الإسلام …والمرأة
في
الشرق اليوم " هيجة " تسمى حقوق
المرأة !
والمطالبة بالمساواة الكاملة مع الرجل .
وفي
وسط هذه " الهيجة " التي تشبه
الحمى ،
يهذي بعض المحمومين والمحمومات باسم الإسلام . بعضهم –
للتوريط - يقول إن الإسلام قد
سوى بين الجنسين في كل شيء ، وبعضهم - جهلاً منه أو غفلة - يقول إن الإسلام
عدو للمرأة ينتقص كرامتها ويهين كبرياءها ، ويحطم شعورها
بذاتيتها ،
ويدعها في مرتبة أقرب للحيوانية ، متاعاً حسياً للرجل وأداة للنسل ليس
غير .. وهي في هذا في موضع التابع
من الرجل يسيطر عليها في كل شيء ، ويفضلها في كل شيء .
وهؤلاء
وأولئك لا يعرفون حقيقة الإسلام ، أو يعرفونها ثم يلبسون الحق بالباطل
ابتغاء الفتنة ونشراً للفساد في المجتمع ، ليسهل الصيد لمن
يريد الصيد في الأقذار .
وقبل
أن نبين حقيقة وضع المرأة في الإسلام ، يجدر بنا أن نلم
إلمامة سريعة بتاريخ قضية المرأة في أوربا ، فهي منبع الفتنة
التي فتنت الشرق عن طريق التقليد .
* *
*
كانت
المرأة في أوربا وفي العالم كله هملاً لا يحسب له حساب . كان " العلماء " والفلاسفة
يتجادلون في أمرها. هل لها روح أم ليس لها ورح ؟ وإذا كان لها روح
فهل هي روح إنسانية أم حيوانية ! وعلى فرض أنها ذات روح إنسانية فهل
وضعها الاجتماعي و" الإنساني " بالنسبة للرجل
هو وضع الرقيق ،
أم هو شيء أرفع قليلاً من الرقيق !
وحتى
في الفترات القليلة التي استمعت فيها المرأة بمركز " اجتماعي " مرموق سواء في
اليونان أو في الإمبراطورية الرومانية ، فلم يكن ذلك مزية
للمرأة كجنس وإنما كان لنساء معدودات، بصفتهن الشخصية ، أو لنساء العاصمة
بوصفهن زينة للمجالس ،
وأدوات من أدوات الترف التي يحرص الأغنياء والمترفون على إبرازها زهواً
وعجباً ،
ولكنها لم تكن قط موضع الاحترام الحقيقي كمخلوق إنساني جدير بذاته أن يكون له
كرامة بصرف النظر عن الشهوات التي تحببه لنفس الرجل .
وظل
الوضع كذلك في عهود الرق والإقطاع في أوربا ، والمرأة في جهالتها ، تدلل حيناً تدليل
الترف والشهوة ،
وتهمل حيناً كالحيوانات التي تأكل وتشرب وتحمل وتلد وتعمل ليل نهار .
حتى
جاءت الثورة الصناعية فكانت الكارثة التي لم تصب المرأة بشر منها في تاريخها
الطويل .
لقد
كانت الطبيعة الأوربية في جميع عهودها كزة جاحدة ، لا تسخو ولا ترتفع
إلى مستوى التطوع النبيل الذي يكلف جهداً ولا يفيد مالا أو نفعاً قريباً أو غير
قريب .
ولكن الأوضاع الاقتصادية في عهدي الرق والإقطاع ، والتكتل الذي كانا
يستلزمانه في البيئة الزراعية ، جعلا تكليف الرجل إعالة المرأة هو
الأمر الطبيعي الذي تقتضيه الظروف ، فضلاً عن أن المرأة كانت " تعمل " في المنزل في
الصناعات البسيطة التي تتيحها البيئة الزراعية ، فكانت تدفع ثمن
إعالتها بهذا العمل !
ولكن
الثورة الصناعية قلبت الأوضاع كلها في الريف والمدينة على السواء . فقد حطمت كيان
الأسرة وحلت روابطها بتشغيل النساء والأطفال في المصانع . فضلاً عن استدراج
العمال من بيئتهم الريفية القائمة على التكافل والتعاون ، إلى المدينة التي
لا يعرف فيها أحدٌ أحداً ، ولا يعول أحد أحداً ، وإنما يستقل كل إنسان بعمله ومتعته ؛ وحيث يسهل الحصول
على المتعة الجنسية من طريقها المحرم ، فتهبط الرغبة في
الزواج وكفالة الأسرة ،
أو تتأخر سنوات طويلة على الأقل ([1]) .
وليس
همنا هنا استعراض تاريخ أوربا . ولكنا نستعرض العوامل التي أثرت في
حياة المرأة
فحسب .
قلنا
إن الثورة الصناعية شغّلت النساء والأطفال . فحطمت روابط الأسرة
وحلت كيانها. ولكن المرأة هي التي دفعت أفدح الثمن من جهدها وكرامتها ، وحاجاتها النفسية
والمادية .
فقد نكل الرجل عن إعالتها من ناحية ، وفرض عليها أن تعمل لتعول نفسها حتى
لو كانت زوجة وأماً! واستغلتها المصانع أسوأ استغلال من ناحية أخرى ، فشغلتها ساعات
طويلة من العمل ،
وأعطتها أجراً أقل من الرجل الذي يقوم معها بنفس العمل في نفس المصنع .
ولا
نسأل لماذا حدث ذلك ،
فهكذا هي أوربا ،
جاحدة كزة كنود ،
لا تعترف بالكرامة للإنسان من حيث هو إنسان ، ولا تتطوع بالخير
حيث تستطيع أن تعمل الشر وهي آمنة .
تلك
طبيعتها على مدار التاريخ ، في الماضي والحاضر والمستقبل إلا أن
يشاء الله لها الهداية والارتفاع .
وإذ
كان النساء والأطفال ضعافاً ، فما الذي يمنع من استغلالهما والقسوة
عليهما إلى أقصى حد ؟
إن الذي يمنع شيء واحد فقط ، هو الضمير . ومتى كان لأوربا
ضمير ! ؟
ومع
ذلك فقد وجدت قلوب إنسانية حية لا تطيق الظلم . فهبت تدافع عن
المستضعفين من الأطفال . نعم الأطفال . فقط ! فراح المصلحون
الاجتماعيون ينددون بتشغيلهم في سن مبكرة ، وتحميلهم من
الأعمال مالا تطيقه بنيتهم الغضة التي لم تستكمل نصيبها من النمو ، وضآلة أجورهم
بالنسبة للجهد العنيف الذي يبذلونه . ونجحت الحملات ، فرفعت رويداً
رويداً سن التشغيل ،
ورفعت الأجور وخفضت ساعات العمل .
أما
المرأة فلم يكن لها نصير . فنصرة المرأة تحتاج إلى قدر من ارتفاع
المشاعر لا تطيقه أوربا ! لذلك ظلت في محنتها تنهك نفسها في
العمل – مضطرة لإعالة نفسها - وتتناول أجراً أقل
من أجر الرجل ،
مع اتحاد الإنتاج والجهد المبذول .
وجاءت
الحرب العظمى الأولى .
وقتل عشرة ملايين من الشباب الأوربيين والأمريكان . وواجهت المرأة قسوة
المحنة بكل بشاعتها .
فقد وجدت ملايين من النساء بلا عائل . إما لأن عائلهن قد
قتل في الحرب ،
أو شوه ،
أو فسدت أعصابه من الخوف والذعر والغازات السامة الخانقة ، وإما لأنه خارج من حبس
السنوات الأربع يريد أن يستمتع ويرفه عن أعصابه ، ولا يريد أن يتزوج
ويعول أسرة تكلفه جهداً من المال والأعصاب .
ومن
جهة أخرى لم تكن هناك أيد عاملة من الرجال تكفي لإعادة تشغيل المصانع لتعمير ما
خربته الحرب .
فكان حتماً على المرأة أن تعمل وإلاّ تعرضت للجوع هي ومن
تعول من العجائز والأطفال . وكان حتماً عليها كذلك أن تتنازل عن
أخلاقها .
فقد كانت أخلاقها قيداً حقيقياً يمنع عنها الطعام ! إن صاحب المصنع
وموظفيه لا يريدون مجرد الأيدي العاملة ، فهم يجدون فرصة
سانحة ،
والطير يسقط من نفسه –
جائعاً -
ليلتقط الحب .
فما الذي يمنع من الصيد ؟ ألعله الضمير ! ؟ وما دامت قد وجدت - بدافع الضرورة - امرأة تبذل نفسها
لتعمل ،
فلن يتاح العمل إلا للتي تبذل نفسها للراغبين .
ولم
تكن المسألة مسألة الجوع إلى الطعام فحسب .
فالجنس
حاجة بشرية طبيعية لا بد لها من إشباع . ولم يكن في وسع
الفتيات أن يشبعن حاجتهن الطبيعية ولو تزوج كل من بقي حياً من الرجال ، بسبب النقص الهائل
الذي حدث في عدد الرجال نتيجة الحرب . ولم تكن عقائد أوربا
وديانتها تسمح بالحل الذي وضعه الإسلام لمثل هذه الحالة الطارئة ، وهو تعدد الزوجات.
لذلك لم يكن بدٌّ للمرأة أن تسقط راضية أو كارهة لتحصل على حاجة الطعام وحاجة
الجنس ،
وترضي شهوتها إلى الملابس الفاخرة ، وأدوات الزينة ، وسائر ما تشتهيه
المرأة من أشياء .
وسارت
المرأة في طريقها المحتوم ، تبذل نفسها للراغبين ، وتعمل في المصنع
والمتجر ،
وتشبع رغائبها عن هذا الطريق أو ذاك ، ولكن قضيتها زادت
حدة .
فقد استغلت المصانع حاجة المرأة إلى العمل ، واستمرت في
معاملتها الظالمة التي لا يبررها عقل ولا ضمير ، فظلت تمنحها أجراً
أقل من أجر الرجل الذي يؤدي نفس العمل في نفس المكان .
ولم
يكن بد من ثورة .
ثورة جامحة تحطم ظلم أجيال طويلة وقرون .
وماذا بقي للمرأة ؟ لقد بذلت نفسها
وكبرياءها وأنوثتها ،
وحرمت من حاجتها الطبيعية إلى أسرةٍ وأولادٍ تحسّ بكيانها فيهم ، وتضم حيواتهم إلى
حياتها ،
فتشعر بالسعادة والامتلاء . أفلا تنال مقابل ذلك - على الأقل - المساواة في الأجر
مع الرجل :
حقها الطبيعي الذي تقرره أبسط البديهيات ؟
ولم
يتنازل الرجل الأوربي عن سلطانه بسهولة . أو قل لم يتنازل عن
أنانيته التي فطر عليها . وكان لا بد من احتدام المعركة ، واستخدام جميع
الأسلحة الصالحة للعراك .
استخدمت
المرأة الإضراب والتظاهر . واستخدمت الخطابة في المجتمعات . واستخدمت الصحافة . ثم بدا لها أنها لا
بد أن تشارك في التشريع لتمنع الظلم من منبعه ، فطالبت أولاً بحق
الانتخاب ،
ثم بالحق الذي يلي ذلك بحكم طبائع الأشياء ، وهو حق التمثيل في
البرلمان .
وتعلمت على نفس الطريقة التي يتعلم بها الرجل ، لأنها صارت تؤدي
نفس العمل ،
وطالبت كنتيجة منطقية لذلك أن تدخل وظائف الدولة كالرجل ، ما داما قد أعدا
بطريقة واحدة ،
ونالا دراسة واحدة .
تلك
قصة " كفاح
المرأة لنيل حقوقها "
في أوربا .
قصة مسلسلة ،
كل خطوة فيها لا بد أن تؤدي إلى الخطوة التالية ، رضي الرجل أو كره ، بل رضيت المرأة أو
كرهت ،
فهي ذاتها لم تعد تملك أمرها في هذا المجتمع الهابط المنحل الذي أفلت منه الزمام ([2]) .
ومع
ذلك كله فقد تعجب حين تعلم أن انجلترا - أم الديمقراطية - ما تزال إلى هذه
اللحظة تمنح المرأة أجراً أقل من أجر الرجل في وظائف الدولة ، رغم أن في مجلس
العموم نائبات محترمات ! !
* *
*
ونعود
إلى وضع المرأة في الإسلام ، لنعرف إن كانت ظروفنا التاريخية
والجغرافية والاقتصادية والعقيدية والتشريعية ، تجعل للمرأة " قضية " تكافح من
أجلها ،
كما كان للمرأة الغربية قضية ، أم إنها شهوة التقليد الخالصة ، والعبودية الخفية
للغرب -
التي تجعلنا لا نبصر الأشياء بعيوننا ، ولا نراها في
حقيقتها -
هي التي تملأ الجو بهذا الضجيج الزائف في مؤتمرات النساء ؟ !
من
البديهيات الإسلامية التي لا تحتاج إلى ذكر ولا إعادة ، أن المرأة في عرف
الإسلام كائن إنساني ،
له روح إنسانية من نفس " النوع " الذي منه روح
الرجل :
" يا
أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالاً
كثيراً ونساء ([3]) " فهي إذن الوحدة
الكاملة في الأصل والمنشأ والمصير ، والمساواة الكاملة في الكيان البشري ، تترتب عليها كل
الحقوق المتصلة مباشرة بهذا الكيان ، فحرمة الدم أو العرض والمال ، والكرامة التي لا
يجوز أن تلمز مواجهة أو تغتاب ، ولا يجوز أن يتجسس عليها أو تقتحم
الدور .. كلها حقوق مشتركة لا
تمييز فيها بين جنس وجنس . والأوامر والتشريعات فيها عامة للجميع : " يا أيها الذين آمنوا
لا يسخر قوم من قوم عسى أن يكونوا خيراً منهم ولا نساء من نساء عسى أن يكن خيراً
منهن ،
ولا تلمزوا أنفسكم ولا تنابزوا بالألقاب ([4]) " .. " ولا تجسسوا، ولا يغتب
بعضكم بعضاً ([5]) " .. " يا أيها الذين آمنوا
لا تدخلوا بيوتاً غير بيوتكم حتى تستأنسوا وتسلموا على أهلها ([6]) " .. " كل المسلم على المسلم
حرام ؛
دمه وعرضه وماله ([7]) ".
والجزاء
في الآخرة واحد للجنسين : " فاستجاب لهم ربهم أني
لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر أو أنثى بعضكم من بعض ([8]) " .
وتحقيق
الكيان البشري في الأرض متاح للجنسين : الأهلية للملك
والتصرف فيه بجميع أنواع التصرف من رهن وإجارة ووقف وبيع وشراء واستغلال .. إلخ " للرجال نصيب مما ترك
الوالدان والأقربون وللنساء نصيب مما ترك الوالدان والأقربون ([9]) " " للرجال نصيب مما
اكتسبوا وللنساء نصيب مما اكتسبن ([10]) " .
ولا
بد هنا من وقفة عند أمرين بشأن حق الملكية والتصرف والانتفاع . فقد كانت شرائع أوربا
" المتحضرة " تحرم المرأة
من كل هذه الحقوق إلى عهد قريب ، وتجعل سبيلها الوحيد إليها عن طريق
الرجل زوجاً كان أو أباً أو ولي أمر . أي أن المرأة الأوربية
ظلت أكثر من اثني عشر قرناً بعد الإسلام لا تملك من الحقوق ما أعطاها الإسلام . ثم هي حين ملكتها
لم تأخذها سهلة ولا احتفظت بأخلاقها وعرضها وكرامتها ، وإنما احتاجت لأن
تبذل كل ذلك ،
وتتحمل العرق والدماء والدموع ، لتحصل على شيء مما منحه الإسلام – كعادته - تطوعاً وإنشاء ، لا خضوعاً لضرورة
اقتصادية ،
ولا إذعاناً للصراع الدائر بين البشر ، ولكن تقريراً منه
للحق والعدل الأزليين .
وتطبيقاً لهما في واقع الأمر لا في عالم المثل والأحلام .
والأمر
الثاني أن الشيوعية خاصة ، والغرب عامة ، يعتبرون الكيان
البشري هو الكيان الاقتصادي . ويقولون صراحة إن المرأة لم يكن لها
كيان ،
لأنها لم تكن تملك ،
أو لم يكن لها حق التصرف فيما تملك ، وإنها صارت مخلوقاً آدمياً فقط حين
استقلت اقتصادياً ،
أي حين صار لها ملك خاص مستقل عن الرجل ، تستطيع أن تعيش منه
وتتصرف فيه .
وبغض
النظر عن إنكارنا لتحديد الكيان البشري بهذه الحدود الضيقة ، والهبوط به حتى
يصبح عرضاً اقتصادياً لا غير ، فإننا نوافقهم – من حيث المبدأ-
على أن الاستقلال الاقتصادي له أثره في تكوين المشاعر وتنمية الشعور بالذات .
وهنا
يحق للإسلام أن يفخر بما أعطى المرأة من كيان اقتصادي مستقل ، فصارت تملك وتتصرف
وتنتفع ،
بشخصها مباشرة بلا وكالة ، وتعامل المجتمع بلا وسيط .
ولم
يكتف الإسلام بتحقيق كيان المرأة في مسألة الملكية ، بل حققه في أخطر
المسائل المتعلقة بحياتها وهي مسألة الزواج . فلا يجوز أن تتزوج
بغير إذنها ،
ولا يتم العقد حتى تعطي الإذن : " لا تزوج الثيب حتى
تستأمر ولا تزوج البكر حتى تستأذن وإذنها صماتها ([11]) " ويصبح العقد باطلاً
إذا أعلنت أنها لم توافق عليه .
وقد
كانت المرأة -
في غير الإسلام -
تحتاج إلى سلوك طرق ملتوية لتهرب من زواج لا تريده ، لأنها لا تملك
شرعاً ولا عرفاً أن ترفض . ولكن الإسلام أعطاها
هذا الحق الصريح ،
تستخدمه متى أرادت ([12]) ، بل أعطاها أن تخطب
لنفسها ،
وهو آخر ما وصلت إليه أوربا في القرن العشرين ، وحسبته انتصاراً
هائلاً على التقاليد البالية العتيقة !
ويبلغ
من تقدير الإسلام لمقومات الكيان البشري - في عصور كان يغشيها
الجهل والظلام -
أن اعتبر العلم والتعلم ضرورة بشرية ، ضرورة لازمة لكل
فرد لا لطائفة محدودة من الناس ، فقرر للملايين حق التعلم، بل جعله
فريضة وركناً من الإيمان بالله على طريقة الإسلام . وهنا كذلك يحق له
أن يفخر بأنه أول نظام في التاريخ نظر إلى المرأة على أنها كائن بشري ، لا يستكمل مقومات
بشريته حتى يتعلم، شأنها شأن الرجل سواء بسواء ، فجعل العلم فريضة
عليها كما هو فريضة على الرجل ، ودعاها أن ترتفع بعقلها ، كما ترتفع بجسدها
وروحها عن مستوى الحيوان ، بينما ظلت أوروبا تنكر هذا الحق إلى
عهد قريب .
ولم تستجب إليه إلا خضوعاً للضرورات .
* *
*
إلى
هذا الحد وصل تكريم الإسلام للمرأة . ولا يستطيع أحد مهما أوتي القدرة على
التبجح ،
أن يقول إن فكرة الإسلام في كل هذه الأمور قائمة على أن المرأة مخلوق ثانوي ، أو تابع في وجوده
لمخلوق آخر ،
أو إن دورها في الحياة دور ضئيل لا يؤبه له . فلو كان الأمر كذلك
ما عني بتعليمها .
والتعليم بالذات مسألة لها دلالة خاصة ، وتكفي وحدها - دون حاجة إلى
المسائل الأخرى -
لتقرير الوضع الحقيقي للمرأة في الإسلام ، وهو وضع كريم عند
الله وعند الناس .
ولكن
الإسلام بعد هذا -
بعد تقرير المساواة الكاملة في الإنسانية ، والمساواة في جميع
الحقوق التي تتصل مباشرة بالكيان البشري المشترك بين الجميع - يفرق بين الرجل
والمرأة في بعض الحقوق وبعض الواجبات . وهنا الضجة الكبرى
التي تثيرها نساء المؤتمرات ، ويثيرها معهن كتاب و " مصلحون " وشباب ، يعلم الله كم
يريدون بدعوتهم وجه الإصلاح ، وكم يريدون بها أن يجدوا المرأة سهلة
التناول في المجتمع وفي الطريق !
وقبل
الدخول في تفصيل هذه المواضع التي يفرق فيها الإسلام بين الرجل والمرأة ، ينبغي أولاً أن نرد
المسألة إلى جوهرها الحقيقي ، إلى أصولها الوظيفية ، الجسمية والنفسية ، ثم نستعرض بعد ذلك
رأي الإسلام .
هل
هما جنس واحد أو جنسان ؟ وهل هي وظيفة واحدة أم وظيفتان ؟ تلك عقدة الموضوع . فإن أرادت نساء
المؤتمرات وكتابهن ومصلحوهن وشبابهن أن يقولوا : ليس بين المرأة
والرجل خلاف في التكوين الجسدي والكيان الوجداني ووظائف الحياة البيولوجية ، فما عسى أن يرد به
عليهم ! ؟ وإن أقروا بوجود
هذا الخلاف فهناك إذن أساس صالح لمناقشة الموضوع .
وقد
ناقشت مسألة المساواة بين الجنسين في كتاب " الإنسان بين المادية
والإسلام "
في فصل طويل عن " المشكلة الجنسية " لا أرى بأساً
في أن أنقل منه هنا بضع فقرات :
" .. وتبعاً لهذا الاختلاف الحاسم في المهمة
والأهداف اختلفت طبيعة الرجل والمرأة ، ليواجه كل منهما
مطالبه الأساسية وقد زودته الحياة بكل التيسيرات الممكنة ، ومنحته التكييف
الملائم لوظيفته .
" لذلك لا أرى كيف
تستساغ هذه الثرثرة الفارغة عن المساواة الآلية بين الجنسين ! إن المساواة في
الإنسانية أمر طبيعي ومطلب معقول . فالمرأة والرجل هما
شقا الإنسانية ،
وشقا النفس الواحدة .
أما المساواة في وظائف الحياة وطرائقها فكيف يمكن تنفيذها ؛ ولو أرادتها كل نساء الأرض وعقدت من
أجلها المؤتمرات وأصدرت القرارات ؟
" هل في وسع هذه
المؤتمرات وقراراتها الخطيرة أن تبدل طبائع الأشياء ، فتجعل الرجل يشارك
المرأة في الحمل والولادة والإرضاع ؟
" وهل يمكن أن تكون
هناك وظيفة بيولوجية من غير تكييف نفسي وجسدي خاص ؟ هل اختصاص أحد
الجنسين بالحمل والرضاعة لا يستتبعه أن تكون مشاعر هذا الجنس وعواطفه وأفكاره
مهيأة بطريقة خاصة لاستقبال هذا الحادث الضخم ، والتمشي مع مطالبه
الدائمة ؟
" إن الأمومة ، بكل ما تحويه من
مشاعر نبيلة ،
وأعمال رفيعة ،
وصبر على الجهد المتواصل ، ودقة متناهية في الملاحظة وفي الأداء .. هي التكييف النفسي
والعصبي والفكري الذي يقابل التكييف الجسدي للحمل والإرضاع . كلاهما متمم للآخر
متناسق معه ،
بحيث يكون عجيباً أن يوجد أحدهما في غيبة من الآخر .
" وهذه الرقة اللطيفة
في العاطفة ،
والانفعال السريع في الوجدان ، والثورة القوية في المشاعر ، التي تجعل الجانب
العاطفي ،
لا الفكري ،
هو النبع المستعد أبداً بالفيض ، المستجاش أبداً بأول لمسة ، كل ذلك من مستلزمات
الأمومة ،
لأن مطالب الطفولة لا تحتاج إلى التفكير ، الذي قد يسرع أو
يبطئ ،
وقد يستجيب أولا يستجيب ، وإنما تحتاج إلى عاطفة مشبوبة لا تفكر ، بل تلبي الداعي بلا
تراخ ولا إبطاء .
" فهذا كله هو الوضع
الصحيح للمرأة حين تلبي وظيفتها الأصيلة وهدفها المرسوم .
" والرجل من جانب آخر
مكلف بوظيفة أخرى ،
ومهيأ لها على طريقة أخرى .
" مكلف بصراع الحياة في
الخارج .
سواء كان الصراع هو مجابهة الوحوش في الغابة ، أو قوى الطبيعة في
السماء والأرض ،
أو نظام الحكومة وقوانين الاقتصاد … كل ذلك لاستخلاص القوت ، ولحماية ذاته وزوجه
وأولاده من العدوان .
" هذه الوظيفة لا تحتاج
أن تكون العاطفة هي المنبع المستجاش ، بل ذلك يضرها ولا
ينفعها .
فالعاطفة تنقلب في لحظات من النقيض إلى النقيض . ولا تصبر على اتجاه
واحد إلا فترة ،
تتجه بعدها إلى هدف جديد . وهذا يصلح لمطالب الأمومة المتغيرة
المتقلبة ،
ولكنه لا يصلح لعمل خطة مرسومة تحتاج في تنفيذها إلى الثبات على وضع واحد لفترة
طويلة من الوقت .
وإنما يصلح لذلك الفكر . فهو بطبيعته أقدر على التدبير وحساب
المقدمات والنتائج قبل التنفيذ . وهو أبطأ عملاً من العاطفة الجياشة
المتفجرة .
وليس المطلوب منه هو السرعة ، بقدر ما هو تقدير الاحتمالات والعواقب ، وتهيئة أحسن
الأساليب للوصول إلى الهدف المنشود . وسواء كان المقصود هو صيد فريسة ، أو اختراع آلة ، أو وضع خطة
اقتصادية ،
أو سياسة حكم ،
أو إشعال حرب ،
أو تدبير سلم ،
فكلها أمور تحتاج إلى إعمال الفكر ، ويفسدها تقلب العاطفة .
" ولذلك فالرجل في وضعه
الصحيح حين يؤدي هدفه الصحيح .
" وهذا يفسر كثيراً من
أوجه الخلاف بين الرجل والمرأة . فهو يفسر مثلاً لماذا يستقر الرجل في
عمله ،
ويمنحه الجانب الأكبر من نفسه وتفكيره بينما هو في الميدان العاطفي متنقل كالأطفال . في حين أن المرأة
تستقر في علاقاتها العاطفية تجاه الرجل ، وحينما تتجه إليه
فكأنما كيانها كله يتحرك ويدبر الخطط ويرتب الملابسات ، وهي في هذا الشأن
أبعد ما تكون نظراً وأشد ما تكون دقة . ترسم أهدافها
لمسافات بعيدة ،
وتعمل دائبة على تحقيق أغراضها . بينما هي لا تستقر في العمل إلا أن
يكون فيه ما يلبي جزءاً من طبيعتها الأنثوية كالتمريض أو التدريس أو الحضانة . أما حين تعمل في
المتجر فهي تلبي كذلك جزءاً من عاطفتها بحثاً عن الرجل هناك . ولكن هذه الأعمال
كلها بديل لا يغني عن الأصل ، وهو الحصول على رجل وبيت وأسرة وأولاد . وما إن تعرض الفرصة
للوظيفة الأولى حتى تترك المرأة عملها لتهب نفسها لبيتها . إلا أن يحول دون
ذلك عائق قهري كحاجتها إلى المال .
" ولكن هذا ليس معناه
الفصل الحاسم القاطع بين الجنسين ، ولا معناه أن كلا منهما لا يصلح أية
صلاحية لعمل الآخر .
" .. الجنسان إذن خليط ، وعلى نسب متفاوتة ، فإذا وجدت امرأة
تصلح للحكم أو القضاء أو حمل الأثقال أو الحرب والقتال .. وإذا وجد رجل يصلح للطهي وإدارة البيوت
أو الإشراف الدقيق على الأطفال أو الحنان الأنثوي ، أو كان سريع التقلب
بعواطفه ينتقل في لحظة من النقيض للنقيض ، فكل ذلك أمر طبيعي ، ونتيجة صحيحة
لاختلاط الجنسين في كيان كل جنس . ولكنه خلو من الدلالة المزيفة التي
يريد أن يلصقها به شذاذ الآفاق في الغرب المنحل والشرق المتفكك سواء .
فالمسألة
في وضعها الصحيح ينبغي أن توضع على هذه الصورة : هل كل هذه الأعمال
التي تصلح لها المرأة زائدة على وظيفتها الطبيعية ، تغنيها عن هذه
الوظيفة الأصيلة ؟
تغنيها عن طلب البيت والأولاد والأسرة ؟ وتغنيها عن طلب
الرجل قبل هذا وبعد ذلك ليكون في البيت رجل ! بصرف النظر عن شهوة
الجنس وجوعة الجسد ؟ " ….
والآن
وقد استعرضنا حقيقة الخلاف بين طبيعة الرجل والمرأة ، نعود إلى مواضع
التفرقة بينهما في الإسلام .
إن
مزية الإسلام الكبرى أنه نظام واقعي ، يراعي الفطرة
البشرية دائماً ولا يصادمها أو يحيد بها عن طبيعتها . وهو يدعو الناس
لتهذيب طبائعهم والارتفاع بها ، ويصل في ذلك إلى نماذج تقرب من
الخيالات والأحلام ،
ولكنه في تهذيبه لا يدعو لتغيير الطبائع ، ولا يضع في حسابه
أن هذا التغيير ممكن ،
أو مفيد لحياة البشرية حتى إذا أمكن ! وإنما يؤمن بأن
أفضل ما تستطيع البشرية أن تصل إليه من الخير ، هو ما يجيئ متمشياً
مع الفطرة بعد تهذيبها ، والارتفاع بها من مستوى الضرورة إلى
مستوى التطوع النبيل .
وهو
يسير في مسألة الرجل والمرأة على طريقته الواقعية المدركة لفطرة البشر ، فيسوي بينهما حيث
تكون التسوية هي منطق الفطرة الصحيح ، ويفرق بينهما كذلك
حيث تكون التفرقة هي منطق الفطرة الصحيح . فلننظر أهم مواضع
التفرقة :
تقسيم الإرث ومسألة القوامة .
يقول
الإسلام في الإرث :
" للذكر
مثل حظ الأنثيين " . ذلك حق . لكنه يجعل الرجل هو
المكلف بالإنفاق .
ولا يتطلب من المرأة أن تنفق شيئاً من مالها على غير نفسها وزينتها ( إلا حيث تكون العائل
الوحيد لأسرتها وهي حالات نادرة في ظل النظام الإسلامي ، لأن أي عاصب من
الرجال مكلف بالإنفاق ولو بعدت درجته ) فأين الظلم الذي
يزعمه دعاة المساواة المطلقة ؟ إن المسألة مسألة
حساب ،
لا عواطف ولا ادعاء .
تأخذ المرأة –
كمجموعة -
ثلث الثروة الموروثة لتنفقها على نفسها ، ويأخذ الرجل ثلثي
الثروة لينفقها أولاً على زوجة - أي على امرأة - وثانياً على أسرة
وأولاد -
فأيهما يصيب أكثر من الآخر بمنطق الحساب والأرقام ؟ وإذا كانت هناك
حالات شاذة لرجال ينفقون كل ثرواتهم على أنفسهم ولا يتزوجون ولا يبنون أسرة ، فتلك أمثلة نادرة ، وإنما الأمر
الطبيعي أن ينفق الرجل ثروته على بناء أسرة فيها امرأة بطبيعة الحال هي الزوجة . وهو ينفق عليها لا
تطوعاً منه بل تكليفاً . ومهما كانت ثروتها الخاصة فلا يحق له
أن يأخذ منها شيئاً البتة إلا بالتراضي الكامل بينهما . وعليه أن ينفق
عليها كأنها لا تملك شيئاً ، ولها أن تشكوه إذا امتنع عن الإنفاق ، أو قتر فيه بالنسبة
لما يملك ،
ويحكم لها الشرع بالنفقة أو بالانفصال . فهل بقيت بعد ذلك
شبهة في القدر الحقيقي الذي تناله المرأة من مجموع الثروة ؟ وهل هو امتياز
حقيقي في حساب الاقتصاد أن يكون للرجل مثل حظ الأنثيين وهو مكلف مالا
تكلفه الأنثى ؟
على
أن هذه النسبة إنما تكون في المال الموروث بلا تعب ، فهو يقسم بمقتضى
العدل الرباني الذي يعطي " لكل حسب حاجته " . ومقياس الحاجة هو
التكاليف المنوطة بمن يحملها. أما المال المكتسب فلا تفرقة فيه بين الرجل والمرأة ، لا في الأجر على
العمل ،
ولا في ربح التجارة ولا ريع الأرض إلخ . لأنه يتبع مقياساً
آخر هو المساواة بين الجهد والجزاء . وإذن فلا ظلم ولا شبهة في ظلم ، وليس وضع المسألة
أن قيمة المرأة هي نصف قيمة الرجل في حساب الإسلام ، كما يفهم العوام من
المسلمين ،
وكما يقول المشنعون من أعداء الإسلام . وقد رأينا بحساب
الأرقام أن ذلك غير صحيح .
وليس
اعتبار شهادة امرأتين بشهادة رجل واحد دليلاً كذلك على أن المرأة تساوي نصف رجل . إنما هذا إجراء
روعي فيه توفير كل الضمانات في الشهادة ، سواء كانت الشهادة
لصالح المتهم أو ضده ،
ولما كانت المرأة بطبيعتها العاطفية المتدفقة السريعة الانفعال ، مظنة أن تتأثر
بملابسات القضية " فتضل " عن الحقيقة ، روعي أن تكون معها
امرأة أخرى " أن
تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى " وقد يكون المشهود له أو عليه
امرأة جميلة تثير غيرة الشاهدة ، أو يكون فتى يثير كوامن الغريزة أو
عطف الأمومة .. إلى آخر هذه العواطف
التي تدفع إلى الضلال بوعي أو بغير وعي . ولكن من النادر
جداً حين تحضر امرأتان في مجال واحد ، أن تتفقا على تزييف
واحد ،
دون أن تكشف إحداهما خبايا الأخرى فتظهر الحقيقة ! على أن شهادة
الواحدة تعتبر فيما تعد المرأة خبيرة فيه أو مختصة به من شؤون النساء .
أما
مسألة القوامة :
فالضرورة تقضي أن يكون هناك قيم توكل إليه الإدارة العامة لهذه الشركة القائمة بين
الرجل والمرأة ،
وما ينتج عنها من نسل ،
وما تستتبعه من تبعات .
وقد اهتدى الناس في كل تنظيماتهم إلى أنه لا بد من رئيس مسئول ، وإلا ضربت الفوضى
أطنابها ،
وعادت الخسارة على الجميع . وهناك ثلاثة أوضاع يمكن أن تفترض بشأن
القوامة في الأسرة :
فإما أن يكون الرجل هو القيم ، أو تكون المرأة هي القيم . أو يكونا معاً
قيمين .
ونستبعد
الفرض الثالث منذ البدء ، لأن التجربة أثبتت أن وجود رئيسين للعمل
الواحد أدعى إلى الإفساد من ترك الأمر فوضى بلا رئيس . والقرآن يقول عن
السماء والأرض :
" لو
كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا " .. " إذاً لذهب كل إله بما
خلق ولعلا بعضهم على بعض " . فإذا كان هكذا
الأمر بين الآلهة المتوهمين فكيف هو بين البشر العاديين ؟
وعلم
النفس يقرر أن الأطفال الذين يتربون في ظل أبوين يتنازعان على السيادة ، تكون عواطفهم مختلة ، وتكثر في نفوسهم
العقد والاضطرابات .
بقي
الفرضان الأولان .
وقبل أن نخوض في بحثهما نسأل هذا السؤال : أيهما أجدر أن تكون
وظيفته القوامة ،
بما فيها من تبعات :
الفكر أم العاطفة ؟
فإذا كان الجواب البديهي هو الفكر ، لأنه هو الذي يدبر الأمور في غيبة عن
الانفعال الحاد الذي كثيراً ما يلتوي بالتفكير فيحيد به عن الطريق المباشر
المستقيم ،
فقد انحلت المسألة دون حاجة إلى جدال كثير .
فالرجل
بطبيعته المفكرة لا المنفعلة ، وبما يحتوي كيانه من قدرة على الصراع
واحتمال أعصابه لنتائجه وتبعاته ، أصلح من المرأة في أمر القوامة على
البيت .
بل إن المرأة ذاتها لا تحترم الرجل الذي تسيره فيخضع لرغباتها بل تحتقره بفطرتها
ولا تقيم له أي اعتبار . فإذا كان هذا من أثر التربية القديمة
التي تترك طابعها في اللاشعور ، وتكيف مشاعر المرأة دون وعي منها ، فهذه هي المرأة
الأمريكية بعد أن ساوت الرجل مساواة كاملة ، وصار لها كيان ذاتي
مستقل ،
عادت فاستعبدت نفسها للرجل . فأصبحت هي التي تغازله وتتلطف له
ليرضى! وتتحسس عضلاته المفتولة وصدره العريض ، ثم تلقي بنفسها بين
أحضانه حين تطمئن إلى قوته بالقياس إلى ضعفها !
على
أن المرأة إذا تطلعت " للسيادة " في أول عهدها
بالزواج وهي فارغة البال من الأولاد وتكاليف تربيتهم التي ترهق البدن والأعصاب ، فسرعان ما تنصرف
عنها حين تأتي المشاغل ، وهي آتية بطبيعة الحال ، فحينذاك لا تجد في
رصيدها العصبي والفكري ما تحتمل به مزيداً من التبعات .
وليس
مؤدى ذلك أن يستبد الرجل بالمرأة ، أو بإدارة البيت . فالرئاسة التي
تقابل التبعة لا تنفي المشاورة ولا المعاونة . بل العكس هو الصحيح . فالرئاسة الناجحة
هي التي تقوم على التفاهم الكامل والتعاطف المستمر . وكل توجيهات
الإسلام تهدف إلى إيجاد هذه الروح داخل الأسرة ، وإلى تغليب الحب
والتفاهم على النزاع والشقاق . فالقرآن يقول : " وعاشروهن بالمعروف ([13]) " والرسول يقول : " خيركم خيركم لأهله ([14]) " فيجعل ميزان
الخير في الرجل هو طريقة معاملته لزوجته ، وهو ميزان صادق
الدلالة ،
فما يسيء رجل معاملة شريكته في الحياة إلا أن تكون نفسه من الداخل منطوية على
انحرافات شتى ،
تفسد معين الخير أو تعطله عن الانطلاق ([15]) .
ولكن
العلاقات " الرسمية " في داخل
الأسرة موضع شبهات كثيرة تحتاج إلى بيان .
بعض
هذه الشبهات خاص بالتزامات المرأة نحو الرجل ، وبعضها خاص بموضوع
الطلاق وموضوع تعدد الزوجات .
وأنا
أعتقد أن الزواج مسألة شخصية إلى حد كبير ، وأنه ككل تعامل بين
شخصين ،
يعتمد قبل كل شيء على المميزات الشخصية والخصائص النفسية والعقلية والجسمية لكل من
الطرفين ،
بحيث يصعب جداً أن يحكمه " قانون " عام . فإذا وجدت حالة
يسودها الوفاق والوئام فليس من الضروري أن يكون ذلك لأن الزوجين يراعيان " الأصول " الزوجية كل
نحو الآخر .
وكثيراً ما نسمع عن أزواج لا يشتد بينهم الانسجام والمحبة إلا بعد شجار عنيف قد
يتجاوز اليد واللسان !
وإذا وجدت حالة من الشقاق والخلاف فليس من الضروري أن يكون السبب غلطة الزوج أو
نشوز الزوجة .
وكثيراً ما نسمع عن زوجين كل منهما في ذاته مثال كريم للإنسان ، ولكن " مزاجهما " لا يتفق ، وقد يبكيان حسرة
على عدم إمكان التفاهم بينهما ، ولكنهما مع ذلك لا يتفاهمان .
ورغم
ذلك فلا بد من قانون عام يحكم أمر الزواج ؛ فلا يستطيع نظام أن
يعلن إحاطته الكاملة بحياة البشر دون أن يشرع لهذه المسألة الحساسة ، تشريعاً يضع - على الأقل - الحدود العامة التي
لا ينبغي تجاوزها ،
ثم يترك التفاعل الشخصي ليحكم ما بين هذه الحدود .
وطبيعي
أننا لا نلجأ إلى القانون ونحن متحابون متفاهمون .
فالزواج
الموفق لا يلجأ إلى نصوص القانون ولا يحتكم إليها . ولا يقول كل من
الزوجين لنفسه إن القانون يقتضيني كذا فلأصنعه وإلا صرت مخالفاً لأوامره . وإنما ينشأ التوفيق - في الغالب كما قلنا - من التقاء المزاج ، من التقاء شطري
النفس الواحدة وتعشق أحدهما بالآخر . ينشا من الحب الذي يجمع القلبين على
صورة من الصور ،
قد لا تكون " عادلة " بالنسبة لأحد
الطرفين ،
ولكنها مع ذلك مستقرة وافية بالغرض المطلوب .
ولكنا
حين نختلف
نبحث عن القانون ،
ونحتكم إلى نصوصه لعلها تحسم الخلاف .
والمطلوب
من القانون أن يكون عادلاً لا يحابي أحد الخصمين على حساب الآخر ، وأن يحاول بقدر
الإمكان أن يشمل محيطاً واسعاً من الحالات ، وإن كنت أكرر أنه
لا يمكن لأي قانون أن يشمل كل حالة ، أو أن يكون تطبيقه الحرفي صالحاً أو
عادلاً في كل حالة .
فلننظر
في القانون الإسلامي من جهة التزامات الزوجة ، لأنها هي موضع
الشكوى ومثار الشبهات .
ويهمني بشأنها ثلاثة أمور :
هل
هي التزامات قاسية في ذاتها ؟
وهل هي التزامات من جانب واحد بلا مقابل ؟
وهل
هي التزامات " مؤبدة " لا تملك
المرأة الفكاك منها حين تريد ؟
تلتزم
المرأة بثلاثة أمور رئيسية : أن تطيع زوجها في الفراش كلما دعاها
إليه ،
وألا توطئ فراشه من يكره ، وأن تحفظ غيبته .
أما
المسألة الأولى ،
فهي في حاجة إلى قدر من الصراحة لتجليتها . والحكمة فيها واضحة . فطبيعة الرجل
الجثمانية تجعله في حاجة إلى إفراغ الشحنة الجنسية كلما تجمعت وألحت ، لكي يفرغ لوظيفته
الأخرى من العمل والإنتاج ، ومواجهة مشكلات الحياة بأعصاب لا
يرهقها القلق والاضطراب . وقد يكون - في فترة الشباب على
الأقل -
أكثر طلباً للجنس ،
في عدد المرات فقط ،
وإن كانت المرأة أعمق منه استجابة للجنس ، وأشد اشتغالاً به
بمجموع نفسها وجسدها وروحها في معناه الشامل لا في صورته الجسدية فحسب ([16]) . والزواج منظور فيه
بطبيعة الحال إلى تلبية الحاجات الجنسية بجانب المعاني الأخرى الروحية والنفسية
والاجتماعية والاقتصادية ..
فإذا كان الزوج لا يجد زوجته ملبية حين يلح عليه خاطر الجنس ويشغل أعصابه ، فأي شيء يصنع ؟ يلجأ إلى الجريمة
في خارج البيت ؟
لا المجتمع ينبغي أن يسمح ، ولا الزوجة ذاتها ترضى أن يتجه زوجها
بنفسه أو جسده إلى امرأة أخرى ، هي غريمة لها مهما تكن الأوضاع .
ولن
يخرج موقف الزوجة إذا دعاها زوجها دون رغبة منها عن حالة من ثلاث : أن تكون كارهة
لزوجها لا تطيق الاتصال به ، أو تكون محبة له ولكنها تكره الاتصال
الجنسي عامة وتنفر منه ، وتلك حالة نفسية منحرفة ولكنها موجودة
في واقع الحياة .
أو تكون محبة له غير نافرة من الاتصال به ، ولكنها لا تريد - الآن .
أما
الحالة الأولى فهي دائمة لا تتعلق بوقت معين ، ولا بعمل معين ، وهي حالة لا يرجى
فيها الإبقاء على الرابطة الزوجية ، فيحسن أن تأخذ طريقها الطبيعي إلى
الانفصال .
والمرأة تملك هذا من أكثر من طريق كما سيجيء بعد قليل .
والحالة
الثانية أيضاً دائمة ،
لا تنشأ من إلحاح الزوج في الطلب . وينبغي علاجها بالاتفاق التام الصريح
من مبدأ الأمر ،
فإما أن يقبل الزوج الامتناع عن تلبية حاجته مهما كلفه ذلك من مشقة ، وإما أن تقبل
الزوجة تحمل المشقة لأنها تحب زوجها ولا تريد الانفصال عنه. أو ينفصلان –
بالمعروف - إذا لم يمكن
التوفيق . أما الشرع فهو يلزم
المرأة بالطاعة إذا أصر الزوج ، لا تحكماً وإعتسافاً ولكن لأن الأمر
الطبيعي في الزواج أن يشمل العلاقة الجنسية . ولأن امتناع الزوجة
كما قلنا يلجئ الزوج إلى الجريمة الخلقية ( أو إلى الزواج بامرأة
أخرى وهو ما تكرهه الزوجة ) . ولكنه لم يلزمها أن
تقبل هذا الوضع إذا رأت أنها لا تطيقه ، وأن حبها لزوجها قد
تلاشى بسبب هذا الأمر وانقلب إلى فتور ، فهنا تنفصل بسبب
الكراهية .
أما
الحالة الثالثة فهي مؤقتة وعلاجها ميسور . إن هذا النفور
الوقتي من الاتصال الجنسي قد ينشأ من تعب أو ملل أو انشغال بال . ولكن قدراً من
التهيئة النفسية والجسمية كفيل بإزالته . ولذلك اهتم الرسول
بتوجيه نظر الرجال إلى المداعبة اللطيفة والأخذ والعطاء قبل العمل ذاته ، أولاً ليرفع هذه
العلاقة عن بهيمية الجسد الخالصة ويجعلها ألفة نفس وامتزاج روح ، ثم ليزيل مثل هذا
العارض الذي قد يسبب النفور .
أما
حين تكون الزوجة هي الراغبة والزوج منصرف لسبب من الأسباب ، وهذا نادر الوقوع
في فترة شباب الزوج على الأقل ، فالمرأة لا تعدم الوسيلة .. ولكنا نقرر أن
القانون الذي دعا المرأة لطاعة زوجها ، قد اهتم برغبتها
وأحلها مكانها الحق ،
وألزم الزوج بأداء " واجبه الزوجي " إذا طلبت
الزوجة .
فإذا عجز الزوج وقع الانفصال . وهكذا نرى أن الالتزام واقع من
الناحيتين ،
وليس فيه تعسف بالزوجة ولا إهدار لكيانها الشخصي .
والالتزام
الثاني هو ألا توطئ الزوجة فراش زوجها من يكره ، أي لا تدخل بيته
أحداً يكرهه ( وليس
المقصود الفاحشة فهذه محرمة حتى لو رضي بها الزوج ) وحكمة هذا الالتزام
أنه كثيراً ما تنشأ المنازعات في البيت نتيجة دخول أحد بين الزوجين بالسعاية أو
الإثارة وسوء التوجيه . فإذا لحظ الزوج ذلك
وطلب من زوجته أن تمنع شخصاً معيناً من دخول بيته ، فماذا يحدث حين
تعارض الزوجة ؟
يستمر منبع الفتنة ويستحيل الوفاق . فالإلزام هنا لصالح الشركة القائمة
بين الزوجين وما ينتج عنها من أطفال يحتاجون إلى الرعاية وإلى جو من المودة لا
يفسده الشجار والشقاق ،
حتى لا ينشأ الأطفال منحرفي النفوس والأفكار .
ولعل
القائل أن يقول :
ولماذا لم يلزم القانون الزوج أيضاً بألا يدخل بيته من تكرهه زوجته ؟ وطبيعي أنه في حالة
الحب والمودة ،
وفي حالة التهذيب والارتفاع من الجانبين ، يمكن التفاهم على
جميع الأمور فلا تصل إلى درجة الاحتكاك . ولكنا نفترض أن
الشقاق واقع والتفاهم مستحيل ، ولذلك نلجأ إلى حكم القانون . وهنا يجب أن نذكر
أن انفعالات المرأة ليست في غالب الأحوال منطقية ، وأن الغيرة الشخصية
البحتة -
لا المصلحة -
قد تكون هي التي تنفر الزوجة من أم الزوج أو أخته أو إحدى قريباته . فإلزام الزوج في
هذه الحالة بإطاعة زوجته في إبعاد من تكره ، لن يكون إلزاماً
للمصلحة ،
ولكن لثورة عاطفية قد لا تلبث أن تتحول ، أو تكون قائمة على
غير أساس .
ولست
أعني من ذلك أن الزوج دائماً على حق فيما يصنع ، فقد ينقلب طفلاً في
كثير من الحالات ،
ويولع بالمكايدة . ولا أعني كذلك أن
الزوجة دائماً مخطئة ،
فقد تكون محقة في النفور من شخص بعينه ، وقد يكون هذا الشخص
ممن يعملون فعلاً على هدم روابط الزوجية لأي سبب ، ولكن القانون موكل
بالنسبة الغالبة ،
ومتمش مع الفطرة التي تفترض أن الرجل أكثر انقياداً لعقله ، والمرأة أكثر
انقياداً لانفعالاتها العاطفية ، ثم إن الباب مفتوح أمام المرأة في كل
حالة تجد أنها لا تستطيع الاستمرار على احتمالها ، فتنهيها بالانفصال .
أما
محافظة الزوجة على عرض زوجها وماله في غيبته فهو التزام طبيعي ومنطقي لا أحسب
أحداً يجادل فيه .
وهو التزام مشترك يشمل الرجل والمرأة على السواء .
* *
*
وننتقل الآن إلى حالة
النشوز من جانب الزوجة أو من جانب الزوج :
يتفرع عن قوامة الرجل على المرأة حق
الزوج في تأديب زوجته الناشزة ، وهو الحق الذي تبينه هذه الآية : " واللاتي
تخافون نشوزهن فعظوهن واهجروهن في المضاجع واضربوهن ، فإن أطعنكم فلا
تبغوا عليهن سبيلاً ([17]) " .
ويلاحظ
أن الآية تدرجت في بيان وسائل التأديب حتى وصلت إلى الضرب - غير المبرح - في نهاية المطاف . ولسنا هنا بصدد
الحالات التي يساء فيها استخدام هذا الحق ، فكل حق في الدنيا
يمكن أن يساء استخدامه ، ولا يمكن الحيلولة
دون ذلك إلا بالتهذيب الخلقي والارتفاع الروحي ، وهي مسألة لا
يهملها الإسلام ، ولا يني عن توجيه
العناية إليها ([18])
ولكننا بصدد مشروعية هذا الحق وضرورته
في صيانة كيان الأسرة ومنعها من التفكك والانحلال .
كل
قانون أو نظام في الدنيا تلزمه السلطة التي تؤدب الخارجين عليه ، وإلا أصبح حبراً
على ورق .
وانتفت الفائدة المقصودة من وجوده .
والزوجية
نظام قائم لصالح المجتمع وصالح الزوج والزوجة على السواء ، والمفروض فيه أن
يحقق أقصى ما يمكن من المصالح للجميع . وحين يكون الوئام
والوفاق سائدين فيه تتحقق جميع المصالح بغير تدخل القانون . ولكن حين يحدث الشقاق
ينجم الضرر الذي لا يقف عند شخصي الزوجين ، بل يتعداهما إلى
الأطفال ،
وهؤلاء نواة المجتمع المقبلة التي يجب إحاطتها بحير وسائل التنمية والتهذيب .
فحين تتسبب الزوجة في هذا الضرر فمن الذي يتولى
ردها إلى الصواب ؟
المحكمة ؟
إن تدخل المحكمة في خصوصيات العلاقة بين الزوجين إدعى إلى توسيع هوة الخلاف - الذي قد يكون هنياً
وموقوتاً -
وأدعى إلى إفساد هذه العلاقة لأنه يمس كرامة هذا الطرف أو ذاك علانية ، فتأخذه العزة
بالأثم ويتشبث بموقفه .
فالمحكمة لا يجوز أن تتدخل إلا في كبريات المسائل التي تفشل فيها كل محاولة للتوفيق .
ثم
إنه ليس من العقل أن نلجأ إلى المحكمة في حوادث الحياة اليومية التافهة التي تتجدد
كل دقيقة ، وتنتهي من نفسها كل
دقيقة ،
فذلك
خبال لا يقدم عليه العقلاء ، فضلاً عن أنه يحتاج إلى إقامة محكمة
في كل بيت تعمل ليل نهار
!
لا
بد إذن من سلطة محلية تقوم بهذا التأديب ، هي سلطة الرجل
المسؤول في النهاية عن أمر هذا البيت وتبعاته . وهي تبدأ بالوعظ
الجميل الذي يرد الشارد
عن غيه ولا يجرح
كبرياءه ،
فإن أفلحت هذه الطريقة كان خير ، وإلا فهناك درجة أخرى أعنف من السابقة ، هي الهجر في
المضاجع ،
وهي لفتة نفسية عميقة من الإسلام لطبيعة المرأة التي تعتز بجمالها وفتنتها ، وتدل بهما ، حتى يؤدي ذلك
أحياناً إلى النشوز .
والهجر في المضاجع معناه عدم الخضوع لهذه الفتنة ، مما يطامن من كبرياء
الزوجة الجامحة ويردها إلى الصواب . فإذا لم تفلح جميع الوسائل ، فنحن أمام حالة من
الجموح العنيف لا يصلح لها إلا إجراء عنيف هو الضرب ، بغير قصد الإيذاء ، وإنما بقصد التأديب . لذلك نص التشريع
على أنه ضرب غير مبرح .
وهنا
شبهة الإهانة لكبرياء المرأة ، والفظاظة في معاملتها ، ولكن ينبغي أن نذكر
من جهة أن السلاح الاحتياطي لا يستعمل إلا حين تخفق كل الوسائل " السلمية " الأخرى . ومن جهة ثانية أن
هناك حالات انحراف نفسي لا تجدي معه إلا هذه الوسيلة .
أما
في الحالات العادية التي لا تصل إلى حد المرض ، فالضرب لا ضرورة له . وهو سلاح احتياطي
لا غير ،
لا يجوز المبادرة إليه ولا الابتداء به ، والآية بترتيب
درجاتها تشير إلى ذلك ،
والرسول الكريم ينهي الرجال عن استعمال هذا الحق - إلا في الضرورة
القصوى التي لا يفلح فيها شيء - ويقول لهم موبخاً : " لا يجلد أحدكم
امرأته جلد العير ثم يجامعها في آخر اليوم ([19]) " .
أما
حين ينشز الزوج فالقانون مختلف : " وإن امرأة خافت من
بعلها نشوزاً أو إعراضاً فلا جناح عليهما أن يصلحا بينهما صلحاً ، والصلح خير ([20]) " .
وقد
يطيب لبعض الناس لأول وهلة أن يطالب بالمساواة الكاملة !
ولكن المسألة هنا هي مسألة الواقع العملي والفطرة البشرية ، لا مسألة عدالة
نظرية مثالية لا تقوم على أساس . أي امرأة سوية في الأرض كلها تضرب
زوجها ثم يبقى له في نفسها احترام ، وتقبل أن تعيش معه بعد ذلك ؟ وفي أي بلد في
الغرب " المتحضر " أو الشرق
المتأخر طالبت النساء بضرب أزواجهن ؟
ولكن
المهم أن الشرع لم يلزمها بقبول نشوز الزوج واحتماله ، فأباح لها الانفصال
حين لا تطيق .
* *
*
في
جميع الحالات السابقة رأينا :
أولاً : أن التزامات المرأة
نحو الرجل ليست تحكمية ، وإنما نظر فيها للمصلحة العامة التي
تشمل الزوجة أيضاً بطريق مباشر أو غير مباشر .
ثانياً : أن معظم هذه
الالتزامات له مقابل من نفس النوع عند الزوج . أما الحالات
القليلة التي اختص فيها الرجل بلون من السلطة ليس للمرأة ، فقد روعي فيها فطرة
الرجل والمرأة كليهما ،
ولم يقصد بها إذلال المرأة ولا إهانتها .
ثالثاً : أنه في مقابل هذه
السلطة منحت المرأة الحق في رفضها إذا كانت نفسها لا تقبلها ، أو أحست بأن في
قبولها ظلماً لها .
أما
الانفصال الذي أشرنا إليه مراراً من قبل ، والذي هو طريق
المرأة العملي لرفض ما لا تطيق من الالتزامات ، فله ثلاث سبل
مختلفة :
أن
تجعل المرأة عصمتها في يدها ، وقد صرح بذلك الشرع وإن كان لا يتمسك
به إلا القليلات من النساء ، ولكنه حق لها إذا شاءت أن تستخدمه .
أو
تطلب الطلاق لأنها كارهة لزوجها غير مطيقة معاشرته . وقد سمعت أن
المحاكم لا تأخذ بهذا المبدأ . ولكنه مبدأ صريح أقره الرسول وعمل به ، فهو جزء من التشريع ، وشرطه الوحيد أن
تتنازل المرأة عما تملكته بطريق الزواج ، وهو شرط عادل . لأن الزوج حين يطلق
زوجته يفقد كل ما ملكه إياها بالزواج ، أي أن الطرف الذي
يتسبب في الطلاق -
سواء كان الرجل أو المرأة - يحتمل خسارة مادية مقابل فصمه لعرى
الزوجية .
والطريق
الثالث أن تطلب الطلاق - مع الاحتفاظ بمتاعها وأخذ النفقة - على أساس سوء
المعاملة أو الإضرار .
إذا استطاعت أن تثبت ذلك . والمحاكم تشدد في ذلك لعلمها أن
كثيراً من القضايا التي تعرض أمامها ترجع إلى المكايدة . ولكنها تحكم
بالطلاق عند ثبوت الأمر .
تلك
أسلحة المرأة مقابل سلطة الرجل عليها ، وهما في النهاية
متكافئان .
([1])
من هنا يقول دعاة الفكر المادية وهواة التفسير
الاقتصادي للتاريخ إن الأوضاع الاقتصادية هي التي تنشئ الأوضاع الاجتماعية وتحدد
العلاقات بين البشر .
وما ينكر أحد قوة العامل الاقتصادي في حياة البشرية ، ولكن الذي ننكره
بشدة أنه العامل الوحيد المسيطر ، وأن له جبرية على الأفكار والمشاعر
والسلوك .
وإنما كان له كل هذا الأثر في الحياة الأوربية لخلوها من عقيدة عليا ترفع المشاعر
وتنظف النفس وتقيم العلاقات= =الاقتصادية على أساس
إنساني ،
ولو وجدت هذه العقيدة -
كما وجدت في العالم الإسلامي – لاستطاعت - على الأقل - أن تلطف من قسوة
الضرورة الاقتصادية ،
وتنفذ الناس من إسارها .
([2])
هنا أيضاً يقول دعاة المذاهب الاقتصادية : إن العامل
الاقتصادي هو كل شيء في الحياة ، وهو الذي جعل من قضية المرأة ما صارت
إليه .
ومرة أخرى لا نريد أن نقلل من قيمة العامل الاقتصادي في حياة= =البشر ، ولكننا نقول إنه لم
يكن حتماً أن تسير الأمور على هذا الوضع ، لو كانت هناك عقيدة
ونظام –
كالإسلام -
يفرض كفالة الرجل للمرأة في جميع الأحوال ، ويعطي المرأة - حين تعمل - حقها الطبيعي في
المساواة بالرجل في الأجر ، ويبيح - في حالة الطوارئ - تعدد الزوجات ، فيحل أزمة الجنس
حلاً نظيفاً في أعقاب الحروب ، فلا تضطر المرأة للتبذل الصريح ، أو نيل حاجتها خلسة
في الظلام .
([12]) قد يبدو لأول وهلة أن هذا الحق خيال في الظروف
الاقتصادية والاجتماعية الحالية ، وفي جو التقاليد الذي نعيش فيه ، ولكن الإسلام ليس
مسئولاً عن كل ما يخالف نظامه أو يعطل أحكامه ، وقد استخدمت المرأة
هذا الحق في صدر الإسلام ، بعد أن قرره الرسول صلى الله عليه
وسلم ،
فنحن مطالبون اليوم بتنفيذه ، وإزالة ما يعترض هذا التنفيذ ، سواء كان وضعاً
اقتصادياً أو اجتماعياً أو تقليداً غير إسلامي . انظر كتاب " معركة التقاليد " .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق