيه إلى وقاحته .. حتى إنه ليعود عند البلاغ في الذب ولو كان ذلك في الأسد لم ينج منه أحد من الخلق ، ولكنه لما خلق القوة في الأسد خلق فيه تنافراً من الناس ، ولما خلق الوقاحة في الذباب خلق فيه الضعف تنبيهاً منه سبحانه على كمال حكمته ونفاذ قدرته(1) .
لماذا التمثيل بالبعوضة ؟
المعاندون اتخذوا من صِغَر البعوضة والذبابة ذريعة للاستهزاء بالأمثلة القرآنية ، لكنّهم لو أنصفوا وأمعنوا النظر في هذا الجسم الصغير ، لرأوا فيه من عجائب الخلقة وعظيم الصنع والدّقة ما يحيّر العقول والألباب.
يقول الإِمام جعفر بن محمّد الصادق(عليه السلام) بشأن خلقة هذا الحيوان الصغير : «إنّما ضَرَبَ اللهُ الْمَثَلَ بِالْبِعُوضَةِ ؛ لاَِنَّ الْبَعُوضَةَ عَلى صِغَر حَجْمِهَا خَلَقَ اللهُ فِيهَا جَمِيعَ مَا خَلَقَ فِي الْفَيلِ مَعَ كِبَرِهِ وَزِيَادَةَ عُضْوَيْنِ آخَرَيْنِ فَأَرَادَ اللهُ سُبْحَانَهُ أَنْ يُنَبِّهَ بِذَلِكَ الْمُؤْمِنينَ عَلى لُطْفِ (لَطِيفِ) خَلْقِهِ وَعَجيبِ صَنْعَتِهِ».
__________
(1) لطائف الإشارات للإمام القشيري صـ70 : 71 .

(4/68)


يريد الله سبحانه بهذا المثال أن يبين للمؤمنين دقّة الصنع في الخلق ، التفكير في هذا الموجود الضعيف على الظاهر ، والشبيه بالفيل في الواقع ، يبيّن للإِنسان عظمة الخالق.
خرطوم هذا الحيوان الصغير يشبه خرطوم الفيل ، أجوف ، ذو فتحة دقيقة جدا ً، وله قوّة ماصة تسحب الدم.
منح الله هذا الحيوان قوة هضم وتمثيل ودفع ، كما منحه أطرافاً وأُذناً وأجنحة تتناسب تماماً مع وضع معيشته. هذه الحشرة تتمتع بحساسية تشعر فيها بالخطر بسرعة فائقة وتفرّ عندما يداهمها عدوّ بمهارة عجيبة ، وهي مع صغرها وضعفها ، يعجز عن دفعها كبار الحيوانات. أهـ
[ الأمثل حـ1 صـ94 ]
قوله تعالى " يضل به كثيراً ويهدي به كثيراً "
{ سؤال } لقائل أن يقول : لم وصف المهديون بالكثرة والقلة صفتهم لقوله " وقليل من عبادي الشكور " [ سبأ : 13 ] ، " وقليل ما هم " [ ص : 24 ] ؟
{ الجواب } (1)أهل الهدى كثير في أنفسهم ، وحيث يوصفون بالقلة إنما يوصفون بها بالقياس إلى أهل الضلال ، وأيضاً فإن القليل من المهديين كثير في الحقيقة وإن قلوا في الصورة (2).. فسموا بالكثير ذهاباً إلى الحقيقة .
قوله تعالى " وما يضل به إلا الفاسقين "
لطيفة
قال صاحب [ الأمثل ]
كلمة «فاسق» من مادة «فسق» وتعني خروج النّواة من الرطب ، فقد تسقط الرطبة من النخلة ، وتنفصل عنها النّواة. ويقال عن هذا الانفصال في العربية «فسقت النواة» ، ثم أُطلقت الكلمة على كل انفصال عن خط طاعة الله ، وعن طريق العبودية ، فكما أن النّواة تفسق إذا نزعت لباسها الحلو المفيد المغذي ، كذلك الفاسق ينزع عنه بفسقه كل قيمه وشخصيّته الإنسانية.
__________
(1) التفسير الكبيرة جـ2 صـ373 .
(2) يؤيد هذا القول قوله تعالى في حق إبراهيم الخليل - عليه السلام - إن إبراهيم كان أمة [ النحل : 120 ] وقوله " أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله " [ النساء : 54 ] والمراد بالناس في الآية الكريمة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .

(4/69)


قوله تعالى " الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه .... الآية "
قال الإمام الفخر (1)– رحمه الله – ما نصه ..
عهد الله إلى خلقه : ثلاثة عهود :-
العهد الأول : الذي أخذه على جميع ذرية آدم وهو الإقرار بربوبيته وهو قوله " وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنا " [ الأعراف 172]
العهد الثاني : عهد خص به النبيين أن يبلغوا الرسالة ، ويقيموا الدين ولا يتفرقوا فيه وهو قوله " وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم ومنك ومن نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ابن مريم وأخذنا منهم ميثاقاً غليظاً "[ الأحزاب:7 ]
العهد الثالث : عهد خص به العلماء وهو قوله " وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس ولا تكتمونه " [ آل عمران : 187 ]
قوله تعالى " كيف تكفرون بالله وكنت أمواتاً فأحياكم ..... الآية "
قال الحسن(2) – رحمه الله – قوله " كيف تكفرون بالله " يعني العامة ،وأما بعض الناس فقد أماتهم الله ثلاث مرات نحو ما حكي
في قوله " أو كالذي مر على قرية وهي خاوية على عروشها " [ البقرة : 259 ] إلى قوله " فأماته الله مائه عام ثم بعثة "
وكقوله " ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت فقال لهم الله موتوا ثم أحياهم " [ البقرة : 243 ] .
وكقوله " فأخذتكم الصاعقة وأنتم تنظرون ثم بعثناكم من بعد موتكم لعلكم تشكرون " [ البقرة 55 : 56 ] .
وكقوله " فقلنا اضربوه ببعضها كذلك يحي الله الموتى " [ البقرة : 73 ] .
__________
(1) التفسير الكبير جـ2 صـ 374 .
(2) التفسير الكبير جـ2 صـ377 .

(4/70)


وكقوله " وكذلك أعثرنا عليهم ليعلموا أن وعد الله حق وأن الساعة لا ريب فيها " [ الكهف : 21 ] وكقوله في قصة أيوب - عليه السلام - " وآتيناه أهله ومثلهم معهم(1) " [ الأنبياء : 84 ] .

تضرع وابتهال
قال يحي بن معاذ(2) : إلهي كأني بنفسي وقد أضجعوها في حفرتها ، وانصرف المشيعون عن تشييعها ، وبكى الغريب عليها لغربتها ، وناداها من شفير القبر ذو مودتها ، ورحمها الأعادي عند جزعتها ولم يخف على الناظرين عجز حيلتها ، فما رجائي إلا أن نقول ما تقول ملائكتي : انظروا إلى فريد قد نأى عنه الأقربون ووحيد قد جفاه المحبون أصبح مني قريباً وفي اللحد غريباً وكان لي في الدنيا داعياً ومجيباً ولإحساني إليه عند وصوله إلى هذا البيت راجياً فأحسن إلى هناك يا قديم الإحسان وحقق رجائي فيك يا واسع الغفران .

قوله تعالى : " هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعاً .. الآية " .
قال السعدي (3) : أي خلق لكم - براً بكم ورحمة - جميع ما على الأرض للانتفاع والاستمتاع والاعتبار .
وفي هذه الآية الكريمة دليل على أن الأصل في الأشياء الإباحة والطهارة ، لأنها سيقت في معرض الامتنان ، ويخرج بذلك ، الخبائث فإن تحريمها أيضاً ، يؤخذ من فحوى الآية . أ هـ .
وقال الإمام القشيري (4) : سخر لهم جميع المخلوقات على معنى حصول انتفاعهم بكل شيء منها ، فعلى الأرض يستقرون وتحت السماء يسكنون ، وبالنجم يهتدون ، وبكل مخلوق بوجه آخر ينتفعون ، لا بل ما من عين وأثر فكروا فيه إلا وكمال قدرته وظهور ربوبيته جاء يعرفون .
__________
(1) هذا القول يفتقر إلى نقل صحيح وقد ذكره كثير من المفسرين ومثل هذا لا يقال من جهة الرأي لأنه من الغيب الذي يحتاج إلى وحي من كتاب أو سنة والله أعلم .
(2) التفسير الكبير جـ2 صـ 378 .
(3) - تفسير السعدي صـ41
(4) - لطائف الإشارات حـ1 صـ74

(4/71)


ويقال : مهد لهم سبيل العرفان ، ونبههم على ما خصهم به من الإحسان ، ثم علمهم علو الهمة حيث استخلص لنفسه أعمالهم وأحوالهم فقال : " لا تسجدوا للشمس ولا للقمر " [ فصلت : 37 ] .
وذكر أبو حيان فى البحر المحيط حـ1ص193 ما نصه : وقال بعض المنسوبين للحقائق: [خلق لكم] لبعد نعمه عليكم، فتقتضي الشكر من نفسك لتطلب المزيد منه. وقال أبو عثمان وهب لك الكل وسخره لك لتستدل به على سعة جوده وتسكن إلى ما ضمنه لك من جزيل العطاء في المعاد، ولا تستكثر كثير بره على قليل عملك، فإنه قد ابتدأك بعظيم النعم قبل العمل وقبل التوحيد. وقال ابن عطاء: خلق لكم ليكون الكون كله لك وتكون لله فلا تشتغل بما لك عما أنت له. وقال بعض البغداديين: أنعم عليك بها، فإن الخلق عبدة النعم لاستيلاء النعم عليهم، فمن ظهر للحضرة أسقط عنه المنعم رؤية النعم. وقال الثوري: أعلىمقامات أهل الحقائق الانقطاع عن العلائق .أهـ .

لطيفة

قال الإمام ابن القيم(1) : في هذا المعنى ما نصه :
" يا من هو من أرباب الخبرة هل عرفت قيمة نفسك ، إنما خلقت الأكوان كلها لك يا من غذى بلبان البر ، وقلب بأيدي الألطاف ، كل الأشياء شجرة وأنت الثمرة ، صورة وأنت المعنى ، وصدف وأنت الدر ، ومخيض وأنت الزبد .
منشور اختيارنا لك واضح الخط ، ولكن استخراجك ضعيف ، متى رمت طلبي فاطلبني عندك .
ويحك لو عرفت قدر نفسك ما أهنتها بالمعاصي ، وإنما أبعدنا إبليس ، لأنه لم يسجد لك وأنت في صلب أبيك ، فوا عجبا كيف صالحته وتركتنا .
" وإذا قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس كان من الجن ففسق عن أمر ربه أفتتخذونه وذريته أولياء من دوني وهم لكم عدو بئس للظالمين بدلاً " [ الكهف : 50 ] .
لو كان في قلبك محبة لبان أثرها على جسدك . أ هـ .

وقيل: خلق لكم ما فى الأرض ليَعُدَّ نعمه عليكم فيقتضى الشكر من نفسك لطلب المزيد منه.
قال أبو عثمان :
__________
(1) - بدائع الفوائد حـ3 صـ707

(4/72)


وهب لك الكل وسخره لك ؛ لتستدل به على سعة جوده ، وتسكن إلى ما ضمنه لك من جزيل العطاء فى المعاد ولا تستقل كثير بره على قليل عملك , فقد ابتدأك بعظيم النعم قبل العمل وهو التوحيد.
وقال ابن عطاء: {خلق لكم ما فى الأرض جميعًا} ليكون الكون كله لك وتكون لله كلاً فلا تشتغل عمن أنت له. أهـ { حقائق التفسير للسلمى حـ1صـ14}

فرية والرد عليها
وقال فى التيسير : أهل الإباحة من المتصوفة الجهلة [ المراد طائفة شاذة ] حملوا اللام فى لكم فى قوله تعالى : {هو الذي خلق لكم} على الإطلاق والإباحة وقالوا لا حظر ولا نهى ولا أمر ، فإذا تحققت المعرفة وتأكدت المحبة ، سقطت الخدمة وزالت الحرمة ، فالحبيب لا يكلف حبيبه ما يتعبه ولا يمنعه ما يريده ويطلبه ، وهذا منهم كفر صريح ، وقد نهى الله تعالى وأمر وأباح وحظر ووعد وأوعد وبشر وهدد ، والنصوص ظاهرة والدلائل متظاهرة ، فمن حمل هذه الآية على الاباحة المطلقة ، فقد انسلخ من الدين بالكلية. انتهى كلام التيسير. أهـ { تنوير الأذهان حـ1 صـ 41}

[سؤال ] : فإن قلت : كيف الجمع بين هذا " خلق لكم ما في الأرض جميعاً ثم استوى إلى السماء " وبين قوله : " والأرض بعد ذلك دحاها " ؟ .
[ الجواب ] الدحو : البسط ، فيحتمل أن الله تعالى خلق الأرض ، ولم يبسطها ثم خلق السماء وبسط جرم الأرض بعد ذلك .
فإن قلت : هذا مشكل أيضاً : لأن قوله تعالى : " خلق لكم ما في الأرض جميعاً " يقتضي أن ذلك لا يكون إلا بعد الدحو .
[ والجواب ] يحتمل أنه ليس هنا ترتيب ، وإنما هو على سبيل تعداد النعم كقول الرجل لمن يذكره ما أنعم به عليه : ألم أعطك ؟ ألم ارفع قدرك ؟ ألم أدفع عنك ، ولعل بعض هذه النعم متقدمة على بعض والله أعلم (1) . أ هـ
وقال الثعالبي(2):[ ثم ]هنا لترتيب الأخبار لا لترتيب الأمر في نفسه . أهـ .
__________
(1) - تفسير الخازن حـ1 صـ38
(2) - تفسير الثعالبي حـ1 صـ42

(4/73)


وقال البيضاوي (1) : [ ثم ] لعله لتفاوت ما بين الخلقين ، وفصل خلق السماء على خلق الأرض ، كقوله تعالى : ثم كان من الذين آمنوا " (2) [ البلد : 17] لا للتراخي في الوقت فإنه يخالف ظاهر قوله تعالى : " والأرض بعد ذلك دحاها " فإنه يدل على تأخر دحو الأرض المتقدم على خلق ما فيها عن خلق السماء وتسويتها إلا أن تستأنف بدحاها مقدراً لنصب فعلا آخر دل عليه " أأنتم اشد خلقاً " مثل تعرف الأرض وتدبر أمرها بعد ذلك لكنه خلاف الظاهر. أهـ .
وقال ابن كثير : بعد أن ذكر هذه الآية وآية فصلت " خلق الأرض في يومين - إلى قوله ثم استوى إلى السماء " [ فصلت : 9 : 12 ] قال : " فهذه وهذه دالتان على أن الأرض خلقت قبل السماء ، وهذا ما لا أعلم فيه نزاعا بين العلماء إلا ما نقله ابن جرير عن قتادة : أنه زعم أن السماء خلقت قبل الأرض - وفي صحيح البخاري أن ابن عباس سئل عن هذا بعينه فأجاب بأن الأرض خلقت قبل السماء ، وأن الأرض إنما دحيت بعد خلق السماء ، وكذلك أجاب غير واحد من علماء التفسير قديماً وحديثاً (3) : أهـ .
وذكر القاسمي حـ2 صـ311 أن قوله [ بعد ] بمعنى [ مع ] كما في قوله تعالى : " عتل بعد ذلك زنيم " [ القلم : 13 ] أي مع ذلك - وعليه فلا إشكال. أهـ بتصرف يسير
لطيفة في " ثم "
للترتيب مع التراخي .
وأما قوله " لمن تاب وآمن وعمل صالحاً ثم اهتدى " [ طه : 82 ] والهداية سابقة على ذلك فالمراد " ثم دام على الهداية " بدليل قوله " وآمنوا وعملوا الصالحات ثم اتقوا وآمنوا ثم اتقوا وأحسنوا " [ المائدة : 93 ] .
وقد تأتي لترتيب الأخبار لا لترتيب المخبر عنه كقوله تعالى " فإلينا مرجعهم ثم الله شهيد " [ يونس : 46 ]
__________
(1) - تفسير البيضاوي حـ1 صـ274
(2) - ومعلوم أن الإيمان متقدم على متطلباته المذكورة قبل هذه الآية من قوله تعالى " فك رقبة أو إطعام في يوم ذي مسغبة " .
(3) تفسير ابن كثير حـ1 صـ89 بتصرف يسير .

(4/74)


وقوله تعالى " واستغفروا ربكم ثم توبوا إليه " [ هود : 90 ] وتقول زيد عالم كريم ثم هو شجاع .
قال ابن بري : قد تجيء ثم كثيراً لتفاوت ما بين رتبتين في قصد المتكلم فيه تفاوت ما بين مرتبتي الفعل مع السكوت عن تفاوت رتبتي الفاعل كقوله تعالى " الحمد لله الذي خلق السموات والأرض وجعل الظلمات والنور ثم الذين كفروا بربهم يعدلون " [ الأنعام : 1 ] فـ " ثم " هنا لتفاوت رتبة الخلق والجعل من العدل ، مع السكوت عن وصف العادلين ،
ومثله قوله تعالى " فلا اقتحم العقبة " إلى قوله " ثم كان من الذين آمنوا " [ البلد : 11 : 17 ] .
دخلت لبيان تفاوت رتبة الفك والإطعام من رتبة الإيمان إلا أن فيها زيادة تعرض لوصف المؤمنين بقوله " وتواصوا بالصبر وتواصوا بالمرحمة " [ البلد:17 ] .
وذكر غيره في قوله تعالى " ثم الذين كفروا بربهم يعدلون " [ الأنعام : 1 ] أن " ثم " دخلت لبعد ما بين الكفر وبين خلق السموات والأرض .
وعلى ذلك جرى الزمخشري في مواضع كثيرة من الكشاف .. كقوله تعالى " لغفار لمن تاب وآمن وعمل صالحاً ثم اهتدى " [ طه : 82 ] .
وقوله " إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا " [ الأحقاف : 13]
قال : كلمة التراخي دلت على تباين المنزلتين ، دلالتها على تباين الوقتين في جاءني زيد ثم عمرو – أعني أن منزلة الاستقامة على الخير مباينة لمنزلة الخير نفسه .. لأنها أعلى منها وأفضل ،
ومنه قوله تعالى " إنه فكر وقدر * فقتل كيف قدر * ثم قتل كيف قدر " [ المدثر 18 : 20 ] .
إن قلت : ما معنى " ثم " الداخلة في تكرير الدعاء ؟ قلت : الدلالة على أن الكرة الثانية من الدعاء أبلغ من الأولى .
وقوله " ثم كان من الذين آمنوا " [ البلد : 17 ] ، قال : جاء بـ " ثم " لتراخي الإيمان وتباعده في الرتبة والفصيلة على العتق والصدقة لا في الوقت لأن الإيمان هو السابق المقدم على غيره .

(4/75)


وقال الزمخشري في قوله تعالى " ثم أوحينا إليك أن اتبع ملة إبراهيم حنيفاً " [ النحل : 123 ] إن " ثم " هذه : فيها من تعظيم منزلة النبي – صلى الله عليه وسلم – وإجلالً محله والإيذان بأنه أولى وأشرف ما أوتي خليل الله إبراهيم من الكرامة ، وأجل ما أوتي من النعمة أتباع رسول الله – صلى الله عليه وسلم – في ملته .
واعلم أنه بهذا التقدير يندفع الاعتراض بأن " ثم " قد تخرج عن الترتيب والمهلة وتصير كالواو لأنه إنما يتم على أنها تقتضي الترتيب الزماني لزوماً .. أما إذا قلنا : إنها ترد لقصد التفاوت والتراخي عن الزمان لم يحتج إلى الانفصال عن شيء مما ذكر من هذه الآيات الشريفة لا أن تقول : إن " ثم " قد تكون بمعنى الواو ، والحاصل أنها للتراخي في الزمان وهو المعبر عنه بالمهلة وتكون للتباين في الصفات وغيرها من غير قصد مهلة زمانية ..بل ليعلم موقع ما يعطف بها وحاله وأنه لو انفرد لكان كافياً فيما قصد فيه .. ولم يقصد في هذا ترتيب زماني بل تعظيم الحال فيما عطف عليه وتوقعه وتحريك النفوس لاعتباره .
وقيل تأتي للتعجب نحو " ثم الذين كفروا بربهم يعدلون " [ الأنعام : 1 ] .
وقوله " ثم يطمع أن أزيد كلا " [ المدثر : 15: 16 ] .
وقيل بمعنى واو العطف كقوله " فإلينا مرجعهم ثم الله شهيد " [ يونس : 46 ] أي وهو شهيد .
وقوله " ثم إن علينا بيانه " [ القيامة : 19 ] .
والصواب أنها على بابها لما سبق قبله .
وقوله " ولقد خلقناكم ثم صورناكم ثم قلنا للملائكة اسجدوا " [ الأعراف : 11] وقد أمر الله الملائكة بالسجود قبل خلقنا .. فالمعنى وصورناكم .
وقيل على بابها والمعنى : ابتدأنا خلقكم لأن الله تعالى خلق آدم من تراب ثم صوره وابتدع خلق الإنسان من نطفة ثم صوره .

(4/76)


وأما قوله " خلقكم من طين ثم قضى أجلاً " [ الأنعام : 2 ] وقد كان قضى الأجل فمعناه أخبركم أني خلقته من طين ثم أخبركم أني قضيت الأجل كما تقول : كلمتك اليوم ثم كلمتك أمس .. أي أني أخبرك بذاك ثم أخبرك بهذا وهذا يكون في الجمل فأما عطف المفردات فلا تكون إلا للترتيب قاله ابن فارس .. قيل وتأتي زائدة كقوله تعالى " وعلى الثلاثة الذين خلفوا " إلى قوله " ثم تاب عليهم [ التوبة : 118 ] لأن تاب جواب " إذا " من قوله " حتى إذا ضاقت " [ التوبة :18 ] وتأتي للإستئناف كقوله تعالى " وإن يقاتلوكم يولوكم الأدبار ثم لا ينصرون " [ آل عمران : 111 ] (1).

قوله تعالى " وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة "
قال الإمام الزمخشري :
الخليفة : من يخلف غيره والمعنى خليفة منكم لأنهم كانوا سكان الأرض فخلفهم فيها آدم وذريته .
{ سؤال } فإن قيل : فهلا قيل خلائف أو خلفاء ؟
{ الجواب } أريد بالخليفة آدم واستغنى بذكره عن ذكر بنيه .. كما يستغني بذكر أبي القبيلة في قولك : مضر وهاشم ، أو أريد من يخلفكم ، أو خلف يخلفكم فوحد لذلك
ويجوز أن يريد خليفة مني لأن آدم كان خليفة الله في أرضه وكذلك كل نبي(2) .
{ سؤال } فلئن قلت لأي غرض أخبرهم بذلك ؟
{ الجواب } قلت ليسألوا ذلك السؤال ويجابوا بما أجيبوا به فيعرفوا حكمته في استخلافهم قبل كونهم صيانة لهم عن اعتراض الشبهة في وقت استخلافهم وقيل : ليعلم عباده المشاورة في أمورهم قبل أن يقدموا عليها وعرضها على ثقاتهم ونصحائهم ، وإن كان هو بعلمه وحكمته البالغة غنياً عن المشاورة(3) .
وقيل : تعظيماً لشأن المجعول وإظهاراً لفضله بأن بشر بوجود سكان ملكوته ونوه بذكره في الملأ الأعلى قبل إيجاده ولقبة بالخليفة(4) .

__________
(1) البرهان في علوم القرآن جـ4 صـ292 : 296 .
(2) الكشاف جـ1 صـ128 .
(3) الكشاف جـ1 صـ128 .
(4) تفسير القاسمي جـ2 صـ314 بتصرف يسير .

(4/77)


قال الإمام القشيري :
هذا ابتدأ إظهار سره في آدم وذريته أمر حتى سل من كل بقعة طينة ثم أمر بأن يخمر طينة أربعين صباحاً وكل واحد من الملائكة يفضي العجب ما حكم هذه الطينة ؟ فلما ركب صورته لم يكونوا رأوا مثلها في بديع الصنعة ، وعجيب الحكمة .. فحين قال " إني جاعل في الأرض ... " ترجمت الظنون وتقسمت القلوب وتجنت الأقاويل كما قيل :-
وكم أبصرت من حسن ولكن ……عليك من الورى وقع اختياري
ويقال : إن الله سبحانه وتعالى خلق ما خلق من الأشياء ، ولم يقل في شأن شيء .
ما قال في حديث آدم حديث قال " إني جاعل في الأرض .... " فظاهر هذا الخطاب يدل على المشاورة لو كان من المخلوقين ، والحق سبحانه وتعالى خلق الجنان بما فيها والعرش بما هو عليه من انتظام وكمال الصورة ، ولم يقل إني خالق عرشاً أو جنة أو ملكاً إنما قال تشريفاً وتخصيصاً لآدم " إني جاعل في الأرض خليفة (1) " .
لطيفة
ذكر أبن أبي حاتم في تفسيره صـ76 .. عن أبن عباس - رضي الله عنهما - قال أخرج الله آدم من الجنة قبل أن يسكنها إياه ثم قرأ " إني جاعل في الأرض خليفة .. "
وعن أبي مالك : أن كل " إذ " في القرآن فقد كان(2) .
وأخرج وكيع وعبد الرزاق وعبد بن حميد وابن المنذر وابن عساكر عن ابن عباس .
قال : إن الله أخرج آدم من الجنة قبل أن يخلقه ثم قرأ " إني جاعل في الأرض خليفة (3).. "
قال ابن عطية(4) : وقال الحسن " إن الله سمى بني آدم خليفة لأن كل قرن منهم يخلف الذي قبله الجيل بعد الجيل .
وقال ابن مسعود : إنما معناه خليفة مني في الحكم بين عبادي بالحق وبأوامري يعني بذلك آدم - عليه السلام - ومن قام مقامه من ذريته .
__________
(1) لطائف الإشارات جـ1 صـ74 : 75 .
(2) تفسير ابن أبي حاتم جـ1 صـ75 .
(3) الدر المنثور جـ1 صـ110 .
(4) المحرر الوجيز جـ1 صـ117 بتصرف يسير .

(4/78)


وقال ابن سابط عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال " إن الأرض هنا يعني مكة لأن الأرض دحيت من تحتها ولأنها مقر من هلك قومه من الأنبياء وإن قبر نوح وهود وصالح بين المقام والركن(1) .
" وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة "
قال معمر بن المثني " [ إذ ] زائدة والتقدير وقال ربك .
قال أبو إسحاق الزجاج : هذا اجتراء من أبي عبيدة .
قال القاضي أبو محمد : وكذلك رد عليه جميع المفسرين .
وقال الجمهور : ليست بزائدة وإنما هي متعلقة بفعل مقدر تقديره واذكر إذا قال(2) .
وإضافة رب إلى محمد - صلى الله عليه وسلم - ومخاطبة بالكاف تشريف له وإظهار لاختصاصه به(3) .
وقال البغوي جـ1 صـ61 والخازن جـ1 صـ36 ما نصه .
" إني جاعل في الأرض خليفة " أي خالق خليفة يعني بدلاً منكم ورافعكم إلى فكرهوا ذلك لأنهم كانوا أهون الملائكة عبادة(4) .

__________
(1) المحرر الوجيز جـ1 صـ117 .
(2) المحرر الوجيز جـ صـ116 .
(3) المحرر الوجيز جـ1صـ116 .
(4) لا يخفى ما في هذا القول من الضعف والوهن لأنه يتعارض مع ما وصف الله به الملائكة من أنهم " لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون " وبقوله " ومن عنده لا يستكبرون عن عبادته - إلى قوله " وهم بأمره يعملون " فكيف يصح القول بأنهم كرهوا ذلك وبأنهم أهون الملائكة - عبادة وهم ما خلقوا إلا من أجلها فلا يشغلهم عنها شيء .

(4/79)


" للملائكة "
قيل أراد بهم الملائكة الذين كانوا في الأرض ، وذلك أن الله تعالى خلق السماء وخلق الملائكة والجن فأسكن الملائكة السماء وأسكن الجن الأرض فعبدوا الله دهراً طويلاً في الأرض ثم ظهر فيهم الحسد والبغي فأفسدوا وقتلوا فبعث الله إليهم جنداً من الملائكة يقال لهم الجن وهم خزان الجنان اشتق لهم من الجن رأسهم إبليس وكان رئيسهم ومرشدهم وأكثرهم علماً فهبطوا إلى الأرض فطردوا الجن إلى شعوب الجبال وجزائر البحور ، وسكنوا الأرض وخفت عبادة الله فأعطي الله إبليس ملك الأرض وملك السماء الدنيا وخزانة الجنة وكان يعبد الله تارة في الأرض وتارة في السماء وتارة في الجنة فدخله الغرور وقال في نفسه ما أعطاني الله هذا الملك إلا لأني أكرم الملائكة عليه
فقال الله له ولجنده " إني جاعل في الأرض خليفة(1) " ..
" جاعل في الأرض خليفة "
قال السيوطي في الدر المنثور حـ1صـ110 ما نصه : وأخرج ابن جرير عن الحسن في قوله " إني جاعل في الأرض خليفة " قال : فاعل ، وأخرج ابن جرير عن الضحاك قال: كل شيء في القرآن [ جعل ] فهو خلق .
________________________________________ . تعليق
__________
(1) - البغوي جـ1 صـ61 وما ذكره يفتقر إلى نقل صحيح بل يشتمل على ما يرده . فقوله عن الملائكة إن الله خفف عنهم العبادة هذا أمر لا يصلح إلا للبشر .. أما الملائكة فهم لا يأكلون ولا ينامون ولا يتناكحون ولا يتناسلون ولا يمرضون ولا يعملون طلباً للرزق .. فأي حاجة إلى تخفيف العبادة عنهم أيضاً فإن قوله إن الله أعطى إبليس ملك الأرض والسماء وخزانة الجنة .. هذا شيء عجيب ما حظى به حتى جبريل - عليه السلام - وهو أفضل الملائكة وكأن الملك ليس فيه إلا إبليس الطريد اللعين .. فما أغرب هذا القول وما أبعده .

(4/80)


هذا القول فيه نظر لأنه يدعم قول المعتزلة بأن القرآن مخلوق مستدلين بقوله تعالى " إنا جعلناه قرآناً عربياً لعلكم تعقلون" [الزخرف:3] فكيف يكون الجعل في الآية السابقة بمعنى الخلق ؟!! ومن ذلك أيضاً قوله تعالى" وتجعلون له أنداداً " [ فصلت :9] فإن الجعل فيها بمعني القول ، وقد ذكر الإمام الفخر الرازي - رحمه الله - جـ4 صـ52 معاني الجعل وذكر أن الجعل له معان أخرى سوى الخلق والإيجاد.
أحدها :[ جعل ] بمعني صير قال الله تعالى : " وهو الذي جعل لكم الليل لباساً والنوم سباتاً وجعل النهار نشوراً " [ الفرقان : 47 ] .
وثانيها : [ جعل ] بمعنى وهب تقول : جعلت لك هذه الضيعة وهذا العبد وهذا الفرس .
وثالثها : [ جعل ] بمعنى الوصف للشيء والحكم كقوله تعالى " وجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثاً " [ الزخرف : 19 ] وقال " وجعلوا لله شركاء الجن " [ الأنعام : 110 ] .
ورابعها : كذلك بمعنى الأمر .. كقوله تعالى " وجعلناهم أئمة " [ الأنبياء 73 ] يعني أمرناهم بالاقتداء بهم ، وقال " إني جاعلك للناس إماماً " [ البقرة : 124 ] .
وخامسها : أن يجعله بمعنى التعليم كقوله جعلته كاتباً ، وشاعراً إذا علمته ذلك .
وسادسها : البيان والدلالة تقول : جعلت كلام فلان باطلاً إذا أوردت من الحجة ما يبين بطلان ذلك .

قوله تعالى " أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء "
ذكر ابن أبي حاتم(1) في تفسيره ما نصه " حدثنا أبي هشام بن عبيد الله عن عبد الله بن يحي بن أبي كثير قال سمعت أبي يقول " إن الملائكة الذين قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها .. الخ " كانوا عشرة آلاف فخرجت نار من عند الله فأحرقتهم (2)
__________
(1) تفسير ابن أبي حاتم جـ1 صـ78 .
(2) هذه الرواية فيها نظر فهي تتعارض مع ما وصف الله به الملائكة .. بقوله [ لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون ] وقوله " ومن عنده لا يستكبرون عن عبادته " وقوله " لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون " .

وهذا السؤال ليس على جهة الاعتراض كما هو معروف ، وقال العلامة ابن كثير جـ1 صـ92 معلقاً على هذا الخبر بأنه اسرائيلي منكر .؟؟ .

(4/81)


وقال الزمخشري(1) " أتجعل فيها " تعجب من أن يستخلف مكان أهل الطاعة أهل المعصية .
{ سؤال } فإن قلت:من أين عرفوا ذلك حتى تعجبوا منه وإنما هو غيب ؟
{ جواب } قلت عرفوه بإخبار من الله أو من جهة اللوح أو ثبت في علمهم أن الملائكة وحدهم هم الخلق المعصومون وكل خلق سواهم ليسوا على صفتهم أو قاسوا أحد الثقلين على الآخر حيث اسكنوا الأرض فأفسدوا فيها قبل سكنى الملائكة .
وقال ابن عطية - رحمه الله - " أتجعل فيها "
وقد علمنا قطعاً أن الملائكة لا تعلم الغيب ولا تسبق بالقول ، وذلك عام في جميع الملائكة لأن قوله " لا يسبقونه بالقول " خرج على جهة المدح لهم .
قال القاضي أبو بكر بن الطيب : فهذه قرينة العموم فلا يصح مع هذين الشرطين إلا أن يكون عندهم من إفساد الخليفة في الأرض نبأ ومقدمة .
ثم قال ابن عطية : فهذا إما على طريق التعجب من استخلاف الله من يعصيه أو من عصيان من يستخلف الله في أرضه ، وينعم عليه بذلك ، وإما على طريق الاستفهام والإكبار للفصلين جميعاً " الاستخلاف " والعصيان ، وقيل : المراد الاستفهام المحض .
هل هذا الخليفة على طريقة من تقدم من الجن أو لا .
وقال آخرون : كان الله تعالى قد أعلم الملائكة أنه يخلق في الأرض خلقاً يفسدون ويسفكون الدماء فلما قال لهم بعد ذلك " إني جاعل في الأرض خليفة .. قالوا أتجعل فيها ... الآية " على جهة الاسترشاد والاستعلام هل هذا الخليفة هو الذي كان أعلمهم به قبل أو غيره(2) .
وقيل إن العبد المخلص في حب سيده يكره أن يكون له عبداً آخر يعصيه .. فكان سؤالهم على وجه المبالغة(3) .
{ سؤال } فإن قيل : فلم لم يجعل واحداً من ملائكة السماء خليفة له في الأرض ؟ .
{ الجواب } قلنا لوجوه
منها : أن البشر لا يطيقون رؤية الملائكة .
ومنها : أن الجنس إلى الجنس أميل .
__________
(1) الكشاف جـ1 صـ129 .
(2) المحرر الوجيز جـ1 صـ117 بتصرف يسير .
(3) تفسير الخازن جـ1 صـ50 .

(4/82)


ومنها : أن الملائكة في نهاية الطهارة ، والعصمة وهذا هو المراد بقوله " ولو جعلناه ملكاً لجعلناه رجلاً " [ الأنعام : 9 ] (1).
قوله تعالى : " ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك "
قال صاحب الكشاف(2) " بحمدك " في موضع الحال أي نسبح لك حامدين لك ، ومتلبسين بحمدك وأما المعني ففيه وجهان :-
الأول : أنا إذا سبحانك فنحمدك سبحانك يعني ليس تسبيحاً تسبيحنا من غير استحقاق بل تستحق بحمدك وجلالك هذا التسبيح .
الثاني : أنا نسبحك بحمدك .. فإنه لولا إنعامك علينا بالتوفيق لم نتمكن من ذلك .
قال ابن عطية(3) :
وقولهم " ونحن نسبح بحمدك " قال بعض المتأولين : هو على جهة الاستفهام .
كأنهم أرادوا " ونحن نسبح بحمدك " أم نتغير عن هذه الحال .
قال القاضي أبو محمد عبد الحق – رضي الله عنه – وهذا يحسن مع القول بالاستفهام المحض في قولهم " أتجعل " .
وقال آخرون : معناه التمدح ووصف حالهم(4) وذلك جائز لهم كما قال يوسف عليه السلام " إني حفيظ عليم " [ يوسف : 55 ] .
قال القاضي أبو محمد وهذا يحسن مع التعجب والاستعظام لأن يستخلف الله من يعصيه في قولهم " أتجعل " وعلى هذا أدبهم بقوله تعالى " إني أعلم مالا تعلمون " .
__________
(1) التفسير الكبير جـ2 صـ445 .
(2) الكشاف جـ1 صـ129 .
(3) المحرر الوجيز جـ1 صـ118 بتصرف يسير .
(4) لا يخفى ما في هذا القول من البعد وذلك لمكانة الملائكة وعصمتهم كما صرح القرآن في كثير من آياته وقد سبقت الإشارة إليها وأما قياسهم على يوسف عليه السلام فهذا قياس مع الفارق فيوسف عليه السلام لم يقصد تزكية نفسه وإنما أراد الوصول إلى الملك لا لشهوة ولا لرغبة في نفسه ولكن طاعة لله تعالى من أجل إقامة العدل بين الناس .
وقال الإمام الرازي جـ2 صـ392 إن مدح النفس غير ممنوع منه مطلقاً لقوله " وأما بنعمة ربك فحدث " وقال ابن جزى جـ1 صـ44 ( ونحن نسبح ) اعتراف والتزام للتسبيح لا افتخار .

(4/83)


وقال قوم : معنى الآية ونحن لو جعلتنا في الأرض واستخلفتنا نسبح بحمدك وهذا أيضاً حسن مع التعجب والاستعظام في قولهم " أتجعل " .
ومعنى " نسبح بحمدك " ننزهك عما لا يليق بك وبصفاتك .
وقال ابن عباس وابن مسعود : تسبيح الملائكة صلاتهم لله وقال قتادة تسبيح الملائكة قولهم سبحان الله .
" وبحمدك " معناه نخلط التسبيح بالحمد ونصله به ويحتمل أن يكون قوله " بحمدك " اعتراضاً بين الكلامين كأنهم قالوا ونحن نسبح ونقدس اعترضوا على جهة التسليم أي وأنت المحمود في الهداية إلى ذلك .
" ونقدس لك " معناه نطهر أنفسنا لك ابتغاء مرضاتك ، والتقديس التطهير بلا خلاف وقيل " نقدس لك " معناه فطهر أنفسنا لك ابتغاء مرضاتك والتقديس التطهير بلا خلاف وقيل " نقدس لك " معناه نقدسك أي نعظمك ونطهر ذكرك عما لا يليق .
" أتجعل فيها من يفسد فيها .. ونحن نسبح بحمدك .. الآية "
وذكر الإمام الفخر – رحمه الله – وجوهاً في سؤال الملائكة " أتجعل "
أذكر بعضها تجنباً للتكرار .
أحدهما : كأنه تعجب من كمال علم الله تعالى وإحاطة حكمته بما خفي على كل العقلاء .
ومثلها : أن سؤالهم كان على وجه المبالغة في إعظام الله تعالى .. فإن العبد المخلص لشدة حبه لمولاه يكره أن يكون له عبد يعصيه .
وثالثها : أنهم طلبوا الحكمة التي لأجلها خلقهم مع هذا الفساد والقتل(1) .

{ سؤال } إن قيل إن الملائكة قد ذكروا بني آدم بما لا ينبغي وهو غيبة ؟
{ الجواب } أن محل الإشكال في خلق بني آدم إقدامهم على الفساد والقتل ومن أراد إيراد السؤال وجب أن يتعرض لمحل الإشكال لا لغيره فلهذا السبب ذكروا من بني آدم هاتين الصفتين وما ذكروا منهم عبادتهم وتوحيدهم لأن ذلك ليس محل الإشكال(2) .
__________
(1) التفسير الكبير جـ2 صـ391 .
(2) التفسير الكبير جـ2 صـ392 .

(4/84)


وقال صاحب الفتوحات الإلهية " قالوا " أتجعل فيها إنما قالوا ذلك استكشاف عما خفي عليهم من الحكمة التي بهرت أي غلبت تلك المفاسد وألغتها وليس باعتراض على الله تعالى ولا طعن في بني آدم على وجه الغيبة فإنهم أعلى من أن يظن بهم ذلك لقوله تعالى " بل عباد مكرمون " [ الأنبياء : 27 ](1) .
وفائدة الجمع بين التسبيح والتقديس
وإن كان ظاهر كلامهم ترادفهما أن التسبيح بالطاعات والعبادات والتقديس بالمعارف في ذات الله تعالى وصفاته أي التفكر في ذلك(2) .

لطيفة في التسبيح .
قال الإمام الرازي – رحمه الله – ما نصه :
وقال أهل التذكير : التسبيح جاء تارة في القرآن بمعنى التنزية وأخرى بمعنى التعجب .
أما الأول فجاء على وجوه :-
.أنا المنزه عن النظير والشريك هو الله الواحد القهار .
أنا المدبر للسموات والأرض سبحان رب السموات والأرض .
أنا المدبر لكل العالمين سبحان الله رب العالمين .
أنا المنزه عن قول الظالمين سبحان ربك رب العزة عما يصفون
أنا المستغني عن الكل سبحانه هو الغني .
أنا السلطان الذي كل شيء سواى فهو تحت قهري وتسخيري فسبحان الذي بيده ملكوت كل شيء .
أنا العالم بكل شيء سبحان الله عما يصفون عالم الغيب .
أنا المنزه عن الصاحبة والولد سبحانه أني يكون له ولد .
أنا المنزه عن وصفهم وقولهم سبحانه وتعالى عما يشركون وعما يقولون وعما يصفون .
أما التعجب فكذلك :-
أنا الذي سخرت البهائم القوية للبشر الضعيف سبحان الذي سخر لنا هذا .
أنا الذي خلقت العالم وكنت منزهاً عن التعب والنصب ، سبحانه إذا قضى أمراً .
أنا الذي أعلم لا بتعليم المعلمين ولا بإرشاد المرشدين سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا.
__________
(1) الفتوحات الإلهية جـ1 صـ61 .
(2) الفتوحات الإلهية جـ1 صـ62 .

(4/85)


أنا الذي أزيل معصية سبعين سنة بتوبة ساعة فسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس ثم يقول إن أردت رضوان الله فسبح وسبحوه بكرة وأصيلاً . وإن أردت الفرج من البلاء فسبح [ لا إله الا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين ] ، وإن أردت رضا الحق فسبح [ومن الليل فسبح وأطراف النهار لعلك ترضى] ، وإن أردت الخلاص من النار فسبح [سبحانك فقنا عذاب النار]
أيها العبد واظب على تسبيحي فسبحان الله فسبح وسبحوه فإن لم تفعل تسبيحي فالضرر عائد إليك لأن لي من يسبحني ومنهم حملة العرش [ فإن استكبروا فالذين عند ربك يسبحون ] [ فصلت : 38 ] ومنهم المقربون " قالوا سبحانك أنت ولينا " [ سبأ : 41 ] .
ومنهم سائر الملائكة قالوا سبحانك ما كان ينبغي لنا [ الفرقان : 18 ] ومنهم الأنبياء كما قال ذو النون " لا إله إلا أنت سبحانك " [ الأنبياء : 87 ] وقال موسى " سبحانك إني تبت إليك " [ الأعراف : 143 ] والصحابة يسبحون في قوله " سبحانك فقنا عذاب النار " [ آل عمران : 191 ] والكل يسبحون ومنهم الحشرات والدواب والذرات " وإن من شيء إلا يسبح بحمده " [ الإسراء : 44 ] وكذا الحجر والمدر والرمال والجبال والليل والنهار والظلمات والأنوار والجنة والنار والزمان والمكان والعناصر والأركان والأرواح والأجسام على ما قال " سبح لله ما في السموات " [ الحديد : 1 ] ثم يقول أيها العبد : أنا الغني عن تسبيح هذه الأشياء .. وهذه الأشياء ليست من الأحياء فلا حاجة بها إلى ثواب هذا التسبيح فقد صار ثواب هذه التسبيحات ضائعاً وذلك لا يليق بي " وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما باطلاً " [ ص : 27 ] لكني أوصل ثواب هذه الأشياء إليك ليعرف كل أحد أن من اجتهد في خدمتي أجعل كل العالم في خدمته ، والنكتة الأخرى اذكرني بالعبودية لتنفع به لا أنا "

(4/86)


سبحان ربك رب العزة " [ الصافات : 180 ] فإنك إذا ذكرتني بالتسبيح طهرتك عن المعاصي " وسبحوه بكرة وأصيلا " [ الأحزاب : 42 ] أقرضني " وأقرضوا الله قرضاً حسناً " [ الحديد : 18 ] وإن كنت أنا الغني حتى أرد الواحد عليك عشرة " من ذا الذي يقرض الله قرضاً حسناً فيضاعفه له " [ البقرة : 245 ] كن معيناً لي وإن كنت غنياً عن إعانتك " ولله جنود السموات والأرض " [ الفتح : 4 ] وأيضاً " ولو يشاء الله لانتصر منهم " [ محمد : 4]
لكنك إذا نصرتني نصرتك " إن تنصروا الله ينصركم " [ محمد : 7 ] كن مواظباً على ذكري " واذكروا الله في أيام معدودات " [ البقرة : 203 ] ولا حاجة بي إلى ذكرك لأن الكل يذكرني " ولئن سألتهم من خلق السموات والأرض ليقولن الله " [ لقمان : 25 ] لكنك إذا ذكرتني ذكرتك " فاذكروني أذكركم " [ البقرة : 152 ] اخدمني " يا أيها الناس اعبدوا ربكم " لا لأني أحتاج إلى خدمتكم فإني أنا الملك " ولله ملك السموات والأرض " [ آل عمران : 189 ] ولله يسجد من في السموات والأرض " [ الرعد : 15 ] ولكن انصرف إلى خدمتي هذه الأيام القليلة لتنال الراحات الكثيرة " قل الله ثم ذرهم " [ الأنعام : 91 ](1) .

" قال إني أعلم مالا تعلمون "
قال الشوكاني(2) : قال إني أعلم مالا تعلمون ولم يذكر متعلق ( تعلمون ) ليفيد التعميم ويذهب السامع عند ذلك كل مذهب ويعترف بالعجز ويقر بالقصر .
وقال الخازن في قوله تعالى " إني أعلم ما لا تعلمون " قيل : إنه جواب لقول الملائكة " أتجعل فيها " فقال تعالى " أعلم من وجوه المصلحة والحكمة مالا تعلمون .
وقيل :أعلم أن فيهم من يعبدني ويطيعني وهم الأنبياء والأولياء والصالحون ومن يعصيني منكم وهو إبليس وقيل : أعلم أنهم يذنبون ويستغفرون فأغفر لهم(3) .
__________
(1) التفسير الكبير جـ2 صـ394 ، 395 .
(2) فتح القدير للشوكاني جـ1 صـ63 .
(3) تفسير الخازن جـ1 صـ40 .

(4/87)


وقال الإمام الرازي(1) : إن قيل قوله :" إني أعلم ما لا تعلمون " كيف يصلح أن يكون جواباً عن السؤال الذي ذكروه .
{ قلنا } إن السؤال يحتمل وجوهاً : أحدها أنه للتعجب فيكون قوله " أعلم مالا تعلمون " جواباً له من حيث إنه قال تعالى لا تتعجبوا من أن يكون فيهم من يفسد ويقتل فإني أعلم مع هذا بأن فيهم جمعاً من الصالحين والمتقين وأنتم لا تعلمون .
وثانيها : أنه للغم فيكون الجواب : لا تغتموا بسبب وجود المفسدين فإني أعلم أيضاً أن فيهم جمعاً من المتقين ومن لو أقسم علي لأبره .
وثالثها : أنه طلب الحكمة فجوابه أن مصلحتكم فيه أن تعرفوا وجه الحكمة فيه على الإجمال دون التفصيل بل ربما كان التفصيل مفسدة لكم .
ورابعها : أنه التماس لأن يتركهم في الأرض وجوابه : إني أعلم أن مصلحتكم أن تكونوا في السماء لا في الأرض(2) .
وقال السعدي(3) : قال الله للملائكة :" إني أعلم " من هذا الخليفة " ما لا تعلمون " لأن كلامكم بحسب ما ظننتم وأنا عالم بالظواهر والسرائر وأعلم أن الخير الحاصل بخلق هذا الخليفة أضعاف أضعاف ما في ضمن ذلك من الشر .. فلو لم يكن في ذلك .. إلا أن الله تعالى أراد أن يجتبي منهم الأنبياء والصديقين والشهداء والصالحين ، ولتظهر آياته للخلق ويحصل من العبوديات التي لم تكن تحصل بدون خلق هذا الخليفة .. كالجهاد وغيره وليظهر ما كن من غرائز المكلفين من الخير والشر بالامتحان وليبين عدوه من وليه وحزبه من حزبه وليظهر ما كان في نفس إبليس من الشر الذي انطوى عليه واتصف به فهذه حكم عظيمة يكفي بعضها في ذلك .
حكمة بالغة : إن العبد إذا خفيت عليه حكمة الله في بعض المخلوقات والمأمورات فالواجب عليه التسليم واتهام عقله والإقرار لله بالحكمة(4) .
__________
(1) التفسير الكبير جـ2 صـ396 باختصار يسير .
(2) لا يخفى ما في بعض هذه الوجوه من البعد والله أعلم .
(3) تفسير السعدي صـ42 .
(4) تفسير السعدي صـ49 .

(4/88)


وقال أبو السعود : في قوله تعالى " قال إني ما لا تعلمون "
والمعنى : إني أعلم مالا تعلمونه من دواعي الخلافة فيه وقيل : إني أعلم من المصالح في استخلافه ما هو خفي عليكم وأن هذا إرشاد الملائكة إلى العلم بأن أفعاله تعالى كلها حسنة وحكمه وإن خفي عليهم وجه الحسن والحكمة(1)
وقال القرطبي – رحمه الله – بعد أن ذكر بعض هذه الوجوه :
" قلت : ويحتمل أن يكون المعنى إني أعلم ما لا تعلمون مما كان ومما يكون وما هو كائن فهو عام(2) .

ومن لطائف الإمام القشيري – رحمه الله – في هذه الآية : ما نصه :-
ولم يكن قوله الملائكة " أتجعل فيها من يفسد فيها " على وجه الاعتراض على التقدير ولكن على وجه الاستفهام .. فإن حمل الخطاب على ما يوجب تنزيه الملائكة أولى لأنهم معصومون قال تعالى " لا يعصون الله ما أمرهم "
ويقال استخرج الحق سبحانه منهم ما استكن في قلوبهم من استعظام طاعاتهم والملاحظة أن أفعالهم بهذا الخطاب ، فأفصحوا عن خفايا أسرارهم يقولون " ونحن نسبح بحمدك " ثم إن الحق سبحانه عرفهم أن الفضيلة بالعلم أتم من الفضيلة بالفعل فهم كانوا أكثر فعلاً وآدم كان أكثر علماً وأوفر فظهرت فضيلته ومرتبته .
ويقال لم يقل الحق سبحانه أنتم لا تفسدون فيها ولا تسفكون الدماء بل قال " إني أعلم ما لا تعلمون " من غفراني لهم .
ويقال : في تسبيحهم إظهار فعلهم واشتهار خصائصهم وفضلهم ومن غفرانه لمعاصي بني آدم إظهار كرمه سبحانه ورحمته والحق سبحانه غني عن طاعات كل مطيع فلأنه ظهر بتسبيحهم استحقاق تمدحهم ثبت بالغفران استحقاق تمدح الخالق سبحانه .
__________
(1) تفسير القرطبي جـ1 صـ193 .
(2) هذا وجه قوي بل أقوى الوجوه وهو يتطابق مع الأصول التي وضعها القرآن من إحصاء الله لكل شيء علماً .. فهذا أولى من التخصيص والله أعلم بمراد كتابه .

(4/89)


ويقال إني أعلم ما لا تعلمون من صفاء عقائد المؤمنين منهم في محبتنا وذكاء سرائرها في حفظ عهودنا وإن تدنس بالعصيان ظاهرهم .. كما قيل :
وإذا الحبيب أتي بذنب واحد………جاءت محاسنه بألف شفيع
ويقال إني أعلم ما لا تعلمون من محبتي لهم وأنتم تظهرون أحوالكم وأنا أخفي عليهم أسراري فيهم وفي معناه أنشدوا :-
ما حطك الواشون عن رتبة ………عندي ولا ضرك مغتاب
كأنهم أثنوا ولم يعلموا………عليك عندي بالذي عابوا
ويقال إني أعلم ما لا تعلمون من انكسار قلوبهم وإن ارتكبوا قبيح أفعالهم وصولة قلوبكم عند إظهار تسبيحكم وتقديسكم .. فأنتم في رتبة وفاقكم وفي عصمة أفعالكم ، وفي تجميل تسبيحكم وهو منكرون عن شواهدهم .. متذللون بقلوبهم وإن انكسار قلوب العباد عندنا لذما ما قويا ويقال أي خطر لتسبيحكم لولا فضلي ، وأي ضرر من ذنوبهم إذا كان عفوي ويقال لبستكم طاعتكم ولبستهم رحمتي فأنتم في صدار طاعتكم وفي حلة تقديسكم وتسبيحكم ، وهم في تغمد عفوي وفي ستر رحمتي ألبستهم ثوب كرمي وجللتهم رداء عفوي .
ويقال : إن أسعدتكم عصمتي فلقد أدركتهم رحمتي .
وإيصال عصمتي بكم عنده وجودكم وتعلق رحمتي بهم في أزلي .
ويقال : لئن كان محسنكم عتيق العصمة فإن مجرهم غريق الرحمة .
ويقال : اتكالهم على زكي أحوالكم فألجأ لهم إلى الاعتراف بالجهالة حتى يتبرأوا عن المعارضة إلا بمقدار ما من به الحق عليهم فقالوا " سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا(1) "

قوله تعالى " وعلم آدم الأسماء كلها "
قال ابن عطية(2) : " وعلم " معناه عرف وتعلم آدم هنا عند قوم إلهام علمه ضرورة
__________
(1) لطائف الإشارات جـ1 صـ75 : 76 للإمام القشيري .
(2) المحرر الوجيز جـ1 صـ119 : 120 بتصرف يسير .

(4/90)


وقال قوم : بل تعليم بقول ، فإما بواسطة ملك(1) أو بتكليم قبل هبوطه الأرض فلا يشارك موسى – عليه السلام – في خاصته .
واختلف المتأولون في قوله " الأسماء " فقال جمهور الأمة : علمه التسميات
وقال قوم : عرض عليه الأشخاص .
قال القاضي أبو محمد : والأول أبين ولفظه – علمه – تعطى ذلك .
ثم اختلف الجمهور في أي الأسماء علمه ؟
قيل : علمه أسماء النجوم وقيل أسماء الملائكة فقط ، وقيل أسماء ذريته فقط وقيل علمه أسماء ذريته والملائكة وقيل علمه كلمة واحدة عرف مفهوم جميع الأسماء ، وقيل علمه أسماء الأجناس كالجبال والخيل والأدوية ونحو ذلك دون أن يعين ما سمته ذريته منها .
وقيل علمه أسماء ما خلق في الأرض وقيل علمه الأسماء بلغة واحدة ثم وقع الاصطلاح من ذريته فيما سواها .
وقيل : بل علمه الأسماء بكل لغة تكلمت بها ذريته وقيل عرض عليه الأشخاص عند التعليم ، وقيل بل وصفها له دون عرض أشخاص .
ثم قال القاضي أبو محمد معلقاً على هذا كله بقوله : وهذه كلها احتمالات قال الناس بها(2) .

" وعلم آدم الأسماء كلها "
قال القرطبي(3) : قال علماء الصوفية : علمها بتعليم الحق إياه وحفظها عليه فنسي ما عهد إليه لأن وكله فيه إلى نفسه فقال " ولقد عهدنا إلى آدم من قبله فنسي ولم نجد له عزما " [ طه : 115 ] .
__________
(1) كيف يعلمه بواسطه ملك من الملائكة ثم يتحداهم بنفس هذا القدر من العلم الذي أحاط به واحد من الملائكة ؟! وتعليم الله للخلق لا يحتاج إلى واسطة فأهل الجنة يدخلون قصورهم بعلم يخلقه الله فيهم – وهذا مع اتساع الجنة وقدرة الله تعالى لا نهاية لها .
(2) أكثر هذه الأقوال تخصص العام بلا دليل فلو كان التخصيص مراداً لذكره " كأن يقول وعلم آدم أسماء النجوم لكنه قال الأسماء [ ثم أكدها – بقوله – كلها فالأولى حمل اللفظ على العموم لأنه يتوافق مع قوله للملائكة بعد ذلك [ أنبئوني ]
(3) تفسير القرطبي جـ1 صـ198 .

(4/91)


وقال ابن عطاء : لو لم يكشف لآدم علم تلك الأسماء لكان أعجز من الملائكة في الإخبار عنها وهذا واضح .
قال السعدي(1) :" وعلم آدم الأسماء كلها " أي أسماء الأشياء وما هو مسمى لها فعلمه الاسم والمسمى أي : الألفاظ والمعاني حتى المصغر من الأسماء والمكبر ، كالقصعة والقصيعة .
وقال القشيري(2) : عموم قوله " الأسماء " يقتضى الاستغراق واقتران قوله سبحانه بـ " كلها " يوجب الشمول والتحقيق .
وقال الفخر الرازي(3) : من الناس من قال قوله " وعلم آدم الأسماء كلها " أي علمه صفات الأشياء ونعوتها وخواصها .
القول الثاني : وهو المشهور : أن المراد أسماء كل ما خلق الله من أجناس المحدثات من جميع اللغات المختلفة التي يتكلم بها ولد آدم اليوم من العربية والفارسية والرومية وغيرها .
قال الطبرسي(4) : " قالوا : إن الله جعل الكلام معجزة لثلاثة(5) من الأنبياء . آدم ، وإسماعيل ، ومحمد – صلى الله عليه وسلم " .
وقال الطبرسي(6) : وقد افتتح الله تعالى الدلالة على الإعجاز بالكلام في آدم ثم ختم به في محمد – صلى الله عليه وسلم - .
" وعلم آدم الأسماء كلها "

قال القرطبي(7) :
وآدم – عليه السلام – يكنى أبا البشر وقيل : أبا محمد كنى بمحمد خاتم الأنبياء صلوات الله عليهم .. قاله السهيلي .
وقيل : كنيته في الجنة أبو محمد وفي الأرض أبو البشر .
واختلف في اشتقاقه فقيل : هو مشتق من أدمة الأرض وأديمها وهو وجهها فسمي بما خلق منه ، وقيل : إنه مشتق من الأدمة وهي السمرة واختلف في الأدمة فقل : هي السمرة وقيل هي البياض .
وعلق القرطبي على هذا بقوله " الصحيح أنه مشتق من أديم الأرض " .
__________
(1) تفسير السعدي صـ42 .
(2) لطائف الإشارات جـ1 صـ77 .
(3) التفسير الكبير جـ2 صـ397 باختصار .
(4) مجمع البيان جـ1 صـ181 .
(5) وقد يضاف إليهم عيسى عليه السلام بقوله في المهد " إني عبد الله " .
(6) مجمع البيان جـ1 صـ189 .
(7) تفسير القرطبي جـ1 صـ198 بتصرف يسير .

(4/92)


وقال الجمل في حاشيته على الجلالين جـ1 صـ65 وآدم أسم أعجمي لا اشتقاق له ولا ينصرف .

قال الفخر الرازي :
قال أهل المعاني : قوله تعالى " وعلم آدم الأسماء كلها "
لابد فيه من إضمار فيحتمل أنه يكون المراد وعلم آدم أسماء المسميات ويحتمل أن يكون المراد وعلم آدم مسميات الأسماء قالوا لكن الأول أولى لقوله " أنبئوني بأسماء هؤلاء " وقوله " فلما أنبأهم بأسمائهم " ولم يقل " أنبئوني بهؤلاء وأنبأهم بهم (1).
" ثم عرضهم على الملائكة "
{ سؤال } لماذا قال ثم عرضهم ولم يقل عرضها ؟
{ الجواب } لأن المسميات إذا جمعت من يعقل ومن لا يعقل عبر عنه بلفظ من يعقل لتغليب العقلاء عليهم كما يعبر عن الذكور والإناث بلفظ الذكور(2) .
وأجاب الفخر – عن هذا السؤال بقوله :-
لأنه لما كان في جملتها الملائكة والإنس والجن وهم العقلاء فغلب الأكمل .
جرت عادة العرب بتغليب الكامل على الناقص كلما غلبوا(3) .

" ثم عرضهم على الملائكة "
قال صاحب الكشاف(4) :وإنما استنبأهم وقد علم عجزهم عن الإنباء على سبيل التبكيت " إن كنتم صادقين " يعني في زعمكم أني أستخلف في الأرض مفسدين سفاكين للدماء إرادة للرد عليهم(5) .

وقال في الفتوحات الإلهية جـ1 صـ64 ما نصه :-
وقوله : " أنبئوني " أمر تعجيز والنبأ خبر ذو فائدة عظيمة سواء حصل علماً أو غلبة ظن فإيثاره على الإخبار للإيذان برفعة شأن الأسماء وعظم خطرها
__________
(1) التفسير الكبير جـ2 صـ398 .
(2) تفسير الخازن جـ1 صـ41 .
(3) التفسير الكبير جـ2 صـ398 .
(4) الكشاف جـ1 صـ130 .
(5) هذا الكلام يتعارض مع ما وصف الله به ملائكته بأنهم عباد مكرمون وحاش لله .

(4/93)


فإن النبأ إنما يطلق على الخبر الخطير والأمر العظيم(1) .

" إن كنتم صادقين "
قال أبو السعود(2) : أي في زعمكم أنكم أحقاء بالخلافة ممن استخلفته كما ينبئ عنه مقالكم .
وقال القشيري(3) ما نصه : ويقال قوله " ثم عرضهم " ثم : حرف تراخ ومهلة .. أما على آدم فإنه أمهله من الوقت ما تقرر ذلك في قلبه ، وتحقق المعلوم له بحقه ثم حينئذ استخبره عما تحقق به واستيقنه ، وأما على الملائكة فقال لهم على وجه الوهلة " أنبئوني " فلما لم يتقدم لهم تعريف تحيروا ، ولما تقدم لآدم التعليم أجاب وأخبر ، ونطق وأفلح إظهاراً لعنايته السابقة – سبحانه – بشأنه وقوله " إن كنتم صادقين " فيه إشارة إلى أنهم تعرضوا لدعوى الخصوصية والفضيلة والمزية على آدم فعرفهم أن الفضل ليس بتقديم تسبيحهم لكنه في قديم تخصيصه ولما علم الحق سبحانه تقاصر علومهم عن معرفة أسماء المخلوقات .. ثم كلفهم الإنباء عنها صار فيه أوضح دلالة على أن الأمر أمره ، والحكم حكمه .

" قالوا سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا "
قال فى تنوير الأذهان :
أفادت الآية أن العبد ينبغى له أن لا يغفل عن نقصانه وعن فضل الله وإحسانه ، ولا يأنف أن يقول : لا أعلم فيما لا يعلم ، ولا يكتم فيما يعلم.
__________
(1) أن يعنفهم الله وهم ما أرادوا بسؤالهم الاعتراض بل أرادوا التعجب أو معرفة الحكمة أو خافوا أن يكون قد صدر عنهم تقصير في التسبيح والله أعلم وهذا الرد ينسحب على ما ذكره الزمخشري – رحمه الله – بعد ذلك في قوله تعالى " إن كنتم صادقين "
(2) تفسير أبي السعود جـ1 صـ85 ويتوجه إليه نفس الكلام السابق .
(3) لطائف الإرشادات جـ1 صـ77 .

(4/94)


وقالوا : لا أدرى نصف العلم ، وسئل أبو يوسف القاضى عن مسئلة فقال : لا أدرى فقالوا له : ترتزق من بيت المال كل يوم كذا كذا ثم تقول : لا أدرى فقال : إنما أرتزق بقدر علمى ، ولو أعطيت بقدر جهلى لم يسعنى مال الدنيا – وحكى – أن عالما سئل عن مسئلة وهو فوق المنبر فقال : لا أدرى فقيل له : ليس المنبر موضع الجهال ، فقال إنما علوت بقدر علمى ، ولو علوت بقدر جهلى لبلغت السماء. أهـ { تنوير الأذهان حـ1 صـ 48}

وقال الفخر الرازي(1) ما نصه :
اعلم أن الذين اعتقدوا أن الملائكة أتوا بالمعصية في قولهم " أتجعل فيها من يفسد فيها "قالوا : إنهم لما عرفوا خطأهم في هذا السؤال رجعوا وتابوا واعتذروا عن خطئهم بقولهم " سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا " .
والذين أنكروا معصيتهم ذكروا في ذلك وجهين :-
الأول :أنهم إنما قالوا ذلك على وجه الاعتراف بالعجز والتسليم بأنهم لا يعلمون ما سألهم عنه وذلك لأنهم قالوا إنا لا نعلم إلا ما علمتنا فإذا لم تعلمنا ذلك فكيف نعلمه .
الثاني : أن الملائكة إنما قالوا " أتجعل فيها " لأن الله تعالى أعلمهم ذلك فكأنهم قالوا إنك أعلمتنا أنهم يفسدون في الأرض ويسفكون الدماء فقلنا لك أتجعل فيها من يفسد فيها وأما هذه الأسماء فإنك ما أعلمتنا كيفيتها فيكف نعلمها .

" إنك أنت العليم الحكيم "
قال الفخر : " العليم " من صفات المبالغة التامة في العلم والمبالغة التامة لا تتحقق إلا عند الإحاطة بكل المعلومات وما ذاك إلا هو سبحانه وتعالى فلا جرم ليس العليم المطلق إلا هو فلذلك قال " إنك أنت العليم الحكيم " على سبيل الحصر .
" الحكيم " يستعمل على وجهين :-
الأول : بمعنى العليم فيكون ذلك من صفات الذات .. هذا التفسير نقول : إنه تعالى حكيم في الأزل .
__________
(1) التفسير الكبير جـ2 صـ 424 .

(4/95)


الآخر : أنه الذي يكون فاعلاً لما لا اعتراض لأحد عليه فيكون ذلك من صفات الفعل .. فلا نقول إنه حكيم في الأزل والأقرب ها هنا أن يكون المراد هو المعنى الثاني وإلا لزم التكرار(1) .
وقال القشيري(2) : قدموا الثناء على ذكر ما اعتذروا به ، ونزهوا حقيقة حكمه عن أن يكون يعرض وهم المعترضون يعني لا علم لنا بما سألتنا ولا يتوجه عليك لوم في تكليف العاجز بما علمت أنه غير مستطيع له .. " إنك أنت العليم الحكيم " أي ما تفعله فهو حق ليس لأحد عليك حكم ولا منك سفة وقبح .
لطائف في فضل العلم
* قوله تعالى " وقل ربي زدني علماً " [ طه : 114 ] وفيه أول دليل على نفاسة العلم وعلو مرتبته وفرط محبة الله تعالى إياه .. حيث أمر نبيه بالإزدياد منه خاصة دون غيره . وقال قتادة : لو اكتفى أحد من العلم لأكتفى نبي الله موسى – عليه السلام – ولم يقل " هل أتبعك أن تعلمني مما علمت رشدا " [ الكهف : 66 ] .
* كان لسليمان – عليه السلام – من ملك الدنيا ما كان حتى أنه " قال رب أغفر لي وهب لي ملكاً لا ينبغي لأحد من بعدي " [ ص : 35 ] ثم إنه لم يفتخر بالمملكة وافتخر بالعلم حيث قال " يا أيها الناس علمنا منطق الطير وأوتينا من كل شيء " [ النمل : 16 ] فافتخر بكونه عالماً بمنطق الطير فإذا حسن من سليمان أن يفتخر بذلك العلم فلأن يحسن بالمؤمن أن يفتخر بمعرفة رب العالمين كأن أحسن ولأنه قدم ذلك على قوله : " وأوتينا من كل شيء " وأيضاً فإنه تعالى لما ذكر كمال حالهم قدم العلم أولاً وقال : " وداود وسليمان إذ يحكمان في الحرث " إلى " وكلا آتينا حكماً وعلماً " [ الأنبياء : 78،79 ] ثم إنه تعالى ذكر بعد ذلك ما يتعلق بأحوال الدنيا فدل على أن العلم أشرف .
__________
(1) التفسير الكبير جـ2 صـ425 .
(2) لطائف الإرشادات جـ1 صـ77 : 78 .

(4/96)


* قال بعضهم الهدهد مع أنه في نهاية الضعف ومع أنه كان في موقف المعاتبة قال لسليمان " أحطت بما لم تحط به " [ النمل : 22 ] فلولا أن العلم أشرف الأشياء وإلا فمن أين للهدهد أن يتكلم في مجلس سليمان بمثل هذا الكلام ولذلك يرى الرجل الساقط إذا تعلم العلم صار نافذ القول عند السلاطين وما ذاك إلا ببركة العلم(1) .
* أطلب خمسة في خمسة :
الأول : أطلب العز في التواضع لا في المال والشهرة .
والثاني : أطلب الغنى في القناعة لا في الكثرة .
والثالث : أطلب الأمن في الجنة لا في الدنيا .
والرابع : أطلب الراحة في القلة لا في الكثرة .
والخامس : أطلب منفعة العلم في العمل لا في كثرة الرواية .
* قال ابن المبارك ما جاء فساد هذه الأمة إلا من قبل الخواص وهم خمسة : العلماء ، والغزاة ، والزهاد ، والتجار ، والولاة .. أما العلماء فهم ورثة الأنبياء ، وأما الزهاد : فعماد أهل الأرض وأما الغزاة فجند الله في الأرض وأما التجار فأمناء الله في أرضه وأما الولاة فهم الرعاة فإذا كان العالم للدين واضعاً وللمال رافعاً فبمن يقتدي الجاهل وإذا كان الزاهد في الدنيا راغباً فبمن يقتدي التائب وإذا كان الغازي طامعاً مرائياً فكيف يظفر بالعدو وإذا كان التاجر خائناً فكيف تحصل الأمانة وإذا كان الراعي ذئباً فكيف تحصل الرعاية " يو " قال على بن أبي طالب – رضي الله عنه – العلم أفضل من المال بسبعة أوجه :-
الأول : العلم ميراث الأنبياء والمال ميراث الفراعنة .
الثاني : العلم لا ينقص بالنفقة والمال ينقص .
الثالث : يحتاج المال إلى الحافظ والعلم يحفظ صاحبه .
الرابع : إذا مات الرجل يبقى ماله والعلم يدخل مع صاحبه قبره .
الخامس : المال يحصل للمؤمن والكافر والعلم لا يحصل إلا للمؤمن .
السادس : جميع الناس يحتاجون إلى صاحب العلم في أمر دينهم ولا يحتاجون إلى صاحب المال .
__________
(1) تفسير الرازي جـ2 صـ407 بتصرف يسير .

(4/97)


السابع : العلم يقوي الرجل على المرور على الصراط والمال يمنعه .
* قال الفقيه أبو الليث : إن من يجلس عند العالم ولا يقدر أن يحفظ من ذلك العلم شيئاً فله سبع كرامات :-
أولها : ينال فضل المتعلمين .
الثاني : ما دام جالساً عنده كان محبوساً عن الذنوب .
الثالث : إذا خرج من منزله طالباً للعلم نزلت الرحمة عليه .
الرابع : إذا جلس في حلقة العلم فإذا نزلت الرحمة عليهم كان له منها نصيب
الخامس : ما دام يكون في الاستماع تكتب له طاعة .
السادسة : إذا استمع ولم يفهم ضاق قلبه لحرمانه عن إدراك العلم فيصير ذلك الغم وسيلة له إلى حضرة الله تعالى لقوله عز وجل : " أنا عند المنكسرة قلوبهم لأجلي "
السابع : يرى إعزاز المسلمين للعالم وإذلالهم للفساق فيرد قلبه عن الفسق ويميل طبعه إلى العلم فلهذا أمر عليه الصلاة والسلام بمجالسة الصالحين .
* إن الله علم سبعة نفر سبعة أشياء :-
علم آدم الأسماء .
علم الخضر الفراسة .
علم يوسف علم التعبير .
علم داود صنعة الدرع .
علم سليمان منطق الطير .
علم عيسى علم التوراة والإنجيل .
علم محمد - صلى الله عليه وسلم - الشرع والتوحيد .

(4/98)


فعلم آدم كان سبباً له في حصول السجدة والتحية وعلم الخضر كان سبباً لأن وجد تلميذاً مثل موسى ويوشع عليهما السلام وعلم يوسف لوجدان الأهل والمملكة وعلم داود كان سبباً لوجدان الرياسة والدرجة ، وعلم سليمان كان سبباً لوجدان بلقيس والغلبة وعلم عيسى كان سبباً لزوال التهمة عن أمه وعلم محمد – صلى الله عليه وسلم – كان سبباً لوجود الشفاعة .. ثم نقول من علم أسماء المخلوقات وجد التحية من الملائكة فمن علم ذات الخالق وصفاته أما يجد تحية الملائكة ؟ بل يجد تحية الرب " سلام قولاً من رب رحيم " [ يس : 58 ] والخضر وجد بعلم الفراسة صحبة موسى فيا أمة الحبيب بعلم الحقيقة كيف لا تجدون صحبة محمد – صلى الله عليه وسلم – " فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين " [ النساء :69 ]
* الأمور على أربعة أقسام .. قسم يرضاه العقل ولا ترضاه الشهوة ، وقسم ترضاه الشهوة ولا يرضاه العقل ، وقسم يرضاه العقل والشهوة معاً ، وقسم لا يرضاه العقل ولا ترضاه الشهوة .
أما الأول : فهو الأمراض والمكارة في الدنيا .
أما الثاني : فهو المعاصي أجمع .
أمال الثالث : فهو العلم .
أما الرابع : فهو الجهل فينزل العلم من الجهل منزلة الجنة من النار .
فكما أن العقل والشهوة لا يرضيان بالنار فكذلك لا يرضيان بالجهل وكما أنهما يرضيان بالجنة فكذا يرضيان بالعلم فمن رضي بالجهل فقد رضي بنار حاضرة ومن اشتغل بالعلم فقد خاض في جنة حاضرة فكل من اختار العلم يقال له تعودت المقام في الجنة فادخل الجنة ومن اكتفى بالجهل يقال له تعودت النار فادخل النار(1) .
__________
(1) تفسير الرازي جـ2 صـ405 .

(4/99)


* " قالت نملة يا أيها النمل ادخلوا مساكنكم " [ النمل : 18 ] إلى قوله " وهم لا يشعرون " كانت ريساة تلك النملة على غيرها لم تكن إلا بسبب أنها علمت مسألة واحدة وهي قوله تعالى " وهم لا يشعرون " كأنها قالت إن سليمان معصوم والمعصوم لا يجوز منه إيذاء البريء عن الجرم ولكنه لو حطمكم فإنما يصدر ذلك منه على سبيل السهو لأنه لا يعلم حالكم فقوله تعالى " وهم لا يشعرون " إشارة تنزيه الأنبياء عليهم السلام عن المعصية فتلك النملة لما علمت هذه المسألة الواحدة استحقت الرياسة التامة فمن علم حقائق الأشياء من الموجودات والمعدومات كيف لا يستوجب الرياسة في الدنيا والدين .
* الكلب إذا تعلم وأرسله المالك على اسم الله تعالى صار صيده النجس طاهراً والنكتة أن العلم هناك انضم إلى الكلب فصار النجس ببركة العلم طاهراً فههنا النفس والروح طاهرتان في أصل الفطرة إلا أنهما تلوثتا بأقذار المعصية ثم انضم إليهما العلم بالله وبصفاته فنرجو من عميم لطفه أن يقلب النجس طاهراً ههنا والمردود مقبولاً (1).

من ملح العلم
* وروى أن ليلى الأخلية مدحت الحجاج فقال : يا غلام أذهب إلى فلان فقل له : يقطع لسانها .. قال : فطلب حجاماً فقالت ثكلتك أمك إنما أمرك أن تقطع لساني بالصلة فلولا تبصرها بأنحاء الكلام ، ومذاهب العرب والتوسعة في اللفظ ومعاني الخطاب لتم عليها جهل هذا الرجل(2) .
__________
(1) تفسير الرازي جـ2 صـ412 .
(2) المستطرف ً63 .

(4/100)


* ودخلت امرأة على هارون الرشيد وعنده جماعة من وجوه أصحابه .. فقالت : يا أمير المؤمنين أقر الله عينيك وفرحك بما آتاك وأتم سعدك لقد حكمت فقسطت .. فقال لها : من تكونين أيتها المراة ؟ فقالت : من آل يرمك ممن قتلت رجالهم وأخذت أموالهم وسلبت نوالهم فقال : أما الرجال فقد مضى فيهم أمر الله ونفذ فيهم قدره .. وأما المال فمردود إليك ثم التفت إلى الحاضرين من أصحابه فقال : أتدرون ما قالت هذه المرأة ؟ فقالوا : ما نراها قالت إلا خيراً . فقال : ما أظنكم فهمتم ذلك أما قولها : أقر الله عينك أي أسكنها عن الحركة وإذا سكنت العين عن الحركة عميت ، وأما قولها وفرحك بما آتاك فأخذته من قوله تعالى " حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة " [ الأنعام : 44 ] وأما قولها وأتم الله سعدك فأخذته من قول الشاعر :-
إذا تم أمر بدا نقصه …… ترقب زوالا إذا قيل تم
وأما قولها لقد حكمت فقسطت فأخذته من قوله " وأما القاسطون فكانوا لجهنم حطبا " [ الجن : 15 ] فتعجبوا من ذلك(1) .
* واستودع رجل لغيره مالاً فجحده فرفعه إلى إياس فسأله فأنكر فقال للمدعي أين دفعت إليه فقالت : في مكان البرية فقال : وما كان هناك ؟ قال شجرة قال اذهب إليها فلعلك دفنت المال عندها ونسيت فتذكر إذا رأيت الشجرة فمضى وقال للخصم اجلس حتى يرجع صاحبك ، وإياس يقضي وينظر إليه ساعة بعد ساعة ثم قال : يا هذا أترى صاحبك قد بلغ مكان الشجرة قال لا .. قال يا عدو الله إنك خائن .. قال أقلني .. قال لا أقالك الله وأمر أن يحتفظ به حتى جاء الرجل .. فقال له إياس : اذهب معه فخذ حقك(2) .
* ومن فراسة الحاكم : ما ذكره حماد بن سلمة عن حميد الطويل : أن إياس بن معاوية اختصم إليه رجلان استودع احدهما صاحبه وديعة فقال صاحب الوديعة : استحلفه بالله مالي عنده وديعة فقال إياس : بل استحلفه بالله مالك عنده وديعة ولا غيرها .
__________
(1) المستطرف صـ67 .
(2) الطرق الحكيمة في السياسة الشرعية صـ29 .

(4/101)


وهذا من أحسن الفراسة فإنه إذا قال " ما له عندي وديعة " أحتمل النفي واحتمل الإقرار فينصب " ماله " بفعل محذوف مقدر أي دفع ماله إلى أو أعطاني ماله أو يجعل " ما " موصول والجار والمجرور صلتها ووديعة خبر عن " ما " فإذا قال : " ولا غيرها " تعين النفي(1)
* أراد واحد خدمة ملك فقال الملك اذهب وتعلم حتى تصلح لخدمتي فلما شرع في التعلم وذاق لذة العلم بعث الملك إليه وقال اترك التعلم فقد صرت أهلاً لخدمتي فقال كنت أهلاً لخدمتك حين لم ترني أهلاً لخدمتك وحين رأيتني أهلاً لخدمتك رأيت نفسي أهلاً لخدمة الله تعالى وذلك أني كنت أظن أن الباب بابك لجهلي والآن علمت أن الباب باب الله .
* تحصيل العلم إنما يصعب عليك لفرط حبك للدنيا لأنه تعالى أعطاك سواد العين وسويداء القلب ولا شك أن السواد أكبر من السويداء في اللفظ لأن السويداء تصغير السواد ثم إذا وضعت على سواد عينك جزءاً من الدنيا لا ترى شيئاً فكيف إذا وضعت على السويداء كل الدنيا كيف ترى بقلبك شيئاً .
__________
(1) الطرق الحكيمة في السياسة الشرعية صـ33 .

(4/102)


* عن الشعبي كنت عند الحجاج فأتى بيحيى بن يعمر فقيه خراسان من بلخ مكبلاً بالحديد فقال له الحجاج أنت زعمت أن الحسن والحسين من ذرية رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : نعم .. فقال الحجاج لتأنيبي بها واضحة بينة من كتاب الله أو لأقطعنك عضواً عضواً فقال آتيك بها واضحة بينة من كتاب الله يا حجاج .. قال : فتعجبت من جرأته بقوله يا حجاج فقال ولا تأتني بهذه الآية " ندع أبناءنا وأبناءكم " [ آل عمران : 61 ] فقال : أتيك بها واضحة من كتاب الله هو قوله : " ونوحا هدينا من قبل ومن ذريته داود وسليمان " [ الأنعام : 84 ] إلى قوله : " وزكريا ويحي وعيسى " فمن كان أبو عيسى وقد ألحق بذرية نوح ؟ قال فأطرق ملياً ثم رفع رأسه فقال : كأني لم أقرأ هذه الآية من كتاب الله حلوا وثاقه وأعطوه من المال كذا(1)

__________
(1) التفسير الكبير جـ2 صـ411 ،412 بتصرف يسير .

(4/103)


لص فقيه مناظر
قال أحمد بن المعدل البصري قال : كنت جالساً عند عبد الملك بن عبد العزيز الماجشون .. فجأءه بعض جلسائه فقال : أعجوبة .. قال ما هي ؟ قال : خرجت إلى حائطي بالغابة فلما أن أصحرت وبعدت عن البيوت - بيوت المدينة - تعرض لي رجل .. فقال اخلع ثيابك فقلت وما يدعوني إلى خلع ثيابي .. قال أنا أولى بها منك .. قلت : ومن أين ؟ قال : لأني أخوك وأنا عريان وأنت مكسو .. قلت : فالمواساة ، قال : كلا قد لبستها برهة وأنا أريد أن ألبسها كما لبستها .. قلت فتعريني وتبدي عورتي .. قال لا بأس بذلك قد روينا عن مالك أنه قال لا بأس للرجل أن يغتسل عرياناً قلت فيلقاني الناس فيرون عورتي ؟ قال لو كان الناس يرونك في هذه الطريق ما عرضت لك فيها .. فقلت أراك ظريفاً فدعني حتى أمضي إلى حائط وأنزع هذه الثياب .. فأوجه بها إليك قال كلا أردت أن توجه إلى أربعة من عبيدك فيحملوني إلى السلطان فيحبسني ويمزق جلدي ويطرح في رجلي القيد .. قلت : كلا أحلف لك إيماناً أني أوفى لك بما وعدتك ولا أسوءك .. قال : كلا إنا روينا عن مالك أنه قال : لا تلزم الأيمان التي يحلف بها اللصوص .. قلت : فأحلف أني لا أحتال في أيماني هذه .. قال : هذه يمين مركبة على أيمان اللصوص .. قلت : فدع المناظرة بيننا فوالله لأوجهن إليك هذه الثياب طيبة بها نفسي فأطرق ثم رفع رأسه وقال : تدري فيم فكرت ؟ قلت : لا .. قال : تصفحت أمر اللصوص من عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى وقتنا هذا فلم أجد لصاً أخذ نسيئة وأكره أن أبتدع في الإسلام بدعة يكون على وزرها ووزر من عمل بها بعدي إلى يوم القيامة اخلع ثيابك .. قال فخلعها ودفعها إليه فأخذها وانصرف(1) .
* هجا الفرزدق واحدا فقال :-
…لقد ضاع شعري على بابكم ……كما ضاع در على خالصة
__________
(1) الأذكياء لابن الجوزي صـ237 ، 238 .

(4/104)


وكانت خالصة معشوقة سليمان بن عبد الملك وكانت ظريفة صاحبة أدب وكانت هيبة سليمان بن عبد الملك تفوق هيبة المروانيين فلما بلغها هذا البيت شق عليها فدخلت على سليمان وشكت الفرزدق فأمر سليمان بإشخاص الفرزدق على أفظع الوجوه مكبلاً مقيداً فلما حضر وما كان به من الرمق إلا مقدار ما يقيمه على الرجل من شدة الهيبة فقال له سليمان بن عبد الملك : أنت القائل :-
…لقد ضاع شعري على بابكم ……كما ضاع در على خالصة
فقال ما قلته هكذا وإنما غيره على من أراد بي مكروهاً وإنما قلت : وخالصة من وراء الستر تسمع
لقد ضاء شعرى على بابكم ……كما ضاء در على خالصة

فسرى عن خالصة فلم تملك نفسها أن خرجت من الستر فالقت على الفرزدق ما كان عليها من الحلي وهو زيادة على ألف ألف درهم فأتبعه سليمان بن عبد الملك حاجبه لما خرج من عنده حتى اشترى الحلي من الفرزدق بمائة ألف ورده على خالصة .
* دخل الغضبان على الحجاج بعدما قال لعدوه عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث تغد بالحجاج قبل أن يتعشى بك فقال له ما جواب السلام عليك ؟ فقال وعليك السلام ثم فطن الحجاج وقال : قاتلك الله يا غضبان .. أخذت لنفسك أمانا بردي عليك أما والله لولا الوفاء والكرم لما شربت الماء البارد بعد ساعتك هذه .. فانظر إلى فائدة العلم في هذه الصورة فلله در العلم ومن به تردى وتعساً للجهل ومن في أوديته تردى .

(4/105)


* دخل اللصوص على رجل فأخذوا متاعه واستحلفوه بالطلاق ثلاثاً أن لا يعلم أحداً فأصبح الرجل وهو يرى اللصوص يبيعون متاعه وليس يقدر أن يتكلم من أجل يمينه فجاء الرجل يشاور أبا حنيفة فقال : أحضر لي إمام مسجدك وأهل محلتك فأحضرهم إياه .. فقال لهم أبو حنيفة : هل تحبون أن يرد الله على هذا متاعه ؟ قالوا نعم : قال : فاجمعوا كلاً منهم وأدخلوهم في دار ثم أخرجوهم واحداً واحداً وقولوا أهذا لصك ؟ فإن كان ليس بلصه قال : لا وإن كان لصه فليسكت ، وإذا سكت فاقبضوا عليه ففعلوا ما أمرهم به أبو حنيفة .. فرد الله عليه جميع ما سرق منه(1) .

" قال يا آدم أنبئهم بأسمائهم " الآية
قال الفخر الرازي : قوله " وأعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون " ففيه وجوه أحدها : أن قوله " وأعلم ما تبدون " أراد به قولهم " أتجعل فيها من يفسد فيها وقوله " وما كنتم تكتمون " أراد به ما أسر إبليس في نفسه من الكبر وأن لا يسجد .
وثانيها : " إني أعلم ما لا تعلمون " من الأمور الغائبة والأسرار الخفية التي يظن في الظاهر أنه لا مصلحة فيها ، ولكني لعلمي بالأسرار المغيبة أعلم أن المصلحة في خلقها .
وثالثها : أنه تعالى لما خلق آدم رأت الملائكة خلقاً عجيباً فقالوا : ليكن ما شاء فلن يخلق ربنا خلقاً إلا كنا أكرم عليه منه(2) فهذا الذي كتموا ويجوز أن يكون هذا القول سراً أسروه بينهم فأبداه بعضهم لبعض وأسروه عن غيرهم فكان في هذا الفعل الواحد إبداء وكتمان(3) .
__________
(1) تفسير الرازي جـ2 صـ411 : 414
(2) هذا الخبر يحتاج إلى نقل صحيح وقد سبق الرد على مثله فلا داعي للتكرار وقد ذكر هذا الخبر كثير من المفسرين دون رد أو تعليق و منهم ابن عطية والبغوي والخازن والقرطبي وابن كثير وأبو السعود وغيرهم ولم يعلق عليه إلا الطبري ـ رحمه الله ـ .
(3) التفسير الكبير جـ2 صـ425 : 426 .

(4/106)


وقال ابن عطية : قوله تعالى " أعلم غيب السماوات والأرض " معناه ما غاب عنكم لأن الله لا غيب عنده من معلوماته .
واختلف المفسرون في قوله تعالى : " ما تبدون وما كنتم تكتمون "
فقالت طائفة : ذلك على معنى العموم في معرفة أسرارهم وظهورهم وبواطنهم أجمع (1) ، وقيل ما أبدوه بدارهم بالسجود لآدم (2) .

" قال يا آدم أنبئهم بأسمائهم "
قال القشيري(3) رحمه الله –
من آثار العناية بآدم – عليه السلام – أنه لما قال للملائكة " أنبئوني " داخلهم من هيبة الخطاب ما أخذهم عنهم لا سيما حين طالبهم بإنبائهم إياه ما لم تحط به علومهم ولما كان حديث آدم – عليه السلام – رده في الإنباء إليهم فقال : " أنبئهم بأسمائهم ومخاطبة آدم عليه السلام - الملائكة لم يوجب له الاستغراق في الهيبة فلما أخبرهم آدم – عليه السلام – بأسماء ما تقاصرت عنها علومهم ظهرت فضلته عليهم فقال " الم اقل لكم إني أعلم غيب السماوات والأرض " يعني ما تقاصرت عنه علوم الخلق وأعلم ما تبدون ما الطاعات وتكتمون من اعتقاد الخيرية على آدم – عليه السلام –
__________
(1) هذا قول وجيه وقد رجح مثله ابن جرير رحمه الله بقوله " وأولي الأقوال في ذلك قول ابن عباس وهو أن معنى قوله تعالى " وأعلم ما تبدون " وأعلم مع علمي غيب السماوات والأرض وما تظهرونه بألسنتكم وما كنتم تخفون في أنفسكم فلا يخفى على شيء سواء عندي سرائركم وعلانيتكم " تفسير الطبري جـ1 صـ223 وهو كما ترى يرجح أن المراد من الآية العموم والله أعلم .
(2) المحرر الوجيز جـ1 صـ123 .
(3) لطائف الإرشادات جـ1 صـ78 .

(4/107)


" فصل " ولما أراد الحق سبحانه وتعالى أن ينجي آدم عصمه وعلمه وأظهر عليه آثار الرعاية حتى أخبر بما أخبر به ، وحين أراد إمضاء حكمه فيه أدخل عليه النسيان حتى نسي في الحضرة عهده وجاوز حده فقال الله تعالى " ولقد عهدنا إلى آدم من قبل فنسي ولم نجد له عزماً " [ طه : 110 ] فالوقت الذي ساعدته العناية تقدم على الجملة بالعلم والإحسان والوقت الذي أمضى عليه الحكم رده إلى حال النسيان والعصيان كذا أحكام الحق سبحانه فيما تجري وتمضي ذل بحكمه العبيد وهو فعال لما يريد .

قوله تعالى " قال ألم أقل لكم إني أعلم غيب السموات والأرض "
قال الإمام الرازي – رحمه الله –
اعلم أن في هذه الآية خوفاً عظيماً وفرحاً عظيماً أما الخوف فلآنه تعالى لا يخفى عليه شيء من أحوال الضمائر فيجب أن يجتهد المرء في تصفية باطنه وأن يكون بحيث يترك المعصية لاطلاع الخلائق عليها ولا يتركها عند اطلاع الخالق عليها والأخبار مؤكدة لذلك .
أحدها : روى عدي بن حاتم أنه عليه الصلاة والسلام قال : " يؤتى بناس يوم القيامة فيؤمر بهم إلى الجنة حتى إذا دنوا منها ووجدوا رائحتها ونظروا إلى قصورها وإلى ما أعد الله لأهلها نودوا أن اصرفوهم عنها لا نصيب لهم فيها فيرجعون عنها بحسرة ما رجع أحد بمثلها ويقولون ربنا لو أدخلتنا النار قبل أن ترينا ما أريتنا من ثوابك وما أعددت فيها لأوليائك كان أهون علينا .. فنودوا ذاك أردت لكم كنتم إذا خلوتم بارزتموني بالعظائم وإذا لقيتم الناس لقيتموهم بالمحبة مخبتين تراؤن الناس بخلاف ما تضمرون عليه في قلوبكم هبتم الناس ولم تهابوني أجللتم الناس ولم تجلوني تركتم المعاصي للناس ولم تتركوها لأجلي كنت أهون الناظرين عليكم فاليوم أذيقكم أليم عذابي مع ما حرمتكم من النعيم .
ثانيها : قال سليمان بن علي لحميد الطويل : عظني قال : إن كنت إذا عصيت الله خالياً ظننت أنه يراك فلقد اجترأت على عظيم وإن كنت ظننت أنه لا يراك فلقد كفرت .

(4/108)


وثالثها : قال حاتم الأصم طهر نفسك في ثلاثة أحوال :-
إذا كنت عاملاً بالجوارح فاذكر نظر الله إليك
وإذا كنت قائلاً فاذكر سمع الله إليك .
وإذا كنت ساكتاً عاملاً بالضمير فاذكر علم الله بك .
إذ هو يقول " إنني معكما أسمع وأرى " [ طه : 46 ] .
ورابعها : اعلم أنه لا اطلاع لأحد على أسرار حكمة الله تعالى .. فالملائكة وقع نظرهم على الفساد والقتل فاستحقروا البشر .. ووقع نظرهم على طاعة إبليس فاستعظموه أما علام الغيوب فإنه كان عالماً بأنهم وإن أتوا بالفساد والقتل لكنهم سيأتون بعده بقولهم " ربنا ظلمنا أنفسنا " [ الأعراف : 23 ] وأن إبليس وإن أتى بالطاعات لكنه سيأتي بعدها يقوله " أنا خير منه " ومن شأن العقل أن لا يعتمد على ما يراه وأن يكون أبداً في الخوف والوجل فقوله تعالى " إني أعلم غيب السموات " معناه أنا الذي أعرف الظاهر والباطن والواقع والمتوقع وأعلم أن ماترونه عابداً مطيعاً سيكفر ويبعد عن حضرتي ، ومن ترونه فاسقاً بعيداً سيقرب من خدمتي فالخلق لا يمكنهم أن يخرجوا عن حجاب الجهل ولا يتيسر لهم أن يخرقوا أستار العجز فإنهم لا يحيطون بشيء من علمه .. ثم إنه سبحانه حقق من علم الغيب وعجز الملائكة أن أظهر من البشر كمال العبودية ومن أشد ساكني السموات عبادة كمال الكفر لئلا يغتر أحد بعمله ويفوضوا معرفة الأشياء إلى حكمة الخالق ويزيلوا الاعتراض بالقلب واللسان عن مصنوعاته ومبدعاته(1) .
فائدة الستر على قسمين : ستر عن المعصية وستر فيها . فالعامة يطلبون من الله تعالى الستر فيها خشية سقوط مرتبتهم عند الخلق والخاصة يطلبون من الله الستر عنها خشية سقوطهم من نظر الملك الحق
__________
(1) التفسير الكبير جـ2 صـ426 ، 427 .

(4/109)


يعني : أن العامة يطلبون الستر في المعصية خوف اطلاع الناس عليهم فهم { يَسْتَخْفُونَ مِنْ النَّاسِ وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنْ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ } [النساء 108] . قال ابن عباس في قوله تعالى : { يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ } غافر( 19 ) . هو الرجل يكون في القوم فتمر به المرأة فيريهم أنه يغض بصره عنها فإذا رأى من القوم غفلة
لحظ إليها . وهذا شأن المرائين الذين يستخفون بنظر الجبار ويهابون الناس أن يطلعوا عليهم فيما يرتكبونه من الأوزار . وأما الخاصة فهم يطلبون من الله الستر عنها بأن يجعل بينهم وبينها حاجباً حتى لا تخطر بقلوبهم خشية سقوطهم من نظر الملك الحق . وإلى هذا المعنى أشار أبو الحسن الشاذلي في دعائه بقوله : اللهم إنا نسألك التوبة ودوامها ونعوذ بك من المعصية وأسبابها وذكرنا بالخوف منك قبل هجوم خطراتها واحملنا على النجاة منها ومن التفكر في طرائقها
( 134 ) من أكرمك فإنما أكرم فيك جميل ستره فالحمد لمن سترك ليس الحمد لمن أكرمك وشكرك
أي من أكرمك من العباد بعطاء أو محبة فإنما أكرم فيك جميل ستره تعالى أي ستره الجميل عليك فإنه لولا جميل ستره ما نظروا بعين الرضا إليك بل لو نظروا إلى ما فيك من العيوب لاستقذروك ونفروا منك وطرحوك . فلا تعبثك رؤية إكرام الخلق لك لجهلهم بعيبك على حمدهم على ذلك دون حمد ربك فتضع الحمد في غير موضعه فإن الحمد لا ينبغي أن يكون إلا لمن سترك ليس الحمد لمن أكرمك وشكرك . وإنما تحمده من حيث إجراء الخير على يديه فقط لا من حيث إنه المكرم الحقيقي إذ ليس ذلك إلا الله . قال تعالى : { وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنْ اللَّهِ } النحل ( 53)
أهـ [ شرح الحكم العطائية ص104 ].

(4/110)


قوله تعالى [ وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا ... الآية ]
قال صاحب الكشاف (1):
السجود لله تعالى على سبيل العبادة, ولغيره على سبيل التكرمة, كما سجدت الملائكة لآدم, وأبو يوسف وإخوته له. ويجوز أن تختلف الأحوال والأوقات فيه. أهـ.
وقال الإمام الفخر(2):
أجمع المسلمون على أن السجود ليس سجود عباده , لأن سجود العبادة لغير الله كفر, والأمر لا يرد بالكفر.
وقال الخازن (3) : ما نصه:
قيل: هذا الخطاب كان مع الملائكة الذين كانوا سكان الأرض, والأصح أنه خطاب مع جميع الملائكة بدليل قوله [ فسجد الملائكة كلهم أجمعون إلا ....] ( الحجر: 30: 31 )
[فسجدوا] يعني الملائكة وفي هذا السجود قولان: أصحهما: أنه كان لآدم على الحقيقة, ولم يكن فيه وضع الجبهة على الأرض, وإنما هو الانحناء وكان سجود تحية وتعظيم لا سجود عباده, كسجود إخوة يوسف له في قوله [ وخروا له سجداً ] (يوسف: 100 )
فلما جاء الإسلام أبطل ذلك بالسلام, وفي سجود الملائكة لآدم معنى الطاعة لله تعالى, والامتثال لأمره.
والقول الثاني: أن آدم كان كالقبلة, وكان السجود لله تعالى, كما جعلت الكعبة قبلة للصلاة, والصلاة لله تعالى, وفي هذه الآية دليل لمذهب أهل السنة في تفضيل الأنبياء على الملائكة. أهـ.
وقال القاسمي(4) :
اخلتفوا في الملائكة الذين أمروا بالسجود, فقيل : هم الذين كانوا مع إبليس في الأرض .
قال تقي الدين ابن تيمية :
هذا القول ليس من أقوال المسلمين واليهود والنصارى, وقيل : هم جميع الملائكة حتى جبريل وميكائيل, وهذا قول العامة من أهل العلم بالكتاب والسنة .
__________
(1) - الكشاف حـ1 - صـ130
(2) - التفسير الكبير حـ2 - صـ427
(3) - تفسير الخازن حـ1 - صـ41
(4) تفسير القاسمي حـ3 - صـ319 - صـ320

(5/1)


قال ابن تيمية (1): ومن قال خلافه فقد رد القرآن بالكذب والبهتان, لأنه سبحانه قال [ فسجد الملائكة كلهم أجمعون ] ( الحجر : 30 ) وهذا تأكيد للعموم .
وقال ابن عطية (2):
وحكى النقاش عن مقاتل " أن الله إنما أمر الملائكة بالسجود لآدم قبل أن يخلقه, قال: والقرآن يرد على هذا القول.
وقال قوم : سجود الملائكة كان مرتين, والإجماع يرد هذا. أهـ.
وقال أبو السعود(3) :
والالتفات إلى التكلم لإظهار الجلالة, وتربية المهابة مع ما فيه من تأكيد الاستقلال, وكذا إظهار الملائكة في موضع الإضمار. أهـ.
[ إلا إبليس أبى واستكبر ]
قال ابن عطية(4) :
وقوله تعالى : [ إلا إبليس] نصب على الاستثناء المتصل, لأنه من الملائكة على قول الجمهور, وهو ظاهر الآية, وكان خازناً ومالكاً على سماء الدنيا والأرض واسمه عزازيل, قال ابن عباس, وقيل : هو أبو الجن كما أن آدم أبو البشر ولم يكن قط ملكاً, وقيل كان اسمه عزازيل. وقيل : كان من الجن الذين كانوا في الأرض وقاتلتهم الملائكة فسبوه صغيراً (5), وتعبد وخوطب معها, وحكاه الطبري عن ابن مسعود, والاستثناء على هذه الأقوال منقطع, واحتج بعض أصحاب هذا القول بأن الله تعالى قال صفة الملائكة [ لا يعصون الله ما أمرهم و يفعلون ما يؤمرون] ( التحريم : 6 )
ورجح الطبري قول من قال : "إن إبليس كان من الملائكة, وقال : ليس في خلقه من نار ولا في تركيب الشهوة والنسل فيه حين غضب عليه ما يدفع أنه كان من الملائكة.
__________
(1) - مجموع الفتاوي حـ4 – صـ346
(2) - المحرر الوجيز حـ1 – صـ124
(3) - تفسير أبي السعود حـ1 – صـ87
(4) - المحرر الوجيز حـ1 – صـ124 – 125 – بتصرف يسير
(5) - هذا الكلام يفتقر إلى سند صحيح

(5/2)


وقوله عز وجل: [ كان من الجن ففسق عن أمر ربه ] ( الكهف: 50 ) يتخرج على أنه عمل عملهم فكان منهم في هذا, أو على أن الملائكة قد تسمى جناً لاستتارها قال تعالى [ وجعلوا بينه وبين الجنة نسباً ] ( الصافات 158 ) (1)أ.هـ
وقال صاحب الكشاف(2) :
[ إلا إبليس ] استثناء متصل, لأنه كان جنياً واحداً بين أظهر الألوف من الملائكة مغموراً بهم, فغلبوا عليه في قوله [ فسجدوا] ثم استثنى منهم استثناء واحد منهم, و يجوز أن يجعل منقطعاً.
قال القاسمي ما نصه :
قال ابن القيم: الصواب التفصيل في هذه المسألة, وأن القولين في الحقيقة قول واحد, فإن إبليس كان من الملائكة بصورته وليس منهم بمادته و أصله. كان أصله من نار, و أصل الملائكة من نور, فالنافي كونه من الملائكة والمتثبت, لم يتواردا على محل واحد. أهـ .
وذكر الطبرسي أدلة من قال إن إبليس لم يكن من جنس الملائكة, فقال : أحدها : قوله تعالى : [ إلا إبليس كان من الجن] ( الكهف : 50 ) ومن أطلق لفظ الجن لم يجز أن يعنى به إلا الجن المعروف, وكل ما في القرآن من ذكر الجن مع الإنس يدل عليه .
ثانيها: قوله تعالى: [ لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون ] ( التحريم: 6 ) فنفى المعصية عنهم نفياً عاماً.
وثالثها : أن إبليس له نسل و ذرية قال الله تعالى [ أفتتخذونه و ذريته أولياء من دوني وهم لكم عدو ] ( الكهف : 50)
__________
(1) - ظاهر القرآن يدل على أن إبليس كان معهم ولم يكن منهم ، وما ذكر من أدلة كاف ، وأما أصحاب الرأي الآخر فقد تأولوا قوله تعالى " إلا إبليس كان من الجن " بأن الجن يطلق أيضاً على الملائكة ، ولكن على هذا التأويل كيف يستقيم النظم " وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس كان من [ الملائكة ] هذا تكلف ظاهر .
(2) - الكشاف حـ1 – صـ131

(5/3)


ورابعها : قوله تعالى :[ جاعل الملائكة رسلاً ] ( فاطر : 1 ) ولا يجوز على رسل الله الكفر ولا الفسق, ولو جاز عليهم الفسق لجاز عليهم الكذب, وقالوا إن استثناء الله إياه منهم لا يدل على كونه من جملتهم, وإنما استثناه منهم, لأنه كان مأموراً بالسجود معهم, فلما دخل معهم في الأمر جاز إخراجه بالاستثناء منهم, وقيل أيضاً إن الاستثناء هنا منقطع كقوله تعالى [ مالهم به من علم إلا اتباع الظن] ( النساء : 157 ) أهـ.

" أبى واستكبر "

قال فى الفتوحات الإلهية في قوله [ أبى و استكبر ] :
قوله [ تكبر ] أفاد به أن السين للمبالغة لا للطلب, وإنما قدم الإباء عليه و إن كان متأخراً عنه في الترتيب, لأنه من الافعال الظاهرة بخلاف الاستكبار فإنه من أفعال القلوب, واقتصر في سورة ( ص ) على ذكر الاستكبار اكتفاء به, وفي سورة ( الحجر ) على ذكر الإباء حيث قال [ أبى أن يكون مع الساجدين ] ( الحجر 31 ) أهـ.
وقال ابن عطية [ أبى ] معناه امتنع من فعل ما أمر به, [و استكبر ] دخل في الكبرياء و الإباية مقدمة على الاستكبار في ظهورهما عليه, والاستكبار والأنفة مقدمة في معتقده. أهـ.
وقال القرطبي ما نصه في قوله [ أبى و استكبر ]
قال ابن عباس : كان إبليس - لعنه الله - يرى لنفسه أن له فضيلة على الملائكة بما عنده, فلذلك قال الله تعلى إخباراً عنه [ أنا خير منه ] ( ص : 76 ) و لذلك قال الله عز وجل [ ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي أستكبرت أم كنت من العالين ] ( ص : 75 ) أي : استكبرت ولا كبر لك, ولم أتكبر أنا حين خلقته بيدي, والكبر لي, فلذلك قال : [ وكان من الكافرين ]

" وكان من الكافرين"
واختلف هل كان قبل إبليس كافر, أو لا ؟

(5/4)


فقيل : لا و إن إبليس أول من كفر, وقيل : كان قبله قوم كفار وهم الجن وهم الذين كانوا في الأرض, واختلف أيضاً هل كفر إبليس جهلاً أو عناداً على قولين بين أهل السنة, ولا خلاف أنه كان عالماً بالله تعالى قبل كفره, فمن قال : أنه كفر جهلاً قال : إنه سلب العلم عند كفره, ومن قال : كفر عناداً قال : كفر ومعه علمه.
قال ابن عطية, والكفر عناداً مع بقاء العلم مستبعد إلا أنه عندي جائز لا يستحيل مع خذل الله لمن يشاء (1)أهـ.
وقيل [ وكان من الكافرين ] أي : قبل هذا التكبر, و أورد عليه أنه كان قبله عابداً طائعاً, و أجاب عنه الشارح بقوله : في علم الله يعني : أن علم الله الأزلي تعلق بأنه يكفر فيما لا يزال بسبب هذا التكبر(2). أهـ
وفي ابن كثير (3): أي : وصار من الكافرين, بسبب امتناعه, كما قال [ فكان من المغرقين ] ( هود : 43 ) و قال [ فتكونا من الظالمين ] ( الأعراف : 19 ) وقال ابن جزي : [ وكان من الكافرين ] قيل : كفر بإبايته من السجود, وذلك بناء على أن المعصية كفر(4), والأظهر أنه كفر باعتراضه على الله وتسفيهه له في أمره بالسجود لآدم, وليس كفره كفر جحود, لاعترافه بالربوبية(5). أهـ.

وقال ابن عجيبة : { وكان } من جملة { الْكَافِرِينَ }. وكفره باعتراضه على الله وتسفيه حكمه ، لا بامتناعه ؛ إذ مجرد المعصية لا تكفر. والله تعالى أعلم. أهـ [ البحر المديد حـ1 صـ72 ]

[ و إذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم...] الآية
قال الإمام القرطبي(6) – رحمه الله –
" فإن قيل: فإذا لم يكن آدم أفضل من الملائكة, فما الحكمة في الأمر بالسجود له ؟
__________
(1) - تفسير القرطبي حـ1 – صـ210
(2) - الفتوحات الإلهية حـ1 – صـ66 – بتصرف يسير
(3) - تفسير ابن كثير حـ1 – صـ101
(4) - وهذا رأي الخوارج
(5) - التسهيل حـ1 – صـ44
(6) - تفسير القرطبي حـ1 صـ202- بتصرف يسير

(5/5)


الجواب : قيل له : إن الملائكة لما استعظموا بتسبيحهم , وتقديسهم أمرهم بالسجود لغيره, ليريهم استغناءه عنهم وعن عبادتهم.
وقال بعضهم : عيروا آدم و استصغروه, ولم يعرفوا خصائص الصنع به فأمرهم بالسجود له تكريماً.
و يحتمل أن يكون الله تعالى أمرهم بالسجود له معاقبة لهم, وكان على قولهم [ أتجعل فيها من يفسد فيها ] لما قال لهم [ إني جاعل في الأرض خليفة ] وكان علم منهم أنه إن خاطبهم أنهم قائلون هذا فقال لهم [ إني خالق بشراً من طين ] ( ص : 71 ), وجاعله خليفة, فإذا نفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين, والمعنى ليكون ذلك عقوبة لكم في ذلك الوقت على ما أنتم قائلون لي الآن(1). أهـ.

قال الإمام القشيري - رحمه الله - ما نصه :
السجود لا يكون عبادة لعينه ولكن لموافقة أمره سبحانه, فكان سجودهم لآدم عبادة لله, لأنه كان بأمره, وتعظيماً لآدم لأنه أمرهم به تشريفاً لشأنه, فكأن ذلك النوع خضوع له ولكن لا يسمى عبادة, لأن حقيقة العبادة نهاية الخضوع وذلك لا يصح لغيره سبحانه .

ويقال بين أن تقدسه - سبحانه - بجلاله لا بأفعالهم, و أن التجمل بتقديسهم وتسبيحهم عائد إليهم فهو الذي يجل من أجله بإجلاله لا بأفعالهم, و يعز من أعز قدره سبحانه بإعزاره. جل عن إجلال الخلق قدره, و عز عن إعزاز الخلق ذكره.
__________
(1) - هذا الكلام يتضمن اتهاما صريحا للملائكة الذين شهد الله لهم بالعصمة في كثير من آيات الكتاب العزيز ، ويبدوا أن هذه الأقاويل وتلك الأساطير مأخوذة عن الزنادقة الذين دخلوا الإسلام ليضربوه من الداخل ويبثوا في التفسير ما يستطيعون من أخبار وأكاذيب أهل الكتاب فلا يعول على مثل هذا الكلام الساذج السخيف ومثله لا يخفى على ذوى البصائر أهـ .

(5/6)


قوله تعالى : [ فسجدوا إلا إبليس ] أبى بقلبه, و استكبر عن السجود بنفسه, وكان من الكافرين في سابق حكمه و علمه. ولقد كان إبليس مدة في دلال طاعته يختال في صدار موافقتهم سلموا له رتبة التقدم, واعتقدوا فيه استحقاق التخصيص, فصار أمره كما قيل :
وكان سراج الواصل أزهر بيننا فهبت به ريح من البين فانطفأ
كان يحب لنفسه استيجاب الخيرية, و يحسب استحقاق الزلفة والخصوصية :
فبات بخير والدنى مطمئنة… وأصبح يوماً والزمان تقلباً
فلا سالف طاعة نفعه, ولا آنف رجعة رفعه, ولا شفاعة شفيع أدركته, ولا سابق عناية أمسكته. ومن غلبه القضاء لا ينفعه العناء.
ولقد حصلت من آدم هفوة بشرية, فتداركته رحمة أحدية, و أما إبليس فأدركته شقوة أزلية, وغلبته قسمة و قضية. خاب رجاؤه, و ضل عناؤه(1).
________________________________________________

" وقفة مع الإمام القرطبي"

" هل الأنبياء أفضل أو الملائكة ؟ "
هذه مسألة تندرج تحت قول الله تعالى [ و إذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس أبى و استكبر.]

وقد قال الإمام - رحمه الله - ما نصه :
"فقد استدل ابن عباس على فضل البشر, بأن الله تعالى أقسم بحياة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال [ لعمرك إنهم لفي سكرتهم يعمهون ] ( الحجر : 72 ) و أمنه من العذاب بقوله [ ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك و ما تأخر ] ( الفتح : 2 ) وقال للملائكة [ و من يقل منهم إني إله من دونه فذلك نجزيه جهنم ]
( الأنبياء : 29 ) قيل : إنما لم يقسم بحياة الملائكة, كما لم يقسم بحياة نفسه سبحانه, فلم يقل لعمري, و أقسم بالسماء و الأرض, و لم يدل على أنها أرفع قدراً من العرش و الجنان السبع, و أقسم بالتين و الزيتون, و أما قوله سبحانه [ ومن يقل منهم إني إله من دونه ] فهو نظير قوله لنبيه عليه السلام [ لئن أشركت ليحبطن عملك و لتكونن من الخاسرين ] ( الزمر : 65 )
__________
(1) - لطائف الإشارات حـ1 - صـ79

(5/7)


فليس فيه إذاً دلالة – و الله أعلم – انتهى كلامه.
________________________________________________

"تعليق "

من خلال هذه الأجوبة يتبين أن الإمام القرطبي يميل إلى أن الملائكة أفضل من البشر, ولكن يؤخذ عليه أنه قد بالغ في الرد, وكان بوسعه أن يرد هذه الأدلة من دون أن يصطدم مع أصول و ثوابت أجمعت عليها الأمة سلفاً وخلفاً, سنة وشيعة – وهو أن النبي – صلى الله عليه و سلم – أفضل المخلوقات العلوية والسفلية وقد أعطاه الله تعالى هبات ومزايا ما نالها غيره حيث جعل الله طاعة رسوله صلى الله عليه وسلم طاعة لله وبيعته بيعة لله ورضاه في رضا الله فقال تعالى " من يطع الرسول فقد اطاع الله : [ النساء : 80 ] وقال [ إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله ] [ الفتح : 10 ] وقال والله ورسوله أحق أن يرضوه ] [ التوبة : 62 ] وقال له في أحد القبلة [ فلنولينك قبلة ترضاها ] [ البقرة : 144 ] ولم يقل نرضاها وقال له [ ولسوف يعطيك ربك فترضى ] [ الضحى : 5 ] وتأمل يرحمك الله – عندما تكلم القرآن عن جبريل عليه السلام – وهو أفضل الملائكة بالإجماع – اقسم الله تعالى بهذه الأشياء فقال [ فلا اقسم بالخنس الجوار الكنس والليل إذا عسعس والصبح إذا تنفس إنه لقول رسول كريم ] والمراد به هنا جبريل عليه السلام – وانظر – أكرمك الله ومتعك بتذوق آياته وآلائه عندما أراد القرآن أن يدفع عن رسول الله صلى الله عليه وسلم – افتراء المشركين في قولهم عنه إنه ساحر أو كاهن ، وانظر بأي شيء أقسم رب العزة لتبرئة حبيبه ومصفاه قال [ فلا أقسم بما تبصرون وما لا تبصرون إنه لقول رسول كريم] والمراد بالرسول الكريم هنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد قال سادتنا المفسرون في هذه الآية الكريمة لقد أقسم الله تعالى بكل شيء بالليل والنهار بالدنيا والآخرة بالملك والملكوت بالخلق والخالق لتبرئة رسوله صلى الله عليه وسلم .

(5/8)


وأيضا لا ينبغي لعاقل أن ينسى ما حدث ليلة الإسراء والمعراج وخصوصاً عند سدرة المنتهى وإلى أي مكان وصل الحبيب الشفيع ـ صلى الله عليه وسلم ـ يتبين لك ما خص الله به حبيبه ومحتباه بأبي وأمي هو صلى الله عليه وسلم .
واستمع إلى ما ذكره الإمام القيم ابن القيم رحمه الله حيث ذكره فائدة في غاية الحسن في كتابه النفيس بدائع الفوائد - فقال :

"فائدة"

هل حجرة النبي - صلى الله عليه و سلم - أفضل أم الكعبة ؟
قال ابن عقيل: سألني سائل: أيهما أفضل حجرة النبي - صلى الله عليه وسلم - أو الكعبة ، فقلت: إن أردت مجرد الحجرة، فالكعبة أفضل ، وإن أردت وهو فيها، فلا والله، ولا العرش و حملته، ولا جنة عدن، ولا الأفلاك الدائرة، لأن بالحجرة جسداً لو وزن بالكونين لرجح. أهـ
بدائع الفوائد جـ3 ص637 طـ. دار الحديث القاهرة.
و قد ذكر الإمام فخر الدين الرازي- رحمه الله- جـ2 ص445. أن جبريل -عليه السلام- أخذ بركاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين أركبه على البراق ليلة المعراج، وكذلك لما وصل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى بعض المقامات تخلف عنه جبريل - عليه السلام- وقال:" لو دنوت أنملة لأحترقت " أهـ
وهذا الخبر يحتاج إلى سند صحيح . ومقام الرسول - صلى الله عليه وسلم - فوق تصورنا فماذا يقال بعد أن خاطبه الله في القرآن بصيغة التعظيم في أكثر من موضع، ليس هذا مجال ذكرها. وكان بوسع الإمام القرطبي أن يرد هذه الأدلة بأن هذا خاص برسول الله - صلى الله عليه وسلم - على أنه لا يفهم من هذا الكلام أننا نقول بأن الملائكة أفضل من الأنبياء أو من البشر فهذا أمر علمه عند ربي والله أعلم .

لطيفة
ذكر الإمام الرازي- رحمه الله- من أدلة من يرى تفضيل الأنبياء والبشر على الملائكة ما ملخصه: قال تعالى [وإن عليكم لحافظين كراماً كاتبين] فالملائكة حافظون والبشر محفوظون، والمحفوظ أفضل من الحافظ.

(5/9)


وألطف من ذلك قوله: هذا ليس على الإطلاق بل قد يكون الحافظ أشرف من المحفوظ، كالأمير الكبير الموكل على المتهمين من الجند. أهـ التفسير الكبير جـ2 ص 446 بتصرف يسير. والله أعلم وأحكم

قوله تعالى [وقلنا يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة.....] الآية
قال القرطبي [ اسكن أنت و زوجك الجنة] [اسكن] تنبيه على الخروج, لأن السكنى لا تكون ملكاً , ولهذا قال بعض العارفين " السكنى تكون إلى مدة ثم تنقطع, فدخولهما في الجنة كان دخول سكنى لا دخول إقامة (1) "
وقال القشيري(2) : وإنما نبه عاقبة دخول آدم الجنة من ارتكاب ما يوجب خروجه منها حين قال [ إني جاعل في الأرض خليفة] فإذا أخبر أنه جاعل خليفة في الأرض كيف يمكن بقاؤه في الجنة ؟!!
( سؤال ) هل كان دخول آدم الجنة قبل خلق حواء أو أنهما دخلاها معاً ؟
قال الآلوسي(3) : وقال كثيرون ولعلي أقول بقولهم : إنها خلقت قبل الدخول ودخلا معاً, وظاهر الآية الكريمة يشير إليه, وإلا توجه الأمر إلى معدوم, وإن كان في علمه تعالى موجوداً, و أيضاً في تقديم [زوجك] نوع إشارة إليه, وفي المثل : الرفيق قبل الطريق, و أيضاً هي مسكن القلب, والجنة مسكن البدن و من الحكمة تقديم الأول على الثاني. أهـ.
وقال أبو السعود(4) : [ اسكن أنت وزوجك الجنة] اسكن من السكنى و هو اللبث و الإقامة و الاستقرار دون السكون الذي هو ضد الحركة. أهـ.

__________
(1) - تفسير القرطبي حـ1 - صـ211
(2) - لطائف الإشارات حـ1 - صـ80
(3) - روح المعاني للآلوسي ح1ـ - صـ234
(4) - تفسير أبي السعود حـ1 - صـ90
(5) - درة التنزيل صـ7 ، 8

(5/10)


قال الخطيب الإسكافي(5) - رحمه الله -
قوله تعالى : [ وقلنا يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة و كلا منها رغداً حيث شئتما ولا تقربا هذه الشجرة] ( البقرة : 35) و قال في سورة الأعراف [ يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة فكلا من حيث شئتما و لا تقربا هذه الشجرة] ( الأعراف : 19 ) فعطف [كلا] على قوله [اسكن] بالفاء في هذه السورة, وعطفها عليه في سورة البقرة بالواو, والأصل في ذلك أن كل فعل عطف عليه ما يتعلق به تعلق الجواب بالابتداء , وكان الأول مع الثاني بمعنى الشرط والجزاء, فالأصل فيه عطف الثاني على الأول بالفاء دون الواو, كقوله تعالى : [و إذ قلنا ادخلوا هذه القرية فكلوا منها حيث شئتم رغداً] ( البقرة : 58 ) فعطف [كلوا] على [ادخلوا] بالفاء, لما كان وجود الأكل منها متعلقاً بدخولها, فكأنه قال : إن دخلتموها أكلتم منها فالدخول موصل إلى الأكل, والأكل متعلق وجوده بوجوده : يبين ذلك قوله تعالى في مثل هذه الآية من سورة الأعراف :[ وإذ قيل لهم اسكنوا هذه القرية وكلوا منها حيث شئتم و قولوا حطة ] (الأعراف : 161 ) فعطف [كلوا] على قوله : [اسكنوا] بالواو دون الفاء, لأن [اسكنوا] من السكنى, وهي المقام مع طول لبث والأكل لا يختص وجوده بوجوده, لأن من يدخل بستاناً قد يأكل منه, وإن كان مجتازاً, فلما لم يتعلق الثاني بالأول تعلق الجواب بالإبتداء وجب العطف بالواو دون الفاء, وعلى هذا قوله تعالى في الآية التي بدأت بذكرها :

(5/11)


[ وقلنا يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة و كلا ] و بقى أن نبين المراد بالفاء في قوله تعالى : [ فكلا من حيث شئتما ] من سورة الأعراف مع عطفه على قوله : [اسكن] وهو أن السكن يقال لمن دخل مكاناً, ويراد به: الزم المكان الذي دخلته, ولا تنتقل عنه, ويقال أيضاً لمن لم يدخله اسكن هذا المكان يعني : ادخله واسكنه كما تقوله لمن تعرض عليه داراً ينزلها سكنى, فتقول : اسكن هذه الدار, واصنع ما شئت فيها من الصناعات, معناه : ادخلها ساكناً لها, فافعل فيها كذا و كذا, فعلى هذه الوجه قوله تعالى في سورة الأعراف :
[ ويا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة فكلا ] بالفاء الحمل على هذا المعنى في هذه الآية أولى , لأنه عز من قائل لما قال لإبليس : [اخرج منها مذءوماً مدحوراً ] ( الأعراف : 18 ) فكأنه قال لآدم : [اسكن أنت و زوجك الجنة] فقال:[اسكن] يعني:ادخل ساكناً ليوافق الدخول الخروج, ويكون أحد الخطابين لهما قبل الدخول, والآخر بعده, مبالغة في الإعذار و توكيداً للإنذار, وتحقيقاً لمعنى قوله عز وجل:[ ولا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين]. أ.هـ.

[ اسكن أنت وزوجك الجنة ]
هل الجنة التي أسكنها آدم - عليه السلام - كانت سماوية أو أرضية؟
قال ابن جزي(1) : [اسكن أنت وزوجك الجنة]
الجنة: هي جنة الخلد عند الجماعة, وعند أهل السنة, خلافاً لمن قال هي غيرها. ا.هـ .
وقال ابن عطية(2) : و ذهب من لم يجعلها جنة الخلد إلى أن من دخل جنة الخلد لا يخرج منها, وهذا لا يمتنع إلا أن السمع ورد أن من دخلها مثاباً لا يخرج منها, وأما من دخلها إبتداءًا كآدم فغير مستحيل, ولا ورد سمع بأنه لا يخرج منها. ا.هـ .

وقال الإمام ابن القيم - في مفتاح دار السعادة جـ1 ص 28 بعدما ذكر أدلة الفريقين رد على أدلة من قال إنها جنة أرضية فقال ما ملخصه:
__________
(1) - التسهيل حـ1 - صـ44
(2) - المحرر الوجيز حـ1 صـ126

(5/12)


وأما قولكم إن إبليس كيف وسوس لآدم بعد إهباطه من الجنة, ومحال أن يصعد إليها بعد قوله تعالى : [اهبطا] فجوابه من وجوه : أحدها أن أخرج منها ومنع من دخولها على وجه السكنى والكرامة , واتخاذها داراً فمن أين لكم أنه منع من دخولها على وجه الابتلاء والامتحان لآدم وزوجه, ويكون هذا دخولاً عارضاً(1). وأجاب عن قولهم أن الجنة تطلق على البستان كما تطلق على جنة الخلد. فقال : وما إن أريد به جنة غيرها فإنها تجئ منكرة كقوله [ جنتين من أعناب] (الكهف : 32 ) أو مقيدة بالإضافة كقوله [ ولولا إذ دخلت جنتك ] (الكهف : 39 ) أو مقيدة من السياق بما يدل على أنها في الأرض بما يدل على أنها جنة في الأرض كقوله [ إنا بلوناهم كما بلونا أصحاب الجنة إذ أقسموا ليصرمنها مصبحين ] ( القلم : 17) فهذا السياق والتقييد يدل على أنها بستان في الأرض(2).أهـ.

______________________________________________
تعليق

ظاهر القرآن يدل على أنها جنة سماوية ، ويدل على ذلك كثير من الأدلة منها الدنيا لا تعرف جنة بهذه الأوصاف " إن لك ألا تجوع فيها ولا تعرى وأنك لا تظمأ فيها ولا تضحى " .
ومنها قوله تعالى : " فأخرجهما مما كانا فيه " والمراد من ذلك التفخيم ، ولم يعبر عن ذلك بالجنة ، فلم يقل : فأخرجهما من الجنة ، بل قال " مما كانا فيه " فلو كانت جنة في الأرض أي دنيوية لما عظمها الله وأخبر عنها بما يدل على التعظيم والإجلال ، لأن الدنيا لا تزن عند الله جناح بعوضة ، فكم تزن الجنة الأرضية منها .
__________
(1) - عدو الله إبليس لا يحتاج إلى دخول الجنة للوسوسة ، فهو كما صح يجري من ابن آدم مجرى الدم في العروق .
(2) - مفتاح دار السعادة حـ1 – صـ27 – 28 – بتصرف يسير

(5/13)


وأما ما قيل من أن جنة الخلد لا يخرج منها من دخلها " وما هم منها بمخرجين " : وما شابه ذلك ، فهذا كله مقيد بيوم المزيد إن شاء الله .بدليل أن النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ دخل الجنة ليلة المعراج ومع ذلك خرج منها وقد ورد فى البخارى [3674] قوله صلى الله عليه وسلم
[ثم انطلق بي حتى انتهى بي إلى سدرة المنتهى وغشيها ألوان لا أدري ما هي ، ثم أدخلت الجنة فإذا فيها حبايل اللؤلؤ وإذا ترابها المسك]
وأخرجه مسلم في [الإيمان باب الإسراء برسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ رقم 163 ] بلفظ{ثم أدخلت الجنة فإذا فيها جنابذ اللؤلؤ وإذا ترابها المسك}

ومن ذلك أيضا ما أخرجه مسلم من طريق مسروق قال سألنا عبد الله بن مسعود عن هذه الآية [ ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً بل أحياء عند ربهم يرزقون ] قال أما إنا قد سألنا عن ذلك فقال : أرواحهم في جوف طير خضر لها قناديل معلقة بالعرش تسرح من الجنة حيث شاءت ثم تأوى إلى تلك القناديل فأطلع إليهم ربهم إطلاعة فقال : هل تشتهون شيئاً قالوا أي شيء تشتهي ونحن نسرح من الجنة حيث شئنا ففعل ذلك بهم ثلاث مرات فلما رأوا أنهم لن يتركوا من أن يسألوا قالوا : يارب نريد أن ترد أرواحنا في أجسامنا حتى نقتل في سبيلك مرة أخرى فلما رأى أن ليس لهم حاجة تركوا . أهـ أخرجه مسلم برقم [ 1887 ] .
ومن المعلوم أن الشهداء سيخرجون من الجنة يوم القيامة للعرض على الله وبهذا يتبين أن قوله تعالى عن أهل الجنة [ وما هم منها بمخرجين ] خاص بيوم القيامة والله أعلم .

(5/14)


قال الإمام النووي رحمه الله – في شرح الحديث السابق ما نصه " قوله صلى الله عليه وسلم في الشهداء أرواحهم في جوف طير خضر لها قناديل معلقة بالعرش تسرح من الجنة حيث شاءت ثم تأوى إلى تلك القناديل : فيه بيان أن الجنة مخلوقة قوماً وهو مذهب أهل السنة وهي التي أهبط منها آدم وهي التي ينعم فيها المؤمنون في الآخرة هذا إجماع أهل السنة وقالت المعتزلة وطائفة من المبتدعة أيضاً وغيرهم أنها ليست قوماً وغنما توجد بعد البعث في القيامة قالوا والتي أخرج منها آدم غيرها ، وظواهر القرآن والسنة تدل لمذهب أهل الحق [ صحيح مسلم بشرح النووي حـ13 صـ 31 ط دار إحياء التراث العربي .والله أعلم بأسرار كتابه).

قال القرطبي - رحمه الله - :
قوله تعالى: [ الجنة ] الجنة: البستان, وقد تقدم القول فيها. ولا التفات لما ذهبت إليك المعتزلة والقدرية من أنه لم يكن في جنة الخلد و إنما كان في جنة بأرض عدن, و استدلوا على بدعتهم بأنها لو كانت جنة الخلد لما وصل إليها إبليس, فإن الله يقول [ لا لغو فيها ولا تأثيم ] ( الطور : 23 ) وقال : [ لا يسمعون فيها لغواً ولا كذاباً ] ( النبأ : 35 ) و قال : [ لا يسمعون فيها لغواً ولا تأثيماً إلا قيلاً سلاماً سلاماً ] ( الواقعة : 25-26 ). وأنه لا يخرج منها أهلها لقوله : [ وما هم منها بمخرجين ] ( الحجر : 48 ). وأيضاً فإن جنة الخلد هي دار القدس , قدست عن الخطايا والمعاصي تطهيراً لها. وقد لغا فيها إبليس و كذب , و أخرج منها آدم وحواء بمعصيتهما.

(5/15)


قالوا: وكيف يجوز على آدم مع مكانه من الله وكمال عقله قال:أن يطلب شجرة الخلد وهو في دار الخلد والملك الذي لا يبلى ؟ فالجواب: أن الله تعالى عرف الجنة بالألف واللام, ومن قال: أسأل الله الجنة, لم يفهم منه في تعارف الخلق إلا طلب جنة الخلد. ولا يستحيل في العقل دخول إبليس الجنة لتغرير آدم. وقد لقي موسى آدم عليهما السلام فقال له موسى : أنت أشقيت ذريتك وأخرجتهم من الجنة, فأدخل الألف و اللام ليدل على أنها جنة الخلد المعروفة, فلم ينكر ذلك آدم, ولو كانت غيرها لرد على موسى, فلما سكت آدم على قرره موسى صح أن الدار التي أخرجهم الله عز وجل منها بخلاف الدار التي أخرجوا إليها. و أما ما احتجوا به من الآي فذلك إنما جعله الله فيها بعد دخول أهلها فيها يوم القيامة, ولا يمتنع أن تكون دار الخلد لمن أراد الله تخليده فيها وقد يخرج منها من قضي عليه بالفناء. وقد أجمع أهل التأويل على أن الملائكة يدخلون الجنة على أهل الجنة و يخرجون منها, وقد كان مفاتيحها بيد إبليس ثم انتزعت منه بعد المعصية(1), وقد دخلها النبي – صلى الله عليه و سلم – ليلة الإسراء ثم خرج منها و أخبر بما فيها و أنها هي جنة الخلد حقاً. و أما قولهم : إن الجنة دار القدس وقد طهرها الله تعالى من الخطايا فجهل منهم. وذلك أن الله تعالى أمر بني إسرائيل أن يدخلوا الأرض المقدسة وهي الشام, و أجمع أهل الشرائع على أن الله تعالى قدسها وقد شوهد فيها المعاصي والكفر والكذب ولم يكن تقديسها مما يمنع فيها المعاصي, وكذلك دار القدس. قال أبو الحسن بن بطال : وقد حكى بعض المشايخ أن أهل السنة مجمعون على أن جنة الخلد هي التي أهبط منها آدم عليه السلام, فلا معنى لقول من خالفهم. وقولهم : كيف يجوز على آدم في كمال عقله أن يطلب شجرة الخلد وهو في دار الخلد, فيعكس عليهم ويقال : كيف يجوز على آدم وهو في كمال عقله أن يطلب شجرة الخلد في دار الفناء !
__________
(1) - هذا يفتقر على نقل صحيح

(5/16)


هذا ما لا يجوز على من له أدنى مسكة من عقل , فكيف بآدم الذي هو أرجح الخلق عقلاً(1). ا.هـ.

قال صاحب خواتم الحكم ما نصه :
قيل : أخرج آدم من الجنة, لأنها ليست بدار توبة وتحصيل محبة و معرفة, وليست محل مشهد التجليات الجلالية والقهرية التي هي نصف المعارف الإلهية, فلو بقى آدم في الجنة لفاته نصف المكان, وأسرار الخلافة الكلية الأسمائية, فأراد, سبحانه, أن يأتي الدنيا فيتوب, ويلبس خلعة الخلافة بتحصيل الكمالات الكلية, ويتحقق بمظاهر أسماء الجمال والجلال, ثم يرد إلى عالم الجنان كاملاً مكملاً بأنواع الفضائل والكمالات.
قيل : قد قدر الله, تعالى, أن يخرج من صلبه سيد المرسلين, وإخوانه من الأنبياء والأولياء والمؤمنين, وخمر في طينته تراب كل مؤمن وعدو, فأخرجه إلى الدنيا [ ليميز الله الخبيث من الطيب ] (الأنفال : 37 ), لأن الجنة ليست بدار توالد وتكليف, فخرج إلى الدنيا ليخرج من ظهره, الذين لا نصيب لهم في الجنة, فكان هبوطه من الجنة, هبوط تشريف و امتحان وتمييز, بين قبضتي السعادة والشقاوة, لأن ذلك من مقتضيات الخلافة الإلهية, فمن وقف على سر الخلافة, انحلت له عقود المعضلات, ورموز المشكلات, والله الولي الفتاح(2) .

" ولا تقربا هذه الشجرة "

أقوال المفسرين فى المراد من الشجرة
قال الإمام السمرقندي(3) - رحمه الله - ما نصه :
ويقال: إنما كان النهي عن الأكل من الشجرة للمحنة, لأن الدنيا دار محنة وقد خلق من الأرض ليسكن فيها, فامتحن بذلك, كما امتحن أولاده في الدنيا بالحلال والحرام. ا.هـ
وقال ابن جزي(4) : [ ولا تقربا] النهي عن القرب يقتضي النهي عن الأكل بطريق الأولى وإنما نهي عن القرب سداً للذريعة, فهذا أصل في سد الذرائع. أ.هـ
__________
(1) - تفسير القرطبي حـ1 صـ213 : 214
(2) - خواتم الحكم حـ1 - صـ369 ، 370
(3) - بحر العلوم حـ1 - صـ71
(4) - التسهيل حـ1 - صـ44

(5/17)


وقال ابن عطية (1): ولا تقربا هذه الشجرة] معناه لا تقربا بأكل, لأن الإباحة فيه وقعت.
قال بعض الحذاق : إن الله لما أراد النهي عن أكل الشجرة نهى عنه بلفظة تقتضي الأكل وما يدعو إليه وهو القرب. ا.هـ

"واختلف فى المراد بالشجرة"
قال ابن جزي(2): ( الشجرة ) قيل هي شجرة العنب, وقيل شجرة التين, وقيل الحنطة وذلك مفتقر إلى نقل صحيح, واللفظ مبهم. ا.هـ.
وقال الخازن (3): [ ولا تقربا هذه الشجرة ] يعني الأكل, قيل إنما وقع النهي عن جنس الشجرة, وقيل عن شجرة مخصوصة, قال ابن عباس : هي السنبلة, وقيل الكرمة, وقيل شجرة التين, وقيل شجرة العلم, وقيل الكافور, وقيل ليس في ظاهر الكلام ما يدل على التبيين إذ لا حاجة إليه, لأنه ليس المقصود تعرف عين تلك الشجرة وما لا يكون مقصوداً لا يجب بيانه. ا.هـ

" ولا تقربا هذه الشجرة "
ونقل الطبري (4) في تفسيره عن يعقوب بن عتبه أنه حدث أنها الشجرة التي تحنك بها الملائكة للخلد(5) .
وقال صاحب خواتم الحكم جـ 1 ص 216-217
__________
(1) - المحرر الوجيز – حـ1 – صـ127
(2) - التسهيل حـ1 –صـ44
(3) - تفسير الخازن حـ1 – صـ42
(4) - تفسير الطبري حـ1 – صـ221
(5) - لا شك أن هذا الكلام لا يقره النقل الصحيح ، وهو من الإسرائيليات المسمومة بل السامة التي يراد من ورائها تزوير المعاني وإفساد الدين ، فكيف تأكل منها الملائكة للخلد ، وهل هم مخلدون إلا إذا أراد الله لهم ذلك ، وكيف يأكلون والمنقول خلاف ذلك ، وهذا خبر قاله وهب بن منبه من أحبار اليهود الذين أسلموا والله أعلم بما تكنه صدورهم ، ولما سأل عن ذلك كيف تأكل الملائكة ؟، سارع إلى الهروب من السؤال بقوله : إن الله يفعل ما يشاء . أ هـ

(5/18)


المراد من الشجرة, شجرة العلم والتوحيد(1) , لأن كمال العلم والتوحيد, يقتضي مقام الخلافة, وهو الخروج إلى الدنيا, ليتحقق بمظاهر الجمال والجلال ويحصل له كمال العرفان, وأسماء الجلال والجمال, كالتواب والغفور والقهار والستار, وعبرت بالشجرة, لأن فيها الغصون, وللعلم والتوحيد شئون, ولها أثمار و أزهار ولها أسرار و أنوار.

وعن بعض الصوفية : أنها شجرة العلم يعني حصل له العلم, من حضرة الأسماء, أنه يخرج إلى الدنيا لكمال الخلافة الإنسانية, وتكميل مراتبها, فوقع في السبب الموجب للخروج من عالم الجنة إلى عالم الخلافة, الذي هو أكمل العوالم الكونية و حضراتها. ا.هـ
وذكر ابن الجوزي في زاد المسير جـ1 ص66 سبعة أقوال في المراد من الشجرة ذكر منها السنبلة , والكرم, التين, النخلة, شجرة العلم, الكافور, شجرة الخلد ونسب هذا القول الأخير لوهب بن منبه(2) . ا.هـ
وقال الآلوسي: الكلام عن الشجرة زاد .
منها : شجرة الحنظل, وقيل شجرة المحبة, وقيل شجرة الحنطة, وقيل شجرة الطبيعة والهوى .
ثم قال : ولا ثمرة في تعيين هذه الشجرة (3) . ا.هـ
__________
(1) كيف ينهي عنها إذا كانت شجرة العلم ، والتوحيد ، وقد فضل الله آدم على الملائكة بالعلم قبل دخوله الجنة – إن هذا لقول عجيب .
(2) - سبحان الله وكأنه يصدق إبليس في دعواه " هل أدلك على شجرة الخلد " هذه أقوال يجب أن يطهر منها كثير من التفاسير – والله أعلم .
(3) - روح المعاني حـ1 – صـ

(5/19)


وقال ابن عطية بعد أن ذكر أقوال المفسرين في الشجرة ما نصه : وليس في شئ من هذا التعيين ما يعضده خبر, وإنما الصواب أن يعتقد أن الله تعالى نهى آدم عن شجرة(1) فخالف هو إليها ، وعصى في الأكل منها ، وغي حظره تعالى على آدم ما يدل على أن سكناه في الجنة لا يدوم, لأن المخلد لا يحظر عليه شئ, ولا يؤمر ولا ينهى(2) .

وقال فى نظم الدرر :
ولا داعي لبيان نوع الشجرة ؛ لأن السياق لبيان شؤم المخالفة وبركة التوبة ، لا لتعيين المنهي عنه ، فليس بيانه حينئذ من الحكمة. أهـ [ نظم الدرر للبقاعى حـ1 صـ85 ]

__________
(1) - المحرر الوجيز حـ1 - صـ128
(2) - بعد أن تكلم المفسرون - رحمهم الله - في المراد من الشجرة ، فأكثرهم في النهاية مطبقون على أن تعيينها لا يعلمه إلا الله . قال الإمام ابن كثير حـ1 صـ 103 ، والصواب في ذلك أن يقال إن الله تعالى نهى آدم وزوجته عن أكل شجرة بعينها من أشجار الجنة دون سائر أشجارها فأكلا منها ، ولا علم عندنا بأي شجرة كانت على التعيين ، لأن الله لم يضع لعبادة دليلاً على ذلك في القرآن ولا من السنة الصحيحة وقد قيل : كانت شجرة البر ، وقبل : كانت شجرة العنب ، وقيل : كانت شجرة التين وجائز أن تكون واحدة منها ، وذلك علم إذا علم لم ينفع العالم به علمه ، وإن جهله جاهل لم يضره جهله به والله أعلم ، وكذلك رجح الإمام فخر الدين الرازي في تفسيره وغيره ، وهو الصواب ، انتهى كلامه .

(5/20)


" فتكونا من الظالمين "
قال الخازن (1): [ فتكونا من الظالمين ] يعني إن أكلتما من هذه الشجرة ظلمتما أنفسكما فمن جوز ارتكاب الذنوب على الأنبياء قال ظلم نفسه بالمعصية, وأصل الظلم وضع الشئ في غير موضعه, ومن لم يجوز ذلك على الأنبياء حمل الظلم على أنه فعل ما كان الأولى أن لا يفعله, وقيل يحمل على أنه فعل قبل النبوة , فإن قلت : هل يجوز وصف الأنبياء بالظلم, أو بظلم أنفسهم قلت : لا يجوز أن يطلق عليهم ذلك لما فيه من الذم. ا.هـ

" فتكونا من الظالمين "
وقال صاحب الميزان :
قوله تعالى [ فتكونا من الظالمين] من الظلم لا من الظلمة على ما احتمل بعضهم وقد اعترفا بظلمهما حيث قالا على ما حكاه الله تعالى عنهما [ ربنا ظلمنا أنفسنا و إن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين ] (الأعراف : 23 ) ومن هنا يظهر أن وبال هذا الظلم إنما كان هو الوقوع في تعب حياة هذه الأرض من جوع وعطش, وعراء وعناء وعلى هذا, فالظلم منهما إنما هو ظلمهما لأنفسهما, لا بمعنى المعصية المصطلحة(2) , والظلم على سبحانه, ومن هنا يظهر أيضاً أن هذا النهي أعني : قوله : [ولا تقربا] إنما كان نهياً تنزيهياً إرشادياً يرشد به إلى ما فيه خير المكلف وصلاحه في مقام النصح لا نهياً مولوياً.
فهما إنما ظلما أنفسهما في ترك الجنة على أن جزاء المخالفة للنهي المولوي التكليفي يتبدل بالتوبة إذا قبلت, ولم يتبدل في موردهما, فإنهما تابا وقبلت توبتهما, ولم يرجعا إلى ما كانا من الجنة(3) , ولولا أن التكليف إرشادي ليس له إلا التبعة التكوينية دون التشريعية لاستلزم قبول التوبة رجوعهما إلى ما كانا فيه من مقام القرب. أ.هـ

__________
(1) - تفسير الخازن حـ- صـ42
(2) الميزان في تفسير القرآن حـ1 - صـ130 - 131
(3) هذه مسألة في غاية الأهمية ورحم الله صاحب الميزان ، فلم يتنبه لهذه المسألة كثير من المفسرين - عليهم سحائب الرحمة والرضوان - من الرحيم المنان .

(5/21)


ما هو ذنب آدم ؟
المكانة التي ذكرها القرآن لآدم سامية ورفيعة ، فهو خليفة الله في الأرض ومعلم الملائكة ، وعلى درجة كبيرة من التقوى والمعرفة ، وهو الذي سجدت له ملائكة الله المقربين.
ومن المؤكد أن آدم هذا لا يصدر عنه ذنب ، إضافة إلى أنه كان نبيّاً ، والنّبي معصوم.
من هنا يطرح سؤال عن نوع العمل الذي صدر عن آدم. وتوجد لذلك ثلاثة تفسيرات يكمل بعضها الآخر.
1 ـ ما ارتكبه آدم كان «تركاً للأولى» أو بعبارة أخرى كان «ذنباً نسبياً» ، ولم يكن «ذنباً مطلقاً».
الذنب المطلق ، وهو الذنب الذي يستحق مرتكبه العقاب أياً كان ، مثل الشرك والكفر والظلم والعدوان ، والذنب النسبي هو الذي لا يليق بمرتكبه أن يفعله لعلوّ منزلة ذلك الشخص ، وإن كان ارتكابه مباحاً ، بل مستحباً أحياناً من قبل الأفراد العاديين. على سبيل المثال ، نحن نؤدي الصلاة بحضور القلب تارة ، وبعدم حضور القلب تارة أخرى ، وهذه الصلاة تتناسب وشأننا ، لكن مثل هذه الصلاة لا تليق بأفراد عظام مثل رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم). صلاة الرّسول ينبغي أن تكون بأجمعها اتصالا عميقاً بالله تعالى ، وإن فعل الرّسول غير ذلك فلا يعني أنه ارتكب محرّما ً، بل يعني أنه ترك الأولى.
وآدم كان يليق به أن لا يأكل من تلك الشجرة ، وإن كان الأكل منها غير محرّم بل «مكروهاً».
2 ـ نهي الله لآدم إرشادي ، مثل قول الطبيب : لا تأكل الطعام الفلاني فتمرض. والله سبحانه قال لآدم : لا تقرب هذه الشجرة فتخرج من الجنّة ، وآدم في أكله من الشجرة خالف نهياً إرشادياً.
3 ـ الجنّة التي مكث فيها آدم لم تكن محلا للتكليف ، بل كانت دورة اختبارية وتمهيدية لآدم كي يهبط بعدها إلى الأرض. وكان النهي ذا طابع اختياري. أه [الأمثل للشيرازى حـ1صـ51].

" اسكن أنت وزوجك الجنة .... ولا تقربا هذه الشجرة "
قال الإمام القشيري (1) :
__________
(1) - لطائف الإشارات حـ1 - صـ80

(5/22)


اسكنه الجنة, ولكن أثبت مع دخوله شجرة المحنة, ولولا سابق التقدير لكان يبدل تلك الشجرة بالنضارة ذبولاً, وبالخضرة يبساً, وبالوجود فقداً, وكانت لا تصل يد آدم إلى الأوراق ليخصفها على نفسه – ويقع منه ما يقع في شأنه كل ذلك التشويش ولكن بدا من التقدير ما سبق به الحكم.
ولا مكان أفضل من الجنة, ولا بشراً أكيس من آدم, ولا ناصح يقابل قولة إشارة الحق عليه, ولا غريبة منه قبل ارتكابه ما ارتكب, ولاعزيمة أشد من عزيمته – ولكن القدرة لا تكابر, والحكم لا يعارض(1). ا.هـ

وقال صاحب الحكم
"حكاية لطيفة "
تذاكر بعض الأولياء, عند أبي مدين, أسرار الشجرة المنهي عنها, فكل قد تكلم على قدر مشربه وذوقه, والشيخ ساكت, فرفع رأسه وقال : لو كان يعلم أبونا آدم – عليه السلام – أن حبيب الله وخاتم الأنبياء – عليه السلام – يجئ من صلبه, لكان يتناول من الشجرة في أول دخوله, بل يأكل عرقها, لكي يخرج من الجنة سريعاً, لأجل ظهور الأحمدية من نسله(2). أ.هـ

قوله تعالى [ فأزلهما الشيطان عنها]
وقال الإمام الفخر (3)– رحمه الله – ما نصه:
اختلفوا في أنه كيف تمكن إبليس من وسوسة آدم – عليه السلام – مع أن إبليس كان خارج الجنة وآدم كان في الجنة, وذكر وجوهاً.
__________
(1) - لطائف الإشارات حـ1 صـ80 .
(2) - خواتم الحكم حـ1 صـ216 وهذا كما سبق من ملح التفسير وليس من أصله والله أعلم .
(3) - التفسير الكبير حـ2 – صـ462

(5/23)


أحدها: قول القصاص وهو الذي رووه عن وهب بن منبه اليماني والسري عن ابن عباس – رضي الله عنهما – وغيره: أنه لما أراد إبليس أن يدخل الجنة منعته الخزنة فأتى الحية وهي دابة لها أربع قوائم كأنها البختية, وهي كأحسن الدواب بعدما عرض نفسه على سائر الحيوانات فما قبله واحد منها, فابتلعته الحية وأدخلته الجنة خفية من الخزنة(1) , فلما دخلت الحية الجنة خرج إبليس من فمها و اشتغل بالوسوسة, فلا جرم لعنت الحية وسقطت قوائمها, وصارت تمشي على بطنها, وجعل رزقها في التراب, وصارت عدواً لبني آدم, واعلم أن هذا و أمثاله مما يجب ألا يلتفت إليه, لأن إبليس لو قدر على الدخول في فم الحية فلم لم يقدر على أن يجعل نفسه حية ثم يدخل الجنة, ولأنه لما فعل ذلك بالحية فلم عوقبت الحية مع أنها ليست بعاقلة ولا مكلفة ؟!! .
وثانيها: أن إبليس دخل الجنة : في صورة دابة وهذا القول أقل فساداً من الأول .
ثالثها: قال بعض أهل الأصول : أن آدم وحواء – عليهما السلام – لعلهما كانا يخرجان إلى باب الجنة, و إبليس كان يقرب الباب ويوسوس إليهما(2) .
__________
(1) - مقام الجنة أرفع من أن يتطرق إليه نظام السرقة والاختلاس ، فإن غفل خزنة الجنة ، فكيف يغفل رب الجنة – هذه إسرائيليات منكرة .
(2) - لا يخفي ما في هذا الوجه من البعد والتكلف – مع أنه لا دليل عليه ، والواجب في مثل هذه الأمور ألا تقال من جهة الرأي لأنها أمور غيبية تحتاج إلى وحي من كتاب أو سنة ، فإذا سكت الوحي عن البيان وجب علينا أن نسكت .

(5/24)


ورابعها: وهو قول الحسن: أن إبليس كان في الأرض وأوصل الوسوسة إليهما في الجنة (1). قال بعضهما هذا بعيد, لأن الوسوسة كلام خفي, والكلام الخفي لا يمكن إيصاله من الأرض إلى السماء.
__________
(1) - هذا قول قوي ووجيه – وخصوصاً وقد مكنه الله تعالى من ذلك ، كما مكن أهل النار من سماع كلام أهل الجنة في قوله تعالى " ونادى أصحاب الجنة أصحاب النار أن قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقاً .. الآية " [ الأعراف :44] ومكن أهل الجنة من سماع كلام أهل النار واستغاثتهم في قوله تعالى " ونادى أصحاب النار أصحاب الجنة أن أفيضوا علينا من الماء " الآية [ الأعراف :50 ] ومعلوم أن الجنة فوق السماء السابعة ، والنار تحت الأرض السابعة ، فمن أقدرهم ومكنهم من سماع ومخاطبة بعضهم البعض قادر على أن يفعل هذا مع اللعين الطريد إبليس – على وجه الامتحان والابتلاء لآدم وحواء – عليهما السلام من الله – وما العجب في ذلك إن كان الله قد مكنه وأقدره على ذلك وهو يجري من ابن آدم مجرى الدم في العروق وأيضاً من المعلوم أن إبليس يولى هارباً عند سماع صوت الأذان والإقامة ، فكيف يتمكن من الوسوسة لمن بداخل المسجد أثناء الأذان والإقامة . وإذا كان البشر قد تمكنوا من صناعة الهاتف المتحرك وهو يتكلم حتى تحت أنفاق الأرض ، فكيف يستبعدون ذلك مع أن الله الذي مكنه وأقدره علي ذلك .

(5/25)


واختلفوا من وجه أخر وهو أن إبليس هل باشر خطابهما أو يقال إنه أوصل الوسوسة إليهما على لسان بعض أتباعه. حجة القول الأول : [وقاسمهما إني لكما لمن الناصحين] ( الأعراف : 21 ) وذلك يقتضي المشافهة, وكذا قوله : [فدلاهما بغرور] ( الأعراف : 22 ) وحجة القول الثاني أن آدم وحواء – عليهما السلام – كانا يعرفانه ويعرفان ما عنده من الحسد والعداوة, فيستحيل في العادة أن يقبلا قوله وأن يلتفتا إليه فلا بد وأن يكون المباشر للوسوسة من بعض أتباع إبليس (1).
قال القرطبي : قوله تعالى [ فأزلهما الشيطان عنها فأخرجهما مما كان كانا فيه] قرأ الجماعة [ فأزلهما] بغير ألف, من التنحية أي نحاهما يقال: أزلته فزال, قال ابن كيسان : فأزلهما من الزوال, أي صرفهما عما كانا عليه من الطاعة إلى المعصية (2) . ا.هـ
وقال في التسهيل(3) : [فأزلهما الشيطان عنها] الضمير في (عنها) عائد على الجنة أو على الشجرة, فتكون (عن) سببيه على هذا.
فائدة : اختلفوا في أكل آدم من الشجرة, فالأظهر أنه كان على وجه النسيان لقوله تعالى: [ فنسي ولم نجد له عزماً ]( طه : 115) وقيل سكر من خمر الجنة, فحينئذ أكل منها, وهذا باطل لأن خمر الجنة لا تسكر وقيل : أكل عمداً(4) , وهي معصية صغرى, وهذا عند من أجاز على الأنبياء الصغائر وقيل: أول آدم أن النهي كان عن شجرة معينة, فأكل من غيرها من جنسها وقيل : لما حلف له إبليس صدقه, لأنه ظن أنه لا يحلف أحد كذباً. ا.هـ
__________
(1) - هذا الكلام يتعارض مع ظاهر القرآن ، والصحيح كما أخبر القرآن في أكثر من موضع أن من باشر الوسوسة هو إبليس بنفسه – عليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين .
(2) - تفسير القرطبي حـ1 – صـ219
(3) - التسهيل حـ1 – صـ44 – بتصرف يسير
(4) - هذا القول يرده قوله تعالى " ولقد عهدنا إلى آدم من قبل فنسى " .

(5/26)


وقال القاسمي (1) ما نصه : "وقال شيخ الإسلام تقي الدين ابن تيمية وجماعة من المتأخرين الصواب أن آدم - عليه السلام - لما قاسمه عدو الله أنه ناصح, وأكد كلامه بأنواع من التأكيدات: أحدها : القسم , والثاني : الإتيان بجملة اسميه لا فعلية والثالث : تصديرها بأداة التأكيد, الرابع : الإتيان بلام التأكيد في الخبر الخامس : الإتيان به اسم فاعل لا فعلاً دالاً على الحدث, السادس : تقديم المعمول على العامل فيه, ولم يظن آدم أن أحداً يحلف بالله كاذباً يمين غموس, فظن صدقه, وأنه إن أكل منها لم يخرج من الجنة, ورأى أن الأكل, وإن كان فيه مفسدة فمصلحة الخلود أرجح, ولعله يتأتى له استدراك مفسدة اليمين في أثناء ذلك باعتذار أو توبة, كما تجد هذا التأويل في نفس كل مؤمن أقدم على معصية(2) . ا.هـ
وذكر السمرقندي(3) ما حاصله: أن آدم - عليه السلام - اتبع حواء في المعصية والأكل من الشجرة عن تعمد, لأنه كان يحبها- إلى أن قال لها : إني أخاف العقوبة ثم بعد ذلك أكل من الشجرة(4) . ا.هـ
وقال القشيري(5) :
أزلهما : أي : حملهما على الزلة, وفي التحقيق: ماصرفتهما إلا القدرة, وماكان تقبلهما إلا في القضية, أخرجهما عما كانا فيه من الرتبة والدرجة جهراً, ولكن ما ازداد في حكم الحق سبحانه - شأنهما إلا رفعة وقدراً . ا.هـ .

__________
(1) - محاسن التأويل حـ2 - صـ324 ، الصواعق المرسلة لابن القيم حـ1 -صـ375
(2) - هذا الجواب الأخير فيه نظر ، والأولى استبعاده ، فهو إن لم يقدح في عصمة آدم عليه السلام - فإنه على الأقل - يخدش - والأولى تنزيه آدم عليه السلام عن ذلك .
(3) - بحر العلوم حـ1 - صـ72 - 73 - بتصرف يسير
(4) - فساد هذا الكلام ظاهر ، ولا يليق بآحاد المتقين فكيف بآدم مسجود الملائكة بأمر الله تعالى - وكيف يقدم حب حواء على طاعة الله - هذا بهتان وزور ومرده إلى الإسرائيليات .
(5) - لطائف الإشارات حـ1 - صـ81

(5/27)


( لطيفة )
قال فى البحر المحيط حـ1ص205 ما نصه : وقال بعض أهل الإشارة في قوله: {إِنّي جَاعِلٌ فِى الارْضِ خَلِيفَةً }: سابق العناية، لا يؤثر فيه حدوث الجناية، ولا يحط عن رتبة الولاية، وذلك أنه تعالى نصب آدم خليفة عنه في أرضه مع علمه بما يحدث عنه من مخالفة أمره التي أوجبت له الإخراج من دار الكرامة وأهبطه إلى الأرض التي هي محل الأكدار، ومع ذلك لم يسلبه ما ألبسه من خلع كرامته، ولا حطه عن رتبة خلافته، بل أجزل له في العطية فقال:
{ ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى }
، قال الشاعر:
وإذا الحبيب أتى بذنب واحد … …جاءت محاسنه بألف شفيع
كان عمر ينقل الطعام إلى الأصنام والله يحبه، قال الشاعر:
أتظنني من زلة أتعتب … …قلبي عليك أرق مما تحسب . أهـ
[فأخرجهما مما كانا فيه ]
قال أبو السعود(1) : والتعبير عنها بذلك للإيذان بفخامتها وجلالتها وملابستهما له أي المكان العظيم الذي كانا مستقرين فيه. أو من الكرامة والنعيم إن كان الضمير للجنة. ا.هـ
وقال الآلوسي: ولعل القربان المنهي عنه الذي يكون سبباً للظلم المخل بالعصمة هو ما لا يكون مصحوباً بعذر كالنسيان هنا مثلاً المشار إليه بقوله [فنسي ولم نجد له عزماً ] ا.هـ روح المعاني جـ1 ص 234 .

أقوال مردودة وردت في قصة آدم ـ عليه السلام ـ
منها : ما ذكره البغوي(2) في المدخل الذي استخدمه إبليس عليه لعنة الله - في وسوسته لآدم - عليه السلام - قال ما نصه :
__________
(1) - تفسير أبي السعود حـ1 صـ91
(2) - معالم التنزيل حـ1 صـ68

(5/28)


وقد كان آدم حين دخل الجنة, ورأى ما فيها من النعيم قال: لو أن خلداً فاغتنم ذلك منه الشيطان فأتاه الشيطان من قبل الخلد, فلما دخل الجنة وقف بين يدي آدم وحواء, وهما لا يعلمان أنه إبليس فبكى وناح نياحة أحزنتهما, وهو أول من ناح فقالا له ما يبكيك ؟ قال أبكي عليكما تموتان فتفارقان ما أنتما فيه من النعمة فوقع ذلك في أنفسهما, ومضى إبليس ثم أتاهما بعد ذلك وقال [ يا آدم هل أدلك على شجرة الخلد؟] ا.هـ
ومنها : ما ذكره القرطبي(1) بعد أن ذكر قصة الحية ( المزعومة ) ما نصه :
" ثم أغوى آدم, وقالت له حواء: كل فإني قد أكلت فلم يضرني, فأكل منها فبدت لهما سوءاتهما وحصلا في حكم الذنب, فدخل آدم في جوف الشجرة, فناداه ربه: أين أنت (2) ؟ فقال: أنا هذا يا رب, قال ألا تخرج ؟ قال : استحي منك يا رب. ا.هـ .
__________
(1) - تفسير القرطبي حـ1 صـ220
(2) - سبحانك هذا بهتان عظيم ، كيف لا يعرف الرب مكان آدم – وهو قد أحاط بكل شيء علما ، وهذا نفس كلام التوراة المحرفة ، وكان الأحرى بأكابر المفسرين ألا يغتروا بهذه الروايات الواهية التي تتعارض مع العقل والنقل والواجب الوقوف عندما أخبر الكتاب الكريم ، فهو أسلم وأحكم تجنباً للوقوع في الزلل – نسأل الله السلامة والمعافاة .

(5/29)


ومنها ما حكاه الطبري حـ1 صـ235 عن وهب بن منبه حيث قال : فناداه ربه يا آدم أين أنت ؟ قال : أنا هنا يارب قال : ألا تخرج قال : أستحي منك يارب قال : ملعونة الأرض التي خلقت منها لعنة يتحول ثمرها شوكاً قال : ولم يكن في الجنة ولا في الأرض شجر كان أفضل من الطلح والسدر ثم قال : يا حواء أنت التي غررت عبدي فإنك لا تحملين جملا إلا حملته كرهاً فإذا أردت أن تضعي ما في بطنك أشرفت على الموت (1). أهـ .
ومنها ما ذكره ابن الجوزي في تفسيره, وغيره من أن جبريل أو بعض الملائكة عنفوا آدم – عليه السلام – وبكتوه على الأكل من الشجرة. ومنها ما ورد عن وهب بن منبه من أن الشجرة المنهي عنها شجرة الخلد .
[ وقلنا اهبطوا بعضكم لبعض عدو]

قال ابن الجوزي(2) : هذا الخطاب فيه ستة أقوال :
أحدها أنه انصرف إلى آدم وحواء والحية (3) , والثاني : إلى آدم وحواء وإبليس والحية , والثالث : إلى آدم وإبليس, والرابع إلى آدم وحواء وإبليس, والخامس : إلى آدم وحواء وذريتهما, والسادس إلى آدم وحواء فحسب. ويكون لفظ الجمع واقعاً على التثنية, كقوله [ وكنا لحكمهم شاهدين](الأنبياء : 78 ) ا.هـ
وقال صاحب الميزان(4) : [وقلنا اهبطوا بعضكم لبعض عدو]
__________
(1) - كيف يتفق هذا اللعن للأرض التي خلق منها آدم مع قوله تعالى [ إني جاعل في الأرض خليفة] بل إن هذا الكلام يوحي بأن الله تعالى لم يحسن اختيار الخليقة . تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً .
(2) - زاد المسير حـ1 صـ68 باختصار يسير
(3) - قصة الحية من أساطير التوراة المحرفة ، ولم يرد ما يدل عليها من كتاب ولا سنة .
(4) - الميزان في تفسير القرآن حـ1 صـ132

(5/30)


ظاهر السياق أنه خطاب لآدم وزوجته و إبليس, وقد خص إبليس وحده بالخطاب في سورة الأعراف حيث قال: [فاهبط منها فما يكون لك أن تتكبر فيها] ( الأعراف: 13 ) فقوله تعالى : [اهبطوا] كالجمع بين الخطابين وحكاية عن قضاء قضى الله به العداوة بين إبليس – لعنه الله – وبين آدم وزوجته وذريتهما وكذلك قضى به حياتهم في الأرض وموتهم فيها وبعثهم منها.
وذرية آدم مع آدم في الحكم كما ربما يستشعر من ظاهر قوله [ فيها تحيون وفيها تموتون ومنها تخرجون ] ( الأعراف: 25 ) وكما سيأتي في قوله تعالى [ ولقد خلقناكم ثم صورناكم ثم قلنا للملائكة اسجدوا لآدم] ( الأعراف : 11 ) ا.هـ
وقال البغوي(1) [وقلنا اهبطوا] انزلوا إلى الأرض يعني : آدم, وحواء, وإبليس, والحية, فهبط آدم بسرنديب من أرض الهند على جبل يقال له نود, وحواء بجده, وإبليس بالأيلة , والحية بأصفهان.

قوله تعالى [بعضكم لبعض عدو] أراد العداوة التي بين ذرية آدم والحية(2), وبين المؤمنين من ذرية آدم وبين إبليس قال الله تعالى: [إن الشيطان لكم عدو فاتخذوه عدواً ] ( فاطر: 6 ) ا.هـ

" وقلنا اهبطوا بعضكم لبعض عدو "
__________
(1) - معالم التنزيل حـ1 صـ69
(2) - هذه عداوة لا قيمة لها إنما العداوة التي حذرنا الله منها هي من إبليس وجنده وهي ما يدل عليها صريح القرآن كما استدل بذلك الإمام البغوي – رحمه الله – أ هـ

(5/31)


وقال الإمام الفخر (1)- رحمه الله - [اهبطوا بعضكم لبعض عدو] أمر بالهبوط, وليس أمراً بالعداوة, لأن عداوة إبليس لآدم وحواء - عليهما السلام - بسبب الحسد والاستكبار عن السجود, واختداعه إياهما حتى أخرجهما من الجنة, وعداوته لذريتهما بإلقائه الوسوسة, والدعوة إلى الكفر والمعصية, وشئ من ذلك لا يجوز أن يكون مأموراً به, فأما عداوة آدم لإبليس فإنها مأمورة بها لقوله تعالى : [إن الشيطان لكم عدو فاتخذوه عدواً] ( فاطر : 6 ) وقال تعالى :[يابني آدم لا يفتننكم الشيطان كما أخرج أبويكم من الجنة ] (الأعراف:27 ).
إذا ثبت هذا ظهر أن المراد من الآية: اهبطوا من السماء وأنتم بعضكم لبعض عدو. ا.هـ
وقال ابن عطية (2) :
وإفراد لفظ [عدو] من حيث لفظ [بعض] وبعض وكل تجري مجرى الواحد, ومن حيث لفظة [عدو] تقع للواحد والجمع قال تعالى [هم العدو فاحذرهم ] (المنافقون : 4 ). ا.هـ
وقال القشيري (3) رحمه الله :
لم يكن للشيطان من الخطر ما يكون لعداوته إثبات, فإن خصوصية الحق سبحانه عزيزة قال تعالى [إن عبادي ليس لك عليهم سلطان...] ( الحجر:42)
(فصل) لو كان لإبليس سلطان على غواية غيره, لكان له إمكان في هداية نفسه وكيف يكون ذلك ؟ والتفرد بالإبداع كل شئ من خصائص نعته سبحانه. ا.هـ .

__________
(1) - التفسير الكبير حـ3 صـ464
(2) - المحرر الوجيز حـ1 صـ129
(3) - لطائف الإشارات حـ1 صـ81 - 82
(4) - تفسير القرطبي حـ1 صـ225 - 226

(5/32)


وقال القرطبي (4) :
لم يكن إخراج الله تعالى- آدم من الجنة, وإهباطه منها عقوبة له, لأنه أهبطه بعد أن تاب عليه وقبل توبته, وإما اهبطه إما تأديباً, وإما تغليظاً للمحنة والصحيح في إهباطه وسكناه في الأرض ما قد ظهر من الحكمة الأزلية في ذلك, وهي نشر نسله فيها ليكلفهم ويمتحنهم ويترتب على ذلك ثوابهم وعقابهم الأخروي, إذ الجنة والنار ليستا بدار تكليف, فكانت تلك الأكلة سبب إهباطه من الجنة ولله أن يفعل ما يشاء, وقد قال: [إني جاعل في الأرض خليفة] وهذه منقبة عظيمة, وفضيلة كريمة شريفة, وقد تقدمت الإشارة إليها مع أنه خلق من الأرض وإنما أهبطه بعد أن تاب عليه لقوله ثانية [وقلنا اهبطوا] ا.هـ

" ولكم في الأرض مستقر ومتاع إلى حين "
قال الفخر(1) - رحمه الله -
"المستقر قد يكون بمعنى الاستقرار كقوله تعالى: [ إلى ربك يومئذ المستقر ] ( القيامة: 12 ) وقد يكون بمعنى المكان الذي يستقر فيه كقوله تعالى : [أصحاب الجنة يومئذ خير مستقراً و أحسن مقيلاً ] ( الفرقان : 24 )
وقال تعالى : [ فمستقر و مستودع ] ( الأنعام : 98 ) إذا عرفت هذا فنقول : الأكثرون حملوا قوله تعالى : [ ولكم في الأرض مستقر] على المكان, والمعنى أنها مستقركم حالتي الحياة والموت, وروى السري عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أنه قال : المستقر هو القبر, أي قبوركم تكونون فيها. والأول أولى, لأنه تعالى قدر المتاع وذلك لا يليق إلا بحالة الحياة, ولأنه خاطبهم بذلك عند الإهباط وذلك يقتضي حال الحياة. ا.هـ

__________
(1) - التفسير الكبير حـ3 صـ464

(5/33)


"لطيفة في لفظ الحين"
قال القرطبي (1) : اختلف المتأولون في الحين على أقوال, فقالت فرقة : إلى الموت, وهذا قول من يقول: المستقر هو المقام في الدنيا, وقيل إلى قيام الساعة, وهذا قول من يقول المستقر هو القبور, وقال الربيع [ إلى حين] إلى أجل, والحين: الوقت البعيد فحينئذ تبعيد من قولك الآن, والحين أيضاً : المدة ومنه قوله تعالى [هل أتى على الإنسان حين من الدهر] ( الإنسان : 1) والحين: الساعة قال تعالى : [أو تقول حين ترى العذاب ] ( الزمر : 58 )
قال ابن عرفة : الحين : القطعة من الدهر كالساعة فما فوقها, وقوله [ فذرهم في غمرتهم حتى حين] (المؤمنون : 54) أي حتى تفنى آجالهم, وقوله تعالى [تؤتي أكلها كل حين] (إبراهيم : 25 ) أي كل سنة, وقيل : بل كل ستة أشهر, وقيل : بل غدوة وعشياً.
وقال الأزهري: الحين اسم كالوقت يصلح لجميع الأزمان كلها طالت أو قصرت والمعنى أنه ينتفع بها في كل وقت, ولا ينقطع نفعها ألبتة.
وقال الفراء : الحين حينان: حين لا يوقف على حده, والحين الذي ذكر الله جل ثناؤه : [تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها] ستة أشهر(2) ا.هـ

"فائدة"
قال ابن عطية(3) - رحمه الله -
[إلى حين] فائدة لآدم - عليه السلام - ليعلم أنه غير باق فيها ومنتقل إلى الجنة التي وعد بالرجوع إليها, وهي لغير آدم دالة على المعاد. ا.هـ

"موعظة "

قال الإمام فخر الدين الرازي(4) : ما نصه:
اعلم أن في هذه الآيات تحذيراً عظيماً عن كل المعاصي من وجوه أحدها: أن من تصور ما جرى على آدم - عليه السلام - بسب إقدامه على هذه الزلة الصغيرة, كان على وجل شديد من المعاصي, قال الشاعر
يا ناظراً يرنو بعيني راقد

ومشاهداً للأمر غير مشاهد

تصل الذنوب إلى الذنوب وترتجي

درك الجنان ونيل فوز العابد

أنسيت أن الله أخرج آدماً
__________
(1) - تفسير القرطبي حـ1 صـ 226
(2) - تفسير القرطبي حـ1 صـ 226باختصار يسير
(3) - المحرر الوجيز حـ 1 صـ 130
(4) - التفسير الكبير حـ3 صـ 464 - 465

(5/34)


منها إلى الدنيا بذنب واحد


وعن فتح الموصلي أنه قال: كنا قوماً من أهل الجنة فسبانا إبليس إلى الدنيا, فليس لنا إلا الهم والحزن حتى نرد إلى الدار التي أخرجنا منها.
وثانيها: التحذير عن الاستكبار والحسد والحرص عن قتادة في قوله تعالى [أبي واستكبر] قال حسد عدوالله إبليس آدم على ما أعطاه الله من الكرامة فقال : أنا ناري وهذا طيني ثم ألقى الحرص في قلب آدم حتى حمله على ارتكاب المنهي عنه ثم ألقى الحسد في قلب قابيل حتى قتل هابيل .
وثالثها: أنه تعالى بين العداوة الشديدة بين ذرية آدم و إبليس, وهذا تنبيه عظيم على وجوب الحذر. ا.هـ

" فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه "

قال القرطبي (1): تلقى قيل : معناه : فهم وفطن, وقيل: قبل وأخذ, وكان عليه السلام يتلقى الوحي , أي يستقبله ويأخذه ويتلقفه , وقيل معنى تلقى: تلقن . ا.هـ
وقال في التسهيل(2) : " كلمات " هي قوله : " ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين " بدليل ورودها في الأعراف ، وقيل غير ذلك. أ هـ .

وقال الإمام القشيري (3) :
جرت على لسان آدم مع الحق – سبحانه – كلمات, وأسمع الحق – سبحانه – آدم كلمات, وأنشدوا
وإذا خفنا من الرقباء عيناً ……تكلمت السرائر في القلوب
وأجمل سبحانه القول في ذلك إجمالاً ليبقى القصة مستورة, أو ليكون للاحتمال والظنون مساغ, ويحتمل أن تكون كلمات آدم عليه السلام اعتذاراً وتنصلاً وكلمات الحق – سبحانه – قبولاً وتفضلاً, وعلى لسان التفسير أن قوله له أفراراً منا يا آدم ؟ كذلك قوله – عليه السلام – [ربنا ظلمنا أنفسنا], وقوله أمخرجي أنت من الجنة؟ فقال نعم , فقال: أتردني إليها, فقال نعم.

وقيل : حين أمر بخروجه من الجنة جعل ما أسمعه إياه من عزيز خطابه زاداً ليكون له تذكرة وعتاداً.
__________
(1) - تفسير القرطبي حـ1 صـ227 باختصار يسير
(2) - التسهيل حـ1 صـ45
(3) - لطائف الإشارات حـ1 صـ82 – 83 باختصار يسير

(5/35)


ومخاطبات الأحباب لا تحتمل الشرح, ولا يحيط الأجانب بها علماً, وعلى طريق الإشارة لا على معنى التفسير والتأويل, والحكم على الغيب بأنه كان كذلك وأراد به الحق سبحانه ذلك يحتمل في حال الأحباب عند المفارقة, وأوقات الوداع أن يقال: إذا خرجت من عندي فلا تنس عهدي" (1)ا.هـ

" إنه هو التواب الرحيم "
قال الإمام الفخر(2) :
المراد من وصف الله تعالى بالتواب المبالغة في قبول التوبة وذلك من وجهين الأول : أن واحداً من ملوك الدنيا متى جنى عليه إنسان ثم اعتذر إليه, فإنه يقبل الاعتذار, ثم إذا عاد إلى الجناية وإلى الاعتذار مرة أخرى فإنه لا يقبله, لأن طبعه يمنعه من قبول العذر, أما الله سبحانه وتعالى فإنه بخلاف ذلك, فإنه إنما يقبل التوبة لا لأمر يرجع إلى رقة طبع أو جلب نفع أو دفع ضرر, بل إنما يقبلها لمحض الإحسان والتفضل, فلو عصى المكلف كل ساعة ثم تاب وبقى على هذه الحالة العمر الطويل لكان الله يغفر له ما قد سلف, ويقبل توبته, فصار تعالى مستحقاً للمبالغة في قبول التوبة, فوصف بأنه تعالى تواب .
الثاني: أن الذين يتوبون إلى الله تعالى فإنه يكثر عددهم, فإذا قبل توبة الجميع استحق المبالغة في ذلك, ولما كان قبول التوبة مع إزالة العقاب يقتضي حصول الثواب من جهته نعمة ورحمة وصف نفسه مع كونه تواباً بأنه رحيم. ا.هـ

" وهذا كلام نفيس أيضاًً في التوبة "

قال الإمام القرطبي(3) :
__________
(1) - هذا الكلام وما شابهه ليس من التفسير في شيء ، لكن كما قال الإمام ابن عطية في مثل هذا الكلام إنه ليس من متين التفسير ولكنه من ملحه فليفهم القارئ الكريم ولينتبه – حتى لا يساء الظن بأحد من المسلمين والله أعلم بأسرار كتابه .
(2) - التفسير الكبير حـ3 صـ468
(3) تفسير القرطبي حـ1 صـ228 - 229

(5/36)


قوله تعالى [ إنه هو التواب الرحيم] وصف نفسه سبحانه وتعالى بأنه التواب, وتكرر في القرآن معرفاً ومنكراً واسماً وفعلاً, وقد يطلق على العبد أيضاً تواب, قال الله تعالى: [إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين] ( البقرة : 222 )
قال ابن العربي: ولعلمائنا في وصف الرب بأنه تواب ثلاثة أقوال :
أحدها: أنه يجوز في حق الرب سبحانه وتعالى فيدعى به كما في الكتاب والسنة ولا يتأول, وقال آخرون : هو وصف حقيقي لله سبحانه وتعالى, وتوبة الله على العبد رجوعه من حال المعصية إلى حال الطاعة, وقال آخرون : توبة الله على العبد قبول توبته, وذلك يحتمل أن يرجع إلى قوله سبحانه وتعالى : قبلت توبتك.
وأن يرجع إلى خلقه الإنابة والرجوع في قلب المسئ وإجراء الطاعات على جوارحه الظاهرة. ا.هـ

" إنه هو التواب الرحيم "
(سؤال ) هل يجوز أن يقال في حق الله تعالى: تائب ؟
( الجواب ) لا يجوز أن يقال في حق الله تعالى : تائب, اسم فاعل من تاب يتوب, لأنه ليس لنا أن نطلق عليه من الأسماء والصفات إلا ما أطلقه هو على نفسه أو نبيه – عليه السلام – أو جماعة المسلمين, وإن كان في اللغة محتملاً جائزاً.
هذا هو الصحيح في هذا الباب قال الله تعالى [ لقد تاب الله على النبي والمهاجرين والأنصار ] ( التوبة : 117 ) وقال [ وهو الذي يقبل التوبة عن عباده ] ( الشورى : 25 ) و إنما قيل لله عز وجل تواب لمبالغة الفعل وكثرة قبوله توبة عباده لكثرة من يتوب إليه(1) . ا.هـ

" فوائد جليلة "

قال الإمام الفخر(2) - رحمه الله - من فؤائد الآية : أن آدم عليه السلام لما لم يستغن عن التوبة مع علو شأنه فالواحد منا أولى بذلك.
ومنها: ما ظهر من آدم – عليه السلام – من البكاء على زلته تنبيه لنا أيضاً لأنا أحق بالبكاء من آدم عليه السلام. ا.هـ
__________
(1) - تفسير القرطبي حـ1 صـ229 باختصار يسير
(2) - التفسير الكبير حـ3 صـ471 بتصرف يسير

(5/37)


(سؤال ) : لم اكتفى الله تعالى بذكر توبة آدم دون ذكر توبة حواء ؟
أجاب الإمام الفخر بقوله: لأنها كانت :تبعاً له كما طوى ذكر النساء في القرآن والسنة لذلك, وقد ذكرها في قوله [ قالا ربنا ظلمنا أنفسنا]( الأعراف: 23 ) ا.هـ

لطيفة

سئل ذو النون المصري عن التوبة فقال : إنها اسم جامع لمعان ستة : أولهن الندم على ما مضى والثاني : العزم على ترك الذنوب في المستقبل, الثالث : أداء كل فريضة ضيعتها فيما بينك وبين الله, والرابع أداء المظالم إلى المخلوقين في أموالهم وأعراضهم .
الخامس : إذابة كل لحم ودم بنت من الحرام ، والسادس : إذاقة البدن ألم الطاعات كما ذاق حلاوة المعصية .
وكان أحمد بن حارس يقول : يا صاحب الذنوب ألم يأن لك أن تتوب .. يا صاحب الذنوب إن الذنب في الديوان مكتوب ، يا صاحب الذنوب أنت بها في القبر مكروب ، يا صاحب الذنوب أنت غداً بالذنوب مطلوب . أهـ .

" بحث نفيس في عصمة الأنبياء "

اختلف الناس في عصمة الأنبياء عليهم السلام وضبط القول فيه أن يقال : الاختلاف في هذا الباب يرجع إلى أقسام أربعة: أحدها : مايقع في باب الاعتقاد, وثانيها : ما يقع في باب التبليغ, وثالثها ما يقع في باب الأحكام والفتيا, ورابعها ما يقع في أفعالهم وسيرتهم. أما اعتقادهم الكفر والضلال فإن ذلك غير جائز عند أكثر الأمة. وقالت الفضيلية من الخوارج: إنهم قد وقعت منهم الذنوب, والذنب عندهم كفر وشرك, فلا جرم قالوا بوقوع الكفر منهم, و أجازت الإمامية عليهم إظهار الكفر على سبيل التقية .
أما النوع الثاني: وهو ما يتعلق بالتبليغ, فقد أجمعت الأمة على كونهم معصومين عن الكذب والتحريف, فيما يتعلق بالتبليغ, وإلا لارتفع الوثوق بالأداء, واتفقوا على أن ذلك لا يجوز وقوعه منهم عمداً كما لا يجوز أيضاً سهواً, ومن الناس من جوز ذلك سهواً, قالوا: لأن الإحتراز عنه غير ممكن.

(5/38)


وأما النوع الثالث : وهو ما يتعلق بالفتيا فأجمعوا على أنه لا يجوز خطؤهم فيه على سبيل التعمد, وأما على سبيل السهو فجوزه بعضهم وأباه آخرون.
وأما النوع الرابع : وهو الذي يقع في أفعالهم, فقد اختلف الأمة فيه على خمسة أقوال أحدها: قول من جوز عليهم الكبائر على جهة العمد وهو قول الحشوية. والثاني قول من لا يجوز عليهم الكبائر لكنه يجوز عليهم الصغائر على جهة العمد إلا ما ينفر كالكذب والتطفيف وهذا قول أكثر المعتزلة. القول الثالث : أنه لا يجوز أن يأتوا بصغيرة ولا بكبيرة إلا على جهة التأويل وهو قول الجبائي. القول الرابع : أنه لا يقع منهم الذنب إلا على جهة السهو والخطأ ولكنهم مأخوذون بما يقع منهم على هذه الجهة وإن كان ذلك موضوعاً عن أمتهم وذلك لأن معرفتهم أقوى ودلائلهم أكثر, وأنهم يقدرون من التحفظ على ما لا يقدر عليه غيرهم. القول الخامس : أنه لا يقع منهم الذنب لا الكبير ولا الصغير لا على سبيل القصد ولا على سبيل السهو ولا على سبيل التأويل والخطأ, وهو مذهب الرافضة, واختلف الناس في وقت العصمة على ثلاثة أقوال : أحدها, قول من ذهب إلى أنهم معصومون من وقت مولدهم وهو قول الرافضة و وثانيها قول من ذهب إلى أن وقت عصمتهم وقت بلوغهم ولم يجوزوا منهم ارتكاب الكفر والكبيرة قبل النبوة, وهو قول كثير من المعتزلة, وثالثها : قول من ذهب إلى أن ذلك لا يجوز وقت النبوة, أما قبل النبوة فجائز, وهو قول أكثر أصحابنا وقول أبي الهذيل وأبي علي من المعتزلة. والمختار عندنا أنه لم يصدر عنهم الذنب حال النبوة ألبتة, لا الكبيرة ولا الصغيرة, ويدل عليه وجوه : أحدها : لو صدر الذنب عنهم لكانوا أقل درجة من عصاة الأمة وذلك غير جائز, بيان الملازمة أن درجة الأنبياء كانت في غاية الجلال والشرف, وكل من كان كذلك كان صدور الذنب عنه أفحش ألا ترى إلى قوله تعالى : [ يا نساء النبي من يأت منكن بفاحشة مبينة يضاعف لها العذاب ضعفين] ( الأحزاب :

(5/39)


30 ) والمحصن يرجم وغيره يحد, وحد العبد نصف حد الحر, وأما أنه لا يجوز أن يكون النبي أقل حالاً من الأمة فذاك بالإجماع. ثانيها: أن بتقدير إقدامه على الفسق وجب أن لا يكون مقبول الشهادة لقوله تعالى : [ إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا ] ( الحجرات : 6 ) لكنه مقبول الشهادة, و إلا كان أقل حالاً من عدول الأمة, وكيف لا نقول ذلك وأنه لا معنى للنبوة والرسالة إلا أنه يشهد على الله تعالى بأنه شرع هذا الحكم وذاك, وأيضاً فهو يوم القيامة شاهد على الكل لقوله : [ لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيداً ] ( البقرة : 143 ). وثالثها : أن بتقدير إقدامه على الكبيرة يجب زجره عنها, فلم يكن إيذاؤه محرماً لكنه محرم لقوله تعالى : [ إن الذين يؤذون الله ورسوله لعنهم الله في الدنيا والآخرة] ( الأحزاب : 57 ). ورابعها: أن محمد - صلى الله عليه وسلم - لو أتى بالمعصية لوجب علينا الإقتداء به فيها لقوله تعالى : [فاتبعوني] ( آل عمران : 31 ) فيفضي إلى الجمع بين الحرمة والوجوب وهو محال, و إذا ثبت ذلك في حق محمد - صلى الله عليه وسلم - ثبت أيضا في سائر الأنبياء, ضرورة أنه لا قائل بالفرق. وخامسها: أنا نعلم ببديهة العقل أنه لا شئ أقبح من نبي رفع الله درجته و ائتمنه على وحيه وجعله خليفة في عبادة وبلاده يسمع ربه يناديه : لا تفعل كذا فيقدم عليه ترجيحاً للذته, غير ملتفت إلى نهي ربه ولا منزجر بوعيده. هذا معلوم القبح بالضرورة. وسادسها: أنه لو صدرت المعصية من الأنبياء لكانوا مستحقين للعذاب لقوله تعالى: [ ومن يعصي الله ورسوله فإن له نار جهنم خالدين فيها] ( الجن : 23 ) ولاستحقوا اللعن لقوله : [ ألا لعنة الله على الظالمين] ( هود : 18 ) و أجمعت الأمة على أن أحداً من الأنبياء لم يكن مستحقاً للعن ولا للعذاب فثبت أنه ما صدرت المعصية عنه. وسابعها: أنهم كانوا يأمرون الناس بطاعة الله فلو لم يطيعوه لدخلوا تحت قوله: [أتأمرون الناس

(5/40)


بالبر و تنسون أنفسكم وأنتم تتلون الكتاب أفلا تعقلون] ( البقرة: 44 ). وقال : [وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه ] (هود : 88 ), فما لا يليق بواحد من وعاظ الأمة كيف يجوز أن ينسب إلى الأنبياء عليهم السلام. وثامنها: قوله تعالى: [ إنهم كانوا يسارعون في الخيرات] ( الأنبياء : 90 ), ولفظ الخيرات للعموم فيتناول الكل ويدخل فيه فعل ما ينبغي وترك ما لا ينبغي, فثبت أن الأنبياء كانوا فاعلين لكل ما ينبغي فعله وتاركين كل ما ينبغي تركه, وذلك ينافي صدور الذنب عنهم. وتاسعها: قوله تعالى [ وإنهم عندنا لمن المصطفين الأخيار] ( ص : 47 ), وهذا يتناول جميع الأفعال والتروك بدليل جواز الاستثناء فيقال : فلا من المصطفين الأخيار إلا في الفعلة الفلانية و الاستثناء يخرج من الكلام ما لولاه لدخل تحته, فثبت أنهم كانوا أخياراً في كل الأمور, وذلك ينافي صدور الذنب عنهم. وقال: [ الله يصطفي من الملائكة رسلاً و من الناس] (الحج : 75 ), [إن الله اصطفى آدم ونوحاً وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين] ( آل عمران : 33 ) وقال في إبراهيم: [ و لقد اصطفيناه في الدنيا ] ( البقرة : 130 ) وقال في موسى : [إني اصطفيتك على الناس برسالاتي وبكلامي ] ( الأعراف : 144 ). وقال:[واذكر عبادنا إبراهيم و إسحاق ويعقوب أولي الأيدي والأبصار إنا أخلصناهم بخالصة ذكرى الدار وإنهم عندنا لمن المصطفين الأخيار] ( ص: 45- 47 ). فكل هذه الآيات دالة على كونهم موصوفين بالاصطفاء والخيرية, وذلك ينافي صدور الذنب عنهم. عاشرها: أنه تعالى حكى عن إبليس قوله: [ فبعزتك لأغوينهم أجمعين إلا عبادك منهم المخلصين] ( ص : 82-83) فاستثنى من جملة من يغويهم المخلصين وهم الأنبياء عليهم السلام. قال تعالى في صفة إبراهيم و إسحاق و يعقوب : [ إنا أخلصناهم بخالصة ذكرى الدار] ( ص : 46 ) وقال في يوسف : [إنه من عبادنا المخلصين ] ( يوسف: 24 ) , وإذا ثبت وجوب العصمة في حق البعض ثبت

(5/41)


وجوبها في حق الكل لأنه لا قائل بالفرق. والحادي عشر: قوله تعالى : [ولقد صدق عليهم إبليس ظنه فاتبعوه إلا فريقاً من المؤمنين ] ( سبأ : 20 ) فأولئك الذين ما اتبعوه وجب أن يقال : إنه ما صدر الذنب عنهم و إلا فقد كانوا متبعين له, وإذا ثبت في ذلك الفريق أنهم ما أذنبوا فذلك الفريق إما الأنبياء أو غيرهم, فإن كانوا هم الأنبياء فقد ثبت في النبي أنه لا يذنب و إن كانوا غير الأنبياء فلو ثبت في الأنبياء أنهم أذنبوا لكانوا أقل درجة عند الله من ذلك الفريق, فيكون غير النبي أفضل من النبي, وذلك باطل بالاتفاق فثبت أن الذنب ما صدر عنهم. الثاني عشر أنه تعالى قسم الخلق قسمين فقال : [ أولئك حزب الشيطان ألا إن حزب الشيطان هم الخاسرون] ( المجادلة : 19 ) وقال في الصنف الآخر : [أولئك حزب الله ألا إن حزب الله هم المفلحون ] ( المجادلة : 22 ) ولا شك أن حزب الشيطان هو الذي يفعل ما يرتضيه الشيطان, والذي يرتضيه الشيطان هو المعصية, فكل من عصى الله تعالى كان من حزب الشيطان, فلو صدرت المعصية من الرسول لصدق عليه أنه من حزب الشيطان ولصدق عليه أنه من الخاسرين ولصدق على زهاد الأمة أنهم من حزب الله و أنهم من المفلحين, فحينئذ يكون ذلك الواحد من الأمة أفضل بكثير عند الله من ذلك الرسول, وهذا لا يقول به مسلم. الثالث عشر : أن الرسول أفضل من الملك فوجب أن لا يصدر الذنب من الرسول, وإنما قلنا أنه أفضل لقوله تعالى : [ إن الله اصطفى آدم ونوحاً وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين] ( آل عمران : 33 ), ووجه الاستدلال به قد تقدم في مسألة فضل الملك على البشر و إنما قلنا إنه لما كان كذلك وجب أن لا يصدر الذنب عن الرسول لأنه تعالى وصف الملائكة بترك الذنب, فقال : [لا يسبقونه بالقول ] ( الأنبياء : 27 ) وقال : [ لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون ]( التحريم:6) فلو صدرت المعصية عن الرسول لامتنع كونه أفضل من الملك لقوله تعالى:[أم نجعل

(5/42)


الذين آمنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين في الأرض أم نجعل المتقين كالفجار]( ص : 28 ) الرابع عشر : روى أن خزيمة بن ثابت شهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على وفق دعواه فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "كيف شهدت لي" فقال : يا رسول الله إني أصدقك على الوحي النازل عليك من فوق سبع سموات, أفلا أصدقك في هذا القدر؟ فصدقه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وسماه بذي الشهادتين ولو كانت المعصية جائزة على الأنبياء لما جازت تلك الشهادة. الخامس عشر : قال في حق إبراهيم عليه السلام [ إني جاعلك للناس إماماً ] ( البقرة : 124) والإمام من يؤتم به فأوجب على كل الناس أن يأتموا به فلو صدر الذنب عنه لوجب عليهم أن يأتموا به في ذلك الذنب وذلك يفضي إلى التناقض .

(5/43)


السادس عشر : قوله تعالى : [ لا ينال عهدي الظالمين] ( البقرة : 124 ) والمراد بهذا العهد إما عهد النبوة أو عهد الإمامة, فإن كان المراد عهد النبوة وجب أن لا تثبت النبوة للظالمين, وإن كان المراد عهد الإمامة وجب أن لا تثبت الإمامة للظالمين وإذا لم تثبت الإمامة للظالمين وجب أن لا تثبت النبوة للظالمين, لأن كل نبي لا بد و أن يكون إماماً يؤتم به ويقتدي به. والآية على جميع التقديرات تدل على أن النبي لا يكون مذنباً. أما المخالف فقد تمسك في كل واحد من المواضع الأربعة التي ذكرناها بآيات ونحن نشير إلى معاقدها ونحيل بالاستقصاء على ما سيأتي في هذا التفسير إن شاء الله تعالى: أما الآيات التي تمسكوا بها في باب الاعتقاد فثلاثة : أولها: تمسكوا بالطعن في اعتقاد آدم عليه السلام بقوله : [هو الذي خلقكم من نفس واحدة وجعل منها زوجها ليسكن إليها] ( الأعراف : 189 ) إلى آخر الآية. قالوا لا شك أن النفس الواحدة هي آدم وزوجها المخلوق منها هي حواء, فهذه الكنايات بأسرها عائدة إليهما فقوله : [ جعلا له شركاء فيما آتاها فتعالى الله عما يشركون] ( الأعراف : 190 ) يقتضي صدور الشرك عنهما, والجواب : لا نسلم أن النفس الواحدة هي آدم وليس في الآية ما يدل عليه بل نقول: الخطاب لقريش وهم آل قصي و المعنى خلقكم من نفس قصي وجعل من جنسها زوجة عربية ليسكن إليها فلما آتاهما ما طلبا من الولد الصالح سميا أولادهما الأربعة: بعبد مناف وعبد العزى وعبد الدار وعبد قصي, والضمير في يشركون لهما ولأعقابهما فهذا الجواب هو المعتمد, وثانيها : قالوا إن إبراهيم عليه السلام لم يكن عالماً بالله ولا باليوم الآخر. أما الأول فلأنه قال في الكواكب [ هذا ربي] ( الأنعام : 77 ), وأما الثاني : فقوله [ أرني كيف تحيي الموتى قال أولم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي] ( البقرة : 260 ) والجواب : أما قوله [هذا ربي ] فهو استفهام على سبيل الإنكار, وأما قوله [ ولكن

(5/44)


ليطمئن قلبي], فالمراد أنه ليس الخبر كالمعاينة, وثالثها : تمسكوا بقوله تعالى : [فإن كنت في شك مما أنزلنا إليك فاسأل الذين يقرأون الكتاب من قبلك لقد جاءك الحق من ربك فلا تكونن من الممترين] ( يونس : 94 ), فدلت الآية على أن محمداً - صلى الله عليه وسلم - كان في شك مما أوحي إليه والجواب : أن القلب في دار الدنيا لا ينفك عن الأفكار المستعقبة للشبهات إلا أنه عليه الصلاة والسلام كان يزيلها بالدلائل .
أما الآيات التي تمسكوا بها في باب التبليغ فثلاثة : أحدها : قوله : [ سنقرئك فلا تنسى إلا ما شاء الله] ( الأعلى : 6-8 ) فهذا الاستثناء يدل على وقوع النسيان في الوحي, الجواب : ليس النهي عن النسيان الذي هو ضد الذكر, لأن ذاك غير داخل في الوسع بل عن النسيان بمعنى الترك فنحمله على ترك الأولى. وثانيها : قوله : [ وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى القى الشيطان في أمنيته] ( الحج: 52), والكلام عليه مذكور في سورة الحج على الاستقصاء, وثالثها : قوله تعالى [ عالم الغيب فلا يظهر على غيبة أحداً إلا من ارتضى من رسول فإنه يسلك من بين يديه ومن خلفه رصداً, ليعلم أن قد أبلغوا رسالات ربهم] ( الجن : 26-28). قالوا: فلولا الخوف من وقوع التخليط في تبليغ الوحي من جهة الأنبياء لم يكن في الاستظهار بالرصد المرسل معهم فائدة, والجواب: لم لا يجوز أن تكون الفائدة أن يدفع ذلك الرصد الشياطين عن ألقاء الوسوسة. أما الآيات التي تمسكوا بها في الفتيا فثلاثة, أحدها : قوله : [وداود وسليمان إذ يحكمان في الحرث] ( الأنبياء : 78 ), وقد تكلمنا عليه في سورة الأنبياء. وثانيها : قوله في أساري بدر حين فاداهم النبي - صلى الله عليه وسلم - [ ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض] ( الأنفال : 67 ), فلولا أنه أخطأ في هذه الحكومة وإلا لما عوتب, وثالثها :قوله تعالى :[ عفا الله عنك لم أذنت لهم] ( التوبة : 43 ), والجواب عن

(5/45)


الكل : أن نحمله على ترك الأولى(1) . ا.هـ
وسيأتي - إن شاء الله - تفصيل ذلك في موضعه .

" يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم "
لما قدم دعوة الناس عموماً وذكر مبدأهم: دعا بني إسرائيل خصوصاً وهم اليهود وجرى الكلام معهم من هنا إلى حزب سيقول السفهاء فتارة دعاهم بالملاطفة وذكر الإنعام عليهم وعلى آبائهم, وتارة بالتخويف, وتارة بإقامة الحجة وتوبيخهم على سوء أعمالهم, وذكر العقوبات التي عاقبهم بها فذكر من النعم عليهم عشرة أشياء, وهي "وإذ نجيناكم من آل فرعون, وإذ فرقنا بكم البحر, وبعثناكم من بعد موتكم, وظللنا عليكم الغمام, وأنزلنا عليكم المن والسلوى, وعفونا عنكم, وتاب عليكم, ويغفر لكم خطاياكم, وآتينا موسى الكتاب والفرقان لعلكم تهتدون, وانفجرت منه اثنتا عشرة عيناً" وذكر من سوء أفعالهم عشرة أشياء: قولهم: "سمعنا وعصينا, واتخذتم العجل, وقالوا أرنا الله جهرة, فبدل الذين ظلموا, ولن نصبر على طعام واحد, ويحرفونه, وتوليتم من بعد ذلك, قست قلوبكم, وكفرهم بآيات الله, وقتلهم الأنبياء بغير حق" وذكر من عقوباتهم عشرة أشياء: "ضربت عليهم الذلة والمسكنة, وباؤا بغضب من الله , ويعطوا الجزية, واقتلوا أنفسكم, وكونوا قردة, وأنزلنا عليهم رجزاً من السماء, وأخذتكم الصاعقة, وجعلنا قلوبهم قاسية, وحرمنا عليهم طيبات أحلت لهم" وهذا كله جزاء لآبائهم المتقدمين, وخوطب المعاصرون لمحمد - صلى الله عليه وسلم - بتوبيخات أخر, وهي كتمانهم أمر محمد – صلى الله عليه وآله وسلم – مع معرفتهم به, ويحرفون الكلم ويقولون هذا من عند الله, وتقتلون أنفسكم, وتخرجون فريقاً من دياركم, وحرصهم على الحياة, وعداوتهم لجبريل, واتباعهم للسحر, وقولهم نحن أبناء الله, وقولهم يد الله مغلولة(2). اهـ.
__________
(1) - التفسير الكبير حـ3 صـ455 - 458
(2) - التسهيل حـ1 صـ45

(5/46)


"يا بني إسرائيل" اتفق المفسرون على أن إسرائيل هو يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم – صلى الله عليهم وسلم – أجمعين .
ومعنى [إسرائيل] عبد الله , وقيل صفوة الله, والمعنى يا أولاد يعقوب.
[اذكروا نعمتى التي أنعمت عليكم ] أي اشكروا نعمتي, وإنما عبر عنه بالذكر, لأن من ذكر النعمة فقد شكرها, ومن جحدها فقد كفرها, وقيل الذكر يكون بالقلب, ويكون باللسان, ووحد النعمة, لأنها المنفعة المفعولة على جهة الإحسان إلى الغير ومعناه: أن المضرة المحضة لا تكون نعمة, ولو فعل الإنسان منفعة وقصد نفسه بها, لا تسمى نعمة إذا لم يقصد بها الغير(1). اهـ
[سؤال] فإن قيل: فإذا كانت النعم غير متناهية, ومالا يتناهى لا يحصل العلم به في حق العبد, فكيف أمر بتذكرها في قوله تعالى [اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم] ؟
[الجواب] أنها غير متناهية بحسب الأنواع والأشخاص إلا أنها متناهية بحسب الأجناس, وذلك يكفي في التذكير الذي يفيد العلم بوجود الصانع الحكيم واعلم أنه لما ثبت استحقاق من الحمد والثناء والطاعة لا يتحقق إلا على إيصال النعمة ثبت أنه سبحانه وتعالى هو المستحق لحمد الحامدين(2). اهـ.
وقال القرطبي(3): الذكر اسم مشترك, فالذكر بالقلب ضد النسيان, والذكر باللسان ضد الإنصات.
وقال القشيري: حقيقة النعمة على لسان العلماء: لذة خالصة عن الشوائب, وما يوجب مثلها, فهي أيضاً عندهم نعمة, وعند أهل الحقيقة النعمة ما أشهدك المنعم أو ما ذكرك بالمنعم أو ما أوصلك إلى المنعم أو ما لم يحجبك عن المنعم(4). اهـ

"لطيفة"
قال الخازن(5) : النعم ثلاثة :
__________
(1) - تفسير الخازن – حـ1 صـ44
(2) - التفسير الكبير – حـ3 صـ475
(3) - تفسير القرطبي حـ1 صـ232
(4) - لطائف الإشارات حـ1 صـ 44
(5) - تفسير الخازن حـ1 صـ44

(5/47)


نعمة تفرد بها الله تعالى: وهي إيجاد الإنسان و رزقه, ونعمة وصلت إلى الإنسان بواسطة الغير, لكن الله مكنه من ذلك, فالمنعم بها في الحقيقة هو الله تعالى, ونعمة حصلت للإنسان بسبب الطاعة, وهي أيضاً من الله تعالى, فالله هو المنعم المطلق في الحقيقة, لأن أصول النعم كلها منه.
وأما النعم المختصة ببني إسرائيل فكثيرة, لأن قوله [اذكروا نعمتي] لفظ واحد ومعناها الجمع, فمن النعم أن الله أنقذهم من فرعون, وفلق البحر لهم, وأغرق فرعون, وتظليلهم بالغمام, وإنزال المن والسلوى في التيه عليهم, وإنزال التوراة, ونعم غير هذه كثيرة. أهـ.

"لطيفة ثانية"
قال بعض العارفين: عبيد النعم كثيرون, وعبيد المنعم قليلون, فالله تعالى ذكر بني إسرائيل بنعمه عليهم, ولما آل الأمر إلى أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - ذكرهم بالمنعم فقال [فاذكروني أذكركم] (البقرة: 152) فدل ذلك على فضل أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - على سائر الأمم(1) . ا.هـ

" اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم "
وقال أبو السعود(2) : [اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم] بالتفكير فيها, والقيام بشكرها وفيه إشعار بأنهم قد نسوها بالكلية, ولم يخطروها بالبال – لا أنهم أهملوا شكرها فقط, وإضافة النعمة إلى ضمير الجلالة, لتشريفها, وإيجاب تخصيص شكرها به تعالى, وتقييد النعمة بهم, كما أن الإنسان مجبول على حب النعمة, فإذا نظر إلى ما فاض عليه من المنعم حمله ذلك على الرضى والشكر. أهـ .

قوله تعالى: [وأوفوا بعهدي أوف بعهدكم (3)]
__________
(1) - التفسير الكبير حـ3 صـ477
(2) - تفسير أبي السعود حـ1 صـ94
(3) - وسيأتي إن شاء ذكرها فيما بعد في كلام الإمام القشيري – رحمه الله – عن الآية .

(5/48)


قال القرطبي بعد أن ذكر أقوال المفسرين في قوله [و أوفوا بعهدي...] وقيل: هو عام في جميع أوامره ونواهيه ووصاياه, فيدخل في ذلك ذكر محمد - صلى الله عليه وسلم - الذي في التوراة, وغيره, هذا قول الجمهور من العلماء, وهو الصحيح, وعهده سبحانه وتعالى هو أن يدخلهم الجنة.
ثم قال الإمام القرطبي: ووفاؤهم بعهد الله أمارة لوفاء الله تعالى لهم لا علة له, بل ذلك تفضل منه عليهم(1) . ا.هـ

قوله تعالى: [و إياي فارهبون]
وقوله [وإياي فارهبون] يدل على أن المرء يجب أن لا يخاف أحداً إلا الله تعالى وكما يجب ذلك في الخوف, فكذا في الرجاء والأمل, وذلك يدل على أن الكل بقضاء الله وقدره, إذ لو كان العبد مستقلاً بالفعل لوجب أن يخاف منه كما يخاف من الله تعالى, وحينئذ يبطل الحصر الذي دل عليه قوله تعالى [و إياي فارهبون] (2) .
وقال أبو السعود(3) : [و إياي فارهبون] فيما تأتون وما تذرون وخصوصاً في نقض العهد وهو أأكد في إفادة التخصيص من [إياك نعبد] لما فيه مع التقديم من تكرير المفعول, والفاء الجزائية الدالة على تضمن الكلام معنى الشرط, كأنه قيل: إن كنتم راهبين شيئاً فارهبوني. ا.هـ
وقيل الخوف خوفان: خوف العقاب, وخوف الجلال, والأول نصيب أهل الظاهر والثاني: نصيب أهل القلب, والأول يزول, والثاني لا يزول(4). ا.هـ
وقال الإمام القشيري – رحمه الله – ما نصه:

قوله تعالى جل ذكره: [و أوفوا بعهدي أوف بعهدكم وإياي فارهبون] عهده – سبحانه – حفظ المعرفة وعهدنا اتصال المغفرة, عهده حفظ محابه وعهدنا لطف ثوابه, وعهده حضور الباب وعهدنا جزيل المآب.
__________
(1) - تفسير القرطبي حـ1 صـ 233 بتصرف يسير
(2) - التفسير الكبير حـ2 – صـ482
(3) - تفسير أبي السعود حـ1 صـ95
(4) - التفسير الكبير – حـ3 – صـ482 بتصرف يسير

(5/49)


أوفوا بعهدي بحفظ السر أوف بعهدكم بجميل البر, أوفوا بعهدي الذي قبلتم يوم الميثاق أوف بعهدكم الذي ضمنت لكم يوم التلاق, أوفوا بعهدي في ألا تؤثروا علي غيري, أوف بعهدكم في ألا أمنع عنكم لطفي وخيري, أوفوا بعهدي برعاية ما أثبت فيكم من الودائع أوف بعهدكم بما أديم لكم من شوارق اللوامع وزواهر الطوالع, أوفوا بعهدي بحفظ أسراري, أوف بعهدكم بجميل مباري, أوفوا بعهدي باستدامة عرفاني, أوف بعهدكم في إدامة إحساني, أوفوا بعهدي بالقيام في خدمتي أوف بعهدكم في المنة عليكم بقبولها منكم, أوفوا بعهدي في القيام بحسن المجاهدة والمعاملة أوف بعهدكم بدوام المواصلة والمشاهدة, أوفوا بعهدي بالتبري من الحول والمنة أوف بعهدكم بالإكرام بالطول والمنة, أوفوا بعهدي بصدق المحبة أوف بعهدكم بكمال القربة, أوفوا بعهدي اكتفوا مني بي أوف بعهدكم أرضى بكم عنكم, أوفوا بعهدي في دار الغيبة على بساط الخدمة بشد نطاق الطاعة, وبذل الوسع والاستطاعة أوف بعهدكم في دار القربة على بساط الوصلة بإدامة الأنس والرؤية وسماع الخطاب وتمام الزلفة, أوفوا بعهدي في المطالبات بترك الشهوات أوف بعهدكم بكفايتكم تلك المطالبات, أوفوا بعهدي بأن تقولوا أبداً: ربي ربي أوف بعهدكم بأن أقول لكم عبدي عبدي. وإياي فارهبون, أي أفردوني بالخشية لانفرادي بالقدرة على الإيجاد فلا تصح الخشية ممن ليس له ذرة ولا منة (1) . اهـ.

[ ولا تكونوا أول كافر به ]
الضمير في [به] قيل هو عائد على سيدنا محمد - صلى الله عليه وسلم - وقيل: على القرآن, وقيل على التوراة, إذ تضمنها قوله [لما معكم] (2) .
ولم يقل كافرين مع أنهم جمع, لأن التقدير: ولا تكونوا أول فريق كافر به(3). اهـ .
__________
(1) - لطائف الإشارات حـ1 ص صـ84 ، 85
(2) - لا يخفى ما في هذا القول من التكلف والبعد .
(3) - تفسير القرطبي حـ1 صـ233 بتصرف يسير

(5/50)


[ولا تكونوا أول كافر به] وهذا تعريض بأنه كان يجب أن يكونوا أول من يؤمن به, لمعرفتهم به وبصفته(1) . أهـ.

وقال ابن الجوزي(2) : إنما قال: [أول كافر به], لأن المتقدم إلى الكفر أعظم من الكفر بعد ذلك, إذ المبادر لم يتأمل الحجة وإنما بادر بالعناد, فحاله أشد وقيل: [ولا تكونوا أول كافر به] بعد أن آمن والخطاب لرؤساء اليهود. اهـ
وقال الآلوسي(3) : [ولا تكونوا أول كافر به] وقيل: إنها مشاكلة لقولهم: إنا نكون أول من يتبعه - صلى الله عليه وسلم - (4) , وقد يقال إنها بمعنى السبق وعدم التخلف. اهـ

وقال الخطيب الشربيني(5) : فإن قيل كيف نهوا عن التقدم في الكفر, وقد سبقهم مشركو العرب [أجيب] بأن المراد به التعريض بما يجب عليهم لمقتضى حالهم لا الدلالة على ما نطق الظاهر, كقولك لمن أساء: أما أنا فلست بجاهل, أو ولا تكونوا أول كافر من أهل الكتاب, لأن ، خلفكم تبع لكم, فإثمهم عليكم, أو ممن كفر بما معه, فإن من كفر بالقرآن, فقد كفر بما يصدقه, أو مثل من كفر من مشركي مكة. اهـ

سؤال: كيف جعلوا أول من كفر به وقد سبقهم إلى الكفر مشركو العرب؟ والجواب من وجوه: أحدها: أن هذا تعريض بأنه كان يجب أن يكونوا أول من يؤمن به لمعرفتهم به وبصفته ولأنهم كانوا هم المبشرون بزمان محمد - صلى الله عليه وسلم - والمستفتحون على الذين كفروا به فلما بعث كان أمرهم على العكس لقوله تعالى[ فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به ] (البقرة: 89).
__________
(1) - تفسير النسفى حـ1 صـ45 بتصرف يسير
(2) - زاد المسير حـ1 صـ74
(3) - روح المعاني حـ1 صـ245
(4) - كانوا يستفحتون بالنبي صلى الله عليه وسلم - في حربهم مع المشركين قائلين : اللهم انصرنا بالنبي المبعوث في آخر الزمان ويقولون لأعدائهم المشركين قد أظل زمان نبي يخرج فنقتلكم معه قتل عاد وإرم . أ هـ التسهيل حـ1 صـ53
(5) - السراج المنير حـ1 صـ54

(5/51)


وثانيها: يجوز أن يراد ولا تكونوا مثل أول كافر به يعني من أشرك من أهل مكة, أي ولا تكونوا وأنتم تعرفونه مذكوراً في التوراة والإنجيل مثل من لم يعرفه وهو مشرك لا كتاب له.
وثالثها: ولا تكونوا أول كافر به من أهل الكتاب لأن هؤلاء كانوا أول من كفر بالقرآن من بني إسرائيل وإن كانت قريش كفروا به من قبل ذلك.
ورابعها: ولا تكونوا أول كافر به, يعني بكتابكم يقول ذلك لعلمائهم: أي ولا تكونوا أول أحد من أمتكم كذب كتابكم لأن تكذيبكم بمحمد – صلى الله عليه وسلم – يوجب تكذيبكم بكتابكم.
وخامسها: أن المراد منه بيان تغليظ كفرهم وذلك لأنهم لما شاهدوا المعجزات الدالة على صدقه عرفوا البشارات الواردة في التوراة والإنجيل بمقدمه فكان كفرهم أشد من كفر من لم يعرف إلا نوعاً واحداً من الدليل والسابق إلى الكفر يكون أعظم ذنباً ممن بعده لقوله عليه السلام: "من سن سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها" فلما كان كفرهم عظيماً وكفر من كان سابقاً في الكفر عظيماً فقد اشتركا من هذا الوجه فصح إطلاق اسم أحدهما على الآخر على سبيل الاستعارة .
وسادسها: المعنى ولا تكونوا أول من جحد مع المعرفة لأن كفر قريش كان مع الجهل لا مع المعرفة .
وسابعها: أول كافر به من اليهود لأن النبي – صلى الله عليه وسلم – قدم المدينة وبها قريظة والنضير فكفروا به ثم تتابعت سائر اليهود على ذلك الكفر فكأنه قيل: أول من كفر به من أهل الكتاب وهو كقوله: [وأني فضلتكم على العالمين] (البقرة: 47, 122 ) أي عالمي زمانهم .
وثامنها: ولا تكونوا أول كافر به عند سماعكم بذكره بل تثبتوا فيه وراجعوا عقولكم فيه. وتاسعها: أن لفظ [أول] صلة, والمعنى ولاتكونوا كافرين به, وهذا ضعيف .

(5/52)


سؤال: أنه كان يجوز لهم الكفر إذا لم يكونوا أولاً, والجواب من وجوه: أحدها: أنه ليس في ذكر ذلك الشيء دلالة على أن ما عداه بخلافه, وثانيها: أن في قوله [وآمنوا بما أنزلت مصدقاً لما معكم] دلالة على أن كفرهم أولاً وآخراً محظور. وثالثها: أن قوله: [رفع السموات بغير عمد ترونها] ( الرعد: 2 ) لا يدل على وجود عمد لا يرونها, وقوله [وقتلهم الأنبياء بغير حق] (النساء: 155) لا يدل على وجود قتل الأنبياء بحق. وقوله عقيب هذه الآية: [ولا تشتروا بآياتي ثمناً قليلاً] لا يدل على إباحة ذلك بالثمن الكثير, فكذا هاهنا, بل المقصود من هذه السياقة استعظام وقوع الجحد والإنكار ممن قرأ في الكتب نعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وصفته. ورابعها: قال المبرد: هذا الكلام خطاب لقوم خوطبوا به قبل غيرهم فقيل لهم لا تكفروا بمحمد فإنه سيكون بعدكم الكفار فلا تكونوا أنتم أول الكفار لأن هذه الأولية موجبة لمزيد الإثم وذلك لأنهم إذا سبقوا إلى الكفر فإما أن يقتدي بهم غيرهم في ذلك الكفر أو لا يكون كذلك. فإن اقتدى بهم غيرهم في ذلك الكفر كان لهم وزر ذلك الكفر ووزر كل من كفر إلى يوم القيامة, وإن لم يقتد بهم غيرهم اجتمع عليهم أمران, أحدهما: السبق إلى الكفر, والثاني: التفرد به, ولا شك في أنه منقصة عظيمة, فقوله: [ولا تكونوا أول كافر به] إشارة إلى هذا المعنى(1) . اهـ.

فائدة جليلة وفريدة
«فخر الإِسلام» ـ الذي كان من كبار قساوسة المسيحيين ، وتتلمذ عند علمائهم حتى حاز مراتب كبيرة في الدراسات الكنسية ـ يتحدث في مقدمة كتابه «أنيس الأعلام» عن انتقاله من المسيحية إلى الإِسلام فيقول :
__________
(1) - التفسير الكبير حـ3 صـ483 ، 484

(5/53)


«... بعد بحث طويل وعناء كبير وتجوال في المدن ، عثرت على قسيس كبير متميز في زهده وتقواه ، كان يرجع إليه الكاثوليك بما فيهم سلاطينهم ، تعلمت عليه زمناً مذاهب النصارى ، وكان له طلاب كثيرون ، ولكنه كان ينظر إليّ من بينهم نظرة خاصة ، وكانت كل مفاتيح البيت بيدي ، إلا مفتاحاً واحداً لغرفة صغيرة ، احتفظ به عنده ... . وفي يوم اعتلّت صحة القسيس ، فقال لي : قل للطلاب إني لا أستطيع التدريس اليوم. حينما جئت الطلاب وجدتهم منهمكين في نقاش حول معنى «فارقليطا» في السريانية ، و«پريكلتوس» في اليونانية ... واستمر بينهم النقاش ، وكل كان يدلي برأيه ... . بعد أن عدت إلى الأستاذ سألني عما كان يدور بين الطلاب ، فأخبرته ، فقال لي : وما رأيك ؟ قلت : اخترت الرأي الفلاني.
قال القسيس : ما قصّرت في عملك ، ولكن الحقّ غير ذلك ؛ لأن حقيقة هذا الأمر لا يعلمها إلا الراسخون في العلم ، وقليل ما هم. أكثرت في الإلحاح عليه أن يوضح لي معنى الكلمة. فبكى بكاءً مرّاً وقال : لم أخف عليك شيئاً ... إن لفهم معنى هذه الكلمة أثراً كبيراً ، ولكنه إن انتشر فسنتعرض للقتل! فإن عاهدتني أن لا تفشيه فسأخبرك ... فأقسمت بكل المقدسات أن لا أذكر ذلك لأحد ، فقال : إنه اسم من أسماء نبي المسلمين ، ويعني «أحمد» و«محمّد».
ثم أعطاني مفتاح الغرفة وقال : افتح الصندوق الفلاني ، وهاتِ الكتابين اللذين فيه ، جئت إليه بالكتابين وكانا مكتوبين باليونانية والسريانية على جلد ، ويعودان إلى عصر ما قبل الإِسلام.
الكتابان ترجما «فارقليطا» بمعنى أحمد ومحمّد ، ثم أضاف الأستاذ : علماء النصارى كانوا مجمعين قبل ظهوره أن «فارقليطا» بمعنى «أحمد ومحمّد» ، ولكن بعد ظهور محمّد (صلى الله عليه وآله وسلم) ، غيّروا هذا المعنى حفظاً لمكانتهم ورئاستهم وأوّلوه ، واخترعوا له معنى آخر لم يكن على الإِطلاق هدف صاحب الإِنجيل.

(5/54)


سألته عما يقوله بشأن دين النصارى ؟ قال : لقد نسخ بمجيء الإِسلام ، وكرر ذلك ثلاثاً ، ثم قلت : ما هي طريقة النجاة والصراط المستقيم في زماننا هذا ؟ قال : إنما هي باتباع محمّد (صلى الله عليه وآله وسلم).
قلت: وهل التابعون له ناجون؟
قال: إي والله ، وكرر ذلك ثلاثاً.
ثم بكى الأستاذ وبكيت كثيراً ثم قال: إذا أردت الآخرة والنجاة فعليك بدين الحق... وأنا أدعو لك دائماً ، شرط أن تكون شاهداً لي يوم القيامة أنّي كنت في الباطن مسلماً ، ومن أتباع محمّد (صلى الله عليه وآله وسلم) ... وما من شك أن الإِسلام هو دين الله اليوم على ظهر الأرض».
وكما يلاحظ فإن هذه الوثيقة الهامة تصرّح بما فعله علماء أهل الكتاب بعد ظهور نبي الإِسلام (صلى الله عليه وآله وسلم) من تحريف لتفسير اسم النّبي وعلاماته ، تحقيقاً لمصالحهم الشخصية.أهـ [الأمثل حـ1 صـ53].

قوله تعالى: [وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة واركعوا مع الراكعين] .
قال الجصاص (1)– رحمه الله –
قوله تعالى [وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة واركعوا مع الراكعين] لا يخلو من أن يكون راجعاً إلى صلاة معهودة, وزكاة معلومة, وقد عرفها, او أن يكون متناولاً صلاة مجملة وزكاة مجملة موقوفة على البيان.
وأما قوله [و اركعوا مع الركعين] فإنه يفيد إثبات فرض الركوع في الصلاة, وقيل إنه إنما خص الركوع, لأن أهل الكتاب لم يكن لهم ركوع في صلاتهم نفسها, كما عبر عنها بالقراءة في قوله [فاقرؤا ما تيسر من القرآن] ( المزمل: 20) وقوله: [وقرآن الفجر إن قرآن الفجر كان مشهوداً] (الإسراء: 78) فينتظم وجهين من الفائدة: أحدها: إيجاب الركوع, لأنه لم يعبر عنها بالركوع إلا وهو من فرضها. والثاني: الأمر بالصلاة مع المصلين.
فإن قيل: قد تقدم ذكر الصلاة في قوله [وأقيموا الصلاة] فغير جائز أن يريد بعطف الركوع عليها الصلاة بعينها.
__________
(1) - أحكام القرآن للجصاص حـ1 صـ46 : 47 بتصرف يسير

(5/55)


قيل له: هذا جائز إذا أريد بالصلاة المبدوء بذكرها الإجمال دون صلاة معهودة, فيكون حينئذ قوله [واركعوا مع الراكعين] إحالة لهم على الصلاة التي بينها بركوعها, وسائر فروضها, وأيضاً لما كانت صلاة أهل الكتاب بغير ركوع, وكان في اللفظ احتمال رجوعه إلى تلك الصلاة بين أنه لم يرد الصلاة التي يتعبد بها أهل الكتاب, بل التي فيها الركوع. اهـ
وأجاب الفخر الرازي عن هذا السؤال بمثل ما سبق وزاد عليه وجهاً ثالثاً وهو أن المراد من الأمر بالركوع هو الأمر بالخضوع, لأن الركوع والخضوع في اللغة سواء فيكون نهياً عن الاستكبار المذموم وأمراً بالتذلل كما قال للمؤمنين [فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين] (المائدة: 54) (1) اهـ .

قوله تعالى [واستعينوا بالصبر والصلاة]
قال الإمام الآلوسي(2) : - رحمه الله –
الصبر: حبس النفس على ما تكره, وقدمه على الصلاة لأنها لا تكمل إلا به, أو لمناسبته لحال المخاطبين, ويجوز أن يراد بالصبر نوع منه وهو الصوم بقرينة ذكره مع الصلاة. اهـ
وقال الثعالبي(3) : الصبر على بابه, والصلاة الدعاء(4) , وتجيء الآية على هذا القول مشبهة لقوله تعالى: [إذا لقيتم فئة فاثبتوا واذكروا الله كثيراً] (الأنفال: 45) لأن الثبات هو الصبر, وذكر الله هو الدعاء.اهـ
وقال ابن عطية: (5) .
__________
(1) - التفسير الكبير حـ3 صـ487 بتصرف يسير
(2) - روح المعاني حـ1 صـ248 ، 249
(3) - تفسير الثعالبي حـ1 صـ58
(4) - وما الداعي إلى التأويل وحمل الصلاة على الدعاء وقد علمنا أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة .
(5) - المحرر الوجيز حـ1 صـ137

(5/56)


وقال مجاهد: الصبر في هذه الآية: الصوم(1) , ومنه قيل لرمضان شهر الصبر, وخص الصوم والصلاة – على هذا القول – بالذكر لتناسبهما في أن الصيام يمنع الشهوات ويزهد في الدنيا, والصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر وتخشع, ويقرأ فيها القرآن الذي يذكر بالآخرة. اهـ.
وقال الخازن(2) : [واستعينوا بالصبر والصلاة] قيل المخاطبين بهذا هم المؤمنون, لأن من ينكر الصلاة والصبر على دين محمد – صلى الله عليه وسلم – لا يقال له: استعن بالصبر والصلاة, فلا جرم وجب صرفه إلى من صدق محمداً – صلى الله عليه وسلم – و آمن به, وقيل(3) : يحتمل أن يكون الخطاب لبني إسرائيل, لأن صرف الخطاب إلى غيرهم يوجب تفكيك نظم القرآن, ولأن اليهود لم ينكروا أصل الصلاة والصبر, لكن صلاتهم غير صلاة المؤمنين, فعلى هذا القول: إن الله تعالى: لما أمرهم بالإيمان بمحمد – صلى الله عليه وسلم – والتزام شريعته وترك الرياسة وحب الجاه والمال قال لهم استعينوا بالصبر أي بحبس النفس عن اللذات, وإن ضممتم إلى ذلك الصلاة هان عليكم ترك ما أنتم فيه من حب الرياسة والجاه والمال. اهـ

(( واستعينوا بالصبر والصلاة ))

وقال الجصاص(4) : - رحمه الله –
وقوله تعالى [واستعينوا بالصبر والصلاة] ينصرف الأمر بالصبر على أداء الفرائض التي فرضها الله, اجتناب معاصيه, وفعل الصلاة المفروضة, وقد روى سعيد عن قتادة "أنهما معونتان على طاعة الله تعالى" وفعل الصلاة لطف في اجتناب معاصيه وأداء فرائضه كقوله " إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر" ( العنكبوت: 45)
__________
(1) - هذا عدول عن الظاهر من غير دليل يحوج إليه
(2) - تفسير الخازن حـ1 صـ47
(3) - لا يخفى ما في هذا الوجه من بعد وتكلف ، وكذلك توجيهه ليس بالقوى ، فكيف يطلب الصبر والصلاة ممن لم يؤمن بعد .
(4) - أحكام القرآن للجصاص حـ1 صـ47 بتصرف يسير

(5/57)


ويحتمل أن يريد به الصبر والصلاة المندوب إليهما لا المفروضين , وذلك نحو صوم التطوع وصلاة النفل إلا أن الأظهر الأول.اهـ

قوله تعالى: [وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين ]
قال القرطبي(1) : الضمير في كلمة [وإنها] قيل يعود على الصلاة وحدها خاصة, وقيل عليهما ( الصبر والصلاة) ولكنه كنى عن الأغلب وهو الصلاة, كقوله [والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله](التوبة: 34) وقوله [وإذا رأوا تجارة أو لهواً انفضوا إليها] (الجمعة:11) فرد الكناية إلى الفضة لأنها الأغلب والأعم, وإلى التجارة, لأنها الأفضل والأهم. وقيل:إن الصبر لما كان داخلاً في الصلاة أعاد عليها كما قال: [والله ورسوله أحق أن يرضوه] (التوبة: 62) ولم يقل يرضوهما, لأن رضا الرسول – صلى الله عليه وسلم – داخل في رضا الله عز وجل, وقيل العبادة التي يتضمنها بالمعنى ذكر الصبر والصلاة, وقيل على المصدر وهي الاستعانة التي يقتضيها قوله: [واستعينوا] وقيل: على إجابة محمد – صلى الله عليه وسلم – لأن الصبر والصلاة مما كان يدعو إليه, وقيل: على الكعبة لأن الأمر بالصلاة, إنما هو إليها.
[لكبيرة] معناه: ثقيلة شاقة. اهـ

[ وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين ]
قال الإمام القشيري – رحمه الله –
الصبر فطم النفس عن المألوفات, والصلاة التعرض لحصول المواصلات, فالصبر يشير إلى هجران الغير, والصلاة تشير إلى دوام الوقوف بحضرة الغيب, وإن الاستعانة بهما لخصلة شديدة إلا على من تجلى الحق لسره فإن في الخبر المنقول "إن الله تعالى إذا تجلى لشيء خشع له", وإذا تجلى الحق خف وسهل ما توقى الخلق لأن التوالي للطاعات يوجب التكليف بموجب مقاساة الكلفة, والتجلي بالمشاهدات – بحكم التحقيق – يوجب تمام الوصلة ودوام الزلفة.
__________
(1) - تفسير القرطبي حـ1 صـ260 بتصرف يسير

(5/58)


ويقال: استعينوا بي على الصبر معي, واستعينوا بحفظي لكم على صلاتكم لي, حتى لا تستغرقكم واردات الكشف على القلب في أوان الكشف حتى يقوى العبد على القيام بأحكام الفرق لمنة عظيمة من الحق.
وأقسام الصبر كلها محمودة الصبر في الله, والصبر لله, والصبر بالله, والصبر مع الله, إلا صبراً واحداً وهو الصبر عن الله .
والصبر يحسن في المواطن كلها . إلا عليك فإنه مذموم .……

(( وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين ))
[سؤال] فإن قلت(1) : مالها لم تثقل على الخاشعين, والخشوع في نفسه مما يثقل ؟ .
[قلت] لأنهم يتوقعون ما ادخر للصابرين على متاعبها, فتهون عليهم: ألا ترى إلى قوله تعالى [الذين يظنون أنهم ملاقو ربهم] (البقرة:46) أي يتوقعون لقاء ثوابه ونيل ما عنده, ويطمعون فيه(2) . أهـ .
وقال أبو السعود(3) : الخشوع الإخبات, والخضوع اللين والانقياد, ولذلك يقال: الخشوع بالجوارح والخضوع بالقلب. اهـ
قال الخازن(4) : [إلا على الخاشعين] يعني المؤمنين, وقيل الخائفين, وقيل: المطيعين المتواضعين لله, وأصل الخشوع السكون, فالخاشع ساكن إلى الطاعة, وقيل: الخشوع الضراعة, وأكثر ما تستعمل في الجوارح, وإنما كانت الصلاة ثقيلة على غير الخاشعين, لأن من لا يرجو لها ثواباً, ولا يخاف على تركها عقاباً فهي ثقيلة عليه. اهـ
__________
(1) - الكشاف حـ1 صـ137
(2) - استدل أهل السنة بهذه الآية على رؤية الله تعالى للمؤمنين يوم القيامة ، وبآيات أخرى ولكن الإمام الزمخشري كما ترى يحاول الفرار من هذا الاستدلال بقوله يتوقعون لقاء ثوابه ، لميله لمذهب المعتزلة الذين يقولون بنفي الرؤية يوم القيامة مستندين إلى قوله تعالى لموسى " لن تراني " وسيأتي الرد عليهم إن شاء الله في سورة الأعراف .
(3) - تفسير أبي السعود حـ1 صـ98
(4) - تفسير الخازن حـ1 صـ 47

(5/59)


وقال في الميزان (1) [واستعينوا بالصبر والصلاة] الضمير راجع إلى الصلاة, وأما إرجاعه إلى الاستعانة لتضمنه قوله [استعينوا] ذلك ينافيه ظاهراً قوله [إلى على الخاشعين] فإن الخشوع لا يلائم الصبر كثير ملائمة. اهـ

[ الذين يظنون أنهم ملاقو ربهم ]
قال الراغب الأصفهانى فى مفردات القرآن حـ1ص935 ما نصه :
- الظن : اسم لما يحصل عن أمارة ومتى قويت أدت إلى العلم ومتى ضعفت جدا لم يتجاوز حد التوهم ومتى قوي أو تصور تصور القوي استعمل معه ( أن ) المشددة و( أن ) المخففة منها . ومتى ضعف استعمل أن المختصة بالمعدومين من القول والفعل فقوله : {الذين يظنون أنهم ملاقوا ربهم} [البقرة / 46 ] وكذا : { يظنون أنهم ملاقوا الله} [ البقرة / 249] فمن اليقين {وظن أنه الفراق } [ القيامة / 28 ] وقوله : {ألا يظن أولئك } [ المطففين / 4 ] وهو نهاية في ذمهم . ومعناه : ألا يكون منهم ظن لذلك تنبيها أن أمارات البعث ظاهرة . وقوله : {وظن أهلها أنهم قادرون عليها } [يونس / 24 ] تنبيها أنهم صاروا في حكم العالمين لفرط طمعهم وأملهم وقوله : { وظن داود أنما فتناه } [ ص / 24 ] أي : علم والفتنة ههنا . كقوله : { وفتناك فتونا } [طه / 40 ] وقوله : {وذا النون إذ ذهب مغاضبا فظن أن لن نقدر عليه} [ الأنبياء / 87 ] فقد قيل : الأولى أن يكون من الظن الذي هو التوهم أي : ظن أن لن نضيق عليه (وهذا قول عطاء وسعيد بن جبير وكثير من العلماء )وقوله: {واستكبر هو وجنوده في الأرض بغير الحق وظنوا أنهم إلينا لا يرجعون} [القصص / 39] فإنه استعمل فيه ( أن ) المستعمل مع الظن الذي هو للعلم تنبيها أنهم اعتقدوا ذلك اعتقادهم للشيء المتيقن وإن لم يكن ذلك متيقنا وقوله : {يظنون بالله غير الحق ظن الجاهلية} [آل عمران / 154] أي : يظنون أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لم يصدقهم فيما أخبرهم به كما ظن الجاهلية تنبيها أن هؤلاء المنافقين هم في حيز
__________
(1) - الميزان حـ1 صـ152

(5/60)


الكفار وقوله : {وظنوا أنهم مانعتهم حصونهم} [الحشر / 2] أي : اعتقدوا اعتقادا كانوا منه في حكم المتيقنين وعلى هذا قوله : { ولكن ظننتم أن الله لا يعلم كثيرا مما تعملون } [ فصلت / 22 ] وقوله : {الظانين بالله ظن السوء} [الفتح / 6] هو مفسر بما بعده وهو قوله : بل ظننتم أن لن ينقلب الرسول} [ الفتح / 12 ] {إن نظن إلا ظنا} [ الجاثية / 32 ] والظن في كثير من الأمور مذموم ولذلك قال تعالى : {وما يتبع أكثرهم إلا ظنا} [ يونس/ 36] {وإن الظن} [ النجم / 28 ] {وأنهم ظنوا كما ظننتم} [الجن / 7]. انتهى كلامه رحمه الله .
وقال القرطبي(1) : وأصل الظن وقاعدته الشك مع ميل إلى أحد معتقد به, وقد يوقع موقع اليقين, كما في هذه الآية وغيرها, لكنه لا يوقع فيما قد خرج إلى الحس, لا تقول العرب في رجل مرئي حاضر: أظن هذا إنساناً, وإنما تجد الاستعمال فيما لم يخرج إلى الحس بعد, كهذه الآية, والشعر, وكقوله [فظنوا أنهم مواقعوها](الكهف: 53) وقد يجئ اليقين بمعنى الظن. اهـ
وقال الإمام الآلوسي: بعد ما ذكر أن الظن في الآية الكريمة محمول على اليقين, قال ما نصه :
__________
(1) - تفسير القرطبي حـ1 صـ262

(5/61)


إلا أن عطف [وأنهم إليه راجعون] على ما قبله يمنع حمل الظن على ما ذكر, لأن الرجوع إليه تعالى بالنشور أو المصير إلى الجزاء مطلقاً مما لا يكفي فيه الظن والتوقع, بل يجب القطع به اللهم إلا أن يقدر له عامل أي ويعلمون أو يقال: إن الظن متعلق بالمجموع من حيث هو مجموع وهو كذلك غير مقطوع به , وإن كان أحد جزئيه مقطوعاً به أو يقال: إن الرجوع إلى الرب هنا المصير إلى جزائه الخاص أعني الثواب بدار السلام , والحلول بجواره جل شأنه, والكل خلاف الظاهر, ولهذا اختير تفسير الظن باليقين مجازاً , ومعنى التوقع والانتظار في ضمنه , ولقاء الله تعالى بمعنى الحشر, والرجوع بمعنى المجازات ثواباً أو عقاباً, فكأنه عز شأنه قال: يعلمون أنهم يحشرون إليه فيجازيهم متوقعين لذلك, وكأن النكتة في استعمال الظن: المبالغة في إيهام أن من ظن ذلك لا يشق عليه ما تقدم فكيف من تيقن, والتعرض لعنوان الربوبية للإشعار بعلية الربوبية والمالكية للحكم (1). اهـ.

قوله تعالى ( الذين يظنون أنهم ملاقو ربهم ))
[سؤال]: هل الظن يكفي في الأمور الاعتقادية ؟ مع أن الله تعالى قال: [ إن الظن لا يغني من الحق شيئاً ]
[الجواب] قال الإمام فخر الدين الرازي :
للمفسرين قولان: الأول: أن الظن بمعنى العلم وهذا مجاز وسببه أن العلم والظن يشتركان في كون كل واحد منهما اعتقاداً راجحاً إلا أن العلم راجح مانع من النقيض, والظن راجح غير مانع من النقيض, فلما اشتبها من هذا الوجه صح إطلاق اسم احدهما على الآخر. قال أوس بن حجر:
فأرسلته مستيقن الظن أنه مخالط ما بين الشراسيف خائف
وقال تعالى: [إني ظننت أني ملاقٍ حسابيه] (الحاقة:20) وقال: [ألا يظن أولئك أنهم مبعوثون] (المطففين:4)
القول الثاني: أن يحمل اللفظ على ظاهره وهو الظن الحقيقي, ثم هاهنا وجوه.
__________
(1) - روح المعاني حـ1 صـ249 ، 250

(5/62)


الأول: أن تجعل ملاقاة الرب مجازاً عن الموت, وذلك لأن ملاقاة الرب مسبب عن الموت, فأطلق المسبب, والمراد منه السبب, وهذا مجاز مشهور فإنه يقال لمن مات: إنه لقي ربه .
الثاني: أن تفسر ملاقاة الرب بملاقاة ثواب الرب, وذلك مظنون لا معلوم فإن الزاهد العابد لا يقطع بكونه ملاقياً لثواب الله, بل يظن إلا أن ذلك الظن مما يحمله على كمال الخشوع .
الثالث: المعنى: الذين يظنون أنهم ملاقو ربهم بذنوبهم, فإن الإنسان الخاشع قد يسئ ظنه بنفسه وبأعماله, فيغلب على ظنه أنه يلقى الله تعالى بذنوبه فعند ذلك يسارع إلى التوبة, وذلك من صفات المدح. أهـ .
قال أبو بكر الأنباري حدثنا أحمد بن يحيى النحوي أن العرب تجعل الظن علما وشكا وكذبا ، وقال إذا قامت براهين العلم فكانت أكثر من براهين الشك ، فالظن يقين ، وإذا اعتدلت براهين اليقين وبراهين الشك ، فالظن شك ، وإذا زادت براهين الشك على براهين اليقين ، فالظن كذب ، قال الله تعالى " إنهم إلا يظنون " أراد : إلا يكذبون (1) أ هـ .

وقال ابن عرفة: (الذي يظهر) لي أن الظنّ على بابه مصروف لزمن (الملاقاة) أي هم يستحضرون الموت ويظنونه في كل زمن واقعا بهم. أهـ [تفسير ابن عرفة حـ 1 صـ145]

(( الذين يظنون أنهم ملاقو ربهم ))
قال القشيري(2) : الظن يذكر, ويقال: المراد به اليقين, وهو الأظهر ها هنا, ويذكر ويراد به الحسبان, فمن ظن ظن يقين فصاحب وصلة, ومن ظن ظن تخمين فصاحب فرقة. اهـ

وقال فى البحر المديد : وإنما عبَّر الحق تعالى هنا بالظن في موضع اليقين إبقاء على المذنبين، وتوفراً على العاصين، الذين ليس لهم صفاء اليقين؛ إذ لو ذكر اليقين صرفاً لخرجوا من الجملة، فسبحانه من رب حليم، وجواد كريم. اللهم امنن علينا بصفاء المعرفة واليقين، حتى لا يختلج قلوبنا وَهْمٌ ولا ريب، يا رب العالمين. أهـ تفسير ابن عجيبة حـ1 صـ75 ] .
__________
(1) - تفسير القرطبي حـ2 صـ8 بتصرف يسير
(2) - لطائف الإرشادات حـ1 صـ88

(5/63)


وقال صاحب الميزان( 2) : وإنما يخوف العدو باليقين لا بالشك, ولكنه أمرهم بالظن, لأن الظن يكفيهم في الانقلاع عن المخالفة بلا حاجة إلى اليقين حتى يتكلف المهدد إلى إيجاد اليقين فيهم بالتفهيم من غير اعتناء منه بشأنهم وعلى هذا, فالآية قريبة المضمون من قوله تعالى: [ فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملاً صالحاً ] (الكهف: 110)اهـ

قوله تعالى: [وأنهم إليه راجعون ]
[سؤال] فإن قيل: [الذين يظنون أنهم ملاقو ربهم وأنهم إليه راجعون] ما فائدة الثاني [ راجعون ] والأول [ ملاقو ربهم ] يدل عليه
[الجواب] قوله [ ملاقو ربهم ] أي موقنون بالبعث, فصار المعنى أنهم موقنون بالبعث, وبحصول الثواب الموعود, فلا تكرار فيه(1) . أهـ .
وقال القشيري(2) : [ملاقو ربهم] صيغة تصلح لماضي الزمان, والحاضر وهم ملاقون ربهم في المستقبل ولكن ا لقوم لتحققهم بما يكون من أحكام الغيب صاروا كأن الوعد لهم تقرر والغيب لهم حضور اهـ .

قوله تعالى [يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي .... وأني فضلتكم على العالمين]
قال الشيخ الشنقيطي(3) - رحمه الله - قوله تعالى لبني إسرائيل [وأني فضلتكم على العالمين] لا يعارض قوله تعالى في تفضيل هذه الأمة [كنتم خير أمة أخرجت للناس] (آل عمران:110), لأن المراد بالعالمين عالم زمانهم بدليل الآيات والأحاديث المصرحة, بأن هذه الأمة أفضل منهم كحديث معاوية بن حيدة القشيري في المسانيد والسنة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم - "أنتم توفون سبعين أمة أنتم خيرها, وأكرمها على الله"(4) .
__________
(1) -- الميزان حـ1 صـ152
3ـ تفسير للرازي صـ24
(2) - لطائف الإرشادات حـ1 صـ88
(3) - دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب صـ21
(4) - رواه الحاكم في المستدرك رقم 6987 بلفظ تتمون سبعين أمة ، والترمذي رقم 3001 ، والدارمى رقم 2760 بلفظ وفيتم ، والنسائي رقم 11430 بلفظ توفون ، والبيهقي حـ9 صـ5 .

(5/64)


ألا ترى أن الله جعل المقتصد منهم هو أعلاهم منزلة حيث قال [منهم أمة مقتصدة وكثير منهم ساء ما يعملون] (المائدة: 66) وجعل في هذه الأمة درجة أعلى من درجة المقتصدة وهي درجة السابق بالخيرات حيث قال تعالى [ومنهم سابق بالخيرات](فاطر:32 ) أهـ .
وقال السمرقندي (1) [على العالمين] يعني عالمهم وزمانهم, وقال بعض من آمن من أهل الكتاب ب محمد – صلى الله عليه وسلم – كانت له فضيلة على غيره, وكان له أجران أجر إيمان بنبيه, وآخر إيمانه بمحمد – صلى الله عليه وسلم – وقد روي عن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – أنه قال: " ثلاثة يعطيهم الله الأجر مرتين: من اشترى جارية فأحسن تأديبها فأعتقها وتزوجها, وعبد أطاع سيده وأطاع الله تعالى, ورجل من أهل الكتاب أدرك النبي – صلى الله عليه وسلم – فآمن به" أهـ .

[وأني فضلتكم على العالمين]
وقال البيضاوي(2) : [على العالمين] أي عالمي زمانهم, يريد به تفضيل أبائهم الذين كانوا في عصر موسى – عليه الصلاة والسلام- وبعده قبل أن يضروا بما منحهم تعالى من العلم والإيمان والعمل الصالح وجعلهم أنبياء وملوكاً مقسطين. اهـ
وفي الطبري ما نصه: "وحدثني يونس بن عبد الأعلى قال أخبرنا وهب قال سألت ابن زيد عن قول الله [وأني فضلتكم على العالمين] قال: عالم أهل ذلك الزمان وقرأ قول الله [ولقد اخترناهم على علم على العالمين] (الدخان: 32) قال هذه لمن أطاعه واتبع أمره, وقد كان فيهم القردة وهم أبغض خلقه إليه, وقال لهذه الأمة [كنتم خير أمة أخرجت للناس] قال هذا لمن أطاع الله, واتبع أمره واجتنب محارمه(3) . أهـ .
وقال الفخر الرازي(4) : وإنما كانوا أفضل بما أعطوا من الملك والرسالة والكتب الإلهية. أهـ .
__________
(1) - بحر العلوم حـ1 صـ76 : 77
(2) - تفسير البيضاوي حـ1 صـ218
(3) - تفسير الطبري حـ1 صـ265
(4) - التفسير الكبير حـ3 صـ493

(5/65)


وقال القشيري(1) : أشهد بني إسرائيل فضل أنفسهم فقال: [وأني فضلتكم على العالمين ] وأشهد المسلمين من أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - فضل نفسه فقال [قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا] (يونس:58) فشتان بين من مشهوده فضل نفسه, وبين من مشهوده فضل ربه, فشهود العبد فضل نفسه يوجب له الشكر, وهو خطر الإعجاب, وشهود العبد فضل الحق - الذي هو جلاله في وصفه وجماله في استحقاق نعته - يقتضي الثناء وهو يوجب الإيجاب ( أي الاستحقاق والقبول) اهـ

قوله تعالى: [واتقوا يوماً لا تجزي نفس عن نفس شيئاً ولا يقبل منها شفاعة]
قال ابن عطية(2) : "وقوله عز وجل "واتقوا يوماً" نصب يوماً ب (اتقوا) على السعة والتقدير: عذاب يوم, أو هول يوم, ثم حذف ذلك وأقام اليوم مقامه, ويصح أن يكون نصبه على الظرف لا التقوى, لأن يوم القيامة ليس بيوم عمل, ولكن معناه: جيئوا متقين يوماً, و [لا تجزي] معناه: لا تغني. أهـ .

قال الكرماني(3) - رحمه الله - "قوله: [ولا يقبل منها شفاعة ولا يؤخذ منها عدل] قدم الشفاعة في هذه الآية, وأخر العدل, وقدم العدل في الآية الأخرى من هذه السورة, وأخر الشفاعة, وإنما قدم الشفاعة قطعاً لطمع من زعم أن آبائهم تشفع لهم, وأن الأصنام شفعاؤهم عند الله, وأخرها في الآية الأخرى, لأن التقدير في الآيتين معاً لا يقبل منها شفاعة فتنفعها تلك الشفاعة, لأن النفع بعد القبول, وقدم العدل في الآية الأخرى ليكون لفظ القبول مقدماً فيها. اهـ

وقال الإمام الفخر(4) : إن الله تعالى قدم في هذه الآية قبول الشفاعة على أخذ الفدية وذكر هذه الآية في هذه السورة بعد العشرين والمائة, وقدم قبول الفدية على ذكر الشفاعة فما الحكمة فيه ؟ .
__________
(1) - لطائف الإرشادات حـ1 ص88 بتصرف يسير
(2) - المحرر الوجيز حـ1 صـ139
(3) - أسرار التكرار في القرآن صـ27
(4) - التفسير الكبير حـ3 صـ494

(5/66)


[الجواب] أن من كان ميله إلى حب المال أشد من ميله إلى علو النفس, فإنه يقدم التمسك بالشافعين على إعطاء الفدية, ومن كان بالعكس يقدم الفدية على الشفاعة, ففائدة تغيير الترتيب, الإشارة إلى هذين الصنفين. اهـ.

[و لا يقبل منها شفاعة ]
قال في التسهيل : [و لا يقبل منها شفاعة ] ليس نفياً للشفاعة مطلقاً, فإن مذهب أهل الحق ثبوت الشفاعة لسيدنا محمد – صلى الله عليه وسلم – وشفاعة الملائكة والأنبياء والمؤمنين, وإنما المراد: أنه لا يشفع أحد إلا بعد أن يأذن الله له لقوله تعالى [ من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه] (البقرة:225) ولقوله [ ما من شفيع إلا من بعد إذنه](يونس:3) ولقوله [ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له] (سبأ:23) وأنظر ما ورد أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يستأذن في الشفاعة, فيقال له: اشفع تشفع. فكل ما ورد في القرآن من نفى الشفاعة مطلقاً يحمل على هذا لأن المطلق يحمل على المقيد(1). أهـ .

وقال ابن عطية(2) : وسبب نزول هذه الآية أن بني إسرائيل قالوا: نحن أبناء الله وأبناء أنبيائه وسيشفع لنا آباؤنا, فأعلمهم الله تعالى عن يوم القيامة أنه لا تقبل فيه الشفاعة, و [لا تجزى نفس عن نفس شيئاً] وهذا إنما هو في الكافرين, للإجماع وتواتر الحديث بالشفاعة في المؤمنين.
وقال القرطبي(3) : مذهب أهل الحق أن الشفاعة حق, وأنكرها المعتزلة, وخلدوا المذنبين من المؤمنين الذين دخلوا النار في العذاب. فإن قالوا: قد وردت نصوص الكتاب بما يوجب رد هذه الأخبار مثل قوله تعالى: [ ما للظالمين من حميم ولا شفيع يطاع] (غافر:18)
__________
(1) - التسهيل حـ1 صـ47
(2) - المحرر الوجيز حـ1 صـ139
(3) - تفسير القرطبي حـ1 صـ263 : 264 بتصرف يسير

(5/67)


قالوا: وأصحاب الكبائر ظالمون, وقال [من يعمل سوءًا يجز به](النساء:123) [ولا يقبل منها شفاعة] قلنا: ليست هذه الآية عامة في كل ظالم, والعموم لا صيغة له, فلا تعم هذه الآيات كل من يعمل سوءًا (1) , وكل نفس إنما المراد بها الكافرون دون المؤمنين بدليل الأخبار الواردة في ذلك, وأيضاً فإن الله تعالى أثبت شفاعة لأقوام, ونفاها عن أقوام, فقال في صفة الكافرين [فما تنفعهم شفاعة الشافعين] (المدثر:48) وقال: [ولا يشفعون إلا لمن ارتضى] (الأنبياء:28) وقال: [ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له] (سبأ:23) فعلمنا بهذه الجملة أن الشفاعة, إنما تنفع المؤمنين دون الكافرين, وقد أجمع المفسرون على أن المراد بقوله: [واتقوا يوماً لا تجزى نفس عن نفس شيئاً ولا يقبل منها شفاعة] النفس الكافرة لا كل نفس. اهـ .

وقال القشيري(2) : "ويوم القيامة لا تسمع الشفاعة إلا لمن أمر الحق بالشفاعة له, وأذن فيه, فهو الشفيع الأكبر – على التحقيق – وإن كان لا يطلق عليه لفظ الشفيع لعدم التوقيف, وفي معناه قيل :

الحمد لله شكراً فكل خير لديه
صار الحبيب شفيعاً إلى شفيع إليه
والذين أصابتهم نكبة القسمة(3) لا تنفعهم شفاعة الشافعين, وما لهم من ناصرين. فلا يقبل منهم فداء, ولو افتدوا بملء السماوات وملء الأرض اهـ
__________
(1) - الظلم ينقسم إلى قسمين ، ظلم يخرج من الملة كقوله تعالى " إن الظلم لشرك عظيم " وقوله " والكافرون هم الظالمون " وإلى ظلم لا يخرج من الملة كقوله تعلى " ومن يعمل سوءاً أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله يجد الله غفوراً رحيماً " وعليه فقوله تعالى " ما للظالمين من حميم ولا شفيع يطاع " المراد فيه هو الظلم الذي يخرج من الملة وهو خاص بالكافر دون المؤمن – والله أعلم .
(2) - لطائف الإرشادات حـ1 صـ89
(3) - يشير إلى الكفار

(5/68)


وقال الآلوسي(1) : وتمسك المعتزلة بعموم الآية على نفي الشفاعة لأهل الكبائر, وكون الخطاب للكفار والآية نازلة فيهم لا يدفع العموم المستفاد من اللفظ, وأجيب بالتخصيص من وجهين: الأول: بحسب المكان والزمان, فإن مواقف القيامة ومقدار زمانها فيها سعة وطول, ولعل هذه الحالة في ابتداء وقوعها وشدته, ثم يأذن بالشفاعة .
والثاني: بحسب الأشخاص إذ لا بد لهم من التخصيص في غير العصاة لمزيد الدرجات, فليس العام باقياً على عمومه عندهم, وإلا اقتضى نفي زيادة المنافع وهم لا يقولون به, ونحن نخصص في العصاة بالأحاديث الصحيحة البالغة حد التواتر, وحيث فتح باب التخصيص نقول أيضاً ذلك النفي مخصص بما قبل الإذن لقوله تعالى [لا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له] وهو تخصيص له دليل, وتخصيصهم لا يظهر له دليل.اهـ
وقال في الانتصاف(2) : من جحد الشفاعة فهو جدير ألا ينالها, وأما من آمن بها وصدقها, وهم أهل السنة والجماعة فأولئك يرجون رحمة الله, ومعتقدهم أنها تنال العصاة من المؤمنين وإنما ادخرت لهم, وليس في الآية دليل لمنكريها. أهـ.
[ولا هم ينصرون]
أي يمنعون من عذاب الله, وجمع لدلالة النفس المنكرة على النفوس الكثيرة, وذكر لمعنى العباد أو الأناسي(3) .أ هـ .

__________
(1) - روح المعاني حـ1 صـ252 بتصرف يسير
(2) - الالتصاف من الكشاف حـ1 صـ139 على هامش الكشاف
(3) -محاسن التأويل ؛ت2 صـ333

(5/69)


وهذا بحث نفيس في الشفاعة
قال صاحب الميزان - رحمه الله - بعد أن ذكر الآيات التي ظاهرها نفي الشفاعة قال ما نصه: ثم إن القرآن مع ذلك لا ينفي الشفاعة من أصلها, بل يثبتها بعض الإثبات, قال تعالى: [ الله الذي خلق السموات والأرض وما بينهما في ستة أيام ثم استوى على العرش مالكم من دونه من ولي ولا شفيع أفلا تذكرون] (السجدة:3) وقال تعالى:[ليس لهم من دونه ولي ولا شفيع] (الأنعام:51) وقال تعالى: قل لله الشفاعة جميعاً] (الزمر:44) وقال تعالى: [له ما في السموات وما في الأرض من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه, يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم] (البقرة:255), وقال تعالى: [إن ربكم الله الذي خلق السموات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش يدبر الأمر ما من شفيع إلا من بعد إذنه](يونس:30), وقال تعالى: [وقالوا اتخذ الله ولداً سبحانه بل عباد مكرمون لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يشفعون إلا لمن ارتضى وهم من خشيته مشفقون] (الأنبياء:28), وقال تعالى: [ولا يملك الذين يدعون من دونه الشفاعة إلا من شهد بالحق وهم يعلمون] (الزخرف:86), وقال [ لا يملكون الشفاعة إلا من اتخذ عند الرحمن عهداً ] (مريم: 87) وقال تعالى: يومئذٍ لا تنفع الشفاعة إلا من أذن له الرحمن ورضي له قولاً, يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يحيطون به علماً] (طه: 110) وقال تعالى: [ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له] (سبأ:230), وقال تعالى: [وكم من ملك في السموات لاتغني شفاعتهم شيئاً إلا من بعد أن أذن الله لمن يشاء ويرضى] (النجم:26) فهذه الآيات كما ترى بين ما يحكم باختصاص الشفاعة بالله عز اسمه كالآيات الثلاثة الأولى وبين ما يعممها لغيره تعالى بإذنه وارتضائه ونحو ذلك, وكيف كان فهي تثبت الشفاعة بلا ريب, غير أن بعضها تثبتها بنحو الأصالة لله وحده من غير شريك, وبعضها تثبتها لغيره بإذنه وارتضائه, وقد عرفت أن هناك آيات تنفيها فتكون النسبة بين هذه

(5/70)


الآيات كالنسبة بين الآيات النافية لعلم الغيب عن غيره, وإثباته له تعالى بالاختصاص ولغيره بارتضائه, قال تعالى: [قل لا يعلم من في السموات والأرض الغيب إلا الله ](النمل:65), وقال تعالى: [وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو] (الأنعام:59), وقال تعالى: [عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحداً إلا من ارتضى من رسول](الجن:27), وكذلك الآيات الناطقة في التوفي والخلق والرزق والتأثير والحكم والملك وغير ذلك فإنها شائعة في أسلوب القرآن, حيث ينفي كل كمال عن غيره تعالى, ثم يثبته لنفسه, ثم يثبته لغيره بإذنه ومشيئته, فتفيد أن الموجودات غيره تعالى لا تملك ما تملك من هذه الكمالات بنفسها واستقلالها, وإنما تملكها بتمليك الله لها إياها, حتى إن القرآن يثبت نوعاً من المشيئة في ما حكم فيه وقضي عليه بقضاء حتم, كقوله تعالى: [فأما الذين شقوا ففي النار لهم فيها زفير وشهيق خالدين فيها ما دامت السموات والأرض إلا ما شاء ربك, إن ربك فعال لما يريد وأما الذين سعدوا ففي الجنة خالدين فيها ما دامت السموات والأرض إلا ما شاء ربك عطاء غير مجذوذ](هود 108), فقد علق الخلود بالمشيئة وخاصة في خلود الجنة مع حكمه بأن العطاء غير مجذوذ, إشعاراً بأن قضائه تعالى بالخلود لا يخرج الأمر من يده ولا يبطل سلطانه وملكه عز سلطانه كما يدل عليه قوله: [إن ربك فعال لما يريد](هود:70 ), وبالجملة لا إعطاء هناك يخرج الأمر من يده ويوجب له الفقر, ولا مانع يضطره إلى حفظ ما منعه وإبطال سلطانه تعالى. ومن هنا يظهر أن الآيات النافية للشفاعة, إن كانت ناظرة إلى يوم القيامة فإنها تنفيها عن غيره تعالى بمعنى الاستقلال في الملك, والآيات المثبتة تثبتها لله سبحانه بنحو الأصالة, ولغيره تعالى بإذنه وتمليكه, فالشفاعة ثابتة لغيره تعالى بإذنه فلننظر ماذا يفيده كلامه في معنى الشفاعة ومتعلقها ؟ وفيمن تجري ؟ وممن تصح ؟ ومتى تتحقق ؟ وما نسبتها إلى العفو والمغفرة منه

(5/71)


تعالى؟ ونحو ذلك في أمور.

ما هي الشفاعة ؟
الشفاعة تعرف من معناها إجمالاً بالقريحة المكتسبة من الاجتماع والتعاون ( وهي من الشفع مقابل الوتر كأن الشفيع ينضم إلى الوسيلة الناقصة التي مع المستشفع فيصير به زوجاً بعد ما كان فرداً فيقوى على نيل ما يريده, لو لم يكن يناله وحده لنقص وسيلته وضعفها وقصورها) من الأمور التي نستعملها لإنجاح المقاصد, ونستعين بها على حوائج الحياة, وجل الموارد التي نستعملها فيها إما موارد يقصد فيها جلب المنفعة والخير, وإما موارد يطلب فيها دفع المضرة والشر, لكن لكل نفع وضرر, فإنا لا نستشفع فيما يتضمنه الأسباب الطبيعية والحوادث الكونية من الخير والشر, والنفع والضر, كالجوع, والحر, والعطش, والبرد, والصحة, والمرض, بل نتسبب فيها بالأسباب الطبيعية, ونتوسل إليها بوسائلها المناسبة لها كالأكل, والشرب, واللبس, والإكتنان والمداواة, وإنما نستشفع في الخيرات والشرور والمنافع والمضار التي تستدعيها أو تستتبعها أوضاع القوانين والأحكام التي وضعتها واعتبرتها وقررتها وأجرتها حكومة الاجتماع بنحو الخصوص أو العموم, ففي دائرة المولوية والعبودية, وعند كل حاكم ومحكوم, أحكام من الأمر والنهي إذا عمل بها وامتثلها المكلف بها استتبع ذلك تبعة العقاب من ذم أو ضرر مادي, أو معنوي, فإذا أمر المولى أو نهى عبده, أو كل من هو تحت سيادته وحكومته بأمر أو نهي مثلاً فامتثله كان له بذلك أجر كريم, وإن خالف كان له عقاب أو عذاب فهناك نوعان من الوضع والاعتبار, وضع الحكم ووضع تبعة الحكم, يتعين به تبعة الموافقة والمخالفة.

(5/72)


وعلى هذا الأصل تدور جميع الحكومات العامة بين الملل والخاصة بين كل إنسان ومن دونه. فإذا أراد الإنسان أن ينال كمالاً وخيراً مادياً أو معنوياً وليس عنده ما يستوجب ذلك, بحسب ما يعنيه الاجتماع, ويعرف به لباقته, أو أراد أن يدفع عن نفسه شراً متوجهاً إليه من عقاب المخالفة وليس عنده ما يدفعه, أعني الأمتثال والخروج عن عهدة التكليف, وبعبارة واضحة إذا أراد نيل ثواب من غير تهيئة أسبابه, أو التخلص من عقاب من غير إتيان التكليف المتوجه إليه فذلك مورد الشفاعة, وعنده تؤثر لكن لا مطلقاً فإن من لا لياقة له بالنسبة إلى التلبس بكمال, أو لا رابطة له تربطه إلى المشفوع عنده أصلاً, كالعامي الأمي الذي يريد تقلد مقام علمي, أو الجاحد الطاغي الذي لا يخضع لسيده أصلاً لا تنفع عنده الشفاعة, فإنما الشفاعة متممة للسبب لا مستقلة في التأثير.

(5/73)


ثم إن تأثير الشفيع عند الحاكم المشفوع عنده لا يكون تأثيراً جزافياً من غير سبب يوجب ذلك, بل لا بد أن يوسط أمراً يؤثر في الحاكم, ويوجب نيل الثواب, أو التخلص من العقاب, فالشفيع لا يطلب من المولى مثلاً أن يبطل مولوية نفسه وعبودية عبده فلا يعاقبه, ولا يطلب منه أن يرفع اليد عن حكمه وتكليفه المجعول, أو ينسخه عموماً أو في خصوص الواقعة فلا يعاقبه, ولا يطلب منه أن يبطل قانون المجازاة عموماً أو خصوصاً فلا يعاقب لذلك رأساً, أو في خصوص الواقعة, فلا نفوذ ولا تأثير للشفيع في مولوية وعبودية, ولا في حكم ولا في جزاء حكم, بل الشفيع بعد ما يسلم جميع الجهات الثلاث المذكورة إنما يتمسك: إما بصفات في المولى الحاكم توجب العفو والصفح كسؤدده, وكرمه, وسخائه, وشرافة محتدة, وإما بصفات في العبد تستدعي الرأفة والحنان وتثير عوامل المغفرة كمذلته ومسكنته وحقارته وسوء حاله, وإما بصفات في نفسه أعني نفس الشفيع من قربه إلى المولى وكرامته وعلو منزلته عنده فيقول: ما أسألك إبطال مولويتك وعبوديته, ولا أن تبطل حكمك ولا أن تبطل الجزاء, بل أسألك الصفح عنه بأن لك سؤدداً ورأفة وكرماً لا تنتفع بعقابه ولا يضرك الصفح عن ذنبه أو بأنه جاهل حقير مسكين لا يعتني مثلك بشأنه ولا يهتم بأمره أو بأن لي عندك من المنزلة والكرامة ما يوجب إسعاف حاجتي في تخليصه والعفو عنه.

(5/74)


ومن هنا يظهر للمتأمل أن الشفيع إنما يحكم بعض العوامل المربوطة بالمورد المؤثر في رفع العقاب مثلاً من صفات المشفوع عنده أو نحوها على العامل الآخر الذي هو سبب وجود الحكم وترتب العقاب على مخالفته, ونعني بالحكومة أن يخرج مورد الحكم عن كونه مورداً بإدخاله في مورد حكم آخر, فلا يشمله الحكم الأول لعدم كونه من مصاديقه لا أن يشمله فيبطل حكمه بعد الشمول بالمضادة كإبطال الأسباب المتضادة في الطبيعة بعضها حكم بعض بالمعارضة والغلبة في التأثير, فحقيقة الشفاعة التوسط في إيصال نفع أو دفع شر بنحو الحكومة دون المضارة.
ومن هنا يظهر أيضاً أن الشفاعة من مصاديق السببية فهي توسيط السبب المتوسط القريب بين السبب الأول البعيد ومسببه, هذا ما يتحصل من تحليل معنى الشفاعة التي عندنا .
ثم إن الله سبحانه يمكن أن يقع مورد النظر في السببية من جهتين:
إحداهما: أنه يبتدي منه التأثير, وينتهي إليه السببية, فهو المالك للخلق والإيجاد على الإطلاق, وجميع العلل والأسباب أمور متخللة متوسطة بينه وبين غيره لنشر رحمته التي لا تنفد ونعمته التي لا تحصى إلى خلقه وصنعه.
والثانية: أنه تعالى تفضل علينا بالدنو في حين علوه فشرع الدين ووضع فيه أحكاماً من أوامر ونواهي وغير ذلك وتبعات من الثواب والعقاب في الدار الآخرة وأرسل رسلاً مبشرين ومنذرين فبلغوه أحسن تبليغ وقامت بذلك الحجة وتمت كلمة ربك صدقاً وعدلاً لا مبدل لكلماته .

(5/75)


أما من الجهة الأولى: وهي النظر إليه من جهة التكوين فانطباق معنى الشفاعة على شأن الأسباب والعلل الوجودية المتوسطة واضح لا يخفى, فإنها تستفيد من صفاته العليا من الرحمة والخلق والإحياء والرزق وغير ذلك إيصال أنواع النعم والفضل إلى كل مفتقر محتاج من خلقه, وكلامه تعالى أيضاً يحتمل ذلك كقوله تعالى: [له ما في السموات وما في الأرض من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه] (البقرة: 255), وقوله: [إن ربكم الله الذي خلق السموات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش يدبر الأمر ما شفيع إلا من بعد إذنه](يونس:3), فإن الشفاعة في مورد التكوين ليست إلا توسط العلل والأسباب بينه وبين مسبباتها في تدبير أمرها وتنظيم وجودها وبقائها فهذه شفاعة تكوينية .
وأما من الجهة الثانية وهي النظر إليه من جهة التشريع فالذي ينبغي أن يقال: إن مفهوم الشفاعة على ما سبق من التحليل يصح صدقه في مورده ولا محذور في ذلك وعليه ينطبق قوله تعالى: [يومئذٍ لا تنفع الشفاعة إلا من أذن له الرحمن ورضي له قولاً] (طه:109), وقوله:[ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له] (سبأ:23), وقوله:[لا تغني شفاعتهم شيئاً إلا من بعد أن يأذن الله لمن يشاء ويرضى] (النجم:26) .

(5/76)


وقوله: [ولا يشفعون إلا لمن ارتضى] (الأنبياء:28), وقوله:[ولا يملك الذين يدعون من دونه الشفاعة إلا من شهد بالحق وهم يعلمون](الزخرف:86) فإن الآيات كما ترى تثبت الشفاعة بمعنى الشافعية لعدة من عباده من الملائكة والناس من بعد الإذن والارتضاء, فهو تمليك ولله الملك وله الأمر فلهم أن يتمسكوا برحمته وعفوه ومغفرته وما أشبه ذلك من صفاته العليا لتشمل عبداً من عباده ساءت حاله بالمعصية, وشملته بلية العقوبة, فيخرج عن كونه مصداقاً للحكم الشامل, والجرم العامل على ما عرفت أن تأثير الشفاعة بنحو الحكومة دون التضاد وهو القائل عز من قائل: [فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات](الفرقان:70) فله تعالى أن يبدل عملاً من عمل كما أن له أن يجعل الموجود من العمل معدوماً, قال تعالى[وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباءً منثوراً] (الفرقان:23), وقال تعالى:[فأحبط أعمالهم](محمد: 10), وقال تعالى: [إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم] (النساء:31), وقال تعالى: [إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشأ](النساء:48), والآية في غير مورد الإيمان والتوبة قطعاً فإن الإيمان والتوبة يغفر بهما الشرك أيضاً كسائر الذنوب وله تكثير القليل من العمل, قال تعالى: [أولئك يؤتون أجرهم مرتين](القصص:65), وقال: [من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها](الأنعام:160), وله سبحانه أن يجعل المعدوم من العمل موجوداً, قال تعالى: [والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم بإيمان ألحقنا بهم ذريتهم وما ألتناهم من عملهم من شيء كل امرئ بما كسب رهين](الطور:21), وهذا هو اللحوق والإلحاق وبالجملة فله تعالى أن يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد .

نعم إنما يفعل لمصلحة مقتضية , وعلة متوسطة ولتكن من جملتها شفاعة الشافعين من أنبيائه وأوليائه والمقربين من عباده من غير جزاف ولا ظلم .

(5/77)


ومن هنا ظهر أن معنى الشفاعة بمعنى الشافعية, صادق بحسب الحقيقة حقه تعالى فإن كلاً من صفاته متوسطة بينه وبين خلقه في إفاضة الجود وبذل الوجود فهو الشفيع في الحقيقة على الإطلاق. قال تعالى: [قل لله الشفاعة جميعاً] (الزمر:44), وقال تعالى: [ما لكم من دونه من ولي ولا شفيع] (الأنعام:51). وغيره تعالى لو كان شفيعاً فإنما هو بإذنه وتمليكه. فقد ثبت بما مر صحة تحقق الشفاعة عنده تعالى في الجملة فيما لا يوجب محذوراً لا يليق بساحة كبريائه تعالى(1) . أهـ .

قوله تعالى : [وإذ نجيناكم من آل فرعون يسومونكم سوء العذاب]
قال الخازن: [وإذ نجيناكم] أي واذكروا إذ خلصنا أسلافكم وأجدادكم, فاعتدها نعمة ومنة عليهم, لأنهم نجوا بنجاة أسلافهم.أهـ .

[يذبحون أبناءكم]
وقالت طائفة: معنى [يذبحون أبناءكم] يذبحون الرجال, ويسمون أبناء لما كانوا كذلك(2) , واستدل هذا القائل بقوله تعالى: [نساءكم]
قال القاضي أبو محمد – رحمه الله – والصحيح من التأويل هم الأبناء الذكور, والنساء هم الأطفال الإناث , وعبر عنهن باسم النساء بالمآل(3) , وليذكرهن بالاسم الذي في وقته يستخدمن ويمتهن, ونفس الاستحياء ليس بعذاب, لكن العذاب بسببه وقع(4) . اهـ
وقال الإمام الفخر(5): إن ذبح الذكور دون الإناث مضرة من وجوه أحدها: أن ذبح الأبناء يقتضي فناء الرجال, وذلك يقتضي انقطاع النسل, لأن النساء إذا انفردن فلا تأثير لهن ألبتة في ذلك, وذلك يفضي أخر الأمر إلى هلاك الرجال والنساء .
__________
(1) - الميزان في تفسير القرآن حـ1 صـ156 : 161
(2) - أي باعتبار ما كان ، ولكن هذا القول فيه نظر ، لأنه إن صح فما السبب الذي حمل أم موسى عليه السلام على إلقائه في اليم .
(3) - أي باعتبار ما سيكون وهذا يدخل تحت باب المجاز المرسل ( في علم البلاغة ) .
(4) - المحرر الوجيز حـ1 صـ 14 - 141
(5) - التفسير الكبير حـ3 صـ505 – 506 باختصار يسير

(5/78)


وثانيها: أن هلاك الرجال يقتضي فساد مصالح النساء في أمر المعيشة . وثالثها: أن قتل الولد عقيب الحمل الطويل, وتحمل الكد, والرجاء القوي في الانتفاع بالمولود من أعظم العذاب .
ورابعها: أ ن الأبناء أحب إلى الوالدين من البنات, ولذلك قال تعالى: [وإذا بشر أحدهم بالأنثى ظل وجهه مسوداً وهو كظيم يتوارى من القوم من سوء ما بشر به](النحل:58)
وخامسها: أن بقاء النسوان بدون الذكران يوجب صيرورتهن مستفرشات الأعداء, وذلك نهاية الذل والهوان . اهـ

( يذبحون أبناءكم ويستحيون نساءكم )

[سؤال] لم كان التعبير بقوله [يذبحون] وفي إبراهيم بقوله [ويذبحون] بالواو ؟[الجواب] إنه في سورة إبراهيم تقدم ذكر [وذكرهم بأيام الله] وهي أوقات عقوبات إلى أن قال [إن في ذلك لآيات لكل صبار شكور] واللائق أن يعدد امتحانهم تعديداً يؤذن بصدق الجمع عليه لتكثير المنة, ولذلك أتى بالعاطف [ويذبحون] ليؤذن بأن إسامتهم العذاب مغاير لتذبيح الأبناء, وسبي النساء, وهو ما كانوا عليه من التسخير, بخلاف المذكور في البقرة, فإن ما بعد [يسومونكم] تفسير له, فلم يعطف عليه(1) . أهـ .

وأجاب القرطبي(2) عن هذا السؤال بأن [يذبحون] بغير واو على التفسير لقوله [يسومونكم سوء العذاب] وأن قوله [ويذبحون] بالواو, لأن المعنى يعذبونكم بالذبح وبغير الذبح لقوله [و يذبحون أبناءكم] جنس آخر من العذاب لا تفسيراً لما قبله, والله أعلم. أهـ .

وأجاب الكرماني(3) عن هذا السؤال بقوله: لأن ما في هذه السورة (البقرة) و(الأعراف) من كلام تعالى فلم يرد تعداد المحن عليهم, والذي في (إبراهيم) من كلام موسى - عليه السلام - فعدد المحن عليهم, وكان مأموراً بذلك في قوله [وذكرهم بأيام الله]. أهـ .
__________
(1) - البرهان في علوم القرآن حـ1 صـ120 - يتصرف يسير
(2) - تفسير القرطبي حـ1 صـ267 بتصرف يسير
(3) - أسرار التكرار في القرآن صـ27

(5/79)


[سؤال]لم عبر في البقرة وإبراهيم بلفظ [يذبحون] وفي الأعراف بلفظ [يقتلون]؟
[الجواب] ليطابق قوله [سنقتل أبناءهم ونستحيي نساءهم](1) أهـ .
وقال السعدي(2) [يذبحون أبناءكم] خشية نموكم [ويستحيون نساؤكم] أي فلا يقتلونهن, فأنتم بين قتيل ومذلل بالأعمال الشاقة مستحيي على وجه المنة عليه, والاستعلاء عليه, فهذا غاية الإهانة, فمن الله عليهم بالنجاة التامة وإغراق عدوهم وهم ينظرون لتقر أعينهم. أهـ .

[يذبحون أبناءكم ويستحيون نساءكم وفي ذلكم بلاء من ربكم عظيم]
قال البيضاوي: وقرئ [يذبحون] بالتخفيف, وإنما فعلوا بهم ذلك, لأن فرعون رأى في المنام, أو قال له الكهنة: سيولد منهم من يذهب بملكه, فلم يرد اجتهادهم من قدر الله شيئاً. أهـ .

وقال أبو السعود(3): قيل: قتلوا بتلك الطريقة تسعمائة ألف مولود وتسعين ألفاً(4), وقد أعطى الله نفس موسى - عليه السلام - من القوة على التصرف ما كان يعطيه أولئك المقتولين لو كانوا أحياء, ولذلك كانت معجزاته ظاهرة باهرة. أهـ .

[وفي ذلكم بلاء من ربكم عظيم]

قال الخازن(5) : [وفي ذلكم بلاء من ربكم عظيم] أي اختبار وامتحان, والبلاء يطلق على النعمة العظيمة, وعلى المحنة الشديدة, ليختبر الله العبد على النعمة بالشكر وعلى الشدة بالصبر, فإن حمل قوله: [وفي ذلكم بلاء من ربكم عظيم] على صنع فرعون كان من البلاء والمحنة,وإن حمل على الانجاء كان من النعمة. أهـ .

" ومن لطائف القشيري في هذه الآية "

من صبر في الله على بلاء أعداءه عوضه الله صحبة أولياءه, وأتاح له جميل عطائه, فهؤلاء بنو إسرائيل صبروا على مقاساة الضر من فرعون وقومه فجعل منهم أنبياءهم, وجعلهم ملوكاً, وآتاهم ما لم يؤت أحداً من العالمين.
__________
(1) - البرهان حـ1 صـ120 بتصرف يسير
(2) - تفسير السعدي صـ45
(3) - تفسير أبي السعود حـ1 صـ100 بتصرف يسير
(4) - هذا الكلام يحتاج إلى نقل صحيح
(5) - تفسير الخازن حـ1 صـ48

(5/80)


[وفي ذلكم بلاء من ربكم عظيم] قيل: نعمة عظيمة, وقيل: محنة شديدة, وفي الحقيقة ما كان من الله – في الظاهر – محنه فهو – في الحقيقة لمن عرفه نعمة ومنة(1) . اهـ

لطائف في
قوله تعالى: [وإذ فرقنا بكم البحر], وقوله عز من قائل: [وإذ واعدنا موسى أربعين ليلة] قال الإمام القشيري رحمه الله :
تقاصرت بصائر بني إسرائيل فأراهم المعجزات عياناً, ونفذت بصائر هذه الأمة فكاشفهم بآياته سراً, وبذلك جرت سنته – سبحانه, وكل من كان أشحذ بصيرة كان الأمر عليه أغمض, والإشارات معه أوفر, قال وحين شاهدوا ظاهر تلك الآيات من فلق البحر, وإغراق آل فرعون- داخلهم ريب فقالوا: إنه لم يغرق حتى قذفهم البحر, فنظر بنو إسرائيل إليهم وهم مغرقون, وهذه الأمة لفظ تصديقهم لرسول الله – صلى الله عليه وسلم -, وقوة بصائرهم أن قال واحد من أفتاء الناس: كأني بأهل الجنة يتزاورون, وكأني بأهل النار يتعاوون, وكأني أنظر عرش ربي بارزاً" فشتان بين من يعاين فيرتاب مع عيانه, وبين من يسمع فكالعيان حاله من قوة إيمانه(2) .
قوله جل ذكره [وإذ واعدنا موسى أربعين ليلة – ثم اتخذتم العجل من بعده وأنتم ظالمون] شتان بين أمة وأمة, فأمة موسى – عليه السلام – غاب نبيهم - عليه السلام – أربعين يوماً, فاتخذوا العجل معبودهم, ورضوا بأن يكون لهم بمثل العجل معبوداً فقالوا [هذا إلهكم وإله موسى فنسى ] (طه:81) وأمة محمد المصطفى – صلى الله عليه وسلم – مضى من وقت نبيهم سنون كثيرة فلو سمعوا واحداً يذكر في وصف معبودهم ما يوجب تشبيهاً لما أبقوا على حشاشتهم, ولو كان في ذلك ذهاب أرواحهم.
__________
(1) - لطائف الإشارات حـ1 صـ89
(2) - لطائف الإشارات حـ1 صـ89 – 90 باختصار يسير

(5/81)


ويقال: إن موسى - عليه السلام - سلم أمته إلى أخيه فقال: "اخلفني في قومي" وحين رجع وجدهم وقعوا في الفتنة, ونبينا - صلوات الله عليه - توكل على الله فلم يشر على أحد في أمر الأمة وكان يقول في أخر حاله: الرفيق الأعلى, فانظر كيف تولى الحق رعاية أمته في حفظ التوحيد عليهم. لعمري يضيعون حدودهم ولكن لا ينقضون توحيدهم(1) . ا.هـ

[ وإذ واعدنا موسى أربعين ليلة... ]
قوله تعالى: [وإذ واعدنا موسى أربعين ليلة...] يفيد أن المواعدة كانت من أول الأمر على الأربعين, وقوله في الأعراف [وواعدنا موسى ثلاثين ليلة وأتممناها بعشر] يفيد أن المواعدة في أول الأمر على الثلاثين, فكيف التوفيق بينهما.
أجاب الحسن البصري فقال: ليس المراد أن وعده كان ثلاثين ليلة ثم بعد ذلك وعده بعشرة لكنه وعده أربعين ليلة جميعاً وهو كقوله [ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجعتم تلك عشرة كاملة] (2) (البقرة:196). أهـ .

[ سؤال ] لم كان التعبير في قوله " أربعين ليلة " بالليلة دون اليوم ؟
[ الجواب ] إنما قال " أربعين ليلة ، لأن الشهور تبدأ من الليالي (3) . أ هـ .
وأجاب البغوي(4) عن ذلك بقوله: وقرن بالليل دون النهار, لأن شهور العرب وضعت على سير القمر, والهلال إنما يهل بالليل, وقيل, لأن الظلمة أقدم من الضوء وخلق الليل قبل النهار قال الله تعالى: [وآية لهم الليل نسلخ منه النهار] (يس:37 ) أ.هـ .
وقال في الميزان(5) : [وواعدنا موسى أربعين ليلة] وقص تعالى القصة في سورة الأعراف بقوله [وواعدنا موسى ثلاثين ليلة وأتممناها بعشر فتم ميقات ربه أربعين ليلة] (الأعراف:142) فعدوا المواعدة فيها أربعين ليلة إما للتغليب, أو لأنه كانت العشرة الأخيرة بمواعدة أخرى, فالأربعون مجموع المواعدتين. أهـ .
__________
(1) - لطائف الإشارات حـ1 صـ90 - 91
(2) - التفسير الكبير حـ3 صـ511
(3) - التفسير الكبير ح3 صـ511
(4) - معالم التنزيل حـ1 صـ 81 - 82
(5) - الميزان حـ1 صـ188

(5/82)


وقال في التسهيل(1): وإنما خص الليالي بالذكر, لأن العام بها, والأيام تابعة لها, والمراد أربعين ليلة بأيامها. أهـ .

[ ثم اتخذتم العجل من بعده وأنتم ظالمون ]
قصة عبادة بني إسرائيل للعجل بإيجاز من القرطبي"(2)
ونهاهم هارون وقال يا قوم إنما فتنتم به وإن ربكم الرحمن فاتبعوني وأطيعوا أمري قالوا لن نبرح عليه عاكفين حتى يرجع إلينا موسى" (طه:90-91) فلم يتبع في عبادته سائرهم وهم أكثر من ألفي الف, فلما رجع موسى ووجدهم على تلك الحال, وألقى الألواح وأحرق العجل وذراه في البحر, فشربوا من مائه حباً للعجل, فظهرت على شفاههم صفرة, وورمت بطونهم فتابوا, ولم تقبل توبتهم, دون أن يقتلوا أنفسهم فذلك قوله تعالى [فتوبوا إلى بارئكم فاقتلوا أنفسكم] (البقرة:54) اهـ

قوله تعالى: [ثم عفونا عنكم من بعد ذلك لعلكم تشكرون]
[ثم عفونا عنكم] العفو عفو الله عز وجل عن خلقه, وقد يكون بعد العقوبة وقبلها بخلاف الغفران, فإنه لا يكون معه عقوبة ألبتة (3) . أهـ .

[لعلكم تشكرون] أي لكي تشكروا عفوي عنكم وحسن صنيعي إليكم, وأصل الشكر هو تصور النعمة وإظهارها, ويضاده الكفر وهو نسيان النعمة وسترها, والشكر على ثلاثة أضرب: شكر القلب وهو تصور النعمة, وشكر اللسان وهو الثناء على النعمة, وشكر بسائر الجوارح في السر والعلانية , وقيل العجز عن الشكر, وقال داود عليه السلام – سبحان من جعل اعتراف العبد بالعجز عن الشكر شكراً كما جعل اعترافه بالعجز عن معرفته معرفة, وقال الفضيل : شكر كل نعمة أن لا يعصى الله بعدها بتلك النعمة, وقيل: شكر النعمة ذكرها, وقيل شكر النعمة أن لا يراها ألبتة, ويرى المنعم, وقيل الشكر لمن فوقك بالطاعة والثناء, ولنظير له بالمكافأة, ولمن دونه بالإحسان والإفضال (4). أهـ .
__________
(1) - التسهيل حـ1 صـ48
(2) - تفسير القرطبي حـ1 صـ274 باختصار يسير
(3) - تفسير القرطبي حـ1 صـ 275
(4) -تفسير الخازن حـ1 صـ 50 باختصار يسير

(5/83)


وقال الشبلي عن الشكر: التواضع والمحافظة على الحسنات, ومخالفة الشهوات وبذل الطاعات, ومراقبة جبار الأرض والسموات(1) . اهـ.

قوله تعالى: [وإذ آتينا موسى الكتاب والفرقان لعلكم تهتدون] المراد من الفرقان يحتمل أن يكون التوراة , وأن يكون شيئاً داخلاً في التوراة, وأن يكون شيئاً خارجاً عن التوراة, فهذه أقسام ثلاثة لا مزيد عليها. وتقرير الاحتمال الأول :
أن التوراة لها صفتان: كونها كتاباً منزلاً, وكونها فرقاناً تفرق بين الحق والباطل فهو كقولك: رأيت الغيث والليث, تريد الرجل الجامع بين الجود والجرأة. ونظيره قوله تعالى: [ولقد آتينا موسى وهارون الفرقان وضياء وذكراً للمتقين] (الأنبياء:48) وأما تقرير الاحتمال الثاني: فهو أن يكون المراد من الفرقان ما في التوراة من بيان الدين من أصول وفروع .
وأما تقرير الاحتمال الثالث : فمن وجوه, أحدها: أن يكون المراد من الفرقان ما أوتي موسى - عليه السلام - من اليد والعصا وسائر الآيات, وسميت بالفرقان, لأنها فرقت بين الحق والباطل, وثانيها أن يكون المراد من الفرقان النصر والفرج الذي آتاه الله بني إسرائيل على قوم فرعون قال تعالى: [ إن كنتم آمنتم بالله وما أنزلنا على عبدنا يوم الفرقان يوم التقى الجمعان] (الأنفال:41) والمراد النصر الذي آتاه الله يوم بدر.
وثالثها قال قطرب(2):الفرقان هو انفراق البحر لموسى-عليه السلام(3)-. أهـ
قوله تعالى: [فتوبوا إلى بارئكم] .
( أسئلة و أجوبة )

سؤال: ما معنى قوله تعالى: [فتوبوا إلى بارئكم] والتوبة لا تكون إلا إلى البارئ؟
والجواب: المراد منه النهي عن الرياء في التوبة كأنه قال لهم: لو أظهرتم التوبة لا عن القلب فأنتم ما تبتم إلى الله الذي هو مطلع على ضميركم, وإنما تبتم إلى الناس وذلك مما لا فائدة فيه, فإنكم إذا أذنبتم إلى الله
__________
(1) - تفسير القرطبي -حـ1 صـ
(2) - لا يخفى ما في هذا الوجه من البعد .
(3) - التفسير الكبير حـ3 صـ514 بتصرف يسير

(5/84)


سؤال: كيف اختص هذا الموضع بذكر البارئ؟ والجواب: البارئ هو الذي خلق الخلق بريئاً من التفاوت [ ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت] (الملك:3) ومتميزاً بعضه عن بعض بالأشكال المختلفة والصور المتباينة فكان ذلك تنبيهاً على أن من كان كذلك فهو أحق بالعبادة من البقر الذي يضرب به المثل في الغباوة.
سؤال: ما الفرق بين الفاء في قوله: [فتوبوا] والفاء في قوله: [فاقتلوا]؟ والجواب: أن الفاء في الأولى للسبب لأن الظلم سبب التوبة, والثانية للتعقيب لأن القتل من تمام التوبة فمعنى قوله: [فتوبوا] أي فأتبعوا التوبة القتل تتمة لتوبتكم .

سؤال: كيف استحقوا القتل وهم قد تابوا من الردة ، والتائب من الردة لا يقتل؟
الجواب: ذلك مما يختلف بالشرائع, فلعل شرع موسى عليه السلام كان يقتضي قتل التائب عن الردة, إما عاماً في حق الكل أو كان خاصأ بذلك القوم .
سؤال: هل يصح ما روي أن منهم من لم يقبل الله توبته؟
الجواب: لا يمتنع ذلك لأن قوله تعالى:[إنكم ظلمتم أنفسكم] خطاب مشافهة فلعله كان مع البعض أو إنه كان عاماً فالعام قد يتطرق إليه التخصيص. وأما قوله تعالى [فذلك خير لكم عند بارئكم] ففيه تنبيه على ما لأجله يمكن تحمل هذه المشقة وذلك لأن حالتهم كانت دائرة بين ضرر الدنيا وضرر الآخرة, والأول أولى بالتحمل لأنه متناه, وضرر الآخرة غير متناه, ولأن الموت لا بد واقع فليس في تحمل القتل إلا التقدم والتأخير, وأما الخلاص من العقاب والفوز بالثواب فذاك هو الغرض الأعظم(1) . أهـ .

قوله تعالى: [وأنزلنا عليكم المن والسلوى]
سؤال: فإن قيل لم قدم في الآية المن على السلوى مع أنها غذاء والمن حلواء والعادة تقديم الغذاء على الحلواء ؟
أجيب: بأن نزول المن من السماء أمر مخالف للعادة, فقدم لاستعظامه بخلاف الطيور المأكولة, وأيضاً هو مقدم في النزول عليهم(2) . اهـ.
__________
(1) - التفسير الكبير حـ3 صـ516 ، 518
(2) - السراج المنير حـ1 صـ62

(5/85)


قوله تعالى: [ولكن كانوا أنفسهم يظلمون]
سؤال: [ولكن كانوا أنفسهم يظلمون](البقرة: 57) وفي (الأعراف:16) وفي آل عمران: [ولكن أنفسهم يظلمون] (آل عمران:117) أي بحذف لفظ [كانوا]
الجواب: لأن ما في السورتين (البقرة والأعراف) إخبار عن قوم ماتوا وانقرضوا(1) . اهـ

قوله تعالى: [وقولوا حطة]
وفي معنى [حطة] ثلاث أقوال: أحدها أن معناه: استغفروا, وهي كلمة أمروا أن يقولوها في معنى الاستغفار من حططت أي حط عن ذنوبنا, والثاني: أن معناها قولوا هذا الأمر حق كما قيل لكم, والثالث: أن معناها: لا إله إلا الله فيكون المعنى قولوا الذي يحط عنكم خطاياكم وهو قول: لا إله إلا الله(2) أهـ
وفي ابن كثير(3) : عن أبي هريرة – رضي الله عنه – عن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: قيل لبنى إسرائيل: ادخلوا الباب سجداً وقولوا حطة – فدخلوا يزحفون على أستاههم فبدلوا وقالوا حطة حبة في شعرة (4) .
وقال ابن الجوزي : أعلم أن الله عز وجل أمرهم في دخولهم بفعل وقول, فالفعل السجود والقول "حطة" فغير القوم الفعل والقول .
فأما تغيير الفعل ففيه خمسة أقوال : أحدها: أنهم دخلوا متزحفين على أوراكهم, والثاني أنهم دخلوا من قبل أستاههم, والثالث أنهم دخلوا مقنعي رؤوسهم والرابع: أنهم دخلوا على حروف عيونهم, والخامس أنهم دخلوا متسلقين .
__________
(1) - أسرار التكرار في القرآن صـ 27 : 28 بتصرف يسير
(2) - زاد المسير حـ1 صـ85 باختصار يسير
(3) - تفسير ابن كثير حـ1 صـ128
(4) - أخرجه البخاري في أحاديث الأنبياء [ 3403 / فتح ] ومسلم في التفسير ، 3015 / عبد الباقي ]

(5/86)


وأما تغيير القول ففيه خمسة أقوال: أحدها: أنهم قالوا مكان "حطة" حبة في شعرة, والثاني أنهم قالوا: حنطة, والثالث أنهم قالوا: حنطة حمراء وفيها شعرة, والرابع: أنهم قالوا: حبة حنطة مثقوبة فيها شعرة(1), والخامس: أنهم قالوا: سنبلاً(2) . اهـ
قوله تعالى: [ وسنزيد المحسنين ]
قال البيضاوي : [وسنزيد المحسنين] ثواباً, جعل الامتثال توبة للمسيء, وسبب زيادة الثواب للمحسن, وأخرج صورة الجواب إلى الوعد إيهاماً بأن المحسن بصدد ذلك وإن لم يفعله , فكيف إذا فعله وأنه تعالى يفعل لا محالة(3).أهـ .

قوله تعالى: [فبدل الذين ظلموا قولاً غير الذي قيل لهم]
قال ابن جزي(4) في التسهيل: [فبدل الذين ظلموا] يعني المذكورين- وضع الظاهرين موضع المضمر لقصد ذمهم بالظلم, وكرره زيادة في تقبيح أمرهم.أهـ .

وقال البيضاوي(5): [فأنزلنا على الذين ظلموا] كرر مبالغة في تقبيح أمرهم وإشعاراً بأن الإنزال عليهم لظلمهم, بوضع غير المأمور به موضعه, أو على أنفسهم, بأن تركوا ما يوجب نجاتها إلى ما يوجب هلاكها. أهـ .

وقال السعدي(6): ولم يقل: [فبدلوا] لأنهم لم يكونوا كلهم بدلوا [قولاً غير الذي قيل لهم] فقالوا بدل حطة: حبة في حنطة استهانة بأمر الله, واستهزاء وإذا بدلوا القول مع خفته, فتبديلهم للفعل من باب أولى وأحرى. أهـ .

سؤال: فإن قيل:كيف, قال [فبدل الذين ظلموا قولاً غير الذي قيل لهم] وهم إنما بدلوا القول الذي قيل لهم, لأنهم قيل لهم قولوا: حطة, فقالوا حنظة ؟
الجواب: قلنا معناه: فبدل الذين ظلموا قولاً قيل لهم, فقالوا قولاً غير الذي قيل لهم(7). أهـ .
__________
(1) - الأولى ترجيح ما ذكره ابن كثير رحمه الله فهو موجود في البخاري .
(2) - زاد المسير حـ1 صـ85 باختصار يسير
(3) - البيضاوي حـ صـ228
(4) - التسهيل حـ1 صـ48 - 49
(5) - تفسير البيضاوي – حـ 229
(6) - تفسير السعدي صـ46
(7) تفسير الرازي حـ1 صـ24

(5/87)


قال الإمام الفخر(1): أما قوله: [فبدل الذين ظلموا] ففيه وجهان .
الأول: قال أبو مسلم: قوله تعالى: [فبدل] يدل على أنهم لم يفعلوا ما أمروا به - لا على أنهم أتوا له ببدل, والدليل عليه أن تبديل القول قد يستعمل في المخالفة قال الله تعالى: [سيقول المخلفون من الأعراب] (الفتح: 11) إلى قوله [يريدون أن يبدلوا كلام الله](الفتح:15) ولم يكن تبديلهم إلا الخلاف في الفعل لا في القول , فكذا ها هنا, فيكون المعنى: أنهم لما أمروا بالتواضع وسؤال المغفرة لم يمتثلوا أمر الله ولم يلتفتوا إليه.
الثاني: وهو قول جمهور المفسرين: إن المراد من التبديل أنهم أتوا ببدل له لأن التبديل مشتق من البدل, فلا بد من حصول البدل, وهذا كما يقال: فلان بدل دينه يفيد أنه انتقل من دين إلى آخر, ويؤكد ذلك قوله تعالى: [قولاً غير الذي قيل لهم] أهـ .

قوله تعالى: [فأنزلنا على الذين ظلموا رجزاً من السماء]
سؤال: "لماذا خص الرجز بأنه من السماء" ؟
والجواب: قال القاسمي (2) "قال الراغب: وتخصيص قوله [رجزاً من السماء] هو أن العذاب ضربان: ضرب قد يمكن - على بعض الوجوه - دفاعه أو يظن أنه يمكن فيه ذلك, وهو كل عذاب على يد آدمي, أو من جهة المخلوقات, كالهدم والغرق, وضرب لا يمكن - ولا يظن - دفاعه بقوة آدمي, كالطاعون, والصاعقة والموت, وهي المعني بقوله [رجزاً من السماء]أهـ .

وقال القشيري(3) في هذه الآية: لم يمكنهم أن يردوا باب السماء باحتيالهم, أو يصدوا من دونهم أسباب البلاء بما ركنوا إليه من أحوالهم, فزعوا من الندم لما عضهم ناب الألم, وهيهات أن ينفعهم ذلك لأنه محال من الحسبان. أهـ .

قال الإمام الرازي وها هنا سؤالات:
السؤال الأول: لم قال في سورة البقرة: [وإذ قلنا] وقال في الأعراف: [ وإذ قيل لهم ] .
__________
(1) - التفسير الكبير حـ3 صـ 525
(2) - محاسن التأويل حـ2 صـ345
(3) - لطائف الإشارات حـ1 صـ94

(5/88)


الجواب: أن الله تعالى صرح في أول القرآن بأن قائل القول هو الله تعالى إزالة للإبهام ولأنه ذكر في أول الكلام: [ اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم](البقرة:40) ثم أخذ يعدد نعمه, فاللائق في هذا المقام أن يقول: [وإذ قلنا] أما في سورة الأعراف فلا يبقى في قوله تعالى: [وإذ قيل لهم] إبهام بعد تقديم التصريح به في سورة البقرة.

السؤال الثاني: لم قال في البقرة: [وإذ قلنا ادخلوا] وفي الأعراف: [اسكنوا]؟
الجواب: الدخول مقدم على السكون ولا بد منهما فلا جرم ذكر الدخول في السورة المتقدمة والسكون في السورة المتأخرة.

السؤال الثالث: لم قال في البقرة: [فكلوا] بالفاء وفي الأعراف: [وكلوا] بالواو؟
والجواب: ها هنا هو الذي ذكرناه في قوله تعالى في سورة البقرة: [وكلا منها رغداً] وفي الأعراف: [فكلا].

السؤال الرابع: لم قال في البقرة: [نغفر لكم خطاياكم] وفي الأعراف: [نغفر لكم خطيئاتكم] ؟
الجواب: الخطايا جمع الكثرة والخطيئات جمع السلامة فهو للقلة, وفي سورة البقرة لما أضاف ذلك القول إلى نفسه فقال: [وإذ قلنا ادخلوا هذه القرية] لا جرم قرن به ما يليق بجوده وكرمه وهو غفران الذنوب الكثيرة, فذكر بلفظ الجمع الدال على الكثرة, وفي الأعراف لما لم يضف ذلك إلى نفسه بل قال: [وإذ قيل لهم] لا جرم ذكر ذلك بجمع القلة, فالحاصل أنه لما ذكر الفاعل ذكر ما يليق بكرمه من غفران الخطايا الكثيرة, وفي الأعراف لما لم يسم الفاعل لم يذكر اللفظ الدال على الكثرة.

السؤال الخامس: لم ذكر قوله: [رغداً] في البقرة وحذفه في الأعراف؟
الجواب: عن هذا السؤال كالجواب في الخطايا والخطيئات لأنه لما أسند الفعل إلى نفسه لا جرم ذكر معه الإنعام الأعظم وهو أن يأكلوا رغداً ولما لم يسند الفعل إلى نفسه لم يذكر الإنعام الأعظم فيه.

السؤال السادس: لم ذكر في البقرة: [وادخلوا الباب سجداً وقولوا حطة] وفي الأعراف قدم المؤخر؟

(5/89)


الجواب: الواو للجمع المطلق و أيضاً فالمخاطبون بقوله: [ادخلوا الباب سجداً وقولوا حطة] يحتمل أن يقال: أن بعضهم كانوا مذنبين والبعض الآخر ما كانوا مذنبين, فالمذنب لا بد أن يكون اشتغاله بحظ الذنوب مقدماً على الاشتغال بالعبادة لأن التوبة عن الذنب مقدمة على الاشتغال بالعبادات المستقبلة لا محالة, فلا جرم كان تكليف هؤلاء أن يقولوا [حطة] ثم يدخلوا الباب سجداً, وأما الذي لا يكون مذنباً فالأولى به أن يشتغل أولاً بالعبادة ثم يذكر التوبة, ثانياً: على سبيل هضم النفس وإزالة العجب في فعل تلك العبادة فهؤلاء يجب أن يدخلوا الباب سجداً أولاً ثم يقولوا حطة ثانياً, فلما احتمل كون أولئك المخاطبين منقسمين إلى هذين القسمين لا جرم ذكر الله تعالى حكم كل واحد منهما في سورة أخرى.

السؤال السابع: لم قال: [وسنزيد المحسنين] في البقرة, مع الواو وفي الأعراف: [سنزيد المحسنين] من غير الواو؟
الجواب: أما في الأعراف فذكر فيه أمرين: أحدهما: قول الحطة إشارة إلى التوبة, وثانيها: دخول الباب سجداً وهو إشارة إلى العبادة, ثم ذكر جزأين: أحدهما: قوله تعالى: [نغفر لكم خطاياكم] وهو واقع في مقابلة قول الحطة. والآخر: قوله: [ سنزيد المحسنين ] وهو واقع في مقابلة دخول الباب سجداً فترك الواو توزع كل واحد من الجزأين على كل واحد من الشرطين. وأما في سورة البقرة فيفيد كون مجموع المغفرة والزيادة جزاء واحداً لمجموع الفعلين أعني دخول الباب وقول الحطة.

السؤال الثامن: قال الله تعالى في سورة البقرة: [ فبدل الذين ظلموا قولاً] وفي الأعراف: [فبدل الذين ظلموا منهم قولاً] فما الفائدة في زيادة كلمة [منهم] في الاعراف ؟

(5/90)


الجواب: سبب زيادة هذه اللفظة في سورة الأعراف أن أول القصة ها هنا مبني على التخصيص بلفظ [من] لأنه تعالى قال: [ومن أمة موسى قوم يهدون بالحق وبه يعدلون] (الأعراف:159), فذكر أن منهم من يفعل ذلك ثم عدد صنوف إنعامه عليهم وأوامره لهم, فلما انتهت القصة قال الله تعالى: [فبدل الذين ظلموا منهم] فذكر لفظة [منهم] في آخر القصة كما ذكرها في أول القصة ليكون آخر الكلام مطابقاً لأوله فيكون الظالمون من قوم موسى بإزاء الهادين منهم فهناك ذكر أمة عادلة, وها هنا ذكر أمة جائرة وكلتاهما من قوم موسى فهذا هو السبب في ذكر هذه الكلمة في سورة الأعراف,وأما في سورة البقرة فإنه لم يذكر في الآيات التي قبل قوله: [فبدل الذين ظلموا] تمييزاً وتخصيصاً حتى يلزم في آخر القصة ذكر ذلك التخصيص فظهر الفرق .

السؤال التاسع: لم قال في البقرة: [فأنزلنا على الذين ظلموا رجزاً] وقال في الأعراف: [فأرسلنا] ؟
الجواب: الإنزال يفيد حدوثه في أول الأمر والإرسال يفيد تسلطه عليهم واستئصاله لهم بالكلية, وذلك إنما يحدث بالآخرة .

السؤال العاشر: لم قال في البقرة: [بما كانوا يفسقون] وفي الأعراف: [بما كانوا يظلمون] ؟
والجواب: أنه تعالى لما بين في سورة البقرة كون ذلك الظلم فسقاً اكتفى بلفظ الظلم في سورة الأعراف لأجل ما تقدم من البيان في سورة البقرة والله أعلم(1). اهـ .

قوله تعالى: [وإذ استسقى موسى لقومه فقلنا اضرب بعصاك الحجر]
الأقوال في الحجر
__________
(1) - التفسير الكبير للإمام الرازي حـ3 صـ526 ، 527

(5/91)


قال ابن كثير (1)– رحمه الله – في تفسيره ما نصه: "قال ابن عباس رضي الله عنهما "وجعل بين ظهرانيهم حجراً مربعاً, وأمر موسى - عليه السلام – فضربه بعصاه, فانفجرت منه اثنتا عشرة عيناً في كل ناحية منه ثلاث عيون وأعلم كل سبط عينهم يشربون منها, لا يرتحلون من منقلة – إلا وجدوا ذلك معهم بالمكان الذي كان منهم بالمنزل الأول – وهذا قطعة من الحديث الذي رواه النسائي وابن جرير وابن أبي حاتم وهو حديث الفتون الطويل. اهـ

ونقل ابن كثير أقوال بعض المفسرين في وصف الحجر مع ما فيها من مبالغة دون أن يقرها أو ينكرها. حيث قال :
وقال عطية العوفي : وجعل لهم حجراً مثل رأس الثور يحمل على ثور, فإذا نزلوا وضعوه فضربه موسى – عليه السلام – بعصاه فانفجرت منه اثنتا عشرة عيناً فإذا ساروا حملوه على ثور فاستمسك الماء, وقيل كان لبني إسرائيل حجر فكان يضعه هارون ويضربه موسى بالعصا, وقال قتادة : كان حجراً طورياً من الطور يحملونه معهم إذا نزلوا ضربه موسى بعصاه, وقال الزمخشري وقيل : كان من الرخام وكان ذراعاً في ذراع, وقيل مثل رأس الإنسان وقيل : كان من الجنة طوله عشرة أذرع على طول موسى وله شعبتان تتقدان في الظلمة وكان يحمل على حمار, وقيل أهبطه آدم من الجنة فتوارثوه حتى وقع إلى شعيب فدفعه إليه مع العصا, وقيل هو الحجر الذي وضع عليه ثوبه حين اغتسل فقال له جبريل:ارفع هذا الحجر فإن فيه قدرة ولك فيه معجزة فحمله في مخلاته(2). أهـ .
وقال ابن الجوزي(3) : واختلفوا في صفة الحجر على ثلاثة أقوال
أحدها: أنه كان حجراً مربعاً, والثاني: كان مثل رأس الثور, والثالث: مثل رأس الشاة .
__________
(1) - تفسير ابن كثير حـ1 صـ130
(2) - تفسير ابن كثير حـ صـ 130 بتصرف يسير
(3) - زاد المسير حـ1 صـ87 باختصار يسير

(5/92)


وقال الإمام الفخر - رحمه الله - بعد ذكر بعض هذه الأقوال في صفة الحجر: "واعلم أن السكوت عن أمثال هذه المباحث واجب, لأنه ليس فيها نص متواتر قاطع, ولا يتعلق بها عمل حتى يكتفي فيها بالظن المستفاد من أخبار الآحاد فالأولى تركها(1). اهـ
وقال الآلوسي (2): بعد أن ذكر أكثر هذه الروايات في صفة الحجر(3) :
"وظاهر أكثرها التعارض, ولا ينبئ على تعيين هذا الحجر أمر ديني والأسلم تفويض علمه إلى الله (4). أهـ .

__________
(1) - التفسير الكبير حـ3 صـ528
(2) - روح المعاني حـ1 صـ89
(3) - وكأنه بذلك يميل إلى ما رجحه الإمام فخر الدين الرازي - رحمه الله .
(4) - وقد ذكر هذه الروايات كثير من المفسرين دون إقرار أو إنكار ، وكأنهم يميلون إلى القول بصحتها - والله أعلم - مع أنها تفتقر إلى نقل صحيح ، وقد سكت القرآن عن بيانها . وممن ذكر هذه الأقوال .
الإمام الطبري حـ1 صـ 308 ، والزمخشري حـ1 صـ 146 : 147 ، وابن الجوزي حـ1 صـ87 ، وابن جزي في التسهيل حـ1 صـ49 .
والبغوي حـ1 صـ90 ، والخازن حـ1 صـ53 ، وابن عطية حـ1 صـ152 ، وأبو السعود حـ1 صـ105 - 106 ، والقرطبي حـ1 صـ291 ، وابن كثير حـ1 صـ130 ، فهذه الأقوال يجب عدم التعويل عليها ، والأرجح أنها من الإسرائيليات المنكرة التي شوهت كتب التفسير ، كذلك يجب التنبيه على ضعف ما ورد من مبالغة في قوله تعالى " ونزلنا عليكم المن والسلوى " فقد ذكر الإمام الطبري رحمه الله في تفسيره حـ1 صـ 297 أن بني إسرائيل وهم في التيه كان ينزل عليهم المن والسلوى ، ولا تبلى ثيابهم . انتهى كلامه - سبحان الله هذا أمر لم يتحقق إلا لأهل الجنة فقط يوم المزيد بل لم يستطع رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأكل من قطف العنب الذي في الجنة عندما رآه وهو يصلي بالمسلمين ، والحديث معروف - رزقنا الله وإياكم الفوز بالجنة . أ هـ .

(5/93)


(( فقلنا اضرب بعصاك الحجر ))
قال البغوي (1) - رحمه الله - : قوله تعالى: [فقلنا اضرب بعصاك الحجر] وكانت من آس الجنة طولها عشرة أذرع على طول موسى عليه السلام, ولها شعبتان تتقدان في الظلمة نوراً, واسمها عليق, حملها آدم من الجنة فتوارثها الأنبياء حتى وصلت إلى شعيب - عليه السلام- فأعطاها موسى - عليه السلام - قال مقاتل: اسم العصا: نبعة(2). اهـ

قال القشيري(3): إن الذي قدر على إخراج الماء من الصخرة الصماء كان قادراً على إروائهم بغير ماء ولكن لإظهار أثر المعجزة فيه, وإيصال محل الاستغاثة إليه, وليكون على موسى - عليه السلام - أيضاً في نقل الحجر - مع نفسه شغل, ولتكليفه أن يضرب بالعصا مقاساة نوع من معالجة ما أمضى حكمه عند استسقائه لقومه(4). اهـ

قوله تعالى: [كلوا واشربوا من رزق الله ]
قال الفخر(5): [كلوا واشربوا من رزق الله] فيه حذف والمعنى: فقلنا لهم, أو قال لهم موسى - عليه السلام - كلوا واشربوا, وإنما قال: [كلوا] لوجهين أحدهما: لما تقدم من ذكر المن والسلوى, فكأنه قال: كلوا من المن والسلوى الذي رزقكم الله بلا تعب ولا نصب, واشربوا من هذا الماء.
والثاني: أن الأغذية لا تكون إلا بالماء, فلما أعطاهم الماء فكأنه تعالى أعطاهم المأكول والمشروب. أ هـ .

سؤال: هل يجوز أن يأمره الله تعالى بأن يضرب بعصاه الحجر فينفجر من غير ضرب حتى يستغني عن تقدير هذا المحذوف ؟
__________
(1) - معالم التنزيل حـ1 صـ90
(2) - كما سبق فإنه يجب عدم الالتفات إلى مثل هذه الأقوال ، ولكننا نذكرها لئلا يغتر بها لوجودها في كتب أكابر المفسرين - رحمهم الله جميعاً .
(3) - لطائف الإشارات حـ1 صـ90
(4) - قال القرطبي : وقد كان تعالى قادراً على تفجير الماء وفلق الحجر من غير ضرب ، لكن أراد أن يربط المسببات بالأسباب حكمة منه للعباد في وصولهم إلى المراد ، وليترتب على ذلك ثوابهم وعقابهم في المعاد أ هـ القرطبي حـ1 صـ290 .
(5) - التفسير الكبير حـ3 صـ 530

(5/94)


الجواب: لا يمتنع في القدرة أن يأمره الله بأن يضرب بعصاه الحجر ومن قبل أن يضرب ينفجر على قدر الحاجة لأن ذلك لو قيل : إنه أبلغ في الإعجاز لكان أقرب, لكن الصحيح أنه ضرب فانفجرت لأنه تعالى لو أمر رسوله بشيء, ثم إن الرسول لا يفعله لصار الرسول عاصياً, ولأنه إذا انفجر من غير ضرب صار الأمر بالضرب بالعصا عبثاً, كأنه لا معنى له ولأن المروي في الأخبار أن تقديره: فضرب فانفجرت كما في قوله تعالى: [فانفلق](الشعراء:63) من أن المراد فضرب فانفلق .

سؤال: إنه تعالى ذكر هاهنا: [فانفجرت] وفي الأعراف: [فانبجست] (الأعراف:16) وبينهما تناقض لأن الانفجار خروج الماء بكثرة والانبجاس خروجه قليلاً:
الجواب من ثلاثة أوجه: أحدها الفجر الشق في الأصل, والانفجار الانشقاق, ومنه الفاجر لأنه يشق عصا المسلمين بخروجه إلى الفسق, والانبجاس اسم للشق الضيق القليل, فهما مختلفان اختلاف العام والخاص, فلا يتناقضان, وثانيهما: لعله انبجس أولاً, ثم انفجر ثانياً, وكذا العيون: يظهر الماء منها قليلاً ثم يكثر لدوام خروجه. وثالثها: لا يمتنع أن حاجتهم كانت تشتد إلى الماء فينفجر, أي يخرج الماء كثيراً ثم كانت تقل فكان الماء ينبجس أي يخرج قليلاً.
سؤال: معجزة موسى في هذا المعنى أعظم أم معجزة محمد –عليه السلام-؟
الجواب: كل واحدة منهما معجزة باهرة قاهرة, لكن التي لمحمد – صلى الله عليه وسلم – أقوى لأن نبوع الماء من الحجر معهود في الجملة, أما نبوعه من بين الأصابع فغير معتاد ألبتة, فكان ذلك أقوى .

سؤال: ما الحكمة في جعل الماء اثنتي عشرة عيناً ؟

(5/95)


الجواب: أنه كان في قوم موسى كثرة والكثير من الناس إذا اشتدت بهم الحاجة إلى الماء ثم وجدوه فإنه يقع بينهم تشاجر وتنازع وربما أفضى ذلك إلى الفتن العظيمة فأكمل الله تعالى هذه النعمة بأن عين لكل سبط منهم ماء معيناً لا يختلط بغيره والعادة في الرهط الواحد أن لا يقع بينهم من التنازع مثل ما يقع بين المختلفين .

سؤال: من كم وجه يدل هذا الانفجار على الإعجاز ؟
الجواب: من وجوه: أحدها: أن نفس ظهور الماء معجز, وثانيها: خروج الماء العظيم من الحجر الصغير, وثالثها: خروج الماء بقدر حاجتهم. ورابعها: خروج الماء عند ضرب الحجر بالعصا, وخامسها: انقطاع الماء عند الاستغناء عنه, فهذه الوجوه الخمسة لا يمكن تحصيلها إلا بقدرة تامة نافذة في كل الممكنات وعلم نافذ في جميع المعلومات وحكمة عالية على الدهر والزمان, وما ذاك إلا للحق سبحانه وتعالى(1). أهـ .
قوله تعالى: [ ولا تعثوا في الأرض مفسدين ]

العثى أشد الفساد, فقيل لهم: لا تتمادوا في الفساد في حالة إفسادكم, لأنهم كانوا متمادين فيه, والمقصود منه ما جرت العادات بين الناس من التشاجر والتنازع في الماء عند اشتداد الحاجة إليه, فكأنه تعالى قال: إن وقع التنازع بسبب ذلك الماء فلا تبالغوا في التنازع – والله أعلم(2). أهـ .
سؤال: فإن قيل: قوله تعالى: [ولا تعثوا في الأرض مفسدين] العثو: الفساد, فيصير المعنى: ولا تفسدوا في الأرض مفسدين!
الجواب: قلنا معناه: ولا تعثوا في الأرض بالكفر وأنتم مفسدون بسائر المعاصي(3). أهـ .

وفي محاسن التأويل(4): "وقوله: [ولا تعثوا في الأرض مفسدين] أي: لا تمشوا في الأرض بالفساد وخلاف أمر موسى.
قال الراغب: فإن قيل: فما فائدة قوله: [مفسدين] والعثو ضرب من الإفساد؟
__________
(1) - التفسير الكبير حـ3 صـ529 ، 530
(2) - التفسير الكبير حـ3 صـ 530
(3) - تفسير الرازي صـ25
(4) - محاسن التأويل حـ2 صـ346

(5/96)


قيل: قد قال بعض النحويين إن ذلك حال مؤكدة, وذكر ألفاظاً مما يشبه, وقال بعض المحققين: إن العثو, وإن اقتضى الفساد, فليس بموضوع له, بل هو كالاعتداء, وقد يوجد في الاعتداء ما ليس بفساد, وهو مقابلة المعتدي بفعله نحو: [فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم] (البقرة:194) وهذا الاعتداء ليس بإفساد, بل هو, بالإضافة إلى ما قوبل به, عدل, ولولا كونه جزاء لكان إفساداً, فبين تعالى أن العثو المنهي عنه هو المقصود به الإفساد فالإفساد مكروه على الإطلاق, ولهذا قال: [ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها] (الأعراف: 56) وقد يكون في صورة العثو والتعدي ما هو صلاح وعدل, كما تقدم وهذا ظاهر. أهـ .
وقال أبو السعود(1): إنما قيد به لأن العثي في الأصل مطلق التعدي وإن غلب في الفساد, وقد يكون في غير الفساد, كما في مقابلة الظالم المعتدي بفعله, وقد يكون فيه صلاح راجح كقتل الخضر – عليه السلام – للغلام, وخرقه السفينة ونظيره العبث خلا أنه غلاب فيما يدرك حساً. أهـ .

قوله تعالى: [وإذ قلتم يا موسى لن نصبر على طعام واحد]
سؤال: فإن قيل: كيف قال: [لن نصبر على طعام واحد] وطعامهم كان المن والسلوى وهما طعامان ؟
قلنا: المراد أنه دائم غير متبدل, وإن كان نوعين(2). أ.هـ .

وقال الفخر(3)- قوله: [لن نصبر على طعام واحد] ليس المراد أنه واحد في النوع, بل إنه واحد في النهج وهو كما يقال: إن طعام فلان على مائدته طعام واحد إذا كان لا يتغير على نهجه. أهـ .
__________
(1) - تفسير أبي السعود حـ1 صـ 106
(2) - تفسير الرازي صـ25
(3) - التفسير الكبير حـ3 صـ532

(5/97)


وفي القرطبي(1): وكنوا عن المن والسلوى بطعام واحد وهما اثنان, لأنهم كانوا يأكلون أحدهما بالآخر, فلذلك قالوا طعام واحد, وقيل لتكرارهما في كل يوم غذاء, وقيل لن نصبر على الغنى فيكون جميعنا أغنياء, فلا يقدر بعضنا على الاستعانة ببعض لاستغناء كل واحد منا بنفسه(2), وكذلك كانوا فهم أول من اتخذ العبيد والخدم. أهـ .

وقال القشيري(3): لم يرضوا بحسن اختياره لهم, ولم يصبروا على قيامه بتولي ما كان يهمهم من كفاية مأكولهم وملبوسهم, فنزلوا في التحير على ما جرت عليه عاداتهم من أكل الخسيس من الطعام, والرضا بالدون من الحال, فردهم إلى مقاساة الهوان, وربطهم بإدامة الخذلان حتى سفكوا دماء الأنبياء, وهتكوا حرمة الأمر بقلة الاستحياء, وترك الاروعاء فعاقبهم على قبيح فعالهم, وردهم إلى ما اختاروه لأنفسهم من خسائس أحوالهم وحين لم تنجح فيهم النصيحة, أدركتهم النقمة والفضيحة, ويقال: كان بنو إسرائيل متفرقي الهموم مشتتي القصود, لم يرضوا لأنفسهم بطعام واحد ولم يكتفوا في تدينهم بمعبود واحد, حتى قالوا لموسى – عليه السلام- لما رأوا قوماً يعبدون الصنم – يا موسى اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة. أهـ .

قوله تعالى: [ذلك بأنهم كانوا يكفرون بآيات الله ويقتلون النبيين بغير الحق]
سؤال: فإن قيل: إن قوله تعالى [يكفرون] دخل تحته قتل الأنبياء, فلم أعاد ذكره مرة أخرى ؟
الجواب: المذكور ها هنا الكفر بآيات الله, وذلك هو الجهل والجحد بآياته فلا يدخل تحته قتل الأنبياء.(4) اهـ

قوله تعالى: [ويقتلون النبيين بغير الحق]
سؤال: قوله:[ويقتلون النبيين بغير الحق] في هذه السورة, وفي آل عمران: [ويقتلون النبيين بغير حق](آل عمران:21) وفي آل عمران وفي النساء:
__________
(1) - تفسير القرطبي حـ1 صـ 292
(2) - هذا القول فيه نظر ، فهو مستبعد من حيث ميول النفوس البشرية إلى الراحة .
(3) - لطائف الإشارات حـ1 صـ95
(4) - التفسير الكبير حـ3 صـ534

(5/98)


[ وقتلهم الأنبياء بغير حق.. ] .
الجواب: لأن ما في البقرة إشارة إلى الحق الذي أذن الله أن تقتل النفس به وهو قوله: [ولا تقتلوا النفس التي حرم الله بالحق] (الإسراء:33) فكان الأولى أن يذكر معرفاً, لأنه من الله تعالى, وما في آل عمران, والنساء نكره, أي بغير حق في معتقدهم ودينهم, فكان هذا بالتنكير أولى, وجمع النبيين جمع السلامة في (البقرة) لموافقة ما بعده من جمعي السلامة وهو [ النبيين] و[الصابئين], وكذلك في آل عمران [إن الذين] و [ناصرين]
و [ معرضونٍ ] بخلاف [الأنبياء] في السورتين(1). اهـ
وقال ابن جزي(2): [بغير الحق] هنا باللام للعهد لأنه تقررت الموجبات لقتل النفس, وفي آل عمران [بغير حق] بالتنكير, لاستغراق النفي, لأن تلك نزلت في المعاصرين لمحمد – صلى الله عليه وسلم . أهـ .

سؤال: فإن قيل(3): كيف قال: [ويقتلون النبيين بغير بغير الحق]وقتل النبيين لا يكون إلا بغير حق ؟
قلنا ما معناه: بغير الحق في اعتقادهم, ولأن التصريح بصفة فعلهم القبيح أبلغ في ذمهم, وإن كانت تلك الصفة لازمة للفعل, كما في عكسه: [قال رب احكم بالحق] (الأنيباء:122) لزيادة معنى التصريح بالصفة, ولأن قتل النبي قد يكون بحق, كقتل إبراهيم – عليه السلام – ولده, لو وجد, كان بحق(4) .

وقال السمرقندي(5): [ويقتلون النبيين بغير بغير الحق] يعني بغير جرم منهم.أهـ .
وقال ابن الجوزي(6) : [بغير الحق] فيه ثلاث أقوال :
__________
(1) - أسرار التكرار في القرآن صـ 30 : 31
(2) - التسهيل حـ1 صـ49 بتصرف يسير
(3) - تفسير الرازي صـ25
(4) - هذا القول فيه نظر ، فهنا أمر غير موجود في الواقع ، ولو وقع كما في قصة الذبيح عليه السلام فهذا أمر نادر ، والنادر لا حكم له والحق أن يقال : يجب قتل النفس فداء للنبيين ففي هذا حياة كاملة أبدية عند مليك مقتدر .
(5) - بحر العلوم حـ1 صـ85
(6) - زاد المسير حـ1 صـ90

(5/99)


أحدها: أن معناه بغير جرم, والثاني: أنه توكيد كقوله تعالى: [ولكن تعمى القلوب التي في الصدور] (الحج:46) والثالث: أنه خرج مخرج الصفة لقتلهم أنه ظلم. أهـ .

وقال النسفي(1) : [بغير الحق] عندهم أيضاً فإنهم لو أنصفوا لم يذكروا شيئاً يستحقون به القتل عندهم في التوراة. أهـ .

وقال السمعاني(2) : "بغير الحق" قلنا ذكره وصفاً للقتل, والقتل يوصف تارة بالحق وتارة بغير الحق, وهو مثل قوله تعالى: [قال رب احكم بالحق] ذكر الحق وصفاً للحكم لا أن حكمه ينقسم إلى الجور والحق. أهـ .

وقال السعدي(3) : [بغير الحق] زيادة شناعة, وإلا فمن المعلوم أن قتل النبيين لا يكون بحق, لكن لئلا يظن جهلهم وعدم علمهم. أهـ .

وقال القرطبي(4) : [بغير الحق] تعظيم للشنعة والذنب الذي أتوه, فإن قيل هذا دليل على أنه قد يصح أن يقتلوا بالحق ومعلوم أن الأنبياء معصومون من أن يصدر منهم ما يقتلون به ؟
قيل له: ليس كذلك, وإنما خرج هذا مخرج الصفة لقتلهم أنه ظلم, وليس بحق, فكان هذا تعظيماً للشنعة عليهم, ومعلوم أنه لا يقتل نبي بحق, ولكنه يقتل على الحق. أهـ .

( ويقتلون النبيين بغير الحق ))
وقال الإمام الفخر(5) في هذا السؤال: والجواب من وجوه :
الأول: أن الإتيان بالباطل قد يكون حقاً, لأن الآتي به اعتقده حقاً, لشبهة وقعت في قلبه, وقد يأتي به مع علمه بكونه باطلاً, ولا شك أن الثاني أقبح , فقوله [ويقتلون النبيين بغير الحق] أي أنهم قتلوهم من غير أن يكون ذلك القتل حقاً في اعتقادهم وخيالهم, بل كانوا عالمين بقبحه, ومع ذلك فقد فعلوه .
وثانيها: أن هذا التكرير, لأجل التأكيد, كقوله تعالى: [ومن يدع مع الله إلهاً آخر لا برهان له به] (المؤمنون: 117) ومستحيل أن يكون لمدعي الإله الثاني برهان .
__________
(1) - تفسير النسفي حـ1 صـ47
(2) - تفسير السمعاني حـ1 صـ87
(3) - تفسير السعدي صـ46
(4) - تفسير القرطبي حـ صـ298
(5) التفسير الكبير حـ3 صـ534 :

(5/100)


وثالثها: أن الله لو ذمهم على مجرد القتل, لقالوا: أليس أن الله يقتلهم, ولكنه قال: القتل الصادر من الله قتل بحق, ومن غير الله قتل بغير حق. أهـ.

وقال أبو السعود(1) : [ويقتلون النبيين بغير الحق] كشعيا وزكريا ويحي عليهم السلام وفائدة التقييد مع أن قتل الأنبياء يستحيل أن يكون بحق, الإيذان بأن ذلك عندهم أيضا بغير الحق إذ لم يكن أحد معتقداً بحقية قتل أحد منهم عليهم السلام, وإنما حملهم على ذلك حب الدنيا, واتباع الهوى, والغلو في العصيان والاعتداء, كما يفصح عنه قوله تعالى: [ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون] أي جرهم العصيان والتمادي في العدوان إلى ما ذكر من الكفر, وقتل الأنبياء – عليهم السلام- فإن صغار الذنوب إذا دووم عليها أدت إلى كبارها, كما أن مداومة صغار الطاعات مؤدية إلى تحري كبارها. أهـ .

سؤال: فإن قيل: كيف جاز أن يخلى بين الكافرين, وقتل الأنبياء ؟
قيل: ذلك كرامة لهم وزيادة في منازلهم , كمثل من يقتل في سبيل الله من المؤمنين, وليس بخذلان, قال ابن عباس والحسن: لم يقتل نبي قط من الأنبياء إلا من لم يؤمر بقتال , وكل من أمر بقتال نصر(2). أهـ .

سؤال: فإن قيل: إن الله تعالى قد أخبر بقتل الأنبياء ونصر الرسل, فكيف الجمع ؟
أجيب: بأن المحل مختلف, إذ الرسول غير النبي(3) , وبأن المراد بالنصر الغلبة بإظهار الحجة لا العصمة من القتل(4) . أهـ .

قوله تعالى: [إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين.... الآية]
__________
(1) - تفسير أبي السعود حـ1 صـ 107
(2) - تفسير القرطبي حـ1 صـ298
(3) - هذا الجواب فيه نظر فقد ذكر قتل الرسل أيضاً في قوله تعالى : " أفكلما جاءكم رسول بما لا تهوى أنفسكم استكبرتم ففريقاً كذبتم وفريقاً تقتلون " [ البقرة : 87 ] والله أعلم .
(4) - السراج المنير حـ1 صـ65

(5/101)


قال في التسهيل(1) : "قال ابن عباس: نسختها "ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه" (آل عمران:85) وقيل معناها: أن هؤلاء الطوائف من آمن منهم إيماناً صحيحاً, فله أجره, فيكون في حق المؤمنين الثبات إلى الموت, وفي حق غيرهم الدخول في الإسلام, فلا نسخ, وقيل: إنها فيمن كان قبل بعث النبي – صلى الله عليه وسلم – فلا نسخ. اهـ

قال في الفتوحات الإلهية(2) :
[الصابئين] جمع صابئ – قيل إنهم من اليهود, وقيل إنهم من النصارى, ولكنهم عبدوا الملائكة, وقيل عبدوا الكواكب(3) .
سؤال: قال في أول الآية: [إن الذين آمنوا] وقال في آخرها: [من آمن] فما وجه التعميم تم التخصيص .
ومحصل الجواب: أنه أراد: إن الذين آمنوا على التحقيق في زمن الفترة مثل قس بن ساعدة, وورقة بن نوفل, وبحيرا الراهب, وأبي ذر الغفاري, وسلمان الفارسي, فمنهم من أدرك النبي – صلى الله عليه وسلم – وتابعه, ومنهم من لم يدركه, كأنه قال: إن الذين آمنوا قبل بعثة محمد والذين كانوا على الدين الباطل المبدل من اليهود والنصارى والصابئين من آمن منهم بالله واليوم الآخر وبمحمد فلهم أجرهم. الخ(4) .. اهـ.
__________
(1) - التسهيل حـ1 صـ49 .
(2) - الفتوحات الإلهية حـ1 صـ 97 – 98 بتصرف يسير .
(3) - هذا القول الأخير أشهر الأقوال في المراد من الصابئين . والله أعلم .
(4) - الفتوحات الإلهية حـ1 صـ98 ، وتفسير الخازن حـ1 صـ54 بتصرف يسير .

(5/102)


وقيل هم المؤمنون من الأمم الماضية, وقيل هم المؤمنون من هذه الأمة, والذين هادوا يعني الذين كانوا على دين موسى – عليه السلام – ولم يبدلوا, والنصارى الذين كانوا على دين عيسى – عليه السلام – ولم يغيروا, والصابئين يعني في زمن استقامة أمرهم(1) , من آمن منهم ومات وهو مؤمن, لأن حقيقة الإيمان تكون بالوفاة, وقيل إن المذكورين بالإيمان في أول الآية, إنما هو على طريق المجاز دون الحقيقة, وهم الذين آمنوا بالأنبياء الماضين ولم يؤمنوا بك, وقيل هم المنافقون الذين آمنوا بألسنتهم, ولم يؤمنوا بقلوبهم, واليهود والنصارى والصابئين, فكأنه تعالى قال: هؤلاء المبطلون كل من آمن منهم الإيمان الحقيقي صار مؤمناً عند الله, وقيل: إن المراد من قوله: [إن الذين آمنوا] يعني بمحمد – صلى الله عليه وسلم – في الحقيقة حين الماضي, وثبتوا على ذلك في المستقبل, وهو المراد من قوله تعالى: [من آمن بالله واليوم الآخر](2) . أهـ .

سؤال: قال تعالى: [إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين.... الآية] (البقرة:62) وقال في المائدة: [إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئون والنصارى] فما التوجيه في التقديم والتأخير في (النصارى , والصابئين) وكذلك في الإعراب في قوله في البقرة [والصابئين] وفي المائدة [والصابئون.

قال في الكشاف في سورة المائدة: [الصابئون] رفع على الابتداء, وخبره محذوف والنية به التأخير عما في حيز (إن) من اسمها وخبرها, كأنه قيل: إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى حكمهم كذا, والصابئون كذلك, وأنشد سيبويه شاهداً له :
…وإلا فاعلموا أنا وأنتم…… بغاة ما بقينا في شقاق
أي فاعلموا أنا بغاة وأنتم كذلك .
فإن قلت: فقوله [والصابئون] معطوف لا بد له من معطوف عليه فما هو؟

قلت: ما التقديم والتأخير إلا لفائدة, فما فائدة هذا التقديم؟
__________
(1) - ومتى استقام أمر الصابئين ؟!!
(2) - تفسير الخازن حـ1 صـ 54 بتصرف يسير

(5/103)


قلت: فائدته التنبية على أن الصابئين يتاب عليهم إن صح منهم الإيمان والعمل الصالح, فما الظن بغيرهم, وذلك أن الصابئين أبين هؤلاء المعدودين ضلالاً, وأشدهم غياً وما سموا صابئين إلا, لأنهم صبئوا عن الأديان كلها أي خرجوا, كما أن الشاعر قدم قوله (وأنتم) تنبيهاً على أن المخاطبين أوغل في الوصف بالبغاة من قومه, حيث عاجل به قبل الخبر الذي هو (بغاة) لئلا يدخل قومه في البغي قبلهم مع كونهم أوغل فيه منهم وأثبت قدماً(1) . أهـ .
وقال القرطبي(2) : وقال الفراء: إنما جاز الرفع في [والصابئون] لأن [إن] ضعيفة فلا تؤثر إلا في الاسم دون الخبر[والذين] هنا لا يتبين فيه الإعراب, فجرى على جهة واحدة الأمران فجاز رفع الصابئين رجوعاً إلى أصل الكلام, وقيل: [إن] بمعنى (نعم) فالصابئون مرتفع بالابتداء, وحذف الخبر لدلالة الثاني عليه, فالعطف يكون على هذا التقدير بعد تمام الكلام, وانقضاء الاسم والخبر .
وقال قيس الرقيات:
بكر العواذل في الصباح… …يلمننى وألومهنه
ويقلن شيب قد علاك………وقد كبرت فقلت إنه
قال الأخفش: (إنه) بمعنى (نعم) هذه (الهاء) أدخلت للسكت. أهـ .

وقال في التسهيل(3) : ما نصه: [والصابئون] قراءة السبعة بالواو وهي مشكلة حتى قالت عائشة رضي الله عنها – هي لحن من كتاب المصحف(4) . أهـ .
__________
(1) - الكشاف حـ1 صـ647 : 648 بتصرف يسير
(2) - تفسير القرطبي حـ6 صـ150 بتصرف يسير
(3) - التسهيل حـ1 صـ183
(4) معاذ الله – أن يصدر هذا القول عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها – ولكن هذه الرواية موضوعة ومختلقة من الزنادقة ، وهي تتعارض مع التكفل بالحفظ الذي وعد الله به في قوله " إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون " وكان من الواجب على الإمام ابن جزي أن يرد على هذه الفرية – وسيأتي إن شاء الله تعالى رد شاف وكاف عن أمثال هذه الافتراءات عند الكلام في قوله تعالى " والمقيمين الصلاة " النساء : 162

(5/104)


وهذا كلام نفيس للإمام الفخر في توجيه قراءة الرفع [والصابئون] قال ما نصه: وللنحويين في على القراءة المشهورة وجوه:
الأول: وهو مذهب الخليل و سيبويه: ارتفع الصابئون بالابتداء على نية التأخير كأنه قيل: إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى من آمن بالله واليوم الآخر, وعمل صالحاً فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون, والصابئون كذلك, فحذف خبره, والفائدة في عدم عطفهم على من قبلهم هو أن الصابئين أشد الفرق المذكورين في هذه الآية ضلالاً, فكأنه قيل: كل هؤلاء الفرق إن آمنوا بالعمل الصالح قبل الله توبتهم, وأزال ذنبهم, حتى الصابئون فإنهم إن آمنوا كانوا أيضاً كذلك .

الوجه الثاني: وهو قول الفراء: إن كلمة [إنٍ] ضعيفة في العمل ها هنا, وبيانه من وجوه :
الأول: إن كلمة [إن] تعمل لكونها مشابهة للفعل, ومعلوم أن المشابهة بين الفعل والحرف ضعيفة .
الثاني: أنها وإن كانت تعمل, لكن إنما تعمل في الاسم فقط, أما الخبر فإنه بقى مرفوعاً بكونه خبر المبتدأ وليس لهذا الحرف في رفع الخبر تأثير, وهذا مذهب الكوفيين .
الثالث: أنها إنما يظهر أثرها في بعض الأسماء, أما الأسماء التي لا يتغير حالها عند اختلاف العوامل, فلا يظهر أثر هذا الحرف فيها, والأمر ها هنا كذلك, لأن الاسم ها هنا هو قوله [الذين] وهذه الكلمة لا يظهر فيها أثر الرفع والنصب والخفض .

(5/105)


إذا أثبت هذا فنقول: إنه إذا كان اسم "إن" بحيث لا يظهر فيه أثر الإعراب بعطف عليه يجوز النصب على إعمال هذا الحرف, والرفع على إسقاط عمله, فلا يجوز أن يقال: إن زيداً وعمرو قائمان, لأن زيداً ظهر في أثر الإعراب, ولكن إنما يجوز أن يقال: إن هؤلاء وإخوتك يكرموننا, وإن هذا نفسه شجاع وإن قطام وهند عندنا, والسبب في جواز ذلك أن كلمة [إن] كانت في الأصل ضعيفة العمل, وإذا صارت بحيث لا يظهر لها أثر في اسمها صارت في غاية الضعف, فجاز الرفع بمقتضى الحكم الثابت قبل دخول هذا الحرف عليه, وهو كونه مبتدأ, فهذا تقرير قول الفراء, وهو مذهب حسن وأولى من مذهب البصريين, لأن الذي قالوه يقتضي أن كلام الله على الترتيب الذي ورد عليه ليس بصحيح, وإنما تحصل الصحة عند تفكيك هذا النظم, وأما على قول الفراء فلا حاجة إليه, فكان ذلك أولى .
قال بعض النحويين: لاشك أن كلمة "إن" من العوامل الداخلة على المبتدأ والخبر, وكون المبتدأ مبتدأ, والخبر خبراً وصف حقيقي ثابت حال دخول هذا الحرف وقبله, وكونه مبتدأ يقتضي الرفع .
إذا ثبت هذا فنقول: المعطوف على اسم "إن" يجوز انتصابه بناء على إعمال هذا الحرف, ويجوز ارتفاعه أيضاً لكونه في الحقيقة مبتدأ محدثاً عنه ومخبراً عنه(1) . أهـ .
[ فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون ]
__________
(1) - التفسير الكبير حـ12 صـ 402 : 403 باختصار يسير .

(5/106)


وقال أبو السعود(1): وفي إضافته إلى الرب المضاف إلى ضميرهم مزيد لطف بهم وإيذان بأن أجرهم متيقن الثبوت مأمون من الفوات [ولا خوف عليهم] عطف على جملة [فلهم أجرهم] أي لا خوف عليهم حين يخاف الكفار العقاب, [ولا هم يحزنون] حين يحزن المقصرون على تضييع العمر, وتفويت الثواب, والمراد بيان دوام إنتفائهما – لا بيان انتفاء دوامهما, كما يوهمه كون الخبر في الجملة الثانية مضارعاً لما مر من أن النفي وإن دخل على نفس المضارع يفيد الدوام والاستمرار بحسب المقام . أهـ .
وقال الخطيب الإسكافي – رحمه الله – ما نصه :
قوله تعالى: [إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحاً فلهم أجرهم عند ربهم] وقال في سورة المائدة: [إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئون والنصارى من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحاً فلا خوف عليهم] (المائدة:69). وقال في سورة الحج: [ إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئين والنصارى والمجوس والذين أشركوا إن الله يفصل بينهم يوم القيامة] (الحج:17) .
للسائل أن يسأل فيقول: هل في اختلاف هذه الآيات بتقديم الفرق وتأخيرها ورفع الصابئين في آية ونصبها في أخرى غرض يقتضي ذلك ؟
__________
(1) - تفسير أبي السعود حـ1 صـ108

(5/107)


الجواب أن يقال: إذا أورد الحكيم تقدست أسماؤه آية على لفظة مخصوصة, ثم أعادها في موضع آخر من القرآن, وقد غير فيها لفظة كما كانت عليه في الأولى فلا بد من حكمة هناك تطلب, فإذا أدركتموها فقد ظفرتم , وإن لم تدركوها؟ فليس لأنه لا حكمة هناك بل جهلتم. فأما الآية الأولى في هذه السورة, فإن فيها مسائل ليست هذا المكان مكانها, لأنه يقال: كيف قال الله تعالى: [إن الذين آمنوا][من آمن بالله واليوم الآخر] أي : من آمن منهم بالله واليوم الآخر, إلا أن الذي نذكره في هذا المكان هو أن المعنى: إن الذين أمنوا بكتب الله المتقدمة مثل صحف إبراهيم, والذين آمنوا بما نطقت به التوراة وهم اليهود, والذين آمنوا بما أتى به الإنجيل وهم النصارى, فهذا ترتيب على حسب ما ترتب تنزيل الله كتبه, فصحف إبراهيم – عليه السلام – قبل التوراة المنزلة على موسى – عليه السلام – والتوراة قبل الإنجيل المنزل على عيسى – عليه السلام – فرتبهم – عز وجل – في هذه الآية على ما رتبهم عليه في بعثة الرسالة, ثم أتى بذكر "الصابئين" وهم الذين لا يثبتون على دين, وينتقلون من ملة إلى ملة, ولا كتاب لهم, كما للطائفتين اللتين ذكرهما الله تعالى في قوله: [أن تقولوا إنما أنزل الكتاب على طائفتين من قبلنا] (الأنعام:156), فوجب أن يكونوا متأخرين عن أهل الكتاب, وأما بعد هذا الترتيب فترتيبهم في سورة المائدة وتقديم الصابئين على النصارى ورفعه هنا ونصبه هناك ترتيب ثان, فالأول على ترتيب الكتب, والثاني على ترتيب الأزمنة, لأن الصابئين وإن كانوا متأخرين عن النصارى بأنهم لا كتاب لهم, فإنهم متقدمون عليهم بكونهم قبلهم, لأنهم كانوا قبل عيسى – عليه السلام – فرفع [الصابئون] ونوى به التأخير عن مكانه كأنه قال بعد ما أتى بخبر [إن الذين آمنوا والذين هادوا] [من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحاً فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون] والصابئون هذا حالهم أيضاً, وهذا مذهب سيبويه, لأنه لا

(5/108)


يجوز عنده, ولا عند البصريين وكثير من الكوفيين: إن زيداً وعمرو قائمان, والفراء يجيز هذا على شريطة أن يكون الاسم الأول المنصوب بأن لا إعراب فيه, نحو: إن هذا وزيد قائمان, وهذه من كبار المسائل ذوات الشعب, ويتعلق بالخلاف بين البصريين والكوفيين في أن لها عملين النصب والرفع على مذهب البصريين, وأن لها عملاً واحداً عند الكوفيين وهو النصب, إلا أن المذهب الصحيح ما ذهب إليه سيبويه, وهذه الآية تدل عليه, لأنه قدم فيها الصابئون, والنية بها التأخير على مذهب سيبويه, وإنما قدم اللفظ وأخر في النية, لأن التقديم الحقيقي التقديم بكتبه المنزلة على أنبيائه - عليهم السلام -, فلذا فعل ذلك في الآية الأولى, وكان ها هنا تقديم آخر بتقديم الزمان, وجاءت آية أخرى قدم فيها هذا الاسم على ما أخر عنه في الآية التي قبل, ثم أقيمت في لفظه أمارة تدل على تأخره عن مكانه كان ذلك دليلاً على أن هذا الترتيب بالأزمنة, وأن النية به التأخير والترتيب بالكتب المنزلة, وأما الترتيب الثالث في سورة الحج: فترتيب الأزمنة التي لا نية للتأخير معه, لأنه لم يقصد في هذا المكان أهل الكتب إذ كان أكثر من ذكر ممن لا كتب لهم وهم: الصابئون والمجوس والذين أشركوا عبدة الأوثان, فهذه ثلاث طوائف وأهل الكتاب طائفتان, فلما لم يكن القصد في الأغلب الأكثر من المذكورين ترتيبهم بالكتب رتبوا بالأزمنة, وأخر الذين أشركوا, لأنهم وإن تقدمت لهم أزمنة, وكانوا في عهد أكثر الأنبياء الذين تقدمت بعثتهم صلوات الله عليهم, فإنهم كانوا أكثر من مني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بهم وصلى بجهادهم, وكأنهم لما كانوا موجودين في عصر النبي - صلى الله عليه وسلم - كانوا أهل زمانه, وهذا الزمان متأخر عن أزمنة الفرق الذين قدم ذكرهم(1) . أهـ .

قوله تعالى: [فقلنا لهم كونوا قردة خاسئين]
"الإشارة إلى قصة مسخهم."
ذكر في زاد المسير ما نصه :
__________
(1) درة التنزيل صـ15 ، 17 .

(5/109)


(1)روى عن عثمان عن عطاء عن أبيه قال نودي الذين اعتدوا في السبت ثلاثة أصوات: نوودوا: يا أهل القرية فانتبهت طائفة أكثر من الأولى, ثم نودووا: يا أهل القرية, فانتبه الرجال والنساء والصبيان, فقال الله لهم [كونوا قردة خاسئين] فجعل الذين نهوهم يدخلون عليهم فيقولون: يا فلان: ألم ننهكم فيقولون برؤسهم : بلى, قال قتادة: فصار القوم قردة تعاوى لها أذناب بعد ما كانوا رجالاً ونساءً, وفي رواية عن قتادة: صار الشبان قردة, والشيوخ خنازير(2), وما نجا إلا الذين نهوا, وهلك سائرهم , وقال غيره كانوا نحواً من سبعن ألفاً, وعلى هذا القول العلماء(3) غير مجاهد, روى عن مجاهد أنه قال: مسخت قلوبهم ولم تمسخ أبدانهم, وهو قول بعيد. أ.هـ .

وقال الفخر الرازي(4) :
"المروي عن مجاهد: أنه سبحانه وتعالى: مسخ قلوبهم بمعنى الطبع والختم – لا أنه مسخ صورهم وهو مثل قوله تعالى [كمثل الحمار يحمل أسفاراً](الجمعة:5) ونظيره أن يقول الأستاذ للمتعلم البليد الذي لا ينجح في تعليمه: كن حماراً (5) .أهـ .
__________
(1) - زاد المسير حـ1 صـ95 بتصرف يسير .
(2) - هذا القول يتعارض مع قوله تعالى مخاطباً الجميع بقوله : " فقلنا لهم كونوا قردة خاسئين " وهذه الرواية تحتاج إلى نقل صحيح ، فإن وجد فعلى العينين والرأس ، وإلا فيجب السكوت عندما أخبر به القرآن .
(3) - المراد من هذا الكلام أن الأمة مطبقة على أن الله مسخهم قردة خلافاً لمجاهد الذي لجأ إلى المجاز .
(4) - التفسير الكبير حـ3 صـ 541
(5) يكفي في رد هذا القول مخالفته لما أجمعت عليه الأمة ، من أن الله مسخهم قردة ، فلا حاجة إلى التأويل الذي لا يدل عليه دليل ، ثم ما الداعي إلى ترك الظاهر أو الحقيقة ، ولا يجوز العدول عن الحقيقة إلى المجاز إلا إذا تعذر حمل اللفظ على الحقيقة ، وهذا أمر غير مستبعد على سبيل العقوبة ، كما كان الأمر في حق إساف ونائلة ، [ الصنمان المعروفان ] ، والقصة مشهورة . والله أعلم .

(5/110)


(( فقلنا لهم كونوا قردة خاسئين ))
وورد في الدر المنثور ما نصه: "فمسخهم الله قردة بمعصيتهم, ولم يعش مسخ فوق ثلاثة أيام, ولم يأكل ولم يشرب ولم ينسل .
وورد أيضاً "وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم في قوله: [فقلنا لهم كونوا قردة خاسئين] قال: مسخت قلوبهم, ولم يمسخوا قردة, وإنما هو مثل ضرب الله لهم مثل الحمار يحمل أسفاراً (1) .
[خاسئين] أي ذليلين أو صاغرين(2) . أهـ .

وقال في روح المعاني(3) : "واختار أبو بكر بن العربي: أنهم عاشوا, وأن القردة الموجودين اليوم من نسلهم, ويرده ما رواه مسلم عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه – أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال لمن سأله عن القردة والخنازير, أهي مسخ: إن الله تعالى لم يهلك قوماً أو يعذب قوماً فيجعل لهم نسلاً, إن القردة والخنازير كانوا قبل ذلك" (4) أهـ .
ويرى ابن كثير رحمه الله : أن مسخهم كان صورياً و معنوياً, فقال(5) :"بل الصحيح أنه معنوي وصوري (6) " أهـ .

سؤال: فإن قيل: كيف قال [فقلنا لهم كونوا قردة خاسئين] وانتقالهم من صور البشر إلى صور القردة ليس في وسعهم ؟
قلنا: هذا أمر إيجاد – لا أمر إيجاب , فهو كقوله تعالى "كن فيكون(7) " أهـ
__________
(1) - وهذا ما يقول به مجاهد – رحمه الله – وسبق رده واستبعاده .
(2) - الدر المنثور حـ1 صـ181 : 182 بتصرف يسير .
(3) - روح المعاني حـ1 صـ283 .
(4) مسلم [ 2663 ]
(5) - تفسير ابن كثير حـ1 صـ138 .
(6) - هذا رأي في غاية الوجاهة والقوة ، ولعله يقصد بالمسخ الصورى مسخهم قردة ، وبالمسخ المعنوي ما ورد في قوله تعالى : " أو نلعنهم كما لعنا أصحاب السبت " [ النساء : 47 ] وقوله تعالى : " لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى بن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون [ المائدة : 78 ] والله أعلم بأسرار كتابه .
(7) - تفسير الرازي صـ 25 : 26 .

(5/111)


سؤال: أولئك القردة هل بقوا أو أفناهم الله ؟ وإن قلنا إنهم بقوا, فهذه القردة التي في زماننا هل يجوز أن يقال: إنها من نسل أولئك الممسوخين أم لا؟
أجاب الفخر الرازي(1) : عن ذلك بقوله: الكل جائز عقلاً, إلا أن الرواية عن ابن عباس أنهم ما مكثوا إلا ثلاثة أيام ثم هلكوا(2) . أهـ .

وقال الخازن(3) : [فقلنا لهم كونوا قردة خاسئين] أمر تحويل وتكوين, معنى خاسئين مبعدين مطرودين, وقيل: فيه تقديم وتأخير معناه: كونوا خاسئين قردة, ولهذا لم يقل خاسئات. أهـ .

قوله تعالى: [ فجعلناها نكالاً لما بين يديها وما خلفها ]
قال في زاد المسير: الضمير في قوله [فجعلناها] يعود على الخطيئة, وقيل: العقوبة, وقيل: أي المسخة, وقيل: القرية, والمراد أهلها, وقيل: يعود على الأمة التي مسخت .
وفي النكال قولان: أحدهما أنه العقوبة, والثاني: العبرة .

[ لما بين يديها وما خلفها ]
فيه ثلاثة أقوال: لما بين يديها من القرى وما خلفها, والثاني لما بين يديها من الذنوب, وما خلفها: ما عملوا بعدها, والثالث: لما بين يديها من السنين التي عملوا فيها بالمعاصي, وما خلفها: ما كان بعدهم في بني إسرائيل, لئلا يعملوا بمثل أعمالهم(4) . أهـ .

قوله تعالى [فقلنا اضربوه ببعضها]
قال الفخر(5) : قوله تعالى [فقلنا اضربوه ببعضها]
__________
(1) - التفسير الكبير حـ3 صـ542 .
(2) لا مجال للقول بالجواز العقلي هنا بعد أن نطق السمع بخلافه كما ورد في صحيح مسلم - وتقدمت الإشارة إليه .
(3) - الخازن حـ1 صـ55 .
(4) - زاد المسير حـ1 صـ95 بتصرف يسير .
(5) التفسير الكبير حـ3 صـ553 .

(5/112)


واختلفوا في البعض الذي ضرب به القتيل: فقيل: لسانها, وقيل فخذها اليمنى وقيل ذنبها, وقيل: العظم الذي يلي الغضروف, وهو أصل الآذان, وقيل: البضعة بين الكتفين – ولا شك أن القرآن لا يدل عليه فإن ورد خبر صحيح قبل, وإلا وجب السكوت عنه(1) .

[ كذلك يحي الله الموتى ويريكم آياته لعلكم تعقلون ]
سؤال: (2) لقائل أن يقول: إن ذلك كان آية واحدة, فلم سميت بالآيات ؟
الجواب:أنها تدل على وجود الصانع القادر على كل المقدور, العالم بكل المعلومات, المختار في الإيجاد والإبداع, وعلى صدق موسى – عليه السلام- وعلى براءة ساحة من لم يكن قاتلاً, وعلى تعيين تلك التهمة على من باشر ذلك القتل, فهي وإن كانت آية واحدة, إلا أنها لما دلت على هذه المدلولات الكثيرة لا جرم جرت مجرى الآيات الكثيرة(3) . أهـ .
__________
(1) - هذا أصل عظيم وضعه الإمام الفخر – رحمه الله في أمثال هذه الأمور ، ولقد تميز به عن كثير من المفسرين ورد به كثيراً من الدسائس والمنكرات التي وضعها الزنادقة في كتب التفسير من أجل إفساد المعنى بعد أن عجزوا – وإلى يوم القيامة – عن إفساد اللفظ ، ولكن الله قيض للقرآن من يدافع عنه إلى يوم القيامة ، فهيهات لهم ثم هيهات أن يفلحوا ، فليموتوا كمداً وغيظاً " قل موتوا بغيظكم " وقد ذكر بعض المفسرين اختلافات أخرى منها ما ذكره ابن عطية حـ1 صـ165 ، قال " فقيل اضربوه ، وقيل اضربوا قبره ، لأن ابن عباس ذكر أن أمر القتيل وقع قبل جواز البحر ، وأنهم داموا في طلب البقرة أربعين سنة وقال القرطبي : لقد أمروا بطلبها وما هي في صلب ولا رحم بعد " انتهى كلام ابن عطية ، وأنت ترى ما يشتمل عليه من أمور في غاية البعد ، مما يجعلنا تنشكك في نسبتها إلى ابن عباس . أ هـ .
(2) - التفسير الكبير حـ3 صـ554 .
(3) - وما المانع أن يكون المعنى والله أعلم ويريكم آياته مثل ما أراكم هذه الآية ، وهي آية واحدة من آيات الله التي لا حصر لها والله أعلم .

(5/113)


وقال أبو السعود(1) : [ويريكم آياته] ودلائله الدالة على أنه تعالى على كل شيء قدير, ويجوز أن يراد بالآيات هذا الإحياء, والتعبير عنه بالجمع, لاشتماله على أمور بديعة من ترتب الحياة على عضو ميت وإخباره بقاتله, وما يلابسه من الأمور الخارقة للعادة . أهـ .

قصة البقرة

سؤال: فإن قلت: هلا أحياه ابتداء؟ ولم شرط في إحيائه ذبح البقرة وضربه ببعضها ؟
الجواب: قلت: في الأسباب والشروط حكم وفوائد, وإنما شرط ذلك لما في ذبح البقرة من التقرب وأداء التكاليف واكتساب الثواب والإشعار بحسن تقديم القربة على الطلب , وما في التشديد عليهم لتشديدهم من اللطف لهم , والآخرين في ترك التشديد والمسارعة إلى امتثال أوامر الله تعالى , وارتسامها على الفور, من غير تفتيش وتكثير سؤال , ونفع اليتيم بالتجارة الرابحة, والدلالة على بركة البر بالوالدين , والشفقة على الأولاد, وتجهيل الهازئ بما لا يعلم كنهه ولا يطلع على حقيقته من كلام الحكماء , وبيان أن من حق المتقرب إلى ربه أن يتوق في اختيار ما يتقرب به, وأن يختاره فتي السن غير قحم ولا ضرع , حسن اللون برياً من العيوب يوفق من ينظر إليه, وأن يغالي بثمنه , كما يروي عن عمر رضي الله عنه أنه ضحى من جيبه بثلاثمائة دينار, وأن الزيادة في الخطاب نسخ له, وأن النسخ قبل الفعل جائز وإن لم يجز قبل وقت الفعل وإمكانه لأدائه إلى البداء, وليعلم بما أمر من مس الميت بالميت وحصول الحياة عقيبه أن المؤثر هو المسبب لا الأسباب, لأن الموتين الحاصلين في الجسمين لا يعقل أن تتولد منهما الحياة .

سؤال: فإن قلت: فما للقصة لم تقص على ترتيبها, وكان حقها أن يقدم ذكر القتيل والضرب ببعض البقرة على الأمر بذبحها, وأن يقال: وإذ قتلتم نفساً فادارأتم فيها فقلنا اضربوه ببعضها ؟
__________
(1) - تفسير أبي السعود حـ1 صـ114 .

(5/114)


الجواب: قلت: كل ما قص من قصص بني إسرائيل إنما قص تعديداً لما وجد منهم من الجنايات, وتقريعاً لهم عليها, ولما جدد فيهم من الآيات العظام وهاتان قصتان كل واحدة منهما مستقلة بنوع من التقريع وإن كانتا متصلتين متحدتين, فالأولى لتقريعهم على الاستهزاء وترك المسارعة إلى الامتثال وما يتبع ذلك. والثانية للتقريع على قتل النفس المحرمة وما يتبعه من الآية العظيمة. وإنما قدمت قصة الأمر بذبح البقرة على ذكر القتيل لأنه لو عمل على عكسه لكانت قصة واحدة,و ولذهب الغرض في ثنية التقريع(1) . ولقد روعيت نكتة بعد ما استئونفت الثانية استئناف قصة برأسها أن وصلت بالأولى, دلالة على اتحادها بضمير البقرة لا باسمها الصريح في قوله [اضربوه ببعضها] حتى تبين أنهما قصتان فيما يرجع إلى التقريع وتثنيته بإخراج الثانية مخرج الاستئناف مع تأخيرها, وأنها قصة واحدة بالضمير الراجع إلى البقرة(2) . أهـ .

قوله تعالى: [ثم قست قلوبكم من بعد ذلك فهي كالحجارة أو أشد قسوة]
[ثم قست قلوبكم] أي يبست وجفت, جفاف القلب خروج الرحمة واللين منه, وقيل غلظت, وقيل اسودت .
سؤال: لماذا لم يشبه قلوبهم بالحديد مع أنه أصلب من الحجارة .
الجواب: لأن الحديد قابل للين, فإنه يلين بالنار, وقد لان لداود – عليه السلام- , والحجارة لا تلين قط(3) . أهـ .

سؤال: (4) فإن قلت الحجر جماد لا يعقل ولا يفهم, فكيف يخشى ؟
__________
(1) - وقد يجاب عن ذلك بأن القتل إنما حصل من أحدهم فقط بخلاف الاستهزاء وترك المسارعة إلى الامتثال وما يتبعه فإنه كان من جميعهم – والله أعلم .
(2) - تفسير الكشاف حـ1 صـ155 ، 156 .
(3) - معالم التنزيل حـ1 صـ 105 بتصرف يسير .
(4) تفسير الخازن حـ1 صـ 95 .

(5/115)


قلت: إن الله تعالى قادر على إفهام الحجر والجمادات, فتعقل وتخشى بإلهامه لها, ومذهب أهل السنة أن الله تعالى أودع في الجمادات والحيوانات علماً وحكمة لا يقف عليهما غيره, فلها صلاة وتسبيح وخشية يدل عليه قوله: [وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم] (الإسراء: 44) وقال: [والطير صافات كل قد علم صلاته وتسبيحه ] [ النور :41 ] فيجب على المرء الإيمان به, ويكل علمه إلى الله تعالى .
عن جابر بن سمرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "إني لأعرف حجراً بمكة كان يسلم علي قبل أن أبعث وإني لأعرفه الآن(1) , وعن علي قال: كنت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بمكة, فخرجنا إلى بعض نواحيها فما استقبله شجر ولا جبل إلا وهو يقول: السلام عليك يا رسول الله. أخرجه الترمذي وقال حديث غريب(2) . أهـ .

__________
(1) - [ مسلم / 2277 ] [ وابن حبان ] / 6482 ] [ والدارمى / 20 ] [ وأحمد 5/ 95 ] [ والطبراني في الكبير /1995 ] .
(2) - أخرجة الحاكم في المستدرك رقم : 4238 .

(5/116)


قوله تعالى: [فهي كالحجارة أو أشد قسوة]
قال الفخر الرازي: كلمة [أو] للترديد وهي لا تليق بعلام الغيوب, فلا بد من التأويل وهو وجوه. أحدها: أنها بمعنى الواو كقوله تعالى: [إلى مائة ألف أو يزيدون](الصافات:147) بمعنى ويزيدون وكقوله تعالى: [ ولا يبدين زينتهن إلا لبعولتهن أو آبائهن] (النور:31) والمعنى وآبائهن وكقوله: [أن تأكلوا من بيوتكم أو بيوت آبائكم](النور: 61) يعني وبيوت آبائكم. ومن نظائره قوله تعالى: لعله يتذكر أو يخشى](طه: 44), [فالملقيات ذكراً عذراً أو نذراً](المرسلات:5و6). وثانيها: أنه تعالى أراد أن يبهمه على العباد فقال ذلك كما يقول المرء لغيره: أكلت خبزاً أو تمراً وهو لا يشك أنه أكل أحدهما إذا أراد أن يبينه لصاحبه. وثالثها: أن يكون المراد فهي كالحجارة, ومنها ما هو أشد قسوة من الحجارة, و رابعها: أن الآدميين إذا اطلعوا على أحوال قلوبهم قالوا: إنها كالحجارة أو أشدة قسوة من الحجارة. وهو المراد في قوله: [ فكان قاب قوسين أو أدنى] (النجم:9) أي في نظركم واعتقادكم. و خامسها: أن كلمة [أو] بمعنى بل وأنشدوا :
فوالله ما أدري أسلمى تفولت أم القوم أو كل إلى حبيب

قالوا: أراد بل كل. وسادسها: أنه على حد قولك ما آكل إلا حلواً أو حامضاً أي طعامي لا يخرج عن هذين, بل يتردد عليهما, وبالجملة: فليس الغرض إيقاع التردد بينهما, بل نفي غيرهما. و سابعها: أن [أو] حرف إباحة كأنه قيل بأي هذين شبهت قلوبهم كان صدقاً, كقولك: جالس الحسن أو ابن سيرين أي أيهما جالست كنت مصيباً ولو جالستهما معاً كنت مصيباً أيضاً .

(5/117)


إنما وصفها بأنها أشد قسوة لوجوه. أحدها: أن الحجارة لو كانت عاقلة ولقيتها هذه الآية لقبلتها كما قال [لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعاً متصدعاً من خشية الله](الحشر:21). وثانيها أن الحجارة ليس فيها امتناع مما يحدث فيها بأمر الله تعالى وإن كانت قاسية بل هي منصرفة على مراد الله غير ممتنعة من تسخيره, و هؤلاء مع ما وصفنا من أحوالهم في اتصال الآيات عندهم وتتابع النعم من الله عليهم يمتنعون من طاعته ولا تلين قلوبهم لمعرفة حقه وهو كقوله تعالى: [ وما من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه](الأنعام:38) إلى قوله تعالى: [ والذين كذبوا بآياتنا صم وبكم في الظلمات](الأنعام 39) كأن المعنى أن الحيوانات من غير بني آدم أمم سخر كل واحد منها لشيء وهو منقاد لما أريد منه وهؤلاء الكفار يمتنعون عما أراد الله منهم. وثالثها أو أشد قسوة, لأن الأحجار ينتفع بها من بعض الوجوه, ويظهر منها الماء في بعض الأحوال, أما قلوب هؤلاء فلا نفع فيها ألبتة ولا تلين لطاعة الله بوجه من الوجوه.
إنما قال [أشد قسوة] ولم يقل أقسى, لأن ذلك أدل على فرط القسوة ووجه آخر وهو ان لا يقصد معنى الأقسى, ولكن قصد وصف القسوة بالشدة, كأنه قيل: اشتدت قسوة الحجارة وقلوبهم أشد قسوة(1) . اهـ

قوله تعالى: [وقالوا لن تمسنا النار إلا أياماً معدودة]
قال السمعاني(2) : [وقالوا لن تمسنا النار إلا أياماً معدودة] اختلفوا فيه: منهم من قال: أرادوا به أربعين يوماً عدد ما عبدنا العجل, ومنهم من قال: سبعة أيام, لأن مقدار زمان العالم سبعة آلاف سنة(3) , فقالوا نعذب بكل سنة يوماً, وقيل إنهم قالوا سمعنا أنبياءنا قالوا ما بين طرفي جهنم مسيرة أربعين سنة, فنحن نقطع في كل يوم مسيرة سنة, فتبقى مسيرة جهنم في أربعين يوماً وننجوا منها. اهـ
__________
(1) - التفسير الكبير حـ3 صـ555 ، 556 .
(2) - تفسير السمعاني حـ1 صـ101 .
(3) - هذا القول باطل لا أساس له من الصحة .

(5/118)


سؤال: ذكر ها هنا [وقالوا لن تمسنا النار إلا أياماً معدودة] وفي آل عمران [إلا أياماً معدودات](آل عمران: 24) ولقائل أن يقول: لم كانت الأولى [معدودة] والثانية [معدودات], والموصوف في المكانين واحد وهو [أياماً]
الجواب: لأن الأصل في الجمع إذا كان واحداً مذكراً أن يقتصر الوصف على التأنيث نحو قوله تعالى: [ سرر مرفوعة وأكواب موضوعة ونمارق مصفوفة وزرابي مبثوثة] (الغاشية: 13-16) وقد يأتي سرر مرفوعات على تقدير ثلاث سرر مرفوعة, و تسعة سرر مرفوعات إلا أنه ليس بالأصل, فجاء القرآن في البقرة على الأصل, وذكر في آل عمران على الفرع(1). اهـ

[ قل أتخذتم عند الله عهداً أم تقولون على الله مالا تعلمون ]

قال الفخر: قوله تعالى: [أتخذتم] ليس باستفهام, بل هو إنكار, لأنه لا يجوز أن يجعل الله تعالى حجة رسوله في إبطال قولهم أن يستفهمهم, بل المراد التنبيه على طريقة الاستدلال, وهي أنه لا سبيل إلى معرفة هذا التقدير إلا بالسمع,فلما لم يوجد الدليل السمعي وجب ألا يجوز الجزم بهذا التقدير(2).اهـ
قوله تعالى: [وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل لا تعبدون إلا الله]
[سؤال ] : لماذا رفع الفعل بعد [ لا ] الناهية في قوله تعالى [ لا تعبدون إلا الله ] والأصل أن يقال [ لا تعبدوا إلا الله ] بجزم الفعل ؟ .
قال الفخر(3) : اختلفوا في موضع [تعبدون] من الإعراب على خمسة أقوال. القول الأول: قال الكسائي: رفعه على: أن لا يعبدوا, كأنه قيل: أخذنا ميثاقهم بأن لا يعبدوا, إلا أنه لما أسقطت (أن) رفع الفعل كما قال طرفة:
ألا أيها ذا اللائمي(4) أحضر الوغى… وأن أشهد اللذات هل أنت مخلدي
أراد أن أحضر ولذلك عطف عليه (أن) وأجاز هذا الوجه الأخفش والفراء والزجاج وقطرب وعلي بن عيسى وأبو مسلم .
__________
(1) - أسرار التكرار في القرآن صـ 567
(2) - التفسير الكبير حـ3 صـ 567
(3) - التفسير الكبير حـ3 صـ585 .
(4) - وردت أيها الزاجري .

(5/119)


القول الثاني: موضعه رفع على أنه جواب القسم, كأنه قيل: وإذ أقسمنا عليهم لا يعبدون [إلا الله] وأجاز هذا الوجه المبرد والكسائي والفراء والزجاج وهو أحد قولي الأخفش .
القول الثالث: قول قطرب : أنه يكون في موضع الحال, فيكون موضعه نصباً, كأنه قال: أخذنا ميثاقكم غير عابدين إلا الله .
القول الرابع: قول الفراء: أن موضع [لا تعبدون] على النهي إلا أنه جاء على لفظ الخبر كقوله تعالى: [لا تضار والدة بولدها](البقرة: 233) بالرفع, والمعنى على النهي, والذي يؤكد كونه نهياً أمور :
أحدها قوله "أقيموا" وثانيها: أنه ينصره قراءة عبد الله وأبي:"لا تعبدوا" وثالثها: أن الإخبار في معنى الأمر والنهي آكد وأبلغ من صريح الأمر والنهي, لأنه كأنه سورع إلى الامتثال والانتهاء فهو يخبر عنه(1) .
القول الخامس: التقدير: أن لا تعبدوا تكون (أن) مع الفعل بدلاً عن الميثاق كأنه قيل: أخذنا ميثاق بني إسرائيل بتوحيدهم. أهـ .

(( وإذا أخذتم ميثاق بني إسرائيل لا تعبدون إلا الله ))
وقال القرطبي(2) : وقال الفراء والزجاج وجماعة: المعنى: أخذنا ميثاقهم بألا تعبدوا إلا الله, وبأن يحسنوا للوالدين, وبأن لا يسفكوا الدماء, ثم حذفت أن والباء, فارتفع الفعل لزوالهما, كقوله تعالى [أفغير الله تأمروني] (الزمر:64) قال المبرد: هذا خطأ, لأن كل ما أضمر في العربية فهو يعمل عمله مظهراً, تقول: (وبلدٍ قطعت, أي رب بلد) .

وقلت: ليس هذا بخطأ, بل هما وجهان صحيحان, وعليهما أنشد سيبويه
( للشاعر طرفة بن العبد ) .

ألا أيها ذا اللائمي أحضر الوغى……وأن أشهد اللذات هل أنت مخلدي
بالنصب والرفع, فالنصب على إضمار (أن) والرفع على حذفها. أهـ .

سؤال: لم خوطبوا ب [قولوا] بعد الإخبار؟
الجواب: من ثلاثة أوجه .
__________
(1) - هذا الوجه من أبدع الوجوه وأحسنها كما يظهر ذلك من خلال توجيهه له .
(2) - تفسير القرطبي حـ2 صـ13 .

(5/120)


أحدها: أنه على طريقة الالتفات كقوله تعالى [ حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم] (يونس:22)
وثانيها: فيه حذف: أي: قلنا لهم قولوا .
وثالثها: الميثاق لا يكون إلا كلام, كأنه قيل: قلت: لا تعبدوا إلا الله, وقولوا(1).أهـ .

قوله تعالى: [وقولوا للناس حسناً ]
قال الإمام الفخر: "قال أهل التحقيق كلام الناس مع الناس إما أن يكون في الأمور الدينية, أو في الأمور الدنيوية, فإن كان في الأمور الدينية, فإما أن يكون في الدعوة إلى الإيمان, وهو مع الكفار, أو في الدعوة إلى الطاعة وهو مع المنافقين أما الدعوة إلى الإيمان فلا بد وأن تكون بالقول الحسن, كما قال تعالى لموسى وهارون [فقولا له قولاً ليناً لعله يتذكر أو يخشى](طه:44) أمرهما الله بالرفق مع فرعون مع جلالتهما, ونهاية كفر فرعون وتمرده وعتوه على الله تعالى, وقال لمحمد – صلى الله عليه وسلم – [ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك] (آل عمران:159) وأما دعوة الفساق , فالقول الحسن فيه معتبر قال تعالى[ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة](النحل:125) وقال: [ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم](فصلت:34) .
وأما في الأمور الدنيوية, فمن المعلوم بالضرورة أنه إذا أمكن التوصل إلى الغرض بالتلطف من القول لم يحسن سواه, فثبت أن جميع آداب الدين والدنيا داخله تحت قوله تعالى: [وقولوا للناس حسناً] (2) أهـ .
__________
(1) - التفسير الكبير حـ3 صـ588 .
(2) - التفسير الكبير حـ3 صـ589

(5/121)


وقال أبو السعود [وقولوا للناس حسناً] أي قولاً حسناً سماه حُسْناً مبالغة والمراد به ما فيه تخلق وإرشاد(1) [وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة] هو فرض عليهم في شريعتهم [ثم توليتم] إن جعل ناصب الظرف خطاباً للنبي – صلى الله عليه وسلم – والمؤمنين فهذا التفات إلى خطاب بني إسرائيل جميعاً بتغليب أخلافهم على أسلافهم لجريان ذكر كلهم حينئذٍ على نهج الغيبة, فإن الخطابات السابقة لأسلافهم محكية داخلة في حيز القول المقدر قبل لا تعبدون, كأنهم استحضروا عند ذكر جناياتهم فنعيت هي عليهم, وإن جعل خطاباُ لليهود المعاصرين لرسول الله – صلى الله عليه وسلم – فهذا تعميم للخطاب تنزيل الأسلاف منزلة الأخلاف كما أنه تعميم للتولي بتنزيل الأخلاف منزلة الأسلاف للتشديد في التوبيخ أي أعرضتم عن المضي على مقتضى الميثاق ورفضتموه (إلا قليلاً) وهم من الأسلاف من أقسام اليهودية على وجهها قبل النسخ ومن الأخلاف من أسلم, كعبد الله بن سلام. اهـ

قوله تعالى: [ حسناً ] مصدر بمعنى الصفة جيء به للمبالغة, وفي بعض القراءات حسناً – بفتح الحاء والسين – صفة مشبهة., والمعنى قولوا للناس قولاً حسناً, وهو كناية عن حسن المعاشرة مع الناس كافرهم ومؤمنهم, ولا ينافي حكم القتال حتى تكون آية القتال ناسخة له, لأن مورد القتال غير مورد المعاشرة, فلا ينافي الأمر بحسن المعاشرة, كما أن القول الخشن في مقام التأديب لا ينافي حسن المعاشرة(2) . أهـ .
__________
(1) - تفسير أبي السعود حـ1 صـ123 بتصرف يسير
(2) - الميزان حـ1 صـ219

(5/122)


وقال القرطبي(1): "قال ابن عباس: المعنى قولوا لهم: لا إله إلا الله ومروهم بها, وقال ابن جريح: قولوا للناس صدقاً في أمر محمد – صلى الله عليه وسلم – ولا تغييروا نعته, وقال سفيان الثوري: مروهم بالمعروف وانهوهم عن المنكر, وقال أبو العالية: قولوا لهم الطيب من القول, وجازوهم بأحسن ما تحبون أن تجازوا به, وهذا كله من مكارم الأخلاق, فينبغي للإنسان أن يكون قوله للناس ليناً ووجهه منبسطاً طلقاً مع البر والفاجر, والسني والمبتدع, من غير مداهنة, ومن غير أن يتكلم معه بكلام يظن أنه يرضي مذهبه, لأن الله تعالى قال لموسى وهارون: [فقولا له قولاً ليناً] (طه:44) فالقائل ليس بأفضل من موسى وهارون, والفاجر ليس بأخبث من فرعون, وقد أمرهما الله تعالى باللين معه, وقال طلحة بن عمر: قلت لعطاء: إنك رجل يجتمع عندك ناس ذوو أهواء مختلفة, وأنا رجل فيّ حدة, فأقول لهم القول الغليظ قال : لا تفعل! يقول الله تعالى: [وقولوا للناس حسناً] فدخل في هذه اليهود والنصارى فكيف بالحنيفي . أهـ .

قوله تعالى: [ ولقد آتينا موسى الكتاب وقفينا من بعده بالرسل وآتينا عيسى بن مريم البينات وأيدناه بروح القدس ] .
سؤال: ما السبب في أن القرآن أجمل ذكر الرسل, ثم فصل ذكر عيسى – عليه السلام - ؟
الجواب: لأن شرعه نسخ أكثر شرع موسى – عليهما السلام (2) –
قوله تعالى: [وأيدناه بروح القدس]
سؤال: ما السر في اختصاص جبريل بعيسى – عليهما السلام - ؟
الجواب: لأن جبريل هو الذي بشر مريم بولادتها, وإنما ولد عيسى عليه السلام من نفخة جبريل عليه السلام, وهو الذي رباه في جميع الأحوال, وكان يسير معه حيث سار, وكان معه حين صعد إلى السماء. أهـ .

قوله تعالى: [ ففريقاً كذبتم وفريقاً تقتلون ]
سؤال: لقائل أن يقول: هلا قيل : وفريقاً قتلتم ؟
__________
(1) - تفسير القرطبي حـ2 صـ15 بتصرف يسير
(2) - التفسير الكبير حـ3 صـ395

(5/123)


وجوابه: من وجهين: أحدهما أن يراد الحال الماضية, لأن الأمر فظيع, فأريد استحضاره في النفوس وتصويره في القلوب .
الثاني: أن يراد: فريقاً تقتلونهم بعد, لأنكم حاولتم قتل محمد - صلى الله عليه وسلم - ولولا أني أعصمه منكم, ولذلك سحرتموه, وسممتم الشاة - والله أعلم -. اهـ
قوله تعالى: [ففريقاً كذبتم]
[ففريقاًً] منصوب ب [كذبتم] وكذا [فريقاً تقتلون], فكان ممن كذبوه عيسى ومحمد - عليهما السلام - وممن قتلوه : يحي وزكريا عليهما السلام(1). أهـ .

سؤال: هذه الآية تدل على أنهم قتلوا بعض الرسل, ونظيرها قوله تعالى: [قل قد جاءكم رسل من قبلي بالبينات وبالذي قلتم فلم قتلتموهم] (آل عمران:183) وقوله: [كلما جاءهم رسول بما لا تهوى أنفسهم فريقاً كذبوا وفريقاً يقتلون] (المائدة:70) وقد جاء في آيات أخرما يدل على أن الرسل غالبون منصورون, كقوله :[كتب الله لأغلبن أنا ورسلي](المجادلة: 21) وكقوله:[ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين إنهم لهم المنصورون وإن جندنا لهم الغالبون](الصافات:171-173) وقوله تعالى: [فأوحى إليهم ربهم لنهلكن الظالمين ولنسكننكم الأرض من بعدهم](إبراهيم:13: 14) وبين تعالى أن هذا النصر في الدنيا أيضاً, كما في هذه الآية الأخيرة, وكما في قوله: [إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد](غافر:51) والذي يظهر في الجواب من هذا: أن الرسل قسمان: قسم : أمروا بالقتال في سبيل الله, وقسم أمروا بالصبر والكف عن الناس, فالذين أمروا بالقتال, وعدهم الله بالنصر والغلبة في الآيات المذكورة, والذين أمروا بالكف والصبر هم الذين قتلوا, ليزيد الله رفع درجاتهم العلية بقتلهم مظلومين, وهذا الجمع مفهوم من الآيات لأن النصر والغلبة في الدلالة بالالتزام - على جهاد ومقاتلة(2). أهـ .

__________
(1) - تفسير القرطبي حـ2 صـ20
(2) - دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب صـ23 : 24

(5/124)


فائدة
قال صاحب [ الأمثل ]
القرآن في حديثه عن اليهود لا يوبّخ الجميع بسبب ذنوب الأكثرية ، بل يستعمل كلمات مثل «فريق» «أكثر» ليصون حق الأقلية المؤمنة المتقية ، وطريقة القرآن هذه في حديثه عن الأُمم درس لنا كي لا نحيد في أحاديثنا ومواقفنا عن الحقّ والحقيقة. أهـ [ الأمثل حـ1 صـ398 ]

قوله تعالى: [وقالوا قلوبنا غلف]
قال أبو السعود(1) [وقالوا] بيان لفن آخر من قبائحهم على طريق الالتفات إلى الغيبة إشعاراً بإبعادهم عن رتبة الخطاب لما فصل من مخازيهم الموجبة للإعراض عنهم, وحكاية نظائرها لكل من بطلانها وقبائحها من أهل الحق, والقائلون هم الموجودون في عصر النبي عليه الصلاة والسلام. [قلوبنا غلف] جمع أغلف مستعار من الأغلف الذي لم يختن أي مغشاة بأغشية جبلية لا يكاد يصل إليها ما جاء به محمد - صلى الله عليه وسلم - ولا تفقهه. اهـ

[ فقليلاً ما يؤمنون ]
قال الفخر(2): [فقليلاً ما يؤمنون] في تفسيره ثلاثة أوجه
أحدها: أن القليل صفة المؤمن أي لا يؤمن منهم إلا القليل.
وثانيها: أنه صفة الإيمان أي لا يؤمنون إلا بقليل مما كلفوا به, لأنهم كانوا يؤمنون بالله, إلا إنهم كانوا يكفرون بالرسل.
وثالثها: معنا لا يؤمنون أصلاً - لا قليلاً ولا كثيراً -, كما يقال: قليلاً ما يفعل, بمعنى: لا يفعل ألبتة.
والوجه الأول أولى لأنه نظير قوله [ بل طبع الله عليها بكفرهم فلا يؤمنون إلا قليلاً](النساء:155), ولأن الجملة الأولى إذا كان المصرح فيها ذكر القوم, فيجب أن يتناول الاستثناء بعض هؤلاء القوم. أهـ .

وقال ابن جزي(3) في قوله تعالى: [فقليلاً ما يؤمنون] أنهم كانوا يؤمنون ببعض الرسل ويكفرون ببعض. اهـ

قوله تعالى: [ قل فلم تقتلون أنبياء الله من قبل إن كنتم مؤمنين ]
__________
(1) - تفسير أبي السعود حـ1 صـ127
(2) - التفسير الكبير حـ3 صـ398 باختصار يسير
(3) - التسهيل حـ1 صـ53

(5/125)


قال الفخر(1): قوله:[فلم تقتلون] وإن كان خطاب مشافهة, لكن المراد من تقدم من سلفهم ويدل عليه وجوه :
أحدها: أن الأنبياء في ذلك الزمان ما كانوا موجودين, وثانيها: أنهم ما أقدموا على ذلك. وثالثها أنه لا يتأتي فيه [من قبل] فأما المراد به الماضي, فظاهر, لأن القرينة دالة عليه,
فإن قيل: قوله [آمنوا] خطاب لهؤلاء الموجودين, [فلم تقتلون] حكاية فعل أسلافهم, فكيف وجه الجمع بينهما ؟
قلنا: معناه: إنكم بهذا التكذيب خرجتم من الإيمان بما آمنتم, كما خرج أسلافكم بقتل الأنبياء - عن الإيمان بالباقين . أهـ .

سؤال: كيف جاز قوله: [فلم تقتلون أنبياء الله من قبل] ولا يجوز أن يقال: أنا أضربك أمس ؟
والجواب: فيه قولان: أحدهما: أن ذلك جائز فيما كان بمنزلة الصفة اللازمة كقولك لمن تعرفه بما سلف من قبح فعله: ويحك لم تكذب؟ كأنك قلت: لم يكن هذا من شأنك, قال تعالى: [واتبعوا ما تتلوا الشياطين] (البقرة: 102)
ولم يقل: تلت, لأنه أراد - من شأنها التلاوة .
والثاني: كأنه قال: لم ترضون بقتل الأنبياء من قبل إن كنتم آمنتم بالتوراة, والله أعلم(2) . أهـ .

وقال القرطبي(3) : وجاء [تقتلون] بلفظ الاستقبال وهو بمعنى المضي لما ارتفع الإشكال بقوله [من قبل], وإذا لم يشكل فجائز أن يأتي الماضي بلفظ المستقبل, والمستقبل بمعنى الماضي, قال الحطيئة :
……
شهد الحطيئة يوم يلقى ربه ……أن الوليد أحق بالعذر
شهد بمعنى: يشهد. أهـ .
وقال في الميزان(4) : قوله تعالى: [فلم تقتلون أنبياء الله من قبل] الفاء للتفريع, والسؤال متفرع على قولهم: نؤمن بما أنزل علينا, أي: لو كان قولكم: نؤمن بما أنزل علينا حقاً وصدقاً, فلم تقتلون أنبياء الله, ولم كفرتم بموسى باتخاذ العجل, ولم قلتم عند أخذ الميثاق ورفع الطور: سمعنا وعصينا. أهـ .
__________
(1) - التفسير الكبير حـ3 صـ603
(2) - التفسير الكبير حـ3 صـ603 : 604
(3) - تفسير القرطبي حـ2 صـ24
(4) - الميزان حـ1 صـ222

(5/126)


قوله تعالى: [سمعنا وعصينا]
سؤال: فإن قلت: كيف طابق قوله جوابهم؟
قلت: طابق من حيث قال لهم اسمعوا, وليكن سماعكم سماع تقبل وطاعة, فقالوا سمعنا, ولكن – لا سماع طاعة(1) . أهـ .

قوله تعالى: [ولن يتمنوه أبداً]
قال صاحب الكشاف: [ولن يتمنوه أبداً] من المعجزات , لأنه إخبار بالغيب وكان كما أخبر به, كقوله [ ولن تفعلوا ] (البقرة:24)
سؤال: فإن قلت: ما أدراك أنهم لم يتمنوا ؟
قلت: لأنهم لو تمنوا لنقل ذلك, كما نقل سائر الحوادث, ولكان ناقلوه من أهل الكتاب وغيرهم من أولى المطاعن في الإسلام أكثر من الذر وليس أحد منهم نقل ذلك .
سؤال: فإن قلت: التمني من أعمال القلوب, وهو سر لا يطلع عليه أحد فمن أين علمت أنهم لم يتمنوا ؟
قلت: ليس التمني من أعمال القلوب, إنما هو قول الإنسان بلسانه: ليت لي كذا, فإذا قاله قالوا: تمنى, وليت كلمة التمني, ومحال أن يقع التحدي بما في الضمائر والقلوب, ولو كان التمني بالقلوب وتمنوا, لقالوا: قد تمنينا الموت في قلوبنا, ولم ينقل أنهم قالوا ذلك .
فإن قلت: لم يقولوه, لأنهم علموا أنهم لا يصدقون .
قلت: كم حكى عنهم من أشياء قاولوا بها المسلمين من الافتراء على الله وتحريف كتابه وغير ذلك مما علموا أنهم غير مصدقين فيه ولا محل له إلا الكذب البحت ولم يبالوا, فكيف يمتنعون من أن يقولوا إن التمني من أفعال القلوب وقد فعلناه, مع احتمال أن يكونوا صادقين في قولهم وإخبارهم عن ضمائرهم, وكان الرجل يخبر عن نفسه بالإيمان فيصدق مع احتمال أن يكون كاذباً, لأنه أمر خاف لا سبيل إلى الإطلاع عليه(2) . أهـ .

قال في التسهيل :
سؤال: إن قيل: لم قال في هذه السورة: [ولن يتمنوه] وفي الجمعة: [ولا يتمنونه] (الجمعة:7) فنفى هنا ب[لن] وفي الجمعة ب[لا]
__________
(1) - الكشاف حـ1 صـ166
(2) - الكشاف حـ1 صـ167 : 168

(5/127)


الجواب: قال أستاذنا الشيخ أبو جعفر بن الزبير (الجواب) أنه لما كان الشرط في المغفرة مستقبلاً وهو قوله: [إن كانت لكم الدار الآخرة عند الله خالصة] جاء جوابه ب [لن] التي تخلص الفعل للاستقبال, ولما كان الشرط في الجمعة حالاً وهو قوله [إن زعمتم أنكم أولياء الله] جاء جوابه ب [لا] التي تدخل على الحال أو تدخل على المستقبل(1) . أهـ .

وقال الكرماني(2) : [ولن يتمنوه](البقرة:95) وفي ( الجمعة:7) [ولا يتمنونه] لأن دعواهم في هذه السورة بالغة قاطعة, وهي كون الجنة لهم بصفة الخلوص فبالغ في الرد عليهم بـ[لن] وهي أبلغ ألفاظ النفي, ودعواهم في الجمعة قاصرة مترددة, وهي زعمهم أنهم أولياء الله فاقتصر على [لا]. اهـ

قال السمرقندي(3) ما نصه :
__________
(1) - التسهيل حـ1 صـ54
(2) - أسرار التكرار في القرآن صـ32
(3) - بحر العلوم ؛حـ1صـ101

(5/128)


قال الزجاج: في هذه الآية أعظم حجة, وأظهر دلالة على صحة رسالة النبي –صلى الله عليه وسلم - لأنه قال لهم: فتمنوا الموت, وأعلمهم أنهم: لن يتمنوه أبداً فلم يتمنه واحد منهم, ويقال: إن قوله [لن يتمنوه] إنما يقع على الحياة الدنيا خاصة, ولا يقع على أمر الآخرة, لأنهم يتمنون الموت في النار إذا كانوا في جهنم(1) , وفي هذه الآية دليل على أن لفظة [لن] لا تدل على التأبيد, لأنهم يتمنون الموت في الآخرة, خلافاً لقول المعتزلة في قوله: [ لن تراني] (الأعراف:143)(2)
وقال السعدي(3) :
__________
(1) - يشير إلى قوله تعالى على لسان أهل النار " ونادوا يا مالك ليقض علينا ربك " [ الزخرف : 77 ] .
(2) - هذا كلام نفيس يرد رداً قاطعاً على المعتزلة الذين يقولون بنفي الرؤية مستدلين بقوله تعالى رداً على موسى عليه السلام لما طلب الرؤية قيل له " لن تراني " بناء على أن [ لن ] للنفي على التأبيد ، فكان في هذه الآية " ولن يتمنوه أبداً " قطعاً وإبطالاً لحجتهم ومن ملح العلم أن المعتزلة استدلوا على نفي الرؤية بـ [ لن ] و [ لا ] في قوله تعالى " لن تراني " وقوله " لا تدركه الأبصار " ، ونفي تمنى اليهود للموت ورد بـ [ لن يتمنوه ] و [ ولا يتمنونه ] وقد تقدمت الإشارة إلى أن نفي هذا التمني مقيد بالدنيا دون الآخرة ، وكذلك إن شاء الله نفي الرؤية مقيد بالدنيا دون يوم المزيد نسأل الله أن يمن علينا بالنظر إلى وجهه الكريم .
(3) - تفسير السعدي صـ53 .

(5/129)


[فتمنوا الموت] وهذا نوع مباهلة- بينهم وبين رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وليس بعد هذا الإلجاء والمضايقة لهم بعد العناد منهم إلا أحد أمرين إما أن يؤمنوا بالله ورسوله, وإما أن يباهلوا على ما هم عليه بأمر يسير عليهم, وهو تمني الموت الذي يوصلهم إلى الدار التي هي خالصة لهم, فامتنعوا من ذلك, فعلم كل أحد أنهم في غاية المعاندة والمحادة لله ولرسوله معم علمهم بذلك, ولهذا قال [ولن يتمنوه أبداً بما قدمت أيديهم]. اهـ

قوله تعالى: [ ولتجدنهم أحرص الناس على حياة]
قال البيضاوي(1): وتنكير [حياة] لأنه أريد بها فرد من أفرادها وهي الحياة المتطاولة. اهـ
وقال الآلوسي(2) : وتنكير [حياة] لأنه أريد بها فرد نوعي, وهي الحياة المتطاولة, فالتنوين للتعظيم, ويجوز أن يكون للتحقير, فإن الحياة الحقيقية وهي الأخروية [وإن الدار الآخرة لهي الحيوان](العنكبوت:64) ويجوز أن يكون التنكير للإبهام, بل قيل إنه الأوجه أي على حياة مبهمة غير معلومة المقدار, ومنه يعلم حرصهم على الحياة المتطاولة من باب الأولى. أهـ .

قوله تعالى: [ ومن الذين أشركوا ]
سؤال: لماذا خص الذين أشركوا بالذكر مع أنهم داخلون في لفظ الناس ؟
الجواب: وإفرادهم بالذكر مع دخولهم في الناس, للإيذان بامتيازهم من بينهم بشدة الحرص للمبالغة في توبيخ اليهود, فإن حرصهم وهم معترفون بالجزاء لما كان أشد من حرص المشركين المنكرين له دل ذلك على جزمهم بمصيرهم إلى النار, ويجوز أن يحمل على حذف المعطوف ثقة بإنباء المعطوف عليه عنه أي وأحرص من الذين أشركوا(3). أهـ .
__________
(1) - تفسير البيضاوي حـ1 صـ365
(2) - روح المعاني حـ1 صـ329
(3) - تفسير أبي السعود حـ1 صـ 132

(5/130)


وقال فى عرائس البيان :{ وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ على حَيَاة } لأنّهم محجوبون عن مشاهدة الآخرة ومكاشفة الحضرة ؛ لغطاء الغفلة والشهوة ، وقال محمد بن الفضل : لعلمهم بما قدموا من الآثام والخلاف ، وهذا حال الكفار ، فوجب على المؤمن أن يكون حاله ضد هذا مشتاقاً إلى الموت بمكاشفة الغيوب ، ورفع حجاب الوحشة ، والوصول إلى محل الأنس ، ألا ترى أن النبي ــ صلى الله عليه وسلم ــ يقول : {من أحبّ لقاء الله أحب الله لقاءه} وأن بلالا لما احتضر قالت امرأته : واحزناه فقال : بل واطرباه بلقاء الأحبّة .أهـ [ عرائس البيان للبقلى حـ 1 صـ43 ]

قوله تعالى: ( وما هو بمزحزحه من العذاب أن يعمر )
قال الفخر(1): الزحزحة: التبعيد والإنحاء, قال القاضي: والمراد أنه لا يؤثر في إزالة العذاب أقل تأثير, ولو قال تعالى: وما هو بمبعده وبمنجيه لم يدل على قلة التأثير كدلالة هذا القول. اهـ

موعظة
قال القشيري(2) :
حب الحياة في الدنيا نتيجة الغفلة عن الله, وأشد منه غفلة حبهم للبقاء في الدنيا, وحال المؤمن من هذا على الضد, وأما أهل الغفلة وأصحاب التهتك, فإنما حرصهم على الحياة لعلمهم بما فقدوا فيها من طاعتهم, فالعبد الآبق لا يريد رجوعاً إلى سيده, والانقلاب إلى من هو خيره مرجو خير للمؤمنين من البقاء مع من شره غير مأمون, ثم إن امتداد العمر مع يقين الموت – لا قيمة له – إذا فاجأ الأمر, وانقطع العمر, وكل ما هو آت فقريب, وإذا انقضت المدة فلا مرد لهجوم الأجل على أكتاف الأمل. اهـ

لطيفة
الناس في حب البقاء في الدنيا على أربعة أقسام :
__________
(1) - التفسير الكبير حـ3 صـ610
(2) - لطائف الإشارات حـ1 صـ107 : 108

(5/131)


رجل أحب البقاء في الدنيا لاغتنام لَذَّاته ونيل شهواته ، قد طرح أخراه ، وأكبَّ على دنياه ، واتخذ إلهه هواه ، فأصمه ذلك وأعماه ، إن ذُكر له الموت فرّ عنه وشرد ، وإن وعِظَ أنِف وعَنَدَ ، عمره ينقص ، وحرصه يزيد ، وجسمه يبلى ، وأمله جديد ، وحتفه قريب ، ومطلبه بعيد ، فهذا إن لم تكن له عناية أزلية ، وسابقة أولية فيمسك عليه الإيمان ، ويختم له بالإسلام ، وإلا فقد هلك.
ورجل قد أزيل عن عينه قذاها ، وأبصر نفسه وهواها ، وزجرها ونهاها ، قد شمر ليتلافى ما فات ، ونظر فيما هو آت ، وتأهب لحلول الممات ، والانتقال إلى محلة الأموات ، ومع هذا فإنه يكره الموت أن يشاهد وقائعه ، أو يرى طلائعه ، وليس يكره الموت لذاته ، ولا لأنه هَادِمْ لَذَّاتِهِ ، لكنه يخاف أن يقطعه عن الاستعداد ليوم المعاد ، ويكره أن تطوى صحيفةِ عَمَلِهِ قبل بلوغ أمله ، وأن يبادر بأجله قبل صلاح خلله ، فهو يريد البقاء في هذه الدار لقضاء هذه الأوطار ، فهذا ما أفضل حياته : وأطيب مماته! لا يدخل تحت قوله صلى الله عليه وسلم : " مَنْ كَرِهَ لِقَاءَ اللّهِ كره اللّهُ لِقَاءَه ".
ورجل آخر قد عرف الله تعالى بأسمائه الحسنى ، وصفاته العليا ، وشهد ما شهد من كمال الربوبية ، وجمال حضرة الألوهية ، فملأت عينه وقلبه ، وأطاشت عقله ولبّه ، فهو يحن إلى ذلك المشهد ، ويستعجل إنجاز ذلك الموعد ، قد علم أن الحياة الدنيوية حجابٌ بينه وبين محبوبة ، وسترٌ مُسدل بينه وبين مطلوبه ، فهذا من المحبين العشاق ، قد حنّ إلى الوصال والتلاق ، أحب لقاء الله فأحب الله لقاءه ، فما أحسن حياته ولقاءه!

(5/132)


ورجل آخر قد شهد ما شاهد ذلك ، وربما زاد على ما هنالك ، لكنه فوّض الأمر إلى خالقه ، وسلّم الأمر لبارئه ، فلم يرض إلا ما رضي له ، ولم يرد إلا ما أريد به ، وما اختار إلا ما حكم به فيه ، إن أبقاه في هذه الدار أبقاه ، وإن أخذه فهو بغيته ومناه ، فهذا من العارفين المقربين. جعلنا الله منهم بمنِّه وكرمه. آمين. أهـ [ البحر المديد حـ1 صـ85 ]

قوله تعالى: [قل من كان عدواً لجبريل فإنه نزله على قلبك بإذن الله]
قال في الكشاف(1) : "الضمير في [نزله] للقرآن, ونحو هذا الإضمار أعني إضمار ما لم يسبق ذكره(2) , فيه فخامة لشأن صاحبه حيث يجعل لفرط شهرته, كأنه يدل على نفسه, ويكتفي عن اسمه الصريح بذكر شيء من صفاته. أهـ .
وقال فى الدر المصون : قوله: "فإنَّه" يعودُ على جبريل ، وفي قوله "نَزَّلَه" يعودُ على القرآنِ ، وهذا موافقٌ لقولِه: {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ} في قراءةِ مَنْ رَفَع "الروح"، ولقولِه "مصدِّقاً"، وقيل: الأولُ يعودُ على اللهِ والثاني يعودُ على جِبْريل ، وهو موافقٌ لقراءَةِ مَنْ قَرأَ [ نَزَل به الروح] بالتشديدِ والنَّصْبِ .أهـ [ الدر المصون فى علم الكتاب المكنون للسمين حـ1 صـ395 ]
[ على قلبك ]
سؤال: لم خص القلب بالذكر؟
الجواب: لأنه موضع العقل والعلم وتلقي المعارف( 1) . أهـ .
__________
(1) - الكشاف حـ1 صـ 169
(2) - ورد في القرآن الكريم الإضمار على ما لم يسبق ذكره في حق الله تعالى – وفي حق الرسول صلى الله عليه وسلم – وفي حق القرآن – وفي شأن الروح – والله أعلم .

(5/133)


وقال أبو حيان ما نصه : {عَلَى قَلْبِكَ }: أتى بلفظ على ، لأن القرآن مستعل على القلب ، إذ القلب سامع له ومطيع ، يمتثل ما أمر به ، ويجتنب ما نهى عنه. وكانت أبلع من إلى، لأن [إلى] تدل على الانتهاء فقط، و[على] تدل على الاستعلاء. وما استعلى على الشيء يضمن الانتهاء إليه، وخص القلب ، ولم يأت عليك ، لأن القلب هو محل العقل والعلم وتلقي الواردات ، أو لأنه صحيفته التي يرقم فيها، وخزانته التي يحفظ فيها، أو لأنه سلطان الجسد. وفي الحديث: إن في الجسد مضغة . ثم قال أخيراً: [ألا وهي القلب] . أو لأن القلب خيار الشيء وأشرفه، أو لأنه بيت الله، أو لأنه كنى به عن العقل إطلاقاً للمحل على الحال به، أو عن الجملة الإنسانية، إذ قد ذكر الإنزال عليه في أماكن : { مَا أَنَزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْءانَ لِتَشْقَى }{ وَأَنزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ }، أو يكون إطلاقاً لبعض الشيء على كله، أقوال سبعة( 2) . أهـ
وقال فى نظم الدرر :
ولما كان المراد تحقيق أنه كلام الله وأنه أمر بإبلاغه جمع بين { قل } وبين
{ على قلبك } أي وهو أكمل القلوب ، دون أن يقال : على قلبي - المطابق لقل ، وأداة الاستعلاء دالة على أن المنزل تمكن في القلب فصارت مجامعه مغمورة به ، فكان مظهراً له . أهـ [ نظم الدرر للبقاعى حـ1 صـ187 ]
سؤال: فإن قلت كان حق الكلام أن يقال: على قلبي
قلت: جاءت على حكاية كلام الله تعالى, كما تكلم به(1) , كأنه قيل: قل ما
تكلمت به من قولي: (من كان عدواً لجبريل فإنه نزله على قلبك) (2)
سؤال: فإن قلت: كيف استقام قوله:[فإنه نزله] جزاء للشرط ؟
__________
(1) 1 ـ المحرر الوجيز حـ1 ص184 2- البحر المحيط لأبى حيان حـ1 ص 461 . 3 ـ وفيه دليل على نزول القرآن من عند الله ، ولا يملك الرسول صلى الله عليه وسلم أن يغير فيه حرفاً واحداً .
(2) 4- الكشاف حـ1 صـ169 : 170 .

(5/134)


قلت: فيه وجهان: إن عادى جبريل أحد من أهل الكتاب, فلا وجه لمعاداته حيث نزل كتاباً مصدقاً للكتب بين يديه, فلو أنصفوا لأحبوه وشكروا له صنيعه في إنزاله ما ينفعهم, ويصحح المنزل عليهم, والثاني: إن عاداه أحد, فالسبب في عداوته أنه نزل عليك القرآن مصدقاً لكتابهم وموافقاً له وهم كارهون للقرآن, ولموافقته لكتابهم, ولذلك كانوا يحرفونه ويجحدون موافقته له, كقولك: إن عاداك فلان فقد آذيته وأسأت إليه(1). أهـ .

سبب نزول الآية الكريمة
سببها أن اليهود قالوا للنبي - صلى الله عليه وسلم - جبريل عدونا, لأنه ملك الشدائد والعذاب, فلذلك لا نؤمن به, ولو جاءك ميكائيل لآمنا بك, لأنه ملك الأمطار والرحمة (2). اهـ
وقال فى التحرير والتنوير ما نصه : فقد حصل من الأوصاف الخمسة للقرآن وهي أنه منزل من عند الله بإذن الله . وأنه منزل على قلب الرسول . وأنه مصدق لما سبقه من الكتب . وأنه هاد أبلغ هدى . وأنه بشرى للمؤمنين الثناء على القرآن بكرم الأصل . وكرم المقر . وكرم الفئة . ومفيض الخير على أتباعه الأخيار خيرا عاجلا . وواعد لهم بعاقبة الخير
وهذه خصال الرجل الكريم محتده . وبيته . وقومه . السخي بالبذل الواعد به .أهـ التحرير والتنوير حـ1ص358.
وقال صاحب [ الأمثل ]
ذكر بعض المحققين أن المصادر اليهودية خالية من الدلالة على خصومة جبرائيل لهؤلاء القوم ، وهذا يؤيد أن ادعاءات اليهود بشأن موقفهم من جبرائيل ، لم يكن إلاّ ذريعة للتنصل من الإسلام ؛ إذ لا يوجد في مصادرهم الدينية ما يشير إلى وجود مثل هذه العداوة بينهم وبين جبريل. أهـ
[ الأمثل حـ1 صـ395 ]

قوله تعالى: [من كان عدواً لله وملائكته ورسله وجبريل وميكال... الآية]
سؤال: لم أفرد [جبريل وميكال] بالذكر مع أنهما أول من يشمله عنوان الملكية والرسالة؟
__________
(1) - الكشاف حـ1 صـ170
(2) - التسهيل حـ1 صـ 55

(5/135)


الجواب: لإظهار فضلهما, كأنهما - عليهما السلام - من جنس آخر أشرف مما ذكر تنزيلاً للتغاير في الوصف منزلة التغاير في الجنس, وللتنبيه على أن عداوة أحدهما عداوة للآخر حسماً لمادة اعتقادهم الباطل في حقهما حيث زعموا أنهما متعاديان, وللإشارة إلى أن معاداة الواحد والكل سواء في الكفر واستتباع العداوة من جهة الله سبحانه, وأن من عادى أحدهم, فكأنما عادى الجميع(1) . أهـ .
وأجاب ابن جزي : بأن جبريل وميكائيل ذكرا بعد الملائكة تجديداً للتشريف والتعظيم(2) . أهـ .
قال صاحب الميزان :
قوله تعالى: [ قل من كان عدواً لجبريل فإنه نزله على قلبك...الآية]
السياق يدل على أن الآية نزلت جواباً عما قالته اليهود وأنهم تأبوا واستنكفوا عن الإيمان بما أنزل على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -, وعللوه بأنهم عدو لجبريل النازل بالوحي إليه. والشاهد على ذلك أن الله سبحانه يجيبهم في القرآن وفي جبريل معاً في الآيتين وما ورد فى شأن النزول يؤيد ذلك فأجاب عن قولهم: إنا لا نؤمن بالقرآن لعداوتنا لجبريل النازل به.
أولا ً: إن جبريل إنما نزل به على قلبك بإذن الله لا من عند نفسه فعداوتهم لجبريل لا ينبغي أن يوجب إعراضهم عن كلام نازل بإذن الله, وثانياً: أن القرآن مصدق لما في أيديهم في الكتاب الحق ولا معنى للإيمان بأمر والكفر بما يصدقه. وثالثاً: أن القرآن هدى للمؤمنين به, ورابعاً: أنه بشرى وكيف يصح لعاقل أن ينحرف عن الهداية ويغمض عن البشرى ولو كان الآتي بذلك عدوا له .
__________
(1) - تفسير أبي السعود حـ1 صـ 134
(2) - التسهيل حـ1 صـ55

(5/136)


وأجاب عن قولهم: إنا عدو جبريل أن جبريل ملك من الملائكة لا شأن له إلا امتثال ما أمره به الله سبحانه كميكال وسائر الملائكة وهم عباد مكرمون لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون, وكذلك رسل الله لا شأن لهم إلا بالله ومن الله سبحانه فبغضهم و استعدائهم بغض واستعداء لله ومن كان عدواً لله وملائكته ورسله وجبريل وميكال فإن الله عدو لهم, وإلى هذين الجوابين تشير الآيتان .

قوله تعالى: [فإنه نزله على قلبك] فيه التفات من التكلم إلى الخطاب وكان الظاهر أن يقال على قلبي, لكن بدل من الخطاب للدلالة على أن القرآن كما لا شأن في إنزاله لجبريل وإنما هو مأمور مطيع كذلك لا شأن في تلقيه لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلا أن قلبه وعاء للوحي لا يملك منه شيئاً وهو مأمور بالتبليغ .
واعلم أن هذه الآيات في أواخرها, أنواع الالتفات وإن كان الأساس فيها الخطاب لبني إسرائيل, غير أن الخطاب إذا كان خطاب لوم وتوبيخ وطال الكلام و صار المقام مقام استملال للحديث مع المخاطب واستحقار لشأنه فكان من الحري للمتكلم البليغ الإعراض عن المخاطبة تارة بعد أخرى بالاكتفاء بعد الالتفات للدلالة على أنه لا يرضى بخطابهم لردائة سمعهم وخسة نفوسهم ولا يرضى بترك خطابهم إظهاراً لحق القضاء عليهم .

قوله تعالى: [عدو للكافرين] , فيه وضع الظاهر موضع المضمر والنكتة فيه الدلالة على علة الحكم كأنه قيل: فإن الله عدو لهم لأنهم كافرون والله عدو للكافرين(1) . اهـ

__________
(1) الميزان حـ1 صـ229 ، 230

(5/137)


قال أبو السعود(1) : وقوله تعالى: [فإن الله عدو للكافرين] أي لهم جواب الشرط المعنى من عاداه الله وعاقبه أشد العقاب, وإيثار الأسمية للدلالة على التحقق والثبات, ووضع الكافرين موضع المضمر, للإيذان بأن عداوة المذكورين كفر, وأن ذلك بين لا يحتاج إلى الإخبار به, وأن مدار عداوته تعالى لهم وسخطه المستوجب لأشد العقوبة والعذاب هو كفرهم المذكور.أهـ
قال ابن عطية(2) : وظهر الاسم في قوله [فإن الله] لئلا يشكل عود الضمير, وجاءت العبارة بعموم الكافرين, لأن عود الضمير على من يشكل سواء أفردته أو جمعته, ولو لم نبال بالإشكال, وقلنا المعنى يدل السامع على المقصد للزم تعيين قوم بعداوة الله لهم, ويحتمل أن الله تعالى قد علم أن بعضهم يؤمن, فلا ينبغي أن يطلق عليه عداوة الله, للمآل. أهـ .

وقال العز بن عبد السلام فى تفسيره :
{عَدُوٌ لِّلْكَافِرِينَ} لم يقل عدو لهم لجواز انتقالهم عن العداوة بالإيمان. أهـ { تفسير العز بن عبدالسلام حـ1صـ45}

وعلق الإمام القشيري : - رحمه الله - على هذه الآية الكريمة بقوله :
زعمت اليهود أن جبريل لا يأتي بالخير, وأنهم لا يحبونه, ولو كان ميكائيل لكانوا آمنوا به, فأكذبهم الحق سبحانه فقال [من كان عدواً لجبريل], لأنه لا يأتي بالخير, فأي خير أعظم من القرآن؟!!
ثم قال: إن من عادى جبريل و ميكائيل فإن الله عدو له, فإن رسول الحبيب إلى الحبيب العزيز المورد - كريم المنزلة, عظيم الشرف, وما ضرت جبريل - عليه السلام - عداوة الكفار, والحق سبحانه وتعالى وليه, ومن عادى جبريل فالحق عدوه, وما أعزز هذا الشرف وما أجله وما أكبر علوه(3).أهـ .

__________
(1) - تفسير أبي السعود حـ1 صـ 134
(2) - المحرر الوجيز حـ1 صـ184
(3) - لطائف الإشارات حـ1 صـ108

(5/138)


وقال الجاوى فى مراح لبيد ما نصه :
وخصَّ الله جبريل بالذكر رداً على اليهود في دعوى عداوته وضمَّ إليه ميكائيل لأنه ملك الرزق الذي هو حياة الأجساد كما أن جبريل ملك الوحي الذي هو حياة القلوب والأرواح، وقدَّم جبريل لشرفه لأن العلم أشرف من الأغذية، وقدَّم الملائكة على الرسل كما قدَّم الله على الجميع، لأن عداوة الرسل بسبب نزول الكتب ونزولها بتنزيل الملائكة وتنزيلهم لها بأمر الله فذكر الله ومن بعده على هذا الترتيب.أهـ .[ مراح لبيد حـ1 صـ62]

(5/139)


قوله تعالى: [واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان]
قال صاحب الميزان : قوله تعالى: [واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان] قد اختلف فيه المفسرون في تفسير الآية اختلافاً عجيباً لا يكاد يوجد نظيره في آية من آيات القرآن المجيد, فاختلفوا في مرجع ضمير قوله: [اتبعوا] أهم اليهود الذين كانوا في عهد سليمان, أو الذين في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أو الجميع؟ واختلفوا في قوله: [تتلوا], هل هو بمعنى تتبع الشياطين وتعمل به أو بمعنى تقرأ, أو بمعنى تكذب؟ واختلفوا في قوله [الشياطين], فقيل هم شياطين الجن وقيل شياطين الإنس وقيل هما معاً, واختلفوا في قوله: [على ملك سليمان] فقيل معناه في ملك سليمان, وقيل معناه في عهد ملك سليمان وقيل في معناه على ملك سليمان بحفظ ظاهر الاستعلاء في معنى على, وقيل معناه على عهد ملك سليمان, واختلفوا في قوله: [ولكن الشياطين كفروا] , فقيل إنهم كفروا بما استخرجوه من السحر إلى الناس وقيل إنهم كفروا بما نسبوه إلى سليمان من السحر, وقيل إنهم سحروا فعبر عن السحر بالكفر, واختلفوا في قوله: [يعلمون الناس السحر] فقيل إنهم ألقوا السحر إليهم فتعلموه, وقيل إنهم دلوا الناس على استخراج السحر وكان مدفوناً تحت كرسي سليمان فاستخرجوه وتعلموه, واختلفوا في قوله: [وما أنزل على الملكين] فقيل ما موصولة والعطف على قوله: [ما تتلوا] , وقيل ما موصولة والعطف على قوله: [السحر] أي يعلمونهم ما أنزل على الملكين, وقيل ما نافية والواو استئنافية, أي ولم ينزل على الملكين سحر كما يدعيه اليهود واختلفوا في معنى الإنزال فقيل إنزال من السماء, وقيل بل من نجود الأرض وأعاليها, واختلفوا في قوله: [الملكين] فقيل كانا من ملائكة السماء, وقيل بل كانا إنسانين ملكين بكسر اللام إن قرأناه, بكسر اللام كما قرئ كذلك في الشواذ, أو ملكين بفتح اللام أي صالحين, أو متظاهرين بالصلاح, إن قرأناه على ما قرأ به المشهور, واختلفوا في قوله: [ببابل], فقيل هي بابل العراق وقيل

(5/140)


بابل نهاوند, وقيل, من نصيبين إلى رأس العين, واختلفوا في قوله [وما يعلمان] فقيل علم بمعناه الظاهر, وقيل علم بمعنى أعلم, واختلفوا في قوله فلا تكفر, فقيل: لا تكفر بالعمل بالسحر, وقيل لا تكفر بتعلمه, وقيل بهما معاً, واختلفوا في قوله: فيتعلمون منهما, فقيل أي من هاروت وماروت, وقيل أي من السحر والكفر, وقيل بدلاً مما علماه الملكان بالنهي إلى فعله, واختلفوا في قوله: ما يفرقون به بين المرء وزوجه, فقيل أي يوجدون به حباً وبغضاً بينهماً, وقيل إنهم يغرون أحد الزوجين ويحملونه على الكفر والشرك فيفرق بينهما اختلاف الملة والنحلة, وقيل إنهم يسعون بينهما بالنميمة والوشاية فيؤل إلى الفرقة, فهذه نبذة من الاختلاف في تفسير كلمات ما يشتمل على القصة من الآية وجمله, وهناك اختلافات أخر في الخارج من القصة في ذيل الآية وفي نفس القصة, وهل هي قصة واقعة أو بيان على سبيل التمثيل؟ أو غير ذلك؟ وإذا ضربت بعض الأرقام التي ذكرناها من الاحتمالات في البعض الآخر, ارتقى الاحتمالات إلى كمية عجيبة وهي ما يقرب من ألف ألف ومائتين وستين ألف احتمال
وهذا لعمر الله من عجائب نظم القرآن تتردد الآية بين مذاهب واحتمالات تدهش العقول وتحير الألباب, والكلام بعد متك على أريكة حسنة متجمل في أجمل جماله متحلي بحلي بلاغته وفصاحته(1). أهـ .
وقال الفخر(2): [ واتبعوا ] - حكاية عمن تقدم ذكره, وهم اليهود, ثم فيه أقوال: أحدها: أنهم اليهود الذين كانوا في زمان سيدنا محمد - صلى الله عليه وسلم
وثانيها: أنهم الذين تقدموا من اليهود .
وثالثها: أنهم الذين كانوا في زمن سليمان - عليه السلام - من السحرة .
ورابعها: أنه يتناول الكل, وهذا أولى, لأنه ليس صرف اللفظ إلى البعض أولى من صرفه إلى غيره, إذ لا دليل على التخصيص . اهـ

__________
(1) الميزان حـ1 صـ233 ، 234
(2) - التفسير الكبير حـ3 صـ617

(5/141)


قصة الملكين باختصار
حاصل القصة: أن الله تعالى ابتلى الملائكة لما تعجبوا من ذنوب بني آدم, فقال لهم اختاروا ملكين من أعظم الملائكة - علماً وزهداً وديانة - لإنزالهما إلى الأرض, ثم ركبت فيهما الشهوة, ونهيا عن الشرك والقتل والزنا والشرب, ثم تعرضت لهما امرأة حسناء وهي الزهرة فراوداها عن نفسها فامتنعت إلا أن يعبدا الصنم, فامتنعا في بادئ الأمر, ثم غلبت عليهما الشهوة, فأطاعاها, فشربا الخمر وسجدا للصنم وواقعا المرأة وقتلا السائل الذي دخل عليهم ثم مسخت الزهرة إلى الكوكب المعروف, وخيرهما الله تعالى بين عذاب الدنيا وعذاب الآخرة, فاختاروا عذاب الدنيا, وهما يعذبان ببابل معلقان بين السماء والأرض يعلمان الناس السحر(1) . أهـ .
ثم قال الإمام الفخر بعد ذكر هذه القصة:"واعلم أن هذه الرواية فاسدة مردودة غير مقبولة, لأنه ليس في كتاب الله ما يدل على ذلك, بل فيه ما يبطلها من وجوه "
الأول: ما تقدم من الدلائل الدالة على عصمة الملائكة عن كل المعاصي.
وثانيها: أن قولهم أنهما خيرا بين عذاب الدنيا وعذاب الآخرة فاسد بل كان الأولى أن يخيرا بين التوبة والعذاب, لأن الله تعالى خير بينهما من أشرك به طول عمره, فكيف يبخل عنهما.
وثالثها: أن من أعجب الأمور قولهم: إنهما يعلمان السحر في حال كونهما معذبين ويدعوان إليه وهما يعذبان . أهـ .

آراء المفسرين في القصة

من المفسرين من أورد القصة دون تعليق, ومنهم من حكم عليها بالفساد والبطلان .
أما الفريق الأول فمنهم الإمام الطبري في تفسيره حـ1 صـ:456 , صـ 459. وذكر أيضاً قصة خاتم سليمان الذي حكم به في ملكه, وذكر ذهاب ملكه بفقد الخاتم ثم عودة الملك إليه بعد أن وجد الخاتم ( ولا شك أنها قصة مختلقة لا أصل لها) وسيأتي إن شاء الله لها مزيد بيان في سورة(ص)
__________
(1) - التفسير الكبير حـ3 صـ631 بتصرف يسير

(5/142)


وممن سار على نهج الإمام الطبري في هذه القصة السمعاني في تفسيره حـ1 صـ116:صـ117 ومنهم الإمام البغوي في تفسيره معالم التنزيل حـ1 صـ130:صـ132, ومنهم الثعلبى فى الكشف والبيان ج1 ص246 ـ248 ، ومنهم ابن زمنين ج1ص165 ، ومنهم النسفي حـ1 صـ61, ومنهم السيوطي في الدر المنثور حـ1 صـ238:صـ246 وأشار إلى قصة الخاتم (المزعومة) حـ1 صـ232:صـ234, ومنهم الشوكاني في فتح القدير حـ1 صـ122:صـ123. وسيأتي ذكر كلامه إن شاء الله لاحقاً

وأما الفريق الثاني فمنهم الإمام الفخر الرازي, وقد سبق كلامه.
ومنهم ابن الجوزي في زاد المسير حـ1 صـ123:صـ124:قال بعد ذكر القصة: إلا أن هذه الأشياء بعيدة عن الصحة. أهـ .

ثم ذكر أقوال العلماء في عذاب هاروت وماروت, ولم يعلق عليها, وكأنه أحال القارئ على ما ذكره قبل ذلك من استبعاده لصحتها. أهـ .
ومنهم الثعالبي حـ1 صـ92 قال: وما يذكر في قصتهما (الملكين) على الزهرة كله ضعيف, وكذا قال عياض, وأما ما ذكره أهل الأخبار ونقله المفسرون في قصة هاروت وماروت, وما روى عن على وابن عباس – رضي الله عنهما – في خبرهما وابتلائهما, فاعلم أكرمك الله أن هذه الأخبار لم يرو منها سقيم ولا صحيح عن رسول الله – صلى الله عليه وسلم - , وليس هذا شيئاً يؤخذ بقياس, والذي منه في القرآن اختلف المفسرون في معناه, وأنكر ما قال بعضهم فيه كثير من السلف وهذه الأخبار من كتب اليهود وافترائهم, كما نصه الله أول الآيات .
ومنهم البيضاوي في تفسيره حـ1 صـ:372 قال بعد أن ذكر ملخص القصة:

(5/143)


"فمحكي عن اليهود, ولعله من رموز الأوائل, وحله لا يخفي على ذوي البصائر. ومنهم الخازن في تفسيره حـ1 صـ67:صـ68. وسيأتي نص كلامه لاحقاً إن شاء الله في عصمة الملائكة وقال القرطبي في تفسيره حـ1 صـ37 : 38 بعد ذكر الروايات في هذه القصة: "قلنا إن هذا كله ضعيف وبعيد عن ابن عمر وغيره, لا يصح منه شيء, فإنه قول تدفعه الأصول في الملائكة الذين هم أمناء الله على وحيه, وسفراؤه إلى رسله. ورد قصة الزهرة بأنها خلقت يوم خلق الله السماوات والأرض أي قبل خلق آدم والملكين وقال ابن كثير حـ1 صـ179: 183 بعد ما ذكر الآثار الواردة في تلك القصة عن الصحابة والتابعين – رضي الله عنهم – قال ما نصه:

وقد روى في قصة هاروت وماروت عن جماعة من التابعين, كمجاهد والسدي والحسن البصري وقتادة وأبي العالية والزهري والربيع بن أنس ومقاتل بن حيان وغيرهم وقصها خلق من المفسرين من المتقدمين والمتأخرين, وحاصلها راجع في تفصيلها إلى أخبار بني إسرائيل, إذ ليس فيها حديث مرفوع صحيح متصل الإسناد إلى الصادق المصدوق الذي لا ينطق عن الهوى, وظاهر سياق القرآن إجمال القصة من غير بسط ولا إطناب, فنحن نؤمن بما ورد في القرآن على ما أراده الله تعالى والله أعلم بحقيقة الحال. أهـ .
وذكر أبو حيان فى البحر المحيط حـ1ص475 ملخص القصة ثم عقب عليها بقوله : "وهذا كله لا يصح منه شيء. والملائكة معصومون،
{ لاَّ يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ } { لاَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلاَ يَسْتَحْسِرُونَ } { يُسَبّحُونَ الْلَّيْلَ وَالنَّهَارَ لاَ يَفْتُرُونَ }
ولا يصح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يلعن الزهرة ولا ابن عمر ". أهـ .

(5/144)


وقال أبو السعود حـ1 صـ138: بعد أن ذكر ملخص القصة: ما يحكى في هذه القصة فمما لا تعويل عليه, لما أن مداره رواية اليهود مع ما فيه من المخالفة, لأدلة العقل والنقل, ولعله من مقولة الأمثال والرموز التي قصد بها إرشاد اللبيب الأريب بالترغيب والترهيب. أهـ
وقال الآلوسي حـ1 صـ 340: 341: بعد أن ذكر القصة وأقوال من أقرها ومن أنكرها عقب على ذلك قائلاً:"ومن قال بصحة هذه القصة في نفس الأمر وحملها على ظاهرها فقد ركب شططاً, وقال غلطاً, وفتح باباً من السحر يضحك الموتى ويبكي الأحياء, وينكس راية الإسلام, ويرفع رؤوس الكفرة الطغاة, كما لا يخفى ذلك على المنصفين من العلماء. اهـ

(5/145)


وقال الشوكاني في فتح القدير حـ1 صـ122:صـ123: بعد أن ذكر أكثر الروايات في القصة ونقل كلام الإمامين القرطبي وابن كثير في عدم قبولها وردها قال: صـ123 : وأقول: هذا مجرد استبعاد وقد ورد الكتاب العزيز في هذا الموضع بما تراه ولا وجه لإخراجه عن ظاهره (1) بهذه التكلفات, وما ذكره من أن الأصول تدفع ذلك, فعلى فرض وجود هذه الأصول(2), فهي مخصصة بما وقع في هذه القصة ولا وجه لمنع التخصيص, وقد كان إبليس يملك المنزلة العظيمة وصار أشر البرية وأكفر العالمين(3) . أهـ
وقال الدكتور محمد أبو شهبه – رحمه الله – في كتابه: الإسرائيليات والموضوعات في كتب التفسير صـ161 بعد أن ذكر بعض الروايات لهذه القصة من كتاب الدر المنثور قال معقباً بما نصه:
"وكل هذا من خرافات بني إسرائيل وأكاذيبهم التي لا يشهد لها عقل ولا نقل ولا شرع ولم يقف بعد رواة هذا القصص عند روايته عن بعض الصحابة والتابعين, ولكنهم أوغلوا باب الإثم والتجني الفاضح فألصقوا هذا الزور إلى النبي – صلى الله عليه وسلم – ورفعوه إليه. أهـ .
__________
(1) - سبحان الله أين هذا الظاهر من خلال الآية الكريمة ، هذا قول لا دليل عليه .
(2) - لا مجال لإنكار هذه الأصول في عصمة الملائكة وهي ثابتة في القرآن كما في قوله تعالى " لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون " وقوله " بل عباد مكرمون لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون " وغير ذلك من الآيات الناطقة بعصمة الملائكة ، ثم من أين أتى بهذا التخصيص وقد علمنا من خلال كلام الأعلام من المفسرين أن هذه القصة تنتهي إلى أخبار اليهود المكذوبة . وما قدر هذه الأخبار وما وزنها وهل يخصص القرآن بمثلها إن هذا الشيء عجيب .
(3) - إن إبليس لم يكن من جنس الملائكة وقد سبق بيان ذلك ، ولا حاجة لمزيد من التطويل ، فيكفي في رد هذا الكلام ما ذكره أقطاب المفسرين رحمهم الله أجمعين . أ هـ .

(5/146)


ثم قال صـ162: وقد حكم بوضع هذه القصة الإمام أبو الفرج بن الجوزي(1), ونص الشهاب العراقي على أن من اعتقد في هاروت وماروت أنهما ملكان يعذبان على خطيئتهما, فهو كافر بالله العظيم.
قال ابن كثير – رحمه الله – ورفع مثل هذه الإسرائيليات إلى النبي – صلى الله عليه وسلم – كذب واختلاق ألصقه زنادقة أهل الكتاب زوراً وبهتاناً. اهـ وذكر مثل ذلك في البداية والنهاية. حـ1 صـ37. أهـ .
وقال صـ163 وكذا ردها المحققون من المفسرين الذين مهروا في معرفة أصول الدين, وأبت عقولهم أن تقبل هذه الخرافات, كالإمام الرازي وأبي حيان وأبي السعود والآلوسي. أهـ .
وقال صاحب الفتوحات الإلهية: بعد أن ذكر الرواية, واختار ما رجحه أبو السعود والخازن من عدم التعويل على هذه القصة لأن موارد ذلك رواية اليهود مع ما فيها من المخالفة لأدلة العقل والنقل .
ثم ذكر تأييد شيخ الإسلام زكريا الأنصاري للشهاب بن حجر في صحتها لأن لها طرقاً تفيد العلم بصحتها, فقد رواها مرفوعة الإمام أحمد وابن حبان والبيهقي وغيرهم وموقوفة : على وابن مسعود وابن عباس وغيرهم بأسانيد صحيحة(2).أهـ .
وقال شعيب الأرنؤوط محقق مسند الإمام أحمد عن هذا الحديث [6178] ما نصه : إسناده ضعيف ومتنه باطل . أهـ

قال صاحب الميزان
وقد روى قريب منه فى بعض كتب الشيعة مرفوعاً عن الباقر – عليه السلام – وروى السيوطي فيما يقرب من هذا المعنى في أمر هاروت وماروت والزهرة نيفاً وعشرين حديثاً, صرحوا بصحة طريق بعضها. وفي منتهى أسنادها عدة من الصحابة كابن عباس وابن مسعود وعلي وأبي الدرداء وعمر وعائشة وابن عمر ( ) – وهذه قصة خرافية تنسب إلى الملائكة المكرمين الذين نص القرآن على نزاهة ساحتهم وطهارة وجودهم عن الشرك
__________
(1) - اللآلئ المصنوعة في الأحاديث الموضوعة حـ1 صـ82
(2) - الفتوحات الإلهية حـ1 صـ141 بتصرف يسير

(5/147)


والمعصية أغلظ الشرك وأقبح المعصية, وهو : عبادة الصنم والقتل والزنا وشرب الخمر وتنسب إلى كوكب الزهرة أنها امرأة زانية مسخت – وأنها أضحوكة – وهي كوكبة سماوية طاهرة في طليعتها وصنعها أقسم الله تعالى بها في قوله: [والجوار الكنس] (التكوير:16) على أن علم الفلك أظهر اليوم هويتها وكشف عن عنصرها وكميتها وكيفيتها وسائر شئونها.
فهذه القصة كالتي قبلها المذكورة في الرواية السابقة تطابق ما عند اليهود على ما قيل: من قصة هاروت وماروت, تلك القصة الخرافية التي تشبه خرافات يونان في الكواكب والنجوم .
ومن هاهنا يظهر للباحث المتأمل: أن هذه الأحاديث كغيرها الواردة في مطاعن الأنبياء وعثراتهم لا تخلو من دس دسه اليهود فيها وتكشف عن تسربهم الدقيق ونفوذهم العميق بين أصحاب الحديث في الصدور الأول فقد لعبوا في رواياتهم بكل ما شاؤا من الدس والخلط وأعانهم على ذلك قوم أخرون.
لكن الله عز اسمه جعل كتابه في محفظة إلهية من هوسات المتهوسين من أعدائه كلما استرق السمع شيطان من شياطينهم أتبعه بشهاب مبين, فقال عز من قائل: [إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون] (الحجر:9), وقال [وإنه لكتاب عزيز لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد] (فصلت:42)(1) اهـ
__________
(1) - الميزان في تفسير القرآن حـ1 صـ239

(5/148)


وقال صاحب التحرير والتنوير [ حـ1 ص 369 ] ما نصه :ولأهل القصص هنا قصة خرافية من موضوعات اليهود في خرافاتهم الحديثة اعتاد بعض المفسرين ذكرها منهم ابن عطية والبيضاوي وأشار المحققون مثل البيضاوي والفخر وابن كثير والقرطبي وابن عرفة إلى كذبها وأنها من مرويات كعب الأحبار وقد وهم فيها بعض المتساهلين في الحديث فنسبوا روايتها عن النبي صلى الله عليه وسلم أو عن بعض الصحابة بأسانيد واهية والعجب للإمام أحمد بن حنبل ـ رحمه الله تعالى ـ كيف أخرجها مسندة للنبي صلى الله عليه وسلم ولعلها مدسوسة على الإمام أحمد أو أنه غره فيها ظاهر حال رواتها مع أن فيهم موسى بن جبير وهو متكلم فيه واعتذر عبد الحكيم بأن الرواية صحيحة إلا أن المروي راجع إلى أخبار اليهود فهو باطل في نفسه ورواته صادقون فيما رووا وهذا عذر قبيح لأن الرواية أسندت إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال ابن عرفة في تفسيره وقد كان الشيوخ يخطئون ابن عطية في هذا الموضع لأجل ذكره القصة ونقل بعضهم عن القرافي أن مالكا رحمه الله أنكر ذلك في حق هاروت وماروت .انتهى كلامه.

سؤال: ما الموقف من هذه الروايات التي حكم على بعض أسانيدها بالصحة؟
أجاب عن مضمون هذا السؤال الدكتور أبو شهبه - رحمه الله - بقوله :

(5/149)


وإذا كان بعض العلماء المحدثين مال إلى ثبوت مثل هذه الروايات التي لا نشك في كذبها, فهذا منه تشدد في التمسك بالقواعد من غير نظر إلى ما يلزم من الحكم بثبوت ذلك من المحظورات, وأنا لا أنكر أن بعض أسانيدها صحيحة أو حسنة إلى بعض الصحابة والتابعين, ولكن مرجعها ومخرجها من إسرائيليات بين إسرائيل وخرافاتهم, والراوي قد يغلط وبخاصة في رفع الموقوف, وقد حققت هذا في مقدمات البحث, وأن كونها صحيحة في نسبتها لا ينافي كونها باطلة في ذاتها ولو أن الانتصار لمثل هذه الأباطيل يترتب عليه فائدة ما, لغضضنا الطرف عن مثل ذلك, ولما بذلنا غاية الجهد في التنبيه إلى بطلانها, ولكنها فتحت على المسلمين باب شر كبير يجب أن يغلق.
ويرحم الله الإمام الحافظ الناقد البصير: ابن كثير فقد نبه على أصل الداء ووصف له الدواء وبين الحق والصواب في موقف المسلم من هذه الخرافات.اهـ

(5/150)


رواية غريبة
فى الدر المنثور
أخرج الزبير بن البكار في (الموفقيات) وابن مردويه والديلمي عن علي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سئل عن المسوخ فقال: هم ثلاثة عشر: الفيل والدب والخنزير والقرد والجريث والضب والوطواط والعقرب والدعموص والأرنب وسهيل والزهرة, فقيل يا رسول الله: وما سبب مسخهن فقال: أما الفيل فكان رجلاً جباراً لوطياً لا يدع رطباً ولا يابساً, وأما الدب فكان مؤنثاً يدعو الناس إلى نفسه, وأما الخنزير فكان من النصارى الذين سألوا المائدة, فلما نزلت كفروا, وأما القردة فيهود اعتدوا في السبت, وأما الجريث, فكان ديوث الرجال إلى حليلته, وأما الضب, فكان أعرابياً يسرق الحاج بمحجنه وأما الوطواط , فكان رجلاً يسرق الثمار من رؤوس النخل, وأما العقرب فكان رجلاً لا يسلم أحد من لسانه, وأما الدعموص, فكان نماماً يفرق بين الأحبة, وأما العنكبوت فامرأة سحرت زوجها, وأما الأرنب فامرأة كانت لا تطهر من حيض, وأما سهيل, فكان إشاراً باليمن, وأما الزهرة, فكانت بنتاً لبعض ملوك بني إسرائيل(1) , افتتن بها هاروت وماروت(2) . اهـ

__________
(1) - سبحانك هذا بهتان عظيم ، فكيف يصح نسبة هذا الهراء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولا يخفى ما في الرواية من فساد واستخفاف بالعقول .
(2) - الدر المنثور حـ1 صـ249

(5/151)


قوله تعالى: [فيتعلمون منهما ما يفرقون به بين المرء وزوجه]
قال السعدي: ومع أن محبة الزوجين لا تقاس بمحبة غيرهما, لأن الله قال في حقهما [وجعل بينكم مودة ورحمة] (الروم:21) وفي هذا دليل على أن السحر له حقيقة, وأنه يضر بإذن الله أي بإرادة الله, والإذن نوعان: إذن قدري, وهو المتعلق بمشيئة الله كما في هذه الآية, وإذن شرعي كما في قوله تعالى في الآية السابقة: [فإنه نزله على قلبك بإذن الله] (البقرة:97) وفي هذه الآية وما أشبهها أن الأسباب مهما بلغت في قوة التأثير فإنها تابعة للقضاء والقدر وليست مستقلة في التأثير, ولم يخالف في هذا الأصل أحد من الفرق الإسلامية غير القدرية في أفعال العباد زعموا أنها مستقلة غير تابعة للمشيئة, فأخرجوها عن قدرة الله, فخالفوا كتاب الله, و سنة رسوله وإجماع الصحابة والتابعين(1) . اهـ

(( فائدة ))
في قوله تعالى: [وما أنزل على الملكين]
وقيل كانا رجلين, والقراءة بكسر اللام , قال الطبري: وقد دللنا على خطأ القراءة بذلك من جهة الاستدلال, فأما من جهة النقل فإجماع الحجة على خطأ القراءة بها من الصحابة والتابعين, وقراء الأمصار وكفي بذلك شاهداً على خطئها(2) . اهـ

قوله تعالى: [ولقد علموا لمن اشتراه ماله في الآخرة من خلاق]
سؤال: فإن قيل: قوله تعالى: [ولقد علموا لمن اشتره ماله في الآخرة من خلاق ولبئس ما شروا به أنفسهم لو كانوا يعلمون] أثبت لهم العلم أولاً مؤكداً بلام القسم, ثم نفاه عنهم
قلنا: المثبت لهم: أنهم علموا أن من اختار السحر ما له في الآخرة من نصيب, والمنفي عنهم: أنهم لا يعلمون حقيقة ما يصير إليه من يخسر الآخرة, ولا يكون له نصيب منها, فالمنفي غير المثبت, فلا تنافي(3) . اهـ

وأجاب الفخر عن هذا السؤال من وجوه
__________
(1) - تفسير السعدي صـ54
(2) - تفسير ا لطبري حـ1 صـ459 بتصرف يسير
(3) - تفسير الرازي صـ28

(5/152)


أحدها: أن الذين علموا - غير الذين لم يعلموا, فالذين علموا هم الذين علموا السحر ودعوا الناس إلى تعلمه, وهم الذين قال الله في حقهم [نبذ فريق من الذين أوتوا الكتاب كتاب الله وراء ظهورهم كأنهم لا يعلمون] وأما الجهال الذين يرغبون في تعلم السحر فهم الذين لا يعلمون, وهذا جواب الأخفش وقطرب .
وثانيها لو سلمنا كون القوم واحد, ولكنهم علموا شيئاً وجهلوا شيئاً آخر, علموا أنهم ليس لهم في الآخرة خلاق, لكنهم جهلوا مقدار ما فاتهم من منافع الآخرة, وما حصل لهم من مضارها وعقوبتها.

وثالثها: لو سلمنا أن القوم واحد والمعلوم واحد, لكنهم لم ينتفعوا بعلمهم, بل أعرضوا عنه, فصار ذلك العلم كالعدم, كما سمى الله تعالى الكفار: [عمياً وبكماً وصماً] (الإسراء:97) إذ لم ينتفعوا بهذه الحواس ويقال للرجل في شيء يفعله لا يضعه موضعه: صنعت ولم تصنع(1) . اهـ

(( موعظة ))
قال القشيري(2) :
لو علم المغبون ماذا أبقى وماذا أبلى لتقطعت أحشاؤه حسرات, ولكن سيعلم - يوم تبلى السرائر - الذي فاته من الكرائم. اهـ

قوله تعالى: [ ولو أنهم آمنوا واتقوا لمثوبة من عند الله خير]
سؤال: فإن قيل كيف قال: [ولو أنهم آمنوا واتقوا لمثوبة من الله خير لو كانوا يعلمون] وإنما يستقيم أن يقال: هذا خير من ذلك إذا كان في كل واحد منهما خير, ولا خير في السحر ؟
قلنا:(3) خاطبهم على اعتقادهم أن في تعلم السحر خيراً نظراً منهم إلى حصول مقصودهم الدنيوي به(4) . اهـ

وقال القاسمي(5) : وإنما نسبوا إلى الجهل لعدم العمل بموجب العلم. اهـ

__________
(1) - التفسير الكبير حـ3 صـ633
(2) - لطائف الإشارات حـ1 صـ110
(3) تفسير الرازي صـ28
(4) - وقد يجاب عن ذلك بأن الخير في الآية المراد به ما يقابل الشر وليس المراد منه ما كان من باب التفضيل كقولنا محمد خير من خالد .
(5) - محاسن التأويل حـ2 صـ409

(5/153)


ومن لطائف القشيري في الآية الكريمة:
ولو آثروا الإقبال على الله على اشتغالهم عن الله, لحصلوا ذخر الدارين,ووصلوا إلى عز الكونين, ولكن كبستهم سطوات القهر, فأثبتهم في مواطن الهجر(1) . اهـ
قال صاحب الميزان :
والذي ينبغي أن يقال: إن الآية بسياقها تتعرض لشأن آخر من شئون اليهود وهو تداول السحر بينهم, وأنهم كانوا يستندون في أصله إلى قصة معروفة أو قصتين معروفتين عندهم فيها ذكر من أمر سليمان النبي والملكين ببابل هاروت وماروت, فالكلام معطوف على ما عندهم من القصة التي يزعمونها إلا أن اليهود كما يذكره عنهم القرآن أهل تحريف وتغيير في المعارف والحقائق فلا يؤمنون ولا يؤمن من أمرهم أن يأتوا بالقصص التاريخية محرفة مغيرة على ما هو دأبهم في المعارف يميلون كل حين إلى ما يناسبه من منافعهم في القول والفعل وفيما يلوح من مطاوي جمل الآية كفاية, وكيف كان فيلوح من الآية أن اليهود كانوا يتناولون بينهم السحر ينسبونه إلى سليمان زعماً منهم أن سليمان - عليه السلام - إنما ملك الملك وسخر الجن والإنس والوحش والطير, وأتى بغرائب الأمور وخوارقها بالسحر الذي هو بعض ما في أيديهم, وينسبون بعضه الآخر إلى الملكين ببابل هاروت وماروت فرد عليهم القرآن بأن سليمان - عليه السلام - لم يكن يعمل بالسحر, كيف والسحر كفر بالله وتصرف في الكون على خلاف ما وضع الله العادة عليه وأظهره على خيال الموجودات الحية وحواسها؟ ولم يكفر سليمان - عليه السلام - وهو نبي معصوم, وهو قوله تعالى: [وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر] وقوله تعالى: [ولقد علموا لمن اشتراه ماله في الآخرة من خلاق] فسليمان -عليه السلام - أعلى كعباً وأقدس ساحة من أن ينسب إليه السحر والكفر وقد استعظم الله قدره في مواضع من كلامه في عدة من السور المكية النازلة قبل هذه السورة كسورة الأنعام والأنبياء والنمل وسورة (ص) وفيها أنه كان عبداً صالحاً ونبياً مرسلاً آتاه
__________
(1) - لطائف الإشارات حـ1 صـ111

(5/154)


الله العلم والحكمة ووهب له من الملك مالا ينبغي لأحد من بعده فلم يكن بساحر بل هو من القصص الخرافية والأساطير التي وضعتها الشياطين وتلوها وقرؤها على أوليائهم من الإنس وكفروا بإضلالهم الناس بتعلم السحر. ورد عليهم القرآن في الملكين ببابل هاروت وماروت بأنه وإن أنزل عليهما ذلك ولا ضير في ذلك لأنه فتنة وامتحان إلهي كما ألهم قلوب بني آدم وجوه الشر والفساد فتنة وامتحاناً وهو من القدر, فهما وإن أنزل عليهما السحر إلا أنهما ما كانا يعلمان من أحد إلا ويقولان له إنما نحن فتنة فلا تكفر باستعمال ما تتعلمه من السحر في غير مورده كإبطال السحر والكشف عن بغي أهله وهم مع ذلك يتعلمون منهما ما يفسدون به أصلح ما وضعه الله في الطبيعة والعادة, فيفرقون به بين المرء وزوجه إبتغاءًا للشر والفساد ويتعلمون ما يضرهم ولا ينفعهم, فقوله تعالى: واتبعوا أي اتبعت اليهود الذين بعد عهد سليمان بتوارث الخلف عن السلف ما تتلوا بمعنى تكذب تعديه بعلى وعلى أن الشياطين هم الجن كون هؤلاء تحت تسخير سليمان ومعذبين بعذابه, وبذلك كان عليه السلام – يحبسهم عن الإفساد, قال تعالى: [ومن الشياطين من يغوصون له ويعملون عملاً دون ذلك وكنا لهم حافظين] (الأنبياء:82) وقال تعالى: [فلما خر تبينت الجن أن لو كانوا يعلمون الغيب ما لبثوا في العذاب المهين](1) (سبأ: 14) اهـ

الوجه الثاني: أنهما خيرا بين عذاب الدنيا وعذاب الآخرة, وذلك فاسد, لأن الله تعالى لا يخير من أشرك, وإن كان قد صحت توبتهما فلا عقوبة عليهما
__________
(1) - تفسير الميزان حـ1 صـ234 ، 235

(5/155)


الوجه الثالث: أن المرأة لما فجرت, فكيف يعقل أنها صعدت إلى السماء, وصارت كوكباً, وعظم الله قدرها, بحيث أقسم بها في قوله [فلا أقسم بالخنس الجوار الكنس] (التكوير:15 : 16) فبان بهذا الوجوه ركة هذه القصة, والله أعلم بصحة ذلك وسقمه, والأولى تنزيه الملائكة عن كل ما لا يليق بمنصبهم(1). اهـ
__________
(1) - تفسير الخازن حـ1 صـ69 : 70

(5/156)


(( قصة الملكين ))
قال الخازن - رحمه الله – " فصل في القول بعصمة الملائكة "
أجمع المسلمون على أن الملائكة معصومون فضلاء ، واتفق أئمة المسلمين على أن حكم الرسل من الملائكة حكم النبيين سواء في العصمة في باب البلاغة عن الله عز وجل وفي كل شيء ثبتت فيه عصمة الأنبياء ، فكذلك الملائكة ، وأنهم مع الأنبياء في التبليغ إليهم كالأنبياء مع أممهم ، ثم اختلفوا في غير المرسلين من الملائكة فذهب طائفة من المحققين وجميع المعتزلة إلى عصمة جميع الملائكة عن جميع الذنوب والمعاصي ، واحتجوا على ذلك بوجوه سمعية وعقلية ، وذهب طائفة إلى أن غير المرسلين من الملائكة غير معصومين واحتجوا على ذلك بوجوه سمعية وعقلية منها : قصة هاروت وماروت ، عن علي ، وما نقله أهل الأخبار والسير ، ونقله ابن جرير الطبري في تفسيره عن جماعة من الصحابة والتابعين ، فنقل قصة هاروت وماروت بألفاظ متقاربة عن علي بن أبي طالب وابن مسعود وكعب الأحبار والسدى والربيع ومجاهد .
وأجاب من ذهب إلى عصمة جميع الملائكة عن قصة هاروت وماروت ، بأن ما نقله المفسرون وأهل الأخبار في ذلك ، لم يصح عن رسول الله – صلى الله عليه وسم منه شيء ، وهذه الأخبار إنما أخذت من اليهود ، وقد علم افتراؤهم على الملائكة والأنبياء ، وقد ذكر الله عز وجل في هذه الآيات افتراء اليهود على سليمان عليه السلام – أولاً ، ثم عطف على ذلك قصة هاروت وماروت ثانياً ، قالوا ومعنى الآية وما كفر سليمان ، يعني بالسحر الذي افتعلته عليه الشياطين واتبعتهم في ذلك اليهود فأخبر عن افترائهم وكذبهم ، وذكروا أيضاً في الجواب عن هذه القصة وأنها باطلة وجوها .

(6/1)


الأول أن في القصة أن الله تعالى قال للملائكة لو ابتليتم بما ابتليت به بنو آدم لعصيتموني قالوا سبحانك ما كان ينبغي لنا أن نعصيك ، وفيه رد على الله تعالى ، وذلك كفر ، وقد ثبت أنهم كانوا معصومين قبل ذلك ، فلا يقع هذا منهم (1) .
(( قوله تعالى يا أيها الذين آمنوا لا تقولوا راعنا وقولوا انظرنا ))

قال الفخر : " اعلم أن الله تعالى خاطب المؤمنين بقوله " يا أيها الذين آمنوا " في ثمانية وثمانين موضعاً من القرآن .
قال ابن عباس رضي الله عنه - وكان يخاطب في التوراة بقوله " يا أيها المساكين " فكأنه سبحانه وتعالى لما خاطبهم أولاً بالمساكين أثبت المسكنة لهم آخراً حيث قال " وضربت عليهم الذلة والمسكنة " [البقرة :61] وهذا يدل على أن الله تعالى - لما خاطب هذه الأمة بالإيمان أولاً ، فإنه تعالى يعطيهم الأمان من العذاب في النيران يوم القيامة ، وأيضاً فاسم المؤمن من أشرف الأسماء والصفات ، فإذا كان يخاطبنا في الدنيا بأشرف الأسماء ، فنرجو من فضله أن يعاملنا في الآخرة بأحسن المعاملات (2) أ هـ

__________
(1) - تفسير الخازن حـ1 صـ69 - 70
(2) التفسير الكبير حـ1 ص634

(6/2)


" سبب نزول الآية "
وقال البغوي (1) : قوله تعالى :"يأيها الذين آمنوا لا تقولوا راعنا " وذلك أن المسلمين كانوا يقولون راعنا يا رسول الله ، من المراعاة أي أرعنا سمعك أي فرغ سمعك لكل منا ، وكانت هذه اللفظة سباً قبيحاً بلغة اليهود ، وقيل كان معناها عندهم : اسمع لا سمعت (2) ، وقيل هي من الرعونة ، كانوا إذا أرادوا أن يحمقوا إنساناً قالوا : راعنا بمعنى : يا أحمق ، فلما سمع اليهود هذه اللفظة من المسلمين قالوا فيما بينهم كنا نسب محمداً سراً ، فأعلنوا بها الآن ، فكانوا يأتونه ويقولون : راعنا يا محمد ، ويضحكون فيما بينهم ، فسمعها سعد بن معاذ ، ففطن لها وكان يعرف لغتهم فقال : لليهود : لئن سمعتها من أحد منكم يقولها لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأضربن عنقه فقالوا : أو لستم تقولونها ، فأنزل الله " لا تقولوا راعنا " لكيلا يجد اليهود بذلك سبيلاً إلى شتم الرسول - صلى الله عليه وسلم - أ هـ

__________
(1) معالم التنزيل حـ1 ص134 باختصار يسير
(2) هذا أرجح الأقوال في معنى [راعنا] وأما ما ذكر من أقوال بعد ذلك ، فمن المستبعد بل من المحال أن يصدر عن الصحب الكرام هذا الخطاب بهذا المعنى ، لما عرف من توقيرهم وإجلالهم لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -

(6/3)


" لا تقولوا راعنا وقولوا انظرنا واسمعوا "
وقال ابن جزي (1) : كان المسلمون يقولون للنبي - صلى الله عليه وسلم - يا رسول الله : راعنا ، وذلك من المراعاة أي راقبنا وانظرنا ، فكان اليهود يقولونها ، ويعنون بها معنى الرعونة على وجه الإذاية للنبي - صلى الله عليه وسلم -، وربما كانوا يقولونها على معنى النداء ، فنهى الله المسلمين أن يقولوا هذه الكلمة ، لاشتراك معناها بين ما قصده المسلمون ، وقصده اليهود ، فالنهي سداً للذريعة ، وأمروا أن يقولوا : انظرنا ، لخلوه عن ذلك الاحتمال المذموم ، فهو من النظر والانتظار ، وقيل : إنما نهى الله المسلمين عنها لما فيها من الجفاء ، وقلة التوقير (2) . أ هـ
وقال السعدي (3) : فنهى الله المؤمنين عن هذه الكلمة [راعنا] سداً لهذا الباب ، ففيه النهي عن الجائز ، إذا كان وسيلة إلى محرم ، وفيه الأدب ، واستعمال الألفاظ التي لا تحمل إلا الحق ، وعدم الفحش ، وترك الألفاظ القبيحة ، أو التي فيها نوع تشويش أو احتمال لأمر غير لائق ، فأمرهم بلفظة لا تحتمل إلا الحسن فقال " وقولوا انظرنا " أ هـ .

قوله تعالى " واسمعوا "

قال الفخر (4) : "واسمعوا" فحصول السماع عند سلامة الحواس أمر ضروري خارج عن قدرة البشر ، فلا يجوز وقوع الأمر به ، فإذن المراد به أحد أمور ثلاثة :
أحدها : فرغوا أسماعكم لما يقول النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى لا تحتاجوا إلى الاستعادة .
وثانيها : اسمعوا سماع قبول وطاعة ، ولا يكن سماعكم سماع اليهود حيث قالوا سمعنا وعصينا .
وثالثها : اسمعوا ما أمرتم به حتى لا ترجعوا إلى ما نهيتم عنه تأكيداً عليهم . أ هـ

__________
(1) التسهيل حـ1 ص56
(2) سبق رد هذا المعنى ، فلم يؤثر من يوم أن خلق الله الدنيا ، أن أحداً وقر أحداً ، كما فعل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم - في توقيرهم له . وهذا بشهادة أعداء الإسلام فضلاً عن أهل الإيمان .
(3) تفسير السعدي ص54
(4) التفسير الكبير حـ3 ص635

(6/4)


وقال السعدي (1) : لم يذكر المسموع ، ليعم ما أمر باستماعه ، فيدخل فيه سماع القرآن ، وسماع السنة التي هي الحكمة ، لفظاً ومعنى ، واستجابة ، ففيه الأدب والطاعة . أ هـ
وقال الخازن (2) : " واسمعوا " أي ما تؤمرون به وأطيعوا ، نهى الله تعالى عباده المؤمنين أن يقولوا لنبيه محمد - صلى الله عليه وسلم - [راعنا] لئلا يتطرق أحد إلى شتمه (3) وأمرهم بتوقيره وتعظيمه ، وأن يتخيروا لخطابه - صلى الله عليه وسلم - من الألفاظ أحسنها ، ومن المعاني أدقها ، وإن سألوه يسألوه بتبجيل وتعظيم ولين ، ولا يخاطبوه بما يسر اليهود . أ هـ

__________
(1) تفسير السعدي ص54
(2) تفسير الخازن حـ1 ص71
(3) - ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- في كتابه الصارم المسلول حـ2 ص468 - عن ابن المنذر قوله : أجمع عوام أهل العلم على أن من سب الرسول صلى الله عليه وسلم القتل ، وممن قاله مالك والليث وأحمد وإسحاق وهو مذهب الشافعي ، قال وحكي عن النعمان لا يقتل من سبه من أهل الذمة ، وهذا لفظ دليل على وجوب قتله عند العامة وهذا مذهب مالك وأصحابه وسائر فقهاء المدينة وكلام أصحابه يقتضي أن لقتله مأخذين أحدهما : انتقاض عهده ، والثاني : أنه حد من الحدود وهو قول فقهاء الحديث قال إسحاق بن راهويه : إن أظهروا سب رسول الله فسمع منهم ذلك أو تحقق عليهم قتلوا ، وأخطأ هؤلاء الذين قالوا إن ما هم فيه من الشرك أعظم من سب رسول الله قال إسحاق : يقتلون لأن ذلك نقض العهد ، وكذلك فعل عمر بن عبد العزيز ولا شبهة في ذلك لأنه يصير في ذلك ناقضاً للصلح ، وهو كما قتل ابن عمر الراهب الذي سب النبي وقال : ما على هذا صالحناهم .
ثم نقل عن أبي المواهب قوله حـ2 ص555 : يجب لقذف النبي الحد المغلظ وهو القتل تاب أو لم يتب ذمياً كان أو مسلماً .

(6/5)


قوله تعالى " ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها "
قال صاحب الفتوحات (1) : النسخ في اللغة الإزالة والنقل . يقال : نسخت الريح الأثر أي أزالته ، ونسخت الكتاب أي نقلته .
ونسخ الآية : بيان انتهاء التعد بقراءتها أو بالحكم المستفاد منها أو بهما معاً.أهـ .
قال الفخر الرازي (2) : النسخ عندنا جائز عقلاً وواقع سمعاً خلافاً لليهود ، فإن من أنكره عقلاً ، ومنهم من جوزه عقلاً ، لكنه منع منه سمعاً .
واحتج الجمهور من المسلمين على جواز النسخ ووقوعه ، لأن الدلائل دلت على نبوة سيدنا محمد - صلى الله عليه وسلم - ، ونبوته لا تصح إلا مع القول بنسخ شرع من قبله ، فوجب القطع بالنسخ ، وأيضاً فلنا على اليهود إلزامان .
الأول : جاء في التوراة أن الله تعالى قال لنوح - عليه السلام - عند خروجه من الفلك " إني جعلت كل دابة مأكلاً لك ، ولذريتك ، وأطلقت ذلك لكم ، كنبات العشب ما خلا الدم فلا تأكلوه ، ثم إنه حرم على موسى وعلى بني إسرائيل كثيراً من الحيوان .
الثاني : كان آدم - عليه السلام - يزوج الأخت من الأخ وقد حرمه على موسى - عليه السلام . أ هـ

" أنواع النسخ "

المنسوخ : إما أن يكون هو الحكم فقط ، أو التلاوة فقط ، أو هما معاً .
أما الذي يكون المنسوخ هو الحكم دون التلاوة ، مثل قوله تعالى في عدة المتوفى عنها زوجها " أربعة أشهر وعشراً " وقال " متاعاً إلى الحول غير إخراج " .
وأما الذي يكون المنسوخ هو التلاوة فقط ، فكما روى عن عمر - رضي الله عنه - أنه قال : كنا نقرأ آية الرجم " الشيخ والشيخة إذا زينا فارجموهما ألبتة نكالاً من الله والله عزيز حكيم ".
وأما الذي يكون منسوخ الحكم والتلاوة ، فهو ما روت عائشة - رضي الله عنها - أن القرآن نزل في الرضاع بعشر معلومات ثم نسخن بخمس معلومات ، فالعشر مرفوع التلاوة والحكم جميعاً ، وبخمس مرفوع التلاوة باقي الحكم . أ هـ

__________
(1) الفتوحات الإلهية حـ1 ص147
(2) التفسير الكبير حـ3 ص637 : 638 باختصار يسير .

(6/6)


" أهمية معرفة هذا الباب "
قال القرطبي (1) : معرفة هذا الباب أكيدة ، وفائدته عظيمة لا يستغنى عن معرفته العلماء ولا ينكره إلا الجهلة الأغبياء ، لما يترتب عليه من النوازل في الأحكام ، ومعرفة الحلال من الحرام ، روى أبو البحتري قال : دخل علي - رضي الله عنه - المسجد فإذا رجل يخوف الناس فقال ما هذا ؟ قالوا : رجل يذكر الناس ، فقال : ليس برجل يذكر الناس ، لكنه يقول : أنا فلان ابن فلان ، فأرسل إليه فقال: أتعرف الناسخ من المنسوخ ؟ فقال : لا ، قال : اخرج من مسجدنا ، ولا تذكر فيه ، وفي رواية أخرى : أعلمت الناسخ والمنسوخ ؟ قال : لا ، قال هلكت وأهلكت ، ومثله عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أ هـ .

" فائدة "
اختلف علماؤنا في الأخبار : هل يدخلها النسخ ، فالجمهور على أن النسخ إنما هو مختص بالأوامر والنواهي ، والخبر لا يدخله النسخ ، لاستحالة الكذب على الله تعالى ، وقيل : إن الخبر إذا تضمن حكماً شرعياً جاز نسخه كقوله تعالى " ومن ثمرات النخيل والأعناب تتخذون منه سكراً ورزقاً حسناً" [النحل : 67] (2) أ هـ

" ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها "
" فائدة أخرى "

اعلم أنه قد يرد في الشرع أخبار ظاهرها الإطلاق والاستغراق ويرد تقييدها في موضع آخر ، فيرتفع ذلك الإطلاق ، كقوله تعالى " وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان " [البقرة :186] فهذا الحكم ظاهره خبر عن إجابة كل داع على كل حال ، لكن قد جاء ما قيده في موضع آخر ، كقوله تعالى " فيكشف ما تدعون إليه إن شاء " [الإنعام : 41] فقد يظن من لا بصيرة عنده أن هذا من باب النسخ في الأخبار ، وليس كذلك بل هو من باب الإطلاق والتقييد (3) . أ هـ

__________
(1) تفسير القرطبي حـ2 ص44
(2) تفسير القرطبي حـ2 ص46
(3) تفسير القرطبي حـ2 ص46

(6/7)


" فائدة ثالثة "في معرفة الناسخ
لمعرفة الناسخ طرق منها : أن يكون في اللفظ ما يدل عليه كقوله عليه الصلاة والسلام - كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها (1) " ومنها أن يذكر الراوي التاريخ مثل أن يقول ، سمعت عام الخندق ، وكان المنسوخ معلوماً قبله ، أو يقول : نسخ حكم كذا بكذا ، ومنها : أن تجمع الأمة على حكم : أنه منسوخ ، وأن ناسخه متقدم (2) أ هـ
[سؤال] فإن قيل : لم قال " ما ننسخ من آية " ولم يقل " من القرآن " ؟
[الجواب] لأن القرآن ناسخ مهيمن على كل الكتب ، وليس يأتي بعده ناسخ له وما فيه من ناسخ ومنسوخ فمعلوم وهو قليل ، بين الله ناسخه عند منسوخه ، كنسخ الصدقة عند مناجاة الرسول ، والعدة ، والفرار من الجهاد ونحوه (3) . أ هـ

قوله تعالى " أو ننسها "
قال ابن كثير (4) : ونقل عن الحسن أنه قال في قوله " أو ننسها " قال : إن نبيكم - صلى الله عليه وسلم - أقرىء علينا قرآناً نسيه ، وعن ابن عباس فيما رواه ابن أبي حاتم قال : كان مما ينزل على النبي - صلى الله عليه وسلم - الوحي بالليل وينساه بالنهار ، فأنزل " ما ننسخ من آية أو ننسها .. الآية "

__________
(1) مسلم / 977] و [ابن حبان / 981] ، [الترمذي /1054] ، [المستدرك / 1385] .
(2) تفسير القرطبي حـ2 ص46
(3) البرهان حـ2 ص50
(4) تفسير ابن كثير حـ1 ص195
(5) تفسير القرطبي حـ2 ص48 : ص49

(6/8)


وقال القرطبي (5) " أو ننسها "
قرأ أبو عمرو وابن كثير : بفتح النون وكسر السين والهمز - من التأخير أو نؤخر نسخ لفظها أي نتركه في آخر أم الكتاب ، فلا يكون ، وقيل : أو ننسأها : نؤخرها عن النسخ إلى وقت معلوم ، وقيل : نذهبها عنكم حتى لا تقرأ أو لا تذكر ، وقرأ الباقون بضم النون من النسيان الذي بمعنى الترك أي نتركها ، فلا نبدلها ، ولا ننسخها قال ابن عباس والسدي ومنه قوله تعالى " نسوا الله فنسيهم " [التوبة :67] أي تركوا عبادته فتركهم في العذاب ، وقيل: من النسيان على بابه الذي هو عدم الذكر على معنى أو ننسكها يا محمد ، فلا تذكرها (1) . أ هـ .
قال ابن عطية :
والصحيح في هذا : أن نسيان النبي - صلى الله عليه وسلم - لما أراد الله أن ينساه ولم يرد أن يثبت قرآناً جائز ، فأما النسيان الذي هو آفة البشر ، فالنبي - صلى الله عليه وسلم - معصوم من قبل التبليغ وبعد التبليغ ما لم يحفظه أحد من الصحابة وأما بعد أن يحفظ فجائز عليه ما يجوز على البشر ، لأنه قد بلغ وأدى الأمانة .

" ما ننسخ من آية أو ننسها "

ومنه الحديث حين أسقط آية فلما فرغ من الصلاة قال : أفي القوم أبي ؟ قال : نعم يا رسول الله ، قال فلم لم تذكرني ؟ قال : حسبت أنها رفعت ، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - لم ترفع ولكني نسيتها (2) . أ هـ
__________
(1) لا شك أن هذا الكلام قد يفتح على الأمة باباً للطعن في القرآن الكريم الذي تكفل الله تعالى بحفظه ، ثم إن هذا القول يتعارض مع صريح القرآن كما سيتبين لاحقاً إن شاء الله من كلام سادتنا الأئمة الأعلام - فيجب عدم التعويل على مثل هذا الكلام الذي يعطي مجالاً للسفهاء الحاقدين على الإسلام للقدح في وصول القرآن إلى الأمة كاملاً وهذا ما نرفضه جملة وتفصيلاً ، والنسيان ينقسم إلى قسمين نسيان بمعنى ضد الذكر وهذا ممتنع ، ونسيان بمعنى الترك فيجب حمل النسيان في الآية على الترك - والله أعلم .
(2) المحرر الوجيز حـ1 ص194

(6/9)


وقال السمرقندي (1) : فمن قرأ "ننسأها" أي نؤخرها ، ومنها النسيئة في البيع وهو التأخير ، ومن قرأ "ننسها" أي نتركها مثل قوله تعالى " نسوا الله فنسيهم" [التوبة : 67] أي تركهم في النار . أ هـ .
وقال السمعاني (2) : وقرأ أبو عمرو وابن كثير " أو ننسأها " على الفتح والهمز ، وحكى أبو عبيد القاسم بن سلام عن أبي نعيم القاريء أنه قال : رأيت رسول الله – صلى الله عليه وسلم – في المنام ، فقرأت عليه بحرف أبي عمرو ، فغير عليّ شيئين فقوله " وأرنا " فقال : قل : أرنا "بكسر الراء" ، قال أبو عبيد : وأحسبه قال : الحرف الثاني : قوله " أو ننسأها : فقال : قل: "أو ننسها " (3)
" كلام نفيس في هذا الموضع "

قال صاحب الميزان ما نصه :
__________
(1) بحر العلوم حـ1 ص108
(2) تفسير السمعاني حـ1 ص123
(3) يسكن أبو عمرو : الراء في كلمة [أرنا] ويقرأ [ننسها] بفتح النون والسين مع الهمز [نَنْسَأْها] ولا يمكن القبول بما ذكر ونسبته إلى رسول الله – صلى الله عليه وسلم - ، ومن المعلوم أن الرؤيا لا يثبت بها حكم شرعي ، وأيضاً فقراءة أبي عمرو قراءة متواترة فكيف يحكم عليها الرسول – صلى الله عليه وسلم – بالخطأ ، هذا ما يجعلنا نجزم بوضع هذه الحكاية لتعارضها مع المتواتر والمتفق عليه .

(6/10)


قوله تعالى " أو ننسها " قرأ بضم النون وكسر السين من الإنساء بمعنى الذهاب عن العلم والذكر وقد مر توضيحه ، وهو كلام مطلق أو عام غير مختص برسول الله – صلى الله عليه وسلم – بل غير شامل له أصلاً لقوله تعالى " سنقرئك فلا تنسى إلا ما شاء الله " [الأعلى : 7] وهي آية مكية ، وآية النسخ مدنية ، فلا يجوز عليه النسيان بعد قوله تعالى " فلا تنسى " وأما اشتماله على الاستثناء بقوله " إلا ما شاء الله " فهو على حد الاستثناء الواقع في قوله تعالى " خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض إلا ما شاء ربك عطاء غير مجذوذ " [هود :109] جيء بها لإثبات بقاء القدرة مع الفعل على تغيير الأمر ولو كان الاستثناء مسوقاً لبيان الوقوع في الخارج لم يكن للامتنان بقوله " فلا تنسى " معنى ، إذ كل ذي ذكر وحفظ من الإنسان وسائر الحيوان كذلك يذكر وينسى ، وذكره ونسيانه كلاهما منه تعالى وبمشيئته ، وقد كان رسول الله – صلى الله عليه وسلم – كذلك قبل هذا الإقراء الامتناني الموعود بقوله " سنقرئك " يذكر بمشيئة الله تعالى ، فليس معنى الاستثناء إلا إثبات إطلاق القدرة ، أي سنقرئك فلا تنسى أبداً ، والله مع ذلك قادر على إنسائك هذا (1) . أ هـ .
وقال ابن عطية (2) ما نصه :
" وكذلك ضعف الزجاج أن تحمل الآية على النسيان الذي هو ضد الذكر ، وقال : إن هذا لم يكن للنبي – صلى الله عليه وسلم – ولا نسى قرآناً ، واحتج الزجاج بقوله تعالى " ولئن شئنا لنذهبن بالذي أوحينا إليك " [الإسراء:86] أي لم نفعل . أ هـ .
__________
(1) الميزان حـ1 ص253 : ص254
(2) المحرر الوجيز حـ1 ص194

(6/11)


وقال صاحب تفسير المنار جـ1 صـ342 مانصه :إن السيوطى روى فى أسباب النزول أن الآية كانت تنزل على النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ ليلا فينساها نهارا ، فحزن لذلك فنزلت الآية . قال الأستاذ الإمام : ولا شك عندى فى أن هذه الرواية مكذوبة وأن مثل هذا النسيان محال على الأنبياء ـ عليهم السلام ـ ؛ لأنهم معصومون فى التبليغ ، والآيات الكريمة ناطقة بذلك كقوله تعالى [إن علينا جمعه وقرآنه] وقوله [إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون] وقد قال المحدثون والأصوليون : إن من علامة وضع الحديث مخالفته للدليل القاطع عقليا كان أو نقليا كأصول الاعتقاد وهذه المسألة منها فإن هذا النسيان ينافى العصمة المجمع عليها . أهـ

قوله تعالى " نأت بخير منها أو مثلها "
قال الخازن : أي بما هو أنفع لكم وأسهل عليكم وأكثر لأجوركم وليس معناه : أن آية خير من آية ، لأن كلام الله تعالى كله واحد [أو مثلها] أي في المنفعة والثواب فما نسخ إلى الأيسر كان أسهل في العمل ، كالذي كان على المؤمنين من فرض قيام الليل ، ثم نسخ ذلك فكان خيراً لهم في عاجلهم لسقوط التعب والمشقة عليهم وما نسخ إلى الأشق كان أكمل في الثواب ، كالذي كان عليهم من صيام أيام معدودات في السنة ، فنسخ ذلك وفرض صيام شهر رمضان ، فكان صوم شهر كامل في كل سنة أثقل على الأبدان وأشق من صيام أيام معدودات ، فكان ثوابه أكمل وأكثر .
أما المثل ، فكنسخ التوجه إلى بيت المقدس ، وصرفه إلى المسجد الحرام واستواء الأجر في ذلك ، لأن على المصلي التوجه إلى حيث أمره الله تعالى(1) أ هـ .
قوله تعالى " ألم تعلم أن الله على كل شيء قدير "
قال الفخر (2) :
__________
(1) تفسير الخازن حـ1 ص 73:72
(2) التفسير الكبير حـ3 ص642

(6/12)


أما قوله تعالى " ألم تعلم أن الله على شيء قدير " فتنبيه النبي - صلى الله عليه وسلم - وغيره على قدرته تعالى على تصريف المكلف تحت مشيئته وحكمه وحكمته ، وأنه لا دافع لما أراد ، ولا مانع لما اختار . أ هـ .
[سؤال] لماذا عدل عن الضمير إلى ذكر الاسم الجليل ؟
[الجواب] والالتفات بوضع الاسم الجليل موضع الضمير ، لتربية المهابة والإشعار بمناط الحكم ، فإن شمول القدرة لجميع الأشياء من الأحكام الألوهية ، وكذا الحال في قوله عز سلطانه " ألم تعلم أن الله له ملك السماوات والأرض " فإن عنوان الألوهية مدار أحكام ملكوتهما (1) أ هـ

قوله تعالى " ود كثير من أهل الكتاب .... كفاراً حسداً من عند أنفسهم "

" حقيقة الحسد "
إذا أنعم الله على أخيك بنعمة ، فإن أردت زوالها ، فهذا هو الحسد ، وإن اشتهيت لنفسك مثلها ، فهذا هو الغبطة والمنافسة .
أما الأول فحرام بكل حال ، إلا نعمة أصابها فاجر أو كافر يستعين بها على الشر والفساد فلا يضرك محبتك لزوالها .
أما الثانية : وهي المنافسة فليست بحرام دليل ذلك قوله تعالى " وفي ذلك فليتنافس المتنافسون " [المطففين : 26] وقوله تعالى " سابقوا إلى مغفرة من ربكم " [الحديد :21] (2) . أ هـ

" فائدة " في باب [الخير]
الخير يذكر ويراد به القرآن قال تعالى " أن ينزل عليكم من خير من ربكم " [البقرة :105] ويراد به الأنفع قال تعالى " ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها " [البقرة : 106]
ويراد به المال . قال تعالى " كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيراً الوصية للوالدين والأقربين بالمعروف " [البقرة :180]
ويراد به ضد الشر قال تعالى " بيدك الخير " [آل عمران :26]
ويراد به الإصلاح قال تعالى " ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير " [آل عمران :104]
__________
(1) تفسير أبي السعود حـ1 ص143
(2) التفسير الكبير حـ3 ص 647:646 بتصرف يسير

(6/13)


ويراد به الولد الصالح قال تعالى " فعسى أن تكرهوا شيئاً ويجعل الله فيه خيراً كثيراً " [النساء :19]
ويراد به العافية قال تعالى " وإن يمسسك بخير " [الأنعام :17]
ويكون بمعنى النافع قال تعالى " ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير " [الأعراف :188]
وبمعنى الإيمان قال تعالى " ولو علم الله فيهم خيراً لأسمعهم " [الأنفال : 23]
وبمعنى رخص الأسعار قال تعالى على لسان شعيب عليه السلام مخاطباً قومه " إني أراكم بخير " [ هود :84]
وبمعنى النوافل قال تعالى :" وأوحينا إليهم فعل الخيرات " [الأنبياء :73]
وبمعنى الأجر قال تعالى " والبدن جعلناها لكم من شعائر الله لكم فيها خير " [ الحج :36]
وبمعنى الأفضل قال تعالى " وأنت أرحم الراحمين " [ المؤمنون :109]
وبمعنى العفة قال تعالى " لولا إذ سمعتموه ظن المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيراً " [ النور : 12]
وبمعنى الصلاح قال تعالى :" فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيراً " [ النور : 33]
وبمعنى الطعام قال تعالى :" فقال رب إني لما أنزلت إلي من خير فقير " [القصص : 24]
وبمعنى الظفر قال تعالى :" ورد الله الذين كفروا بغيظهم لم ينالوا خيراً " [الأحزاب :25]
وبمعنى الخيل قال تعالى على لسان سليمان عليه السلام " فقال إني أحببت حب الخير عن ذكر ربي حتى توارت بالحجاب " [ ص :32]
وبمعنى القوة قال تعالى :" أهم خير أم قوم تبع والذين من قبلهم أهلكناهم " [الدخان : 37]
وبمعنى حسن الأدب قال تعالى :" ولو أنهم صبروا حتى تخرج إليهم لكان خيراً لهم " [الحجرات : 5] .
وبمعنى حب الدنيا قال تعالى :" وإنه لحب الخير لشديد " [العاديات :8](1)

" حسدا من عند أنفسهم "
"فائدة فى المنافسة "

المنافسة قد تكون واجبة ، ومندوبة ، ومباحة :
أما الواجبة : إذا كانت النعمة نعمة دينية واجبة ، كالإيمان والصلاة والزكاة .
__________
(1) - المدهش لابن الجوزي صـ14 : 15 بتصرف يسير

(6/14)


وأما المندوبة : إذا كانت النعمة من الفضائل المندوبة كالإنفاق في سبيل الله والتشمير لتعليم الناس .
وأما المباحة : إذا كانت تلك النعمة من المباحات ، وبالجملة فالمذموم : أن يحب زوال نعمة الغير . (1) أ هـ .
قال ابن الزبير ما حسدت أحداً على شيء من أمر الدنيا ، لأنه إن كان من أهل الجنة فكيف أحسده على الدنيا ، وهي حقيرة في الجنة ، وإن كان من أهل النار ، فكيف أحسده على أمر الدنيا وهو يصير إلى النار .
وقال معاوية : كل الناس أقدر على رضاه إلا الحاسد ، فإنه لا يرضيه إلا زوال النعمة قيل : الحاسد لا ينال من المجالس إلا مذمة وذلاً ، ولا ينال من الملائكة إلا لعنة وبغضاً ولا ينال من الخلق إلا جزعاً وغماً ، ولا ينال عند الفراغ إلا شدة وهولاً ، وعند الموقف إلا فضيحة ونكالاً (2). أ هـ

قوله تعالى " فاعفوا واصفحوا حتى يأتي الله بأمره "
[سؤال] كيف يعفون ويصفحون ، والكفار كانوا أصحاب الشوكة والقوة والدفع لا يكون إلا عند القدرة ؟ .
[الجواب] أن الرجل من المسلمين كان ينال بالأذى ، فيقدر في تلك الحالة قبل اجتماع الأعداء أن يدفع عدوه عن نفسه وأن يستعين بأصحابه ، فأمر الله تعالى عند ذلك بالعفو ، لكي لا يهيجوا شراً وقتالاً (3). أ هـ

قوله تعالى" وقالوا لن يدخل الجنة إلا من كان هود أو نصارى تلك أمانيهم "
__________
(1) التفسير الكبير حـ3 ص647 بتصرف يسير
(2) التفسير الكبير حـ3 ص646 بتصرف يسير
(3) التفسير الكبير حـ3 ص652

(6/15)


اعلم أن اليهود لا تقول في النصارى : إنها تدخل الجنة ، ولا النصارى في اليهود ، فلا بد من تفصيل في الكلام فكأنه قال : وقالت اليهود : لن يدخل الجنة إلا من كان هوداً ، وقالت النصارى : لن يدخل الجنة إلا من كان نصارى ، ولا يصح في الكلام سواه ، مع علمنا بأن كل واحد من الفريقين يكفر الآخر ، ونظيره :" وقالوا كونوا هوداً أو نصارى " [ البقرة :135] والهود : جمع هائد ، كعائذ وعوذ وبازل وبزل ، فإن قيل : كيف قيل : كان هوداً ، على توحيد الاسم ، وجمع الخبر ؟ قلنا : حمل الاسم على لفظ (من) والخبر على معناه كقراءة الحسن :" إلا من هو صال الجحيم " [الصافات :163] وقرأ أبي بن كعب :" إلا من كان يهودياً أو نصرانياً " أما قوله تعالى " تلك أمانيهم " فالمراد أن ذلك متمنياتهم ، ثم إنهم لشدة تمنيهم لذلك قدروه حقاً في نفسه .
فإن قيل : لم قال : "تلك أمانيهم " وقولهم :" لن يدخل الجنة " أمنية واحدة ؟
(قلنا) : أشير بها إلى الأماني المذكورة ، وهي أمنيتهم أن لا ينزل على المؤمنين خير من ربهم ، وأمنيتهم أن يردوهم كفاراً ، وأمنيتهم أن لا يدخل الجنة غيرهم ، أي : تلك الأماني الباطلة أمانيهم .

قوله تعالى :" بلى من أسلم وجهه لله "

أما قوله تعالى : (بلى) ففيه وجوه : الأول : أنه إثبات لما نفوه من دخول غيرهم الجنة . الثاني : أنه تعالى لما نفى أن يكون لهم برهان أثبت أن لمن أسلم وجهه لله برهاناً .. الثالث : كأنه قيل لهم : أنتم على ما أنتم عليه لا تفوزون بالجنة ، بلى إن غيرتم طريقتكم وأسلمتم وجهكم لله وأحسنتم فلكم الجنة ، فيكون ذلك ترغيباً لهم في الإسلام ، وبياناً لمفارقة حالهم لحال من يدخل الجنة لكي يقلعوا عما هم عليه ويعدلوا إلى هذه الطريقة (1) . أ هـ .

قوله تعالى " بلى من أسلم وجهه لله وهو محسن "

معنى [أسلم] استسلم وخضع ، وقيل : أخلص عمله (2) .
__________
(1) التفسير الكبير حـ4 ص6،5
(2) تفسير القرطبي حـ2 ص35

(6/16)


[سؤال] لم خص الوجه بالذكر ؟
[الجواب] وإنما خص الوجه بالذكر لوجوه :
أحدها : لأنه أشرف الأعضاء من حيث أنه معدن الحواس والفكر والتخيل ، فإذا تواضع الأشرف كان غيره أولى .
وثانيها : أن الوجه قد يكنى به عن النفس .
وثالثها : أن أعظم العبادات السجدة ، وهي إنما تحصل بالوجه فلا جرم خصه بالذكر (1) . أ هـ .
وقال القرطبي (2) : وخص الوجه بالذكر ، لكونه أشرف ما يرى من الإنسان ، ولأنه موضع الحواس ، وفيه يظهر العز والذل ، والعرب تخبر بالوجه عن جملة الشيء ويصح أن يكون الوجه في هذه الآية المقصد . أ هـ .
وقال البغوي (3) : وخص الوجه بالذكر ، لأنه إذا جاد بوجهه في السجود ، لم يبخل بسائر جوارحه . أ هـ .

قوله تعالى : " وهو محسن "

قال أبو السعود (4) : "وهو محسن " حال من ضمير [أسلم] أي والحال أنه محسن في جميع أعماله التي من جملتها الإسلام المذكور .
وحقيقة الإحسان : الإتيان بالعمل على الوجه اللائق وهو حسنه الوصفي التابع لحسنه الذاتي ، وقد فسره – صلى الله عليه وسلم – بقوله [أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك] (5) .

قوله تعالى " ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون "

قال الفخر (6) : فأما الخوف فلا يكون إلا من المستقبل ، وأما الحزن ، فقد يكون من الواقع والماضي ، كما قد يكون من المستقبل ، فنبه تعالى بالأمرين على نهاية السعادة ، لأن النعيم العظيم إذا دام وكثر وخلص من الخوف والحزن ، فلا يحزن على أمر فاته ولا على أمر يناله ، ولا يخاف انقطاع ما هو فيه وتغيره ، فقد بلغ النهاية وفي ذلك ترغيب في هذه الطريقة ، وتحذير من خلافها . أ هـ .
__________
(1) التفسير الكبير حـ4 ص6 باختصار يسير
(2) تفسير القرطبي حـ2 ص53
(3) معالم التنزيل حـ1 ص140
(4) تفسير أبي السعود حـ1 ص147
(5) البخاري/50] باب سؤال جبريل النبي صلى الله عليه وسلم عن الإيمان والإسلام والإحسان وعلم الساعة] ، [مسلم/كتاب الإيمان/1]
(6) التفسير الكبير حـ4 ص6

(6/17)


وقال السعدي () :" ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون " فحصل لهم المرغوب ونجوا من المرهوب ، ويفهم منها أن من ليس كذلك ، فهو من أهل النار الهالكين ، فلا نجاة إلا لأهل الإخلاص للمعبود ، والمتابعة للرسول – صلى الله عليه وسلم – أ هـ .

" لطيفة "
قال السمرقندي (1) : " ويقال : الخوف ثلاثة
خوف الأبد ، وخوف الانقطاع ، وخوف الحشر والحساب .
فأما خوف الأبد ، فيكون أمناً للمسلمين ، وخوف العذاب على الانقطاع يكون أمناً للتائبين ، وخوف الحشر والحساب أمناً للمحسنين ، والمحسنون يكونون آمنين من ذلك . أ هـ .
وقال أبو السعود (2) :" ولا خوف عليهم " في الدارين من لحوق مكروه " ولا هم يحزنون " من فوات مطلوب أي لا يعتريهم ما يوجب ذلك – لا أنه يعتريهم لكنهم لا يخافون ولا يحزنون . أ هـ .

قوله تعالى " وقالت اليهود ليست النصارى على شيء "
سبب النزول
قال القرطبي (3) : قال ابن عباس – رضي الله عنهما – قدم أهل نجران على النبي – صلى الله عليه وسلم – فأتتهم أحبار اليهود ، فتنازعوا عند النبي – صلى الله عليه وسلم – وقالت كل فرقة منهم للأخرى : لستم على شيء.أهـ
[سؤال] فإن قيل : لم وبخهم وقد صدقوا ، بأن كلا الدينين بعد النسخ ليس بشيء ؟ .
[قلنا] لم يقصدوا ذلك ، وإنما قصد به كل فريق إبطال دين الآخر من أصله ، والكفر بنبيه وكتابه مع أن ما لم ينسخ منهما حق واجب القبول والعمل به(4).أهـ .
وقال ابن عطية (5) : وفي هذا من فعلهم كفر كل طائفة بكتابها ، لأن الإنجيل يتضمن صدق موسى – عليه السلام – وتقرير التوراة ، والتوراة تتضمن التبشير بعيسى – عليه السلام – وصحة نبوته ، وكلاهما تضمن صدق محمد – صلى الله عليه وسلم – فعنفهم الله تعالى على كذبهم ، وفي كتبهم خلاف ما قالوا . أ هـ .
__________
(1) بحر العلوم حـ2ص110
(2) تفسير أبي السعود حـ1 ص148
(3) تفسير القرطبي حـ2 ص53
(4) تفسير البيضاوي حـ1 ص385
(5) المحرر الوجيز حـ1 ص198

(6/18)


قوله تعالى " فالله يحكم بينهم يوم القيامة "
فيه أربعة أوجه : أحدها : يكذبهم جميعاً ويدخلهم النار ، وثانيها : حكم الانتصاف من الظالم المكذب للمظلوم المكذب .
وثالثها : يريهم من يدخل الجنة عياناً ، ومن يدخل النار عياناً ، ورابعها : يحكم بين المحق والمبطل فيما اختلفوا فيه (1) . أ هـ .

قوله تعالى " ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه "
قال البيضاوي (2) : " ومن أظلم ممن منع مساجد الله ... الآية " عام لكل من خرب مسجداً ، أو سعى في تعطيل مكان مرشح للصلاة ، وإن نزل في الروم لما غزوا بيت المقدس وخربوه وقتلوا أهله ، أو في المشركين لما منعوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يدخل المسجد الحرام عام الحديبية . أ هـ .
[سؤال] فإن قيل : كيف يجوز حمل المساجد على مسجد واحد [المسجد الحرام] ؟
[قلنا] فيه وجوه : أحدها : هذا كمن يقول لمن آذى صالحاً واحداً : ومن أظلم ممن آذى الصالحين .
وثانيها : أن المسجد موضع السجود ، فالمسجد الحرام لا يكون في الحقيقة مسجداً واحداً بل مساجد (3) .
وقال القرطبي (4) : وأراد بالمساجد هنا بيت المقدس ومحاربيه ، وقيل الكعبة وجمعت لأنها قبلة المساجد ، أو للتعظيم ، وقيل : المراد سائر المساجد (5).

" وسعى في خرابها "

قال السعدي : " وسعى في خرابها " [وسعى] أي اجتهد وبذل وسعه [في خرابها] الحسي والمعنوي ، فالخراب الحسي هدمها وتخريبها وتقذيرها .
__________
(1) التفسير الكبير حـ4 ص10
(2) تفسير البيضاوي حـ1 ص386
(3) التفسير الكبير حـ4 ص11
(4) تفسير القرطبي حـ2 ص54
(5) يرجح هذا القول أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب - والله أعلم .

(6/19)


والخراب المعنوي : منع الذاكرين لاسم الله فيها وهذا عام لكل من اتصف بهذه الصفة فيدخل في ذلك أصحاب الفيل وقريش حين صدوا رسول الله – صلى الله عليه وسلم – عنها عام الحديبية ، والنصارى حين أخربوا بيت المقدس ، وغيرهم من أنواع الظلمة الساعين في خرابها محادة لله ومشاقة (1)
قوله تعالى " أولئك ما كان لهم أن يدخلوها إلا خائفين "
قال الفخر (2) : " ما كان لهم أن يدخلوها إلا خائفين " وإن كان لفظه لفظ الخبر ، لكن المراد منه النهي عن تمكينهم من الدخول والتخلية بينهم وبينه ، كقوله " وما كان لكم أن تؤذوا رسول الله " [الأحزاب :53] . أ هـ .
وقال البيضاوي (3) : ما كان ينبغي لهم أن يدخلوها إلا بخشية وخضوع ، فضلاً عن أن يجترئوا على تخريبها ، أو ما كان الحق أن يدخلوها إلا خائفين من المؤمنين أن يبطشوا بهم ، فضلاً عن أن يمنعوهم منها . أ هـ .
[سؤال] فإن قيل : الاستفهام في قوله تعالى " ومن أظلم ممن منع مساجد الله ... الآية " استفهام إنكاري ومعناه النفي أي : لا أحد أظلم ممن منع مساجد الله ... وقد جاءت آيات أخر يفهم منها خلاف هذا ، كقوله تعالى " فمن أظلم ممن افترى على الله كذباً " [الكهف :15] وقوله " فمن أظلم ممن كذب على الله " [الزمر :32] وقوله " ومن أظلم ممن ذكر بآيات ربه ثم أعرض عنها " [السجدة :22] إلى غير ذلك ، فما وجه الجمع بين هذه الآيات ؟
[الجواب] : وللجمع بين هذه الآيات أوجه منها تخصيص كل موضع بمعنى صلته أي : لا أحد من المانعين أظلم ممن منع مساجد الله ... ولا أحد من المفترين أظلم ممن افترى على الله كذباً ، وإذا تخصصت بصلاتها زال الإشكال .
__________
(1) تفسير السعدي ص56
(2) التفسير الكبير حـ4 ص13
(3) تفسير البيضاوي حـ1 ص 387:386

(6/20)


ومنها أن التخصيص بالنسبة إلى السبق أي : لما لم يسبقهم أحد إلى مثله حكم عليهم بأنهم أظلم ممن جاء بعدهم سالكاً طريقهم (1) وهذا يؤول إلى ما قبله ، لأن المراد السبق إلى المانعية والإفترائية مثلاً ،
ومنها : أن نفي التفضيل لا يستلزم نفي المساواة ، فلم يكن أحد ممن وصف بذلك يزيد على الآخر ، لأنهم يتساوون في الأظلمية ، فيصير المعنى ، لا أحد أظلم ممن منع مساجد الله ، ومن افترى على الله كذباً ، ومن كذب بآيات الله ، ولا إشكال في تساوي هؤلاء في الأظلمية ، ولا يدل على أن أحدهم أظلم من الآخر ، كما إذا قلت : لا أحد أفقه من فلان وفلان مثلاً (2) أ هـ
وقال الآلوسي (3) بعد أن ذكر هذه الأوجه و القول فيها – قال : وإن جعلت ذلك الكلام مخرجاً مخرج المبالغة في التهديد والزجر مع قطع النظر عن نفي المساواة أو الزيادة في نفس الأمر ، كما قيل به محكماً العرف أيضاً زال الإشكال ، وارتفع القيل والقال (4) أ هـ .
قال الشوكاني :" ومن أظلم ممن منع مساجد الله " هذا استفهام فيه أبلغ دلالة على أن هذا الظلم متناه ، وأنه بمنزلة لا ينبغي أن يلحقه سائر أنواع الظلم أي لا أحد أظلم ممن منع مساجد الله .. أ هـ .
__________
(1) لأنهم يحملون أوزار ضلالهم ، وأوزار إضلالهم للغير كما قال تعالى "ليحملوا أوزارهم كاملة يوم القيامة ومن أوزار الذين يضلونهم بغير علم " [النحل :25] أيضاً قد يكون هذا من باب ومن سن سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة .
(2) دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب ص25-26 . بتصرف يسير . وكذلك الفتوحات الإلهية حـ1 ص156 بتصرف يسير .
(3) روح المعاني حـ1 ص363
(4) وقد ضعف الشيخ الشنقيطي هذا الجواب ، معللاً بأنه خلاف ظاهر القرآن [دفع إيهام الاضطراب ص26] .

(6/21)


وقال الفخر :" ظاهر الآية يقتضي أن هذا الفعل أعظم أنواع الظلم ، وفيه إشكال ، لأن الشرك ظلم على ما قال تعالى " إن الشرك لظلم عظيم " [لقمان :13] مع أن الشرك أعظم من هذا الفعل ، وكذا الزنا وقتل النفس أعظم هذا الفعل .
[والجواب عنه] أقصى ما في الباب أنه عام دخله التخصيص ، فلا يقدح فيه.أهـ .

قوله تعالى " ولله المشرق والمغرب "
قال ابن الجوزي (1) : في نزولها أربعة أقوال :
أحدها : أن الصحابة كانوا مع رسول الله – صلى الله عليه وسلم –في غزوة في ليلة مظلمة ، فلم يعرفوا القبلة ، فجعل كل واحد منهم مسجداً بين يديه .. وصلى ، فلما أصبحوا إذا هم على غير القبلة ، فذكروا ذلك لرسول الله – صلى الله عليه وسلم – فأنزل الله هذه الآية .
والثاني : أنها نزلت في التطوع في النافلة .
والثالث : أنه لما نزل قوله تعالى " ادعوني استجب لكم " [غافر :60] قالوا إلى أين فنزلت هذه الآية .
والرابع : أنه لما مات النجاشي وأمرهم النبي – صلى الله عليه وسلم – بالصلاة عليه قالوا : إنه كان لا يصلي إلى القبلة ، فنزلت هذه الآية . أ هـ
قال صاحب الكشاف (2) " ولله المشرق والمغرب " أي بلاد المشرق والمغرب والأرض كلها لله هو مالكها ومتوليها . أ هـ .
وقال القرطبي (3) : [المشرق] موضع الشروق ، [المغرب] موضع الغروب ، وخصهما بالذكر والإضافة إليه تشريفاً ، نحو بيت الله ، وناقة الله ، لأن سبب الآية اقتضى ذلك . أ هـ .
وقال السعدي (4) : "ولله المشرق والمغرب " خصهما بالذكر ، لأنهما محل الآيات العظيمة في مطالع الأنوار ومغاربها ، فإذا كان مالكاً لها ، كان مالكاً لكل الجهات .
__________
(1) زاد المسير حـ1 ص134 باختصار يسير .
(2) الكشاف حـ1 ص179
(3) تفسير القرطبي حـ2 ص55
(4) تفسير السعدي ص56

(6/22)


وقال الخازن (1) : وإنما خص المشرق والمغرب اكتفاء عن جميع الجهات ، لأنها كلها وما بينهما خلقه وعبيده ، وأن على جميعهم طاعته فيما أمرهم به ، ونهاهم عنه ، فما أمرهم باستقباله فهو القبلة ، فإن القبلة ليست قبلة لذاتها ، بل لأن الله تعالى جعلها قبلة وأمر بالتوجه إليها . أ هـ .

قوله تعالى : " وقالوا اتخذ الله ولدا "

قال القرطبي (2) : هذا إخبار عن النصارى في قولهم المسيح ابن الله ، وقيل عن اليهود في قولهم : عزير ابن الله ، وقيل عن كفرة العرب في قولهم : الملائكة بنات الله . أ هـ .
وقال القرطبي : لا يكون الولد إلا من جنس الوالد ، فكيف يكون للحق سبحانه أن يتخذ ولداً من مخلوقاته وهو لايشبهه شيء ، وقد قال :" إن كل من في السموات والأرض إلا ءاتي الرحمن عبداً " [مريم :93] ، كما قال هنا :" بل له ما في السموات والأرض " فالولدية تقتضي الجنسية والحدوث ، والقدم يقتضي الوحدانية والثبوت ، فهو سبحانه القديم الأزلي الواحد الأحد ، الفرد الصمد ، الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد . ثم إن النبوة تنافى الرق والعبودية . على ما يأتي بيانه في سورة (مريم) إن شاء الله تعالى . فكيف يكون ولد عبداً ! هذا محال ، وما أدى إلى المحال محال(3) . أ هـ

وقال القاسمي – رحمه الله – ما نصه :
__________
(1) تفسير الخازن حـ1 ص76
(2) تفسير القرطبي حـ2 ص59
(3) تفسير القرطبي حـ2 ص59

(6/23)


قال الراغب في تفسيره : نبه على أقوى حجة على نفي ذلك ، وبيانها : هو أن لكل موجود في العالم ، مخلوقاً طبيعياً ، أو معمولاً صناعياً ، غرضاً وكمالاً أوجد لأجله ، وإن كان قد يصلح لغيره على سبيل الغرض ، كاليد للبطش ، والرجل للمشي ، والسكين لقطع مخصوص ، والمنشار للنشر ، وإن كانت اليد قد تصلح للمشي في حال ، والرجل للتناول ، لكن ليس على التمام . والغرض في الولد للإنسان إنما هو لأن يبقى به نوعه ، وجزء منه لما لم يجعل الله له سبيلاً إلى بقائه بشخصه ، فجعل له بذراً لحفظ نوعه ، ويقوى ذلك ، أنه لم يجعل للشمس والقمر وسائر الأجرام السماوية بذراً واستخلافاً ، ولم يجعل لها فناء النبات والحيوان ، ولما كان الله تعالى هو الباقي الدائم ، بلا ابتداء ولا انتهاء ، لم يكن لاتخاذه الولد لنفسه معنى . ولهذا قال :" سبحانه أن يكون له ولد " [النساء : 171] أي : هو منزه عن السبب المقتضي للولد . ثم لما كان اقتناء الولد لفقر ما ، وذلك لما تقدم ، أن الإنسان افتقر إلى نسل يخلفه لكونه غير كامل إلى نفسه – بين تعالى بقوله :" له ما في السموات والأرض " أنه لا يتوهم له فقر ، فيحتاج إلى اتخاذ ما هو سد لفقره ، فصار في قوله :" له ما في السموات والأرض " دلالة ثانية ، ثم زاد حجة بقوله (قانتون) وهو أنه لما كان الولد يعتقد فيه خدمة الأب ومظاهرته كما قال " وجعل لكم من أزواجكم بنين وحفدة " [النحل :72] بين أن كل ما في السموات والأرض ، مع كونه ملكاً له ، قانت أيضاً ، إما طائعاً ، وإما كارهاً ، وإما مسخراً ، كقوله ولله " يسجد من في السموات والأرض طوعاً وكرهاً " [الرعد :15] ، وقوله " وإن من شيء إلا يسبح بحمده " [الإسراء : 44] وهذا أبلغ حجة لمن هو على المحجة (1) . أ هـ .

قوله تعالى " بل له ما في السماوات والأرض "
__________
(1) محاسن التأويل حـ2 ص424،423

(6/24)


قال الفخر (1) :" بل له ما في السماوات والأرض " أي له كل ما سواه على سبيل الملك والخلق والإيجاد . أ هـ .
وقال ابن عطية (2) : وإنما خص السماوات والأرض بالذكر ، لأنهما أعظم ما نرى من مخلوقاته جل وعلا . أ هـ .
وقال أبو السعود (3) :" بل له ما في السماوات والأرض " وإنما جيء [بما] المختصة بغير أولي العلم ، تحقيراً لشأنهم ، وإيذاناً بكمال بعدهم عما نسبوا إلى بعض منهم .أ هـ .
وقال الآلوسي (4) : وقيل أتى بـ [ما] في الأول ، لأنه إشارة إلى مقام الألوهية ، والعقلاء فيه بمنزلة الجمادات ، وبجمع العقلاء في الثاني ، لأنه إشارة إلى مقام العبودية ، والجمادات فيه بمنزلة العقلاء . أ هـ .
وقال القشيري (5) : في قوله تعالى " بل له ما في السماوات والأرض كل له قانتون " أي : ليس في الكون شيء من الآثار المفتقرة أو الأعيان المستقلة إلا وتنادي عليه آثار الخلقة ، وتفصح منه شواهد الفطرة ، وكل صامت منها ناطق ، وعلى وحدانيته – سبحانه – دليل وشاهد . أ هـ
قوله تعالى " كل له قانتون "
قال ابن الجوزي (6) : وللمفسرين في المراد بالقنوت ها هنا ثلاثة أقوال :
أحدها : أنه الطاعة ، والثاني : أنه الإقرار بالعبادة ، والثالث : القيام . أ هـ
وقال السعدي (7) : في قوله تعالى " كل له قانتون "
القنوت نوعان : قنوت عام وهو قنوت الخلق كلهم تحت تدبير الخالق ، وخاص وهو قنوت العبادة ، فالنوع الأول كما في هذه الآية ، والنوع الثاني ، كما في قوله تعالى " وقوموا لله قانتين " [ البقرة :238] أ هـ

(( كل له قانتون ))
[ سؤال ] فإن قيل : كيف عم هذا القول وكثير من الخلق ليس له بمطيع ؟
[ فعنه ثلاثة أجوبة ]
__________
(1) التفسير الكبير حـ4 ص23
(2) المحرر الوجيز حـ1 ص201
(3) تفسير أبي السعود حـ1 ص151
(4) روح المعاني حـ1 ص367
(5) لطائف الإشارات حـ1 ص117
(6) زاد المسير حـ1 ص135 باختصار يسير
(7) تفسير السعدي ص57

(6/25)


أحدها : أن يكون ظاهرها ظاهر العموم ، ومعناها معنى الخصوص ، فالمعنى كل أهل الطاعة له قانتون .
والثاني : أن الكفار تسجد ظلالهم لله بالغدوات والعشيات ، فنسب القنوت إليهم بذلك .
والثالث : أن كل مخلوق قانت بأثر صنعه فيه وجرى أحكامه عليه ، فذلك دليل على ذله للرب (1) أ هـ .
وقال البغوي (2) .
واختلفوا في حكم الآية ، فذهب جماعة إلى أن حكم الآية خاص ، وقال مقاتل: هو راجع إلى عزير والمسيح والملائكة ، وعن ابن عباس - رضي الله عنهما - أنه قال : هو راجع إلى أهل طاعته دون سائر الناس ، وذهب جماعة : إلى أن حكم الآية عام في جميع الخلق ، لأن لفظ [ كل ] يقتضي الإحاطة بالشيء ، ثم سلكوا في الكفار طريقتين .
فقال مجاهد : يسجد ظلالهم لله على كره منهم قال الله تعالى " وظلالهم بالغدو والأصال " [ الرعد : 15 ] .
وقال السدي : هو يوم القيامة دليله " وعنت الوجوه للحي القيوم "[طه: 111]
وقيل : قانتون : مذللون مسخرون لما خلقوا له . أ هـ .

قوله تعالى " بديع السماوات والأرض "
قال القرطبي (3) : فالله عز وجل بديع السماوات والأرض أي منشئها وموجدها ومبدعها ومخترعها على غير حد ولا مثال ، وكل من أنشأ ما لم يسبق إليه قيل له : مبدع ومنه أصحاب البدع ، وسميت البدعة بدعة ، لأن قائلها ابتدعها من غير فعل أو مقال إمام وفي البخاري " نعمت البدعة هذه " يعني قيام رمضان . أ هـ .

__________
(1) - زاد المسير حـ صـ136
(2) - معالم التنزيل حـ1 صـ144
(3) - تفسير القرطبي حـ2 صـ60

(6/26)


وقال القشيري (1) : البديع عند العلماء : موجد العين لا على مثل ، وعند أهل الإشارة : الذي ليس له شيء مثله ، فهذا الاسم يشير إلى نفي المثل عن ذاته ، ونفي المثال عن أفعاله ، فهو الأحد الذي لا عدد يجمعه ، والصمد الذي لا أمد يقطعه ، والحق الذي لا وهم يصوره ، والموجود الذي لا فهم يقدره ، وإذا قضى أمراً فلا يعارض عليه مقدور ولا ينفك عن حكمه محظور. أ هـ

" فائدة "
قال القرطبي (2) : كل بدعة صدرت من مخلوق فلا يخلو أن يكون لها أصل في الشرع أولاً ، فإن كان لها أصل كانت واقعة تحت عموم ما ندب الله إليه وحض رسوله عليه فهي في حيز المدح ، وإن لم يكن مثاله موجوداً ، كنوع من الجود والسخاء وفعل المعروف ، فهذا فعله من الأفعال المحمودة ، وإن لم يكن الفاعل قد سبق إليه ويعضد هذا قول عمر رضي الله عنه - " نعمت البدعة هذه " لما كانت من أفعال الخير وداخله في حيز المدح ، وهي وإن كان النبي صلى الله عليه وسلم - قد صلاها إلا أنه تركها ، ولم يحافظ عليها ، ولا جمع الناس عليها ، فمحافظة عمر - رضي الله عنه - عليها وجمع الناس لها وندبهم إليها بدعة ، لكنها بدعة محمودة ممدوحة وإن كانت في خلاف ما أمر الله به ورسوله صلى الله عليه وسلم - فهي في حيز الذم والإنكار ، قال معناه الخطابي وغيره . أ هـ .

قوله تعالى " وإذا قضى أمراً فإنما يقول له كن فيكون "

" كن فيكون "

[ سؤال ] فإن قيل : المعدم لا يخاطب ؟
[ أجيب ] بأنه لما قدر وجوده وهو كائن لا محالة كان كالموجود ، فصح خطابه (3) أهـ .
__________
(1) -- لطائف الإشارات حـ1 صـ117
(2) - تفسير القرطبي حـ2 صـ60
(3) - السراج المنير حـ1 صـ88

(6/27)


وقال القرطبي (1) : وتلخيص المعتقد في هذه الآية أن الله عز وجل لم يزل آمرا للمعدومات بشرط وجودها قادراً مع تأخر المقدورات ، عالماً مع تأخر المعلومات ، فكل ما في الآية يقتضي ( الاستقبال ) ، فهو بحسب المأمورات ، إذ المحدثات تجئ ، بعد أن لم تكن ، وكل ما يسند إلى الله تعالى من قدرة وعلم ، فهو قديم لم يزل ، والمعنى الذي تقتضيه عبارة [ كن ] هو قديم قائم بالذات .
وقال ابن جزي (2) : قال الأصوليون : هذه عبارة عن تعود قدرة الله وليس بقول حقيقي لأنه إذا كان قول [ كن ] خطاباً للشيء في حال عدمه لم يصح ، لأن المعدوم لم يخاطب وإن كان خطاباً في حال وجوده ، لأنه قد كان ، وتحصيل الحاصل غير مطلوب ، وحمله المفسرون على حقيقته ، وأجابوا عن ذلك بأربعة أجوبة .
أحدها : أن الشيء الذي يقول له [ كن فيكون ]هو موجود في علم الله ، وإنما يقول له [ كن ] ليخرجه إلى العيان لنا .
والثاني : أن قوله [ كن ] لا يتقدم على وجود الشيء ولا يتأخر عنه قاله الطبري .
والثالث : أن ذلك خطاباً لمن كان موجوداً على حاله فيأمره بأن يكون على حالة أخرى ، كإحياء الموتى ، ومسخ الكفار ، وهذا ضعيف ، لأنه تخصيص من غير مخصص .
والرابع : أن معنى يقول له : يقول من أجله ، فلا يلزم خطابه ، والأول أحسن هذه الأجوبة . أ هـ .
وأجاب الفخر : عن هذا السؤال من وجوه أذكر أولها فقط تجنباً للتكرار . قال الفخر الأول وهو الأقوى : أن المراد من هذه الكلمة سرعة نفاذ قدرة الله في تكوين الأشياء ، وأنه تعالى يخلق الأشياء لا بفكرة ومعاناة وتجربة.(3)أهـ .
قال القرطبي – رحمه الله :
قال علماؤنا : والأمر في القرآن يتصرف على أربعة عشر وجهاً .
الأول : الدين ، قال الله تعالى : " حتى جاء الحق وظهر أمر الله " [ التوبة : 48 ] يعني دين الله الإسلام .
__________
(1) - تفسير القرطبي حـ2 صـ63
(2) - التسهيل حـ1 صـ58
(3) - التفسير الكبير حـ4 صـ26

(6/28)


الثاني : القول ، ومنه قوله تعالى : " فإذا جاء أمرنا " [ المؤمنون : 27 ] يعني قولنا ، وقوله : " فتنازعوا أمرهم بينهم " [ طه : 62 ] يعني قولهم .
الثالث : العذاب ، ومنه قوله تعالى : " لما قضى الأمر " [ إبراهيم : 22 ] يعني لما وجب العذاب بأهل النار .
الرابع : عيسى عليه السلام ، قال الله تعالى : " إذا قضى أمراً " [ آل عمران : 47 ] يعني عيسى ، وكان في علمه أن يكون من غير أب .
الخامس : القتل ببدر ، قال تعالى : " فإذا جاء أمر الله " [ غافر : 78 ] يعني القتل ببدر ، وقوله تعالى : " ليقضي الله أمراً كان مفعولا " [ الأنفال : 44 ] يعني قتل كفار مكة .
السادس : فتح مكة ، قال الله تعالى : " فتربصوا حتى يأتي الله بأمره " [ التوبة : 24 ] يعني فتح مكة .
السابع : قتل قريظة رجلاً من بني النضير ، قال تعالى : " فاعفوا واصفحوا حتى يأتي الله بأمره " [ البقرة : 109 ] .
الثامن : القيامة ، قال الله تعالى : " أتي أمر الله " [ النحل : 1 ] .
التاسع : القضاء : قال الله تعالى [ يدبر الأمر ] [ يونس : 31 ] يعني القضاء
العاشر : الوحي ، قال الله تعالى : " يدبر الأمر من السماء إلى الأرض " [ السجدة : 5 ] . يقول : ينزل الوحي من السماء إلى الأرض ، وقوله : " يتنزل الأمر بينهن " [ الطلاق : 12 ] . يعني الوحي .
الحادي عشر : أمر الخلق ، قال الله تعالى : " ألا إلى الله تصير الأمور " [ الشورى : 53 ] يعني أمور الخلائق .
الثاني عشر : النصر ، قال الله تعالى : " يقولون هل لنا من الأمر من شيء " [ آل عمران : 154 ] يعنون النصر ، : " قل إن الأمر كله لله " [ آل عمران : 154] يعني النصر .
الثالث عشر : الذنب ، قال الله تعالى : " فذاقت وبال أمرها " [ الطلاق : 9 ] يعني جزاء ذنبها .
الرابع عشر : الشأن والفعل ، قال الله تعالى : " وما أمر فرعون يرشيد "

(6/29)


[ هود : 97 ] أي فعله وشأنه ، وقال : " فليحذر الذين يخالفون عن أمره " ] النور : 63 ] أي فعله .
وقال أبو الحسن الماوردي فإن قيل : ففي أي حال يقول له كن فيكون ؟ أفي حال عدمه أم في حال وجوده ؟ فإن كان في حال عدمه استحال أن يأمر إلا مأموراً ، كما يستحيل أن يكون الأمر إلا من آمر ، وإن كان في حال وجوده فتلك حال لا يجوز أن يأمر فيهما بالوجود والحدوث ، لأنه موجود حادث ؟ قيل عن هذا السؤال أجوبة ثلاثة :
أحدها : أنه خبر من الله تعالى عن نفوذ أوامره في خلقه الموجود ، كما أمر في بني إسرائيل أن يكونوا قردة خاسئين ، ولا يكون هذا وارداً في إيجاد المعدومات .
الثاني : أن الله عز وجل عالم بما هو كائن قبل كونه ، فكانت الأشياء التي لم تكن وهي كائنة بعلمه قبل كونها مشابهة للتي هي موجودة ، فجاز أن يقول لها : كوني . ويأمرها بالخروج من حال العدم إلى حال الوجود ، لتصور جميعها له ولعلمه بها في حال العدم .
الثالث : أن ذلك خبر من الله تعالى عام عن جميع ما يحدثه ويكونه إذا أراد خلقه وإنشاءه كان ، ووجد من غير أن يكون هناك قول يقوله ، وإنما هو قضاء يريده ، فعبر عنه بالقول وإن لم يكن قولاً ، كقول أبي النجم :

قد قالت الأتساع للبطن الحق
ولا قول هناك ، وإنما أراد أن الظهر قد لحق بالبطن ، وكقول عمرو بن حممة الدوسي :
فأصبحت مثل النسر طارت فراخه … إذا رام تطياراً يقال له قع

وكما قال الآخر :
قال جناحاه لساقيه الحقا… ونجيا لحكمكما أن يمزقا(1)أهـ

قوله تعالى {إِنَّآ أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بشيرا ونذيرا...}

قال ابن عرفة قوله تعالى :
{إِنَّآ أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بشيرا ونذيرا...}
__________
(1) - القرطبي حـ2 صـ61 ، 62 ، 63

(6/30)


الظاهر أن المعجزات هي المراد. وقدم البشارة على النذارة ؛ لأنّ القاعدة في محاولة الأمور الصعبة أن يبدأ فيها بالتلطّف والتيسير ليكون أدعى للقبول , كما إذا كان لك جمل معك وأردت أن تدخله موضعا فإنك تسايسه بربيع تطعمه له أو تفتل شعره أو نحو ذلك, كما قال {فَقُولاَ لَهُ قَوْلاً لَّيِّناً} أهـ [تفسير ابن عرفة حـ 1 صـ291]

قوله تعالى " ولا تسأل عن أصحاب الجحيم "

أقوال العلماء فى الآية الكريمة
قال السمعاني(1) : [ ولا تسأل ] قرئ بقراءتين " ولا تُسألُ - ولا نَنسْأَلْ "
فأما قوله " ولا تَسألْ " يعني أرسلناك غير مسئول عن حال الكفار ، وذلك مثل قوله " فإنما عليك البلاغ وعلينا الحساب " [ الرعد : 40 ] وقرأ ابن مسعود وما تسأل ، وقرأ أبي بن كعب " ولن تسأل " ومعنى الكل واحد .
وأما قوله " ولا تسأل " له معنيان :
أحدهما أنه على معنى قولهم : لا تسأل عن شر فلان فإنه فوق ما تحب ، وقيل : هو على النهى ، وسببه ما روى محمد بن كعب القرظي : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ليت شعري ما فعل أبواي ، فنزل قوله تعالى : " ولا تسأل عن أصحاب الجحيم (2) . أ هـ .
وقد ذكر هذه الرواية أيضا الماوردى فى النكت والعيون جـ1 صـ181 ولم يعلق عليها .
__________
(1) تفسير السمعاني حـ1 صـ132
(2) - هذه رواية ضعيفة ولا تصح كما سنبين لاحقاً إن شاء الله .

(6/31)


وقال الواحدي (1) : " ولا تسأل عن أصحاب الجحيم " أي لست بمسؤول عنهم ، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم – قال لو أن الله عز وجل : أنزل بأسه باليهود لآمنوا (2) فأنزل الله تعالى هذه الآية أي ليس عليك من شأنهم عهدة ولا تبعة أهـ .
وقال الثعالبي في قوله تعالى : " ولا تسأل " [ بالجزم ] ما نصه :
وتحتمل هذه القراءة معنى آخر وهو – والله أعلم – أظهر ، أي لا تسأل عنهم سؤال مكترث بما أصابهم ، أو بما هم عليه من الكفر الذي يوردهم الجحيم نظير قوله عز وجل " فلا تذهب نفسك عليهم حسرات " [ فاطر : 8 ] وأما روى عن محمد بن كعب القرظي ومن وافقه من أن النبي صلى الله عليه وسلم – سأل ما فعل أبواي ؟ فنزلت الآية في ذلك فهو بعيد ، ولا يتصل أيضاً بمعنى ما قبله(3) أهـ .

وقال البيضاوي (4) : وقرأ نافع ويعقوب " ولا تسأل " على أنه نهى للرسول صلى الله عليه وسلم عن السؤال عن حال أبويه أو تعظيم لعقوبة الكفار ، كأنها لفظاعتها لا يقدر أن يخبر عنها أو السامع لا يصبر على استماع خبرها فنهاه عن السؤال . أهـ .
وقال ابن عطية(5) : وحكى المهدوي – رحمه الله – أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ليت شعرى .
أي أبوى أحدث موتاً ؟ فنزلت .
قال القاضي أبو محمد : وهذا خطأ ممن رواه أو ظنه ، لأن أباه مات وهو في بطن أمه . أهـ .
__________
(1) - تفسير الواحدي حـ1 صـ129
(2) - لا يخفى ما في هذه الرواية من البعد ، ولو تمنى ذلك النبي صلى الله عليه وسلم لليهود لتمناه لقومه من باب أولى في مرحلة مكة ، وقد كان يحزن ويتألم كثيراً لعدم إيمان القوم وما طلب ذلك أبداً ، ثم هذا الكلام قد يتعارض ولو من وجه مع قوله تعالى : " لا إكراه في الدين " والله أعلم بالصواب .
(3) - تفسير الثعالبي حـ1 صـ103
(4) - تفسير البيضاوي حـ صـ 392
(5) - المحرر الوجيز حـ1 صـ203

(6/32)


وقال ابن كثير بعد أن ذكر أن ابن جرير رحمه الله – رد رواية محمد بن كعب القرظي وغيره ، لاستحالة الشك من رسول الله صلى الله عليه وسلم في أمر أبويه ، واختياره القراءة الأولى " ولا تسأل " قال ما نصه :
(1) وهذا الذي سلكه فيه نظر لاحتمال أن هذا كان في حال استغفاره لأبويه قبل أن يعلم أمرهما ، فلما علم ذلك تبرأ منهما وأخبر عنهما أنهما من أهل النار ، كما ثبت في الصحيح (2) أهـ .
وقد ذكر الفخر الرازي (3) الرواية السابقة وقال إنها بعيدة لأنه عليه الصلاة والسلام كان عالماً بكفرهم ، وكان عالماً بأن الكافر معذب ، فمع هذا العلم كيف يمكن أن يقول : ليت شعرى ما فعل أبواي(4)
__________
(1) - تفسير ابن كثير حـ صت 211

(2) - هذا الكلام فيه نظر ، فمتى تبرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم من أبويه ، فإن أراد بهذا الكلام قياس والدي رسول الله صلى الله علية وسلم على والد سيدنا إبراهيم ، فالقياس فاسد ، لأنه قياس مع الفارق وهو لا يصح ، لأن والد الخليل عليه السلام – قد بلغته دعوة الخليل عليه السلام ، ولم يؤمن بل توعده كما في قوله تعالى " لئن لم تنته لأرحمنك وهذا بخلاف حال والدى رسول الله صلى الله عليه وسلم اللذين ماتا قبل ببعثته صلى الله عليه وسلم . وسيأتي بيان شاف وكاف إن شاء الله لهذا الموضوع عند الكلام عن قوله تعالى " وما كنا معذبين حتى نبعث رسولاً " [ الإسراء : 15 ] .
(3) - التفسير الكبير حـ4 صـ29
(4) - علق المحقق على هذا الكلام بقوله : هذا كلام تقشعر منه جلود المؤمنين ، ويرفضه من كان في عداد المسلمين وهو خطأـ صريح ، والصواب أن أصحاب الجحيم هم اليهود والنصارى المذكورين في الآيات السابقة ، وهذا هو الموافق لنظم الكتاب الكريم وهو مارجحه أبو حيان في تفسيره ، وتوجد مؤلفات عدة لكثير من علماء المتقدمين والمتأخرين في نجاة الأبوين أه، . هامش التفسير الكبير حـ4 صـ29 .

وقد ذكر هذه الرواية كثير من المفسرين دون تعليق منهم . الزمخشري في الكشاف حـ1 صـ181 ، ومنهم ابن الجوزى في زاد المسير حـ1 صـ 137 ، ومنهم السمرقندي في بحر العلوم حـ1 صـ 115 ومنهم البيضاوي حـ1 صـ392 ومنهم النسفى حـ1 صـ68 ، ومنهم السمعاني حـ1 صـ132 والواحدي حـ1 صـ129 ، ومنهم الصنعاني حـ1 صـ77 ، ومنهم ابن جزى في التسهيل حـ1صـ59 .
وقد رد هذه الرواية كثير من المحققين من العلماء والمفسرين منهم القرطبي رحمه الله حـ2 صـ64 ، وأبو السعود حـ1 صـ152 ، والآلوسى حـ1 صـ371 ، والثعالبي حـ1 صـ103 ، والخطيب الشربيني في السراج المنير حـ1 صـ89 . وغيرهم وسيأتي كلامهم إن شاء الله تعالى . أهـ .

(6/33)


. أهـ .
وقال الخطيب الشربيني (1) قال عطاء عن ابن عباس ، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ذات يوم : ليت شعري ما فعل أبواي ؟ فنزلت هذه الآية ، فنهى عن السؤال عن أحوال الكفرة ، والاهتمام بأعداء الله تعالى ، والخبر ضعيف ، والمختار أنها نزلت في كفار أهل الكتاب . أ هـ .
وقال أبو السعود (2) : وقرئ " ولا تَسْأَلْ " على صيغة النهى إيذانا بكمال شدة عقوبة الكفار وتهويلا لها كأنها لغاية فظاعتها لا يقدر المخبر على إجرائها على لسانه أو لا يستطيع السامع أن يسمع خبرها ، وحمله على نهى النبي عن السؤال عن حال أبويه مما لا يساعده النظم الكريم أ هـ .
وقال فى التحرير والتنوير حـ1 صـ 398 ما نصه :وما قيل إن الآية نزلت في نهيه صلى الله عليه وسلم عن السؤال عن حال أبويه في الآخرة فهو استناد لرواية واهية ولو صحت لكان حمل الآية على ذلك مجافيا للبلاغة إذ قد علمت أن قوله ( إنا أرسلناك ) تأنيس وتسكين فالإتيان معه بما يذكر المكدرات خروج عن الغرض وهو مما يعبر عنه بفساد الوضع. انتهى كلامه.

__________
(1) السراج المنير حـ1 ص89
(2) تفسير أبي السعود حـ1 ص152

(6/34)


وقال البقاعى :
والمراد بهم من ذكر في الآية السابقة من الجهلة ومن قبلهم ، أي عن أعمالهم لتذهب نفسك عليهم حسرات لعدم إيمانهم ، كما قال تعالى { ولا تسألون عما كانوا يعملون } [ البقرة : 141 ] أي فحالك مستو بالنسبة إلينا وإليهم . لأنك إن بلغتهم جميع ما أرسلت به إليهم لم نحاسبك بأعمالهم ، وإن تركت بعض ذلك محاسنة لهم لم يحبّوك ما دمت على دينك فأقبل على أمرك ولا تبال بهم ، وهو معنى قراءة نافع { ولا تسأل } على النهي ، أي احتقرهم فإنهم أقل من أن يلتفت إليهم ، فبلغهم جميع الأمر فإنهم لا يحبونك إلا إذا انسخلت مما أنت عليه؛ وفي الحكم بكونهم أصحابها إثبات لما نفوه عن أنفسهم بقوله : { لن تمسنا النار } [ البقرة : 80 ] ونفى لما خصصوا به أنفسهم في قولهم : { لن يدخل الجنة } [ البقرة : 111 ] الآية. أهـ [نظم الدرر حـ 1 صـ 175] وقال الآلوسي عن هذه الرواية ما نصه :
" لا يخفى بعد هذه الرواية ، لأنه صلى الله عليه وسلم كما في [المنتخب] عالم بما آل إليه أمرهما ، وذكر الشيخ ولي الدين العراقي أنه لم يقف عليها ، وقال الإمام السيوطي : لم يرد في هذا إلا أثر معضل ضعيف الإسناد ، فلا يعول عليه ، والذي يقطع به أن الآية في كفار أهل الكتاب ، كالآيات السابقة عليها والتالية لها - لا في أبويه صلى الله عليه وسلم ، ولتعارض الأحاديث في هذا الباب ، وضعفها .
وقال السخاوي : الذي ندين لله تعالى به الكف عنهما وعن الخوض في أحوالهما ، والذي أدين لله تعالى به أنا : أنهما ماتا موحدين في زمن الكفر ، وعليه يحمل كلام الإمام أبي حنيفة - رضي الله عنه - إن صح (1) . أ هـ
__________
(1) روح المعاني حـ1 ص371

(6/35)


وقال صاحب المنار جـ1 صـ264 ما نصه : وزعم بعض المفسرين أن النهى على حقيقته ، وأنه خاص بنهى النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن السؤال عن أبويه ، ورووا فى ذلك أنه سأل جبريل عن قبريهما فدله عليهما فزارهما ودعا لهما وتمنى لو يعرف حالهما فى الآخرة وقال : ليت شعرى ما فعل أبواى ؟ فنزلت الآية فى ذلك . والحديث قال الحافظ العراقى : إنه لم يقف عليه ، وقال السيوطى : لم يرد فى ذلك إلا أثر معضل ضعيف الإسناد
قال الأستاذ الإمام : وقد فشا هذا القول ، ولولا ذلك لم نذكره ، وإنما نريد بذكره التنبيه على أن الباطل صار يفشو فى المسلمين بضعف العلم ، والصحيح يهجر وينسى ، ولا شك أن مقام النبى ـ عليه الصلاة والسلام ـ فى معرفة أسرار الدين وحكم الله فى الأولين والآخرين ينافى صدور مثل هذا السؤال عنه ، كما أن أسلوب القرآن يأبى أن يكون هو المراد منه.أهـ .
وقال الشيخ محمد الغزالي – رحمه الله – في كتابه [السنة النبوية بين أهل الفقه وأهل الحديث / ص144-145] .
وقد غاظني أن أحدهم كان يطير في المجامع بحديث " أبي وأبوك في النار " وكأنما يسوق البشرى إلى المسلمين وهو يشرح لهم كيف أن أبوي رسولهم صلى الله عليه وسلم في النار !!

(6/36)


قلت : قبحك الله من داع أعمى البصيرة : ما لديك شيء من فقه الإسلام ولا من أدب الدعوة ، ومثلك لا يزيد الأمة إلا خبالاً باسم السنة ، والسنة منك براء ثم قال :"قال الشيخ القرضاوي في شرح حديث "أبي وأبوك في النار" أن الأب قد يطلق لغة واصطلاحاً على العم (1) ، فلعل المقصود بالأب هنا عمه أبو طالب . ذلك أن أبا طالب عرضت عليه كلمة التوحيد قبل أن يموت فأبى أن ينطلق بها ، وقد سمعت بأذني من يقول : الحديث صحيح وهو يخصص عموم الآية (2) ، فأهل الفطرة ناجون جميعاً - عدا عبد الله بن عبد المطلب... !!
قلت له : ماذا فعل حتى يستحق وحده النار ؟ كان عبد الله شاباً شريفاً عنيفاً حكى عنه التاريخ ما يزينه ! ولم يحك عنه ما يشينه ! والآية خبر لا يحتمل استثناء ، فما حماسكم في تعذيب عبد الله ؟ وما جريكم هنا وهناك بهذه الشائعة ؟ وماذا وراء تأكيدكم أن أبوي الرسول صلى الله عليه وسلم - في النار ..!
إنني أشم رائحة النيل منه في هذا الحماس الأعمى. أ هـ .

__________
(1) كأنه يشير إلى قوله تعالى " قالوا نعبد إلهك وإله آبائك إبراهيم وإسماعيل وإسحاق " [ البقرة :133] ومعلوم أن إسماعيل كان عماً ليعقوب - عليهما السلام - وهذا الرأي وجيه جداً ويجب أن يحمل عليه الحديث السابق جمعاً بين الأدلة وصيانة لها عن التعارض . وأيضاً فتأويل الحديث ليوافق الكتاب أولى من تأويل الكتاب ليوافق السنة . خصوصاً ومذهب البعض في التأويل واضح ومشهور والله أعلم .
(2) لعله يقصد قوله تعالى " وما كنا معذبين حتى نبعث رسولاً " [الإسراء :15]

(6/37)


فائدة
سئل القاضي أبو بكر ابن العربي أحد الأئمة المالكية عن رجل قال : إن آباء النبي ــ عليه السلام ــ في النار ، فأجاب بأنه ملعون ؛ لأن الله تعالى يقول : { إِن الَذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَه لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِى الدُّنْيَا والآخِرةِ } (الأحزاب: 57) وفي الحديث «لا تؤذوا الأحياء بسبّ الأموات» وسئل الإمام الرستغفي عن قول بعض الناس عن آدم ــ عليه السلام ــ لما بدت منه تلك الزلة أسود منه جميع جسده ، فلما أهبط إلى الأرض أمر بالصيام والصلاة ، فصام وصلى فابيض جسده ، أيصح هذا القول ؟
قال : لا يجوز في الجملة القول في الأنبياء ــ عليهم السلام ــ بشيء يؤدي إلى العيب والنقصان فيهم ، وقد أمرنا بحفظ اللسان عنهم ؛ لأن مرتبتهم أرفع ، وهم على الله أكرم ، وقد قال عليه السلام : «إذا ذكر أصحابي فأمسكوا» فلما أمرنا أن لا نذكر الصحابة ــ رضي الله عنهم ــ بشيء يرجع إلى العيب والنقص ، فلأن نمسك ونكف عن الأنبياء أولى وأحق فحق المسلم أن يمسك لسانه عما يخل بشرف نسب نبينا ــ عليه السلام ــ وليست من الاعتقاديات فلاحظ للقلب منها ، وأما اللسان ، فحقه أن يصان عما يتبادر منه النقصان ، خصوصاً إلى وهم العامة ، لأنهم لا يقدرون على دفعه وتداركه ، فهذا هو البيان الشافي في هذا الباب بطرقه المختلفة التقطته من الكتب النفيسة وقرنت كل نظير إلى مثله والحمد لله تعالى وحده. أهـ [ روح البيان حـ1 صـ395 ].

كلام نفيس للشيخ الشنقيطي رحمه الله ـ فى هذا الموضع
قال رحمه الله ما ملخصه :
وكل ما ذكر في هذه الرواية يتعارض مع صريح القرآن الكريم مثل قوله تعالى " وما كنا معذبين حتى نبعث رسولاً " [الإسراء :15] وقوله " لتنذر

(6/38)


قوماً ما أنذر آباؤهم فهم غافلون " [يس :6 ] وقوله تعالى " كلما ألقي فيها فوج سألهم خزنتها ألم يأتكم نذير قالوا بلى ..." [الملك :8] وقوله تعالى " ولكن رحمة من ربك لتنذر قوماً ما أتاهم من نذير من قبلك لعلهم يتذكرون " [القصص :46 ] وقوله تعالى " وما آتيناهم من كتب يدرسونها وما أرسلنا إليهم قبلك من نذير " [سبأ :44] وقوله تعالى " رسلاً مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل " [النساء :165 ] وقوله تعالى " ولو أنا أهلكناهم بعذاب من قبله لقالوا ربنا لولا أرسلت إلينا رسولاً فنتبع آياتك من قبل أن نذل ونخزى " [طه :134 ] فهذا كله يجب تقديمه على أخبار الآحاد الدالة على تعذيب أهل الفترة ، وقد صرحت بعض الأحاديث أنهم يمتحنون يوم القيامة كما ذكره ابن كثير – رحمه الله – عند تفسيره لقوله تعالى في سورة الإسراء " وما كنا معذبين حتى نبعث رسولاً " (1) . أ هـ .
ذكر الإمام السيوطي رحمه الله – في الدر المنثور طائفة من الأحاديث التي تؤيد الرأي السابق الذي رجحه الشيخ الشنقيطي رحمه الله – منها :
__________
(1) هذا ملخص كلام الشيخ الشنقيطي ـرحمه الله ـ في تفسيره أضواء البيان حـ3 ص66،65 عند الكلام على قوله تعالى " وما كنا معذبين حتى نبعث رسولاً" ثم قال ما ملخصه : ومنهم من ذهب إلى أنهم يمتحنون يوم القيامة في عرصات المحشر فمن أطاع دخل الجنة ، وانكشف علم فيه بسابق السعادة ، ومن عصى دخل النار داخراً وانكشف علم الله فيه بسابق الشقاوة ، وهذا القول يجمع بين الأدلة كلها ، وقد صرحت به الأحاديث المتقدمة المتعاضدة الشاهد بعضها لبعض ، وهذا القول هو الذي حكاه الشيخ أبو الحسن علي بن إسماعيل الأشعري عن أهل السنة والجماعة وهو الذي نصره الحافظ أبو بكر البيهقي في كتاب [الاعتقاد] وكذلك غيره . انتهى كلامه .

(6/39)


أخرج عبد الرزاق وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: إذا كان يوم القيامة جمع الله أهل الفترة ، المعتوه والأصم والأبكم والشيوخ الذين لم يدركوا الإسلام ، ثم أرسل إليهم رسولاً أن ادخلوا النار فيقولون كيف ولم تأتنا رسل ، قال: وأيم الله لو دخلوها لكانت عليهم برداً وسلاماً ، ثم يرسل إليهم ، فيطيعه من كان يريد أن يطيعه ، قال أبو هريرة رضي الله عنه : اقرؤوا إن شئتم " وما كنا معذبين حتى نبعث رسولاً " .
وأخرج إسحاق بن راهويه وأحمد وابن حيان وأبو نعيم في المعرفة والطبراني وابن مردويه والبيهقي في كتاب الاعتقاد عن الأسود بن سريع رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : أربعة يحتجون يوم القيامة : رجل أصم لا يسمع شيئاً ، ورجل أحمق ، ورجل هرم ، ورجل مات في الفطرة ، فأما الأصم فيقول : رب لقد جاء الإسلام وما أسمع شيئاً ، وأما الأحمق فيقول : رب جاء الإسلام والصبيان يحذفونني بالبعر ، وأما الهرم فيقول : رب لقد جاء الإسلام وما أعقل شيئاً ، وأما الذي مات في الفطرة فيقول : رب ما أتاني لك رسول ، فيأخذ مواثيقهم ، ويرسل إليهم رسولاً : أن ادخلوا النار قال : فوالذي نفس محمد بيده لو دخلوها لكانت عليهم برداً وسلاماً ، ومن لم يدخلها سحب إليها .
وأخرج بن راهويه وأحمد وابن مردويه والبيهقي عن أبي هريرة رضي الله عنه مثله غير أنه قال في آخره : فمن دخلها كانت عليه برداً وسلاماً ، ومن لم يدخلها سحب إليها .

(6/40)


وأخرج الحكيم الترمذي في نوادر الأصول ، والطبراني وأبو نعيم عن معاذ بن جبل رضي الله عنه عن رسول صلى الله عليه وسلم قال : يؤتى يوم القيامة بالممسوخ عقلاً ، وبالهالك في الفترة وبالهالك صغيراً ، فيقول الممسوخ عقلاً : يا رب لو آتيتني عقلاً ما كان من آتيته عقلاً بأسعد بعقله مني ، ويقول الهالك في الفترة : رب لو أتاني منك عهد ما كان من أتاه منك عهد بأسعد بعهدك مني ، ويقول الهالك صغيراً : يا رب لو آتيتني عمراً ما كان من آتيته عمراً بأسعد بعمره مني ، فيقول الرب تبارك وتعالى لهم : اذهبوا فادخلوا جهنم ، ولو دخلوها ما ضرتهم شيئاً ، فخرج عليهم قوابض من نار يظنون أنها قد أهلكت ما خلق الله من شيء فيرجعون سراعاً ويقولون : يا ربنا خرجنا وعزتك نريد دخولها ، فخرجت علينا قوابض من نار ، ظننا أن قد أهلكت ما خلق الله من شيء ، ثم يأمرهم ثانية كذلك ، ويقولون كذلك ، فيقول الرب : خلقتكم على علمي ، وإلى علمي تصيرون ضميهم فتأخذهم النار .
وأخرج ابن أبي شيبة عن أبي صالح رضي الله عنه قال : يحاسب يوم القيامة الذين أرسل إليهم فيدخل الله من أطاعه الجنة ، ويدخل النار من عصاه ، ويبقى قوم من الولدان والذين ماتوا في الفترة فيقول : وإني آمركم أن تدخلوا هذه النار ، فيخرج لهم عنق منها ، فمن دخلها كانت نجاته ، ومن نكص فلم يدخلها كانت هلكته . أ هـ . وانظر الدر المنثور حـ5 ص254:252
________________________________________________

(6/41)


تعليق
والأولى في هذا الأمر وما شابهه أن نفوض الأمر فيه إلى صاحب الخلق والأمر [ ألا له الخلق والأمر تبارك الله رب العالمين ] فالخلق لله والأمر لله والحكم لله [ إن الحكم إلا لله ] وهو عز اسمه يصيب برحمته من يشاء ومن حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه فإن كان هذا واجباً في حق البشر فكيف يسوغ لعاقل فضلاً عن فاضل أن يحكم في أمر مرده إلى صاحب الخلق والأمر ، فإذا وجب مراعاة الأدب مع الخلق فهو مع الله عز وجل أوجب وأعظم .
وسيأتي إن شاء الله تفصيل هذه المسألة وذكر خلاف العلماء فيها عند الكلام عن قوله تعالى " وما كنا معذبين حتى نبعث رسولاً " [الإسراء :15]
والله أعلم وأحكم وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين
انتهى الجزء الأول
بحمد الله ومنه وتوفيقه

الفهرس

الموضوع
الصفحة

1
2
3
4
5
6
7
8
9
10
11
12
13
14
15
16
17
18
19
20
مقدمة
ذاقوا حلاوة القرآن فقالوا
تحدثوا عن التفسير فقالوا
هكذا صنع بهم القرآن
فائدة في عدد سور القرآن وآياته وكلماته وحروفه
فائدة في نزول القرآن
فائدة في تفصيل حروف القرآن
أسباب اختلاف المفسرين
التنبيه على أحاديث وضعت في فضل سورة القرآن وغيره
فائدة في فهم القرآن
باب ما جاء في فضل تفسير القرآن وأهله
فائدة في تنزيه ساحة القرآن عن التعارض
فوائد في الاستعاذة
من لطائف الاستعاذة
من لطائف البسملة
من لطائف لفظ الجلالة
فائدة في أن لفظ الجلالة علم لا مشتق
هل يجوز إطلاق لفظ الموجود على الله ؟
فائدة لغوية
الرحمن الرحيم
2
9
13
19
20
23
24
25
28
31
34
35
37
38
40
42
43
43
45
46

م
الموضوع
الصفحة

21
22
23
24
25
26
27
28
29
30
31
32
33
34
35
36
37
38
39
40
41
42
من لطائف هذين الاسمين الجليلين
وجه غريب
من لطائف البسملة
سورة الفاتحة
أسماء سورة الفاتحة
الحمد لله
الفرق بين الحمد والشكر والمدح
فوائد ولطائف في الحمد
طبقات الحامدين
قوله تعالى ( رب العالمين )
فائدة
لطيفة
من اللطائف والأسرار

(6/42)


قوله تعالى ( الرحمن الرحيم )
قوله تعالى ( مالك يوم الدين )
لطيفة
إياك نعبد وإياك نستعين
من أسرار الالتفات في الآية الكريمة
فائدة
قوله تعالى ( اهدنا الصراط المستقيم )
ما المراد بالصراط المستقيم ؟
الصراط المستقيم
46
47
48
52
53
54
56
56
58
61
62
62
63
65
66
67
70
75
75
76
78
79

م
الموضوع
الصفحة

43
44
45
46
47
48
49
50
51
52
53
54
55

56
57
58
59
60
61
62
63
لم قدم الحمد والثناء على الدعاء ؟
منازل الهداية
فائدة
فائدة في مراتب الهداية الخاصة والعامة
فائدة في تعدية الفعل ( اهدنا ) بنفسه
فائدة في معاني الهدى في القرآن
قوله تعالى ( صراط الذين أنعمت عليهم )
فائدة
لم قال ( أنعمت عليهم ) ولم يقل المنعم عليهم
قوله تعالى ( غير المغضوب عليهم )
فائدة جليلة
ما فائدة زيادة ( لا ) بين المعطوف والمعطوف عليه
لم أتي في أهل الغضب باسم المفعول وفي ( الضالين ) باسم الفاعل
فائدة
فائدة
فائدة في عصمة الأنبياء والملائكة – عليهم السلام
لم قدم ( المغضوب عليهم ) على ( الضالين ) ؟
آمين
سورة البقرة
من لطائف فواتح السور
قوله تعالى ( لا ريب فيه )
81
82
84
85
87
87
89
89
91
94
95
96
97

98
99
99
99
101
103
103
106

م
الموضوع
الصفحة

64
65
66
67
68
69
70
71
72
73
74
75
76
77
78
79
80
81
82
83
84
85
الفرق بين الريب والشك
هدى للمتقين
فائدة في معاني التقوى في القرآن
لطائف في التقوى والورع
فصل في التقوى والبواعث عليها ودرجاتها
من لطائف قوله تعالى ( هدى للمتقين )
قوله تعالى ( ومما رزقناهم ينفقون )
لطائف فى الإنفاق
قوله تعالى ( أولئك على هدى من ربهم )
كلام نفيس للإمام الزمخشري
قوله تعالى ( إن الذين كفروا سواء عليهم .. الآية )
كلام نفيس عن الكفر ومعانيه
وجه مردود
قوله تعالى ( ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم..الآية)
لطيفة
فائدة
قوله تعالى ( وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض..الآية)
قوله تعالى ( الله يستهزئ بهم )

(6/43)


قوله تعالى ( مثلهم كمثل الذي استوقد ناراً )
قوله تعالى ( أو كصيب من السماء .. الآية )
يجعلون أصابعهم في آذانهم
فائدة
108
109
110
110
111
113
119
119
120
121
120
123
133
133
133
135
137
139
142
153
156
157

م
الموضوع
الصفحة

86
87
88
89

90
91
92
93
94
95
96
97
98
99
100
101
102
103
104

105
قوله تعالى ( يا أيها الناس اعبدوا ربكم )
فائدة في وجوه المخاطبات والخطاب في القرآن
لطيفة
قوله تعالى ( وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا .. الآية )
لطائف وفوائد
بحث نفيس في إعجاز القرآن
التحدي بمن أنزل عليه القرآن
تحدي القرآن بعدم الاختلاف فيه
التحدي بالبلاغة
من أقوال العلماء في وجوه إعجاز القرآن
قوله تعالى ( فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا .. الآية )
قوله تعالى ( وبشر الذين آمنوا وعملوا الصالحات ..الآية)
لطيفة
قوله تعالى ( إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلا ما ..الآية)
قوله تعالى ( يضل به كثيراً ويهدي به كثيراً )
تضرع وابتهال
قوله تعالى ( هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعاً )
لطيفة في ( ثم )
قوله تعالى ( وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة )
لطيفة
159
162
171
172

176
177
180
181
183
185
191
194
201
203
206
207
208
210
214

215

م
الموضوع
الصفحة

106
107
108
109
110
111
112
113
114
115
116

117
118
119
120
121
122
123
124

125
لطيفة في التسبيح
قوله تعالى ( قال إني أعلم مالا تعلمون )
من لطائف الإمام القشيري في الآية الكريمة
قوله تعالى ( وعلم آدم الأسماء كلها )
قوله تعالى ( قالوا سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا )
قوله تعالى ( إنك أنت العليم الحكيم )
لطائف في فضل العلم
من ملح العلم
لص فقيه مناظر
قوله تعالى ( قال يا آدم أنبئهم بأسمائهم )
قوله تعالى ( وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا .. الآية )
قوله تعالى ( أبى واستكبر )
( وكان من الكافرين )
وقفه مع الإمام القرطبي
تعليق
فائدة
لطيفة

(6/44)


قوله تعالى ( وقلنا يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة ..الآية)
هل الجنة التي أسكنها آدم ـ عليه السلام – سماوية أو أرضية ؟
تعليق
223
226
228
229
232
233
234
235
239
242
245

249
252
253
256
257
258
259
262

263

م
الموضوع
الصفحة

126
127
128
129
130
131
132
133
134
135
136
137
138
139
140

141
142
143
144
145
146
قوله تعالى ( ولا تقربا هذه الشجرة )
( فتكونا من الظالمين )
قوله تعالى ( فأزلهما الشيطان عنها )
أقوال مردودة وردت في قصة آدم – عليه السلام ـ
قوله تعالى ( وقلنا اهبطوا بعضكم لبعض عدو )
قوله تعالى ( ولكم في الأرض مستقر ومتاع إلى حين )
لطيفة في لفظ ( الحين )
فائدة
موعظة
قوله تعالى ( فتلقى آدم من ربه كلمات )
قوله تعالى ( إنه هو التواب الرحيم )
فوائد جليلة
لطيفة
بحث نفيس في عصمة الأنبياء
قوله تعالى ( يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم .. الآية )
لطيفة
لطيفة ثانية
قوله تعالى ( وأوفوا بعهدي أوف بعهدكم )
( وإياي فارهبون )
قوله تعالى ( ولا تكونوا أول كافر به )
قوله تعالى(وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة واركعوا مع الراكعين)
266
269
271
275
275
278
279
280
280
281
282
283
284
285
292

294
294
296
296
298
301

م
الموضوع
الصفحة

147
148
149
150
151
152
153
154
155
156
157
158
159
160
161
162
163
164
165
166
167
168
قوله تعالى (واستيعنوا بالصبر والصلاة )
قوله تعالى ( وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين )
قوله تعالى ( الذين يظنون أنهم ملاقو ربهم )
قوله تعالى ( وأنهم إليه راجعون )
قوله تعالى ( وأني فضلتكم على العالمين )
قوله تعالى ( واتقوا يوماً لا تجزى نفس عن نفس شيئاً )
قوله تعالى ( ولا يقبل منها شفاعة )
قوله تعالى ( ولا هم ينصرون )
بحث نفيس في الشفاعة
ما هي الشفاعة
قوله تعالى ( يذبحون أبناءكم ويستحيون نساءكم )
قوله تعالى ( وفي ذلكم بلاء من ربكم عظيم )

(6/45)


من لطائف الإمام القشيري في الآية الكريمة
لطائف في قوله تعالى ( وإذ فرقنا بكم البحر )
قوله تعالى ( وإذ واعدنا موسى أربعين ليلة )
قوله تعالى ( ثم اتخذتم العجل من بعده وأنتم ظالمون )
قصة عبادة بني إسرائيل للعجل
أسئلة وأجوبة
قوله تعالى ( وأنزلنا عليكم المن والسلوى )
قوله تعالى ( ولكن كانوا أنفسهم يظلمون )
قوله تعالى ( وقولوا حطة )
قوله تعالى ( وسنزيد المحسنين )
302
304
307
309
311
312
313
315
316
318
324
326
327
327
328
330
330
332
334
334
334
334

م
الموضوع
الصفحة

169
170
171
172

173
174
175
176
177
178

179

180
181
182
183
184

185

قوله تعالى ( فبدل الذين ظلموا قولا غير الذي قيل لهم .. الآية
قوله تعالى( فأنزلنا على الذين ظلموا رجزاً من السماء ..الآية)
سؤالات
قوله تعالى ( وإذ استسقى موسى لقومه فقلنا اضرب بعصاك الحجر )
الأقوال في الحجر
قوله تعالى ( كلوا واشربوا من رزق الله )
قوله تعالى ( ولا تعثوا في الأرض مفسدين )
قوله تعالى ( وإذ قلتم يا موسى لن نصبر على طعام واحد )
قوله تعالى ( ويقتلون النبيين بغير الحق )
قوله تعالى ( إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين .. الآية )
قوله تعالى ( فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون )
قوله تعالى ( فقلنا لهم كانوا قردة خاسئين )
الإشارة إلى قصة مسخهم
قوله تعالى ( فجعلناها نكالا لما بين يديها وما خلفها )
قوله تعالى ( فقلنا اضربوه ببعضها )
قوله تعالى( كذلك يحي الله الموتى ويريكم آياته لعلكم تعقلون)
قصة البقرة
قوله تعالى ( ثم قست قلوبكم من بعد ذلك فهي كالحجارة أو أشد قسوة )
335
336
237
340

340
343
344
346
347
350

355

358
358
360
360
361
361
362

م
الموضوع
الصفحة

186
187

188
189
190
191
192
193
194
195
196
197
198
199
200
201
202
203
204
205
206
قوله تعالى ( وقالوا لن تسمنا النار إلا أياماً معدودة )

(6/46)


قوله تعالى ( قل أتخذتم عند الله عهداً أم تقولون على الله ما لا تعلمون )
قوله تعالى ( وإذا أخذنا ميثاق بني إسرائيل لا تعبدون إلا الله)
قوله تعالى ( وقولوا للناس حسنا )
قوله تعالى ( ففريقا كذبتم وفريقاً تقتلون )
قوله تعالى ( وقالوا قلوبنا غلف )
قوله تعالى ( فقليلا ما يؤمنون )
قوله تعالى ( قل فلم تقتلون أنبياء الله من قبل إن كنتم مؤمنين )
قوله تعالى ( سمعنا وعصينا )
قوله تعالى ( ولن يتمنوه أبداً )
قوله تعالى ( ومن الذين أشركوا )
قوله تعالى ( وما هو بمزحزحه من العذاب أن يعمر )
موعظة
قوله تعالى ( قل من كان عدواً لجبريل .. الآية )
( على قلبك )
سبب نزول الآية
قوله تعالى ( فإن الله عدو للكافرين )
قوله تعالى ( واتبعوا ما تتلو الشياطين على ملك سليمان )
قصة الملكين باختصار
آراء المفسرين في القصة
رواية غريبة
364
366

367
368
369
372
373
273
375
375
378
379
379
379
380
380
383
384
386
387
394

م
الموضوع
الصفحة

207
208
209
210
211
212
213
214
215
216
217
218
219
220
221
222
223
224
225
226
227
228
قوله تعالى ( فيتعلمون منهما ما يفرقون به بين المرء وزوجه)
فائدة
قوله تعالى(ولقد عملوا لمن اشتراه ما له في الآخرة من خلاق)
موعظة
من لطائف الإمام القشيري في الآية الكريمة
فصل في القول بعصمة الملائكة
قوله تعالى ( يا أيها الذين آمنوا لا تقولوا راعنا وقولوا انظرنا)
سبب نزول الآية
قوله تعالى ( واسمعوا )
قوله تعالى ( ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أومثلها)
أنواع النسخ
أهمية معرفة هذا الباب
فائدة
فائدة أخرى
فائدة ثالثة في معرفة الناسخ
قوله تعالى ( أو ننسها )
كلام نفيس في هذا الموضع
قوله تعالى ( نأت بخير منها أو مثلها )
قوله تعالى ( ألم تعلم أن الله على كل شيء قدير )
قوله تعالى ( ود كثير من أهل الكتاب .. الآية )
حقيقة الحسد
فائدة في باب ( الخير )
394
396
396
397
396
400
401
401
403
404
405
405

(6/47)


406
406
407
407
409
410
411
411
412
412

م
الموضوع
الصفحة

229
230
231
232
233
234
235
236
237
238
239
240
241
242
243
244
245
246
247
248
249
فائدة في المنافسة
قوله تعالى ( فاعفو واصفحوا حتى يأتي الله بأمره )
قوله تعالى ( بلى من أسلم وجه الله )
قوله تعالى ( وهو محسن )
قوله تعالى ( ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون )
لطيفة
قوله تعالى ( وقالت اليهود ليست النصارى على شيء.. الآية)
سبب النزول
قوله تعالى ( فالله يحكم بينهم يوم القيامة )
قوله تعالى(ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه)
قوله تعالى ( وسعى في خرابها )
قوله تعالى ( أولئك ما كان لهم أن يدخلوها إلا خائفين )
قوله تعالى ( ولله المشرق والمغرب )
قوله تعالى ( وقالوا اتخذ الله ولداً )
قوله تعالى ( بل له ما في السماوات والأرض )
قوله تعالى ( كل له قانتون )
قوله تعالى ( بديع السماوات والأرض )
فائدة
قوله تعالى ( إذا قضى أمراً فإنما يقول له كن فيكون )
قوله تعالى ( ولا تسأل عن أصحاب الجحيم )
الفهرس
414
414
415
417
417
418
418
418
419
419
420
420
422
423
425
426
427
427
429
433
441

(6/48)


 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق